دنيا الله
جوار الله
الجامع في الدرب
موعد
قاتل
ضد مجهول
زينة
زعبلاوي
الجبار
كلمة في الليل
نامعلوم صفحہ
حادثة
حنظل والعسكري
مندوب فوق العادة
صورة قديمة
دنيا الله
جوار الله
الجامع في الدرب
موعد
قاتل
ضد مجهول
نامعلوم صفحہ
زينة
زعبلاوي
الجبار
كلمة في الليل
حادثة
حنظل والعسكري
مندوب فوق العادة
صورة قديمة
دنيا الله
دنيا الله
نامعلوم صفحہ
تأليف
نجيب محفوظ
دنيا الله
دبت الحياة في إدارة السكرتارية بدخول عم إبراهيم الفراش. فتح النوافذ واحدة بعد أخرى، ومضى يكنس أرض الحجرة الواسعة بلب شارد ودون اكتراث. واهتز رأسه بانتظام وبطء، وتحرك شدقاه كأنما يلوك شيئا. فقلقت تبعا لذلك منابت الشعر الأبيض في ذقنه وعارضيه، أما صلعته فلم تكن بها شعرة واحدة. وعاد إلى المكاتب ينفض عنها الغبار ويرتب الملفات والأدوات، ثم ألقى على الحجرة - الإدارة - نظرة شاملة، ثم نقل بصره بين المكاتب وكأنما يرى شخوص أصحابها، فلاح الارتياح في وجهه حينا والامتعاض حينا، ومرة ابتسم ثم ذهب، وهو يقول لنفسه: «الآن نذهب لإحضار الفطور.»
وكان السيد أحمد كاتب المحفوظات أول من حضر، جاء بكاهل ينوء بخمسين عاما، ووجه نقش على صفحته امتعاض ثابت، كأنه سجل لقرف الزمن. وتبعه السيد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة، الذي يضحك كثيرا؛ لكنه ضحك متوتر يداري به همومه اليومية. ثم جاء سمير أو الرجل الغامض كما يدعى في الإدارة، والجندي الذي ينم تطلق أساريره على أنه لم يخرج بعد من نعمة الطفولة. ودخل يتبختر السيد مصطفى، أنيقا ذهبي الخاتم والساعة ودبوس الكرافتة، ولحق به حمام رقيقا نحيفا منطويا على نفسه. وأخيرا حضر سيادة مدير الإدارة، الأستاذ كامل، محوطا بهالة من وقار، وفي يده مسبحة. وضجت الإدارة بالأصوات وخشخشة الأوراق. ولكن أحدا لم يشرع في عمل، حتى المدير انهمك في مكالمة تليفونية، وانطلقت صفحات الجرائد في الجو كالأعلام. وقال لطفي وهو يتابع الأخبار بعينيه: ستكون السنة نهاية العالم.
وعلا صوت المدير وهو يقول متهللا في التليفون: وهل يخفى القمر؟
وتساءل سمير: لماذا نشقى بالزواج والأبناء، ها هو شاب يقتل أباه تحت بصر أمه!
كذلك تساءل أحمد بصوت متحشرج: ما فائدة كتابة روشتة إذا كان الدواء غير موجود بالسوق!
ولبث الجندي يرمي ببصره من مجلسه إلى عيادة دكتور في العمارة المواجهة، يرصد ظهور ممرضة ألمانية شقراء في النافذة، ثم عاد لطفي يقول مؤكدا: صدقوني، نهاية العالم أقرب مما تتصورون.
ووضع المدير يده على السماعة، وقال لحمام آمرا: جهز الملف
نامعلوم صفحہ
عام.
ثم عاد إلى المحادثة الشائقة، فلم يرفع حمام رأسه عن الجريدة، وهمس بين أسنانه «داهية في أمك!» وإذا بعم إبراهيم يعود بصينية ممتلئة. وراح يوزع سندوتشات الفول والطعمية والجبن والحلاوة الطحينية. وطحنت الأفواه الطعام وتجاوب التمطق في الأركان، ولم تتحول الأعين عن أعمدة الصحف. ووقف عم إبراهيم عند مدخل الإدارة يرقب الآكلين بنظرة غريبة من عينيه الذابلتين، حتى هتف به أحمد بصوت يعترضه الطعام: كشف الماهيات يا عم إبراهيم.
فذهب الرجل. وبعد ساعة من الوقت دخل الحجرة بائع الكرافتات والروائح العطرية الذي يزور الإدارة عادة في أول الشهر. ومر بالمكاتب عارضا بضاعته فأقبل الموظفون يتفحصونها، وأخذ بعضهم ما يحتاجه منها، وغادر الرجل الحجرة على أن يعود إليها بعد قبض الماهيات. وبعد ساعة أخرى جاء بياع السمن؛ ليجمع الأقساط المستحقة، ولكن مصطفى قال له بلهجة ذات معنى وهو يضحك: انتظر حتى يرجع عم إبراهيم.
فوقف الرجل عند الباب وشفتاه تتحركان بتلاوة مستمرة. وكانت الآلة الكاتبة تنقر بنشاط، على حين انتقل سمير إلى مكتب المدير؛ ليعرض أوراقا هامة. ودخلت الشمس لأول مرة من النافذة المطلة على الميدان، وما زال الجندي يختلس النظرات إلى نافذة العيادة. ونادى المدير عم إبراهيم لأمر، فذكره مصطفى بأنه لم يرجع بعد من الخزينة، وعند ذاك تساءل أحمد رافعا رأسه عن الملفات: الرجل تأخر! لماذا تأخر الرجل؟!
وذهب بياع السمن؛ ليمر بالإدارات الأخر، ثم يعود. وهب أحمد إلى خارج الحجرة ونظر يمنة ويسرة في الطرقة، ثم عاد وهو يقول: لا أثر له، ماذا أخره؟! الرجل المخرف!
ولما مرت ساعة ثالثة فقد أحمد صبره فقام، وهو يعلن بصوت مسموع أنه ذاهب إلى الخزينة للبحث عن الرجل. ثم عاد بوجه طافح بالغيظ وهو يقول: أخذ الكشف منذ ساعة كاملة، فأين ذهب المجنون؟
فسأله لطفي: هل قبض هو مرتبه؟
فأجاب محتدا: نعم، قالوا لي ذلك عند شباك صرف الخدم السايرة. - لعله ذهب يتسوق! - قبل أن يسلمنا الماهيات؟! - لا تستبعد ذلك، إنه يأتي كل يوم بجديد.
وارتسم الاستياء على وجوه، وقطب المدير - وهو درجة رابعة قديم - وساد صمت قصير، ما لبث أن قطعه مصطفى بضحكة من ضحكاته، ثم قال: تصوروا أنه سرق في الطريق!
فندت ضحكات فاترة، فاترة جدا، كأنها تأوهات متنكرة، غير أن لطفي قال: أو وقع له حادث!
نامعلوم صفحہ
ولما آنس في الوجوه استياء استدرك قائلا: ما يدوس عم إبراهيم اليوم، فإنما يدوس إدارة كاملة.
فقال أحمد بحدة: إلا من وراءه خزينة خاصة!
وارتاح الجميع إلى قوله تشفيا، غير أن المدير نقر على مكتبه بقلمه الباركر المهدى إليه في مناسبة سعيدة، داعيا الإدارة إلى ضبط النفس، وكان في الحقيقة يداري قلقه المتزايد. لكن الجندي تساءل رغم ذلك: ماذا يحدث للنقود في هذه الأحوال؟ - كحال السرقة؟
ولم يضحك أحد، فعاد الجندي يتساءل: في حال الحوادث؟ - قد تسرق في الزحمة، وقد يتحفظ عليها في قسم البوليس حتى تتضح الحقائق، ومت يا حمار!
لكن بدا أن مملكة الضحك قد جدبت تماما. بدت الوجوه كالحة، ومضى الوقت أثقل من المرض. وتساءل صوت: على وجه من أصبحنا اليوم؟! وذهب أحمد يبحث عن عم إبراهيم في المراقبة كلها، ثم عاد بوجه ناطق بخيبة مسعاه. وفكر المدير في المشكلة الغريبة التي لم تدر لأحد في بال. إنه يأبى أن يصدق. سيظهر الرجل المجنون فجأة عند الباب. ستنهال عليه الشتائم وسينتحل كافة الأعذار. وإلا فما العمل؟ لطفي وراءه زوجة غنية، وسمير وغد معروف، ولكن ثمة مساكين مثل أحمد قد يقضي عليهم الحادث! وعاد بياع السمن، وقبل أن يفتح فاه، صاح به المدير: انتظر، القيامة لم تقم، ونحن في إدارة حكومية، لا في سوق.
فتراجع الرجل مذهولا. وزار الإدارة موظفون من المراقبة يستطلعون الأحوال، وهم بعضهم بالمداعبة، ولكنهم وجدوا جوا مكفهرا، فتلاشت الدعابات في حلوقهم، وتجسد القلق وكف الجميع عن العمل. وتأوه أحمد قائلا: قلبي يحدثني بأن المسألة جد! ضعنا يا جماعة!
ثم هب واقفا وهو يقول: سأسأل عنه بواب الوزارة. واختفى مهرولا، ثم عاد وهو يصيح بصوت ثائر: البواب يؤكد أنه رآه يغادر الوزارة حوالي التاسعة صباحا!
ثم بصوت مختنق: أفظع من كارثة، لا يمكن أن يبيع حياته بمائة وخمسين جنيها أو مائتين، حادث؟! من يدري؟! هذا الشهر لن نعرف له نهاية يا رب السموات!
وشعر لطفي بأن بعض الأنظار تتجه نحوه من حين لحين، فقال منقبض القلب: إنها أفظع من كارثة، لعلكم تتساءلون ماذا يهمني أنا؟! والحق أن زوجتي الغنية لا تنفق مليما واحدا من مالها.
وانصبت عليه في السر عشرات اللعنات، ولم يعره أحد التفاتا. وتأوه أحمد قائلا: أتصدقون بالله؟ والله الذي لا إله إلاه إني من اليوم الثاني في الشهر أذهب وأجيء، وليس في جيبي مليم واحد، لا قهوة ولا شاي ولا سيجارة ولا استعمال لأي نوع من المواصلات، أولاد في الثانوي وأولاد في الجامعة، ودين كبير بسبب الأدوية، وماذا يمكن أن أفعل يا إله الكون؟!
نامعلوم صفحہ
ولما جاوزت الساعة الواحدة وقف مدير الإدارة بوجه كئيب، وابتعد عن مكتبه وهو يقول: لا بد من إبلاغ المراقب العام.
واستمع المراقب العام إلى القصة في امتعاض ظاهر، ثم تساءل: ألا يجوز أن يرجع رغم الظنون؟ - الحق أني يائس تماما من ذلك، الساعة تدور في الثانية.
فقال المراقب العام بلهجة منتقدة: أنت تعلم أن تصرفكم خاطئ، ومخالف للتعليمات.
فانجحر المدير في صمت يائس مليا، ثم تمتم: جميع الإدارات تفعل ذلك. - ولو! الخطأ لا يبرر الخطأ، اكتب لي مذكرة لأرفعها لوكيل الوزارة.
ولكن المدير لم يتحول عن موقفه، وقال: الجميع في أشد الحاجة إلى مرتباتهم، هذه حالة لم تسبق بمثيل! - وماذا تريدني أن أفعل؟ - نحن لم نتسلم المرتبات، ولم نوقع في الكشف. - لا يمكن إنكار الواقعة، ولا التهرب من المسئولية.
وتكاثف الصمت وبدا المدير كرجل ضائع، وضاق المراقب به، فتشاغل بالنظر في أوراق على مكتبه، حتى تحول المدير عن موقفه، ومضى نحو الباب في خطوات ثقيلة جدا. وقبيل خروجه جاءه صوت المراقب، وهو يقول في جفاء: أبلغوا البوليس!
انتقلت إدارة السكرتارية إلى نقطة البوليس، وشقوا طريقهم إلى حجرة الضابط بين نسوة جالسات القرفصاء، تتقدمهن شرذمة من رجال متعاركين مخضبين بالدماء يسوقهم عسكري، على حين تعالى من وراء باب مغلق صراخ أليم واستغاثات. وأفضى السيد كامل المدير إلى الضابط بالحكاية من أولها إلى آخرها. وقال عن عم إبراهيم: إنه فراش في الخامسة والخمسين، دخل خدمة الوزارة وهو في العاشرة عاملا بالمطبعة، ثم نقل فراشا لتطاوله على رئيسه، وأجره الأصلي ستة جنيهات. وقال عنه موظفو السكرتارية إنه كان طيبا، وإن يكن به شذوذ محتمل كأن يشرد أحيانا حتى وهو يحدثك، أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يتطوع بذكر ملاحظات عامة في السياسة دون مناسبة، وعن مسكنه قيل إنه يقيم بالبيت رقم 111 بدرب الحلة، ولم يسبق له أن سرق أو أتى ما يستوجب الشك في ذمته. وقال الضابط بعد تحرير المحضر إن النقطة ستتأكد أولا أنه ليس ضحية لحادث من الحوادث ثم يتخذ البحث مجراه. ولم يجد الموظفون بدا من الانصراف، فغادروا النقطة كالمساطيل من الذهول. واختلطت أصواتهم وهم يتبادلون التشكي والتساؤل عما يمكن عمله إزاء مسئولياتهم الخطيرة التي تنتظرهم في البيوت. وشملتهم رغبة واحدة في أن يبقوا معا حتى يجدوا لمشكلتهم حلا، غير أنهم اضطروا في النهاية إلى التفرق فمضى كل إلى حال سبيله. عاد مدير الإدارة إلى بيته ولا أمل له إلا في البوكر أو الكونكان. وقصد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة محل رهونات بباب الشعرية، اعتاد في الأزمات أن يقترض منه بربح فاحش. أما لطفي فكانت زوجته تتكفل بنفقات البيت، ولكن كان عليه أن يبتدع حيلة ليأخذ منها مصروفه الشهري. الجندي - وهو شاب أعزب ويعيش في كنف أبيه - قرر أن يقول لوالده: تقبلني هذا الشهر، وكأنني ما زلت طالبا. حمام كان عليه أن يقنع زوجته المشتركة في جمعية توفير من الجيران بالمطالبة بنصيبها المخصص للكساء؛ لإنفاقه في البيت مهما كلفه ذلك من سباب وعراك وبكاء. سمير بدا أمره هينا نوعا ما، فما إن خلا إلى نفسه حتى قال: لولا الرشوة؛ لوجدت نفسي في مأزق لا مخرج منه! بقي أحمد كاتب المحفوظات الذي ظن الزملاء أن النهار لن يطلع عليه. مضى يتخبط في الطريق بلا أدنى وعي لما حوله من أناس ومركبات. ودخل مسكنه متأوها أزرق الوجه، فارتمى على أول مقعد وأغمض العينين. وأقبلت عليه الولية برائحة المطبخ، متسائلة في انزعاج: مالك؟
فقال دون مقدمات: لا مرتب لنا هذا الشهر!
فقالت بدهشة: لم، كفى الله الشر؟! عم إبراهيم جاء بمرتبك في أول النهار!
وثب الرجل قائما كغريق وجد آخر الأمر متنفسا، على حين ذهبت الولية وجاءت بلفة من الأوراق المالية وجد فيها مرتبه كاملا! استخفه الطرب لحد الجنون، فبسط يديه، وهتف من الأعماق: «الله يكرمك يا عم إبراهيم .. الله يجبر بخاطرك يا عم إبراهيم.»
نامعلوم صفحہ
وكبس البوليس بيت عم إبراهيم بدرب الحلة. وكان المسكن عبارة عن حجرة أرضية بحوش بيت قديم تهدم سوره أو كاد. ولم يكن بالحجرة إلا مرتبة متهرئة وحصيرة، وكانون وحلة وطبق صاج، وامرأة عجوز عوراء تبين أنها زوجته. ولما سئلت عن زوجها؛ أجابت بأنه في الوزارة، ثم أكدت أنها لا تعرف شيئا عن اختفائه. ولم يكن له من ثياب إلا جلباب ففتشوه، فعثروا على قطعة حشيش صغيرة. وعادت القوة بالمرأة إلى قسم البوليس. وقالت المرأة إنها لا تدري شيئا عن هربه أو عن السرقة المتهم بها. وبكت طويلا وانتهرت طويلا. وقالت عن حياتهما المشتركة إنه كان في مطلع الحياة زوجا طيبا، وإنهما أنجبا أبناء. من هؤلاء الأبناء عامل يعمل في منطقة القنال منقطع الصلة بهم منذ سنوات. وآخر قتل في حادثة ترام وهو في العاشرة. وبنت تزوجت من عامل بناء ذهب بها إلى أقصى الصعيد، فاختفت من حياتهم كأخيها بالقنال. واعترفت بأن عم إبراهيم تغير تغيرا خطيرا في حياته في الأشهر الأخيرة، وبعد أن بلغ أعقل العمر، إذ ترامت إليها أنباء عن تعلقه ببائعة ناصيب عند قهوة فؤاد، وأن تلك الأنباء سببت أكثر من عراك بينهما على مرأى من حارة الحلة كلها.
انقض المخبرون على قهوة فؤاد، ثم رجعوا إلى القسم بمجموعة غريبة من جامعي الأعقاب بين الطفولة والمراهقة، كما جاءوا ببعض ماسحي الأحذية. وتذكروا جميعا عم إبراهيم عند سماع أوصافه. قالوا إنه كان يجلس في الأشهر الأخيرة في آخر كرسي في الممر المتفرع عن الطريق العام، يحتسي القهوة ويرنو إلى الإنجليزية! وتبين أنهم يعنون بالإنجليزية بائعة ناصيب في السابعة عشرة ذات خصلات ذهبية وعينين زرقاوين، كانت في الأصل جامعة أعقاب كذلك. واعترفوا جميعا على وجه التقريب بأنهم كانوا على علاقات خاصة بها. وأن ذلك كان كذلك حتى مع بعض رواد القهوة من ذوي النفوس الحلوة المتواضعة! وكان عم إبراهيم شديد الاهتمام بها. رآها مرة وهو عابر سبيل. ولما أدرك أنها من معالم قهوة فؤاد اتخذ مجلسه في نهاية الممر لمشاهدتها كل مساء، وكان يدعوها ليبتاع ورقة ناصيب في الظاهر، وليبقيها أطول مدة ممكنة معه في حقيقة الأمر. وفطنت الفتاة من أول الأمر إلى ولعه بها، فأفشت سره إليهم، فراحوا يتجسسون عليه يوما بعد يوم متخذين إياه مزحة ودعابة، وهو غافل عنهم بهيامه. ويوما أخبرتهم بأن الرجل يرغب في الزواج منها، وأنه يعدها بحياة سعيدة خالية من هموم العناء والتشرد. وضحكوا طويلا! اعتدوها نكتة؛ لأن فكرة الزواج لا تطرق لهم بالا من ناحية، ولأن الرجل أبعد ما يكون عن صورة العريس كما يتخيلونها من ناحية أخرى. وقال أحدهم ساخرا: إنه يبدو كأحدنا!
فقالت بتيه: بل هو رجل غني.
وضحكوا كرة أخرى. لكن الفتاة انقطعت عن المجيء إلى القهوة، واختفت من مظانها جميعا!
وعلى العموم اطمأن البوليس إلى أنه قبض على طرف الخيط. لكنه لم يكن يعلم أن الطرف الآخر في أبو قير. أجل كان عم إبراهيم في أبو قير. كان يجلس جلسة مريحة على الشاطئ يراوح النظر بين البحر وبين ياسمينة التي تطايرت خصلاتها الذهبية في مهب النسائم. وبدا حليق الذقن مستور الصلعة تحت طاقية بيضاء كالحليب، وعكست بشرته رواء. وارتدت ياسمينة فستانا أنيقا وتجلت نضارتها كالماء المقطر. جلسة عائلية سعيدة مريحة راضية، وإن لم يخل هواء أبريل من لسعة برد. والمكان شبه خال، لا أحد من المصيفين جاء، وأصحاب البيوت من اليونانيين بعيدون عن الشاطئ. والحب يرفرف راقصا حول الجلسة الجميلة. وتجلت في عيني عم إبراهيم نظرة تشوف ودهشة، كأنه يستقبل العالم لأول مرة في طفولة بريئة. فما رأى بحرا من قبل، بل إنه لم يجاوز أعتاب القاهرة طيلة حياته، لذلك بهره البحر المصطخب، والساحل المترامي، والسماء الملفعة بالسحب البيضاء في صفاء الورد. ومضى يصغي إلى الهدير المتقطع، وهو يبتسم ابتسامة فرحة سعيدة لا تفارق شفتيه. بدا أنه انطلق من أغلال الهموم، وأنه يحلق في حلم، وأنه يستمتع بأنغام الحب الشجية التي ترددها أعماقه النشوى. أما الفتاة فتمددت أمامه في استرخاء واكتنفها صمت راكد، حتى ثقلت جفونها بما يشي بالملل. وكان السيد لطفي الموظف بالسكرتارية هو الذي عرفه دون قصد بأبي قير. كان يصيف كل عام في ذلك المصيف ويحكي عن جماله وهدوئه وأسماكه للزملاء قبل السفر وعقب العودة، فامتلأ خيال عم إبراهيم بالمصيف، ثم عرف أخيرا سبيله إليه. وجاءه مزودا بما يحتاجه شهر العسل من ثياب وأدوات زينة، وهدايا ولوازم المزاج والكيف. وكان يومه كله ينقضي بين الحجرة المفروشة التي اكتراها وبين الساحل، لا شاغل له إلا الحب والمشاهدة والتدخين والأكل والشرب والأحاديث. وأنفق في أسبوع ما لم ينفقه من قبل في عام، ولم تكن المحبوبة تكف عن الطلب، وما أسرع ما كان يلبي طلباتها، وكانت غريبة الأطوار، فحتى الخمر والمخدرات طالبت بها. وكانت صريحة إلى حد الإيذاء، فسألته مرة: من أين لك بالنقود؟
فقال ضاحكا: أنا من الأعيان!
فقالت بارتياب وقد ضرجت الخمر وجنتيها: أنا فاهمة! - الله يسامحك!
وضحكت ضحكة بلهاء وهي تقول: ليس في فيك إلا أربع أسنان، واحدة فوق وثلاث تحت!
وضحك متسامحا. ربما حام حوله كدر، ولكنه كان مصمما على السعادة، السعادة التي يدرك أكثر من غيره كم هي زائلة! لم يكن يطمع في أكثر من الاحتفاظ بما نال من سعادة إلى حين، وألا يقع القبض عليه قبل أن تنهار دعائم سعادته انهيارها الطبيعي بإنفاق آخر مليم مما يملك. لذلك أصر على السعادة، رغم ما يبدو من محبوبته من مشاكسة. وتاقت نفسها إلى رؤية الإسكندرية لكنه رفض بإصرار، فعادت تقول بمكر موروث عن الأرصفة: قلت لك إني فاهمة!
فكان جوابه أن ابتاع لها حلية لطيفة. ووضع بين يديها فاكهة وشرابا وسجائر محرمة، وقبل خدها المتورد، وابتسم لها في حنان قائلا: انظري إلى البحر والسماء، واسعدي بما بين يديك، وليكن ريقك شهدا!
نامعلوم صفحہ
أراد لها أن تسعد كما يسعد، وكان من قبل يسير مطرق الرأس، لا يرى من الدنيا إلا التراب والطين. أو لا يرى إلا شواغله وهمومه. أما هنا فرأى ما لم يكن يراه؛ رأى الفجر في طلعته السحرية، والغروب في عجائب ألوانه التي تنساب عن الشفق، ورأى النجوم الساهرة والقمر الساطع والآفاق اللامتناهية. رأى ذلك كله بقوة الحب الخالقة حتى عجب كيف يوجد بعد ذلك النكد!
وفي أوائل يونيو ظهرت على الساحل أول أسرة جاءت مبكرة للتصييف، فانقبض قلب عم إبراهيم، وشعر بدنو الشقاء كالأجل. ستولي السعادة قريبا وإلى الأبد. وزاده ذلك إصرارا على السعادة المتاحة، فأشعل سجائره تباعا. ويوما كان عند البقال، فلمح في آخر الطريق السيد لطفي الموظف بالسكرتارية بصحبة سمسار من سماسرة المساكن. سقط قلبه خوفا، فمضى مسرعا إلى عطفة جانبية، ثم تسلل منها إلى حجرته. جاء لطفي ليؤجر مسكنا لشهري يوليو وأغسطس كعادته كل صيف. وما هي إلا أسابيع حتى يجوب الشاطئ بالطول والعرض، ولا يبقى له هو مكان. إن يد الخيبة تطرق بابه ولن يجد له مكانا. سينقضي الحلم مثل هذه السحابة المسرعة. وستغادره محبوبته كزفيره. محبوبته التي يحبها رغم تململها وحدتها ولسانها المفلفل. يحبها، ويشكر لها ما وهبته من سعادة، ونفخت فيه من روح الشباب. فليسامحها الله وليسعدها الله. ووجد نفسه في حجرته منفردا، فراح يعد ما تبقى من النقود ثم لفها حول صدره. وسمع حركة عند الباب، فالتفت نحوه فرآها قادمة. تساءل ترى هل رأته؟ وقرأ في عينيها نظرة ماكرة؛ لذلك طار النوم من عينيه عندما استلقى إلى جانبها على الفراش. ومضى الليل في أرق وفكر، وسمع صوتا حنونا في أعماقه يقول له: أوهبها النقود وسرحها. فقال له: لم تزل لي أيام. فقال له: أوهبها النقود وسرحها. الطفلة الجميلة المشردة! من أبوها؟ .. من أمها؟ قالت له مرة بكل بساطة: لا أحد لي في الدنيا!
كذلك هو! وأحس بشيء يلمسه كثعبان في الظلام. تركز إحساسه في يدها المتلصصة. تسعى إلى سرقته! ألذلك بالغت في إنهاكه الماكرة حتى يغرق في النوم؟! يا للتعاسة! وقبض على يدها. ندت عنها شهقة في الظلام، ثم ساد الصمت. وتساءل بحزن: لم؟
ثم معاتبا: متى رفضت لك طلبا؟
وهوت على يده فعضتها بوحشية، حتى تأوه ودفعها بقوة. كانت أول حركة قاسية تبدر منه نحوها. ووثب إلى مفتاح الكهرباء، فأضاء الحجرة. نظر أول ما نظر إلى معصمه الملطخ بالدم، وقال: صغيرة، وبك هذا الشر كله؟!
رمقته بنظرة مستخزية لحظة، ثم ولته ظهرها. وتساءل: كيف تسعين إلى سرقة مالك؟
فقطبت تقطيبة نمت عن حنق وضيق، لكنها لم تنبس. فعاد يقول: لا مطمع لي في أكثر مما نلت!
وضحك ضحكة مريرة وقال: ليجزك الله عني خير الجزاء!
وفي الصباح أعطاها أكثر ما تبقى لديه من مال، وحزم متاعها ووصلها إلى المحطة.
ومن ثم أقفرت أبو قير. وتغير الحال رويدا وتقاطر المصيفون. وانتقل إلى الإسكندرية ليهيم على وجهه دون مبالاة. ومرة وجد نفسه أمام جامع أبي العباس فدخل. صلى ركعتين تحية للمسجد، ثم جلس موليا وجهه نحو الجدار. كان يعاني حزنا جليلا ويأسا رائعا. وناجى ربه همسا: لا يمكن أن يرضيك ما حصل لي، ولا ما يحصل في كل مكان. صغيرة وجميلة وشريرة أيرضيك هذا؟! وأبنائي أين هم؟ .. أيرضيك هذا؟ والعالم يطاردني لا لشيء إلا أنني أحبك فهل يرضيك هذا؟ وأشعر وأنا بين الملايين بوحدة قاتلة .. أيرضيك هذا؟ وأجهش في البكاء. ولما أخذ يبتعد عن الجامع فاجأه صوت ينادي: «عم إبراهيم!» فالتفت مندهشا بلا إرادة، فرأى جبارا يتقدم منه في ظفر وتشف، فأدرك من منظره أنه مخبر فتوقف مستسلما. قبض الرجل على منكبه، وهو يقول: أتعبتنا في البحث عنك .. الله يتعبك!
نامعلوم صفحہ
ولما وجده - وهو يسوقه أمامه - مستسلما محمر العينين، قال: تقدر تقول لي ماذا دفعك إلى تلك الفعلة، وأنت في هذا العمر؟!
ابتسم عم إبراهيم، ثم رفع أصبعه إلى فوق وهو يغمغم: الله!
ندت عنه كالتنهدة ...
جوار الله
دق جرس الباب الخارجي، ففتحت الخادم الشراعة، فرأت رجلا يرتدي جلبابا، عاري الرأس، غريب الوجه، كانت بلا ريب تراه لأول مرة، فطالعته بنظرة متسائلة، وإذا به يسأل: بيت سي عبد العظيم شلبي الموظف بالمساحة؟
وجاء عبد العظيم على صوت الرجل، متمهل المشية في جلبابه الفضفاض، مغطى الرأس بطاقية اتقاء للبرد، فنظر إلى القادم باستطلاع كما فعلت الخادم من قبل، ثم سأله عما يريد. فقال الرجل: لا مؤاخذة! أرسلني الحاج مصطفى الدرديري السمسار بالدرب الأحمر؛ لأخبرك بأن الست عمتكم مريضة جدا، ويلزم الحضور.
فانفعل عبد العظيم باهتمام شديد، وتساءل: ماذا حصل لها؟ - لا أعرف يا سيدي، وأنا قلت لحضرتك ما كلفني به الحاج.
ودعاه إلى الدخول من قبيل المجاملة فشكر وذهب. وتحول عبد العظيم إلى الداخل، فوجد أخته تفيدة واقفة تنصت، فقال لها: استعدي للذهاب إلى بيت عمتك نظيرة، الظاهر أنها ستودع ...
وعبد العظيم يقيم في هذا البيت بشارع شبين الكوم بحدائق القبة، هو وزوجته وأولاده الخمسة وأخته الكبرى تفيدة، وهي عانس في الخمسين وكان والده في الأصل من الدرب الأحمر، ولكنه انتقل إلى حدائق القبة منذ أربعين عاما، وعبد العظيم طفل في الخامسة. وانقطعت الأسباب رويدا بين الدرب الأحمر وحدائق القبة فيما عدا زيارات الست نظيرة لهم من حين لآخر. وهي في الحقيقة عمة أبيه لا عمته هو، وفي الثمانين من عمرها، عانس مثل تفيدة، تعيش وحيدة، وتملك بيتا مكونا من أربعة أدوار، عرفت بغرابة الأطوار وحدة الطبع. واكتظ رأس عبد العظيم بذكريات قديمة عما كان يدور في بيته حول ثروة عمة أبيه، وانصهر ذلك كله لحد الاحتراق في خياله بنهم رجل لم يمارس طيلة حياته أي نوع من أنواع الامتلاك. رجل طال به الأمد في الدرجة الخامسة، وتقوس ظهره تحت أعباء الواجبات، ولم يورثه أبوه إلا عبئا ثقيلا هو أخته تفيدة. ودأبت الست نظيرة على زيارتهم، حتى تجرأ يوما على أن يطلب منها قرضا صغيرا، فانقطعت عن زيارتهم. عجوز وبخيلة! تمتلك بيتا من أربعة أدوار إيراده الشهري لا يقل عن عشرة جنيهات. لكنها وحيدة، رغم أنها تعيش في بيئة أهلها القديمة. ومقيمة في حجرة وحيدة فوق سطح بيتها بين الدجاج والغسيل. ولا علاقة طيبة بأحد تؤنس وحشتها؛ إذ ضربت حول نفسها سياجا من سوء الظن والتوجس. وتساءل الرجل، وهو يرتدي ملابسه: ترى هل جاء الفرج أخيرا؟!
وقالت تفيدة، وهما يسيران جنبا إلى جنب في شارع شبين الكوم: ستترك ثروة من غير شك! - سيعرف كل شيء عما قليل. - والبيت أيضا، ترى هل يسهل علينا تحصيل الإيجار؟ إن أهل الأحياء البلدية قوم متعبون!
نامعلوم صفحہ
فابتسم عبد العظيم؛ لعلمه بأنهم من صميم هؤلاء القوم المتعبين، وقال: أراك تتحدثين عنها كما لو كانت قد ماتت!
فامتعضت تفيدة وتورد وجهها النحيل الشاحب العاطل من الجمال، وغمغمت فيما يشبه الحياء: الأعمار بيد الله وحده!
ولما أخذا يشقان سبيلهما في الدرب الأحمر، طالعهما الحي القديم بوجه يغشاه البلى والذبول. بدا مكتظا بالناس والحيوان والمركبات. وذكرت تفيدة صباها بقوة مؤثرة، ورجع عبد العظيم إلى ملعب الطفولة، فنطق كل شيء من حيوان وجماد بلغة القلب. وبدا البيت طويلا على غير المألوف في الحي كله، وبرزت المشربيات كالأحلام، وتناثرت أمام المدخل أكوام من الأتربة والحجارة، على حين تمددت بجوار الجدار جثة قط على حال تعافها النفس. ورقيا في السلم، وهو سلم عالي الدرجات، حتى لهث عبد العظيم، وعندما بلغا الدور الثالث، قالت تفيدة: هنا ولدنا، أنت وأنا، وعلى هذه البسطة كانت تغني الفلاحات: «البحر زاد» في موسم الفيضان.
ووجد عبد العظيم ذكرى أخرى في الدرابزين الذي كان يتزحلق عليه، فأوشك أن يحكيها، لكن رغبته في ذلك فترت فجأة، فلم يخرج عن صمته. ووقفا عند عتبة السطح حتى يستردا أنفاسهما المبهورة. يا له من سطح غطي تماما بالأتربة، وروث الدجاج وقطع الأحجار الحمراء المتناثرة، وامتدت في فراغه فوق ارتفاع القامة حبال الغسيل! وفي الناحية المطلة على الطريق قامت الحجرة الوحيدة، متسلخة الطلاء، باهتة الباب والنافذة، لا يسهل بحال الاستدلال على أصل لونهما. ومضيا إلى الباب، فطرقه ثم دفعه ودخل تتبعه أخته. هاله منظر النسوة المتلاصقات من شدة الزحمة، منهن الجالسات على كنبة ومقعدين قديمين، والباقيات افترشن الأرض. أما السرير ذو العمد السوداء والناموسية المربوطة من الوسط كالبالون؛ فقد بدا بالراقدة عليه وحيدا منعزلا رغم الزحام. ولم يظهر من نظيرة إلا ثلثا وجهها الشاحب، على حين أخفى الغطاء جسمها حتى الذقن، والمنديل البني رأسها وجبينها حتى الحاجبين. والتقت الأبصار عند القادمين. حدجتهما باستطلاع واهتمام، وندت على رغم الحرص همسات، وسرعان ما أخلي المقعدان. واتجه عبد العظيم وأخته نحو المقعدين وهو يرفع يده تحية، ويتلقى في نفس الوقت عشرات التحيات. وشعر بشيء من الاستعلاء لا يعد على أي حال شيئا إذا قيس بما شعرت به أخته. كان على علم تام بتأثير بدلته في النسوة، وكذلك معطف أخته الذي دفع آخر قسط من ثمنه منذ أشهر قلائل. ولم يخفف من غلوائهما انتسابهما آخر الأمر إلى هذا الحي. غير أن ذلك كله لم يدم إلا ثوان؛ إذ ما كادا يستقران على المقعدين، حتى تركز منهما البصر في الراقدة فوق الفراش المنعزل. هذه هي العمة نظيرة. طالما عملت لهذا اليوم ألف حساب. وكان كلما خاطبها أحد في شأن من شئون المال، قالت بحدة: سأموت قريبا وترثونني. وثمة انحراف في جانب الفم يثير الجزع، واستطالة في الذقن المدبب، مع هبوط ملحوظ في اتجاه الفم الفارغ. أما العارض الذابل فما أشبهه بعارض أبيهما عند احتضاره. وعند ذاك تردد عن قلبيهما نفس كالرثاء مفعم بالشجن. ومالت تفيدة نحو أقرب امرأة إليها، وسألتها عما أصاب العمة، فأجاب أكثر من صوت في اختلاط وتسابق: «مسكينة كما ترينها!»، «لكن ربنا قادر على كل شيء»، «جئنا فوجدناها كما ترين». وهزت تفيدة رأسها، كأنما ظفرت بالجواب المطلوب. يا لهؤلاء النسوة، ما أكثرهن! كأنهن يجلسن في مسالك التنفس؛ ساكنات البيت أو من الجيران، ولعل فيهن قريبات لهما. في هذا الحي أقارب لهما يسمعان عنهم ولا يعرفانهم ما عدا الحاج مصطفى الذي يزورهما في بعض المواسم، وهو قريب لأمهما لا لأبيهما. متى وكيف يمكن أن تخلو الحجرة من هذه القناطير من اللحم الآدمي ذي الرائحة المقلقة للأعصاب؟ وأجال عبد العظيم عينيه في الحجرة التي لا يذكر متى رآها آخر مرة، ولا كم كان عمره وقتها. الحق أنها حجرة واسعة، فستقية اللون، يتدلى من سقفها مصباح كبير آن له أن ينطفئ، وتطل بنافذة على الطريق وبأخرى على السطح، وقد أغلقتا بإحكام اتقاء للبرد القارص. وغطيت ببساط باهت منجرد، انحسرت أطرافه عن حصيرة مفروشة تحته. وثمة صوان قديم عكست مرآته الوجوه الكالحة. وصندوق مزركش الغطاء استكان تحت السرير، وترابيزة حملت بموقد كحولي وكنجة قهوة. لكن أين ختم العمة؟ .. وأين نقودها؟ .. أين نقودها بصفة خاصة؟ .. وإلا فمن أين له بنفقات الدفن والمأتم؟ .. وتطلع قليلا إلى صورة للبسملة في إطار فضي معلقة بالجدار المواجه للفراش، ثم عاد يتساءل: ترى أين توجد نقودها؟ وشعر بأن الحجرة رغم برودة الشتاء تفور بروائح المطبخ والعرق وصنان الأطفال. وانزعج انزعاجا خاصا لتطلع الأنظار إليه، تكاد تمضغه مضغا، ولم تكن تخلو من إكبار وإعجاب، ولكنه كان يعلم من ناحية أخرى بأنه لا يملك حتى آخر الشهر سوى النقود اللازمة السجائر والمواصلات.
وتساءل: ألم يكشف عليها طبيب؟
وقبل أن يتحرك لسان للإجابة فتح الباب وامتلأ فراغه بشخص جديد. كان ربعة، يرتدي معطفا غليظا فوق جلباب مقلم، ملفوف العنق بكوفية، مغطى الرأس بطربوش طويل. وسرعان ما ارتطمت الأصوات، وهي تحييه قائلة: أهلا بالحاج مصطفى.
رد الباب ودخل دون أن يرد تحية، لكن ما إن وقع بصره على عبد العظيم وتفيدة، حتى تهلل وجهه وأقبل عليهما مصافحا بحرارة، وهو يقول: أهلا وسهلا، قضى ربنا ألا يرى بعضنا البعض إلا كل حين ومين.
ولما فرغ من المجاملات المعهودة تراجع إلى حافة الفراش، وجلس عليها بتؤدة وحرص؛ خشية أن يصيب الراقدة بأي اهتزاز. وآنس من وجه الأخ تطلعا إلى معرفة كل شيء عن العمة نظيرة، فأنشأ يقول: كان الله في عونها، لآخر لحظة حافظت على نشاطها اليومي المعهود، وحتى هذا السلم المرتفع المخيف لم يكن ليحول بينها وبين الخروج كل يوم إلى السوق، وكم رجوتها أن تستعين على وحدتها بخادمة ولكنها ... على أي حال أنت تعرف كل شيء عن هذا الموضوع، واليوم خرجت للتسوق كالعادة، قابلتها عند عم حسنين البقال وتبادلنا الدعابات، ثم عادت تسير على مهل. ولما صعدت إلى الدور الرابع وقفت تحادث ست حميدة (وأشار إلى امرأة مكومة في الركن) ثم مضت تصعد الدرجات الباقية، ولما بلغت باب السطح ند عنها أنين موجع، فهرعت إليها ست حميدة.
وقاطعته ست حميدة قائلة: لم أكن وحدي! كانت معي أم نرجس، وكانت ست خيرية فوق السطح تطعم الدجاج!
ابتسم الحاج مصطفى ابتسامة غامضة، وقال: هرعن إليها، لكنها أبت أن تستسلم، أبت أن يسندها أحد، حاولت بجهد أن تتم رحلتها وحدها، وجعلت تقول «لا شيء .. لا شيء» .. وما لبثت أن سقطت بين أيديهن! حملنها إلى حجرتها وأنمنها على الفراش، ثم أرسلن في استدعائي من القهوة. جئت مسرعا، ولما اطلعت على الحال عدت إلى الخارج، ثم رجعت بصحبة طبيب حينا، رجل طيب عجوز لا كأطباء هذه الأيام، وكشف عليها باهتمام كبير، استعمل السماعة وأجهزة أخرى، ثم مال علي قائلا: «النقطة» .. ووعد بالحضور مرة أخرى، ولم يأخذ نظير هذا كله سوى خمسين قرشا!
نامعلوم صفحہ
جعلت تفيدة تفكر في مقاطعة ست حميدة، وما ذكر الحاج عن أتعاب الطبيب. أما عبد العظيم فاستغرقه التفكير في الحال التي سقطت بها العمة نظيرة. ما أشبهها بموت أبيه، وموت جده من قبل! ولعل حينه إذا حان أن يجيء على نفس الحال. يا لها من ميتة سريعة لا يدري أحد عنها شيئا! وثبت عينيه على الوجه الشاحب ذي الفم المنحرف، وتساءل: ترى هل تتألم الآن؟ هل تود الاستغاثة فلا تستطيع، أو أنها غائبة عن الوجود كله؟ .. وهي امرأة في الثمانين، كذلك مضى جده في نفس السن، أما أبوه فمات في الستين دون زيادة، وعلى ذلك؛ فلا قاعدة هنالك يركن إليها، والأمر لا يعدو أن يكون طيشا وعبثا. وتمتمت تفيدة: يمكن ربنا يأخذ بيدها!
فرفع الحاج مصطفى حاجبيه الكثيفين بشكل غير عادي، وقال: ربنا قادر على كل شيء.
لكن نظرة عينيه أكدت ما ينقض قوله من أساسه. ولاذوا بالصمت مليا. وكاد الصمت يستقر بالحجرة كلها، لولا كلمات ندت عن امرأة أو أخرى بقصد المجاملة والمداهنة، وجميعها توجه نحو الراقدة، مثل: «الله يأخذ بيدها» و«كانت طيبة وأميرة» و«وجودها بيننا خير وبركة». فابتسم باطن عبد العظيم لسابق علمه ما بين عمته وبينهن من مشاحنات ونقار دائم. وكان الحاج مصطفى أعلم بذلك، غير أنه كان أجرأ من قريبه، فتساءل فجأة بصوت مرتفع: اليوم الثالث من الشهر، فهل حصلت ست نظيرة إيجار الشقق؟
وقلب عينيه في الوجوه الواجمة، حتى ارتفع صوت قائلا: أنا أعطيتها الأجرة، والله شهيد!
وإذا بسيل من التوكيدات ينهمر. كل واحدة أكدت أنها دفعت الإيجار، مستشهدة بزميلة أخرى، أو بمناسبة لم يشهدها أحد، فقال عبد العظيم: طبعا معكن الإيصالات!
فقالت امرأة: نحن تتعامل معها بلا عقود ولا إيصالات، ولكن ليس في ذمتنا مليم واحد.
وقالت أخرى: ومعلوم أيضا أنها لم تكن لتسكت عن متأخرة في الدفع!
فقال الحاج مصطفى منذرا: سأدعو على الكاذبة!
فقال أكثر من صوت: ادع، وبيننا وبينك ربنا.
وكان الشك قويا، ولكن لم يكن لدى أحد حيلة، فرفع الحاج مصطفى يديه ناظرا إلى فوق وقال: أنت أعلم بكل شيء، حسبنا الله ونعم الوكيل!
نامعلوم صفحہ
ثم نظر إليهن قائلا: والآن تفضلن مشكورات؛ حتى ندبر أمورنا.
ومضت الجالسات يقمن ويغادرن الحجرة ، واحدة في أثر أخرى، حتى لم يبق إلا امرأتان على الكنبة، واحدة عجوز والأخرى شابة في العشرين، فابتسم الحاج مصطفى، وقال مخاطبا عبد العظيم: أراهن على أنك لا تعرف هاتين السيدتين! على أي حال هما قريبتاك، الست بنت بنت أخت نظيرة، وهذه ابنتها!
تبودلت نظرات باسمة في فتور. وتوترت أعصاب عبد العظيم وتفيدة بقلق وعدم ارتياح. واندفعت تفيدة قائلة: نريد أن نطمئن على أشياء عمتي!
وقال الحاج مصطفى: لا أحد يدري عنها شيئا، ولكن يحسن بنا أن نفتش المكان.
وقام - والأعين تلاحقه - إلى الصوان ففتحه، ولكنه لم يجد به سوى بعض الفساتين البسيطة والثياب الداخلية. وعاد إلى السرير فأخرج الصندوق من تحته وفتحه، فوجد به أواني نحاسية، وموقد غاز، وأطباقا، وعلبة سمن، وزجاجة زيت، وكيس ملح. وسرعان ما أغلقه وأعاده إلى موضعه .. ونظر إلى تفيدة قائلا: يحسن بك يا ست تفيدة أن تفتشي صدرها.
فجفلت تفيدة، وهي تبادل أخاها نظرات الحرج، ولكن الحاج مصطفى قال: يا جماعة إنها مصابة بنقطة، يعني الشلل، ألا تعرفان ما يعنيه هذا، وبخاصة في مثل سنها؟!
فقالت تفيدة بإشفاق: الأعمار بيد الله، وربما أفاقت وعلمت بما فعلنا.
فقال الحاج مصطفى بعفوية عجيبة: أقطع ذراعي إن طلع عليها الصبح!
ثم بلهجة المعتذر: يجب أن نتدبر أمرنا.
وقامت تفيدة في شيء من التردد فمضت إلى الفراش، ثم أدخلت يدا مرتعشة إلى صدر عمتها وأخرجت ما وجدته، أحجبة وعلبة سجائر ولفافة غليظة، ثم أعادت الغطاء كما كان وعادت إلى مقعدها. وتناول الحاج مصطفى اللفافة وراح يفكها تحت الأعين المحملقة. وتمخض البحث عن كيس صغير وورقة مطوية، بسطها الحاج بعناية، وإذا بالعجوز تصيح: دفتر توفير .. دفتر توفير وحياة ربنا في سماه!
نامعلوم صفحہ
فحدجتها تفيدة بغضب، ومضى الحاج مصطفى يفر صفحات الدفتر، حتى قال: مائة وخمسون جنيها في البريد!
فرددت العجوز: مائة وخمسون جنيها! .. ربنا كريم .. ربنا كريم!
فحدجتها الأعين بنظرات ساخطة حتى أطبقت شفتيها، غير أن شعور عبد العظيم بالارتياح كان أضعاف شعوره بالحنق على العجوز. وتحول الحاج مصطفى إلى الكيس الصغير فأفرغ ما فيه على الفراش، فإذا به مبلغ سبعة قروش! تبادلوا نظرات حائرة، وهتفت تفيدة: سبعة قروش! أين إذن إيجار البيت؟!
فقالت العجوز: جئنا متأخرين للأسف!
وقال عبد العظيم: إما أن الإيجار لم يدفع، وإما أنه سرق.
فهز الحاج مصطفى رأسه متأسفا، وهو يقول: آه من النسوان! حسبنا الله، لا حيلة لنا، وما فات فات!
فقالت تفيدة: ومن يدري؟! فلعلها كانت تملك أشياء أخر. - لعلها، كلام لا طائل تحته، حسبكم العمارة ونقود البريد.
فقال عبد العظيم بقلق وبلهجة شفت عن مخاوفه: لكننا قد نحتاج إلى نفقات عاجلة.
فقال الحاج مصطفى بصراحته المعهودة: نعم فللمأتم تكاليفه، لكن ربنا موجود، وأنا تحت أمركم!
فاطمأن عبد العظيم وأعرب عن شكره بابتسامة وغمغمة. وهمت العجوز أن تتكلم لكن الباب فتح ودخل رجل قصير نحيل ذو نظارة سميكة، وسن جاوزت الستين، فقام الحاج مصطفى وهو يقول: أهلا بالدكتور!
نامعلوم صفحہ
واتجه الطبيب إلى الفراش فوضع عليه حقيبته، وراح يفحص الراقدة، أزاح جفنها محدقا إلى عينيها، وجس النبض، ثم أخرج من حقيبته السماعة، وألصقها بالصدر فوق القلب، ثم استمع إلى دقاته، ثم أعادها إلى الحقيبة وأغلقها، وبسط فوقها ورقة، وكتب على عجل بعض الكلمات وهو يقول: هذه الحقن لازمة.
وألقى نظرة على الموجودين قائلا: السلم متعب!
وابتسم ابتسامة لا معنى لها ثم حمل الحقيبة، ومضى والحاج مصطفى في أثره حتى غيبهما الباب. وما لبث الحاج أن رجع وهو يقول بلهجة ذات معنى: قال لي أن نشتري الحقن حقنة فحقنة، لا دفعة واحدة!
ونظر في عيني عبد العظيم، فأدرك هذا أنهم قد لا يحتاجون إلى الحقنة الثانية!
ومد بصره إلى الراقدة كأنما يلقي عليها نظرة الوداع. ومهما يكن من أمر؛ فلا ينبغي لهذه الجلسة أن تطول في هذا الجو البارد. يا لها من حجرة قامت في خلاء يصفعها هواء الشتاء البارد في كل جانب. وها هو الأصيل يغشى كل شيء، وزفيف الريح يشتد في الخارج، والبرودة تسري في الأطراف. وما زال هذا الوجه الشاحب يذكره باحتضار أبيه فيثير أشجانه. وقرب هذه العجوز منه يؤلمه، كأنه حجر مغروس في جنبه. ومضى الوقت في صمت ثقيل حتى فتح الباب، وترامى صوت ينادي على الحاج مصطفى فهتف به هذا: ادخل يا عليش!
فدخل قزم يحمل لفة ضخمة أكبر من حجمه فتناولها الحاج، ثم وضعها على الفراش عند قدمي الراقدة. وذهب القزم ورد الباب وراءه، دون أن ينبس أو يلتفت إلى أحد.
وتلاقت الأبصار عند اللفة فقال الحاج مصطفى بصوت انخفض قليلا عن درجته المألوفة: لا مؤاخذة .. هذا هو الكفن ولوازمه.
وعكست الأعين جفولا، كأنهم ينظرون إلى ثعبان، فهز الحاج رأسه وقال: وحدوا الله، ما نحن إلا أموات وأبناء أموات، وأنا أعلم من أول الأمر أن كل شيء سينتهي في ساعات، وغرضي الكرامة والستر!
لم يعقب أحد بكلمة، فواصل الرجل حديثه بلهجة من يلقي تعليمات نهائية: رتبت كل شيء بروية، والأعمال بالنيات، فإذا قضى الله قضاءه فسأحضر المغسلة، ثم نكفنها وندفنها ولو آخر النهار، أليس إكرام الميت دفنه؟ وأنت يا عبد العظيم أفندي لا تحب وجع الدماغ ولا الكلام الفارغ، بعد ذلك نجيء بمقرئ، فيقرأ سورتين هنا في حجرتها، ثم فيما بعد نتحاسب، والدار أمان .. وهذا أكرم للمرحومة!
وانتبه من توه إلى أنها لم تصر بعد «مرحومة»، فارتبك لحظة واحدة، ثم صحح نفسه قائلا: لا مؤاخذة أعني ست نظيرة، أستغفر الله العظيم!
نامعلوم صفحہ
ازداد عبد العظيم اطمئنانا بهذا الكلام، فهو رجل لا خبرة له تذكر في هذه الشئون فضلا عن كسله المكتسب من الروتين الحكومي الذي غرق فيه زهرة عمره. وتذكر في ارتياح أن بعض النقود المتوفرة في البريد تفي بالنفقات جميعا، حتى مع إدخال المبالغات المرتقبة من ناحية الحاج مصطفى في الحساب! وهو رجل (الحاج) لن يضيره تأجيل الحساب، حتى تتم إجراءات إثبات الوراثة المعقدة. واستقر الصمت مليا، فالتمسوا فيه شيئا من الاستجمام. واتجهت الأنظار صوب الراقدة، كأنما تسألها عن متى يشرعون في العمل، بعد أن تم الاتفاق على كل شيء. واشتد الإحساس بالبرد، فلذلك تقرفصت القريبة العجوز ابتغاء الدفء، والتصقت بها ابنتها. وإذا بالعجوز تخرق الصمت قائلة، كأنما تخاطب ابنتها: والله لك قسمة يا درية في ميراث كبير على آخر الزمن.
واشتعل انتباه عبد العظيم وأخته بعنف. وعكست عيناهما حنقا كالوهج، على حين هز الحاج رأسه فيما يشبه الأسف. وتساءلت تفيدة بحدة: من أين عرفت هذا؟
فقالت العجوز بعناد: هي خالة أمي، وكل شيء في الورق!
ولم تقنع العجوز بالكلام، فقامت إلى النافذة المطلة على الطريق، ففتحتها غير مبالية بالهواء البارد الذي اندفع إلى الداخل كالسياط، ثم نادت بصوت مرتفع: يا شيخ عويس .. يا شيخ عويس ...
وفتحت نافذة في البيت المواجه لهم عن وجه كهل متلفع بعباءة، مغطى الرأس بطاقية صوفية. نظر إليها وهو يتساءل: مالك يا ست نفيسة؟!
فقالت وهي تحبك الملاءة حول جسدها النحيل؛ خوفا من البرد: ربنا يكرمك، لا تؤاخذني، لكني في حاجة إلى رأيك، إذا ماتت واحدة بلا ذرية ألا ترثها بنت بنت أختها؟
فدهش الرجل وقال: وهل هذه المسائل مما يحل من النوافذ؟ تعالي إلى المكتب، أو شرفي البيت.
فقالت بتوسل: وحياتك وحياة أولادك إلا ما أخبرتني.
فتساءل الرجل: هل الست نظيرة لا سمح الله ... ؟!
وأشار بيده إشارة تعرب عن الانتهاء، لكنها قالت: كلا يا سيدنا الشيخ، ولكني أحب أن أعرف رأيك.
نامعلوم صفحہ
فتراجع الرجل إلى الداخل مقطبا، وهو يقول: يا ست نفيسة، لكل شيء وقته.
ونهض الحاج مصطفى فأزاحها عن النافذة، ثم أغلقها وهو يقول: عودي إلى الكنبة ووحدي الله.
وتمتم عبد العظيم وهو يكظم غيظه: البرد سيقتلنا، والمريضة في حالة خطيرة.
وقالت تفيدة بصوت متهدج: لم يعد في الدنيا ذوق!
فرجعت المرأة إلى مجلسها وهي تقول، بجفاء وتحد: حيلك يا ست هانم، إنها لا تعرف لها أهلا غيرنا، أما أنتم فلم تحضروا إلا عند الوفاة!
وأشار الحاج إلى تفيدة متوسلا أن تسكت، وخاطب نفيسة قائلا: يا ست نفيسة ما معنى هذا كله؟! هه؟ إن كان لك حق فما من قوة تمنعه عنك، أليس في البلد محاكم وقوانين؟ وعبد العظيم أفندي رجل موظف محترم، وكذلك الست أخته؛ فلا لزوم للكلام الفارغ.
وهمت العجوز بالكلام، ولكنه نهرها بحزم فأطبقت شفتيها. وسكت كل شيء، فلم يعد يسمع إلا عويل الريح في الخارج، ولغط بعض المارة في الطريق، وأنفاس الحاج مصطفى المحشرجة.
وشعر عبد العظيم بهواء بارد يتسرب إلى قدميه قادما من عقب الباب، فانكمشت أصابعه في الحذاء. وأخذ جو الحجرة بمرور الوقت يشحب، ثم يغمق رويدا مؤذنا بالمغيب. وركبهم اليأس، حتى الحاج مصطفى أشعل المصباح وهو يقول: «ما زال في العمر بقية، وحتى إذا وافى الأجل اليوم؛ فلا بد من الانتظار إلى الغد.» وتساءل عبد العظيم: «هل قضي عليهم بالبقاء في هذه الحجرة الكئيبة، وعلى مقربة من هذه العجوز الوقحة، طيلة ليل الشتاء البارد؟» ولم يعد مصطفى إلى مجلسه، ولكنه زرر معطفه استعدادا للذهاب، ثم قال: لا لزوم لي الآن، أنا ذاهب إلى بيتي فاستدعوني إذا حصل شيء.
ومضى تاركا عبد العظيم لمزيد من الكآبة والضيق. نظر إلى العمة بوجوم، وكانت راقدة في غير ما اكتراث لشيء في الوجود، أي شيء في الوجود. واشتد هبوب الريح، حتى انقلبت زئيرا، وتجسدت الكآبة كالجدران القاتمة. وشعر عبد العظيم بحنان عارم إلى مجلسه في البيت على كثب من الراديو بين زوجه وأولاده، إلى صخب الأولاد وشقاوتهم وتعلقهم العجيب به. وحملت الريح فيما حملت صوتا يغني في الراديو:
يا امه القمر ع الباب
نامعلوم صفحہ
فحاول أن ينسى فيه ألمه. ومر الوقت أثقل من الخوف، وجثم الليل، وأفصحت طقطقة الكنبة والمقعدين عن تململ الجالسين. وما لبث أن مال رأس العجوز إلى مسند الكنبة، وراحت تشخر شخيرا ضاعف من البلوى. وتمتم عبد العظيم: كيف يمكن أن يمضي هذا الليل الطويل؟
فقالت تفيدة بعطف: ارجع إلى البيت.
فقال بلهفة: تعالي معي! - هبها ماتت أثناء غيابنا؛ فماذا يقول الناس؟!
فأبى أن يذهب وحده. وبدا أن المريضة هي الوحيدة التي ترقد في سلام. ومضى الليل يعد ذرات رمال الدنيا. واضطر الأخ وأخته إلى الانتقال إلى الكنبة؛ التماسا لمجلس أطرى وتمهيدا لنعاس متقطع متعب على مرمى أنفاس الموت المترددة. ولم يجد الرجل ما يتسلى به سوى التفكير في الميراث المنتظر، في نصيبه من مال البريد، ومن إيراد البيت الشهري الذي لا يقل عن عشرة جنيهات. ألا يضمن على الأقل مقدار علاوتين شهريتين؟ لعله يتمكن من شراء معطف، فما يجوز أن يلقى الشتاء كل عام بلا معطف في مثل هذه السن، ولعله يستطيع أن يرفه عن أسرته بشيء من الفاكهة الممتازة من حين لآخر، أو بنوع من الطيور ولو مرة في الشهر. لا شك أن الحياة ستكون أجمل مما كانت حتى الآن. وغلبه النوم وهو يناجي أحلامه، واستيقظ هو وأخته في الصباح الباكر بجسدين متوعكين في أكثر من موضع. واقتربت تفيدة من فراش العمة، وانحنت فوقها متفحصة، ثم عادت إلى أخيها وهي تقول: ينبغي أن نذهب إلى البيت، ولو لبضع ساعات.
فقالت ست نفيسة التي ظناها نائمة: تذهبان وترجعان بالسلامة!
فتلقت مجاملة العجوز كأنها بودرة عفريت رشت في قفاها، وذهبا معا واجمين. وفي الطريق قال عبد العظيم لأخته: لي صديق محام سيحل لي ألغاز الميراث في أقرب وقت.
وعادا قبيل الظهر بقليل. وأرهفا السمع وهما يقتربان من البيت، ولكنهما لم يسمعا شيئا مما كانا يتوقعان. كل شيء هادئ في البيت. والدجاج يتمشى فوق السطح في غبطة ظاهرة ويميل برأسه إلى الوراء؛ لينظر إلى القادمين. ووجدا في الحجرة العجوز وابنتها والحاج مصطفى والفراش المنعزل الصامت، حاملا العمة المصابة وكفنها المكوم عند القدمين. سلما ثم اتخذا مجلسيهما على المقعدين كالأمس، وهما يكابدان إحساسا بالخيبة، وخوفا من أن يتكرر عذاب الليلة الماضية. وخيل إليهما أن الحاج مصطفى هم بالكلام لكنه عدل عنه، ماذا كان يريد أن يقول؟ لعله يشعر بما يشعر به أي سمسار انكشف خداعه! والحق أن الحياة لا يمكن أن تحتمل على هذا النحو الأليم من الانتظار فوق مقعد خشبي على كثب من كفن. وكم من مشلول عاش دهرا طويلا! وربما وجبت عليهم خدمة المريض زمنا لا يدري مداه أحد. وقال الحاج مصطفى بلهجة ذات معنى: نحن نشتري الحقن حقنة بعد حقنة!
ألا خيبة الله! أنت وطبيبك نفسه! ولم يعلق عبد العظيم لا بكلمة ولا بنظرة. وراح الحاج يقص القصص عن الشلل والمشلولين. جدكما مثلا مات بمجرد إصابته. أبوكما لم يلبث إلا ساعات. وصاحب العمارة في أول الطريق سقط في القهوة، ولفظ أنفاسه قبل أن يجد من ينقله إلى البيت. وعشرات غيرهم، أي نعم عشرات. وما لبث أن قام قائلا: استدعوني إذا جد جديد.
وغادر الحجرة. وعقب ذهابه مباشرة أقبلت مجموعة من الجارات، فاستحسن عبد العظيم أن يذهب أيضا. مضى إلى قهوة بالأزهر، ثم تناول غداءه عند العاجاتي، وعاد إلى الحجرة فوجد الحال كما تركه. ولبث دقائق ثم مضى مرة أخرى إلى القهوة، فبقي بها حتى أتى المساء فعاد إلى الحجرة بأمل جديد، ولكنه وجد الحال كما تركه. وقالت له تفيدة بحزم: لن تستطيع المبيت هنا ليلة أخرى، ارجع إلى البيت وسأبقى أنا.
وغمغم بشيء لم يتبينه أحد ثم ذهب. رجع إلى أسرته، واطمأن في مجلسه أمام الراديو بين الأولاد، وتأرجح قلبه بين الطرب وبين عواطف الأبوة الأصيلة العميقة التي يلهمها كل ولد بطريقته الخاصة. وعمقت تجربة الليلة الماضية من مسرته بالمجلس، كأنما هو عائد إليه من مرض أو سجن. وسألته زوجته: أليس من الواجب أن أذهب معك غدا؟
نامعلوم صفحہ
فقال بجد: لا داعي لذهابك مطلقا!
ومضى مع الصباح إلى الدرب الأحمر. وكان كل شيء كما توقع، يجري على مألوفه. وضحك الحاج مصطفى ضحكة فاترة، وقال وهو يشير إلى العمة: كعادتها دائما، ربنا يلطف بها، كانت رغم كل شيء ظريفة!
ثم قص عليهم كيف أنها رغبت أخيرا في إجراء بعض الإصلاحات في دورة المياه، فكلفته بالقيام اللازم، وكيف واظبت على مراجعة حسابه قبل الإذن بالشروع في العمل الذي لم يتم، وكيف لم تخف سوء ظنها بكل رقم، ثم كيف قالت له بكل بساطة: «يا مصطفى، أنت كلك ضلال كالمرحومة أمك.» وضحك الرجل ضحكة عالية، لكنه اضطر إلى قطعها على صوت تفيدة، وهي تهتف: انظروا!
اتجهت الأبصار نحو العمة فرأوا الغطاء وكأنه يتحرك، يقب قليلا فوق يدها اليسرى. اقترب الحاج مصطفى من الفراش وأزاح الغطاء قليلا، فبدت يسراها وهي تتحرك. ارتفعت قليلا، وانبسطت راحتها ثم انقبضت، ثم استكنت فوق الصدر. حملق الرجل في الراقدة بذهول، ثم أعاد الغطاء إلى سابق وضعه وعاد إلى مجلسه. وتوتر الصمت كالشلل. ترى أي قوة خفية تعبث بهم وتعذبهم؟! ألم تكن الحياة محتملة رغم كافة متاعبها؟ .. ماذا رمى بهما إلى هذه التجربة؟ وقالت تفيدة بحدة: ضعوا الكفن تحت السرير!
فرفع الحاج حاجبيه الكثيفين في حيرة، ولم ينبس ولم يتحرك، فعادت تفيدة تقول: رأسي سيتكسر من قلة النوم!
فنظر عبد العظيم نحو الحاج وقال: لنذهب الآن، ثم نعود عصرا.
وشجعهما الحاج بهزة من رأسه، فغادرا الحجرة على الفور. وقالت تفيدة وهما يقطعان الغورية: هذا حرام من أوله إلى آخره، والله يعاقبنا.
فقال عبد العظيم بعصبية: ماذا فعلنا؟ .. البغل وحده الذي أكد أول يوم أنها ستدفن قبل هبوط الليل. - الحق أني كرهت كل شيء، كرهت نفسي يا أخي! - لا اعتراض لنا على مشيئة الله.
ثم بلهجة متطورة إلى الهدوء، وكانا يقتربان من شارع الأزهر: اذهبي إلى البيت، وسأذهب إلى المصلحة.
وقفا في المحطة ينتظران الترام. وحانت من عبد العظيم نظرة نحو مدخل الغورية، فرأى الحاج مصطفى يهرول نحوهما. وقف أمامهما وهو يلهث، ثم قال: الحمد لله على أن أدركتك قبل أن تركب.
نامعلوم صفحہ
ثم مواصلا كلامه بعد لحظات استراحة: البقية في حياتك!
ألجمت الدهشة لسانيهما، وتدفق إلى نفسهما خليط من المشاعر، الخوف والحزن والارتياح والخجل. ورجعوا جميعا وتفيدة تتساءل: ظننت أنها .. رباه! .. كيف حدث هذا؟
فقال الحاج مصطفى، وكان ما يزال يلهث: كما يحدث عادة، لا غريب في الأمر، سعلت قليلا، وبدا أنها تحاول أن تتكلم، ثم شهقت شهقة خفيفة، وخرج السر الإلهي.
وترامى إليهم من ناحية البيت صوات جماعي! .. وقع من نفوسهم موقعا غريبا، ولكنه أحدث تأثيرا غير منتظر، فجاش صدر عبد العظيم بالانفعال، وأجهشت تفيدة في البكاء. وعندما اقتربت من السطح ولولت صائحة: «يا عيني يا عمتي .. يا عيني يا عمتي!»
وجرى كل شيء كما رتب الحاج مصطفى من قبل، فخرجت الجنازة قبيل الظهر. وسار فيها جمع غفير من أهل الحي سواء للمجاملة أم ابتغاء الثواب. وتراءى الشيخ عويس المحامي، وهو يسير بين المشيعين، فشق الحاج مصطفى سبيله إليه ولزمه، حتى صلي على الفقيدة في الجامع. ولما استأنفت الجنازة سيرها إلى باب النصر بالبقية القليلة من المشيعين عاد الحاج إلى جانب عبد العظيم شلبي ولكزه بكوعه قائلا في همس: لن يشارككما أحد.
فسأله عبد العظيم بلهفة: أقال ذلك؟ - تقريبا. المسألة تحتاج إلى مراجعة طبعا، ولكن اطمئن!
فدارى عبد العظيم فرحته بقناع من الجد، وتمتم: نحن راضون بما قسم الله به.
وانتهت الجنازة إلى المدفن القديم، فأنزل النعش على كثب من القبر، وجلس المشيعون في الحوش غير المسقوف على كراسي من الخيزران. ومضى عبد العظيم إلى القبر المفتوح ووقف عند رأسه مذعنا لرغبة غامضة أقوى من الخوف الذي لم يصده. كان القبر ذا منامتين، واحدة للرجال والأخرى للنساء، فأرسل طرفه الحائر نحو منامة الرجال. رآهم صفا متراميا إلى الداخل، على رأسهم أبوه الذي استدل عليه بموضعه، وبلون كفنه الكموني المقلم، وتلاه أخوه، ثم جده. وثقل قلبه جدا. وضغط الانقباض على أضلعه ضغطا غير محتمل. لكن عينيه تحجرتا، فلم تذرفا دمعة واحدة. وامتلأت خياشيمه برائحة ترابية نافذة، كأنما تصدر عن الفناء نفسه. ومرت لحظة مات فيها كل شيء، فلم يعد لأمر قيمة ولا معنى. وشعر بيد توضع على كتفه، فالتفت فرأى الحاج وهو يشير إليه أن يتخلى عن مكانه للدافنين، وسرعان ما تراجع. وبدأ العمل فحمل الجثمان ليودع مقره الأخير. وانبعثت آيات من صوت كئيب، كأنما تنبعث من خزانة للأحزان. وبدأ التلقين في رتابة مخوفة مضجرة، ألقته حناجر أشباح شائهة، فحلت به جملة ألغاز الأبد. وقال عبد العظيم لنفسه: يا لها من أسئلة، ولكن كيف يتاح الجواب لمنفرد بظلمة القبر! .. وتتابعت الأصوات في رتابتها تنفث كآبة كالغبار، وفي الحوش تردد صوت السقاء اليائس، وهو يجول بين الجالسين بإبريقه دون أمل . وطار فكر عبد العظيم فجأة إلى ابنه البكري، فعاهد الله على أن يجري له جراحة لاستئصال اللوزتين كما نصح بذلك طبيب الوحدة المدرسية. فهذا خير على أي حال من أن يتهدده روماتيزم القلب فيما بعد. وعاهد ربه أيضا على الإقلاع ما أمكن عن المواد الدهنية كما أشار عليه الطبيب منذ عام بغض النظر عن الثروة المنتظرة. وتلاحقت الأصوات في سرعة موحية بنهاية الحفل، فحن قلبه إلى البيت والأولاد بقوة وجد فيها العزاء عما ساوره من قلق. وتابع الحاج مصطفى وهو يساوم الترابي، وينفح السقاء بشيء من الجود، وكذلك المقرئين، وارتفع صوته الجهير وهو يزجر الطامعين بغلظة. وآمن بأن ذلك الرجل سيخرج من المولد بغنيمة طيبة، ولكنه كان مقتنعا كذلك بأنه لولا خدماته لغرق في الارتباك والخسران حتى أذنيه. ومضى المشيعون ينصرفون حتى لم يبق إلا الحاج مصطفى وعبد العظيم. وكانت الشمس تسطع في سماء خلت تقريبا من السحب، فبثت في الجو دفئا مليحا، فدعا الحاج مصطفى صاحبه إلى الجلوس على دكة عند طرف المدفن؛ ليستريحا قليلا. وتردد عبد العظيم عن قبول الدعوة مقلبا عينيه في الخلاء المكتظ بالقبور إلى ما لا نهاية أمام الدكة وفيما حولها، ولكن الحاج تعلق بذراعه وقال متوسلا: لم أجلس منذ الصباح ولا ثانية، دقائق معدودات ثم نذهب.
وجلس الحاج فجلس عبد العظيم وهو كاره. بدا كأنه يعجب من كثرة القبور حوله، فأراد الآخر أن ينتزعه من كآبة المنظر فقال: غلبني التعب المتراكم، وأمامنا مشوار ليس بالقصير. وأنت رجل ظريف تستحب معاشرته، بالله خبرني ماذا نويت أن تفعل؟
فتساءل عبد العظيم بدوره: فيم؟
نامعلوم صفحہ