ولما جاوزت الساعة الواحدة وقف مدير الإدارة بوجه كئيب، وابتعد عن مكتبه وهو يقول: لا بد من إبلاغ المراقب العام.
واستمع المراقب العام إلى القصة في امتعاض ظاهر، ثم تساءل: ألا يجوز أن يرجع رغم الظنون؟ - الحق أني يائس تماما من ذلك، الساعة تدور في الثانية.
فقال المراقب العام بلهجة منتقدة: أنت تعلم أن تصرفكم خاطئ، ومخالف للتعليمات.
فانجحر المدير في صمت يائس مليا، ثم تمتم: جميع الإدارات تفعل ذلك. - ولو! الخطأ لا يبرر الخطأ، اكتب لي مذكرة لأرفعها لوكيل الوزارة.
ولكن المدير لم يتحول عن موقفه، وقال: الجميع في أشد الحاجة إلى مرتباتهم، هذه حالة لم تسبق بمثيل! - وماذا تريدني أن أفعل؟ - نحن لم نتسلم المرتبات، ولم نوقع في الكشف. - لا يمكن إنكار الواقعة، ولا التهرب من المسئولية.
وتكاثف الصمت وبدا المدير كرجل ضائع، وضاق المراقب به، فتشاغل بالنظر في أوراق على مكتبه، حتى تحول المدير عن موقفه، ومضى نحو الباب في خطوات ثقيلة جدا. وقبيل خروجه جاءه صوت المراقب، وهو يقول في جفاء: أبلغوا البوليس!
انتقلت إدارة السكرتارية إلى نقطة البوليس، وشقوا طريقهم إلى حجرة الضابط بين نسوة جالسات القرفصاء، تتقدمهن شرذمة من رجال متعاركين مخضبين بالدماء يسوقهم عسكري، على حين تعالى من وراء باب مغلق صراخ أليم واستغاثات. وأفضى السيد كامل المدير إلى الضابط بالحكاية من أولها إلى آخرها. وقال عن عم إبراهيم: إنه فراش في الخامسة والخمسين، دخل خدمة الوزارة وهو في العاشرة عاملا بالمطبعة، ثم نقل فراشا لتطاوله على رئيسه، وأجره الأصلي ستة جنيهات. وقال عنه موظفو السكرتارية إنه كان طيبا، وإن يكن به شذوذ محتمل كأن يشرد أحيانا حتى وهو يحدثك، أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يتطوع بذكر ملاحظات عامة في السياسة دون مناسبة، وعن مسكنه قيل إنه يقيم بالبيت رقم 111 بدرب الحلة، ولم يسبق له أن سرق أو أتى ما يستوجب الشك في ذمته. وقال الضابط بعد تحرير المحضر إن النقطة ستتأكد أولا أنه ليس ضحية لحادث من الحوادث ثم يتخذ البحث مجراه. ولم يجد الموظفون بدا من الانصراف، فغادروا النقطة كالمساطيل من الذهول. واختلطت أصواتهم وهم يتبادلون التشكي والتساؤل عما يمكن عمله إزاء مسئولياتهم الخطيرة التي تنتظرهم في البيوت. وشملتهم رغبة واحدة في أن يبقوا معا حتى يجدوا لمشكلتهم حلا، غير أنهم اضطروا في النهاية إلى التفرق فمضى كل إلى حال سبيله. عاد مدير الإدارة إلى بيته ولا أمل له إلا في البوكر أو الكونكان. وقصد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة محل رهونات بباب الشعرية، اعتاد في الأزمات أن يقترض منه بربح فاحش. أما لطفي فكانت زوجته تتكفل بنفقات البيت، ولكن كان عليه أن يبتدع حيلة ليأخذ منها مصروفه الشهري. الجندي - وهو شاب أعزب ويعيش في كنف أبيه - قرر أن يقول لوالده: تقبلني هذا الشهر، وكأنني ما زلت طالبا. حمام كان عليه أن يقنع زوجته المشتركة في جمعية توفير من الجيران بالمطالبة بنصيبها المخصص للكساء؛ لإنفاقه في البيت مهما كلفه ذلك من سباب وعراك وبكاء. سمير بدا أمره هينا نوعا ما، فما إن خلا إلى نفسه حتى قال: لولا الرشوة؛ لوجدت نفسي في مأزق لا مخرج منه! بقي أحمد كاتب المحفوظات الذي ظن الزملاء أن النهار لن يطلع عليه. مضى يتخبط في الطريق بلا أدنى وعي لما حوله من أناس ومركبات. ودخل مسكنه متأوها أزرق الوجه، فارتمى على أول مقعد وأغمض العينين. وأقبلت عليه الولية برائحة المطبخ، متسائلة في انزعاج: مالك؟
فقال دون مقدمات: لا مرتب لنا هذا الشهر!
فقالت بدهشة: لم، كفى الله الشر؟! عم إبراهيم جاء بمرتبك في أول النهار!
وثب الرجل قائما كغريق وجد آخر الأمر متنفسا، على حين ذهبت الولية وجاءت بلفة من الأوراق المالية وجد فيها مرتبه كاملا! استخفه الطرب لحد الجنون، فبسط يديه، وهتف من الأعماق: «الله يكرمك يا عم إبراهيم .. الله يجبر بخاطرك يا عم إبراهيم.»
نامعلوم صفحہ