ثم مواصلا كلامه بعد لحظات استراحة: البقية في حياتك!
ألجمت الدهشة لسانيهما، وتدفق إلى نفسهما خليط من المشاعر، الخوف والحزن والارتياح والخجل. ورجعوا جميعا وتفيدة تتساءل: ظننت أنها .. رباه! .. كيف حدث هذا؟
فقال الحاج مصطفى، وكان ما يزال يلهث: كما يحدث عادة، لا غريب في الأمر، سعلت قليلا، وبدا أنها تحاول أن تتكلم، ثم شهقت شهقة خفيفة، وخرج السر الإلهي.
وترامى إليهم من ناحية البيت صوات جماعي! .. وقع من نفوسهم موقعا غريبا، ولكنه أحدث تأثيرا غير منتظر، فجاش صدر عبد العظيم بالانفعال، وأجهشت تفيدة في البكاء. وعندما اقتربت من السطح ولولت صائحة: «يا عيني يا عمتي .. يا عيني يا عمتي!»
وجرى كل شيء كما رتب الحاج مصطفى من قبل، فخرجت الجنازة قبيل الظهر. وسار فيها جمع غفير من أهل الحي سواء للمجاملة أم ابتغاء الثواب. وتراءى الشيخ عويس المحامي، وهو يسير بين المشيعين، فشق الحاج مصطفى سبيله إليه ولزمه، حتى صلي على الفقيدة في الجامع. ولما استأنفت الجنازة سيرها إلى باب النصر بالبقية القليلة من المشيعين عاد الحاج إلى جانب عبد العظيم شلبي ولكزه بكوعه قائلا في همس: لن يشارككما أحد.
فسأله عبد العظيم بلهفة: أقال ذلك؟ - تقريبا. المسألة تحتاج إلى مراجعة طبعا، ولكن اطمئن!
فدارى عبد العظيم فرحته بقناع من الجد، وتمتم: نحن راضون بما قسم الله به.
وانتهت الجنازة إلى المدفن القديم، فأنزل النعش على كثب من القبر، وجلس المشيعون في الحوش غير المسقوف على كراسي من الخيزران. ومضى عبد العظيم إلى القبر المفتوح ووقف عند رأسه مذعنا لرغبة غامضة أقوى من الخوف الذي لم يصده. كان القبر ذا منامتين، واحدة للرجال والأخرى للنساء، فأرسل طرفه الحائر نحو منامة الرجال. رآهم صفا متراميا إلى الداخل، على رأسهم أبوه الذي استدل عليه بموضعه، وبلون كفنه الكموني المقلم، وتلاه أخوه، ثم جده. وثقل قلبه جدا. وضغط الانقباض على أضلعه ضغطا غير محتمل. لكن عينيه تحجرتا، فلم تذرفا دمعة واحدة. وامتلأت خياشيمه برائحة ترابية نافذة، كأنما تصدر عن الفناء نفسه. ومرت لحظة مات فيها كل شيء، فلم يعد لأمر قيمة ولا معنى. وشعر بيد توضع على كتفه، فالتفت فرأى الحاج وهو يشير إليه أن يتخلى عن مكانه للدافنين، وسرعان ما تراجع. وبدأ العمل فحمل الجثمان ليودع مقره الأخير. وانبعثت آيات من صوت كئيب، كأنما تنبعث من خزانة للأحزان. وبدأ التلقين في رتابة مخوفة مضجرة، ألقته حناجر أشباح شائهة، فحلت به جملة ألغاز الأبد. وقال عبد العظيم لنفسه: يا لها من أسئلة، ولكن كيف يتاح الجواب لمنفرد بظلمة القبر! .. وتتابعت الأصوات في رتابتها تنفث كآبة كالغبار، وفي الحوش تردد صوت السقاء اليائس، وهو يجول بين الجالسين بإبريقه دون أمل . وطار فكر عبد العظيم فجأة إلى ابنه البكري، فعاهد الله على أن يجري له جراحة لاستئصال اللوزتين كما نصح بذلك طبيب الوحدة المدرسية. فهذا خير على أي حال من أن يتهدده روماتيزم القلب فيما بعد. وعاهد ربه أيضا على الإقلاع ما أمكن عن المواد الدهنية كما أشار عليه الطبيب منذ عام بغض النظر عن الثروة المنتظرة. وتلاحقت الأصوات في سرعة موحية بنهاية الحفل، فحن قلبه إلى البيت والأولاد بقوة وجد فيها العزاء عما ساوره من قلق. وتابع الحاج مصطفى وهو يساوم الترابي، وينفح السقاء بشيء من الجود، وكذلك المقرئين، وارتفع صوته الجهير وهو يزجر الطامعين بغلظة. وآمن بأن ذلك الرجل سيخرج من المولد بغنيمة طيبة، ولكنه كان مقتنعا كذلك بأنه لولا خدماته لغرق في الارتباك والخسران حتى أذنيه. ومضى المشيعون ينصرفون حتى لم يبق إلا الحاج مصطفى وعبد العظيم. وكانت الشمس تسطع في سماء خلت تقريبا من السحب، فبثت في الجو دفئا مليحا، فدعا الحاج مصطفى صاحبه إلى الجلوس على دكة عند طرف المدفن؛ ليستريحا قليلا. وتردد عبد العظيم عن قبول الدعوة مقلبا عينيه في الخلاء المكتظ بالقبور إلى ما لا نهاية أمام الدكة وفيما حولها، ولكن الحاج تعلق بذراعه وقال متوسلا: لم أجلس منذ الصباح ولا ثانية، دقائق معدودات ثم نذهب.
وجلس الحاج فجلس عبد العظيم وهو كاره. بدا كأنه يعجب من كثرة القبور حوله، فأراد الآخر أن ينتزعه من كآبة المنظر فقال: غلبني التعب المتراكم، وأمامنا مشوار ليس بالقصير. وأنت رجل ظريف تستحب معاشرته، بالله خبرني ماذا نويت أن تفعل؟
فتساءل عبد العظيم بدوره: فيم؟
نامعلوم صفحہ