ومع كثرة إقبال الدمشقيين على الأخذ من مدارس الترك آخر عهدهم؛ ليكون منهم قضاة وضباط ورجال إدارة حتى ليظنهم من يراهم في عهد العثمانيين الأخير أنهم تتركوا جملة واحدة هم وذراريهم فإنهم ما لبثوا في الانقلاب العثماني سنة 1908 أن عادوا إلى العناية بلغتهم، وبدءوا يقلبون أسماء أولادهم - وكان بعضهم تركيا - إلى أسماء عربية صرفة، ورجعوا عن مدحت ورفعت وحمدي ورمزي ورشدي وكزيده وناديده وباكيزه، إلى زهير وعدنان وغسان وزياد وصفوان وأسامة ومروان وريمة وتميمة ورباب.
وينطوي الدمشقي على شيء من حب التقليد، ويتلقف الأمور الجديدة برحب صدر، وإن كان في مشخصاته أقرب إلى المحافظين، ويبعد في الجملة عن الإسفاف، وينزع إلى التجمل والاستغناء، وفيه شيء من عزة النفس والتمجد والكرم، وكثيرا ما تراه في عمله ويتسع في الإنفاق حب الاستكثار من المكاسب، وأنت إذا جئت تبحث في نفسه تجده من العامة أو ممن يقرب منهم، دعا إلى ما دعا، وعني بما عني، تقليدا لأبيه أو عشيره أو جاره، وفي الغالب أن يكون للرؤساء الذين يخاطبونه باللسان الذي يفهمه سلطان عليه، ولهذا كانت دمشق أول بلد طالب بالوحدة العربية بعد الحرب العالمية، وأول بلد صبا إلى الجامعة الإسلامية، وأول بلد ساءه تقسيم الديار الشامية إلى دويلات صغرى، وسعى جهده لضم الشمل بعد انبتاته، وإذا وقع حيف على العراق أو على فلسطين بكت دمشق أول الباكين، وعاونتهما ما استطاعت في تخفيف النكبة، وإذا أصاب المصري والحجازي شيء من الخير فرحت كأنه لها.
وفي دمشق خصائص القرى وخصائص المدن، وبينا تراها راقدة كقرية آمنة، إذا بها تهب هبة آنية لمطلب تريده وهي تراه حسنا، وأنت إذا أنعمت النظر في الأمر وقلبت الرأي في ثورتها، تشهد أنها ابنة ساعتها، ولكنها كانت تتخمر زمنا في صدور العقلاء من بنيها، وما ظهروا بما ظهروا إلا عن الضرورة الشديدة.
والدمشقي يعطف منذ القديم على الغريب، حتى يكاد يفرط فيما تقتضيه واجبات الضيافة والمجاملة، هكذا علمه بنو أمية على ما يظهر يوم كانت دمشق لا عاصمة الإسلام بل عاصمة الدنيا.
والدمشقي يحنو على الفقراء ويكثر برهم، ولا سيما في الأعياد والمواسم والمآتم، وما زال منذ خمس وعشرين سنة يعاضد الجمعيات الخيرية التي ألفها فريق من أهل الخير والحمية، تعول الفقراء وتعلم اليتامى والأميين من الشباب، وقد قام المحسنون من تجارهم في هذا العام بمشروع المؤاساة، فتبرعوا له بمبالغ عظيمة وسينشئون بما جمعوا مستشفى عظيما ودارا للعجزة.
ومن طبع الدمشقي ألا يؤخذ بالعنف، وهو يلين حتى مع خصمه ويهش في وجه من يكرهه، فكما أنه يحسن معاملة كل إنسان على اختلاف الدين واللسان، يجب أن يعامل على هذه الصورة، فإذا لم يلق مثل هذا من مخاطبه وعشيره وشريكه ينفر منه في باطنه، ولا يظهر له عداوة ولا خصومة على الأغلب؛ لأنه اشتهر برقة الحاشية واللطف والأدب، مثله في ذلك مثل ابن القاهرة لعهدنا، وعلى منوال هذا ينسج الدمشقي فيما ينقصه من مقومات الحياة العصرية.
ودمشق والقاهرة تتشابهان كثيرا، ولو كان لدمشق من ينظم شئونها تنظيما فنيا ويحمل جميع طبقاتها على مراعاة القوانين - وحب القانون يقل في أبنائها كما يكثر فيها العطف على المسيء يوم تحق عليه العقوبة - لجاء من مدينتهم أجمل مثال في العواصم العالمية.
واشتهر النساء الدمشقيات بجمال طلعتهن، وحسن هندامهن، ورقيق لهجتهن، وهن في الإجمال ربات بيوت، ومربيات أولاد، عرفن بصبرهن وجرأتهن على الاغتراب، وإذا اغتربت الدمشقية كونت لها بيئة خاصة، كأن تؤلف من بنات بلدها مجتمعا، وتطبع البيت الذي تدخله بطابعها من النظافة وحسن الإدارة والاقتصاد على الأكثر، ومنهن أوانس وعقائل رحلن إلى القاصية وما نزلن عن مشخصاتهن بعد طول الاغتراب، ولا نسين أهلهن وديارهن، ويزداد عطف الدمشقي على الدمشقي، والدمشقية على الدمشقية، كلما تناءت الديار التي صاروا إليها.
وإن الزي الذي تتزيا به المرأة الدمشقية ليسري إلى نساء القطر على أسرع وجه، ويحظى بالقبول عندهن بدون مناقشة.
وذلك لأن الدمشقيات كن يسارعن إلى النقل عن المرأة التركية، وأمسين اليوم يقلدن المرأة المصرية، ويأخذن عن المرأة الغربية مباشرة، فيخرجن الزي الجديد كأنه من اختراعهن وبنات أفكارهن، وما تخترعه دمشق في هذا المعنى تقبل عليه النفوس، كما يقبل الغرباء على التزوج من الدمشقيات لصفات فيهن قد لا توجد في غيرهن.
نامعلوم صفحہ