دمشق وطبيعتها
تاريخ دمشق السياسي
عمران دمشق
خطط دمشق ومصانعها
وصف القدماء والمحدثين لدمشق
سكان دمشق وخصائصهم
الحياة الأدبية والفنية والصناعية
صناعات دمشق
تجارة دمشق
غوطة دمشق
دمشق وطبيعتها
تاريخ دمشق السياسي
عمران دمشق
خطط دمشق ومصانعها
وصف القدماء والمحدثين لدمشق
سكان دمشق وخصائصهم
الحياة الأدبية والفنية والصناعية
صناعات دمشق
تجارة دمشق
غوطة دمشق
دمشق مدينة السحر والشعر
دمشق مدينة السحر والشعر
تأليف
محمد كرد علي
دمشق وطبيعتها
دمشق بكسر الدال وفتح الميم وإسكان الشين، اسم هذه المدينة الجميلة مدينة السحر والشعر. قالوا إن أصلها لفظة آرامية مماتة «مشق» تتقدمها دال النسبة.
وقد وردت في اللغة الهيروغليفية على هذا النحو تقريبا، ومعناها الأرض المزهرة أو الحديقة الغناء.
وأطلق الآراميون عليها اسم «درمسق»، والسريان «درمسوق»، وأهل لغة التلمود «درمسقين»، وقالوا إن إرم ذات العماد التي وردت في القرآن الكريم هي دمشق بعينها، وبعض المفسرين يذهبون إلى ذلك، الآية الكريمة
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد
قال شبيب بن يزيد بن النعمان بن بشير:
لولا التي علقتني من علائقها
لم تمس لي إرم دارا ولا وطنا
قالوا أراد دمشق، وإياها عنى البحتري بقوله:
إليك رحلنا العيس من أرض بابل
يجوز بها مست الدبور ويهتدي
فكم جزعت من وهدة بعد وهدة
وكم قطعت من فدفد بعد فدفد
طلبنك من أم العراق نوازعا
بنا وقصور الشام منك بمرصد
إلى إرم ذات العماد وإنها
لموضع قصدي موجفا وتعمدي
ومعنى آرام العالية أو سهل مرتفع نحو ألفي قدم عن مساواة البحر، وقد وردت في التوراة عدة أسماء مضافة إلى آرام.
وأطلقوا اسم «جلق» بكسر أوله وثانيه وتشديده على مدينة دمشق، وقد ورد هذا الاسم في الشعر القديم، ومنه في شعر حسان:
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
وقيل جلق اسم لكورة غوطة دمشق كلها، وقيل غير ذلك، ويكاد يكون الإجماع على أن جلق هي دمشق، وسموا دمشق جلق الخضراء، والغوطة، وذات العماد، ولقبت بالفيحاء - والفيحاء الواسعة من الدور والرياض - وسماها بعضهم بجيرون، وسماها آخرون بالعذراء.
تعلو دمشق 2200 قدم أو نحو 691 مترا عن سطح البحر المتوسط، وتبعد عنه نحو 60 ميلا، قامت في نجد من الأرض، ومعدل ما تجود به سماؤها من المطر كل سنة نحو 350 مليمترا، وهي تقع في عرض 18' 36 ̊ درجة من الطول، و20' 43 ̊ من العرض.
يطل عليها من الشمال جبل قاسيون، وهو فرع من فروع جبل سنير الذي يطلق على بعضه اليوم اسم جبل قلمون، ويشرف عليها من الجنوب الجبل الأسود وجبل المانع، ومن الغرب جبل الشيخ المعروف بحرمون في التوراة وبجبل الثلج عند قدماء العرب، وغربها مفتوح وكذلك شرقها، فهي سهلية جبلية، ومعتدلة الهواء تأخذ الفصول الأربعة فيها حكمها، وقد تنزل درجة الحرارة في الشتاء إلى اثنتي عشرة درجة تحت الصفر، وتصعد فيها أيام الصيف إلى نحو 37 درجة، وهي هبة «بردى» الذي سماه اليونان نهر الذهب، كما أن مصر هبة النيل، وبردى يسقي المدينة بعد تقسيمه ستة أنهار، منها ما يدخل البلد وهي بردى «النهر الأصلي» وقنوات وبانياس ويزيد وتورا، واللذان يسقيان الضاحية فقط الداراني وقناة المزة.
وكانت دمشق لقربها من جزيرة العرب والعراق والجزيرة ومصر مدينة تجارية تصل بين الشرق والغرب، وظلت عامرة على اختلاف العصور نحو أربعة آلاف سنة، فهي أقدم مدينة في العالم باقية على عمرانها، ومما تفخر به أن لها الواديين وادي بردى ووادي العجم، يشق الأول نهر بردى مضافة إليه مياه عين الفيجة، ويشق الثاني نهر الأعوج المعروف عند القدماء باسم فرفر، ومخرجه من سفوح جبل الثلج، ولا يدخل المدينة بل يسقي بعض قراها القريبة.
ومن خصائص دمشق أنها وسط غوطتها الغناء تخرج لها بقولها وفاكهتها وأخشابها وأحطابها، هي على مقربة من إقليم حوران تجلب منه حبوبها الجيدة، وعلى أميال يسيرة من إقليم الجولان ترعى فيه ماشيتها، على فراسخ قليلة من مصايفها ومشاتيها. ترى في بعضها الهواء العليل البليل طوال السنة، وفي الوقت عينه تشهد حكم الصيف، فغورها على مقربة من نجدها، وجبالها كسهولها تتعاون على جلب الخيرات إليها ، والثلج لا يخلو من أعالي جبالها صيفا وشتاء، وماء الشقة يجلب إليها في أنابيب تسقي دورها ومصانعها، وندر في المدن الكبرى مدينة كهذه تسقى ماء طاهرا لذيذا ماء عين الفيجة، وبهذا قلت الأمراض الوافدة على ما كانت في الأعصار الخالية.
تاريخ دمشق السياسي
تاريخ دمشق القديم
استولى الآشوريون والبابليون والفرس والأرمن واليونان والرومان على هذه المدينة، ومنهم من كان تطول أيامهم فيها كالرومان، حكموها سبعمائة سنة، واليونان حكموها 269 سنة، ومنهم من كانت لهم منزل قلعة كالأرمن، استولوا عليها ثماني عشرة سنة، وكان الدمشقيون هم الذين استدعوا صاحب أرمينية لما سئموا تنازع الرومان والفراعنة عليها، والغالب أن الفراعنة لم يستولوا على دمشق، واكتفوا بالاستيلاء على ساحلها غير مرة، ووقعت في أيدي إسكندر المقدوني، ثم في أيدي خلفائه السلوقيين، وفي أيامهم كانت دمشق هيلينية يونانية، كما كانت في عصور كثيرة سريانية آرامية.
وكان شأن دمشق في النكبات شأن العواصم الكبرى إذا اضطرب حبل الأمن في البلاد المجاورة لها، ولا سيما في البوادي والأقاليم، أو تنافس الرؤساء، وكان أكثرهم أشبه بعصابات لصوص، تصاب بأذى كبير فتقف تجارتها وتضعف زراعتها، ويجوع فقيرها بل يزيد فقراؤها؛ لأن كل بائقة تنال الأقاليم المجاورة تحفز المنكوبين من أهلها على الاعتصام بدمشق، وما عرفت هذه المدينة طعم السعادة في أكثر أيام الرومان، وشقيت بهم في آخر عهدهم خاصة، فكانت رومية لا تعد أهلها وطنيين رومانيين، بل غرباء ورعايا، وكثيرا ما كان الدمشقيون يبيعون أولادهم ليؤدوا ما تتقاضاهم رومية من الجزية.
دمشق قبل الفتح العربي
سقطت دمشق في أيدي دولة النبطيين العرب في سنة 85 قبل الميلاد، فتحها الحارث النبطي، فكانت نبطية من سنة 37 إلى سنة 54 للمسيح، وظهر النفوذ العربي في دمشق في عهد مبكر جدا - وهل النبط إلا عرب بأصولهم؟ - وإذ كانت هذه المدينة تحت سلطان أهل الوبر لم يجعل منها الرومان عاصمة ولايتهم، بل جعلوا مدينة حمص قصبتهم، ولم تخضع دمشق خضوعا تاما لأمراء العرب الحاكمين في أرجائها، حتى ولا للغسانيين الذين كانوا عمالا للروم ويرابطون في الجنوب والشمال والشرق، فتتقي دمشق بهم عادية الأعراب.
ولنا بذلك أن نقول: إن اللغة العربية انتشرت في دمشق وأرجائها قبل الفتح الإسلامي بزمن طويل، وسبق إلى نشرها الوثنيون من العرب، ثم متنصرة العرب، وإلى هؤلاء يرجع الفضل في انتشارها، والفتح العربي مدين للمتنصرة العرب لانضمامهم إلى بني قومهم، وكانوا مع الروم يوم الفتح، فغلبت عليهم النعرة الجنسية أكثر من النعرة الدينية لما شاهدوا أعلام الدولة العربية الجديدة.
دمشق في الإسلام
تولى فتح دمشق كل من أبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان من كبار الصحابة، حاصروها بعد وقعة اليرموك أعظم وقائع العرب في الشام، من الشرق والغرب، ففتح نصفها عنوة والنصف الآخر صلحا، فأجراها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلحا كلها، وذلك سنة 14 من الهجرة 636م، وقبل فتحها فتح خالد بن الوليد غوطتها - أي ضاحيتها - لما جاء من العراق مددا لأهل الشام، وركز العقاب - راية الرسول - في أعلى الثنية، ثنية العقاب التي يقال لها اليوم الثنايا، وهو الجبل الهرمي المشرف على شمال دمشق، وقاتل بني غسان يوم فصحهم، فغلبهم على أمرهم.
وما كان الفاتحون بغرباء عن دمشق لصلاتهم التجارية بأهلها في الجاهلية، وامتزاجهم بساداتها من الروم، وكان أبو سفيان بن حرب شيخ بني أمية كثيرا ما يرحل إليها، وقد زارها في الجاهلية بعض قواد العرب وخلفائهم، فعرفوا مداخلها ومخارجها، وصادفوا من أهلها بعد الفتح موادعة، فعاملوهم معاملة ليس أحسن منها، ولما لحق الروم بعد سقوط دمشق بقومهم في آسيا الصغرى، وخلت بهزيمتهم بيوتهم، أسكن المسلمون فيها بعض رجالهم، وجعلوا في أسفلها المليين، وخصوا أعاليها بأبناء الذمة حتى لا يتأذوا بالمسلمين إذا نزلوا العلالي.
ولما هلك أمير دمشق يزيد بن أبي سفيان وسدت الإمارة إلى شقيقه معاوية، فتولاها عشرين سنة أميرا، وعشرين سنة خليفة، وسدت إليه الخلافة بعد وفاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوضع أساس ملك بني أمية، وكان على غاية التسامح، عهد بوزارة ماليته إلى سرجون بن منصور من نصارى دمشق، ثم إلى ابنه من بعده ، وكان بعض أطبائه من النصارى، وكان في جيشه الأنباط والجراجمة والعجم وغيرهم من العناصر غير العربية وغير المسلمة. ثم تولى الخلافة ابنه يزيد بن معاوية، ثم معاوية الصغير أياما قليلة، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك، وتولى الخلافة الأموية في دمشق أربعة من أبناء عبد الملك؛ فدعي لذلك بأبي الأملاك ومفتاح الخير، وهم سليمان بن عبد الملك، والوليد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وتولاها منهم عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب لأمه، وضرب المثل بعدله وحسن سياسته، وكان آخرهم مروان بن محمد، وهو من خيرة خلفائهم، ولكن قضت الأقدار أن تسقط على يده الخلافة. قال جستاف لوبون: «أبان العرب عن تسامح مع كل مدن الشام، فرضي أهلها بسلطانهم، وطرحوا النصرانية وقبلوا دين الفاتحين، وتعلموا لسانهم». وأصاب دمشق من عناية بني أمية ما أصبحت به عاصمة أعظم دولة، وبهمتهم وعبقريتهم امتد عمرانها، وذاق سكانها طعم العدل، وعرفوا الغنى والسؤدد، وكانت دمشق بهم أعظم عواصم العالم وأجملها.
مدحهم شاعرهم الأخطل النصراني بقوله:
حشد على الحق عياف الخنا أنف
إذا ألمت بهم مكروهة صبروا
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
وكانت دمشق في أيام الأمويين كرومية في نظر أهل النصرانية، وما كانت قبلهم تعد في العواصم الكبرى. وللأمويين ابتكارات في الإدارة والسياسة لم ينسجوا فيها على منوال غيرهم، ولهم على العرب فضل لا ينسى على وجه الدهر، وهو أن أبا سفيان والد معاوية وجده حربا، نقلا من الحيرة الخط إلى جزيرة العرب.
دمشق في عهد العباسيين
فتح عبد الله بن علي عم الخليفة العباسي السفاح مدينة دمشق سنة 132ه، ووضع السيف في أهلها، واستصفى أموالها، ودخلت أباعر جيشه جامع بني أمية وظلت فيه سبعين يوما، وقتل من النصارى واليهود خلق، كما قتل كثير من العلماء والأمراء، ونبشوا قبور بني أمية وأحرقوا جثثهم بالنار وذروها في الهواء، ونقضوا أسوار البلدة حجرا حجرا. انتقم العباسيون من الأمويين أحيائهم وأمواتهم انتقاما فظيعا، وصفت لهم دمشق، إلا أنهم لم يجعلوا فيها دار خلافتهم، وصيروها قصبة ولاية، فذهب ما كان لها من عظمة على عهد الأموي.
ومع هذا كان عظماء رجال بني العباس أمثال إبراهيم بن المهدي وعبد الله بن طاهر يتولون أمرها، وأعظم من عطف عليها من خلفائهم الرشيد، وكان أميرا عليها قبل أن يلي الخلافة، وكذلك ابنه المأمون، كانا يختلفان إليها ويعدلان في أهلها، حتى لقد ذكراهم بما كانوا يلقون من عدل بني أمية أيام سلطانهم.
وما خلت البلاد حتى في أيام عظماء العباسيين من دعاة يدعون إلى إرجاع الملك للأمويين، فوضعوا لذلك ملحمة بنوها على معرفة المستقبل، زعموا أنه يظهر رجل من بني أمية اسمه السفياني، فاعتقد الناس بظهوره، كما اعتقد أهل المغرب بالمهدي، وفي خلافة الأمين - والعباسيون يشتغلون بأنفسهم - ظهر هذا السفياني، اسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، وهو الملقب بالعميطر، وكان من أهل العلم والرواية، فدعا إلى نفسه، وكان أصحابه يوم ادعى الخلافة يدورون في أسواق دمشق، ويقولون للناس: قوموا بايعوا مهدي الله. وكان يفتخر بقوله: «أنا ابن شيخي صفين» يعني عليا ومعاوية؛ لأنه كان ينتسب لبني أمية من جهة أبيه، ولآل أبي طالب من أمه، وتعصب على اليمانية وقاومه القيسية، فنهب دورهم وأحرقها، وقتلهم وفتك بأهل دمشق، وكان أصحابه يمرون بالدار فيقولون: ريح قيسي نشم من هذه الدار. فيضربونها بالنار، فهرب القيسية من دمشق، وكان من لم يبايعه سمر عليه بابه. ثم قام رجل آخر من الأمويين فنازع العميطر السلطة، فلقيت دمشق بسبب هذه الفتنة شدة، وأعظم ما لقيت من تنازع قيس ويمن أو النزارية واليمانية، وبقي الاختلاف في الشام بين هذين الحيين من العرب إلى العصر الأخير.
دمشق في عهد ملوك الطوائف
كان أول من اقتطع جزءا عظيما من جسم الخلافة العباسية أحمد بن طولون التركي، استولى على مصر نائبا عن أحد أمراء الأتراك في بغداد أولا، ثم صفت له أصالة واستولى على الشام، وكان حكمه فيها وفي الثغور ضئيلا ، وسده إلى بعض العمال الذين ارتضاهم، ولما هلك ابن طولون، وكان أحسن سيرة من بعض المتأخرين عن خلفاء العباسيين، خلفه ابنه خمارويه في الشام ومصر، فأحسن هذا لأهل دمشق. ولما انقرضت دول الطولونيين سنة 292 وقضى العباسيون على القرامطة الباطنية الذين جاءوا دمشق وأزعجوا أهلها وأخذوا منهم جزية عظيمة وأموالا كثيرة حتى يكفوا عن تخريب بلدهم، ظهرت الدول الإخشيدية دولة محمد بن طغج، فصادر الإخشيد أغنياء دمشق، واستصفى أموالهم.
وقد وجد بدار الإخشيد في مصر رقعة مكتوب عليها «قدرتم فأسأتم، وملكتم فبخلتم، ووسع عليكم فضيقتم، وأدرت عليكم الأرزاق فقطعتم أرزاق العباد، واغتررتم بصفو أيامكم، ولم تتفكروا في عواقبكم، واشتغلتم بالشهوات واغتنام اللذات، وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات، ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها، وأكباد أجمعتموها، وأجسام أعريتموها، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم، أوما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل ما وصل إليها الجاهل؟ ولو دامت لمن مضى ما نالها من بقي؟ فكيف بصحبة ملك يكون في زوال ملكه فرج العالم؟ ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم حتى لا يبقى منهم أحد ويبقى المنتظر به، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، وثقوا بقدرتكم وسلطانكم فإنا بالله واثقون، وهو حسبنا ونعم الوكيل».
قالوا إن الإخشيد بقي بعد هذه الرقعة في هواجس، وسافر إلى دمشق فمات فيها سنة 334، وفي السنة التي قبلها كان سيف الدولة بن حمدان استولى على حلب ودخل دمشق، ودهش بغوطتها، فصرح بأنه سيستولي عليها جملة، فكتب أهلها إلى المتغلب على مصر كافور الإخشيدي، فبعث جيشا طرده عنها وضمها إلى مصر، فنجت دمشق من جشع سيف الدولة وتحكمه في أصحابها.
وآذنت شمس الإخشيديين بالأفول سنة 357 ولم تلق دمشق من دولتهم ودولة الطولونيين سوى راحة نسبية، ما خرجت عن حد ما كانت تلقاه في أدوار عظماء الخلفاء من بني العباس.
وجاءت دولة الفاطميين أو العبيديين فاستولت على هذه المدينة سنة 359، وخطب على منبرها للمعز الفاطمي الشيعي، وانقطعت خطبة بني العباس السنيين، وعادت دمشق تشهد حظها يسود ، والفتن فيها تتكاثر وتشتد، وكان من سياسة الفاطميين ألا يولوا الولاة مدة طويلة، وبذلك كان سوء الإدارة ماثلا في أيامهم، ومن ضعفهم أن يتولى أمر دمشق رجل كان ينقل التراب على الحمير اسمه قسام الحارثي من تلفيتا في جبل قلمون، ولا تقدر الدولة على نزع السلطة منه، وكانت أرسلت لحربه الأمير الأفضل، فحاصر دمشق وضاق بأهلها الحال، ثم رضي القائد عن قسام، وأعاد إليه حكم البلد.
واستولى الأحداث على دمشق، فأرسل الفاطميون أحد قوادهم جيش بن الصمصامة، فتلقاه أهلها خاضعين، فأمنهم واستخص رؤساءهم، واستحجب جماعة منهم، وكان يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم، وأمرهم ذات يوم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة يغسلون أيديهم فيها، وأوعز إلى أصحابه إذا دخل رؤساء الأحداث الحجرة أن يغلقوا بابها ويضعوا السيف فيمن دخلها، فقتل من أصحابهم بهذه المكيدة نحو ثلاثة آلاف رجل، ثم قبض على الأشراف واستأصل أموالهم، وأتى على نعمهم، ووظف على البلد خمسمائة ألف دينار.
وبعد سنين قليلة ثار بدمشق رجل من أهلها يعرف بالجزار، فاجتمع إليه جمع كثير من أحداثها، فقبضوا عليه وقتلوه، وأظهروا الطاعة للفاطميين، وذلك بعد أن اجتمع على الناس بدمشق الجوع والحريق والنهب والقتل. وفي سنة 461 وقع الخلف بين الدمشقيين والعسكرية، فطرحت النار في جانب من المدينة فاحترقت، واتصلت بالجامع الأموي، وكانت دمشق في هذه الحقبة قد خربها أعراب البادية وأهل العيث والعيارون وانتقل أهلها إلى حمص، وهذا القرن من أشأم القرون على دمشق، فقد أصيبت في سنة 467 بكارثة لم يسجل تاريخها أعظم منها، وذلك بانتشار الطاعون أولا، ثم عمت المجاعة البلاد من قابل، فلم يبق من أهل دمشق سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد أن كانوا خمسمائة ألف كما قال المؤرخون، أفناهم الغلاء والجلاء والوباء، وكان بها مائتان وأربعون خبازا فصار بها خبازان، وخلت الأسواق وأقفرت القصور والدور، ونعق البوم في البراري، والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادى عليها بعشرة دنانير فلا يشتريها أحد، والدكان الذي كان يساوي ألف دينار ما يشترى بدينار، وأكلت الكلاب والسنانير والميتات، وأكل الناس لحم الآدميين، وهذا هو الطاعون الأسود الذي عم العالم، وأصاب مصر ما أصاب الشام من فجائعه.
دمشق في عهد السلجوقيين
ساءت سيرة المعلى بن حيدرة أمير الفاطميين مع الجند والرعية في دمشق، فثار به العسكر وأعانهم العامة، فخربت في الفتنة دمشق وأعمالها، وجلا عنها أهلها، وهان عليهم مفارقة أماكنهم وبيوتهم بما عانوه من ظلمه. قال المؤرخون: وخلت الأماكن من قاطنيها، والغوطة من فلاحيها، وغلت الأسعار حتى أكل الناس بعضهم بعضا لانعدام الأقوات، فجاء أتسز من أمراء السلجوقيين واستولى على المدينة بالأمان، وأعاد إليها الخطبة العباسية سنة 468، وانقضت أيام الفاطميين فيها، إلا أن أتسز لم يكن بالدمشقيين أرحم من المعلى، يضاف إلى المصيبة بالسلف والخلف أن رجاء الفاطميين لم ينقطع من استرجاع دمشق، فحاصروها غير مرة ورجعوا عنها خائبين، حتى قيض لها رجل عظيم من مماليك السلجوقيين اسمه طغتكين.
تولى طغتكين دمشق فأحسن السيرة، واستمر في حكمها من سنة 497 إلى سنة 522، فأحبه الدمشقيون كثيرا لبعده عن الظلم، وإعادته إلى الناس أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور، وإحيائه الأراضي المعطلة، فباع منها ما كان شاغرا، وصرف ما حصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد، فعمرت عدة ضياع، وأجريت عيون، وحسنت بإيالته دمشق وأعمالها، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك في باطن العاصمة وظاهرها، ولما مات اشتد حزنها عليه، ولم تبق محلة ولا سوق إلا والمآتم قائمة فيه عليه، وبحسن سياسته أوقف توغل الصليبيين في أحشاء البلاد، وقصر حكمهم على الساحل، وعقد بين المتخالفين من أمراء المسلمين في الديار الشامية صلات الود، ومعاهدات عدم الاعتداء، وألف بين قلوبهم ليجتمعوا كلهم على حرب الصليبيين الذين كانوا وصلوا إلى الأراضي الشامية سنة 490ه، واستولوا على أنطاكية وعلى الساحل الشامي وبيت المقدس.
وعدوا من غلطات طغتكين أن سلم الباطنية الإسماعيلية قلعة بانياس ليسلطهم على الإفرنج، ويحول دون اعتداء هؤلاء على المسلمين، فقوي بهذه القلعة أمرهم، وخف بهرام داعيتهم من العراق، ودعا إلى مذهبه جهرة، فتبعه خلق من العوام والجهال والفلاحين، ووافقه الوزير المزدقاني وزير دمشق، فعظم أمر بهرام بالشام، وملك عدة حصون، وكاتب الإفرنج ليسلم إليهم دمشق، وجعلوا موعدهم يوم الجمعة ليقتلوا المسلمين وهم في صلاتهم، فعلم صاحب دمشق بالأمر فقتل الوزير المزدقاني، وأمر الناس فثاروا بالإسماعيلية، فقتل منهم بدمشق بضعة آلاف، ولم يتعرضوا لحرمهم وأموالهم، ووصل الإفرنج في الميعاد فلم يظفروا بشيء، فتبعهم المسلمون يضربون رقابهم، فما نجا من جيشهم إلا القليل.
ولولا قيام طغتكين ذلك القيام المحمود لاستولى الصليبيون على دمشق وحلب، وكثيرا ما كانوا يغزون ربضهما، ولم تؤد دمشق للصليبيين غرامة على عهده، وظهرت بمظهر دولة قوية، وكأن طغتكين كان مبشرا بالدولتين النورية والصلاحية اللتين جعلتا من دمشق عاصمتهما، وكان لهما شأن وأي شأن في دفع عادية الصليبيين عن الأرض المقدسة، والقضاء على ذاك التذبذب الذي ظهر من الدولة الفاطمية، وكان بعض رجالها كاتب أهل الحملة الصليبية. وطغتكين هو الذي ضرب على أيدي صغار الأمراء في الشام، ممن كان يهون على بعضهم الوقوع في سلطان الصليبيين على أن تبقى لهم إماراتهم الموهومة الضئيلة.
دمشق في عهد الدولتين النورية والصلاحية
لم تر دمشق عزا بعد دولة الأمويين مثل العز الذي نالته على عهد الدولتين النورية والصلاحية. كان نور الدين محمود بن زنكي تركيا، وخلفه صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو كردي، وكلاهما خدم العرب والإسلام خدمة جليلة لا ينساها التاريخ، وفي دولتيهما عمرت دمشق عمرانا عظيما على اشتغال السلطانين برد الصليبيين عن الديار الشامية، وقوت هذه الكارثة العظيمة من متن الأمة، فانتظم شملها بالنظام المحكم، ووجهت وجهتها إلى هدفها الأسمى، وهو القضاء على الصليبيين، وكانت الأمة إذ ذاك على غاية الحماسة الدينية، حتى إن والدة شمس الملوك وافقت أرباب الدولة على قتل ابنها لما استصرخ الإفرنج لتسليمهم البلاد، وكان جده طغتكين المثال الكامل في دفعهم عنها، وقد وصلوا مرة إلى المرج الأخضر من ضواحي دمشق بقيادة كونراد الألماني، ولويز السابع الفرنسي، وبودوين الثالث ملك القدس، في جيش عظيم فهزمهم المسلمون شر هزيمة ودفعوهم إلى الساحل .
أبطل نور الدين في دمشق المظالم والمغارم، ورفع الحيف عن الضعاف، ووجه القوة إلى مقصد واحد، وفتح بعض البلاد التي كان أمراؤها ضعافا في وطنيتهم، ولما استعان شاور وزير العاضد الفاطمي بالصليبيين على قتال جيش نور الدين، بعث العاضد يستنجد بنور الدين، فجهز له حملة بقيادة أسد الدين شيركوه وقصد مصر سنة 562 ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف، فاستنجد شاور بالإفرنج، فساروا في إثر شيركوه إلى الصعيد فهزمهم، ثم ظهر التبلبل في السياسة الفاطمية، وتولى صلاح الدين القيادة فقضى على دولتهم آخر الدهر، وصفت مصر والشام والجزيرة لنور الدين.
وكانت سيرة نور الدين كسيرة صحابة الرسول من التقشف والعفة عن أموال الرعية؛ أسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام، وما أبقى من الجبايات سوى الخراج والجزية وما يحصل من قسمة الغلات، وكتب أكثر من ألف منشور بذلك، وأطلق المظالم، وأسقط من دواوينه الضرائب والمكوس عن المسافرين، وسامح الرعايا بمئات الألوف من الدنانير، وكان يأخذ مال الفداء ويعمر به الجوامع والمارستانات، وأخذ من أحد ملوك الإفرنج - وكان في أسره - ثلاثمائة ألف دينار، وشرط عليه ألا يغير على بلاد الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه رهائن على ذلك، وبنى بالمال المستشفى النوري بدمشق، ولما بلغ الملك الإفرنجي مأمنه هلك. ووقف نور الدين الأوقاف العظيمة على جوامع دمشق، وكان يبيع ما يصل إليه من الهدايا، وينفقه في عمارة المساجد المهجورة، وعمر المدارس والطرق والجسور ودور المرضى والبائسين والخانات والأبراج والرباطات، وبنى المكاتب وأجرى عليها وعلى المعلمين فيه الجرايات الوافرة إلى غير ذلك.
أما خلفه صلاح الدين فقد كان مثله في حسن السيرة، وبعد الهمة، وجميل المفاداة، وكان له عطف خاص على الدمشقيين؛ سامحهم بمئات الألوف من الدنانير على نحو ما فعل معلمه نور الدين، وزين مدينتهم هو وآله وعتقاؤه وجواريه بالمدارس والرباطات والمساجد، ولم ينسب إليه شيء منها، وكان يحب دمشق ويؤثر الإقامة فيها، ولما بنى له أحد عماله قصرا، لامه ولم يرض أن ينزله؛ لأنه ما كان يفكر في غير حرب الصليبيين. مات صلاح الدين بعد هذه الفتوح العظيمة ومنها مصر، ولم يخلف سوى جرم واحد من الذهب وسبعة وأربعين درهما، ولم يترك ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا شيئا من أنواع الأملاك، وكان يهب الأقاليم، ويعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، ويفتح بابه للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد، ويجلس إليهم مجلسا عاما يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفعل ذلك سفرا وحضرا. قال سبط ابن الجوزي: ويقال إن صلاح الدين فتح ستين حصنا، وزاد على نور الدين مصر والحجاز والمغرب واليمن والقدس والساحل وبلاد الإفرنج وديار بكر، ولو عاش لفتح الدنيا شرقا وغربا.
وما كان أولاد صلاح الدين وحفدته - مع وقوع الخلف بينهم - بغافلين عن زحزحة الصليبيين من مصر والشام، ويولون دمشق عطفا عظيما، ويقيمون فيها المصانع والمرافق مقتفين أثر مؤسس دولتهم الأعظم، وعلى خطته جروا في الحرمة وحب الخير، وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب عظيما بأخلاقه، سار بسيرة أخيه صلاح الدين وكان مستشاره وأمينه، ولولا هذا الاختلاف الناجم بين الأسرة الأيوبية للنزاع على الملك لكانت دولتهم خير دولة قامت؛ ذلك لأن أصحابها كانوا عارفين بصناعة الملك، يحسنون حمل الناس على الجهاد، لإنقاذ بلادهم من العدو، وكان صغارهم وكبارهم على غاية التهذيب مثقفين بأدب الدين والدنيا، ولقد توصل الملك العادل بدهائه إلى أن كان يرشي نساء قواد الصليبيين بالجواهر والحلي الدمشقية، فيخدمنه مقابل ذلك خدمات مهمة ويتجسسن له على قومهن، وكثيرا ما كان أمراء المسلمين يعمدون إلى مثل هذه الوسائط، وقد قدم أحد أمراء دمشق ذات يوم مائتين وخمسين ألف دينار لأحد أمراء الصليبيين، فلما فحصها وجدها زيوفا، ولكن كان السهم نفذ، وحصل الأمير المسلم على ما أهمه الوصول إليه من الصليبي، والحرب خدعة.
أوعز الملك العادل على الواعظ سبط ابن الجوزي مرة أن يحث الناس على الجهاد؛ لما شاهد من فتور في العزائم والقعود عن الحرب، فأشار الواعظ أن يقص النساء شعورهن لتستعمل في الأدوات اللازمة للحرب، ويعمل منها شكال وكرفسات، وصعد منبر جامع دمشق الأعظم وأمر بإحضار الشعور، فحملت على الأعناق، وكانت ثلاثمائة شكال، فلما رآها الناس ضجوا وشهقوا بالبكاء، وتعاهدوا على أن يقصوا من شعور نسائهم مثلها، ثم سافروا للقاء العدو، وما كفوا حتى وقع الصلح بين العادل والأعداء، وبهذا أثبت نساء دمشق في القرن السادس ما انطوت عليه أنفسهن من الوطنية، وأنهم لسن دون نساء بني أمية في القرن الأول يوم أتين مع جيش العرب لفتح دمشق، وكن يقاتلن في صفوف الرجال، ويتولين منهم ما تتولاه نساء أهل المدنيات الحديثة في الحروب من طهي الطعام، وغسل الثياب، وتضميد الجراحات، وتمريض المرضى.
دمشق في عهد المماليك
اشتد الخلاف بين أبناء العادل اشتداده من قبل بين أبناء أخيه صلاح الدين، وأهم ما كان من الأحداث أيام هذا الضعف مجيء الخوارزمية من الشرق يريدون الاستيلاء على الشام، فعاونهم بعض أمراء دمشق واشتد البلاء فيها، وأحرقت عدة أحياء وقصور ومساجد وخانات، ودام حصارها خمسة أشهر، وهلك الخلق موتا وجوعا، وقل الشيء، وأكلوا الميتة، وبيعت الأملاك والأمتعة بالشيء اليسير، وأنتن البلد بالموتى على الطرق. قال المؤرخون: وجرى بدمشق أمور شنيعة بشعة جدا، لم يتم عليها مثلها قط.
بويع الملك الظاهر بيبرس البندقداري ملكا على مصر والشام، بعد أن قتل تورانشاه آخر الأيوبيين سنة 647، ولقب الملك الظاهر، وهو رأس دولة المماليك البحرية، وجاء جماعة هولاكو إلى دمشق بعد تخريبهم بغداد والقضاء على الخلافة العباسية فيها سنة 656، وفي السنة التالية خرب هولاكو حلب، وأوقع بها خمسة أيام حتى لم يبق بها أحد، وأنفذت دمشق مفاتيحها إلى هولاكو لتأمن من شره، ومع هذا خرب سورها، وما نجت من غائلته إلا بانهزام جيش التتر على عين جالوت شر هزيمة، وبعد حين وصل غازان من حفدة هولاكو دمشق، فبذل له أهلها مالا عظيما، وباستيلائه عليها خربت الدور والمساكن بظاهر دمشق، واستبيح ما لم يصبه الحريق من الأماكن، وأسر ألوفا وقتل مئات في التعذيب على المال، ودام التتر أربعة أشهر على ذلك، فخربت بعض المدارس الكبرى ودار السعادة مقر نواب السلطنة وما حولها، وبعد مدة فتح ببغا أروس التتري دمشق، ونهب ضياعها وقطع أشجارها، وجرى على أهلها من عسكره ما لم يجر من عسكر غازان.
كان ملوك المماليك أجناسا، منهم الكفاة وبعضهم دون ما يجب من الكفاءة السياسية، فاتسع المجال في عهد الضعاف للواغلين من الشرق، فعسفوا أهل هذه المدينة، وما لقيت من جنكيز وهولاكو وغازان من المصائب زاد أضعافا بضعف الدولة القائمة، فلما وافاها تيمورلنك أنساها ما لقيت منه ما كان حل بها في القرنين الماضيين من أجداده التتر، فإنه ضرب عليها غرامة عظيمة كان مقدارها ألف ألف دينار، ولما استوفاها دخلها أمراؤه فحل بأهلها البلاء تسعة عشر يوما، هلك من ساكنيها خلال ذلك ألوف من التعذيب والجوع، وسبوا النساء وساقوا الأطفال والرجال، ثم طرحوا النار في المنازل والقصور والجوامع والمدارس، فعم الحريق في يوم عاصف جميع البلد، ولم يبق غير جدران جامعها، وحرق في هذه الفتنة معظم خزائن الكتب التي كانت زينة المدارس، وأكد رجل من باڨاريا اسمه جوهان شيلتبرجه كان جنديا من الأرقاء في جيش تيمور أن ثلاثين ألف إنسان بينهم النساء والأطفال قد اختبئوا في المسجد الجامع، فهلكوا لما سرت إليه النار.
قال ابن تغري بردي: ولقد ترك المصريون دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها، وكان يرجى بعد تلك الفتنة المشئومة سنة 803 أن تتنفس هذه المدينة الصعداء، بيد أن أمراءها ما كفوا عن مظالمهم، وظلوا يصادرون كل من يعتقدون أن لديه مالا، وانتشر فيها الطاعون سنة 814، فأحصي من مات من سكانها خاصة، فكانوا نحوا من خمسين ألفا، وخلت عدة قرى من السكان وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها، وأشبه هذا الوباء وباء سنة 897، وكان يموت فيه كل يوم ثلاثة آلاف إنسان، والأوبئة والمجاعات والزلازل والقحط ليست أكثر بلاء على هذا البلد من جبابرة الملوك المفسدين من الفاتحين؛ فإن تيمورلنك مثلا أخذ من دمشق جميع صناعها ومفننيها وعلمائها وقرائها، ونهب آثارها النفيسة ثم أحرقها، ولم تأخذه بها وبأهلها شفقة .
وجاء ملوك عظام من المماليك البحرية والبرجية اهتموا لسعادة دمشق، وفي مقدمتهم الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون وبيبرس الجاشنكير وقايتباي وبرسباي، وجاء أيضا منهم صغار بعقولهم وبأعمارهم، ومع هذا وفقت دولتهم إلى إخراج بقايا الصليبيين من ساحل دمشق، فخفف عنها الضغط الذي دام نحو مائتي سنة مشفوعا بغارات التتر من الشرق.
دمشق في عهد العثمانية
استولى السلطان سليم الأول العثماني على دمشق سنة 922، بعد وقعة مرج دابق التي قتل فيها قانصوه الغوري آخر ملوك المماليك، وكان سليم جبارا سفاكا للدماء، قتل إخوته وبضعة من وزرائه.
ومن سوء حظ هذه العاصمة أن أرباب الرحمة من ملوك آل عثمان مضوا قبل استيلاء العثمانيين الأتراك على الشام ومصر، ولئن كانت هذه الديار بمعزل عن شئون الدولة السياسية في القسطنطينية دار الملك وشأنها شأن سائر الولايات العثمانية، فإن جهل الأتراك بالإدارة أذهب عن دمشق نضرتها التي كانت لها على عهد نور الدين وصلاح الدين مثلا، وكان يتحكم فيها المتوثبون على الملك وأرباب الإقطاعات، والدولة لا تهتم إلا لجباية أموالها من الرعايا، وقصاراها أن يخطب لها على المنابر، وتضرب السكة باسم ملوكها، وتراعي فيها الظواهر، وتحس في أهلها الخضوع لما تأمر به، ولم ينكر الدمشقيون على الأتراك القادمين سوى استرسال بعض رجالهم في الشهوات، ومجاهرتهم بالفسق وتعاطي الخمور، وضرب حكومتهم رسوما حتى على بيوت الدعارة، واستغربوا من الفاتح ورجال حملته أن يحلقوا لحاهم، وما كانت عيون الناس في بلاد العرب تألف غير اللحى تزين وجوه الرجال.
أما الجيش العثماني فكان دأبه الاعتداء على السكان؛ ينزلون بيوتهم بالقوة، ويعتدون على الأعراض، ويقطعون الأشجار، ويرعون الزرع، ويوغلون في المنكرات والسلب والنهب.
ولما رحل السلطان سليم بعد فتحه مصر خلا الجو لنائبه جان بدري الغزالي، فخرج عن الطاعة وبايعه الأهلون بالسلطنة مكرهين، وسمى نفسه بالملك الأشرف، وخطب له على المنابر، وزينت دمشق ثلاثة أيام، وأوقدت الشموع على الدكاكين، وضربت السكة باسمه، ثم أرسلت الدولة العثمانية جيشا قضى عليه، وكان هو من قبل قضى على حامية المدينة، وكانوا خمسة آلاف جندي من الانكشارية، وفي وقائعه خرب نحو ثلث دمشق من ضياع وأحياء وحارات وأسواق وبيوت، وقتل من أهلها نحو سبعة آلاف، وهجم العسكر التركي على أحياء المدينة وربضها فكسروا الأبواب والحواصل والدكاكين، وآذوا النساء والأولاد، وكان النساء اجتمعن في مدرسة الحنابلة ومدرسة أبي عمر وغيرهما من مدارس الصالحية، فهجموا عليهن وعروهن من ثيابهن، أخذوا من راقهم من النساء والغلمان. ويمكن حصر مصائب الدور العثماني الأول في ظلم الوالي إذا كان عاتيا مرتشيا، وظلم الجند في كل مكان نزلوه، وشقاء البلاد بأرباب النفوذ من أهلها.
ومن الولاة من لم يكن حد لظلمهم ولا لسرقاتهم، أمثال سنان باشا، كان يقتل ألوفا من الأبرياء، ويعمر المساجد! فقد خلف من الذهب والجواهر والحلي والأحجار الكريمة ما عز وجود مثله في غير خزائن كبار الملوك المستبدين، هذا عدا ما أنفقه في بناء الجوامع والمدارس والتكايا والخانات مما قدره مؤرخو الترك بمليوني ليرة ذهبا بسكة زماننا.
وكانت الدولة العثمانية تخشى ولاتها، ولذلك ما كانت تبقيهم في دمشق إلا أشهرا معدودة، حتى لقد بلغ من تولاها منهم في قرن واحد من سنة 1000 إلى سنة 1100 أحدا وثمانين واليا، وزاد في هذا الدور ظلم الانكشارية جيش الدولة وكثر أذاهم، ويعبثون بأعراض الرعية وعروضها، ويستبيحون المدنية وقراها، ولا يكاد إنسان يأمن شرهم وعتوهم، وزادت فظائعهم لما أنشئت فرق جديدة من الجند، وبدت المنافسة بين العسكر القديم والعسكر الجديد، حتى أدت إلى أن يقتلوا في الشوارع، وإلى أن يتغلب أحد الفريقين المتقاتلين على القلعة، يقتل الأبرياء وتخرب بيوت وحوانيت، وتتعطل الأعمال أياما، وأقل ما كان ينال أهل القرى من الظلم متى طولبوا بعوارض سنتين أي بأموال عامين لحاجة الدولة أبدا على المال، فيرسل الوالي زبانيته من الجند يخربون المساكن ويقطعون الأشجار، وعادة قطع الأشجار تأصلت في نفوس رجال الترك حتى أتوا في بعض الأقاليم على أشجارها كلها، فأصبحت بتكرر قطعها وإحراقها جرداء مرداء بعد أن كانت غابات غناء، وكان الجند إذا شتوا بدمشق - وهم ألوف - يلزمون أهل المدينة بأكلهم ومبيتهم، فإذا عزموا على السفر يأخذون من كل دار ترحيلة أي مبلغا من المال نفقة الطريق، وأصبح الأمر في بعض الأدوار على غاية الأخلوقة، فقد حدث أن خصص السلطان إبراهيم الخالع الماجن جباية إيالة الشام كلها لامرأته السابعة، فكانت قرينة السلطان ترسل رجلا يجبيها باسمها.
وحدث بعض السنين أن أرسلت رجلا اسمه محمد أغا، وهو الذي نهض بعد مدة بالدولة باسم محمد باشا الكوبرلي الكبير، قال أبو الفاروق: ولا عجب، فقد توجد الدرة النفيسة بين الكناسات والقمامات «راجع الجزء الثاني ص267 من كتاب «خطط الشام» من تأليفنا».
وفي العهد العثماني كانت الفتن بدمشق متصلة اتصال الشؤبوب، البلاد ساحة وغي على الدوام، وكذلك كانت الحال في الأقاليم، تتعطل الأسواق والمعاملات بسبب الاضطرابات بين الانكشارية جيش الدولة والفرق الجندية الأخرى كالدالاتية والقبوقولي، وقد عطلت البلد سنة 1161ه مرة ما يقرب من سنة، لا تقام جمعة، ولا يسمع أذان، ولا يفتح جامع، ولا يتمكن أحد من الخروج من منزله، وأغلقت دمشق دكاكينها مرة تسعة أشهر احتجاجا على مسائل آذتها، وكانت ذريعتها العظمى في إنكار ما يؤذيها إغلاق الحوانيت والمتاجر.
نعم، انقلب عيش الدمشقيين في القرون الأخيرة من حكم العثمانيين عيشا رتيبا ليس فيه غير المغارم والمظالم، ونشوب الفتن فيها من الأمور الطبيعية، وذلك لضعف الحكومة، وقلة بصيرة ولاة الأمر وفسادهم، وسرعة تبديل الولاة وسائر العمال، والقاعدة أن المناصب الكبرى لا تدوم لمتوليها أكثر من بضعة أشهر، وندر من يتولاها سنة كاملة أو سنتين، ومعظم العمال يبتاعون مناصبهم من رجال الآستانة بالمال الوافر، والجند لأقل سبب يشعثون القرى ويأكلون مغلها، ويقتلون في أهلها، ومعنى تخريب قوى دمشق انقطاع مادة حياتها. وكاد الموت والحياة يتساويان في نظر الناس على عهد الترك؛ لأن كل ما يدخرونه ينهب، وكل ما يعمرونه يخرب، وجاء الوالي أحمد باشا الجزار يقتل في الأهلين ويعسفهم، وكثيرا ما كان يصادر الناس ثم يقتلهم، وطال حكمه في أوائل القرن الثاني عشر، وهو يلقي الشغب بين الأهلين، وينمي روح الفتن بينهم، حتى ينقذ القطر بزعمه من عسف المشايخ والأمراء، وكان جوره بالقياس إلى جور هؤلاء أقل وطأة، فحفظ المساواة بين الرعية، وكان يحبس علماء المسلمين كما يحبس قسيسي النصارى وحاخامي اليهود وعقال الدروز، ويصادر المسلمين كما صادر اليهود.
وأهم ما وقع في القرن التالي قتل أعيان دمشق الوالي سليم باشا، وكان قضى على جيش الانكشارية في الآستانة وهو صدر أعظم، فحاول قتل بعض أعيانهم وهو وال، فبدءوه بالشر قبل أن يبدأهم، وجعلوا الحجة في إثارة العامة أنه يريد وضع ضريبة جديدة على البيوت والحوانيت، فهاج الرعاع لذلك وقتلوه، ولولا أن اتفق في تلك السنة خروج محمد علي باشا والي مصر على الدولة، وإعداده حملة لفتح الشام، لجعلت الدولة عالي دمشق سافلها لما أصابها من الذل بمقتل واليها.
وشغلت دمشق بفتح إبراهيم باشا بن محمد علي باشا ونفس خناقها بالدولة الجديدة، وقد رأى الدماشقة إدارتها أحسن من الإدارة في عهودها من العثمانيين، وكان من أول أعمال المصريين ترتيب المجالس الملكية والعسكرية، وإقامة مجلس الشورى، وترتيب المالية، ووضع نظام للجباية، ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل، ومع هذا استثقل أرباب النفوذ والمشايخ ظل هذه الدولة، وودوا رجوع العثمانيين، ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء وتفتك بالآمنين والأبرياء.
أما إبراهيم باشا فمضى في إصلاحه وأبطل المصادرات، وقرر حق التملك، ووطد الأمن، وأحيا الزراعة والصناعة، وهيأ الطرق لرواج التجارة، وبتشويقه عمت تربية دود الحرير ودود القز، واستخرجت بعض المعادن، فاستعادت بعض القرى عمرانها القديم، ورخص الفاتح الجديد للأجانب في إرسال معتمديهم إلى دمشق، وكانوا قبله يمنعون من دخولها، ودام حكمه في الشام تسع سنين، ومن دمشق خرج عائدا إلى مصر، فبكاه الدمشقيون بكاء شديدا، على شدته في تطبيق القوانين، وما عهد منهم أن ودعوا فاتحا بما ودعوا به إبراهيم بن محمد علي الكبير.
مدح قنصل بريطانيا العظمى الإدارة المصرية في الشام بقوله: «لو طال الحكم المصري لاستعادت الشام قسما عظيما من وفرة سكانها القدماء، وأصابت شطرا كبيرا من الثورة التي كانت في الماضي وآثارها لم تزل ظاهرة للعيان في القرى والمدن العديدة، ولم يكد المصريون يطردون ويتقلص ظل سطوتهم، وقد كانوا أخضعوا الجميع لحكمهم الشديد، حتى عاد القوم إلى نبذ الطاعة، وخلفت الرشوة والتبذير في إدارة المالية النزاهة والاقتصاد، ومنيت المداخيل بالنقص، واستأنفت عرب البادية غاراتهم على السكان، فخلت القرى والمزارع المأهولة بالتدريج، حتى أمكن القول إنه لا يوجد ثم ظل للأمن على الحياة والأملاك، وكل شيء يدعو إلى عودة الفوضى إلى الديار».
وأهم ما وقع في القرن حادثة النصارى المعروفة بحادثة الستين سنة 1860م، وخلاصتها قيام رعاع المسلمين والدروز على نصارى دمشق وقتلهم ونهبهم، وإلقاء النار خمسة أيام في حيهم حتى خرب كله، وكانت هذه المذابح بدأت من قبل في لبنان، وهلك في دير القمر وزحلة ووادي التيم ألوف من النصارى بيد جيرانهم الدروز، جرى هذا في مدينة التسامح واللطف، فسود الأشقياء سمعة دمشق بعد أن عاش المواطنون قرونا في صفاء وولاء، وكانت لبعض الدول الغربية يد في إثارة نفوس النصارى من جهة، وإثارة الدروز من أخرى.
ويكاد المؤرخون يجمعون على أن الدولة هي التي دفعت الرعاع أو غضت الطرف عنهم، فارتكبوا ما ارتكبوا، وكان والي دمشق لما رأى أهل زحلة يجمعون جموعهم للغارة على الدروز، أرسل إليهم وفدا من دمشق لينصح لهم بالعدول عن فتح باب الشر، فقبل الدروز بمقترحه إلا أن الزحليين لم يقبلوا، وكان بعد ذلك ما كان من إثخان الدروز في جيرانهم النصارى في لبنان ووادي التيم، ثم سرت هذه الشرارة إلى دمشق وهلك فيها من النصارى 5500 مسيحي، وقدر بعضهم عدد القتلى في لبنان ودمشق باثني عشر ألفا، وهو عدد مبالغ فيه، وأرسلت الدولة على الأثر أحد عظماء رجالها فؤاد باشا لإطفاء الفتنة، وإرضاء الدول العظمى حامية النصارى في الشرق، فقتل من مسلمي دمشق 111 رجلا رشقا بالرصاص، وصلب 56، ونفى 145، وحكم بالأشغال الشاقة على 186، وكان في جملة من قتل 18 رجلا من كبار الأسر، وأرسل زهاء ألف رجل إلى المنفى والسجون خارج دمشق، وقتل الوالي أحمد باشا رميا بالرصاص؛ قالوا لتساهله في الفتنة، والحقيقة أنه نفذ أوامر الآستانة فخافت الدولة شيوع الخبر فقتلته، بعد أن أخذ فؤاد باشا أوراقه، وأخذت الحكومة تجبي المال للتعويض على المنكوبين، فجبت مئات الألوف من الليرات غرامة من أهل دمشق يبنون بها الحي الذي أصبح طعام النار، وجندوا ثلاثة آلاف جندي، وجعلوا بدل الخدمة في الجندية من النقد مائتي ليرة ذهبية، وبلغت الخسائر مليونا وربع مليون من الليرات.
وعاد من دانوا بالإسلام من النصارى كرها إلى دينهم الأصلي، وعوضت الدولة على المنكوبين من أموال الأهالي، ولم يصل إلى من أريدت معاونتهم مما جبي بهذا الاسم أكثر من الربع، وضاع الربع الثاني في النفقات، واختلس الربع الثالث عمال الحكومة، وأصاب صيارفة اليهود الربع الرابع، وكانت الخسارة عظيمة على الحكومة وعلى رعاياها من المسلمين والنصارى، وربحت الدولة من كل هذا تذليل الرعية وإخضاع الزعماء وأرباب المقاطعات، وخسرت دمشق ألوفا من البيوت المسيحية، هاجرت من دمشق إلى بيروت وقبرص ومصر واستوطنوها استيطانا قطعيا.
ولولا أن مئات من أعيان دمشق وتجارها وغيرهم من أرباب الدين والمروءة فتحوا بيوتهم وصدورهم لحماية المسيحيين والمسيحيات، لما بقي منهم ديار؛ لأن الأمر بعد أن خرج من يد الحكمة صار إلى أيدي الرعاع، والرعاع في العادة لا حد لتعديهم وإسرافهم، عمل المسلمون بما فرضه عليهم دينهم من حماية أهل الذمة، ولكن السياسة لعبت ألاعيبها، فعوقب حتى بعض من حمى مواطنيه، وأطعمهم وألبسهم وحنا عليهم.
وكانت الدولة تحاول أن تمثل مثل هذه الفتنة في دمشق قبل نحو ربع قرن، فلم تقع في أحبولتها؛ لأن الأمر رجع يومئذ إلى أرباب البصيرة والرأي، وذلك أن الدولة أرادت يوم ثورة المورة وجزائر البحر المتوسط سنة 1244ه أن تقتل طائفة الروم الأرثوذكس في الشام؛ انتقاما منهم عما أتاه أبناء دينهم في اليونان من عصيان الدولة للوصول إلى استقلالهم، فأمرت الحكومة واليها في دمشق أن يقتل أبناء طائفة الروم في إيالته، وكان الوالي عاقلا على ما يظهر، فأحال المسألة على مجلس دعا إليه الأعيان وأرباب الشأن عليهم أوامر الآستانة، فكان جوابهم: ليس عندنا مفسدون من النصارى، وجميعهم ذميون وعاملون بشروط الذمة لا تجوز أذيتهم، والرسول أوصانا بالذميين ، نحن لا نقدر أن نتحمل تبعة قتلهم، وكتبوا محضرا بجميل سلوك نصارى الإيالة وحسن طاعتهم، وأنهم يؤدون الأموال الأميرية، وأنهم يستحقون الرعاية والمرحمة من السلطنة العثمانية، وبصنع أهل دمشق هذا نجا من القتل عشرات الألوف من النصارى، وهكذا كانت سياسة الدولة العثمانية مدة تزيد على أربعة قرون، تضرب الغني بالفقير، والموافق بالمخالف، والطائع بالعاصي، وتفرق بين أجزاء قلوب رعاياها في بلد فيه عشرون مذهبا ودينا، حتى تخلت عن هذه الديار في حرب سنة 1918م.
دمشق في العهد الأخير
فتح الجيش الإنكليزي والجيش العربي مدينة دمشق أواخر الحرب العالمية، وتولى الأمير فيصل بن الحسين حكمها بمعاونة البريطانيين، ووضع فيها أساس الحكومة العربية، ثم وقع الاتفاق بين الحلفاء على تقسيم الديار الشامية، فكانت فلسطين وعبر الأردن من حصة بريطانيا العظيمة، وسورية ولبنان من نصيب فرنسا، وبعد حين جعلت عصبة الأمم الإشراف على هذا القطر لكل من الدولتين المشار إليهما على هذه الصورة، مع الاعتراف بأنه مستقل ويحتاج إلى من يدربه على الحكم من الدول، وهذا ما سموه بالانتداب.
وفي عهد الأمير فيصل التأم مؤتمر من نواب الديار الشامية «فلسطين وشرق الأردن ولبنان وسورية» في مدينة دمشق، وقرروا فيه المناداة بالأمير فيصل ملكا على هذه البلاد، فلم يرق الحكومتين المنتدبتين عمل المؤتمر على ما يظهر، وطلبت فرنسا دخول جيشها على الأرض السورية، فمانعت حكومة فيصل، فدخل الجيش الفرنسي دمشق عنوة بعد وقعة طفيفة في قرية ميسلون مع قوة قليلة من الجيش العربي والمتحمسين من الأهلين، وعهدت فرنسا بالحكم في سورية إلى رئيس سوري سمته تارة رئيس الوزراء، وأخرى رئيس دولة، وطورا رئيس مجلس المديرين، وجعلوا لكل وزارة ولكل ديوان كبير مستشارا فرنسيا، وتغلغل الفرنسيون في جميع فروع الإدارة، وتغلغل جيشهم المحتل في المراكز الحربية. وبينا كانت الهمة منصرفة إلى تقرير الأمن وإصلاح آلة الحكومة، والقوم يهنئون بالراحة وقد نجا أولادهم من خدمة الجندية في الجيش التركي، وكان كل سنة يهلك منهم ألوف في هذه السبيل، وقد نجوا من الاشتطاط عليهم في أداء المغارم، نشبت الثورة في جبل دروز حوران، ولم تلبث أن سرت شرارتها إلى دمشق، فكانت ثورة مؤلمة في زمن تحتاج فيه البلاد إلى السلام، فخربت بمدافع الحامية أجمل قصور دمشق الأثرية وجزء غير قليل من أعظم بيوت حي الميدان وحوانيته وحواصله ومستودعاته، وخربت عدة قرى في الغوطة، وهلك من الأهلين ألوف، وذهب من ثرواتهم مئات الألوف كانت جمعت في عشرات من السنين.
كان عمل فرنسا في التنظيم والإدارة والأمن حسنا في مجموعه، لكن سياستها كانت غير مستقرة على حالة واحدة، فكان الرؤساء الوطنيون ينصبون تارة بالتعيين وأخرى بالانتخاب، ينتخبهم مجلس له صورة المجلس النيابي، وبعد أخذ ورد طال أمرهما اختاروا الحكم الجمهوري، وجاء نواب الأمة إلى دمشق يجتمعون في دار الندوة أي البرلمان على نحو ما يجتمع العريقون في الحكم النيابي في الغرب، وإلى الآن تولى الأمر أربعة رؤساء جمهورية، اثنان منهم انتخبا انتخابا نظاميا في الجملة، إلا أنهما لم يكملا مدتهما، وثالث عينوه بمرسوم وقالوا إنه رئيس جمهورية، وربما كان هو أول رئيس جمهورية يعينه الغريب بأمر منه! والرابع من الرؤساء جرى انتخابه على النحو الذي جرى عليه انتخاب الرئيسين الأولين، وكان ذلك بعد استيلاء البريطانيين على سورية ولبنان في سنة 1940 لأسباب حربية، وقضوا على الفرنسيين الذين حافظوا على الطاعة لفرنسا الأم، وظلوا إلى الآن تحت الاحتلال الألماني، وأصبحت سورية ولبنان مستقلين بحسب العرف الدولي.
وأخذت المفاوضات بين البلدان العربية تدور حول تأليف وحدة من مصر والشام والعراق وجزيرة العرب، وإذا تمت هذه الأمنية التي تحرص على تحقيقها دمشق حرصا كبيرا، تصبح العاصمة الثانية لهذه الوحدة بعد القاهرة لتوسطها بين الأقطار العربية.
عمران دمشق
لم تبق الأيام في دمشق من عاديات الأمم البائدة قبل الإسلام سوى مصالح قليلة دائرة يستدل منها على مبلغ عنايتها بالعمران، لا جرم أن دولة الرومان التي طال عمرها في هذه الديار كان لها ممن تسخرهم من الأسرى والأرقاء في إنشاء مصانعها ما لم تكد تصل إليه دولة قبلها ولا بعدها، وعلى هذا الأساس كان حالها في كل قطر استصفته وكل بلد نزلته. ومن آثارها هنا الشارع الأعظم ويدعى المستقيم، كان ممتدا من الباب الشرقي إلى باب الجابية، أي من الشرق إلى الغرب، وطوله 1600 متر، وفيه طريق للركبان وآخر للمشاة، وقد طمر اليوم بما قام عليه من الأنقاض العظيمة، وما برحت بعض عمده مدفونة على أمتار من سطح الأرض تعلوها الدور والحوانيت، ولا يظهر منه إلا الباب الشمالي من الباب الشرقي، وقسم من الباب الأوسط الكبير، أما باب الجابية فبقي جزء صغير منه.
ومن أعظم آثار الرومان اثنان وخمسون حصنا وقلعة أقاموها بين دمشق وتدمر إلى الفرات؛ لتقف حاميتها على الدوام دون تسرب أهل البادية إلى المعمور من دمشق وأرباضها. وكذلك ما شادوه من حصون على الطريق الممتد بين بصرى قصبة إقليم حوران ودمشق عاصمة القطر الشامي؛ ليأمنوا عيث البادية أيضا.
ومن آثار الرومان قلعة دمشق في غربها، سماها العرب «الأسد الرابض»، وتعاورها بعض الفاتحين الترميم في أدوار كثيرة، ولا تزال بعض جدرانها قائمة، وأكثرها خراب، وقد اتخذها كثير من ملوك الطوائف ونور الدين وأخلافه دار إمارة، وجاءت بعض العصور وهي أشبه بمدينة فيها جميع المرافق، وأقيم فيها جامع بخطبة. ومن آثار القدماء سور البلد، وهذا أيضا جار عليه الدهر، فنقض مرات ورمم مرات في الدول الإسلامية، وهناك بقايا أنقاض بيعة اسمها كنيسة حنانيا، يرد عهد بنائها إلى القرن الرابع للمسيح، إلى غير ذلك من الأحجار والتماثيل المهشمة وقليل منها السالم، وقد رم العرب بعض ما عور من المصانع القديمة، وما أفرطوا في تشييد البناء العظيم؛ لأن الإسلام حظر السخرة، وعاديات القدماء كانت من عمل الرقيق والأسرى، وربما اختار العرب لأول أمرهم البناء بالمدر أي باللبن والطين، ثم تحول البناء إلى الحجر في بعض السنين، وكانوا يؤثرون البناء بالطين والخشب؛ لأنه أدنى إلى السلامة عند حدوث الزلازل من أبنية الحجر.
بنى معاوية قصر الإمارة جنوب المسجد الأموي، وسمي بالخضراء لقبة خضراء قامت عليه، قيل إنه أنفق عليه ثمانية عشر حملا من الذهب، وبنى الأمويون بيوتهم في جوار الجامع، وكان لمعظمهم قصور في الغوطة، ومنهم من كان يؤثر نزول البادية لئلا يخمل أبناؤهم بعيش الحاضرة.
وجاء الخليفة الوليد بن عبد الملك وكان مولعا بالعمران، فبنى الجامع الأموي، وصالح النصارى على النصف الذي كان أبقاه لهم الفاتحون، وعوضهم عن نصفه أربعين ألف دينار، وكان بدمشق خمس عشرة كنيسة للنصارى صولحوا عليها. قال المؤرخون: وهدم المسلمون واليهود جميع ما جددت النصارى في تربيع الجامع الأموي من المذابح والأبنية والحنايا، حتى بقي عرصة مربعة، ثم شرع ببنائه بفكرة جيدة على الصفة الحسنة الأنيقة التي لم يشهد قبلها مثلها.
وذكر المؤرخون أن الوليد أتى الصناع والمهندسين من الروم، أي من الروم الوطنيين، وبناه على أعمدة من الرخام طبقتين، الطبقة التحتانية أعمدة كبار، والتي فوقها صغار، في خلالها صورة كل مدينة وشجرة في الدنيا معمولة بالفسيفساء بالذهب والخضرة والصفرة، وكان ابتداء عمارته في أواخر سنة ست وثمانين، وتكامل في عشر سنين، وقبل أن يكون بيعة للنصارى كان معبدا للصابئة والكلدان والسريان واليهود.
الجامع الأموي.
وكان طول الحرم الأصلي من الشرق إلى الغرب 1300 قدم، وعرضه من الشمال إلى الجنوب 1000 قدم، فهو ربع مساحة دمشق في تلك الأيام، أنفق الوليد على تشييده وتزيينه خراج الشام سنتين، وقيل أكثر من ذلك، وكان خراجها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار كل سنة، فجاء أجمل جامع في الإسلام يليق بعاصمة الخلافة الإسلامية، وبقي على جماله إلى سنة 461ه أيام ذهبت محاسنه في الحريق الذي وقع في دولة الفاطميين، وقد حرق ست مرات في عصور مختلفة، وكان آخر حريق أصابه في سنة 1310ه، فأعيد إلى ما كان عليه كما كان يعاد في كل حريق، وأصيب غير مرة بزلازل فتفطرت بعض أركانه وشراريفه ومآذنه الثلاث.
ولنابغة بني شيبان في الوليد باني الجامع الأموي من قصيدة مدحه بها، ويصف بدائع هذا الجامع:
قلعت بيعتهم عن جوف مسجدنا
فصخرها عن جديد الأرض منسوف
كانت إذا قام أهل الدين فابتهلوا
باتت تجاوبنا فيها الأساقيف
أصوات عجم إذا قاموا بقربتهم
كما تصوت في الصبح والخطاطيف
فاليوم فيه صلاة الحق ظاهرة
وصادق من كتاب الله معروف
فيه الزبرجد والياقوت مؤتلق
والكلس والذهب العقيان مرصوف
ترى تهاويله من نحو قبلتنا
يلوح فيه من الألوان تفويف
يكاد يعشى بصير القوم زبرجه
حتى كأن سواد العين مطروف
وفضة تعجب الرائين بهجتها
كريمها فوق أعلاهن معطوف
وقبة لا تكاد الطير تبلغها
أعلى محاريبها بالساج مسقوف
لها مصابيح فيها الزيت من ذهب
يضيء من نورها «لبنان» و«السيف»
فكل إقباله والله زينه
مبطن برخام «الشام» محفوف
في سرة الأرض مشدود جوانبه
وقد أحاط بها الأنهار والريف
فيه المثاني وآيات مفصلة
فيهن من ربنا وعد وتخويف
ووصف ابن منقذ الكناني هذا الجامع بقوله:
وكأن جامعها البديع بناؤه
ملك يمير من المساجد جحفلا
ذو قبة رفعت فضاهت قلة
ومنابر بنيت فحاكت معقلا
تبدو الأهلة في أعاليها كما
يبدو الهلال تعاليا وتهللا
ويريك سقفا بالرصاص مدثرا
يعلو جدارا بالرخام مزملا
قد ألف الأقوام بين شكوله
فغدا الرخام بذاته متشكلا
لم يرض تجليلا بجص فانبرى
بالفص يعلو والنضار مجللا
يعشى سوام اللحظ في أرجائه
عن عسجد أرضا ومن فص حلا
فإذا تذر الشمس فيه تخاله
برقا تألق أو حريقا مشعلا
فكأنما محرابه من سندس
أو لؤلؤ وزمرد قد فصلا
وتخال طاقات الزجاج إذا بدت
من للحظك عبقريا مسدلا
تبدو القباب بصحنه لك مثلما
تبدو العرائس بالحلي لتجتلى
وعلت به فوارة من فضة
سالت فظنوها معينا سلسلا
وببابه حركات ساعات إذا
فتحت لها باب تراجع مقفلا
وفي أيام الوليد كان الناس يتكلمون في البنايات والعمائر لزيادة رغبته في البناء، فبنت الناس المجالس الحسان عملا بسنة الخليفة، وهو الذي عمر الضياع، وحفر الآبار، وأقام المنارات في الطرق، وهدم المساجد القديمة وزاد فيها، وشيد دور المرضى، وكان إذا ازدادت أموال الجباية ولم يجد أحدا يقبل الصدقات يبني بها المساجد، وشيد من جاء بعده الفنادق ودور الضيافة والخانات، وكل ما يسهل العيش ويجلب الراحة.
وظل الدمشقيون يسيرون على خطة خليفتهم الوليد في عمارة بلدهم في القرون التالية لم ينزع منهم هذا الغرام، حتى قال بعض المؤرخين إن للدمشقيين في ظاهر مدينتهم وداخلها من القصور الجميلة ما يدل على شدة ولعهم بإتقان مصانعهم والحرص على آثارهم، وهذه الخلة مشاهدة فيهم إلى اليوم، وعندهم أن من النقص في صاحب السعة ألا يملك دارا قوراء منجدة بالفرش الجيد، مستجمعة أسباب الراحة والنعيم.
عمرت دمشق في العهد الأموي عمرانا ما عهدت مثله في القرون الغابرة ولا في القرون اللاحقة، فأبقى كل واحد من خلفاء بني أمية أثرا فيها، مع أن ملكهم لم يدم أكثر من ألف شهر، وجاء العباسيون فكان بعض المتقدمين من خلفائهم كالرشيد والمأمون يختلفون إليها، كما قال ابن عساكر، طلبا للصحة وحسن المنظر، فقد أقام بها المأمون وأجرى إليها قناة من نهر منين إلى معسكره بدير مران، وبنى القبة في أعلى الجبل وصيرها مرقبا يوقد في أعلاها النار، لكي ينظر إلى ما في عسكره، وصارت هذه القباب بعد ذلك للإعلام بحركات العدو، وأقام أيضا مرصدا فلكيا في الجبل.
ومن أهم القصور القديمة القصر الذي بناه المأمون بين دمشق وداريا، ولا يعرف اليوم محله، وفيه نزل المتوكل العباسي لما نقل دواوين الخلافة من بغداد إلى دمشق، وكان المأمون معجبا بما ترك الأمويون من الآثار، ولا سيما جامعهم، قال صاحب الأغاني: إن المأمون دخل دمشق فطاف فيها، وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتتبع آثارهم، فدخل صحنا من صحونهم، فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله، وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان على أربع زواياه سروات كأنها قصت بمقراض من التفافها.
كانت صورة دمشق على شكل مربع الأضلاع مستطيل، ولها ثمانية أبواب، وربما زاد عدد الأبواب في بعض العصور، وردمت بعض الأبواب الأخرى، وأحسن بعض المتأخرين من أهل دمشق إذ قال:
دمشق في أوصافها
جنة خلد راضية
أما ترى أبوابها
قد جعلت ثمانية
وكانت متاجر المدينة وأسواقها داخل السور، والبناء في ربضها يكثر ويقل تبعا للأمن وقوة السلطان، فقد كانت في القرن السادس أحياء العقيبة والشاغور والمزاز وقبر عاتكة والشويكة والقنوات وسويقة صاروجا «سوق ساروجا» والعنابة من الأحياء الخارجة عن السور، ثم اتصلت بالمدينة كما اتصل ميدان الحصا بها، وكان الميدان قرية في الجنوب تربطها بالمدينة تلك الجادة العظمى من باب الجابية إلى باب مصر أو بوابة الله.
وكان الشرف الأعلى والأدنى في غربي المدينة عامرين بقصور الأغنياء ورجال الدولة، وفيها المدارس الحسان والمساجد والأسواق إلى القرن التاسع، فسطا عليها الخراب، وكذلك كان شأن محلة العنابة، فإنها خربت حوالي ذلك العصر، وعمرت الصالحية في سفح قاسيون من الشمال في القرن الخامس والسادس حتى أصبحت بمدارسها وجوامعها وأسواقها وخاناتها مدينة برأسها، ثم تحيفها الخراب في العصور التالية، ونهضت قليلا في العصر الحديث، فالعمران كان يمتد إلى الجنوب وإلى الشمال وإلى الغرب، وربما حال دون امتداده إلى الشرق وجود محلتي النصارى واليهود في ذاك السمت.
وجاء زمن والعمران متصل بدمشق من الغرب إلى الربوة، وكانت هذه عامرة أشبه ببلدة صغيرة فيها مدارس وجوامع وأسواق ومقاصف وحمامات، وفيها قصور الأغنياء، وإلى جنبها قصر الفقراء الذي بناه نور الدين محمود بن زنكي ليصطافوا فيه كما يصطاف السراة، ووقف عليه قرية داريا من أعظم قرى الغوطة، وفي ذلك يقول الوداعي:
إن نور الدين لما أن رأى
في البساتين قصور الأغنياء
عمر الربوة قصرا شاهقا
نزهة مطلقة للفقراء
وحرق قصر الإمارة في فتنة الفاطميين، فبقيت دمشق بدون دار إمارة، ولما ملكها تاج الدولة تتش في سنة 471 بنى دار الإمارة في القلعة، وزاد فيها شمس الملوك دقاق، وأنشأ بابين للقلعة مع دار المسرة فيها والحمام المحدث على صيغة اخترعها، وبنية افترعها، وصفة آثرها.
ولا أثر لما بناه جعفر بن فلاح لما فتح دمشق للفاطميين سنة 358، وكان نزل بظاهر سور دمشق فوق نهر يزيد، وأقام أصحابه هناك الأسواق والمساكن، وصارت شبه مدينة، واتخذ لنفسه قصرا عجيبا من الحجارة، وجعله عظيما شاهقا في الهواء، غريب البناء، وهذا القصر من المفقود، كما أنه لا أثر لما بناه الأشرف بن العادل من القصور والمتنزهات الحسنة في القرن السادس، ولم يبق أثر لقصور السكسكي التي كانت بهجة الأنظار في القرن الثالث في إقليم بيت لهيا على نحو ميل من شمالي دمشق، وكانت في أملاكه هناك عدة قصور مبنية بالحجارة والخشب الصنوبر والعرعر، في كل قصر منها بستان ونهر يسقيه، وكان كل جليل يقدم من الخضرة أي من بغداد، أو من مصر يريد الخضرة ينزل عنده في قصره، وما خلا عصر من مثل هذه القصور يقيمها أهل اليسار من التجار وغيرهم أو رجال الدولة وأصحاب الوجاهة. وفي العصور الحديثة شيدت قصور كثيرة في المدينة وربضها، ومنها ما أنفق عليه من أموال مغصوبة فخربت بعد قليل، «والحجر المغصوب في البناء أساس الخراب» كما قيل. وكان في الصالحية محل يسمى القصر عمره أبو البقاء الصفوري سنة 1035ه، وكان يقال له صاحب القصر، ولا يعرف هذا القصر ولا القصر الذي كان في الصالحية أيضا لحسين بن قرنق وعمره في سنة 1077ه، وكان يضرب المثل بقاعته، وكان ابن قرنق صدر دمشق عمر الأماكن البهية، ومن جملتها هذا القصر.
ومن أجمل أمثلة البناء الجميل الباقي أكثره دار أسعد باشا العظم في جوار جامع بني أمية، انتهت عمارتها سنة 1174ه، وهي مثال من هندسة الدور في العهد الأخير، اشترتها حكومة فرنسا من ورثتها وجعلتها معهدا للدراسات العلمية، وقد حرقت في ثورة سنة 1925 قاعتها، وكانت أجمل ما حوت تلك الدار.
وفي القرن الخامس دخل دمشق طراز من دور العلم سموه بالمدرسة، وأول مدرسة أنشئت للقرآن في سنة 444 أنشأها رشأ بن نظيف المقري الدمشقي، وكثرت بعد ذلك دور القرآن ودور الحديث ومدارس الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والزوايا والرباطات، أنشأها الملوك وأتباعهم من الأمراء والعتقاء والجواري وبعض أهل الخير من التجار والأغنياء، وختم تاريخ المدارس بانقراض ملوك الطوائف ودخول الدولة العثمانية.
ذكر صاحب كتاب الدارس - وهو مما ألف بعد خمس سنين من دخول العثمانيين - أن في دمشق 7 دور للقرآن، و18 دارا للحديث، و57 مدرسة للشافعية، و51 مدرسة للحنفية، و4 مدارس للمالكية، و10 مدارس للحنابلة، وكان بها أربع مدارس للطب، ومدرسة للهندسة، وفي دمشق وصالحيتها 26 خانقا، و23 رباطا، و26 زاوية، وجميع هذه المدارس والرابطات خربت على عهد العثمانيين، ولما غادروا دمشق ما كان فيها من تلك المعاهد سوى بضع مدارس أكثرها خراب، سطا عليها أهل الجوار أو باعها أكلة الأوقاف، وكانت هذه المدارس مدة قرون أشبه بكليات لمدرسة جامعة كبرى، تدرس فيها بعض علوم القدماء إلى جانب علوم الدين واللغة، ومنها خرج أعاظم الملة، وكانت من أجمل الأدوات في إخراج المسلمين من الأمية، تتعاور هذه الواجب مع الجوامع والكتاتيب التي يقفها أهل الخير لتعليم اليتامى والفقراء القرآن والخط، وتكون على الأغلب على أبواب الجوامع أو على مقربة منها؛ ليألف الصغار الصلاة منذ نعومة أظفارهم.
ولابن منقذ الكناني في المدارس:
ومدارس لم تأتها في مشكل
إلا وجدت فتى يحل المشكلا
ما أمها مرء يكابد حيرة
وخصاصة إلا اهتدى وتمولا
وبها وقوف لا يزال مغلها
يستنقذ الأسرى ويغني العيلا
وأئمة تلقي الدروس وسادة
تشفي النفوس وداؤها قد أعضلا
ومعاشر تخذوا الصنائع مكسبا
وأفاضل حفظوا العلوم تجملا
ومن القصور التي كان يقصدها الزائرون من الأقطار قصر الأبلق غربي دمشق، وهو قصر عظيم بني من أسفله إلى أعلاه بالحجر الأسود والأصفر بإحكام عجيب، بناه الظاهر بيبرس (668)، قالوا: وكان من عجائب الدنيا، فرش بالرخام البديع الحسن المؤزر بالرخام المفصل بالصدف والفص المذهب إلى سجف السقف، وكان على واجهته الشرقية مائة أسد، وعلى الشمالية اثنا عشر أسدا منزلة صورها بأبيض في أسود، والأسد شعار «رنك» الملك الظاهر.
وعلى مثال قصر الأبلق بنى الناصر محمد بن قلاوون القصر الأبلق بقلعة الجبل بالقاهرة، وبقي أبلق دمشق عامرا إلى دخول العثمانيين، وهو من عمل إبراهيم بن غنائم المهندس مثل المدرسة الظاهرية الباقية إلى اليوم، واسم هذا المهندس العظيم ما برح منقورا في الحجر في زاوية باب الظاهرية على يسار الداخل إليها.
كثرت الجوامع والمساجد في الدولتين النورية والصلاحية، وزاد عمران هذه المدينة في القرن السادس، وفيه كانت - كما قال الرحالة ابن جبير - أكثر مدن الأرض سكانا، يضاف هذا إلى ما كان لها من الغنى الماثل في مصانعها ومساكنها وجوامعها ومدارسها، ذهب كل هذا في فتن الفاتحين المخربين، ولم يبق منه إلا بعضه، وهو على تشعثه وخرابه يدل على ذلك العز الذي كان لدمشق.
ولقد اشتهرت دمشق بحماماتها؛ لتدفق المياه عليها من كل صوب، واشتهرت حماماتها بأناقة بنيانها وحسن نظافتها، وفي حماماتها المحدثة في القرن العاشر وما بعد مقاصير من القاشاني البديع، وآخر ما دثر منها حمام القيشاني وحمام الخياطين، وكان في دمشق في القرن التاسع مائة حمام وأربعة وستون خانا، وأهم خاناتها القديمة اليوم خان أسعد باشا، وخان سليمان باشا، وخان الحرير.
وعمر السلطان سليم لما فتح دمشق سورا وأبراجا من قرية القابون شمالا إلى آخر المدينة جنوبا، وجعل في ذلك السور أبوابا تغلق على المدينة، وعمر جامعا ومدفنا على قبر محيي الدين ابن عربي بالصالحية، ومدرسة قرب المدرسة السليمانية التي بناها ابنه السلطان سليمان القانوني مكان القصر الأبلق في المرج الأخضر.
اشتهرت دور دمشق بأن داخلها حوى الجمال برمته، وخارجها لا ينبئ عن شيء كثير، وهذا يوم كان جل الاعتماد في البنيان على الطين والخشب، يوم قال فيها البحتري:
وتأملت أن تظل ركابي
بين لبنان طلعا والسنير
مشرفات على دمشق وقد أعرض منها بياض تلك القصور.
والبيت الدمشقي في العادة عبارة عن صحن أو فناء فسيح في وسطه حوض ماء يتدفق إليه من أنبوب أو فوارة لا تنقطع جريتها، وقد غرست من الرياحين والأشجار المثمرة كل جميل وعطر، وعلى جوانب هذا الصحن المخادع والغرف والقاعات، وفي القاعة بركة ماء أيضا، وربما جرت على قامة في الجدار لتزيد في رطوبة المحل في الصيف، وفي الطبقة الثانية العلالي وهي خاصة بالشتاء على الأغلب، فبيوت دمشق القديمة حوت جميع المرافق، ومنها الحديقة والأشجار والمياه، والغالب أن الزلازل في الدهر السالف دعت الأهلين ألا يستخدموا الحجر في بنيانهم إلا نادرا، أما اليوم فالمعمول عليه في البناء الحجر والأسمنت المسلح والآجر والقرميد.
لكن الطراز القديم في البناء أقرب إلى حفظ الحرارة واتقاء البرد من الطراز الحديث، وأبان ابن منقذ الكناني عن هذا العمران بقوله:
وإذا مررت على المنازل معرضا
عنها قضى لك حسنها أن تقبلا
إن كنت لا تستطيع أن تتمثل ال
فردوس فانظرها تكن متمثلا
وإذا عنان اللحظ أطلقه الفتى
لم يلق إلا جنة أو جدولا
أو روضة أو غيضة أو قبة
أو بركة أو روة أو هيكلا
أو واديا أو ناديا أو ملعبا
أو مذنبا أو مجدلا أو موئلا
أو شارعا يزهو بربع قد غدا
فيه الرخام مجزعا ومفصلا
اشتهرت دمشق بأديارها قبل الإسلام، ومن أعظمها دير مران في السفح الغربي من قاسيون، كان مطلا على مزارع الزعفران، وقد ظل عامرا إلى القرن السابع، وقال فيه الشعراء من القصائد والمقاطيع كل مرقص، وكان مقصد الخلفاء والأمراء وأرباب اللهو والقصف وعشاق الطبيعة، وكان بالسفح في محلة الصالحية أكثر من دير تطل كلها على المدينة وغوطتها، وفيها أشجار السرو، ولا نعلم في أي قرن دثرت، كما أنا نجهل الزمن الذي دثرت فيه أديار الغوطة. أما كنائس دمشق اليوم فكلها محدثة جددت بعد حوادث سنة 1860، وليس فيها من الجمال ما كان للبيع القديمة، وللقديم أبدا روعة ليس للجديدة.
ومن أجمل ما أبقت الأيام عليه من البناء الفائق بهندسته المستشفى النوري المعروف بالمارستان داخل المدينة، والمستشفى القيمري في السفح، فإن واجهتيهما وواجهة المدرسة الظاهرية من أجمل ما سلم من العاديات. قال رحالة كبير قديما: إن هذين المستشفيين من مفاخر الإسلام. وقد جرى مؤخرا ترميم واجهتيهما ترميما خفيفا، وأعيد إلى النحو الذي كانا عليه، كما رممت عدة جوامع ومآذن وقبور، فعاد إليها بعض رونقها القديم، ورممت واجهة المدرسة الظاهرية، وفيها دفن الملك الظاهر وابنه الملك السعيد.
وفي الظاهرية دار الكتب الوطنية، وهي قبالة العادلية أعظم مدارس الشافعية، حرق ثلثها وحرقت خزانة كتبها في فتنة تيمورلنك، واستصفى أهل الجوار جزءا منها بعد حين، والباقي منها متعة الأنظار، وهي اليوم دار المجمع العلمي العربي، وفيها خزانة كتبه ومكتبه وردهة محاضراته. ومن آثار الظاهر بيبرس - عدا المدرسة المنسوبة لاسمه، وعدا القصر الأبلق الدائر - ما جدده من شراريف رءوس قلعة دمشق ورءوس أبراجها، وبنى الطارمة التي كانت على سوق الخيل، وبنى حماما خارج باب النصر، وجدد ثلاثة إصطبلات على الشرق الأعلى، وجدد مشهد زين العابدين في الجامع الأموي ورءوس الأعمدة والأساطين وذهبها، وجدد باب البريد ودور الضيافة للرسل المترددين.
وما خلا عصر المماليك والعثمانيين بعدهم من آثار جميلة، ومنها جامع تنكز سنة 740 وهو الآن مدرسة دينية، وكان تنكز كيلبغا وبرسباي وكافل سيباي وجقماق مولعين بإقامة المصانع التي ازدانت بها دمشق، فإن يلبغا أنشأ جامعا عظيما سنة 847 وهو اليوم مدرسة نموذجية، وأقام برسباي سنة 852 جامعه المعروف بجامع الورد، وأقام كافل سيباي جامعه الذي سماه العلماء «جمع الجوامع» لأن صاحبه لم يترك مسجدا ولا مدفنا معمورا إلا وأخذ من الأحجار والرخام والأعمدة، وهو في باب الجابية، جعل مدرسة ابتدائية منذ أواخر القرن الماضي، ومن مشهور جوامعهم جامع التوبة في العقيبة، وجامع منجك في الميدان، ومدرسة الجقمقية، أمام المدرسة السميساطية على الباب الشمالي من الجامع الأموي، والمدرسة الصابونية أمام تربة باب الصغير. ومن مدارس العثمانيين جامع السنانية من إنشاء سنان باشا، وجامع الدوريشية من عمارة درويش باشا، وجامع مراد باشا في السويقة، ومدرسة إسماعيل باشا العظم، ومدرسة عبد الله باشا العظم، ومدرسة سليمان باشا العظم. وأهم مصانعهم التكية السليمانية، والتكية السليمية، وجامع ابن عربي، وفي المعاهد الثلاثة الأخيرة نموذجات مهمة من القاشاني، وللتكية السليمانية - نسبة لسليمان القانوني - روعة عظيمة ولها مئذنتان جميلتان، وقيل إن هذه المدرسة العظيمة من بناء المعمار سنان التركي المشهور، ودفن فيها مؤخرا بعض ملوك بني عثمان، شغلت الجامعة السورية قسما منها وبقي القسم الأكبر جامعا.
ومن المآذن العظيمة المئذنة الغربية بالجامع الأموي، عمرها سلوان بن علي المعمار في عهد المماليك، ومئذنة جامعة كافل سيباي، ومئذنة جامع المعلق سنة 1058، وهذا الجامع أجمل بناء في دمشق. وأجمل منابر دمشق منبر جامع الجراح في السويقة، ومنبر جامع الحنابلة في السفح، ومنبر جامع مراد باشا ومحرابه، ومحراب جامع التوبة، ومنبر جامع الشيخ عبد الغني النابلسي وسقفه وشعريته في السفح.
كل هذا من عمل الأفراد، ومنه ما عمل رجاء الثواب وحب الخير، ومنه ما أريد به الظهور وحماية أموال الباني بوقفها على ما بنى، وكان عمران المدينة أيام العثمانيين كئيبا، وتكدس الناس في رقعة ضيقة يجعلون الأزقة ملتوية ليختبئوا وراءها، وتكون لهم متاريس ساعة يدور القتال في الشوارع والحارات، وكان من نصيب الدور القديمة أن اختبأت في هذه الأزقة، ولا ينم ظاهرها إلا عن فقر وخصاصة.
ومن أهم الآثار النفيسة في العهد التركي الأخير سكة حديد الحجاز، وطولها 1303 كيلومترات، كانت تمتد من دمشق إلى المدينة المنورة، عمرت بإعانات العالم الإسلامي، ومحطتها من أجل الآثار الحديثة هندسة، وبالسكك الحديدية التي ربطت دمشق بحيفا وبيروت وحلب والموصل، وبالترام الذي ربط شمالها بجنوبها وغربها بشمالها الشرقي حتى بلغ دومة حاضرة الغوطة، أصبحت دمشق كالقاهرة مرتبطة مع الضواحي، وتتم هذه الشبكة متى جرى تمديد النور والترام إلى الغوطة الوسطى والغوطة الغربية. ولقد اتسعت المدينة من الشمال منذ أنشئ المستشفيان الإسكتلندي والفرنسي في حي القصاع، ولولا نشوب الثورة السورية سنة 1925-1926 لبلغ العمران أرض العنابة على ما كان في القرن التاسع.
وامتد العمران في الجنوب فعمرت عدة محلات وأحياء جديدة، وأهم ما تم من العمران كان في الشمال والغرب من دمشق، وفيه قامت الدور الجديدة والقصور المنيفة، منها قصر العابد وهو قصر رئاسة الجمهورية السورية، وقصر ناظم باشا، وغير ذلك من المصانع، وبعضها عمر بأموال التجار على طراز البيوت ذات الطبقات الثلث والأربع، فخرجت هندسة البيوت عن طراز البيوت أمس ذات الطبقتين فقط، ولولا الحرب وصعوبة تناول مواد البناء لبلغت البيوت المنشأة حديثا نحو ربع أو ثلث المدينة الحالية، هذا والقوم زهدوا في سكنى البيوت العتيقة على جمالها، وكرهوا البيوت الواسعة في أحياء عامة، أزقة ضيقة يقل فيها النور والشمس وتحتاج إلى خدمة كثيرة. وعلى ما خرق في الحارات القديمة من أزقة ومنافذ، لا تزال المدينة تحتاج إلى شوارع صحية ليظهر بها ما بقي فيها من القصور والقاعات المزخرفة بأجمل الصناعات الدمشقية، وما فيها من مدارس وجوامع أثرية.
ومن أهم ما يستلزمه اتساع العمران وفرة السكان أن تنشأ لدمشق مقبرة عظيمة بعيدة عن أقصى حدود المدينة، يلزم الأهلون بأسرهم بالدفن فيها بعد الآن، وتغرس المقابر القديمة التي أصبحت ممتزجة بالدور والحوانيت أشجارا ورياحين، بحيث لا يمضي خمسون سنة حتى تندثر معظم القبور القديمة وتبقى قبور العظماء الراقدين في تلك الترب، وبذلك تجمع دمشق إلى رعاية الصحة زينتها بحدائق تليق بعظمتها التاريخية، وهذا من أعمال المجالس البلدية، وقد آن أن يطلب منها مثل تلك المطالب بعد أن دخلت في طور البلديات في الجملة، أي أصبحت ذات قانون وذات هندسة ولها تصميمات ومصورات، والواجب على الأهلين أن يعاونوها على تحقيق رغائبها، ولو فعلوا مختارين لا مكرهين لما قامت بعض العمائر المستحدثة متشابكة متراصة في بنائها. والبلدية هنا خطت خطوات، وقد رأيناها قبل أربعين سنة تبيع العرصات الواقعة في جادة الميدان، وتسمح للأهلين أن يبنوا حواصل وحوانيت ودورا أمام واجهات الجوامع والمدارس، فتورث تلك الجادة العريضة بشاعة وشناعة. وكان ديوان الحسبة قبل تأسيس البلديات في القرن الماضي يتولى من المدينة كل ما له صلة بالبناء والطرق والصحة وغير ذلك، ثم ضعفت هذه الحركة وضعفت مشخصاتها وأهمها الهندسة، فقد فقدت في أكثر ما قام من العمران، فأصبح كل بان يبني كيف يشاء بما شاء من مواد البناء.
ومن الأبنية الحديثة سراي الحكومة، والمجلس البلدي، ودار الشرطة، والثكنة الحميدية، ومدرج الجامعة السورية، ودار التوليد، ودار الآثار، ودائرة الأملاك العقارية، ودار الأوقاف، ودار الصحة، ودار الندوة «البرلمان»، ومدرسة التجهيز، ووكالة العابد. ومن الفنادق الحديثة أوريان بالاس، وفندق أمية، وهما أعظم الفنادق، والفنادق القديمة تتداعى وتخلفها فنادق من الطراز الحديث، كما خربت فنادق القرون الوسطى ودور الضيافة، ولم يعرف لها أثر ولا خبر.
عرفنا بما أسلفنا أن عمران دمشق كان يمتد كثيرا في الأيام التي تنجو فيها من آفات الطبيعة وعدوان الظالمين ، ويظهر عليها الغنى والرفاهية، ومن شأن الخلق إذا أمنوا واطمأنوا أن يتوسعوا في عيشهم، ويظهروا فضل النعم عليهم.
خطط دمشق ومصانعها
تنقسم
1
دمشق اليوم إلى قسمين متجاورين، المدينة القديمة والمدينة الحديثة، يقوم القسم القديم حول جامع بني أمية والقلعة داخل السور وظاهره، وقد حافظت أحياؤه على مظهرها القديم وعلى ما كانت عليه منذ مئات من السنين، ويخترق هذه المنطقة من الغرب إلى الشرق شارعان، الأول شارع الملك فيصل يمتد شمال سور المدينة، ويصل ساحة الشهداء بمحلتي القصاع وباب توما، ويمر فيه خط ترام طوله أحد عشر كيلومترا يصل دومة بدمشق، وفي هذا الشارع حوانيت العلافين والحدادين وبائعي البقول والأثمار وحواصل الخشب، وفيه سوق الخضروات، وفيه جامعان أثريان: جامع السادات، وجامع المعلق.
والشارع الثاني سوق مدحت باشا يقع إلى الجنوب وداخل السور، وهو جزء من الشارع المستقيم القديم الذي يصل باب الجابية بالباب الشرقي، وتكثر في هذا الشارع متاجر النسيج الوطني والأعبئة والكوفيات والعقل والنحاسون، وبين هذين الشارعين شارع ثالث وهو سوق الحميدية جنوبي القلعة، وينفذ منه إلى جامع بني أمية، وهو من أهم شوارع المدينة، تتمركز فيه الحركة التجارية، وفيه أكبر مخازن المصنوعات الأجنبية، وبين هذا الشارع وشارع مدحت باشا تتجدد اليوم محلة سيدي عمود التي قضى عليها حريق عام 1925، ويعارض هذه الشوارع عدد كبير من الطرق والأزقة ليسهل اتصال هذه الشوارع بعضها ببعض. وهنالك عدة شوارع متسلسلة تمتد من شمال المدينة إلى جنوبها، تبتدئ من ساحة الشهداء فتخرق محلة السنجقدار وباب الجابية والسنانية والسويقة وباب المصلى والميدانين التحتاني والفوقاني، وتنتهي عند باب مصر الواقع في أقصى جنوب المدينة، منه كان يخرج حجاج بيت الله الحرام. في هذا الشارع خط ترام طوله ثلاثة كيلومترات ونصف كيلومتر، وفيه عدد كبير من المتاجر البسيطة معظم علاقتها مع القرويين، ولا سيما الميدان وباب المصلى مركز تجارة الحبوب.
وقد حافظ أكثر أقسام هذه الشوارع الأخيرة على حالتها القديمة، ونصيبها من التجدد والعمران ضئيل، ويخيم عليها مظهر الكآبة والفقر، ولولا وفرة الأبنية الأثرية التي تزين هذه الشوارع لما امتازت عن عمران قرية من القرى. وأشهر آثارها إذا ابتدأنا من الشمال جامع درويش باشا وتربته، والمدرسة السباهية «كافل سيباي»، وجامع العجمي، وتربة بهادر آص، والمدرسة الصابونية، وتربة الشيباني، وتربة الشيخ حسن، وجامع جوبان، وجامع صهيب، وجامع منجك، وجامع فلوس، وزاوية سعد الدين، والمدرسة الفونشلية، والمدرسة الرشيدية، وقد أحيطت المدينة القديمة منذ عهد قريب بشوارع جديدة إحاطة السوار بالمعصم؛ حتى يتجه العمران إليها وتخف وطأة الازدحام في شوارع المدينة الرئيسية.
لا يتأتى لمن يجول في المدينة القديمة أن يظفر بجميع محاسنها على وجه السرعة، اللهم إلا ما يشاهده من مساجد وخانقهات وحمامات وبيمارستانات عمرت في شوارع ضيقة وبين أبنية وضيعة، قد يستغرب المرء تشييدها بينها، ويدهش للبون الشاسع والتناقض الصريح بين مظهريهما، ولا يمكن أن يدرك سر وجودها في هذا الوسط الحقير بمظهره، ما لم يجتز هذه الجدران البسيطة ويطلع على ما وراءها ليرى دورا شرقية كصور ألف ليلة وليلة، فيها باحات واسعة مرخمة بالمرمر تظللها الأشجار والرياحين، وإيوانات شارعة، وقاعات مزخرفة، وبرك ماء جارية تبهج الأبصار وتنعش النفوس، وعندئذ تتجلى له حقيقة دمشق وما كانت عليه من العظمة في العصور القديمة، ويدرك سبب شهرتها وافتتان الناس قديما بمحاسنها، وإكثار الشعراء من وصفها.
وعلى ذكر الشوارع لا بد من الإشارة إلى أن بعض أسواق المدينة لا تزال مغطاة غير مكشوفة على نحو ما كانت الشوارع في معظم بلاد الشرق قديما، ومن الشوارع المسقوف بجملون من حديد أو حجر أو خشب وطين، مثل سوق مدحت باشا، وسوق الذراع، وسوق الأورام، وسوق الحرير والقوافين والسكرية، وسوق القطن، ومصلبة باب السريجة وباب الجابية والسنانية.
وقد امتد البناء الجديد في غرب سفح جبل قاسيون حتى اتصل بمحلة الصالحية وحي الأكراد وساحة الشهداء، وتقدر مساحة ما تجدد من المساكن في هذه المنطقة بثلث مساحة المدينة القديمة، ويربط الأحياء القديمة بالأحياء الجديدة خط ترام طوله 3200 متر، يمر من جادة الصالحية حتى المهاجرين، ويتفرع عنه خط ثان من الجسر متجها إلى حي الشيخ محيي الدين طوله 1000 متر، ومصور الأحياء الجديدة والصالحية يشبه طيارة مطاردة، جناحها الأيمن حي الأكراد والصالحية، وجناحها الأيسر حي المهاجرين، ومؤخرتها محلة عرنوس والشهداء، وهذه الأقسام خالية من كل أثر قديم، أما محلة الأكراد والصالحية فغنية بالأبنية الأثرية، وأشهرها المدرسة العمرية، والتربة الخانوتية، والبدرية، والمدرسة الأتابكية، والجامع المظفري، والمدرسة الجهاركسية، والركنية، والصاحبة، والبيمارستان القيمري، وتربة السيدة حفيظة، والخاتونية، والمدرسة المرشدية، والتربة القيمرية، والتكريتية، وجامع محيي الدين ابن عربي، ومعظم هذه الأبنية من العهد الأيوبي.
وأما أحدث الأبنية وأجمل القصور فتقوم غربي محلتي الشهداء وعرنوس، حيث تنشأ أحياء المدينة القديمة والحديثة عظيمة جدا من حيث طراز البناء والعادات، فبينما نرى المدينة القديمة لم تزل حريصة على تقاليدها الشرقية الإسلامية، نرى عكس ذلك في الأحياء الجديدة، حيث أصبح السفور ولبس القبعات وكشف الرأس ولبس «الشورت» وحف الشاربين من الأمور المألوفة التي لا تنكر.
إن الأقسام الجديدة هي مناطق سكن، ليس فيها سوى حوانيت بسيطة في جادة الصالحية، وقد اختار الأجانب هذه المنطقة لسكناهم، وفيها البرلمان السوري، والقصر الجمهوري، ودوائر السلطة الفرنسية، والقنصليات، والمعاهد الأجنبية.
وقد خطت دمشق منذ عشرين سنة خطوات سريعة في سبيل العمران، وأنشئت فيها أحياء حديثة وتجددت أخرى، مما يبشر المدينة بمستقبل زاهر، لا سيما بعد أن وضع لها مخطط روعي فيه أحدث أساليب العمران، وقد أنجز أثناء هذه الحرب تنظيم مدخل دمشق، فصار يدخل إليها القادم من بيروت من شارع عريض طوله خمسة كيلومترات بين الحدائق والأشجار، ويطل منه على ملعب المدينة ودار الآثار والجامعة السورية ومدرسة التجهيز وتكيتي السلطانين سليم وسليمان، وهو أحد متنزهات المدينة التي تغبط عليها، وقد دعي مؤخرا شارع فاروق الأول.
وتمتاز دمشق عن غيرها من المدن بكثرة متنزهاتها، تحدق بها الأشجار من كل جهة، وحيث خرجت منها لا ترى إلا متنزهات، وأشهرها وادي الربوة ودمر والمزة وسهل القابون والغوطة، وأما ملاهي المدينة ودور السينما والفنادق فهي بجوار ساحة الشهداء حيث أكثر المصانع الرسمية، ولا يمضي على دمشق وقت طويل حتى تصبح في طليعة المدن الشرقية عمرانا وتنسيقا، وتستعيد مركزها القديم الزاهر تجمع بين القديم والحديث، فيجد فيها كل غاو هواه بعون الله.
بعض الكتابات والنقوش الأثرية
يقول الأثري «فان برشم» إن في الجامع الأموي في دمشق نصوصا عربية وكتابات عجيبة من عهد السلجوقيين كتبت بالقلم الكوفي، وسلسلة من أوامر سلاطين المماليك، وأبواب المدينة عبارة عن متحف لملوك الشام منذ عهد نور الدين والملك العادل إلى زمن الغوري، وفي وقفيات هذه المعاهد المزبورة على المساجد والمدارس والمستشفيات والأديار والقبور تفاصيل غريبة في إدارة هذه الأبنية وجغرافية ضاحية دمشق، وفي هذه المدينة يتيسر للناظر في بعض الكتابات الباقية من عهد نور الدين تعيين الزمن الصحيح الذي خلف فيه الخط المدور الخط الكوفي.
ولقد كشفت في الأعوام الأخيرة واجهة عظيمة من الحائط الغربي في الجامع الأموي معمولة بالفسيفساء، ويرد عهدها إلى أول بناء الجامع، كما كان عثر في قبة صحن هذا الجامع على رقوق من أهم ما ظفر به الباحثون، وكانت هذه القبة القائمة على سوار عالية معلقة لم تفتح من قرون طويلة، ففتحت سنة 1317ه بأمر السلطان عبد الحميد الثاني العثماني، وإجابة لمقترح الإمبراطور جليوم الثاني الألماني، فوقعوا فيها على قطع من الرقوق كتبت فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطع من مصاحف وربعات ومقاطيع من الأشعار بالأرمية الفلسطينية، وكتابات وأدبيات دينية وقصص رهبانية، ومزامير عربية بالحرف اليوناني، ومقاطيع من شعر أوميروس، وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية في موضوعات دينية، وجزازات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامريين، وصلوات وصكوك بيع وأوقاف وعقود زواج، بينها مقاطيع لاتينية وفرنسية قديمة، وقصائد يرتقي عهدها إلى أيام الحروب الصليبية ونسخ إنجيل برقوق.
فأهدى السلطان قسما منها إلى إمبراطور ألمانيا، والباقي ما زال مخبوءا في مستودع وزارة الأوقاف في الآستانة، وأهدى بعض رجال السلطنة في دار الملك وفي عاصمة الأمويين بعض الرقوق من القرآن، منها مجموعة حفظت في دار الآثار بدمشق بينها قطعة كوفية مكتوبة على رق من ربعة شريفة، وقفها عبد المنعم بن أحمد سنة 298، وعلى الوجه الثاني نقش مذهب باسم واقفها.
وبعد، فإن من ألقى نظرة عجل على بعض المساجد الأثرية يقرأ خطوطا جميلة، ويسقط على نقوش بديعة من صنع أهل الفن من الدمشقيين، ففي جامع التيروزي والدرويشية والسنانية والمرادية وجامع أقوش النجيبي في السويقة نماذج من القاشاني البديع، وفي جامع التبان بالمناخلية عمودان من القاشاني على طول متر وله منبر مهم، وفي مدفن الصحابي بلال الحبشي تابوت صنع سنة 625، وفيه قاشاني من صنع كوتاهية، وفي جامع تنكز قبران في حجرة واحدة، ولها محراب من الفسيفساء ونافذتان جميلتان، ويكثر القاشاني في الجوامع التي بنيت في عهد العثمانيين وفي بعض الدور القديمة التي يرد عهد بنائها إلى أكثر من قرنين، ولا تكاد قاعة قديمة في البيوت القديمة التي بناها أرباب اليسار تخلو من القاشاني البديع، وفي زقاق السقطى في الصالحية بيتان باسم وقف السقطي، تجد في الأول منهما 16 قطعة مربعة من القاشاني على صورة محراب كتبت عليه أسماء الخلفاء الراشدين، وفي الثانية قطعة مسدسة الشكل و4 قطع مربعة، وفي جامع الشامية معرشات بديعية وخطوط، وتابوت السيدة سكينة في مقبرة الباب الصغير عمل سنة 560، ونقش بخطوط كوفية داخل حروف ونقوش وحروف أخرى بالكوفية، وتابوت سيد صهيب في الميدان من توابيت القرن السادس، وتابوت بخت خاتون المعروفة بالسيدة حفيظة جميل بديع، وفي الصمادية في حي الشاغور عدة سقوف مهمة، وفي بعض الأحياء القديمة سقوف بديعة باعها أصحابها من عشاق الآثار، كما باعوهم الصناديق القديمة المكتبة، وأكثرها من خشب الجوز المتين، وفي المدرسة التكريتية أمام دار الأشرفية البرانية بالصالحية مقرنصات جميلة ذات تعاريش وكتابات.
وصف القدماء والمحدثين لدمشق
قيل لإسحق بن يحيى الختلي - من ولاة دمشق 235ه: لم سكنت دمشق وفلحت أرضها وأكثرت فيها الغروس من أصناف الفاكهة، وأجريت المياه إلى الضياع وغيرها؟ قال: لا يطيق نزولها إلا الملوك.
وقيل له: كيف ذلك؟ قال: ما ظنكم ببلدة يأكل فيها الأطفال ما يأكله في غيرها الكبار؟ وحق لهذا الوالي أن يقول ذلك، فإن دمشق معروفة منذ القديم بأنها بلدة رفاهية يكاد الفقير يعيش فيها عيش الغني إلا قليلا، ويتفنن أهلها في مآكلهم ومشاربهم وقصفهم ولهوهم.
وصف المقدسي في القرن الرابع مدينة دمشق بأنها مصر الشام، ودار الملك أيام بني أمية، وثم قصورهم وآثارهم وبنيانهم خشب وطين، أكثر أسواقها مغطاة، ولهم سوق على طول البلد مكشوف حسن. لا ترى أحسن من حماماتها ولا أعجب من فواراتها، ولا أحزم من أهلها، ومنازلها ضيقة وأزقتها غامة، تكون نحو نصف فرسخ في مثله في مستوى، والجامع أحسن شيء للمسلمين اليوم، ولا يعلم لهم مال مجتمع أكثر منه.
ووصف ابن جبير في القرن السادس هذه المدينة فقال: «إنها بلد ليس بمفرط الكبر، وهو مائل للطول، وسككه ضيقة مظلمة وبناؤه طيب وقصب، طبقات بعضها فوق بعض، ولذلك كثيرا ما يسرع الحريق إليه، وهو كله ثلاث طبقات فيه من الخلق ما تجمعه ثلاث مدن؛ لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقا».
ووصفها ياقوت في القرن السادس أيضا قال: «ومن خصائص دمشق التي لم أر في بلد آخر مثلها، كثرة الأنهار بها وجريان الماء في قنواتها، فقل أن تمر بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب، إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجدا ولا مدرسة ولا خانقاها إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان، والمساكن بها عزيزة لكثرة أهلها والساكنين بها وضيق بقعتها، ولها ربض دون السور محيط بأكثر البلد يكون في مقدار البلد نفسه».
ووصفها شيخ الربوة - وهو ابن دمشق - أوائل القرن الثامن فقال: «إنها مقسومة ثلاث طبقات؛ قسم مبثوث العمارة في غوطتها، لو جمع لكان مدينة عظيمة، ما بين جواسق وقصور وقاعات وإصطبلات وطواحين وحمامات وأسواق ومدارس وترب وجوامع ومساجد ومشاهد غير القرى والضياع الأمهات، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد بغيرها أصلا. والقسم الثاني تحت الأرض منها مدينة أخرى من متصرفات المياه والقنى والجداول ومسارب ومخازن وقنوات تحت الأرض كلها، حتى لو حفر الإنسان أينما حفر من أرضها وجد مجاري المياه تحته مشتبكة طبقات يمنة ويسرة شيئا فوق شيء. والقسم الثالث سورها وما فيه وحوله من المعمور، وكأنما هي في وصفها طائر أبيض في مرج أخضر، يترشف ما يصل إليه من الماء أولا فأولا».
وهذا أصدق وصف ينطبق عليها اليوم.
ووصفها ابن فضل الله العمري الدمشقي في القرن الثامن فقال: «إن غالب بنائها بالحجر، ودورها أصغر مقادير من دور مصر لكنها أكثر زخرفة منها، وإن كان الرخام بها أقل دائما، فهو أحسن أنواعا، وإن عناية أهل دمشق بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به وتحسن بأوضاعه، وأجل حاضرتها ما هو بجانبها».
وقال ابن بطوطة في هذا القرن أيضا: «إن أهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد».
ووصفها القلقشندي أوائل القرن التاسع فقال: «إنها مدينة حسنة الترتيب، جليلة الأبنية ذات الحواجز، بنيت من جهاتها الأربع، وبها الجوامع والمدارس والخوانق والربط والزوايا والأسواق المرتبة والديار الجميلة المذهبة السقف المفروشة بالرخام المنوع، ذات البرك والماء الجاري، وربما جرى الماء في الدار الواحدة في أماكن منها، والماء محكم عليها من جميع جهاتها بإتقان محكم».
وعرض لوصفها الظاهري في القرن العاشر بقوله: «إنها مدينة حسنة إلى الغاية، تشتمل على سور محكم وقلعة محكمة، وبها طارمة مشرفة على المدينة فيها تخت المملكة مغطى لا يكشف إلا إذا جلس السلطان عليه، وبها جوامع حسنة ومدارس وأماكن مباركة وشوارع وأسواق وحمامات وبساتين وأنهر وعمائر تحير الواصف، وبها مارستان لم ير في الدنيا مثله قط، وأما جامع بني أمية فهو أحد العجائب الثلاث، ولقد رأيت في بعض التواريخ أن عجائب الدنيا ثلاث: منارة الإسكندرية، وجامع بني أمية، وحمام طبرية، أما الميدان الأخضر وما به من القصور الحسنة فعجيبة من العجائب، وأما مفترجات دمشق فيعجز الواصف عن حصرها». ا.ه.
هذا قليل مما قاله الأقدمون في وصف دمشق، وما منهم إلا المعجب بما زانتها به الطبيعة، وما عملته يد الإنسان في أديمها.
وقد بالغ الشعراء وأكثروا في وصف طبيعتها، وربما بلغ ما مدحت به مجلدا برأسه، فمنهم من قال مخاطبا لها:
ولكم أحدث عنك من لاقيته
وجميع من سمع الحديث يصدق
والأرض في عرض وطول دائما
لم يحو مثلك غربها والمشرق
ومنهم من وصفها بقوله:
يغذى بها القلب أنفاسا بلا كدر
فن يحل الوبا أطراف ثاويها
إن الهواء إذا رقت مناسمه
في بلدة لطفت أخلاط أهليها
فكل صورة أنس في منازلها
وكل نزهة نفس في روابيها
لولا أمور وأرزاق مقدرة
لم يرتحل عن دمشق حاضر فيها
وفيها يقول البحتري في قصيدته للخليفة المتوكل التي مطلعها:
العيش في ليل «داريا» إذا بردا
والراح نمزجها بالراح من «بردى»
إلى أن قال:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها
وقد وفى لك مطربها بما وعدا
إذا أردت ملأت العين من بلد
مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب في أجبالها فرقا
ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفا خضلا
أو يانعا خضرا أو طائرا غردا
كأنما القيظ ولى بعد جيئته
أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
ومن أجمل ما قيل في مدحها قصيدة أمير شعراء العصر أحمد شوقي، وها هي برمتها:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
هذا الأديم كتاب لا كفاء له
رث الصحائف باق منه عنوان
الدين والوحي والأخلاق طائفة
منه وسائره دنيا وبهتان
ما فيه إن قلبت يوما جواهره
إلا قرائح من «راد» وأذهان
بنو أمية للأنباء ما فتحوا
وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
كانوا ملوكا سرير الشرق تحتهم
فهل سألت سرير الغرب ما كانوا
عالين كالشمس في أطراف دولتها
في كل ناحية ملك وسلطان
يا ويح قلبي مهما انتاب أرسمهم
سرى به الهم أو عادته أشجان
بالأمس قمت على «الزهراء» أندبهم
واليوم دمعي على «الفيحاء» هتان
في الأرض منهم سماوات وألوية
ونيرات وأنواء وعقبان
معادن العز قد مال الرغام بهم
لو هان في تربه الإبريز ما هانوا
لولا دمشق لما كانت «طليطلة»
ولا زهت بني العباس «بغدان»
مررت بالمسجد المحزون أسأله
هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت
على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته
إذا تعالى ولا الآذان آذان
آمنت بالله واستثنيت جنته
دمشق روح وجنات وريحان
قال الرفاق وقد هبت خمائلها
الأرض دار لها «الفيحاء» بستان
جرى وصفق يلقانا بها «بردى»
كما تلقاك دون الخلد رضوان
دخلتها وحواشيها زمردة
والشمس فوق لجين الماء عقيان
والحور في «دمر» أو حول «هامتها»
حور كواشف عن ساق وولدان
و«ربوة» الواد في جلباب راقصة
الساق كاسية والنحر عريان
والطير تصدح من خلف العيون بها
وللعيون كما للطير ألحان
وأقبلت بالنبات الأرض مختلفا
أفواهه فهم أصباغ ألوان
وقد صفى «بردى» للريح فابتردت
لدى ستور حواشيهن أفنان
ثم انثنت لم يزل عنا البلال ولا
جفت الماء أذيال وأردان
خلفت «لبنان» جنات النعيم وما
نبئت أن طريق الخلد لبنان
حتى انحدرت إلى فيحاء وارفة
فيها الندى وبها «طي» و«شيبان»
نزلت فيها بفتيان جحاجحة
آباؤهم في شباب الدهر غسان
بيض الأسرة باق فيهم صيد
من «عبد شمس» وإن لم تبق تيجان
يا فتية الشام شكرا لا انقضاء له
لو أن إحسانكم يجزيه شكران
ما فوق راحاتكم يوم السماح يد
ولا كأوطانكم في البشر أوطان
خميلة الله وشتها يداه لكم
فهل لها قيم منكم وجنان
شيدوا لها الملك وابنوا ركن دولتها
فالملك غرس وتجديد وبنيان
لو يرجع الدهر مفقودا له خطر
لآب بالواحد المبكي ثكلان
الملك أن تعملوا ما استطعتمو عملا
وأن يبين على الأعمال إتقان
الملك أن تخرج الأموال ناشطة
لمطلب في إصلاح وعمران
الملك تحت لسان حوله أدب
وتحت عقل على جنبيه عرفان
الملك أن تتلاقوا في هوى وطن
تقرقت فيه أجناس وأديان
نصيحة ملؤها الإخلاص صادقة
والنصح خالصه دين وإيمان
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم
ونحن في الجرح والآلام إخوان
وصف الأفرنج منذ القرن الماضي دمشق وصفا يختلف باختلاف معرفتهم وسياسة دولتهم، وهاكم نموذجات منها.
فمن أول من وصفها «فولني» الرحالة الفرنسي، زارها حوالي سنة 1788م، ومما قاله فيها: إن العرب لا يذكرون دمشق إلا معجبين بها، ولا يفتئون يمتدحون خضرة حدائقها، ولطافة نسيمها، وكثرة فاكهتها وتعدد أصنافها، ووفرة مياهها العذبة، وصفاء فواراتها وعيونها، وهي إلى هذا متفردة بوجود أماكن للنزهة في الخلاء وسط الريف والفلاة، وما من مدينة كدمشق تحوي قنوات وسلسبيلات.
ونقل عن نيبور الذي وصف خططها ومسحها فكانت 3250 أرتوازا «مقياس قديم طوله ست أقدام» أي أن استدارتها أقل من فرسخ ونصف، قال: وإذا حكمنا على هذا القياس بمقابلتها بحلب أرى أن دمشق تحتوي على ثمانين ألفا من السكان «سكانها اليوم نحو ثلاثمائة ألف عدا الضواحي».
وطلب رولان دوجلس «من كتاب فرنسا المعاصرين» إلى مولاه وهو يحدق نظره في مئذنة عيسى المطلة على جامع بني أمية، أن يكتب له عدم التعب وألا تتم له رغبة في البحث حتى يأتي على آخر رحلته التي لم يكن يخلو فيها من عجب دائم وحب أخاذ، وهذا معناه أنه دهش بمناظر دمشق.
أما «الأخوان تارو» فقد صغرا من قدرها وقالا إن ليس فيها ما تروق مشاهدته كثيرا، وقصرا مدهشاتها على ما حبتها به الطبيعة فقط، ومما قالاه: «وهل الثرثرة الدائمة، والتقلب في حدائقها، وخصب جنانها هي التي تخفي على الدمشقيين مبلغ الهرم الذي حل ببلدهم؟ فهم يعمون عن انحطاطها وجمالها الذليل، وما برحوا مع هذا يعتقدون أنه سيعود إليها بهاؤها الذي كان على العهد الأموي، وفي أيام السلطان صلاح الدين، وهم منذ خمسة قرون يخضعون لحكم الترك على الترك، على حين هم أشد ذكاء وأكثر مضاء منهم».
وقال «موريس باريس»: إن دمشق عتبة البادية، يجتمع بها على الدوام مائة ألف بدوي إلى ثلاثمائة ألف حضري مسلم، وفيها حلم قديم ينبعث من تحت ظلال أشجارها على شاطئ التيار السريع، وإن دمشق لتستهوي قلوبنا فترق لشيخوختها وفتوتها، وهي تبدي ما أصابها من حوادث الأيام وما لها من سحر خالد، ضامة بين جوانبها تلك الآكام الجرداء. دمشق موطن من مواطن الفكر، ومعهد من معاهد الشعر، وقصر من قصور الروح، فيها يجتمع الغرب والشرق، لا يحاول كل منهما أن يصرع صاحبه ، بل يجنح إلى التفاهم معه والامتزاج به ... قال: ولقد حدثتني راهبة شريفة من راهباتنا أن الأسر الإسلامية على غاية من الأخلاق العالية، وأن الإسلام دين يأمر بأمور صالحة.
والغربيون يكتبون حقائق دمشق إذا طال مقامهم فيها، ولكن أكثرهم يصرف فيها أياما أو ساعات محدودة ويطلع على قرائه بكتاب مرتجل، وما أدري كيف يحكم مؤلف على مثل هذه العاصمة في زورة قصيرة يقضي فيها، ولا يجتمع فيها إلا إلى الرجال الرسميين يلقنونه ما يوافق منازعهم، أو إلى أصحاب الفنادق والتراجمة والأدلاء، وهؤلاء أيضا لا يدركون ما يجب أن يعرف من سحر هذه المدينة.
وقال رامبر السويسري: إن دمشق في نظر سكان البادية ومن ينزل في أطرافها الأربعة التي تصهرها الشمس جنة ذات مياه دافقة، وظلال وارفة، وثمار غضة جنية، ولا يشعر المرء بأسف شديد في أي مكان نزل، كما يشعر إذا رأى قطعة من الأرض بلغت هذه الحد من الجمال، وكان حظها أن يديرها العثمانيون المعروفة إدارتهم بالجهل والجشع.
سكان دمشق وخصائصهم
من الصعب تحديد المقدار الذي دخل في الدمشقيين من دم الآراميين أو الروم، أو دم الأنباط والعرب، أو من سائر العناصر الأخرى التي تديرت هذه الحاضرة، وامتزجت بسكانها الأصليين؛ ذلك لأن من العادة أن تدخل في الحواضر الكبرى أجناس مختلفة من الخلق في كل دور من أدوار الدول، وفي كل عصر من عصور التاريخ، فيتعذر وضع إحصاء لكثرة ما يدخل فيها ويخرج منها في كل عقد، فمال الحال بعشرات من العقود أو عشرات المئات من الأعوام.
اتصلت هجرة العرب قبل الإسلام وبعده إلى هذه الديار اتصالا لم ينقطع، وكان من أكبر الحوافز إلى ذلك شئون اقتصادية وآفات سماوية، وربما جاءت القبيلة برمتها أو أكثرها، وتفرقت في أحشاء القطر، فأصاب حاضرته قسط غير قليل منها. لا جرم أن الكتلة الأولى من العرب الذين أووا إلى دمشق كانوا من غسان على كثرة، ومن التنوخيين والسبأيين والنبطيين على قلة، يقول اليعقوبي: وكانت دمشق منازل غسان وبطون من قيس وبها جماعة من قريش . وقال غيره: إذا جزت جبل عاملة تريد قصد دمشق وحمص وما يليها، فهي ديار غسان من آل جفنة وغيرهم، وإلى قيس ويمن يرجع مجموع أصول القبائل العربية المهاجرة، وهم الذين يطلق عليهم اسم العشران جمع عشير.
كثرت العناصر في الشام على عهد الإسلام، فنزل في بعض أرجائها جاليات من الفرس، وبعدها قبائل التركمان، نزلوها منذ عهد السلجوقيين، ثم انهال عليها الأكراد والقوقازيون من الجراكسة والطاغستانيين والكرج، ثم الهنود والأفغانيون والمغاربة والأرمن، يتكلمون بلغتهم أولا ويتعلمون لغة البلاد حالا، وفي هذا العصر انتشرت الفرنسية والإنكليزية وغيرهما من لغات الغرب، إلا أن العربية ما زالت تستغرق كل طارئ، وكل غريب نزل دمشق يلقف هو وأولاده هذه اللغة، ويندمج في أهلها، فتصير منه البوتقة العربية رجلا عربي اللسان، يصبح بعد بطنين عربيا بلسانه وعواطفه.
وانتفع الدمشقيون بهذا الاختلاط، وكان من تماذج الجنس الآري بالسامي خاصة نسل جميل متين فيه أجمل خصائص هذين الجنسين، أو الأجناس السائرة التي امتزج دمها بدماء أخرى.
وبهذا الاختلاط كثر الذكاء والمضاء، وتوفر في أهلها الحزم والعزم، على ما أشار إلى ذلك الباحثون في طبائعهم.
ورأينا الدماشقة يجدون ويهزلون، وجدهم جد وهزلهم هزل، ورأيناهم وقد جعلوا لبلدهم طابعا خاصا في مرافقها ومصانعها ومساكنها، يكاد لا يجتمع مثله في عاصمة من عواصم الشرق القريب، وكان الدمشقيون على الأيام إذا عانوا التجارة جاءوا في الصف الأول بين تجار الأقطار المجاورة، وإذا مارسوا الصناعة بذوا غيرهم وأتقنوا عملهم، وإذا انقطعوا إلى الزراعة قلبوا وعمروا وغرسوا، وإذا تولوا الأعمال الإدارية والحربية والدينية كانوا على الأغلب مثالا صالحا، وها نحن نرى رجالا منهم استولوا في عهدنا على التجارة في شرق الأردن وفلسطين، وكانت امتدت أيديهم إلى قسم عظيم من تجارة بيروت، كما استولوا على جزء من تجارة مصر، فنازعوا فيها الرومي والإيطالي وغلبوهما في بعض الأحيان، ومنهم مئات كان لهم من صبرهم ودءوبهم ما أعانهم على الاستئثار بقسط من تجارة العراق وإيران، أما في المهاجر فليسوا فيها دون سائر الشاميين، إلا أن سكان الجبال أصبر على شظف العيش من سكان السهول، ويغلب على التاجر الدمشقي النظام، كما يغلب عليه التدقيق والحرص في الغالب، لا يفرط ولا يفرط، ويحافظ على شرف توقيعه، فيؤدي ما يفرض عليه أداؤه من دين في حينه.
وفي بعض الإضرابات الأخيرة في سبيل الاستقلال، وهو إضراب دام خمسين يوما جملة، ما تلكأ تاجر واحد عن تأدية ما استحق عليه للمصارف، وحاولت السلطة أن تكره التجار على فتح مخازنهم وحوانيتهم، فلما أبوا فتحت هي محال تجاراتهم وصرفت منها الحراس وقطعت عنها النور؛ لتحمل أصحاب الأسواق على معاودة أعمالهم متى أوجسوا خيفة من اللصوص على أموالهم، فما مد أحد يده إلى شيء، لأن السارقين والطرارين تعاهدوا كما تعاهد المومسات ألا يمارسوا عملهم ما دام الإضراب، وما شكا أحد من الفقراء جوعا في بلدة كان رزق أكثر سكانها مناط عملهم اليومي، فقام أهل السعة بإطعام أرباب الفاقة؛ فلم يسمع حس تذمر ولا تأفف، ولم يسجل غير دبيب المطالبة الصامتة بالحق المسلوب، وهذا مما يستغرب من مدينة عظيمة فيها أصناف من الخلق، وسكانها مع الضواحي لا يقلون عن نصف مليون من النفوس.
والدمشقيون من أكثر العرب حنينا إلى بلادهم؛ إذا اغتربوا وإذا اغتنى الدمشقي قليلا لا يلبث أن يعود إلى مسقط رأسه.
وفي الدمشقي قوة التمثل؛ إذا دخل بلاد الترك أو الهند أو فارس أو أرض الإفرنج، تعلم في الحال لغة البلاد التي نزلها، أما من تعلموا لغة من تلك اللغات الغربية في المدارس، فإنهم يتكلمون بها ويكتبونها كأهلها، وهكذا كان لنا أدباء بالتركية وأدباء بالفرنسية وأدباء بالإنكليزية، ويشبه استعداد الدمشقي في باب إتقان اللغات الأجنبية استعداد أهل بولونيا في أوربا لتلقف اللغات.
ومع كثرة إقبال الدمشقيين على الأخذ من مدارس الترك آخر عهدهم؛ ليكون منهم قضاة وضباط ورجال إدارة حتى ليظنهم من يراهم في عهد العثمانيين الأخير أنهم تتركوا جملة واحدة هم وذراريهم فإنهم ما لبثوا في الانقلاب العثماني سنة 1908 أن عادوا إلى العناية بلغتهم، وبدءوا يقلبون أسماء أولادهم - وكان بعضهم تركيا - إلى أسماء عربية صرفة، ورجعوا عن مدحت ورفعت وحمدي ورمزي ورشدي وكزيده وناديده وباكيزه، إلى زهير وعدنان وغسان وزياد وصفوان وأسامة ومروان وريمة وتميمة ورباب.
وينطوي الدمشقي على شيء من حب التقليد، ويتلقف الأمور الجديدة برحب صدر، وإن كان في مشخصاته أقرب إلى المحافظين، ويبعد في الجملة عن الإسفاف، وينزع إلى التجمل والاستغناء، وفيه شيء من عزة النفس والتمجد والكرم، وكثيرا ما تراه في عمله ويتسع في الإنفاق حب الاستكثار من المكاسب، وأنت إذا جئت تبحث في نفسه تجده من العامة أو ممن يقرب منهم، دعا إلى ما دعا، وعني بما عني، تقليدا لأبيه أو عشيره أو جاره، وفي الغالب أن يكون للرؤساء الذين يخاطبونه باللسان الذي يفهمه سلطان عليه، ولهذا كانت دمشق أول بلد طالب بالوحدة العربية بعد الحرب العالمية، وأول بلد صبا إلى الجامعة الإسلامية، وأول بلد ساءه تقسيم الديار الشامية إلى دويلات صغرى، وسعى جهده لضم الشمل بعد انبتاته، وإذا وقع حيف على العراق أو على فلسطين بكت دمشق أول الباكين، وعاونتهما ما استطاعت في تخفيف النكبة، وإذا أصاب المصري والحجازي شيء من الخير فرحت كأنه لها.
وفي دمشق خصائص القرى وخصائص المدن، وبينا تراها راقدة كقرية آمنة، إذا بها تهب هبة آنية لمطلب تريده وهي تراه حسنا، وأنت إذا أنعمت النظر في الأمر وقلبت الرأي في ثورتها، تشهد أنها ابنة ساعتها، ولكنها كانت تتخمر زمنا في صدور العقلاء من بنيها، وما ظهروا بما ظهروا إلا عن الضرورة الشديدة.
والدمشقي يعطف منذ القديم على الغريب، حتى يكاد يفرط فيما تقتضيه واجبات الضيافة والمجاملة، هكذا علمه بنو أمية على ما يظهر يوم كانت دمشق لا عاصمة الإسلام بل عاصمة الدنيا.
والدمشقي يحنو على الفقراء ويكثر برهم، ولا سيما في الأعياد والمواسم والمآتم، وما زال منذ خمس وعشرين سنة يعاضد الجمعيات الخيرية التي ألفها فريق من أهل الخير والحمية، تعول الفقراء وتعلم اليتامى والأميين من الشباب، وقد قام المحسنون من تجارهم في هذا العام بمشروع المؤاساة، فتبرعوا له بمبالغ عظيمة وسينشئون بما جمعوا مستشفى عظيما ودارا للعجزة.
ومن طبع الدمشقي ألا يؤخذ بالعنف، وهو يلين حتى مع خصمه ويهش في وجه من يكرهه، فكما أنه يحسن معاملة كل إنسان على اختلاف الدين واللسان، يجب أن يعامل على هذه الصورة، فإذا لم يلق مثل هذا من مخاطبه وعشيره وشريكه ينفر منه في باطنه، ولا يظهر له عداوة ولا خصومة على الأغلب؛ لأنه اشتهر برقة الحاشية واللطف والأدب، مثله في ذلك مثل ابن القاهرة لعهدنا، وعلى منوال هذا ينسج الدمشقي فيما ينقصه من مقومات الحياة العصرية.
ودمشق والقاهرة تتشابهان كثيرا، ولو كان لدمشق من ينظم شئونها تنظيما فنيا ويحمل جميع طبقاتها على مراعاة القوانين - وحب القانون يقل في أبنائها كما يكثر فيها العطف على المسيء يوم تحق عليه العقوبة - لجاء من مدينتهم أجمل مثال في العواصم العالمية.
واشتهر النساء الدمشقيات بجمال طلعتهن، وحسن هندامهن، ورقيق لهجتهن، وهن في الإجمال ربات بيوت، ومربيات أولاد، عرفن بصبرهن وجرأتهن على الاغتراب، وإذا اغتربت الدمشقية كونت لها بيئة خاصة، كأن تؤلف من بنات بلدها مجتمعا، وتطبع البيت الذي تدخله بطابعها من النظافة وحسن الإدارة والاقتصاد على الأكثر، ومنهن أوانس وعقائل رحلن إلى القاصية وما نزلن عن مشخصاتهن بعد طول الاغتراب، ولا نسين أهلهن وديارهن، ويزداد عطف الدمشقي على الدمشقي، والدمشقية على الدمشقية، كلما تناءت الديار التي صاروا إليها.
وإن الزي الذي تتزيا به المرأة الدمشقية ليسري إلى نساء القطر على أسرع وجه، ويحظى بالقبول عندهن بدون مناقشة.
وذلك لأن الدمشقيات كن يسارعن إلى النقل عن المرأة التركية، وأمسين اليوم يقلدن المرأة المصرية، ويأخذن عن المرأة الغربية مباشرة، فيخرجن الزي الجديد كأنه من اختراعهن وبنات أفكارهن، وما تخترعه دمشق في هذا المعنى تقبل عليه النفوس، كما يقبل الغرباء على التزوج من الدمشقيات لصفات فيهن قد لا توجد في غيرهن.
وحجاب النساء يضعف مع الزمن، والسافرات فيهن قليلات إلى اليوم، وما سفر منهن إلا المتعلمات من أهل الطبقة العليا والوسطى على الأكثر.
وعلى ذكر الأزياء لا بد من الإشارة إلى أن الدمشقيين اقتبسوا الزي الغربي جميعا، والطربوش لباس الرأس عندهم كالمصريين، والقبعة مستعملة على قلة، ويقل لبس العمامة والعقال والكوفية سنة عن سنة في دمشق وغوطتها، وقد قلدت الغربيين في معظم مرافق حياتها وفرش بيوتها، وتلقفت مصطلحات أهل الحضارة.
أما عادات الدمشقيين فهي خليط من العادات العربية القديمة والغربية الحديثة، ويدخلها التعديل على مر السنين، ولكثرة اختلاط الدمشقيين بالأمم الأخرى، ومن عاداتهم - كسائر بلاد الشرق - الجيد النافع ومنها القبيح الضار، والقبيح يزول بالتدريج.
والاحتفال بالأفراح والأتراح صائر حتما إلى الاقتصاد، وقد كانت من قبل إلى الإسراف والبذخ، ويراعي الدمشقي الحالة الاقتصادية على كل حال، ينام إذا أكسدت سوقه، وينتبه إذا نفقت.
الحياة الأدبية والفنية والصناعية
العلم والأدب في دمشق
ليس في الإمكان استقصاء أسماء جميع من نبغوا في دمشق قبل الإسلام بالعلوم والفنون، وقد عرفنا منهم بولودرا المهندس الدمشقي الذي أقام عمود تراجان في رومية، وبني جسرا على نهر الدانوب «الطونة».
ومنهم بوسانياس عالم المؤرخين في عصره، والقديس يوحنا فم الذهب الدمشقي رجل البلاغة والوعظ، وإليه نسبت الكنيسة العظمى التي أصبحت في الإسلام الجامع الأموي فيما روى بعضهم.
ويقول سينيوبوس في تاريخ الحضارة: «حفظت في مدارس الروم في دمشق والإسكندرية علوم اليونان من فلك وجغرافيا ورياضيات وطب»، أما نحن فمن المتعذر علينا أن نشير فقط إلى النوابغ منهم في هذه الفنون، فمن الأخبار ما لم يدون، ومنها ما دون وضاع، وتاريخ هذه الديار قبل الإسلام يصعب تمحيصه، ولم يكن السريان أصحاب البلاد دون الرومان واليونان في الرغبة في العلم، وكانوا منذ انتشرت النصرانية يجعلون من أديارهم بيوت علم وحكمة، وكانت آداب السريانية تدرس بعناية منذ القرن الخامس.
واشتهر اليعاقبة والنساطرة بالعلم، وكان علماء النساطرة أكثر عددا، واليعاقبة أكثر رسوخا وتبحرا، وجميع الشعوب التي تداولت حكم هذه المدينة كانت لها يد باسطة في العلوم المعروفة لعهدها، وفي الجاهلية - أي قبيل الإسلام - كان يختلف إلى دمشق رجال من شعراء العرب، فينزلون على الرحب والسعة على أمراء الغساسنة وغيرهم من العرب، ومنهم حسان بن ثابت شاعر الرسول، نزل في الجاهلية على جبلة بن الأيهم ملك غسان فأكرم وفادته؛ ذلك لأن جبلة كان أيضا شاعرا مجيدا وكذلك بعض أهل بيته، ومنهم امرؤ القيس والمتلمس، ونزل في الإسلام بعض الصحابة والتابعين وآل البيت في دمشق وتديروها، وشغلت طائفة منهم بهداية الخلق والقضاء بينهم، وهم الذين وضعوا أساس العلم العربي في هذه الأرض، وكثر العلم في زمان أمير المؤمنين معاوية فأصبحت دار قرآن وحديث وفقه، كان يأتي بالعلماء من القاصية فينزلون دمشق، وممن دعاهم إليها أمد بن أبد وعبيد بن شرية الجرهمي، وطلب إليهما أن يحدثاه بأخبار القدماء، وأمر بعض كتابه أن يدونوا كلامهما، فكان أول تاريخ وضع في الإسلام.
ومعاوية أول من وضع الكتاب والكتب لتعليم كلام العرب، وأول من أنشأ بيت الحكمة. وانتشر العلم على عهد عبد الملك بن مروان، وكان من أوعية العلم ومن بلغاء العرب كسائر أهل بيته، وكان متسعا في المعرفة والتصرف في فنون العلم والفصاحة، وكان «سنان قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها - قبل أن يستخلف - ورعا وزهدا»، وهو الذي نقل الدواوين إلى العربية، وكانت بالرومية في الشام، وبالقبطية في مصر، وبالفارسية في العراق، وهو أول من أحدث ضرب الدنانير والدراهم في الإسلام.
وشعراء هذا القرن في دمشق من أصل عربي، ومنهم من كان يفد على بني أمية ويرحل بعد مدة، ومن الشعراء الأخطل ونابغة بني شيبان، ومن العلماء أبو الدرداء القاضي، وهشام بن إسماعيل أول من أحدث رواية القرآن بدمشق، وأبو إدريس الخولاني وبشر بن الوليد الأموي، كان يقال له عالم بني مروان، «وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا وفصيحا جامعا، وجيد الرأي كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء»، ولقبوه بحكيم آل مروان وعالم قريش، وهو الذي زهد في الخلافة وعشق العلم، وأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مصر وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهو أول من أنشأ خزانة كتب في الإسلام، والأرجح أنها كانت في دمشق، وأمر عمر بن عبد العزيز بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى العربية، وكان فيها روح بن زنباع ورجاء بن حيوة من رجال العلم والسياسة، وغيلان بن مروان أول من قال بالقدر. ومن علمائهم في القرن الثاني والثالث مكحول، وعبد الله بن عامر أحد القراء السبعة، ويحيى بن يحيى الغساني، ويحيى بن الحرث الزيادي المقري وعليه دارت قراءة الشاميين، والوليد بن مسلم، وصعصعة بن سلام كان أول من أدخل علم الحديث إلى الأندلس، ومحمد بن الوليد الزبيدي، وأبو الحكم، وابن أثال، وعيسى بن حكم، وتياذوق، وهؤلاء الأربعة أطباء، ونشأ مثلهم من النقلة فانتقلوا في القرن الثاني إلى العراق، وهناك ظهرت خدمتهم للعلم واللغة العربية، وواضع أساس الكتابة بالعربية عبد الحميد بن يحيى الكاتب وعشرات كانوا على طريقته في الكتابة.
وقام في القرن الثالث والرابع والخامس أمثال هشام بن عمار خطيب دمشق وقاريها وفقيهها ومحدثها، وأبو مسهر عبد الأعلى الغساني، وأبو زرعة الدمشقي، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وعمر بن حسن الخرقي، وعبد الله بن عطية المقري الدمشقي المفسر، كان يحفظ خمسين ألف بيت من شعر العرب في الاستشهادات على معاني القرآن واللغة، ومحمد القيسراني المهندس، وأبو يعلى التميمي المعروف بابن القلانسي المؤرخ، وعلي بن داود الداراني الخطيب.
وجاء في القرن السادس والسابع والثامن أيضا رجال في علوم الدنيا والدين خلدوا لهم ذكرا مؤبدا، وكان في دمشق أيام صلاح الدين ستمائة فقيه يعطيهم من صدقاته. ومن الأطباء والمهندسين يحيى البياس، ومحمد بن أبي الحكم، وابن النقاش، وابن البذوخ، وابن المطران، وعبد الكريم الحارثي المهندس، وعلي بن غانم، والحافظ بن عساكر محدث الشام ومؤرخها صاحب التاريخ المشهور، والحسين الأسدي مسند دمشق، وابن الخياط، وطراد بن علي، وابن منير، وابن عنين، والوأواء، وعرقلة «حسان بن نمير»، وابن نمير العقيلي، وهؤلاء من كبار الشعراء. ومن المهندسين إبراهيم بن غنائم، ومن المؤرخين ابن خلكان، وابن أبي أصيبعة، وأبو شامة، وسبط ابن الجوزي، ومن العلماء المفننين عبد المنعم الجلياني، وعز الدين الإربلي، وشمس الدين الخويي، ورفيع الدين الجيلي، وشرف الدين الرحبي، والدخوار، واللبودي صاحب دار الهندسة، وعلي بن أبي الحزم، وابن النفيس، وابن المؤيد العرضي، والدولعي الخطيب، وابن الساعاتي الشاعر، وفتيان الشاغوري الشاعر، والحافظ الزملكاني، والحافظ اليلداني. ونبغ كثير من المحدثات الدمشقيات ضاهين بعلو السماع الرجال، ومنهن من جمعن إلى الحديث علم الأدب وقرض الشعر.
وكان في القرن الأخير المصلح شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، والحافظ البرزالي، والحافظ المزي، والحافظ الذهبي، وجاء رجال برزوا في التاريخ والعلوم الفلكية والرياضية والطبيعية، مثل ابن كثير، وابن فضل الله العمري، والصلاح الصفدي، وشيخ الربوة، وابن مفلح، وابن شاكر، وابن الشاطر الفلكي، ومحمد بن إبراهيم المهندس، والخطيب جلال الدين القزويني، وسليمان بن داود الطبيب. وبدأت طلائع الانحطاط في العلم والأدب في القرن التاسع وما بعده، ومع هذا ما خلت دمشق في دور من الأدوار من أعلام يشار إليهم بالبنان في جميع العلوم الدينية ومعظم العلوم الأدبية والمدنية، ومن المشهورين ابن قاضي شهبة، والحسباني، وابن عربشاه، ويوسف بن عبد الهادي، وهؤلاء اشتهروا بالتاريخ، وإبراهيم البقاعي، وأحمد الطولوني المهندس، وابن الجزري المقري، والبدر الغزي المؤرخ، ومحمد بن علي بن طولون المؤرخ، وعائشة الباعونية المحدثة الشاعرة صاحبة التأليف، والنجم الغزي المؤرخ، وأحمد بن سنان القرماني المؤرخ، والحسن البوريني، وابن الشاهيني، والصفوري، وابن الحكيم الصاحب، والشاعران المنجكي والكيواني، وحامد العمادي، وأحمد المنيني، والمحبي، والمرادي، وعبد الغنى النابلسي، وكمال الدين الغزي، ومحمد العطار صاحب الرسائل بالفنون الحربية والفلك والرياضيات، ومحمد عابدين صاحب الحاشية في الفقه، وعبد الغني الميداني الفقيه النظار، ومحمد الطنطاوي، وميخائيل مشاقة، ومحمود الحمزاوي، وطاهر الجزائري، ورفيق العظم، وجمال الدين القاسمي، وعبد الرحمن شهبندر، وتوفيق طارق المصور المهندس، وغيرهم.
وهبت دمشق بعد انتشار القانون العثماني سنة 1908 وتمتع العناصر العثمانية بحرياتهم، تريد أن تستعيد بالعلم سالف مكانتها، وتستمر في تخريج رجال ممتازين على ما كانت في سابق العصور، فتعلم مئات من أبنائها العلوم العالية في ديار الغرب، ولا سيما في فرنسا، فجاء منهم نوابغ في الطب والحقوق والتعليم والهندسة والزراعة والكيمياء وغير ذلك، ومنهم من وضعوا الرسائل والكتب التي لا تقل عن كتب المصريين المحدثين، وأما العلوم الدينية فأرادوا إحياءها فأسسوا بأنفسهم عدة مدارس تعلمها على الطرق الحديثة في الجملة، ويرحل طلاب الاختصاص إلى القاهرة يتلقون في الأزهر ودار العلوم والجامعة ما ينقصهم من علوم الدين وغيرها، وفي أحيائنا طائفة كبيرة من الرجال الذين تعلموا وعلموا في مختلف العلوم والفنون والصناعات، حتى قال هريو: «لقد أصبحت دمشق بفضل همة علمائنا «علماء فرنسا» مركزا علميا من الطراز الأول بمكانتها».
والتعليم في دمشق منتشر كثيرا، ويقل فيها الأميون، وفيها مدارس مختلفة الدرجات، وجامعتها السورية هي الجامعة الوحيدة في العالم التي تدرس الطب باللغة العربية، وقد رسخت العربية خطابة وكتابة وشعرا في العهد الأخير رسوخا لا عهد لها بمثله منذ أجيال، والفضل في ذلك للمدارس والجوامع والمعابد والصحف، ولرخص الكتب والمجلات.
الفنون الجميلة
نشأت الفنون الجميلة بدمشق في زمن يصعب تعيينه، وكانت الأمم التي استولت زمنا طويلا على هذه العاصمة كاليونان والرومان من أقدم الأمم التي أتتها بموسيقاها، ولما انتشرت النصرانية في القرن الثالث الميلادي عني منتحلوها بالموسيقى في كنائسهم عناية اليهود بها من قبل في بيعهم.
وكانت موسيقى العرب لأول أمرهم إلى السذاجة شأنهم في معظم أوضاعهم، فلما جاءوا هذه العاصمة أخذوا من موسيقى الروم ومن موسيقى الفرس، وتوسعوا وأجادوا حتى قال بعضهم: ولم تكن أمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب.
والغناء العربي في دمشق قديم منذ كانت غسان وتنوخ فيها، وكان غناؤهم الإنشاد والترنيم والحداء، وكان التقليس - وهو الضرب بالدف والغناء - مما يعمد إليه في استقبال الولاة عند قدومهم المصر، وحدثنا التاريخ أن بعض خلفاء بني أمية وأمراءهم وساداتهم في دمشق وضعوا ألحانا وأولعوا بالموسيقى والغناء، ومنهم عمر بن عبد العزيز، فإنه دونت له صنعة في الغناء أيام إمارته على الحجاز، وكان أحسن خلق الله صوتا، ومنهم يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد، وما زالت الموسيقى والغناء ينتشران والدمشقيون يزدادون غراما بهما كلما ارتاحوا وارتاشوا، وكان لهم في كل قرن أناس مشهورون ممتازون، ولكن التاريخ أغفل نقل أخبار هذه الطوائف من الناس، ذكروا أنهم تفننوا كثيرا في الإيقاع والآلات، ومنهم من عمل أرغنا، وهو غير الذي عرفه الإفرنج، يعمل من ثلاثة زقاق كبار من جلود الجواميس يضم بعضها إلى بعض.
وفي القرن السادس كثر الموسيقيون والطنبوريون والقانونيون، وظهر نوابغ في هذا الفن.
وفي القرن الثامن نبغت غير واحدة من المغنيات، وما خلت هذه المدينة من عوادة وطنبورية وكراعة وربابية وصناجة ورقاصة، وكان الخلفاء العظماء يتنافسون فيهم ويفضلون عليهن وعلى كل صاحب معرفة بهذا الصنف، ومن الرجال والنساء من كانوا يمارسون هذه الصناعة للتكسب وهم المحترفون، ومنهم من يولع بها حبا بها وهم الهواة.
وأدركنا الدمشقيين لا تخلو سهرة من سهراتهم ولا نزهة من نزهاتهم ولا فرح من أفراحهم من موسيقيين ومغنين وأحيانا مغنيات، وما كان بعض أرباب المظاهر يستنكفون من رفع أصواتهم بالإنشاد والغناء، ولا من الضرب على العود والطنبور والقيثارة.
وفي العهد الأخير اقتبست الموسيقى فنونا من الموسيقى الغربية، وكادت دمشق في موسيقاها وغنائها تكون عالة على مصر تقتدي بها، مع ذلك بقيت لها بقايا خاصة بها، وما برح للموسيقى والإنشاد عند بعض أرباب الطرق شأن عظيم كشأنهما منذ القديم وإلى اليوم في الكنائس والبيع عند أهل النصرانية جميعا.
أما فن التصوير فالعرب كانوا فيه عالة على الروم والرومان، والإسلام لأول أمره شدد في التصوير، ولما ذهبت الخشية من عبادة الصورة أخذ التصوير ينتشر في البلاد الإسلامية، وقد صنعت الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وكل منهما ولي إمارة المدينة وكانا من التابعين، مما دل على أن التصوير كان شائعا منذ عصر الصحابة، وكان للخلفاء في قصورهم صور وتماثيل، ولم يحظروا بادئ بدء إلا تجسيم الصور الآدمية، وعمدوا إلى التصوير في الكتب والثياب والجدر بكل ما يغري ويفتن، وكانوا على كل حال مقلين من صور الآدميين، وقد ظهر في مصر في عهد الأيوبيين والمماليك مصورون شاميون أبدعوا في التصوير على الجدران وعلى الكتب، وكان من الحمامات المصورة بدمشق حمام سيف الدين، وصفه عمر بن مسعود الحلبي المعروف بالمحار بقوله:
وخط فيها كل شخص إذا
لاحظته تحسبه ينطق
ومثل الأشجار في لونها
ولينها لو أنها تورق
أطيارها من فوق أغصانها
بودها تنطق أو تزعق
وهيبة الملك وسلطانه
وجيشه من حوله يحدق
هذا بسيف وله عبسة
وذا بقوس وبه يعلق
وللمحار أيضا في تمثال من النحاس على صورة شخص يخرج الماء من أعضائه، وكان على الأرجح في بعض دور دمشق:
وشخص على ساقه قائم
مشير بساعده الأيمن
له صورة حسنت منظرا
على بدن صيغ من معدن
يكاد يحدث جلاسه
ولكن به خرس الألكن
إذا بث من صدره سره
فتسبقه أدمع الأعين
ولم يبك حزنا على نازح
ولم يصب شوقا إلى موطن
صبور على الحر والبرد لم
يسر بحال ولم يحزن
وجاءت العصور الحديثة فكثر النقاشون والمصورون، ومنهم المصورون على الخزف، تجد نموذجات من أعمالهم بدار الآثار العربية بمصر، ومن النقاشين من ينقش على المعادن كالذهب والفضة والنحاس، ومنهم من ينقشون المنازل ويعرفون بالدهانين.
وعدوا الرقص من الفنون الجميلة، وقد ارتقى منذ عرف تاريخ العرب إلى أن فتحوا الأندلس ونقلوا إليها رقصهم الذي لا يزال إلى اليوم شائعا فيها بعد خروجهم منها قبل خمسة قرون، وكذلك الموسيقى الإسبانية، يرقصون بالصنجات كما كان يرقص الراقصات في دمشق، وكان لهم في الشام رقص يسمونه السماع، يرقصه عدة أشخاص على نغمات متساوقة من الأوتار وترديد جميل من الموشحات فقط، وهو أشبه بالأوبرا أو الأوبريت عند الإفرنج - أي القصائد الملحنة التي تمثل على نغمات الموسيقى - ويزيد رقص السماع على الأوبرا كونه ترفع فيه الأصوات بأنغام مألوفة، وقال بعض العازفين: إن رقص السماع هو الذي يعرفه الإفرنج بالباليه.
ونبغ في دمشق في القرن الماضي سنة 1282ه رجل من أبنائها البارعين في الموسيقى والغناء ونظم الشعر، وهو أبو خليل أحمد القباني، فأنشأ قاعة للتمثيل حازت القبول عند العارفين، ثم اضطهدته الحكومة بإغلاق محله ، فانتقل بفرقته إلى مصر ووضع هناك أيضا أساس التمثيل العربي الذي كان وضعه في دمشق على غير مثال احتذاه، ومن تأليفه روايات إلى اليوم تمثل في دور التمثيل، وتجد لها قبولا من نفوس المشاهدين، وكان لرقص السماع في رواياته التمثيلية قسط عظيم من العناية.
وحاول كثيرون من أربعين سنة تأليف فرقة للتمثيل فأخفقوا، مع أنه خرج من دمشق عدة ممثلين بارعين تفرقوا في أرجاء مصر والشام.
صناعات دمشق
عرفت دمشق في معظم عصورها بأنها مدينة صناعية، كما هي مدينة زراعية تجارية، ويرجع توفيقها في صناعاتها إلى وفرة المواد الأولية المستخرجة من أرضها، وإلى أن كل صنعة يتسلسل العمل بها في بيوت مخصوصة على الأغلب، فالصوف والقطن والكتان والقنب والحرير والوبر والمرعزي تنسج منه بزها وديباجها وأطلسها وأعبئتها وأغطيتها، والحديد والفولاذ والنحاس تصنع منه نحاسها وآلتها وقربها، ومن أخشابها تصنع مقاعدها ومناضدها وأصونتها ومرافق بيوتها وقاعاتها، ومن تربتها تعمل زجاجها وآنيتها وقاشانيها وآجرها، وهكذا في كل ما تنبت الأرض، ويدفن في بطنها من المعادن، قال الإدريسي: ولكل بلد ومدينة خاصية تحتفظ بها في نوع من الصناعة، وأهم ما كان منها في مدينة دمشق.
كانت هذه المدينة في القرن الرابع الهجري جامعة لضروب من المحاسن وصنوف من الصناعات، وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمين العجيب الصنعة، يحمل منها إلى كل بلد، ومصانعها في كل ذلك عجيبة، وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النفيسة، ومحاسن جمة، فلا يعادلها جنس ولا يقاومها مثال، وقيل: إن اسم الدمقس مشتق من اسم مدينة دمشق، وأن الثياب التي يسمونها «داماسكو» وتصنع برسوم في جسم الثوب معمولة غليظة تنسب إلى دمشق. وكان الغزل والنسيج مما يعانيه جمهور الناس في الحاضرة والضاحية حتى شهد لهم بالبراعة في ذلك، ولكل قرية ولكل مدينة اختصاص بصنع شيء تعرف به ويعرف بها، وينفق ما يحاك من ذلك في بلاد الشام، وما زاد يصدر إلى الخارج.
قام في القرن الماضي والقرن الحالي أناس ممن يعانون صنع الثياب والنسيج من القطن والصوف والحرير، فوقفوا بما اخترعوا من الأنوال في وجه الثياب المصنوعة في الغرب، وعملوا «الديما» و«الألاجة» و«الشال»، وما برحت الصناعات الشامية على كثرة منافسة البضائع الأجنبية لها رائجة لمتانتها وجمالها، وثبات ألوانها، ورخص أسعارها، فإن ما يعمل في دمشق وضاحيتها من الشال والأطلس والأعبئة والملاءات والسجوف والشفوف القطيفة المخمل، ما هو زينة القصور وربات الخدور، ومن ذلك معامل كثيرة في هذه المدينة، وأنشئ فيها معملان لصنع الجوخ، لا تقل جودة مصنوعاتهما عما يصنع من نوعه في معالم الغرب، وتوفرت الأنوال لصنع البسط والطنافس، تروج مصنوعاتها لرخص أسعارها، وكانت صناعة زركشة القصب رائجة إلى القرن الأخير، وهي مما كانت دمشق تختص به.
وخصت أيضا بدبغ الجلد تعمل منه الأحذية والسروج والروايا والزكرات والصناديق وما شاكل ذلك، وهي جميلة ورخيصة، وأسس مؤخرا معمل عظيم لدبغها، أخذ يخرج الجلد الجيد الذي يباع ويروج في الشرق والغرب.
واشتهرت دمشق بالنجارة منذ الزمن الأطول، وما زال أهلها يتفننون فيها ويماشون الزمن في نشوئها، ينجزون الأبواب والدرفات والنوافذ وأصونة الثياب وخزائن الزينة والمناضد والكراسي والمقاعد والأرائك والمكاتب والإطارات والمغاسل، والصناديق والتوابيت والرحال وألواح درس الحبوب وأعواد الطرب، تعمل من خشب الجوز والزيتون والليمون والميس والعرعر والدردار والشربين والتنبوب والسرو والصنوبر مما يكثر في الأرض الشامية، أو من خشب الجوز الأميركاني والخشب الروماني والقيليقي وغيرها من الأخشاب المجلوبة.
كان يعمل كل ذلك بأدوات بسيطة تحركها الأيدي، وقد أقيمت معامل لنشر الأخشاب وتقطيعها وتجفيفها وتليينها وتزيينها ورصفها ونقشها، ومما يدل على متانة خشب الحور المعروف بالرومي تلك النموذجات التي بقيت منه محفوظة من القرن الخامس في دار الآثار، وكانت الصناديق تصنع إلى القرن الماضي من خشب الجوز فتقوى على القرون، وتحفر فيها نقوش وصور جميلة، ومن قبل كانت صناديق السرو مثال الصناعة المتينة، ومن الخشب المتين كانت تعمل الحلقات في القصور والقاعات القديمة، وقد بيع كثير من هذه الصناديق وهذه الحلقات من الغرباء، وهم يعدونها من أظرف الطرائف، لما خصت به من المتانة والجمال. وسر الإبداع في هذه الصناعة أن النجارين كانوا ينجرون أصلب الخشب، فأصبحوا اليوم يعتمدون على الكريش والشوح، وفيهما مواد قطرانية وتفعل فيما يصنع منها الرطوبة والحرارة، وهذا الخشب سهل على النجر وسريع إلى البلى.
وكان الدهان من الصناعات الدمشقية المتفردة بها هذه المدينة، ويكون ذا ألوان ثابتة لا تنصل بالحرارة ولا بالبرودة، ولا ينال منها السوس ولا الحشرات، والدهان المعروف اليوم بالعجمي مما تفردت به دمشق، وأهل هذه الحرفة يزينون بما يدهون اليوم قصور العظماء في الشام ومصر والعراق، ويعملون منها مناضد ومقاعد وبعض أدوات الزينة، فتجيء طرفة من الطرف.
وأزهرت صناعة التنزيل في خشب الخزائن والأصونة والمقاعد والكراسي بالصدف أو بقطع الليمون، وكانت مصنوعاتها تزدان بها الأندية والردهات، وتباع منها مقادير عظيمة في أميركا وغيرها. ويقال لصناعة الحفر والتنزيل «الأبلق» وهي من أجمل الصناعات أيضا، تدهن الحجر بالنقوش والأشكال ويحفر ويدهن بصب الأصباغ في الشقوق، ثم يجلى ويصقل، فيأتي صبغها براقا ثابتا كأنه من أصل الحجر، وكانت الأصباغ القديمة في الجدران والأبهاء ثابتة ذات بهاء ولمعان، وهي من نباتات البلاد وموادها، فلما نازعتها الأصباغ الإفرنجية الرخيصة التي تنصل بسرعة، بطل استعمال الأصباغ القديمة، وكاد يفقد سرها ويندمج في صناعة التنزيل صناعة النقش بالجبس على الجدران، ومنها نموذجات صبرت على حوادث الدهر.
لما حرق الجامع الأموي حريقه الأخير، أخذ العارفون يفكرون في إرجاعه إلى رونقه السابق، فأحييت صناعات دقيقة في النقش والحفر والترخيم كادت تضمحل، ومحراب جامع بني أمية مثال ظاهر منها، واخترع إذ ذاك أحد أرباب الصناعات مركبة تجرها بضعة ثيران، فتنقل الأعمدة والسواري من مقالعها مهما عظمت على أيسر وجه، والحاجة أم الاختراع.
ومن القديم كانت دمشق تفاخر بما تصنع من السيوف المحلاة؛ لما اختصت به من الصفاء والاخضرار، تكتب فيها آيات وأشعار بماء الذهب، ومثل ذلك الخناجر والرماح، وتطريق الحديد مما عرفت به دمشق قبل الإسلام، وما زالت صناعته متوارثة في بيوت معروفة إلى اليوم، وذكر التاريخ أن الإمبراطور ديوقلسيانوس الروماني أنشأ في دمشق في القرن الثالث للميلاد معملا للأسلحة، فاستدل من ذلك أن المستخرج من حديد هذه الديار كان كثيرا يفي بحاجة الدولة والأمة. والقيانة أو القردحة أي صنع السلاح، مما كانت له أسواق رائجة، عرف الصليبيون ذلك ونسبوها في عهدهم إلى دمشق، وكان العرب نقلوا هذه الصناعة - أي صناعة السيوف - إلى الأندلس، فنسبت إلى دمشق حتى يوم الناس هذا، ويقال لها بلغات الإفرنج إلى اليوم «دامسكيناج»، «داماسكينري» أي تنزيل الذهب والفضة في الفولاذ، وكانت الدروع والخوذ والسابرية تصنع في دمشق حتى لكأنها كانت معملا عظيما من معامل السلاح على الطريقة التي وصلت إليها أدوات القتل والتوقي منه في تلك الأعصر.
وتفنن صناع هذا تفننا شوهد أثره في صناع القذائف والنسافات، فقد ذكر المؤرخون أن الصليبين يوم عكا اصطنعوا ثلاثة أبراج من خشب وحديد، وألبسوها الجلود المسقاة بالخل، وجعلوها على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر، ويتسع سطحه لأن ينصب عليه منجنيق، فأراد صلاح الدين إحراقها، وجمع الصناع من الزراقين والنفاطين، وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي، فذكر أن له صناعة في إحراقها، وأنه إذا حصل له الأدوية التي يعرفها، وطبخها مع النفط في قدور من النحاس وقذف بها الأبراج تحترق لساعتها، وكذلك كان.
وما برح كل ما يصنع من الحديد يعمل في معامل دمشق كالمردان والمغازل والصنارات والأسياخ والعقافات والقيود والزرد والمباضع والمبازع والشمارط والآنية والنعال والمسامير والمعاول والمساحي والمناجل والمطارق والأقفال والمفاتيح والمغالق والمناصب والملاقط والسكاكين والمدى والمناشير والمراكن والمراجل والدلاء والبراميل والمقالي والمواسي والمبارد والصناجات والدرابزون والكلاليب واللوالب والقدوم والفئوس والمقاريض. وفي العهد الحديث أدوات المركبات والعجلات والسيارات والدراجات والمضخات والمدفئات والسكك والمحاريث والآبار الارتوازية وغيرها، والاعتماد فيها كلها على الحديد المستبضع من الغرب.
وكان أرباب الصناعات في القديم يجزئهم ما يستخرج من حديد البلاد، ومن النحاس تعمل أواني البيوت كالقدور والمغارف والأطباق والمناقل والدلات «أوعية القهوة» والطسوت والصواني والصحون والصحاف والمصافي والملاعق والسطول والمساخن والهواوين والمدقات وغير ذلك. وقد أنشئت أوائل هذا القرن معامل لصنع أواني النحاس المكتب والمعرق، ومنها الزهريات والمصابيح والثريات والتعاليق والكئوس والمباخر والقماقم والصحاف والبواطي وبعض أدوات الزينة، فراجت رواجا عظيما في الممالك الأجنبية، وتنافس أرباب الذوق في اقتنائها ، ومنها ما يعمل بالمينا، ومنها ما يعمل بالفضة وهي على غاية الإبداع.
واشتهرت هذه العاصمة قديما بالزجاجة «صناعة الزجاج»، وكان يضرب المثل بصفائه، ويتخذ للزخرفة والزينة، ومنه الأكواب والآنية على اختلاف ضروبها، والأباريق والجامات والسكرجات والمضخات والأقداح والقوارير والكيزان والبواطي، كانت لها معامل مهمة في دمشق، وفي الحرب الأخيرة أخذت معامل الزجاج تصنع الكئوس والفناجين وزجاجات المصابيح وصراحيات الماء وغيرها، وراجت رواجا كثيرا، واستغنت بما صنعت عن مصنوعات تشيكوسلوفاكيا وغيرها، وكانت معامل الزجاج ممتدة على طول الجامع الأموي، رآها الرحالة بوجيبوجي سنة 1346م، ويظهر أن البنادقة توصلوا إلى سر هذه الصناعة في القرون الوسطى وأنشئوا يخرجون أنواع الزجاج، ومنها المرايا التي بطل عملها بعد ذلك هنا، ثم أخذ بعضهم بآخرة يقلد المرايا المصنوعة في الغرب فتباع لرخص أثمانها.
وزهد أرباب هذه الصناعة في صنعتهم، لما بدأ الغرب يخرج المصنوعات الزجاجية رخيصة الثمن بديعة الشكل، ومن قبل كانت المصنوعات الزجاجية من عمل البلاد رائجة، وتعلقت الهمم قبل الحرب العالمية بتأسيس معمل للزجاج، وأخرج مصنوعات جميلة وحال الاختلاف بين المساهمين دون سيره، كما كانت اتجهت النية إلى تأسيس معمل للسكر فحال رخص أثمانه دون المضي في إنشاء معمل لاستخراجه.
كان يعمل من الخزف القلل والخوابي والإجانات والدوارق وأصاصي الزهور وغيرها، ويعمل القاشاني لرصف الجدران والمحاريب والحمامات والفساقي والسلسبيلات والباذهنجات والقماقم والزهريات وغير ذلك، ويظهر أن سر صناعة القاشاني فقدت من دمشق منذ قرنين بانقراض البيت الذي كان مستأثرا بصنعه.
وفي القرن الأخير نشأت صناعة جديدة كأنها أخت القاشاني القديم، وهي الخزف الملون يتخذون منه بلاطا للدور والغرف والمستحمات، وقد تفننوا في صنعه فأجادوا، وله معامل كثيرة، وله رواج في الأقطار المجاورة لمهاودة أسعاره وجماله وصلابته، وبه استعيض في أكثر العمائر الجديدة عن الأحجار الملونة في التبليط وعن رخام إيطاليا. ومما اشتهرت به دمشق صناعة الصياغة ، أي صناعة الذهب والفضة، والتفنن في تصويرها بوضع الأحجار الكريمة خلالها، تعمل منها الأكلة والتيجان والأقرطة والشنوف والخواتيم والدمالج والقلائد والأطواق والخلاخل، ولما كسدت مصنوعاتها هنا جلا كثير من صناعها إلى بلاد أخرى، ومع هذا لا يزال ما يخرج الصياغ على اختلاف أسمائه وأشكاله وأحجاره رائجا مقبولا، ويتوقف رواج هذه الصناعة على تكاثر النقد من الذهب والفضة في الأيدي وتوفر أسباب الغنى.
ومن أهم الصناعات صناعة البناء والنحت، ومدارس القرون الوسطى في دمشق مثال بديع على ما نحت ورصف، وقد ساعد على تجويد البناء تعدد مقالع الحجر بالقرب من المدينة، وتسلسل صناعة النحت والبناء والهندسة في بيوت بعينها، ولما اخترع الأسمنت المسلح بدأ القوم يعتمدون عليه في البناء أكثر من الجبس والكلس والآجر، فأنشئ لصنعه معمل في ضاحية المدينة، وثبت أن مادته قوية جدا، وهو يقوم بحاجة البلاد الداخلية.
هذا إجمال حال الصناعات بدمشق، وغالبها تتبدل عليها أيدي الصناع من الواحد بعد الواحد إلى أن ينيف على عشرة صناع حتى يتم، وقد قيل إن صناعات دمشق تبلغ نحو 340 صنعة وحرفة. ولا تزال تحدث صناعات وتموت صناعات، فمن الصناعات التي أحدثت خلال الحرب العالمية الأخيرة حفظ الثمار والبقول في علب «كونسروا» وقد أنشئ لها معمل في دمشق، وصادراته تباع في بلاد العرب وبلاد الغرب، وسبب الإقبال عليه جودة ثمار دمشق ولذيذ طعمها. ومن الصناعات المهمة التي دثرت ولم يعد يعانيها أهلها منذ زمن طويل الوراقة أو صنع الورق، وكانت لها معامل في دمشق منذ القرن الثاني، وقد تعلم صنع الورق في دمشق أسيران فرنسيان على عهد الحروب الصليبية، ونشرا هذه الصناعة في فرنسا ومنها انتقلت إلى أوربا، وكان العرب حملوا سر هذه الصناعة معهم منذ أوائل القرن الثالث إلى الأندلس وصقلية، ومن هاتين الجزيرتين كانت أوربا الوسطى والغربية تستبضع ورقها قرونا. ومن الصناعات التي كان لها شأن عظيم في دمشق ويعيش بها خلائق، وذلك قبل اكتشاف النفط «البترول» واختراع الكهرباء، صناعة صب الشمع وسكبه وقل من يعنى بها اليوم، وكانت تصنع في دمشق الشموع العظيمة التي تجعل على جوانب المحاريب في المساجد العظيمة كأنها سارية من السواري، وفي دمشق كانت تصنع شموع الحرمين الشريفين وتحمل إليهما كل سنة. ومن الصناعات التي ضعفت لقلة ما يصدر منها صناعة عطر الورد، وما يستقطر من زهر دمشق، فهذه الصناعة كانت تصدر مقادير كبيرة منها إلى الصين والهند في القرن الثامن، وقد ذكر شيخ الربوة في كتابه «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» ما كانت تغل به هذه الصناعة من مال، وما تنشره في موسم الزهر من الروائح الزكية في أماكنه بعد استخراج روحه، ووصف صورة استقطارها والأنابيق التي تستخدم لها.
ودعت الحاجة خلال الحرب الأخيرة وبعدها إلى إدخال صناعات جديدة أو إتقان صناعات كادت تفقد منها لقلة من يرغب فيها.
وإنا رأينا اليوم ما قام من معامل النسيج والحياكة، وما شاهدنا من معامل الجوخ والدباغة والخزف والأسمنت المسلح وحفظ البقول والثمار وصنع المربيات والحلويات، وغير ذلك من الأعمال التي برز أربابها فيها على ما شهد لهم بذلك أعاظم العارفين بهذه المسائل في بلاد الغرب؛ إنا وقد رأينا هذا فلا يصعب علينا أن ندعي أن دمشق تخرج الآن جميع حاجياتها من مأكول وملبوس ومسكون ومفروش، وإذا اضطرت ذات يوم إلى الاكتفاء بما تخرج وما تصنع، لا ينقصها غير بعض الكماليات، وكل بلد مهما بلغ من رقية ينقصه شيء أو أشياء تجود عند جاره، ولا غضاضة عليه إذا قايض عليه بما يستخرجه مما تفرد هو بصنعه.
وبعد، فقد عرفت الشام في معظم عصورها بأنها بلاد صناعية أكثر منها تجارية، وكانت مدينة دمشق تفخر بأنواع من الصناعات اليدوية النفيسة، حتى في الأسواق العالمية، ومنها المصنوعات الحريرية والقطنية والصوفية التي كانت موادها الأولية من منتجات القطر، وكذلك المصنوعات الخشبية والنحاسية والفضية والجلدية التي عرفت بطابعها الشرقي وبسلامة الذوق والمتانة، ثم تطورت الصناعة بعد الحرب العالمية الماضية تطورا يدعوا للتفاؤل بأحسن النتائج، وكانت السباقة لهذا التطور مدينة دمشق؛ إذ تطلع أهلها إلى إنشاء صناعات آلية «ميكانيكية» مختلفة لم يكن الشرق الأوسط يعهد نظيرها، كصناعة الأسمنت والثقاب «الكبريت» وحفظ الفواكه والخضروات وصناعة الجوخ والحرير بأنواعه، وأصبحت هذه المعامل على حداثتها تضاهي بإنتاجها الصناعة الغربية التي هي من نوعها . كما أنشئت في حلب مؤسسة لصناعة خيوط الغزل ونسجها، كانت عاملا قويا في إحياء مساحات واسعة من الأراضي بزراعتها من القطن الأميركي أو الهندي، وتبع ذلك في دمشق وحلب بالإضافة إلى الصناعات المار ذكرها، وخصوصا صناعة النسيج الحريري التي نمت نموا مطردا، تبعها صناعات التريكو والجوارب والقمصان والكتان والمستحضرات الكيماوية الصناعية والأدوية والمستحضرات الصيدلية والمستحضرات الغذائية والمعكرونة والبسكويت والزبدة والسكاكر والشوكولاتة، والمصنوعات الحديدية والتلبيس بالمعادن والمرايا السكب والبلاط والجبس والدباغة الفنية والصباغة والمطاحن والطباعة والفرش «الموبيليا».
إن التجدد الذي أدخلته دمشق على صناعتها في غضون عشرين عام - رغم العقبات التي لاقتها بسبب الحواجز الجمركية، ونكبتها بثروتها من جراء خسارتها بالنقد الأجنبي في سنة 1920، والأزمات الاقتصادية التي توالت وأثرت في التجارة والزراعة والأراضي والعقارات - لجدير بإعجاب المنصفين، ولو أن الحكومات التي تولت الحكم في الشام اهتمت قليلا بالمشاريع الصناعية وشجعتها وحمتها، لحصلت البلاد إبان هذه الحرب الضروس على ما يمكن الحصول عليه من الرخاء والتوازن الاقتصادي في الإنتاج الصناعي، كما هي الحالة في بعض الأقطار المجاورة، على أن الوقت لم يفت والأمل معقود على مستقبل يقوم على استقرار يضمن ازدهارا اقتصاديا، فتنمو صناعاتها وتجارتها وزراعتها، وينعم أهلها بثروات القطر الطبيعية الكامنة التي لا تسمى ثروة لنا إلا إذا أثبتنا مقدرتنا في استثمارها.
تجارة دمشق
كان سكان هذا البلد بما فطروا عليه من ألمعية وذكاء قبل أن يدوي في أرجائه نبأ هذه الحروب، يسمعون حسيسها وينظرون إليها كأمر واقع، فأعدوا عدتهم لمواجهتها، ومنذ انقطعت العلاقات التجارية بين اليابان والولايات المتحدة أواخر عام 1938، زادوا في مستورداتهم بقدر ما تصل إليه قدرتهم من مال وجهد، وبقدر ما تمكنهم الاعتمادات الممنوحة لهم في البيوت المالية والمصارف الأجنبية، داخل البلاد وخارجها، مستفيدين من الدروس الاقتصادية التي ألقتها عليهم الحرب الماضية بين عام 1914 و1918، فما جاءهم أيلول عام 1939 إلا كان عندهم وعلى أرضهم من مختلف أنواع البضائع والسلع التي تشتد الحاجة إليها ما يعد كثرة تضيق بها محال التجارة ومستودعاتها وأنابر الجمارك.
وما شاع نبأ الحرب حتى سارعوا يطلبون إلى عملائهم ووكلائهم في وكوبا ومانشستر ونيويورك أن يبذلوا قصارى جهدهم في شراء ما يقع تحت أيديهم من البضائع، مطلقين لهم العنان في غشيان الأسواق العالمية كيفما اتفق لهم السعر والشروط، وعندما دخلت اليابان الحرب، وانقطعت البواخر التي كانت تجوب البحار إلى شواطئ الشرق الأدنى، أخذ السوريون بعد أن نزل الحلفاء أرضهم يولون وجوههم شطر مرافئ الهند الجنوبية، جاعلين من بومباي دار هجرة تجارية، يحملون منها عن طريق الخليج الفارسي أولا وقناة السويس ثانيا، ما تمس حاجتهم إليه من خيوط وأنسجة ومواد غذائية، فما عضتهم الحرب بقلة كما وقع لهم في الحرب الماضية، وأحسنوا الاستفادة من كل معاونة يعاونها البريطانيون في كل بلد ينزلونه.
مضى العام الأول والعام الثاني من أعوام هذه الحرب ودمشق خائفة، كأنما تعيش بين أجفان الردى وهي يقظانة نائمة، فلم يتسع لها طريق العمل بشيء يتفق مع ميراثها الصناعي، وفي الأعوام التالية أخذت قدرتها على الإنتاج تزيد، وكانت في زمن السلم تطغى عليها المصنوعات الخارجية، والأعمال وليدة الحاجة وربيبة الضرورات. ولما كان الشعب السوري تجاريا بالفطرة، والمغامرات في دمه وروحه، فقد تقلب في تجارته خلال هذه المدة صاعدا وهابطا، فإذا نبئ بما يشعر بطول الحرب، ترتفع عنده الأسعار، وإذا ثبت له قصرها، تهبط وتتدنى.
وذهبت دمشق في هذه الفترة بقيادة الحركة الاقتصادية، وأخذت تعين الاتجاه هبوطا وصعودا وحركة وجمودا، ومنها ينتقل هذا الاتجاه إلى كبريات المدن والحواضر، فهي أذن تستمع لكل ما يحمله الأثير من نبأ تقلب فيه الفكر، وتحكم به على الغاية، ولولا تقلب أسعار النقد الذهبي وارتباطه بقلوب أبناء هذه البلاد الذين يؤمنون به إيمانا أوحت به الأعوام الخالية، لما اختلفت الأسعار وارتدت التجارة طابع المضاربات البعيدة عن الطريق السوي.
إن طبيعة الحرب توفر الرزق لأصحاب الحظوظ الذين تواتيهم الأحوال أكثر مما توفره للمفكرين الذين يستخرجون النتائج من المقدمات، والتجارة في الحرب تتمشى مع المغامرات أكثر مما تسير بالحزم والأخذ بالأحوط. وساعدت المناسبات أصحاب اليد الأولى من المستوردين، فكان نصيب مدينة بيروت تتلوها مدينة حلب أوفر قسطا في الحول على المنافع الرئيسة، بالنظر لوقوف تجار هذين البلدين في طليعة الفئات المستوردة والمدخرة، ويأتي حظ دمشق وأخواتها بقية المدن السورية في المؤخرة؛ لأن العاملين في تجارة هذه المدن يستبضعون على عادتهم من أصحاب المتاجر القاطنين في الثغور والمرافئ.
نحن على مثل اليقين بأن البلاد السورية سترتدي بعد الحرب الطابع الصناعي أكثر من الطابع التجاري الذي كانت ترتديه قبلها، فيه بلا شك ستقيم المعامل الصناعية على اختلاف أنواعها متى توفرت لها الأسباب ولان لها الحديد الذي يستعصي عليها وجوده اليوم، وهي كبيرة الأمل في الحصول على المواد الأولية التي تستلزمها الصناعات، متى تهيأت الأسباب للقائمين بالأمر أن يستنبتوا الأرض حق الاستنبات، ويعدنوا المعادن المركومة في أحشائها، وتتعاون في القطر القوى الثلاث: القوة الإنباتية والمعدنية في أرضه، والقوة الفكرية في سكانه، والقوة اليدوية التي خصها الله بالإبداع، وأجرى لهما ما أجرى من حسن الذوق، فإذا ما تم لهذا القطر أن يكون وحدة اقتصادية، ففي مائه وهوائه وتناسق فصوله قوة كامنة تأتي بالعجب العجاب.
خرجت البلاد من الحرب الماضية وفيها القناطير المقنطرة من الذهب الذي دعت إلى إنفاقه الضرورات العسكرية، وما أسرع ما أضاعت بعد تلك الحرب ثروتها الأصلية والفرعية، فكانت أشبه بأم توفي عنها زوجها، فترك لها مالا ولم يترك لها عقلا يدبره ويحسن القيام عليه، فإذا قدر لهذه الأرجاء أن تعتبر من الماضي - وقد رزقتها هذه الحرب ما لم تكن تحلم به من مال أنفقته فيها الجيوش الحليفة، فارتفعت نسبة الأموال المتداولة إلى حد لم تبلغه في عهد من العهود - فإن مستقبلا مليئا بالآمال الجسام ينتظرها، فتتبوأ عرش الاستقلال الاقتصادي الذي فقدته دهرا طويلا.
هنالك ساحات اقتصادية تتآزر فيها بعد الحرب الجماعات القاطنة في هذه الديار والجماعات الذين يوافونها، فما على السوريين إلا أن يأخذوا أهبتهم للنزول إلى تلك الساحات، وإذا نزعنا الروح الفردية التي تأصلت فينا، وتقمصنا روح التعاون في الأعمال الصناعية الكبرى، يضعف تأثير الجماعات التي ستغذو المرافق الحيوية، مستندة إلى نظام تعاوني مستمد من أقوى النظم المالية القائمة على مبدأ المنافع المشتركة، فالمال قوة وأقوى ما فيه حسن القيام على تصريفه في وجوه الأعمال المستندة إلى نظام قويم.
أصبحت الثروة العامة موزعة بين الجميع في هذه الحروب، فالمنتجات الزراعية ومكاسب أصحاب المتاجر والأعمال الحرة هي في الجملة على غير ما كانت عليه قبل الحرب، ومتى صارت الأموال إلى اليد التي تحسن القيام عليها لا تعمد إلى دفنها وهاجة تحت الأرض أو حبسها في صناديق مقفلة، فإن الانتفاع بها يعم جمهرة الشعب وعامة طبقات الأمة. إن دمشق تتمتع بعد أن مضى على الحرب خمسون شهرا بأكثر ما تحتاجه من غذاء وكساء، لم يعدم فيها إلا ما لا بال له، ولئن تصاعدت قيم أكثر الحاجيات، فذلك ناشئ عن أن مستوى المعيشة العامة قد ارتفع جملة، وارتفعت معه النسب في الأشياء المنقولة وغير المنقولة، والمقياس في أزمنة الحروب هو وجود الحاجيات الضرورية أو عدم وجودها، والفضل في ذلك لدمشق وللمنتج الدمشقي، وللتاجر الذي خاطر بماله ونفسه لتموين بلده، وللحلفاء الذين مونوا هذا البلد، وخاصة في الأيام التي كانت فيها أمواج البحر المتوسط تتلاطم بالدماء.
غوطة دمشق
لا بد للباحث في دمشق أن يعرض الكلام على غوطتها، فالغوطة ودمشق لازم وملزوم، ومعنى الغوطة من الغائط وهو المطمئن من الأرض، والغوطة ما أحاط بدمشق من بساتين وقرى، وسقي على الأكثر بمياه بردى ومشتقاته. يبدأ حدها من فوهة الوادي عند الربوة غربا، ممتدا إلى المزة وداريا وصحنايا والأشرفية وسبينة وسبينات في الجنوب، وينتهي في الشرق بالريحان والشفونية وحوش مباركة وحوش الأشعري وحوش المتبن وحوش خرابو والفضالية والنشابية وبيت نايم، وينتهي في الشمال بجبل قاسيون وسنير، ويشرف الجبل الأسود وجبل المانع على الغوطة من الجنوب، كما يشرف عليها جبل الثلج أو جبل الشيخ من المغرب، ويحدها شرقا إقليم المرج، ومن هنا تفتح حدودها فتحة طويلة حتى الحماد أراضي بادية الشام. ويقدر طول الغوطة بنحو عشرين كيلومترا تقريبا، ويختلف عرضها بين عشرة وخمسة عشر كيلومترا، وتبلغ مساحتها نحو 40600 هكتار أي نحو خمسة وستين ألف فدان بفدادين الغوطة، أو نحو مائة ألف فدان مصري، ومدينة دمشق داخلة في هذه المساحة، وتحتوي الغوطة على اثنتين وأربعين قرية عدا الحدائق والبساتين المحيطة بها، وهي يتألف منها عشر قرى كبيرة.
وفي الغوطة قرى كالمدن مثل دومة وحرستا وعربيل وجوبر وداريا وكفر سوسية والمزة، ومجموع نفوسها لا يقل عن مائة ألف نسمة، وتربتها أجود تربة تسمد كلما أرويت؛ لأن أنهارها تدخل دمشق وتحمل قاذوراتها، وهذا مما يعاون على خصبها وإمراعها. وفي الغوطة تجود جميع الحبوب والبقول وعامة الأشجار المثمرة، ما خلا النخيل والحوامض بسبب برد الشتاء، والغوطة تمون دمشق، ومنها أكثر مادة حياتها، ولولا الغوطة ما كانت دمشق.
وهي في مجموعها من أجمل متنزهات العالم بما حبتها به الطبيعة من جمال أشجارها وخصب أرضها، لا تتعب من إخراج خيراتها صيف شتاء، واشتهرت فاكهة الغوطة بلذيذ طعمها وعجيب نكهتها؛ فكمثراها ودراقها ومشمشها وتفاحها وسفرجلها وأعنابها مضرب الأمثال، قال الصلاح الكتبي: وروي عن بعضهم أنه اتفق أن مر يوما ببعض شوارع القاهرة، وقد ظهرت جمال كثيرة حمولتها تفاح فتحي من الشام، فعبقت روائح تلك الحمول فأكثر التلفت لها، وكانت أمامه امرأة تسير ففطنت لما داخله من الإعجاب بتلك الرائحة، فأومأت إليه وقالت: هذه أنفاس ريا جلقا، وهذا الشطر من أبيات لطراد بن علي الدمشقي المعروف بالبديع، اشتهرت وغنى بها المغنون وهي:
يا نسيما هب مسكا عبقا
هذه أنفاس ريا جلقا
كف عني والهوى ما زادني
برد أنفاسك إلا حرقا
ليت شعري نقضوا أحبابنا
يا حبيب النفس ذاك الموثقا
يا رياح الشوق سوقي نحوهم
عارضا من سحب عيني غدقا
وانثري عقد دموع طالما
كان منظوما بأيام اللقا
قال ياقوت: وبدمشق فواكه جيدة فائقة طيبة، تحمل إلى جميع ما حولها من البلاد، من مصر إلى حران وما يقرب ذلك فتعم الكل. وما برحت الغوطة مقصد أهل دمشق للنزهة والقصف، وقد أخرجت طائفة كبيرة من العلماء والأدباء في مختلف العصور، وهي في الواقع بمثابة أحياء تبعد قليلا عن العاصمة الكبرى ، ولا غنى لأبنائها عن الاختلاف إلى العاصمة كل يوم، فالاختلاط بين الغوطيين والدمشقيين متصل، يألف بعضهم بعضا ويتزوج بعضهم من بعض، والغوطية تصبح دمشقية بعد مقامها قليلا في دمشق، والدمشقية تصبح فلاحة غوطية إذا أقامت في الغوطة سنين، نقول: فلاحة، أي متمرنة على الأعمال الزراعية والأعمال البيتية التي تستلزمها حياة القرى، وفي الغوطة نزل كثير من العرب، تشهد لذلك الفصحى الباقية في لهجتهم، ومن العرب الذين نزلوها غسان وبطون من قيس، وبها قوم من ربيعة وبعض بطون من كلب، ومن بني زبيد فرقة وآل فضل والحريث من زبيد من القحطانية.
وللنواجي الشاعر في الغوطة:
ألا إن وادي الشام أصبح آية
محاسنه ما بين أهل النهى تتلى
وإن شرفت بالنيل مصر فلم تزل
دمشق لها بالغوطة الشرف الأعلى
والشرف الأعلى موضع نزه من غربي دمشق يعلو عن قرارة الوادي، وليس لك في الغوطة أن تقول هذا المكان يفضل ذاك، فكل محالها ومنازلها جميل تأخذ بمجامع القلوب، كما قال أحدهم:
أنى اتجهت رأيت ماء سابحا
متدفقا أو يانعا متهدلا
وكأنما أطيارها وغصونها
نغم القيان على عرائس تجتلى
وكأنما الجوزاء ألقت زهرها
فيها وأرسلت المجرة جدولا
ويمر معتل النسيم بروضها
فتخال عطارا يحرق مندلا
أو كما قال فتيان الشاغوري:
كأن طيور الماء فيه عرائس
جلين على شاطيه خضر الغلائل
إذا كرعت فيه تيقنت أنها
تزق فراخا وهي زغب الحواصل
وكم سمك فيه عليه جواشن
من التبر صيغت وهو بادي المقاتل
جريح بأطراف الحصا فخريره
أنين له من حس تلك الجنادل
إذا قابل النهر الدجى بنجومه
أرانا بقعر الماء ضوء المشاعل
تغلغل في الوادي فوافي كقينة
منعمة حسناء ليس بعاطل
فعانقها حتى انثنت مشمعلة
تقل على ظهر الصفا بطن حامل
يروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما قدم الشام رأى الغوطة، ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين، فتلا قوله تعالى:
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * كذلك وأورثناها قوما آخرين . ويروى أن أمير المؤمنين المأمون العباسي أقسم يوما - وقد نظر إلى أشجار الغوطة ونباتها - أنها خير مغنى على وجه الأرض، وقال: عجبت لمن يسكن غيرها كيف ينعم مع هذا المنظر الأنيق الذي لم يخلق مثله؟!
وحي الغوطة
أتى لي في الغوطة ستون سنة، تسلمني الطفولة إلى الشباب، والشباب إلى الكهولة، والكهولة إلى الشيخوخة، ولاقيت ربيعها وصيفها وخريفها وشتاءها، وما لقيت منها إلا نضرة وسرورا.
أنعشني هواؤها، وأدهشتني أرضها وسماؤها، وما فتئت منذ وعيت أقرأ في صفحة وجهها الفتان آيات الإبداع والإعجاز.
في ربوعها شهدت الطبيعية تقسو وتلين، وتغضب وترضى، وتشح وتسمح، فراعني جمالها وجلالها، وشاقني تجنيها ووصالها. نشقت أنفاس رياها وهي ترفل في زهرها ووردها، واستهوتني مجردة من ورقها وثمرها ونباتها، فأخذت بها كاسية عارية، وطابت لي مطيبة وتفلة.
تربة تقبل وتمحل، وأدواح تعمق وتثمر، وجداول تفور وتغور، وآبار تفيض وتغيض، وجو يغيم ويصحو، ودوي عبس وضحك، وهناك هناء، وهناك يسر، وهناك شقاء، وهناك عسر.
أتى الجراد غير مرة على زرعها وثمرها، وسطت الحشرات على خضرها وشجرها، وأحرق الصقيع حبوبها وفاكهتها، وعدا الموتان على دواجنها وماشيتها، وطغى الماء على أدنى بقاعها، فأودى بما أنبتت وبسقت، وعادت هذه الأم الرءوم تدر على أبنائها لبنا سائغا، وتفيض عليهم من عطفها وحنانها كل جميل.
عهدي بها ودمن عشرات المزارع الخربة، بما توالى عليها من نكبات الزلازل والسيول والأوبئة والمجاعات، إلى جانب ألوف الأفدنة تصبح بالدءوب حدائق غلبا، وكانت بالأمس بين مستنقع وبيل، ومرج أفيح. في الغوطة قرى كبيرة تداعب، وقرى كبيرة لم يعف رسمها، وفيها أشجار لا تعيش غير بضع سنين، وأخرى مباركة يحسب عمرها بالقرون.
همت بسحرها في سحرها، وبشمسها تأفل وراء شجرها، وراقني وابلها وطلها، ونداها وضبابها، وجليدها وجمدها، وثلجها وبردها، ودمقها وزمهريرها، نسيمها وأعاصيرها.
غنتني طيورها بأطيب الأنغام ترددها من وكناتها في جناتها، وما تبرمت الأذن بنعيق البوم ونعيب الغربان، وعواء بنات آوى، ونباح الكلاب، ونقيق الضفادع، في المظلم والمقمر من لياليها، واهتززت للديكة تصيح، والغنم تثأج، والمعيز تثغو، والبقر يخور، والخيل تصهل، والحمير تنهق.
أقبلت مرة أقلب حديقة لنا أنقي أدغالها، وأعزل صخورها وأحجارها، فنبشت على ذراعين من سطحها مقبرة فيها قليل من عظام نخرة، وكثير من خواتم وأقراط وأساور ودمالج، كانت فضتها ونحاسها وحديدها وزجاجها تتفتت لساعتها بأيدينا.
وما فرقنا بين الرجل والمرأة من نزلاء مدينة الموتى، وما بان معنا الشاب من الفتاة، ولا الشيوخ من العجائز، ولا إذا كان من لحدوا فيها مجوسا أو صابئة أو نصارى أو مسلمين، ولا إن كانوا من العرب أو السريان أو اليهود أو الروم، وغاية ما نم عليه ذاك العظم الرميم أنه بقايا أشلاء بشرية كان أربابها يهيجون ويسكنون، ويلؤمون ويبرون، ويشقون ويسعدون. وأبصرت على خطى قليلة من المدفن أثر حوض بديع شيد بالآجر والحجر النحيت، يظهر من ترخيمه أنه بناء بان صناع اليد، وانتهت إلى ديماس عميق فيه جرار عظيمة، وأدوات نشأت من مدينة كانت بنت هذه التربة الزكية، نعم بها أهلها ما قدر لهم أن ينعموا، فلما ناداهم حادي الرحيل تخلوا عن مصانعهم ومرافقهم، وغادروا ديارهم كأن لم يغنوا فيها.
أدركت أجيالا ثلاثة من الناس، وقبلي رأى الراءون ألوف ألوف الألوف، وكلهم كان شأنهم كشأننا، خلقوا على صورتنا، وركبت فيهم أحاسيسنا وغرائزنا، واستحكمت فيهم الشهوات والمطامع، وكانت لهم آمال وأحلام، نزح صالحهم وطالحهم، وراح لطيفهم وكثيفهم، وما عرفوا لم جاءوا ولا إلى أين ذهبوا، ولم جدوا وجهدوا، ولم انصرفوا على ألا يرجعوا. أما أجسامهم فقد نخرت وتبخرت، وتبعثرت ذراتها في الفضاء. وأما أرواحهم فانتقلت إلى عالم لم ندركه بالحس، ولا قدر معنا بحساب، وما علمنا عنه إلا ما أشار إليه الكتاب.
ذهب من درجوا على هذا الصعيد الطيب، تاركين ما كدحوا وجمعوا، ناسين من أحبوا وأبغضوا، وما حال دون قفولهم عطف الأمهات والزوجات، ولا بكاء الأولاد والأخوات، هلك الغني والفقير، والصحيح والمريض، والحبيب والبغيض، وناح النساء على الأعزة الذاهبين يندبون ويولولون ، ثم لحق النائحات والنوادب بالصحاب والصواحب. •••
حقا إن الغوطة كانت على الأيام ساحة تحول، تحولت فيها حتى أزياء الجنسين من سكانها، فغير الرجال في هذه الحقبة لباس رءوسهم ثلاث مرات، وكذلك كان دأب النساء بملائهن.
شاطرت القوم أفراحهم وأتراحهم، وكاثرتهم في مواسمهم وأعيادهم، ورأيتهم يلبسون الخلق البالي، ورأيتهم يلبسون الزواق الحرير، ورأيتهم يطعمون طيب الطعام وأمرأه، ورأيتهم لا يشبعون من خبز الذرة والشعير، راقبتهم في سكونهم وهوشاتهم، وفي تلاتلهم ومشاكلهم، وفي سعتهم وضيقهم، وعاشرتهم وسامرتهم، على نقص محسوس في تربيتهم، أدركتهم يستعيضون عن اللبن والطين والقصب والكلس في بنيانهم بالقرميد والآجر والحجر والأسمنت، وعهدتهم يمتطون الفره من الخيل والبغال والحمير، ويحملون أثقالهم على الجمال، ويجرونها بالثيران، ثم اتخذوا المركبات والعجلات، وركبوا الدرجات والسيارات.
أدركتهم تبيض الأمية وتفرخ في رءوسهم، ويعم الجهل كبيرهم وصغيرهم، وذكورهم وإناثهم، وما كانت عقول الأذكياء منهم تصل إلى أبعد من القرى المجاورة، واغتبطت أن صار بضعة في الألف من شبانهم وكهولهم يتلون الصحف والكتب، ويستطلعون طلع الأخبار، ويعنيهم النظر في المصالح العامة، ويظهرون في مظهر من يحاول مجاراة الزمن في حضارته، يستبدلون الأدوات الحديثة في الحرث والتذرية والعصر والاستخراج بأدواتهم القديمة التي جمدت على حالة واحدة لم تتبدل من عهد عاد وثمود، كل ذلك ببطء وتثاقل ليناسب اقتباسها قانون الزروع والغراس عنهم: تنمو بحرارة معتدلة وإذا سقيت سقيت بمقدار. إقليم تتصادم عناصر الطبيعة فيه بلا انقطاع، الفناء رابض أبدا إلى جانب البقاء والتبدل على قد غلوة من الاستقرار. عاينت كل هذا فرجعت بمناظر متشاكلة، ولا تزال تتكرر على مر الجديدين. لم أهتد سبيلا إلى تعليلها، ولا أدركت ولا أدرك أرباب المدارك هذا السر الدفين في صدر الليل والنهار.
هنا يبدو للعين كفاح الغوطي في كسبه ورزقه، وصراعه في سبيل شهواته وأثرته، هنا تلمح جور القوي على الضعيف، وأن الإنسان في هذه الأرجاء على نحو ما هو في كل مكان، ظالما ومظلوما، قاتلا ومقتولا، وعزيزا وذليلا.
لحظت الغوطي موسعا عليه، ولاحظته مقترا عليه، عهدته مرهقا بضروب الجبايات ، وألفيته يؤدي الجباية طيبة بها نفسه، وأدركت الفقير ينوء بحمل كل عبء، والغني يكاد يعفي نفسه من أداء كل شيء.
نامعلوم صفحہ