ومن أجمل ما أبقت الأيام عليه من البناء الفائق بهندسته المستشفى النوري المعروف بالمارستان داخل المدينة، والمستشفى القيمري في السفح، فإن واجهتيهما وواجهة المدرسة الظاهرية من أجمل ما سلم من العاديات. قال رحالة كبير قديما: إن هذين المستشفيين من مفاخر الإسلام. وقد جرى مؤخرا ترميم واجهتيهما ترميما خفيفا، وأعيد إلى النحو الذي كانا عليه، كما رممت عدة جوامع ومآذن وقبور، فعاد إليها بعض رونقها القديم، ورممت واجهة المدرسة الظاهرية، وفيها دفن الملك الظاهر وابنه الملك السعيد.
وفي الظاهرية دار الكتب الوطنية، وهي قبالة العادلية أعظم مدارس الشافعية، حرق ثلثها وحرقت خزانة كتبها في فتنة تيمورلنك، واستصفى أهل الجوار جزءا منها بعد حين، والباقي منها متعة الأنظار، وهي اليوم دار المجمع العلمي العربي، وفيها خزانة كتبه ومكتبه وردهة محاضراته. ومن آثار الظاهر بيبرس - عدا المدرسة المنسوبة لاسمه، وعدا القصر الأبلق الدائر - ما جدده من شراريف رءوس قلعة دمشق ورءوس أبراجها، وبنى الطارمة التي كانت على سوق الخيل، وبنى حماما خارج باب النصر، وجدد ثلاثة إصطبلات على الشرق الأعلى، وجدد مشهد زين العابدين في الجامع الأموي ورءوس الأعمدة والأساطين وذهبها، وجدد باب البريد ودور الضيافة للرسل المترددين.
وما خلا عصر المماليك والعثمانيين بعدهم من آثار جميلة، ومنها جامع تنكز سنة 740 وهو الآن مدرسة دينية، وكان تنكز كيلبغا وبرسباي وكافل سيباي وجقماق مولعين بإقامة المصانع التي ازدانت بها دمشق، فإن يلبغا أنشأ جامعا عظيما سنة 847 وهو اليوم مدرسة نموذجية، وأقام برسباي سنة 852 جامعه المعروف بجامع الورد، وأقام كافل سيباي جامعه الذي سماه العلماء «جمع الجوامع» لأن صاحبه لم يترك مسجدا ولا مدفنا معمورا إلا وأخذ من الأحجار والرخام والأعمدة، وهو في باب الجابية، جعل مدرسة ابتدائية منذ أواخر القرن الماضي، ومن مشهور جوامعهم جامع التوبة في العقيبة، وجامع منجك في الميدان، ومدرسة الجقمقية، أمام المدرسة السميساطية على الباب الشمالي من الجامع الأموي، والمدرسة الصابونية أمام تربة باب الصغير. ومن مدارس العثمانيين جامع السنانية من إنشاء سنان باشا، وجامع الدوريشية من عمارة درويش باشا، وجامع مراد باشا في السويقة، ومدرسة إسماعيل باشا العظم، ومدرسة عبد الله باشا العظم، ومدرسة سليمان باشا العظم. وأهم مصانعهم التكية السليمانية، والتكية السليمية، وجامع ابن عربي، وفي المعاهد الثلاثة الأخيرة نموذجات مهمة من القاشاني، وللتكية السليمانية - نسبة لسليمان القانوني - روعة عظيمة ولها مئذنتان جميلتان، وقيل إن هذه المدرسة العظيمة من بناء المعمار سنان التركي المشهور، ودفن فيها مؤخرا بعض ملوك بني عثمان، شغلت الجامعة السورية قسما منها وبقي القسم الأكبر جامعا.
ومن المآذن العظيمة المئذنة الغربية بالجامع الأموي، عمرها سلوان بن علي المعمار في عهد المماليك، ومئذنة جامعة كافل سيباي، ومئذنة جامع المعلق سنة 1058، وهذا الجامع أجمل بناء في دمشق. وأجمل منابر دمشق منبر جامع الجراح في السويقة، ومنبر جامع الحنابلة في السفح، ومنبر جامع مراد باشا ومحرابه، ومحراب جامع التوبة، ومنبر جامع الشيخ عبد الغني النابلسي وسقفه وشعريته في السفح.
كل هذا من عمل الأفراد، ومنه ما عمل رجاء الثواب وحب الخير، ومنه ما أريد به الظهور وحماية أموال الباني بوقفها على ما بنى، وكان عمران المدينة أيام العثمانيين كئيبا، وتكدس الناس في رقعة ضيقة يجعلون الأزقة ملتوية ليختبئوا وراءها، وتكون لهم متاريس ساعة يدور القتال في الشوارع والحارات، وكان من نصيب الدور القديمة أن اختبأت في هذه الأزقة، ولا ينم ظاهرها إلا عن فقر وخصاصة.
ومن أهم الآثار النفيسة في العهد التركي الأخير سكة حديد الحجاز، وطولها 1303 كيلومترات، كانت تمتد من دمشق إلى المدينة المنورة، عمرت بإعانات العالم الإسلامي، ومحطتها من أجل الآثار الحديثة هندسة، وبالسكك الحديدية التي ربطت دمشق بحيفا وبيروت وحلب والموصل، وبالترام الذي ربط شمالها بجنوبها وغربها بشمالها الشرقي حتى بلغ دومة حاضرة الغوطة، أصبحت دمشق كالقاهرة مرتبطة مع الضواحي، وتتم هذه الشبكة متى جرى تمديد النور والترام إلى الغوطة الوسطى والغوطة الغربية. ولقد اتسعت المدينة من الشمال منذ أنشئ المستشفيان الإسكتلندي والفرنسي في حي القصاع، ولولا نشوب الثورة السورية سنة 1925-1926 لبلغ العمران أرض العنابة على ما كان في القرن التاسع.
وامتد العمران في الجنوب فعمرت عدة محلات وأحياء جديدة، وأهم ما تم من العمران كان في الشمال والغرب من دمشق، وفيه قامت الدور الجديدة والقصور المنيفة، منها قصر العابد وهو قصر رئاسة الجمهورية السورية، وقصر ناظم باشا، وغير ذلك من المصانع، وبعضها عمر بأموال التجار على طراز البيوت ذات الطبقات الثلث والأربع، فخرجت هندسة البيوت عن طراز البيوت أمس ذات الطبقتين فقط، ولولا الحرب وصعوبة تناول مواد البناء لبلغت البيوت المنشأة حديثا نحو ربع أو ثلث المدينة الحالية، هذا والقوم زهدوا في سكنى البيوت العتيقة على جمالها، وكرهوا البيوت الواسعة في أحياء عامة، أزقة ضيقة يقل فيها النور والشمس وتحتاج إلى خدمة كثيرة. وعلى ما خرق في الحارات القديمة من أزقة ومنافذ، لا تزال المدينة تحتاج إلى شوارع صحية ليظهر بها ما بقي فيها من القصور والقاعات المزخرفة بأجمل الصناعات الدمشقية، وما فيها من مدارس وجوامع أثرية.
ومن أهم ما يستلزمه اتساع العمران وفرة السكان أن تنشأ لدمشق مقبرة عظيمة بعيدة عن أقصى حدود المدينة، يلزم الأهلون بأسرهم بالدفن فيها بعد الآن، وتغرس المقابر القديمة التي أصبحت ممتزجة بالدور والحوانيت أشجارا ورياحين، بحيث لا يمضي خمسون سنة حتى تندثر معظم القبور القديمة وتبقى قبور العظماء الراقدين في تلك الترب، وبذلك تجمع دمشق إلى رعاية الصحة زينتها بحدائق تليق بعظمتها التاريخية، وهذا من أعمال المجالس البلدية، وقد آن أن يطلب منها مثل تلك المطالب بعد أن دخلت في طور البلديات في الجملة، أي أصبحت ذات قانون وذات هندسة ولها تصميمات ومصورات، والواجب على الأهلين أن يعاونوها على تحقيق رغائبها، ولو فعلوا مختارين لا مكرهين لما قامت بعض العمائر المستحدثة متشابكة متراصة في بنائها. والبلدية هنا خطت خطوات، وقد رأيناها قبل أربعين سنة تبيع العرصات الواقعة في جادة الميدان، وتسمح للأهلين أن يبنوا حواصل وحوانيت ودورا أمام واجهات الجوامع والمدارس، فتورث تلك الجادة العريضة بشاعة وشناعة. وكان ديوان الحسبة قبل تأسيس البلديات في القرن الماضي يتولى من المدينة كل ما له صلة بالبناء والطرق والصحة وغير ذلك، ثم ضعفت هذه الحركة وضعفت مشخصاتها وأهمها الهندسة، فقد فقدت في أكثر ما قام من العمران، فأصبح كل بان يبني كيف يشاء بما شاء من مواد البناء.
ومن الأبنية الحديثة سراي الحكومة، والمجلس البلدي، ودار الشرطة، والثكنة الحميدية، ومدرج الجامعة السورية، ودار التوليد، ودار الآثار، ودائرة الأملاك العقارية، ودار الأوقاف، ودار الصحة، ودار الندوة «البرلمان»، ومدرسة التجهيز، ووكالة العابد. ومن الفنادق الحديثة أوريان بالاس، وفندق أمية، وهما أعظم الفنادق، والفنادق القديمة تتداعى وتخلفها فنادق من الطراز الحديث، كما خربت فنادق القرون الوسطى ودور الضيافة، ولم يعرف لها أثر ولا خبر.
عرفنا بما أسلفنا أن عمران دمشق كان يمتد كثيرا في الأيام التي تنجو فيها من آفات الطبيعة وعدوان الظالمين ، ويظهر عليها الغنى والرفاهية، ومن شأن الخلق إذا أمنوا واطمأنوا أن يتوسعوا في عيشهم، ويظهروا فضل النعم عليهم.
نامعلوم صفحہ