ذو النورین عثمان بن عفان
ذو النورين عثمان بن عفان
اصناف
وكان أناس من المجتهدين يتابعون محمد بن سليمان المتفلسف على هذا الرأي، أو يتابعون معاوية بن أبي سفيان - أول من قال به وذهب إلى تخطئة عمر في ندبه لأهل الشورى - ولم تزل منهم بقية في عصرنا هذا ترى الحصافة والحكمة فيما قاله معاوية، منهم الأستاذ محمد أحمد جاد المولى الذي كان كبيرا للمفتشين بوزارة المعارف، فهو ينقل كلام معاوية في كتابه «إنصاف عثمان» ثم يتبعه قائلا: إنه رأي «الحصيف المجرب الذي حلب الدهر أشطره، وغلب برأيه ودهائه صاحب الحق على حقه، وأقام دولة الإسلام على تخوم دولة الروم موطدة الأكناف قوية الدعائم، وحاش لعمر أن يتهمه أحد فيما فعل؛ فإنه لم يرد إلا الخير للمسلمين جاهدا، وكان أعظم ما يرجوه من ذلك ألا يكون خلاف وافتراق بين المسلمين ... وأكبر الظن عندنا أن عمر لو كان في حال غير هذه؛ فربما فضل أن يريح المسلمين من العناء والمناوشات الحزبية، ويعهد إلى من هو أهل للخلافة، فقد يجد الناس لهذا التعيين حرمة تسكت الألسنة والدولة لا تزال فتية، أعدى أعدائها الشقاق والانقسام.»
هذا سبب من أشهر الأسباب المذكورة، تواتر القول به من أيام الفتنة إلى العصر الحاضر، ولو كانت الأسباب التاريخية تهمل على قدر وهنها وظهور الغرض فيها؛ لما ورد لهذا السبب ذكر على لسان بعد إفضاء معاوية به إلى أبي الحصين، إلا أن يكون ذكره لتوهينه والكشف عن غرضه، وهو مكشوف لا يجهد من يريد أن يلتفت إليه.
فمعاوية لم ينكر الشورى في اختيار الخليفة؛ إلا لأنه أجمع العزم على خطة ولاية العهد ورشح لها ابنه يزيد من بعده، وما كان في هذه الخطة حصافة ولا تجربة؛ لأنها لم تلبث أن أوقعت الخلاف في أقرب الأقربين إلى معاوية، وساقتهم إلى تولية العهد اثنين بدلا من ولي عهد واحد، ولم تحسم الخلاف بين بني أمية فضلا عن حسم الخلاف بين قريش وبين سائر المسلمين.
وقد قال الشعبي: إن عمر لم يمت حتى كانت قريش قد ملته؛ لقمعه رؤساءهم، وحبسه إياهم بالحجاز خوفا من فتنتهم بالدنيا وفتنة الدنيا بهم، فإذا كانت هيبته في حياته قد سكنت بهم عن الخلاف؛ فهم مختلفون بعد موته لا محالة، ولو أنه اختار للخلافة أحدا سماه لما اختار طلحة ولا الزبير؛ لأنه لم يذكرهما فيمن تمناه للخلافة من الموتى ولا من الأحياء، فقال: إنه كان يختار أبا عبيدة لو عاش؛ لأنه سمع الرسول الله يدعوه أمين الأمة، أو كان يختار سالما مولى أبي حذيفة لو عاش؛ لأنه رأى رسول الله يقدمه للصلاة بالمهاجرين. فلما سمى من يحسبهم مرشحين للخلافة من الأحياء سمى عليا وعثمان، ولم يجاوزهما إلى غيرهما من الستة أصحاب الشورى. فقال لعلي: «اتق الله يا علي إن صارت إليك، ولا تحمل بني هاشم على رءوس الناس» وقال لعثمان: «اتق الله يا عثمان إن صارت إليك، ولا تحمل بني معيط على رءوس الناس»، وما نحسبه سكت عن طلحة إلا عامدا وعلى علم بأن اتفاق الستة لا يجمعون عليه، وتقية أن يظن ظان أنها وقف على بني تيم، ويقينا منه أن اتفاق الستة على واحد أحرى أن يلزمهم الطاعة لمن يتفقون عليه.
وإذا كان في كلام معاوية لأبي الحصين حصافة ألمعية، فتلك هي إشارته المقصودة إلى التفرقة بين أمور الدين وأمور الدنيا، واعتباره أن تقديم النبي عليه السلام أبا بكر للصلاة بالناس بمثابة الرضى عنه لأمور دينهم، فأضاف الناس إليه الرضى عنه لأمور دنياهم، ويصح من ثم أن يكون المرضي عنه لهذه غير المرضي عنه لتلك، وهذا هو المدخل إلى ولاية الملك لأمثال يزيد عقبه مع وجود من هم أفضل منه دينا من جلة الصحابة والتابعين. •••
ونعدل عن الأسباب المزعومة أو الأسباب التي اجتهد بها المجتهدون إلى الأسباب الواقعة التي حدثت وكان لها أثر في إهاجة الخواطر وتسويغ الانقلاب: ومنها ما يتعلق بأمور الدين، ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا أو أمور الحكم والسياسة.
فمن الأمور التي تتعلق بالدين أن الخليفة الثالث زاد النداء في الأذان لصلاة الجمعة، وأنه أتم الصلاة في منى وعرفة، وكان النبي والخليفتان الأولان يقيمونها على القصر، وقد صلاها عثمان نفسه في أول خلافته ركعتين، ومنها أنه جمع القرآن الكريم في نسخة، وأمر بإحراق ما عداها في المدينة والأمصار.
ولم يكن عثمان رضي الله عنه في واحدة من هذه مستبيح حرام، بل كان متحرجا غاية التحرج لدينه، فقد زاد في الأذان لكثرة عدد الناس واتساع المدينة، وصلى صلاة المقيم؛ لأنه اتخذ بمكة أهلا فتحرج أن يصلى صلاة المسافر وهو صاحب أهل فيها، وقد كان جمعه القرآن الكريم حسنة من أجل الحسنات، سبقه أبو بكر وعمر إلى مثلها؛ فحمد المسلمون صنيعهما وأنكره من أنكره منهم أولا، ثم عادوا إلى قبوله، بل ألفوه وأثنوا عليه.
قال عمر: إن القتل قد استحر بأهل اليمامة، وأخشى أن يستحر بقراء الكتاب في غيرها فيذهب ما حفظوه بذهابهم، إلا أن يجمعوه، وأشار على الخليفة الأول بجمعه، فكانت مفاجأة نفر منها أبو بكر، وجعل يقول: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟!» فقال عمر: «هو والله خير». قال أبو بكر: «نعم خير»، ولم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله لذلك صدره، ثم أخذوا يتتبعون آي القرآن ويجمعونها من الرقاع والعسب والأكتاف وصدور الرجال، حتى وجدوا من سورة التوبة آيتين عند خزيمة بن ثابت لم يجدوهما عند غيره؛ وتم جمع الكتاب في مصاحف عند طائفة من جلة الصحابة: كالإمام علي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وجاء عثمان فسد ذرائع الخلاف ولم يأت بشيء من عنده غير تعميم المصحف في جمع البلدان ليقرأه المسلمون على نسخة واحدة.
ولئن كان في بعض هذه الأمور التي تتعلق بالدين مخالفة للمألوف؛ لقد خالف عمر المألوف في منع زواج المتعة، وفي نقص الأعطية للمؤلفة قلوبهم، وفي الإعفاء من حد السرقة في عام المجاعة، وفي تسوية الصفوف بالمسجد عند الصلاة، وفي مسائل أكبر مما أحصوه على عثمان؛ فلم يتحدث بها متحدث على سخط وتذمر فضلا عن الثورة وحمل السلاح. •••
نامعلوم صفحہ