وأخيرا قدمني عبد المنعم تليمة إلى طالبة دراسات عليا، تدرس المسرح المصري عند يعقوب صنوع بإشراف شكري عياد، وفي نفس الوقت طلبت من أستاذها من يترجم لها بعض العبارات بالفرنسية التي وردت في أعمال يعقوب صنوع، فنصحها بالذهاب إلى شاب أتى حديثا من فرنسا، ويستطيع مساعدتها. وتقابلنا في مكتبة الجامعة، وكنت أقوم بما تطلب وأنا بجانبها أنظر إليها فأرى العينين مع
Eye Liner
الأزرق، وأشعر بالرقة والاحترام. وعرفت أنها تعمل أيضا في مكتبة الجامعة الأمريكية، فتواعدنا مرة في حديقة الجامعة الأمريكية بجوار النافورة، ورأيت جمال القوام وطريقة الحوار المتحضر والرشاقة، وكان ذلك في يوم 7 أغسطس 1969م، وما زلنا نتذكره كل عام، ونحتفل به. وفي نفس الوقت كان لقاء مع محمد حسن خليفة قبل سفره إلى جامعة تمبل لاستكمال الدراسة، وهي الجامعة التي كان فيها إسماعيل الفاروقي الذي دعاني إلى مصاحبته في التدريس بالجامعة بعد أن تعرفت عليه في جامعة القاهرة أستاذا مدعوا من يحيى الخشاب، بقسم اللغات الشرقية، وكان متخصصا في فلسفة الدين أو تاريخ الأديان. ثم تواعدنا على الغداء في نادي التوفيقية الذي كان يحق لأساتذة جامعة القاهرة الاشتراك فيه بخمسة جنيهات، وكانت وجبة الغداء بسبعة عشر قرشا ونصف، وأنا أسبح لأعرض قدراتي الرياضية، حدث ذلك عدة مرات. ومرة وأنا خارج ظهرا لاحظت والدتي أنني لا أتغدى في المنزل، وهي تطبخ لي، وقالت لي: «حاسب ولاد الناس يا أبو علي.» فطمأنتها بأن الموضوع جاد. وسألتها مرة: أتريدين أن تعيشي معي دائما؟ فأجابت: «يا ريت.» فاطمأننت إلى صدق العواطف المتبادلة. وسألت مرة أخرى: ولكني إنسان صاحب رسالة، أعد مشروعا قد ينقذ الأمة من كبوتها، وذلك يقتضي الجلوس على المكتب طيلة العمر، لا زيارات لأقارب أو أصدقاء؛ فوقتي كله للعلم ولأداء الرسالة ، فوافقت. ستعيشين مع ضرة، وهو العلم، فوافقت، فاستغربت! وفرحت أن فتاة مصرية لها هذا الوعي العلمي. ولم تطلب هي شيئا، لا خطوبة ولا مهرا ولا سكنا! ولما كانت دفعة جابر عصفور وقد أصبح صديقي طلبت منه أن يذهب معي إلى أسرتها للتعارف فوافق، واتفقنا على الالتقاء في ميدان التحرير، وذهبت قبلها إلى شارع معروف واشتريت بطة، وطلبت من «الفرارجي» لف رقبتها بشريط أحمر وفي آخره «فيونكا»، فطلب من صبيه أن يفعل ذلك، فتردد، وصفعه الفرارجي على وجهه، وقال له: «وأنت مالك.» البيه عاوزها كده، ووضعتها زوجته ثريا وهي من نفس الدفعة في كيس تحت القدمين وهي جالسة. ووصلنا إلى المنزل ووضعته ثريا على الأرض وهي «تقاقي»، فخاف الجميع أولا ثم ضحكوا، ودعتني والدة العروس لأن أذوق منها بعد أن طبختها فاستجبت.
وسافرت إلى مرسى مطروح في رحلة مع بيوت الشباب، وراسلتها شوقا إليها، وجاءتني بهدية صغيرة للذكرى أشبه ما يكون بالإناء العربي، أرضيته خضراء وعليه زينة ذهبية صفراء، ثم دخلت مستشفى هليوبوليس لعملية جراحية، وذهبت لزيارتها مع أخي سيد، وقمنا بما يقوم به المحبون في الواقع أو في السينما. واتفقنا على موعد رسمي للقاء الأسرتين، كان والدها متوفى ولها شقيقة مطلقة ولديها ابن وبنتان والكل يسكن في شقة واحدة بالقرب من ميدان الحجاز بمصر الجديدة، وكنت أنا من مواليد باب الشعرية قبل أن ننتقل إلى العباسية، وكانت هي من مواليد ميدان الجامع قبل الانتقال إلى ميدان الحجاز، فكنا متقاربين من حيث أصولنا الاجتماعية. كانت المشكلة هو الرصيد المالي، لم يكن لدي إلا مرتبي، وهي أيضا مرتبها الذي كان يبلغ ضعف مرتبي، هي تعول أسرتها، وأنا أعول مع أخي سيد أسرتي، فأين لي بالشبكة والمهر والسكن؟ وأين لي بتكاليف الخطوبة وكتب الكتاب والزفاف؟ أخبرها أحد أصدقائها الذي يعمل في الإعلام والسياسة بوجود شبكة للخطوبة بثلاثة جنيهات مثل الماس تماما، وذهبنا إلى الصاغة، واشترينا دبل الخطوبة، وكنا بها فرحين. وعدنا إلى مقهى أعلى سينما ريفولي للاحتفال بها، والنادل ذهابا وإيابا ينظر إلينا وهو يحمل الطلبات، ثم أقمنا ليلة الخطوبة في منزلها، وكان معظم المدعوين من كلية الآداب وفي المقدمة أحمد مرسي وهو يرقص الرقص الشعبي. وجاء أحد أقربائها، قريب عمر مكرم، وكان هو رجل العائلة الحاضر شاهدا على كتب الكتاب، وقد تم في نفس الليلة الخطوبة. وأحيط الدور الأرضي بساتر من محلات الفراشة، وكانت ليلة، الكل فيها سعيد، الوالدان وأخي وزوجته والأخوات المتزوجات وأزواجهن وأولادهن، وشقيقتها وأولادها وأم العروس التي طالما انتظرت زواج ابنتها، وطبعا أنا والعروس. كان الحفل بسيطا، ولم يقدم إلا المشروبات والجاتوه. وقبل انتهاء الحفل رأيت ربما من الأفضل أن آخذ عروسي للسهر في مكان ما. ولما كان جيبي خاويا طلبت من زوج أختي علية د. محسن الطبيب إذا كان معه نقود، فأجاب: خمسة جنيهات، أخذتها سلفا، وذهبت والعروس إلى شارع الهرم في باريزيانا، ورقصنا ثم عاد كل منا إلى منزله.
وكان علي أن أدبر بعض المال للمهر ثم لتأسيس شقة السكن دون أن أفقد الوقت. وكنت قد قرأت «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإسبينوزا وأنا في باريس. وكنت أقبل نفس أفكارها خاصة عن العنوان الفرعي «في أن حرية الفكر ليست خطرا على التقوى، ولا على سلامة الدولة، بل القضاء على حرية الفكر فيه قضاء على التقوى، وسلامة الدولة.» وكنت آتي بهذا العنوان الفرعي كسؤال آخر العام في مادة الفلسفة الحديثة، للسنة الثالثة أطلب فيها شرح العبارة. وقمت بترجمتها، وكانت ترجمة جيدة بفضل الصديق فؤاد ذكريا الذي راجع وصحح الترجمة، فكانت من أفضل الترجمات. وله عشرات الطبعات التي لا أعلم عنها شيئا، ومقرر على معظم الجامعات في درس الفلسفة الحديثة. وكانت المكافأة أربعمائة جنيه لم تصرف إلا بعد الزواج والإنجاب بمناسبة حرب أكتوبر 1973م. وكانت الخطوبة عام 1969م، والزفاف في 30 أبريل 1970م في نادي التوفيقية حول موائد وأطباق في كل منها إصبع موز وبجواره زجاجة كوكاكولا، وفي الطبق قطعة من الحلوى، وتورته دورين أحضرها أخي سيد. وأنجبنا حازم الطفل الأول عام 1971م، وهو الآن وزير مفوض وقنصل مصر في بورتسودان بالخارجية. وقد غنى فيه العزبي الذي كان زميلا لنا في الثانوية، خليل أغا، مع أبو زهرة، وغنت مها صبري بدون «نقطة» لأن أخي سيد كان أستاذا لشقيقتها، وطلبت فقط أربعين جنيها للعازفين دفعها أخي سيد. وصاحبنا مصور إلى منزل الزوجية في عدة أوضاع منها العريس يحمل العروس. ولولا أخي سيد ما كان الفرح قد تم. كان معظم الحضور من الأقرباء وزملائي في كلية الآداب وزملاء العروس في الجامعة الأمريكية، وأقارنه الآن بالأفراح في الفنادق خمسة نجوم والتي تنفق فيها عشرات الآلاف.
وكانت الشقة السكنية على ناصية شارع الحجاز وميدان الحجاز كبيرة، أربع غرف وصالة، قفلنا البلكونة فأصبحت خامسة منها حجرة مكتبي، كانت مشغولة قبلي، وأعطاني صاحب المنزل أسبوعين مجانا لو شئت لبياض الشقة لما علم أننا عروسان، كان الإيجار أحد عشر جنيها طبقا للجان تقدير الإيجارات منذ أيام عبد الناصر، وكان يملك مصنعا بشبرا الخيمة، وجاءني مرة وهو حزين لأن أخاه قد قتل، والعائلة تطالبه بالثأر من القاتل وعائلته، وهو في حيرة، هل يفعل أم لا يفعل، وطلب نصيحتي باعتباري أستاذ فلسفة، فنصحته بألا يفعل لأن الثأر حلقة لا تنقطع، وأن هناك قانونا يأخد له حق القتيل من القاتل، فاستمع الرجل إلى النصيحة، ولكن صورته أمام أهله لم تكن كريمة، فاغتم ومات. وتركتها بعد خمسة وعشرين عاما، وفيها ولد الأولاد الثلاثة، حازم 1971م، حاتم 1976م، حنين 1979م، وفيها ظهرت «قضايا معاصرة» (جزءان)، الأول «في الفكر العربي المعاصر»، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، كما ظهرت «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة أجزاء)، «من النقل إلى الإبداع» (ثمانية أجزاء)، و«الدين والثورة في مصر» (ثمانية أجزاء)، وما زلت أحن إليها كلما مررت بها، وقد أصبحت مرة محل كاوتشوك ومرة كوافير. وندمت على تغير رسالة المكان، وقد ملأت طرقاتها بالرفوف لوضع كتبي حتى تراكمت على الأرض، وأحسست بضرورة توسيع المكان، وتركت الشقة لأصحابها دون أن أتقاضي مليما واحدا (خلو رجل) لأنه لم يطلب مني شيئا عندما سكنت فيها، واحدة بواحدة، رجاني فقط أن أسلم الشقة لوالدته لأنها ستكون كبيرة السن، ولا تستطيع صعود السلم في منزل ليس به مصعد.
وكان أقرب الأقسام إلي قسم اللغة العربية حيث كان يدرس أخي سيد وأصدقائي الأوائل مثل عبد المنعم تليمة ونعمان القاضي، ونبتت أفكاري الثورية معهم عندما صفيت المعارضة من الجامعة عام 1981م، كان ستة منها من قسم اللغة العربية حيث كانت تدرس زوجة الرئيس، وأنا من قسم الفلسفة وأمينة رشيد من قسم اللغة الفرنسية وزوجة رشدي راشد السابقة، ثم قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، والشباب فيه مثل عبد المعطي شعراوي وأحلامنا في عمل سلاسل للأعمال الأدبية اليونانية واللاتينية المترجمة، ثم كلية دار العلوم حين كانت عمادته في يد محمود قاسم عندما كانت الكلية في المنيرة، وتعرفت على شباب الأساتذة هناك، قلبي مع دار العلوم، وعقلي مع الآداب، ولكن كلا الطريقين يؤديان إلى نفس الغاية، وبلغة العصر الوسيط المسيحي «أومن كي أعقل»، منهج دار العلوم، «وأعقل كي أومن»، منهج كلية الآداب. يعرفون الحقيقة ويبرهنون عليها، وأنا أبحث عن الحقيقة كي أبرهن عليها. يدافعون عن الله وأنا أدافع عن الناس. لا خلاف بين الإثنين؛ فالله هو رب الناس، ملك الناس، إله الناس. ومن دار العلوم تخرج إبراهيم بيومي مدكور، وسيد قطب، ومحمد غنيمي هلال. وقد تبرعت بجائزة الدولة التقديرية، ربعها لقسم اللغة العربية باسم أخي سيد، والربع الثاني لقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، والربع الثالث للجمعية الفلسفية المصرية، والربع الأخير وزعته على الأقارب الذين كانوا يستحقون العون.
وكنت أعجب من الأساتذة الذين يدرسون من كتاب لهم مقرر على الطلاب، والطلبة لا حيلة لهم إلا حفظ الكتاب واستذكاره، فإذا جاء السؤال خارج المقرر اعترضوا؛ فكانوا يذاكرون الفلسفة على أنها واجب للحفظ. أما أنا فكنت أتساءل مع الطلاب عن إشكالات الفلسفة والتي لا إجابة لها عندي أو عند أحد؛ فعندما كنت أدرس أوغسطين في الفلسفة المسيحية كنت أتساءل: هل العلم يأتي من الخارج أم من الداخل؟ (محاورة المعلم). هل المسيحية ديانة وطنية أم ديانة عالمية؟ (دوناتوس). هل أومن كي أعقل أم أعقل كي أومن؟ (أنسليم). هل الوجود له ماهية أم الماهية لها وجود؟ (توما الأكويني). وكنت أعطي الأسئلة أول العام حتى يفكر فيها الطالب. وعندما كنت أدرس الفلسفة الحديثة للسنة الثالثة: هل حرية الفكر خطر على الإيمان وعلى سلامة الدولة أم إن القضاء على حرية الفكر فيه قضاء على الإيمان وسلامة الدولة؟ (إسبينوزا). هل الشك له استثناءات أم شك في كل شيء؟ (ديكارت). اشرح معنى العبارة الآتية: «كان لزاما علي هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان» (كانط). وفي السنة الرابعة في فلسفة التاريخ: كيف ظهرت فلسفة التاريخ في الغرب؟ لماذا غابت فلسفة التاريخ في تراثنا القديم؟ في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ ولم تكن هناك إلا نصوص يقرءونها كديكارت، وإسبينوزا، وكانط، ولسنج، وابن خلدون. والآن في الجامعة المفتوحة أصبحت الجامعة وسيطا بين الأستاذ والطالب في الكتاب المقرر، تشتري الكتاب من الأستاذ وتطبعه وتعطيه للطالب، وتأخذ المكسب المقرر للناشر، ويظل الطلاب في هذه الدائرة، وكنت أحسبهم مثلي.
وأثناء حياتي الجامعية لم أرفض أي انتداب ابتداء من قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة عين شمس، عندما كان فؤاد زكريا رئيسا للقسم، وكنا ما زلنا أصدقاء، ثم قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية عندما كان فتح الله خليف رئيسا للقسم قبل أن يغادر إلى قطر، وانتدبني على الرغم من منع صوفي أبو طالب رئيس جامعة القاهرة له، وكان العميد أحمد أبو زيد رئيس القسم. وانتدبت للتدريس في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة بني سويف والتي كانت حينئذ فرعا من جامعة القاهرة، وكان أخي عميدا لها، وانتدبت للتدريس في فرع الخرطوم قبل أن تستقل الآن وتسمى جامعة النيلين. وعرفت عن قرب الشخصية السودانية، طيبتها وبساطتها وحبها للشعر والأدب. وكانت فرصة أرى فيها بعض المفكرين السودانيين وصوفيتهم؛ مثل محمد محمود طه الذي شنقه النميري بتهمة الإلحاد. ورأيت بعض الأولياء وهم يقبلون أيديهم وأرجلهم ويأخذون بصاقهم ليدهنوا به أجسادهم، ومؤلف أحدهم الرئيسي مجرد تجميع للآيات والأحاديث. ورأيت موالدهم للذكر ليلا في ضوء القمر. وفي الجامعات الأجنبية درست أستاذا زائرا لمدة فصل دراسي واحد أو شهر في جامعات بريمن وفرانكفورت وتمبيريه
Tempere (فنلندا)، وروما، وميلانو، وصقلية، وشاهدت آثار المسلمين فيها.
نامعلوم صفحہ