ضرب الإسكندرية
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
اصناف
أحمد عرابي
سميت الثورة التي أعقبها الاحتلال البريطاني باسم الثورة العرابية؛ نسبة إلى زعيمها «أحمد عرابي» بطل الحرية والدستور في عصره. وهي نسبة صادقة وتسمية مطابقة؛ لأن زعامة عرابي لتلك الثورة كانت من مشيئة القدر التي لا محيد عنها، فلا حيلة فيها لعرابي نفسه ولا لأحد من أشياعه وأتباعه. وينظر المتأمل في تاريخها فيحار في اختيار اسم آخر يقترن بها ويقوم بأعبائها، فكأنما كانت قرعة ألقاها القدر فوقعت على عرابي دون غيره، وسيقت إليه كما سيق إليها من فعل الحوادث وفعل الزمن وفعل المصادفات التي تتوافى على قدر واتفاق.
لم يكن في الجيش المصري من هو أقدر من عرابي ولا أعرف منه بمطالبه وأحق منه بعرضها والدفاع عنها، وكانت حالة الجيش في ذلك العصر تلخص حالة الأمة المصرية في جملتها.
كان المصريون من الضباط قد برزوا في عهد «محمد سعيد باشا» وفي طليعتهم «أحمد عرابي»، وكان أول ضابط فلاح وصل إلى رتبة قائم مقام وعرف حقه في التقدم بالقياس إلى زملائه من الترك والشراكسة. ونكب الجيش بعد ذلك في حرب الحبشة من جراء عجز القيادة وغيرتهم من مرءوسيهم المصريين الذين أبلوا في تلك الحرب أحسن بلاء وشهدوا بأعينهم خيانة رؤسائهم وتواطؤهم مع الأعداء. فاعتقدوا أن التحقيقات التي أثبتت عليهم تهمة التقصير الشديد على الأقل سوف تنتهي إلى إقصائهم وتأخيرهم وترشيح مرءوسيهم للترقي إلى مناصبهم. فلم يكن شيء من ذلك بل كان نقيضه في مناصب الجيش وفي غيرها من المناصب الكبرى. وتمت البلية بتمكين المقصرين والمتهمين من الانتقام كما يشاءون ممن عرضوهم للملامة والاتهام.
أحمد عرابي باشا.
وقد لبث «عرابي» تسع عشرة سنة في رتبة القائم مقام، ووصل إليه الظلم حيث كان كلما تطلع إلى الإنصاف والمساواة. ومن ذلك أنه حرم نصيبه من الأرض التي أمر الخديو إسماعيل بتوزيعها على الضباط في إقليم الغربية وإقليم المنوفية. وكان الخديو قد دعا ضباط الجيش إلى وليمة عامة ثم أعلن بعد الفراغ من تناول الطعام أنه قد أنعم على كل واحد من الباشوات بخمسمائة فدان، وكل واحد من أمراء الألايات بمائتي فدان، وكل قائم مقام بمائة وخمسين فدانا من زيادة المساحة.
قال «عرابي» في مذكراته: «ولكن عند الشروع في استلام تلك الأطيان ظهر الظلم وتجسم بأكمل معانيه، فقد كان يتوجه كل واحد من المندوبين من طرف المنعم عليهم بأمر من المديرية إلى بلد يختاره من أحسن البلاد تربة، ويطلب تحديد المقدار المعين قطعة واحدة في أخصب حوض من الأراضي المملوكة لأربابها، فيجاب إلى طلبه ثم يحال المالكون الضعفاء على الحيضان الأخرى التي توجد بها زيادة المساحة وقد لا توجد.»
إلى أن قال: «وقد حماني الله من الوقوع في شرك هذه المآثم على غير إرادة مني، وذلك أن خسرو باشا أمير اللواء ... كان رجلا جاهلا متعصبا لجنسه تعصبا زائدا عن حد المعقول. وكان قد أخبرنا ناظر الجهادية إسماعيل باشا سليم - الرومي الأصل - بأني صلب الرأي شرس الأخلاق ... وطلب منه توقيف تسليمي الأطيان المنعم بها علي لحين تحقيق ما افتراه من الكذب، فعرض ناظر الجهادية الأمر على الخديو مشافهة وصدر بناء على ذلك أمر المعية لمديرية الغربية بعدم تسليمي تلك الأطيان.»
ولفقت لعرابي تهمة ثبتت براءته منها بعد أن عرضت أوراقها على «إبراهيم باشا خليل» رئيس قلم العرائض، ولكنه ظل - بعد ثبوت براءته - ثلاث سنوات يتردد على الديوان ويطلب إعادته إلى الخدمة ولا يجاب إلى طلبه، ثم أعيد إلى الخدمة المدنية ولم يصدر الأمر بإعادته إلى الخدمة العسكرية إلا بعد أربع سنوات.
لقد أصاب الرجل كل ما أصاب قومه من الحيف وابتلى الضنك في نفسه وصحبه، وأقامته الحوادث هدفا للاضطهاد من جانب الأقوياء وقبلة للرجاء من جانب الضعفاء. وكان ولا شك رجلا ممتازا بكفاءته وخلقه ملحوظا حيث كان باستقامته واقتداره، ولم يعهد إليه عمل من الأعمال المدنية أو العسكرية إلا أبدى فيه من الاجتهاد وحسن التصريف ونزاهة القصد ما يشهد به المنصفون من رؤسائه وزملائه، وبعض هذه الأعمال غريب عن تربيته ونشأته، كوقاية الجسور وبناء القناطر وتسليم المحصولات، فلم يؤخذ عليه عيب من عيوب الإهمال أو التواني أو الاختلاس التي كانت فاشية في زمنه. ووضحت كفاءته الممتازة لكل من خبروه ولازموه في حياته العامة أو الخاصة. ولا ريب أن الوالي «سعيد باشا» قد لمح فيه هذه الكفاءة الممتازة حين خصه بهدية عجيبة في بابها وأسلوبها ولكنها كبيرة الدلالة في مغزاها؛ إذ أهدى إليه نسخة من سيرة نابليون الكبير مترجمة إلى اللغة العربية، ولم يعرف عنه أنه أهدى مثل هذه الهدية إلى أحد من ضباط جيشه وهم ألوف، وقد تكلم عنه الضابط الأمريكي داي صاحب كتاب «مصر المسلمة والحبشة المسيحية»، فقال: «إنه خليق أن يكون من خيرة الضباط في غير البلاد المصرية.»
نامعلوم صفحہ