ضرب الإسكندرية
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
اصناف
لما كان الأمن والأمان، والراحة والاطمئنان، يتوقف عليهما تمام العمران في جمع الممالك والبلدان، ومن أنجح الأبواب وأصلح الأسباب، التي بها نجاح الممالك، وسلوكها في أقدم المسالك، قطع دابر المفسدين الساعين فيما يضر بالدنيا والدين ويكون ذريعة للطائشين المتظاهرين بين الناس بمظهر الحرية بدون أساس، البانين ذلك على غير شرع، وأصل ثابت وفرع، وإنما هو مجرد خزعبلات وترهات، وأشراك وأحبولات، نصبوها لاقتناص أمثالهم السفهاء والجهال، الذين هم بمعزل عن معرفة شيء من صالح الأحوال.
إلى أن يقول عن جمعيته السرية: «رئيسها شخص يدعى بجمال الدين الأفغاني مطرود من بلاده ثم من الآستانة العلية؛ لما ارتكبه من أمثال هذه المفسدة في ديارنا المصرية ... وهذا من أكبر ما يغير الأفكار، ويجب أن يعامل مرتكبه بالتشديد والإنكار. فالتزمت هذه الحكومة الحازمة أن تتخذ الطرق اللازمة، وتستعمل السداد في قطع عرق هذا الفساد، فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر ديوان الداخلية، ووجهته من طريق السويس إلى الأقطار الحجازية ...»
بمثل هذا السخف خيل إلى ولاة ذلك العهد أن يسلكوا أعظم المصلحين أمام التاريخ في زمرة المفسدين، فنقض التاريخ ما أبرموا وجرهم نفي الرجل إلى نقيض ما قدروا، وتسامع عارفوه بنفيه على هذه الصورة المزرية فأخجلتهم الفضيحة واستفزهم الغضب لكرامته إلى إتمام سعيه والدأب على منهاجه. فلما بدأت حركة الانقلاب بعد سنة من تاريخ نفيه كان تلميذه «محمد عبده» إمامها الروحي، وتلميذه «عبد الله نديم» خطيبها المتوقد، وتلميذه «سعد زغلول» قائد الطلبة في مظاهرتها، ثم أفلت الزمام من كل يد فكانت دعوة جمال الدين رحمة إلى جانب الدعوات التي انتشرت في كل مكان على هدى العقل حينا وعلى غير هدى في أحايين.
قال المؤرخ المصري «أحمد شفيق باشا» في الجزء الأول من مذكراته يصف القاهرة في تلك الأيام:
وانقلبت مصر مسرحا للخطباء في كل مجتمع وناد حتى في المساجد، ولم يبق مجلس للسمر أو للاحتفال بعرس أو غيره إلا اقتحمه الخطباء واعتلوا منصة المغنين بعد إقصائهم عنها وغيرهم، حتى لقد سمعت أن محمد عثمان المغني الشهير كان إذا سئل: في أي فرح تغني الليلة؟ أجاب في الفرح الفلاني مع عبد الله نديم!
وكثيرا ما كان الخطيب يستصحب معه بعض طلبة المدارس، وبعد خطابته يقدم أحدهم إلى الجمع ليخطب فيهم إلى جانبه ، فينبري الطالب مثيرا في الحاضرين الغيرة والحمية، وقد شاهدت عبد الله نديم مرة يقدم فتحي أفندي زغلول الطالب بمدرسة الحقوق ليخطب في حفلة عظيمة وبعد أن جال بخطبته في السياسة كل مجال، أمسك عبد الله النديم بذراعه، وقال للحاضرين:
ألا تعجبون لما أبداه هذا التلميذ في خطبته من العلم والبيان والتفنن في المواضيع مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعا واحدا في خطبته. ... وقدم مرة أخرى في إحدى الحفلات الطالب مصطفى أفندي ماهر فخطب القوم وراقتهم خطبته، فقال عبد الله نديم: أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد على أمرها.
وكان عرابي والبارودي وعبد العال حلمي وعلي فهمي وغيرهم من زعماء الحركة يحضرون أكثر هذه الحفلات ويتصدرونها، فتلقى الخطب والقصائد في مدحهم وتقديسهم وتعداد مناقبهم ولا ينصرفون عنها إلا بالتهليل والتكبير، فإذا انتهت خرج الناس منها وكأنهم أهل سياسة ورياسة، وأصبح الناس كلهم عرابي وأصبح عرابي الناس كلهم، وانحلت الطبقات، واختلط الحابل بالنابل والعالي بالسافل. وقد كان عرابي يمثل في شكل البطل المنقذ، وقد وزعت صورته في أنحاء البلاد، وهو جالس ينظر نظرات بعيدة وعلى رأسه عبد العال قابضا على سيفه وإلى جانبه علي فهمي وهو يمسك بيده ورقة مطوية كتب عليها «الدستور».
وهكذا سارت الروح العرابية في الأمة بأسرها وجعلت كل الطبقات في صعيد واحد ممتزج بعضها ببعض.
وقد اختلط الحابل بالنابل والعالي بالسافل حقا في تلك الحركة، كما قال صاحب المذكرات، ولكنه اختلاط لم تسلم منه حركة قومية ولا تعاب به الحركات القومية من قبيلها، بل من شروط كل دعوة تتناول الشعوب أن يهتم بها العامة والدهماء، كما يهتم بها الخاصة وقادة الآراء. وقد كانت نهضة مصر في القرن التاسع عشر نهضة قوية وحركة طبيعية لا غبار عليها، ولكنها كانت تخطو في طريقها وأمامها عقبات السياسة كلها خارجا وداخلا تصدها إلى الوراء، وعلى كواهلها أوزار الماضي الثقال تهبط بها إلى الأرض، فتعثرت ولم تنطلق إلى غايتها، ولكننا نحن اليوم لم ننته إلى شيء لم يبدأ فيه طلاب الإصلاح بدايتهم التي لا محيص عنها في ذلك الجيل.
نامعلوم صفحہ