وبينما سكان تلك المدينة يمجدون القوي ويحتقرون ذواتهم ويتغنون باسم المستبد، والملائكة تبكي على صغرهم، كان في بيت حقير مهجور امرأة مطروحة على سرير السقام تضم إلى صدرها الملتهب طفلا ملتفا بأقمطة بالية.
صبية كتبت لها الأيام فقرا، والفقر شقاء فأهملت من بني الإنسان، زوجة أمات رفيقها الضعيف ظلم الأمير القوي، وحيدة بعثت إليها الآلهة في تلك الليلة رفيقا صغيرا يكبل يديها دون العمل والارتزاق.
ولما سكنت جلبة الناس في الشوارع، وضعت تلك المسكينة طفلها على حضنها، ونظرت في عينيه اللامعتين وبكت بكاء مرا كأنها تريد أن تعمده بالدموع السخينة، وقالت بصوت تتصدع له الصخور: «لماذا جئت يا فلذة كبدي من عالم الأرواح؟ أطمعا بمشاطرتي الحياة المرة؟ أرحمة بضعفي؟ لماذا تركت الملائكة والفضاء الوسيع وأتيت إلى هذه الحياة الضيقة المملوءة شقاء ومذلة؟ ليس عندي يا وحيدي إلا الدموع، فهل تتغذى بها بدلا من الحليب؟ وهل تلبس ذراعي العاريتين عوضا عن النسيج؟ صغار الحيوان ترعى الأعشاب وتبيت في أوكارها آمنة، وصغار الطير تلتقط البذور وتنام بين الأغصان مغبوطة، وأنت يا ولدي ليس لك إلا تنهداتي وضعفي».
حينئذ ضمت الطفل إلى صدرها بشدة كأنها تريد أن تجعل الجسدين جسدا واحدا، ورفعت عينيها نحو العلاء وصرخت: «ارفق بنا يا رب».
ولما انقشعت الغيوم عن وجه القمر، دخلت أشعته اللطيفة من نافذة ذلك البيت الحقير، وانسكبت على جسدين هامدين.
شعراء المهجر
لو تخيل الخليل أن الأوزان التي نظم عقودها وأحكم أوصالها ستصير مقياسا لفضلات القرائح، وخيوطا تعلق عليها أصداف الأفكار، لنثر تلك العقود وفصم عرى تلك الأوصال.
ولو تنبأ المتنبي وافترض الفارض أن ما كتبناه سيصبح موردا لأفكار عميقة، ومقودا لرءوس مشاعير يومنا؛ لهراقا المحابر في محاجر النسيان، وحطما الأقلام بأيدي الإهمال.
ولو درت أرواح هوميروس وفرجيل وأعمى المعرة وملتون أن الشعر المتجسم من النفس المشابهة الله، سيحط رحاله في منازل الأغنياء؛ لبعدت تلك الأرواح عن أرضنا واختفت وراء السيارات.
ما أنا من المتعنتين، لكن يعز علي أن أرى لغة الأرواح تتناقلها ألسنة الأغبياء، وكوثر الآلهة يسيل على أقلام المدعين، ولست منفردا في وهدة الاستياء بل رأيتني واحدا من كثيرين نظروا الضفدع ينتفخ تمثلا بالجاموس.
نامعلوم صفحہ