إهداء
دمعة وابتسامة
حياة الحب
حكاية
في مدينة الأموات
موت الشاعر حياته
بنات البحر
النفس
ابتسامة ودمعة
رؤيا
نامعلوم صفحہ
الجمال
الحروف النارية
بين الخرائب
رؤيا
الأمس واليوم
رحماك يا نفس رحماك
الأرملة وابنها
الدهر والأمة
أمام عرش الجمال
زيارة الحكمة
نامعلوم صفحہ
حكاية صديق
بين الحقيقة والخيال
يا خليلي الفقير
مناحة في الحقل
بين الكوخ والقصر
طفلان
شعراء المهجر
تحت الشمس
نظرة إلى الآتي
ملكة الجمال
نامعلوم صفحہ
يا لائمي
مناجاة
المجرم
الرفيقة
بيت السعادة
مدينة الماضي
اللقاء
مخبآت الصدور
القوة العمياء
منيتان
نامعلوم صفحہ
على ملعب الدهر
خليلي
حديث الحب
الحيوان الأبكم
السلم
الشاعر
يوم مولدي
الطفل يسوع والحب الطفل
مناجاة أرواح
أيتها الريح
نامعلوم صفحہ
رجوع الحبيب
جمال الموت
أغاني - أغنية
أغنية الموج
أغنية المطر
أغنية الجمال
أغنية السعادة
أنشودة الزهرة
نشيد الإنسان
صوت الشاعر
نامعلوم صفحہ
إهداء
دمعة وابتسامة
حياة الحب
حكاية
في مدينة الأموات
موت الشاعر حياته
بنات البحر
النفس
ابتسامة ودمعة
رؤيا
نامعلوم صفحہ
الجمال
الحروف النارية
بين الخرائب
رؤيا
الأمس واليوم
رحماك يا نفس رحماك
الأرملة وابنها
الدهر والأمة
أمام عرش الجمال
زيارة الحكمة
نامعلوم صفحہ
حكاية صديق
بين الحقيقة والخيال
يا خليلي الفقير
مناحة في الحقل
بين الكوخ والقصر
طفلان
شعراء المهجر
تحت الشمس
نظرة إلى الآتي
ملكة الجمال
نامعلوم صفحہ
يا لائمي
مناجاة
المجرم
الرفيقة
بيت السعادة
مدينة الماضي
اللقاء
مخبآت الصدور
القوة العمياء
منيتان
نامعلوم صفحہ
على ملعب الدهر
خليلي
حديث الحب
الحيوان الأبكم
السلم
الشاعر
يوم مولدي
الطفل يسوع والحب الطفل
مناجاة أرواح
أيتها الريح
نامعلوم صفحہ
رجوع الحبيب
جمال الموت
أغاني - أغنية
أغنية الموج
أغنية المطر
أغنية الجمال
أغنية السعادة
أنشودة الزهرة
نشيد الإنسان
صوت الشاعر
نامعلوم صفحہ
دمعة وابتسامة
دمعة وابتسامة
تأليف
جبران خليل جبران
إهداء
إلى
M.E.H.
أقدم هذا الكتاب، وهو أول نسخة من عاصفة حياتي، إلى الروح النبيلة التي تحب النسمات وتسير مع العواصف.
جبران
مقدمة
نامعلوم صفحہ
بقلم نسيب عريضة
نيويورك في 24 نيسان «أبريل» سنة 1914
قد انتقل جبران خليل جبران في الأعوام العشرة الأخيرة من ربيع الحياة إلى صيفها، فنمت أمياله ونضجت أفكاره، وتدرجت روحه من عالم الخيال الشعري إلى عالم أسمى وأوسع يتعانق فيه الخيال المطلق والحقيقة المجردة، وتلتقي في جنباته أشباح العواطف الدقيقة بجبابرة المبادئ الأساسية الصحيحة.
جبران اليوم ليس بجبران الأمس، فالشباب الحساس الذي كتب «دمعة وابتسامة» بقلم محبر بالدمع قد تحول إلى رجل قوي يكتب برءوس الحراب المغموسة بالدماء، والفرق بين مقالة «جمال الموت» وحكاية «حفار القبور» هو الفرق بين جبران الأمس وجبران اليوم، فالنفس اللطيفة التي كانت ترتعش لهبوب نسيمات السحر قد تشددت اليوم بالعزم فلم تعد تهتز إلا للعواصف، فالعواصف هي من حاضر جبران بمقام النسيم من ماضيه.
ولكن لو تمعنا مليا بمجموع كتابات جبران وتآليفه، وعلاقتها بالنهضة الأدبية الحديثة؛ لوجدنا أن «لدمعة وابتسامة» مقالا خاصا بها لأنها كانت أول نغمة من نوعها في العالم العربي، فقد خالفت بما فيها من التراكيب ودقة البيان كل ما جاء قبلها من الكتابات؛ لأنها أتت كتوطئة لحركة عربية جديدة يشعر بها ويتأثر لها الطالب في مدرسته والمتأدب في مكتبته والصحافي في إدارته.
عندما ظهرت «دمعة وابتسامة» كان الكتاب والشعراء في مصر وسوريا والمهجر يملأون الصحف والمجلات بمقالات ورسائل وقصائد عقيمة بليدة خالية من الشعور بعيدة عن القلب، وكان أكثر الناس يحسبون كل من وزن الكلام شاعرا وكل من رتب الفقرات كاتبا، ولكن لما ابتدأ جبران بنشر «دمعة وابتسامة» غير الناس أفكارهم وعلموا للمرة الأولي أن الشاعر الحقيقي هو الذي يضرب بأصابعه السحرية على أوتار قلوبهم، ويعيد على مسامعهم في اليقظة ما تسمعه أرواحهم في المنام، ومن ذلك الحين ابتدأ فتيان الكتاب والشعراء بتقليد «دمعة وابتسامة» والنسج على منوالها، فلم يمر عامان أو ثلاثة على ظهورها حتى كان لجبران تلاميذ وأتباع منتشرون في كل مكان من العالم العربي.
عندما طلبنا إلى جبران جمع «دمعة وابتسامة» ونشرها في كتاب، أجابنا ببيت من أحد موشحاته قائلا:
ذاك عهد من حياتي قد مضي
بين تشبيب وشكوى ونواح
فقلنا له «ذاك عهد من حياتك قد مضى، ولكنه لم يزل حاضرا في حياة محبيك ومريديك».
نامعلوم صفحہ
فأجابنا «إن الشاب الذي كتب قد ترنم بأغنية علوية قبل أن يموت».
قلنا له: «وعلينا أن نحفظ تلك الأغنية كي لا تتلاعب بها أيدي الضياع».
فأجابنا «افعلوا ما شئتم، ولكن لا تنسوا أن روح ذلك الشاب قد تقمصت في جسد رجل يحب العزم والقوة محبته للظرف والجمال، ويميل إلى الهدم ميله إلى البناء، فهو صديق الناس وعدوهم في وقت واحد».
فقلنا له «سوف لا ننسى وإن حاولنا التناسي ففي «حفار القبور» ما ينبهنا ويذكرنا».
دمعة وابتسامة
توطئة
أنا لا أبدل أحزان قلبي بأفراح الناس، ولا أرضى أن تنقلب الدموع التي تستدرها الكآبة من جوارحي وتصير ضحكا، أتمنى أن تبقى حياتي دمعة وابتسامة، دمعة تطهر قلبي وتفهمني أسرار الحياة وغوامضها، وابتسامة تدنيني من أبناء بجدتي وتكون رمز تمجيدي الآلهة، دمعة أشارك بها منسحقي القلب، وابتسامة تكون عنوان فرحي بوجودي.
أريد أن أموت شوقا ولا أحيا مللا، أريد أن تكون في أعماق نفسي مجاعة للحب والجمال؛ لأني نظرت فرأيت المستكفئين أشقى الناس وأقربهم من المادة، وأصغيت فسمعت تنهدات المشتاق المتمني أعذب من رنات المثاني والمثالث.
يأتي المساء فتضم الزهرة أوراقها وتنام معانقة شوقها، وعندما يأتي الصباح تفتح شفتيها لاقتبال قبلة الشمس، فحياة الأزهار شوق ووصال، دمعة وابتسامة.
تتبخر مياه البحر وتتصاعد ثم تجتمع وتصير غيمة، وتسير فوق الطلول والأودية حتى إذا ما لاقت نسمات لطيفة تساقطت باكية نحو الحقول، وانضمت إلى الجداول ورجعت إلى البحر موطنها. حياة الغيوم فراق ولقاء، دمعة وابتسامة.
نامعلوم صفحہ
كذا النفس تنفصل عن الروح العام وتسير في عالم المادة، وتمر كغيمة فوق جبال الأحزان وسهول الأفراح فتلتقي بنسيمات الموت فترجع إلى حيث كانت، إلى بحر المحبة والجمال، إلى الله.
حياة الحب
الربيع:
هلمي يا محبوبتي نمشي بين الطلول، فقد ذابت الثلوج وهبت الحياة من مراقدها وتمايلت في الأودية والمنحدرات، سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد، تعالي لنصعد إلى أعالي الربى ونتأمل في تموجات اخضرار السهول حولها.
ها قد نشر فجر الربيع ثوبا طواه ليل الشتاء، فاكتست به أشجار الخوخ والتفاح فظهرت كالعرائس في ليلة القدر ، واستيقظت الكروم وتعانقت قضبانها كمعاشر العشاق، وجرت الجداول راقصة بين الصخور مرددة أغنية الفرح، وانبثقت الأزهار من قلب الطبيعة انبثاق الزبد من البحر.
تعالي لنشرب بقايا دموع المطر من كئوس النرجس، ونملأ نفسينا بأغاني العصافير المسرورة، ونغتنم استنشاق عطر النسيمات.
لنجلس بقرب تلك الصخرة حيث يختبئ البنفسج، ونتبادل قبلات المحبة.
الصيف:
هيا بنا إلى الحقل يا حبيبتي فقد جاءت أيام الحصاد، وبلغ الزرع مبلغه وأنضجته حرارة محبة الشمس للطبيعة، تعالي قبل أن تسبقنا الطيور فتستغل أتعابنا، وجماعة النمل فتأخذ أرضنا، هلمي نجن ثمار الأرض مثلما جنت النفس حبوب السعادة من بذور الوفاء التي زرعتها المحبة في أعماق قلبينا، ونملأ المخازن من نتاج العناصر كما ملأت الحياة أهراء عواطفنا.
هلمي يا رفيقتي نفترش الأعشاب ونلتحف السماء ونوسد رأسينا بضغث من القش الناعم، فنرتاح من عمل النهار ونسمع مسامرة غدير الوادي.
نامعلوم صفحہ
الخريف:
لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي ونعصر العنب ونوعيه في الأجران مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة ونستقطر الأزهار ونستعيض عن العين بالأثر.
لنرجع نحو المساكن، فقد اصفرت أوراق الأشجار ونثرها الهواء كأنه يريد أن يكفن بها أزهارا قضت لوعة عندما ودعها الصيف، تعالي فقد رحلت الطيور نحو الساحل وحملت معها أنس الرياض، وخلفت الوحشة للياسمين والسيسبان فبكى باقي الدموع على أديم التراب.
لنرجع! فالجداول قد وقفت عن مسيرها، والعيون نشفت دموع فرحها، والطلول خلعت باهي أثوابها. تعالي يا محبوبتي، فالطبيعة قد راودها النعاس فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوندية مؤثرة.
الشتاء:
اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا، اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد، فالنار فاكهة الشتاء الشهية، حدثيني بمآتي الأجيال، فآذاني قد تعبت من تأوه الأرياح وندب العناصر، أوصدي الأبواب والنوافذ، فمرأى وجه الجو الغضوب يحزن نفسي، والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي، اسقي السراج زيتا يا رفيقة عمري، فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك لأرى ما كتبته الليالي على وجهك، إيتي بجرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.
اقتربي ! اقتربي مني يا حبيبة نفسي فقد خمدت النار وكاد الرماد يخفيها، ضميني فقد انطفأ السراج وتغلبت عليه الظلمة، ها قد أثقلت أعيننا خمرة السنين، ارمقيني بعين كحلها النعاس، عانقيني قبل أن يعانقنا الكرى، قبليني فالثلج قد تغلب على كل شيء إلا قبلتك، آه يا حبيبتي ما أعمق بحر النوم! آه ما أبعد الصباح في هذا العالم!
حكاية
على ضفة ذلك النهر، في ظل أشجار الجوز والصفصاف جلس ابن زراع يتأمل في المياه الجارية بسكينة وهدوء، فتى ربي بين الحقول حيث يتكلم كل شيء عن الحب، حيث الأغصان تتعانق والأزهار تتمايل والطيور تتشبب، حيث الطبيعة بأسرها تكرز بالروح، ابن عشرين رأى بالأمس على الينبوع صبية جالسة بين الصبايا فأحبها، ثم علم أنها ابنة الأمير فلام قلبه وشكا نفسه إلى نفسه، ولكن الملامة لا تميل بالقلب عن الحب، والعذل لا يصرف النفس عن الحقيقة، والإنسان بين قلبه ونفسه كغصن لين في مهب ريح الجنوب وريح الشمال.
نظر الفتى فرأى زهرة البنفسج قد نبتت بقرب زهرة الأقحوان، ثم سمع الهزاز يناجي الشحرور فبكى لوحدته وانفراده، ثم مرت ساعات حبه أمام عينيه مرور الأشباح، فقال وعواطفه تسيل مع كلماته ودموعه: «هو ذا الحب يستهزئ بي، ها قد جعلني سخرية وقادني إلى حيث الآمال تعد عيوبا والأماني مذلة، الحب الذي عبدته قد رفع قلبي إلى قصر الأمير وخفض منزلتي إلى كوخ الزراع، وسار بنفسي إلى جمال حورية تحيط بها الرجال ويحميها الشرف الرفيع، أنا طائع أيها الحب فماذا تريد؟ قد اتبعتك على سبل نارية فلذعني اللهيب، قد فتحت عيني فلم أر غير الظلمة، وأطلقت لساني فلم أتكلم بغير الأسى، قد عانقني الشوق أيها الحب بمجاعة روحية لن تزول بغير قبل الحبيب، أنا ضعيف أيها الحب فلم تخاصمني وأنت القوي؟ لماذا تظلمني وأنت العادل وأنا البريء؟ لماذا تذلني ولم يكن غيرك ناصري؟ لماذا تتخلى عني وأنت موجدي؟ إن جرى دمي بغير مشيئتك فأهرقه، وإن تحركت قدماي على غير طرقك فشلها. افعل مشيئتك بهذا الجسد وخل نفسي تفرح بهذه الحقول المستأمنة بظل جناحيك، الجداول تسير إلى حبيبها البحر، والأزهار تتنسم لعشيقها النور، والغيوم تهبط نحو مريدها الوادي، وأنا - وبي ما لا تعرفه الجداول ولا تسمع به الأزهار ولا تدركه الغيوم - قد رأيتني وحيدا في محنتي، منفردا في غرامي، بعيدا عن التي لا تريدني جنديا في كتائب أبيها ولا ترضاني خادما في قصرها».
نامعلوم صفحہ
وسكت الفتى هنيهة كأنه يريد أن يتعلم الكلام من خرير النهر وحفيف أوراق الغصون، ثم عاد فقال: «وأنت يا من أخاف من أمها أن أدعوها باسمها، أيتها المحبوبة عني بستائر العظمة وجدران الجلال، أيتها الحورية التي لا أطمع بلقائها إلا في الأبدية حيث المساواة، يا من تطيعها الصوارم وتنحني أمامها الرقاب وتتفتح لها الخزائم والمساجد! قد ملكت قلبا قدسه الحب، واستعبدت نفسا شرفها الله، وخلبت عقلا كان بالأمس حرا بحرية هذه الحقول، فصار اليوم أسيرا بقيود هذا الغرام، رأيتك أيتها الجميلة فعرفت سبب مجيئي إلى هذا العالم، ولما عرفت رفعة منزلتك ونظرت إلى حقارتي علمت أن للآلهة أسرارا لا يعرفها الإنسان، وسبلا تذهب بالأرواح إلى حيث المحبة تقضي بغير الشرائع البشرية، أيقنت لما نظرت إلى عينيك أن هذه الحياة فردوس بابه القلب البشري، ولما رأيت شرفك وذلي يتصارعان صراح مارد ورئبال، علمت أن هذه الأرض لم تعد وطنا لي، ظننت لما وجدتك جالسة بين نسائك كالوردة بين الرياحين، أن عروس أحلامي قد تجسدت وصارت بشرا مثلي، ولما تخبرت مجد أبيك وجدت أن دون اجتناء الورد أشواكا تدمي الأصابع، وأن ما تجمعه الأحلام تفرقه اليقظة ...».
وقام إذ ذاك ومشى نحو الينبوع منخفض الجناح، كسير القلب، مجسما الأسي والقنوت بهذه الكلمات: «تعال يا موت وأنقذني، فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن، هلم وخلصني من أيام تخلع الحب عن كرسي مجده وتقيم الشرف العالي مكانه، خلصني يا موت فالأبدية أجدر ببقاء المحبين من هذا العالم، هناك أنتظر حبيبتي، وهناك أجتمع بها».
بلغ الينبوع وقد جاء المساء وأخذت الشمس تلم وشاحها الذهبي عن الحقل، فجلس يذرف الدموع على حضيض وطئته أقدام ابنة الأمير وقد حنى رأسه على صدره كأنه يمنع قلبه عن الخروج.
في تلك الدقيقة ظهرت من وراء أشجار الصفصاف صبية تجر أذيالها على الأعشاب، ووقفت بجانب الفتى ووضعت يدها الحريرية على رأسه، فنظر إليها نظرة نائم أيقظه شعاع الشمس، فرأى ابنة الأمير واقفة حذاءه فجثا على ركبتيه مثلما فعل موسى عندما رأى العليقة مشتعلة أمامه، ولما أراد الكلام أرتج عليه فنابت عيناه الطافحتان بالدمع عن لسانه.
ثم عانقته الصبية وقبلت شفتيه، وقبلت عينيه راشقة المدامع السخينة، وقالت بصوت ألطف من نغمة الناي: «قد رأيتك يا حبيبي في أحلامي، ونظرت وجهك في وحدتي وانقطاعي، فأنت رفيق نفسي الذي فقدته، ونصفي الجميل الذي انفصلت عنه عندما حكم علي بالمجيء إلى هذا العالم، قد جئت سرا يا حبيبي لألتقي بك، وها أنت الآن بين ذراعي فلا تجزع! قد تركت مجد والدي لأتبعك إلى أقاصي الأرض وأشرب معك كأس الحياة والموت، قم يا حبيبي فنذهب إلى البرية البعيدة عن الإنسان».
ومشى الحبيبان بين الأشجار تخفيهما ستائر الليل ولا يخيفهما بطش الأمير ولا أشباح الظلمة.
هناك في أطراف البلاد عثر رواد الأمير على هيكلين بشريين في عنق أحدهما قلادة ذهبية، وبقربهما حجر كتبت عليه هذه الكلمات: «قد جمعنا الحب فمن يفرقنا، وأخذنا الموت فمن يرجعنا؟».
في مدينة الأموات
تملصت بالأمس من غوغاء المدينة، وخرجت أمشي في الحقول الساكنة حتى بلغت أكمة عالية ألبستها الطبيعة أجمل حلاها، فوقفت وقد بانت المدينة بكل ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.
جلست أتأمل عن بعد في أعمال الإنسان فوجدت أكثرها عناء، فحاولت في قلبي ألا أفتكر بما صنعه ابن آدم، وحولت عيني نحو الحقل، كرسي مجد الله، فرأيت في وسطه مقبرة ظهرت فيها الأجداث الرخامية المحاطة بأشجار السرو.
نامعلوم صفحہ
هناك بين مدينة الأحياء ومدينة الأموات جلست أفكر، أفكر في كيفية العراك المستمر والحركة الدائمة في هذه، وفي السكينة السائدة والهدوء المستقر في تلك، من الجهة الواحدة آمال وقنوط ، ومحبة وبغضة، وغنى وفقر، واعتقاد وجحود، ومن الأخرى تراب في تراب تقلب الطبيعة بطنه ظاهرا وتبدع منه نباتا ثم حيوانا، وكل ذلك يتم في سكينة الليل.
بينا أنا مستسلم لعوامل هذه التأملات، استلفت ناظري جمع غفير يسير الهويناء تتقدمه الموسيقى وتملأ الجو ألحانا محزنة، موكب جمع بين الفخامة والعظمة وآلف بين أشكال الناس، جنازة غني قوي، رفات ميت تتبعها الأحياء وهم يبكون ويولولون ويبثون بالهواء الصراخ والعويل.
بلغوا الجبانة فاجتمع الكهان يصلون ويبخرون، وانفرد الموسيقيون ينفخون الأبواق، وبعد قليل انبرى الخطباء فأبنوا الراحل بمنتقيات الكلام، ثم الشعراء فرثوه بمنتخبات المعاني، وكل ذلك كان يتم بتطويل ممل، وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعه الحفارون والمهندسون وحوله أكاليل الأزهار المنمقة بأيدي المتقنين.
رجع الموكب نحو المدينة وأنا أنظر من بعيد وأفتكر، ومالت الشمس نحو الغروب، واستطالت خيالات الصخور والأشجار، وأخذت الطبيعة تخلع أثواب النور.
في تلك الدقيقة نظرت فرأيت رجلين يقلان تابوتا خشبيا، وراءهما امرأة ترتدي أطمارا بالية وهي حاملة على منكبيها طفلا رضيعا، وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى التابوت أخرى، جنازة فقير حقير وراءها زوجة تذرف دموع الأسى، وطفل يبكي لبكاء أمه، وكلب أمين يسير وفي مسيره حزن وكآبة.
وصل هؤلاء إلى المقبرة وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية، ثم رجعوا بسكينة مؤثرة والكلب يلتفت نحو محط رحال رفيقه حتى اختفوا عن بصري وراء الاشجار.
فالتفت إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء. ثم نحو مدينة الأموات وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟
قلت هذا ونظرت نحو الغيوم المتلبدة المتلونة أطرافها بذهب من أشعة الشمس الجميلة، وسمعت صوتا من داخلي يقول: هناك.
موت الشاعر حياته
خيم الليل بجنحه فوق المدينة وألبسها الثلج ثوبا، وهزم البرد ابن آدم من الأسواق فاختبأ في أوكاره، وقامت الأرياح تتأوه بين المساكن كمؤبن وقف بين القبور الرخامية يرثي فريسة الموت.
نامعلوم صفحہ
وكان في أطراف الأحياء بيت حقير تداعت أركانه وأثقلته الثلوج حتى أوشك أن يسقط، وفي إحدى زوايا ذلك البيت فراش بال عليه محتضر ينظر إلى سراج ضعيف يغالب الظلمة فتغلبه، فتى في ربيع العمر قد علم بقرب أجل انعتاقه من قيود الحياة فصار ينتظر المنية وعلى وجهه المصفر نور الأمل، وعلى شفتيه ابتسامة محزنة، شاعر جاء ليفرح قلب الإنسان بأقواله الجميلة يموت جوعا في مدينة الأحياء الأغنياء، نفس شريفة هبطت مع نعم الآلهة لتجعل الحياة عذبة، تودع دنيانا قبل أن تبتسم لها الإنسانية، منازع يلفظ أنفاسه الأخيرة وليس بقربه سوى سراج كان رفيق وحدته، وأوراق عليها خيالات روحه اللطيفة.
جمع ذلك الفتى المنازع بقايا قوة قاربت الفناء، ورفع يديه نحو العلاء وحرك أجفانه الذابلة كأنه يريد أن يخرق بنظراته الأخيرة سقف ذلك الكوخ البالي ليرى النجوم من وراء الغيوم ثم قال:
تعالي أيتها المنية الجميلة فقد اشتاقتك نفسي، اقتربي وحلي قيود المادة فقد تعبت من جرها، تعالي إلي يا أيتها المنية الحارة وأنقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريبا عنهم لأني أترجم ما أسمعه من الملائكة إلى لغة البشر، أسرعي نحوي فقد تخلى عني الإنسان وطرحني في زوايا النسيان لأني لم أكن طامعا بالمال نظيره، ولا باستخدام من هو أضعف مني، تعالي إلي أيتها المنية العذبة وخذيني فأولاد بجدتي لا يحتاجوني، ضميني إلى صدرك المملوء محبة، قبلي شفتي التي لم تذق طعم قبلة الوالدة ولا لمست وجنة الأخت ولا لثمت ثغر المحبوبة، أسرعي وعانقيني يا حبيبتي المنية.
انتصب إذ ذاك بجانب فراش المنازع طيف امرأة ذات جمال غير بشري، ترتدي ثوبا ناصعا كالثلج، وتحمل بيدها إكليل زنابق من نبت الحقول العلوية، ثم دنت منه وعانقته وأغمضت عينيه كي يراها بعين نفسه، وقبلت شفتيه قبلة محبة، قبلة تركت على شفتيه ابتسامة اكتفاء.
في تلك الدقيقة أصبح ذلك البيت خاليا إلا من التراب وبعض أوراق منثورة في زوايا الظلمة.
مرت الأجيال وسكان تلك المدينة غرقى في سبات الجحود والإهمال، ولما استفاقوا ورأت عيونهم فجر المعرفة أقاموا لذلك الشاعر تمثالا عظيما في وسط الساحة العمومية، وعيدوا له في كل عام عيدا، آه ما أجهل الإنسان!
بنات البحر
في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس، هنالك في الأعماق حيث الدر الكثير، جثة فتى هامدة بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية، قد جلسن بين بنات المرجان ينظرن إليها بعيونهن الزرقاء الجميلة، ويتحدثن بأصوات موسيقية حديثا سمعته اللجة فحملته الأمواج إلى الشواطئ فجاء به النسيم إلى نفسي.
قالت واحدة: «هذا بشري هبط بالأمس إذ كان البحر حانقا».
فقالت الثانية: «لم يكن البحر حانقا ولكن الإنسان - وهو الذى يدعي بأنه من سلالة الآلهة - كان في حرب حامية أهرقت فيها الدماء حتى صار لون الماء قرمزيا، وهذا البشري هو قتيل الحرب».
نامعلوم صفحہ