غابا عن بصري وأنا أفكر بمنزلة المال عند الحب، أفكر بالمال مصدر شرور الإنسان وبالحب منبع السعادة والنور.
ظللت تائها في مسارح هذه الأفكار حتى لمحت شبحين مرا من أمامي وجلسا على الأعشاب، فتى وفتاة أتيا من جهة الحقول حيث أكواخ الفلاحين في المزارع، وبعد هنية من سكينة مؤثرة سمعت هذا الكلام صادرا مع تنهدات عميقة من فم مصدور: «كفكفي الدمع يا حبيبتي، إن المحبة التي شاءت ففتحت أعيننا وجعلتنا من عبادها تهبنا نعمة الصبر والتجلد، كفكفي الدمع وتعزي لأننا تحالفنا على دين الحب، ومن أجل الحب العذب نحتمل عذاب الفقر ومرارة الشقاء وتباريح الفراق، ولا بد لي من مصارعة الأيام حتى أظفر بغنيمة تليق بأن أضعها بين يديك تساعدنا على قطع مراحل العمر، إن المحبة يا حبيبتي - وهي الله - تقتبل منا هذه التنهدات وهذه الدموع كبخور عاطر، وهي تكافئنا عليها بقدر ما نستحق، أودعك يا حبيبتي فأنا راحل قبل أن يغيب القمر».
ثم سمعت صوتا رقيقا تقاطعه زفرات أنفاس ملتهبة، صوت عذراء لطيفة أودعته كل ما في جوارحها من حرارة الحب ومرارة التفرق وحلاوة التجلد تقول: «الوادع يا حبيبي».
ثم افترقا وأنا جالس تحت أغصان تلك الشجرة تتجاذبني أيدي الشفقة وتتساهمني أسرار هذا الكون الغريب.
ونظرت تلك الساعة نحو الطبية الراقدة، وتأملت مليا فوجدت فيها شيئا لا حد له ولا نهاية، شيئا لا يشترى بالمال، وجدت شيئا لا تمحوه دموع الخريف ولا يميته حزن الشتاء، شيئا لا توجده بحيرات سويسرا ولا متنزهات إيطاليا، وجدت شيئا يتجلد فيحيا في الربيع ويثمر في الصيف، وجدت فيها المحبة.
رؤيا
هناك في وسط الحقل على ضفة جدول بلوري رأيت قفصا حبكت ضلوعه يد ماهرة، وفي إحدى زوايا القفص عصفور ميت، وفي زاوية أخرى جرن جف ماؤه وجرن نفدت بذوره.
فوقفت وقد امتلكتني السكينة، وأصغيت صاغرا كأن في الطائر الميت وصوت الجدول عظة تستنطق الضمير وتستفسر القلب، وتأملت فعلمت أن ذلك العصفور الحقير قد صارع الموت عطشا وهو بجانب مجاري المياه وغالبه جوعا وهو في وسط الحقول التي هي مهد الحياة، كغني أقفلت عليه أبواب خزائنه فمات جوعا بين الذهب.
وبعد هنيهة رأيت القفص قد انقلب فجأة وصار هيكل إنسان شفافا، وتحول الطائر الميت إلى قلب بشري فيه جرح عميق يقطر دما قرمزيا، وقد حاكت جوانب الجرح شفتي امرأة حزينة.
ثم سمعت صوتا خارجا من الجرح مع قطرات الدماء قائلا: «أنا هو القلب البشري أسير المادة، وقتيل شرائع الإنسان الترابي في وسط حقل الجمال، على ضفة ينابيع الحياة أسرت في قفص الشرائع التي سنها الإنسان للشواعر، على مهد محاسن المخلوقات بين أيدي المحبة مت مهملا؛ لأن ثمار تلك المحاسن ونتاج هذه المحبة قد حرما علي كل ما يشوقني، صار كل ما يشوقني بعرف الإنسان عارا، وجميع ما أشتهيه أصبح في قضائه مذلة.
نامعلوم صفحہ