عثمان بن عفان: بين الخلافة والملک
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
اصناف
هذه رواية الطبري. أما البلاذري فيذكر أن عثمان لم يكتف بالكتابة إلى معاوية حين استمده حبيب بن مسلمة الفهري، بل كتب كذلك إلى سعيد بن العاص الأموي فأمده بجيش من الكوفة عليه سلمان بن ربيعة الباهلي، وأن سلمان سار في ستة آلاف رجل مددا للحبيب. لكن حبيبا قاتل الروم قبل أن يبلغه سلمان وظفر بهم ظفرا دل على حيلته وشجاعته. قالت له امرأته حين فكر في مهاجمتهم: «أين موعدك؟» قال: «سرادق الطاغية أو الجنة.» فلما انتهى إلى السرادق وجدها عنده. فلما بلغه سلمان وقد فرغ من عدوه أراد أهل الكوفة أن يكون لهم نصيب في الغنيمة، فأبى عليهم أهل الشام ما أرادوا، وتوعد بعضهم سلمان بالقتال فقال جندي من أهل الكوفة:
فإن تقتلوا سلمان نقتل حبيبكم
وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وهذه الرواية التي يذكرها البلاذري ويؤيدها يرويها الطبري وينسبها للواقدي للتوهين منها؛ لأن فتوح الشام المنسوب للواقدي مملوء بالخرافات وموضع شبهة من المؤرخين. كذلك يذكر البلاذري رواية الطبري التي أثبتنا من قبل ثم يقول: إن الخبر الذي رواه هو أثبت، ويذكر أسانيده.
ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في التفاصيل، فالروايات كلها تنتهي إلى أن أذربيجان ثارت وأن أرمينية أرادت معاضدتها فأخضع المسلمون أذربيجان وما والاها وساروا في أرمينية من جانب فارس ومن جانب الروم فاستولوا عليها، وإلى أن الروم خيل إليهم حين جاءتهم الأنباء بثورة أذربيجان وقيام أهل أرمينية أنهم قادرون على استرداد ما ضاع من هيبتهم ومن سلطانهم، فدحرهم المسلمون وردوهم على أعقابهم، وفتحوا من بلادهم ما لم يكونوا قد فتحوا من قبل. وقد حدث هذا كله في أول خلافة عثمان، فكان بالغ الأثر في رد السكينة إلى ربوع الشام وأقاليم فارس، وفي إعادة اليقين إلى أهل الأقاليم المفتوحة بأن مقتل عمر واستخلاف عثمان لم يوهن من بأس المسلمين ولم يضعف من شوكتهم.
يجب مع ذلك أن نقف وقفة قصيرة نذكر أثناءها ما حدث من خلاف على اقتسام الغنائم بين أهل الكوفة وأهل الشام، وما أدى إليه هذا الخلاف من تهديد هؤلاء وأولئك بعضهم لبعض. لقد حدث مثل هذا الخلاف في عهد عمر. لكنه لم يؤد إلى أي تهديد. أفكانت هذه ظاهرة جديدة للعهد الجديد. أم كانت مظهرا لشعور أصيل في نفس من استوطنوا العراق ومن استوطنوا الشام كان له من بعد أثره؟ لا نريد أن نسبق الحوادث بجواب على أي من هذين السؤالين. فما حدث من بعد في عهد عثمان وفي عهد علي كفيل بأن يفصح عن الجواب خير إفصاح. وحسبنا أن نذكر هنا أن الذين استوطنوا الشام من عرب شبه الجزيرة كانوا من المهاجرين والأنصار أهل مكة والمدينة، وأن الذين استوطنوا البصرة والكوفة قد جاءوا إليها من سائر أرجاء شبه الجزيرة، وأن المهاجرين والأنصار كان لهم على غيرهم من العرب فضل السبق إلى الإسلام، ثم كان لسائر العرب من فضل الجهاد لإقامة الإمبراطورية الإسلامية ما لا يقل عما كان للمهاجرين والأنصار وإن لم يزد عليه.
ترى هل أذعن الروم بعد هزيمتهم فلم يفكروا في مناجزة المسلمين؟ هل كفاهم ما أصابهم بالشام وبأرمينية؛ ليقنعوا بما بقي لهم في الأناضول وفي البلقان وفي إفريقية؟ لعلهم كانوا يفعلون لو لم يكونوا يعتزون بما لهم على البحر من قوة ليس للعرب مثلها، ولو لم تغرهم الإسكندرية بالوثوب إليها على متن الماء، وقد ظنوا أنهم قادرون على استرجاعها واسترجاع مصر منها.
فقد فتح عمرو بن العاص مصر، وأجلى الروم عنها، واستقرت له ولايتها في عهد عمر. وكانت سياسته فيها أن يتألف أهلها بتخفيف الضرائب وبتركهم أحرارا في عقيدتهم، وترك المناصب الإدارية لأبناء البلاد وللروم الذين آثروا البقاء بها على الهجرة إلى وطنهم الأول. على أن هذه السياسة التي أرضت المصريين في مجموعهم أغضبت أهل الإسكندرية. فقد كان لهؤلاء من الامتيازات قبل الفتح العربي ما أعفاهم من كثير من الضرائب. فلما سوى القائد العربي بينهم وبين غيرهم وفرض عليهم ما فرضه على غيرهم أحفظ ذلك قلوبهم، وهيأ للروم الذين لم يغادروا عاصمة الإسكندرية فرصة التأليب على المسلمين وإثارة النفوس بحكمهم. ولم يدر بخلد عمرو أن يؤدي ما قد يحدث من ذلك إلى فتنة أو انتفاض؛ لذلك أبقى للإسكندرية حصونها المنيعة، ولم يبق بها من جنده غير حامية لا تزيد على الألف تحفظ النظام فيها وتفرض سلطان المسلمين عليها. فلما استقر الأمر في بلاد القسطنطينية كاتب الروم المقيمون بالإسكندرية عاهل بيزنطة، وأوحوا إليه أنه قادر إذا بعث إليهم السفن تحمل الجنود من غير أن يفطن المسلمون إلى ما يصنع أن يأخذ المدينة على غرة، وأن يتحصن بها، ثم يسير منها إلى أرجاء مصر فيعيد فتحها، ويسترد هذا الإقليم الغني الذي أمتع رومة ثم أمتع بيزنطة بخيره الوفير.
لم تبلغ هذه الأنباء عمرا لأن الروم كتموها؛ ولأن ابن العاص كان في شغل عنها بما كان بينه وبين عمر من خلاف استفحل حتى اتهم عمر عمرا بأنه يفيد لنفسه من خراج مصر؛ ولذا بعث إلى مصر محمد بن مسلمة يقاسمه ماله، وكان عمر موشكا أن يعزل عمرا لولا أنه قتل. ولم يكن عثمان خيرا من عمر رأيا في ابن العاص. ولعله لم ينس ما قاله فيه منذ أربع سنوات حين سار لفتح مصر؛ لذلك أضفى على عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخيه في الرضاع، عطفا أثار نفس عمرو وأحفظ قلبه. وكان عبد الله بن سعد عاملا بمصر عينه ابن الخطاب تحت إمرة عمرو بن العاص. وأوجس عمرو خيفة أن يقدم عثمان ابن أبي سرح وأن يمد في سلطانه، فزاده ذلك انصرافا عن التفكير في أمر الإسكندرية، فلم يبلغه شيء من أنباء الروم وأفاعيلهم بها؛ وبخاصة لأن الروم كتموا ذلك أشد الكتمان.
لا أريد بالحديث عن عمرو في هذا المقام أن اتهمه بالتقصير. فسلطانه بمصر في هذه الفترة من الزمن يحيطه أشد الإبهام. قيل: إن عمر بن الخطاب إنما ولى عبد الله بن سعد ليضعف من سلطان عمرو؛ لذلك أسند إليه حكم الصعيد والفيوم وجعل له جباية الخراج. فلما بويع عثمان عزل عمرا وجعل ولاية مصر كلها لعبد الله بن سعد. ويذهب البعض من أصحاب هذه الرواية إلى أن عمرا غادر مصر إلى مكة عقب عزله، ويذهب البعض الآخر إلى أنه ظل مقيما بمصر رغم عزله. وفي رواية أخرى أن عثمان لم يعزل عمرا، لكنه مد في سلطان عبد الله بن سعد وأظهر عطفه الشديد عليه.
نامعلوم صفحہ