عثمان بن عفان: بين الخلافة والملک
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
اصناف
1 - حديث الشورى وبيعة عثمان
2 - عثمان بين أمسه وغده
3 - الفتح في عهد عثمان
4 - حكومة عثمان
5 - نهاية عثمان
1 - حديث الشورى وبيعة عثمان
2 - عثمان بين أمسه وغده
3 - الفتح في عهد عثمان
4 - حكومة عثمان
5 - نهاية عثمان
نامعلوم صفحہ
عثمان بن عفان
عثمان بن عفان
بين الخلافة والملك
تأليف
محمد حسين هيكل
«أصدق أمتي حياء عثمان» (حديث شريف).
الفصل الأول
حديث الشورى وبيعة عثمان
كانت شبة جزيرة العرب، أول ما قام النبي العربي داعيا إلى الإسلام، مقسمة بين قبائل مستقلة بعضها عن بعض، متفاوتة في درجات الحضر والبداوة، تعيش في صراع دائم ونزاع مستمر، يخضع أكثر أرجائها رخاء لسلطان الفرس أو نفوذ الروم. فلما اختار رسول الله الرفيق الأعلى بعد ثلاث وعشرين سنة من بعثه كان نفوذ الفرس والروم قد تقلص عن شبه الجزيرة، ودخلت القبائل العربية في دين الله أفواجا. واستخلف أبو بكر فحارب العرب الذين ارتدوا عن الإسلام وردهم إليه؛ فبدأت الوحدة الدينية والسياسية تنتظم شبه الجزيرة. عند ذلك مهد أبو بكر لقيام الإمبراطورية الإسلامية بغزو العراق والشام، لكن الأجل لم يمهله ريثما يتم ما بدأه.
واستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب فتابع سياسة الصديق، فاندفعت جيوش المسلمين من شبه الجزيرة إلى أراضي الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، فقضت على الإمبراطورية الفارسية، وانتزعت من الدول الرومانية أبرز ولاياتها. وامتدت الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر من الصين شرقا إلى ما وراء برقة غربا، ومن بحر قزوين في الشمال إلى بلاد النوبة في الجنوب، واشتملت فارس والعراق والشام ومصر. بذلك ضمت الدولة العربية أمما متباينة أشد التباين في كل مقوماتها، إذ كانت كل أمة منها تختلف عن غيرها في اللغة والجنس، والعقيدة والحضارة، والبيئة الاجتماعية والبيئة الاقتصادية. ولكن سرعان ما انتشر الإسلام بين هذه الأمم، وأصبح الدين الجديد الرابطة التي تربط بينها، كما نجح العرب في صبغ الأمصار المفتوحة بصبغة عربية.
نامعلوم صفحہ
وانتهى قيام الإمبراطورية في عهد عمر بمقتله. فقد ائتمر بحياته فارسيان، ونصراني من نصارى الحيرة. أما الفارسيان فهما الهرمزان، وأبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة. وأما النصراني الحيري فجفينة . وكان الهرمزان من قواد الفرس الذين شهدوا الغزوة الكبرى بالقادسية وانهزموا فيها. وقد فر بعدها إلى الأهواز وجعل يغير منها على قوات المسلمين التي تجاورها في العراق العربي. وظل دأبه حتى أمر عمر جنوده بالانسياح في بلاد فارس، فحاصر المسلمون الهرمزان «بتستر» وجاءوا به أسيرا إلى المدينة، وهناك دار بينه وبين عمر حوار أيقن الأمير الفارسي معه أن لا نجاة له من القتل إلا أن يسلم، فأسلم فأنزله عمر المدينة وفرض له ألفي دينار كل عام.
وكان فيروز فارسيا قاتل المسلمين في غزوة نهاوند، فأسر ثم وقع في ملك المغيرة بن شعبة. وكان نقاشا نجارا حدادا. ولعل النصل الذي طعن به عمر كان من صنع يده، وعمله في جند فارس هو الذي دعا المؤتمرين فاختاروه لتنفيذ مؤامرتهم.
أما جفينة فكان من نصارى الحيرة، وكان ظئرا لسعد بن مالك أقدمه إلى المدينة للملح الذي كان بينه وبينهم؛
1
لذلك غضب سعد حين قتله عبيد الله بن عمر بعد مقتل أبيه وكاد يقوم بينهما ما لا تحمد عواقبه.
لهذه المؤامرة دلالة أيدتها الحوادث من بعد. ودلالتها أن بعض الأمم التي فتحها المسلمون في عهد عمر لم تكن راضية عن المصير الذي انتهت إليه، وأن نفوس بعض أهلها كانت ثائرة به. والدلالة أكثر وضوحا؛ لأن هؤلاء الذين ائتمروا بعمر فقتلوه كانوا موضع حمايته بالمدينة، وكان رأسهم الهرمزان موضع الرضا من عمر عنه والعطف عليه، حتى كان يستشيره ويجعل له بالمدينة مثل مكانه بين قومه. أما وقد ائتمر مع ذلك بعمر فأحرى بغيره من الفرس المقيمين في وطنهم يحكمهم العرب فيه أن تتأجج الثورة في صدورهم، وإن بقيت مكبوتة بقوة السلطان الأجنبي المتسلط على البلاد.
وقد كشف مقتل عمر في بلاد العرب نفسها عن ظاهرة لم تكن لتوجد، لولا قيام الدولة العربية الإسلامية؛ فمنذ طعن أبو لؤلؤة عمر تولى المسلمين الفزع إشفاقا على مصيرهم، وجعلوا يفكرون فيمن يخلفه إذا قضى الله فيه بقضائه. وتحدث قوم إلى عمر في هذا الأمر وطلبوا منه أن يستخلف. وتردد عمر بادئ الأمر وقال: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني.» لكنه خشي بعد إعمال الفكر أن يضطرب الأمر إذا تركه رسلا. فقد اشترك العرب جميعا في محاربة الفرس والروم وأصبح لكل قبيلة أن تزعم لنفسها ما للمهاجرين والأنصار من حق الاشتراك في اختيار الخليفة، وقد يذهب بعضها إلى ادعاء الحق في ترشيح زعيمها لمقام الخلافة. وفي هذا الادعاء من الخطر على الإمبراطورية الناشئة ما لم يفت عمر؛ لذلك لم يلبث أن جعل الخلافة من بعده شورى في ستة يختارون أحدهم لها. وهؤلاء الستة هم: «عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص».
فلما عينهم بأسمائهم قال: «لا أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض، فأيهم استخلف فهو الخليفة من بعدي.»
نامعلوم صفحہ
واختيار عمر هؤلاء الستة يقف النظر. فليس بينهم واحد من أنصار المدينة ولا من غيرهم من قبائل العرب. بل هم جميعا من المهاجرين ومن قريش. مع ذلك لم يثر اختيار عمر إياهم ثائرة الأنصار ولا ثائرة غيرهم من العرب الذين أقبلوا أفواجا إلى المدينة بعد فريضة الحج، وظلوا بها بعد مقتل عمر حتى بايعوا خليفته. واطمئنان الأنصار وغيرهم من العرب إلى اختيار عمر هؤلاء الستة يعيد إلى الذاكرة ما حدث في سقيفة بني ساعدة إثر وفاة النبي، وحين كان جثمانه لا يزال في بيته لما يثو في قبره؛ فقد أراد الأنصار أن يكون الأمر لهم بعد رسول الله، وكان أكثرهم اعتدالا من يقول: «منا أمير ومن قريش أمير.» فلما قدم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى السقيفة يجادلون الأنصار فيما يطلبونه لأنفسهم كان مما قاله أبو بكر: «نحن المهاجرون، وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء وأنصارنا على العدو. أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعا. فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش؛ فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.»
أصبحت هذه الكلمة دستور الخلافة والحكم بين المسلمين قرونا حسوما منذ قالها أبو بكر؛ لذلك لم يعترض أحد استخلاف أبي بكر عمر، ولم يعترض أحد اختيار عمر الشورى بين هذا الحي من قريش، بل اطمأن له الأنصار واطمأن له العرب جميعا، وتركوا للستة أن يختاروا من بينهم من يرضونه خليفة لجماعة المسلمين.
لماذا ترك عمر الخلافة لاختيار الشورى ولم يستخلف واحدا بعينه من الستة الذين عينهم متأسيا بأبي بكر حين استخلفه؟
تجري بعض الروايات بأن سعد بن زيد بن عمر قال لعمر: «إنك لو أشرت برجل من المسلمين ائتمنك الناس.» فأجاب عمر: «إني قد رأيت من أصحابي حرصا سيئا.» وهذا الجواب يشهد بأنه خشي إن هو استخلف واحدا بذاته أن يدفع الحرص غيره إلى منافسته، فلا تجتمع كلمة المسلمين فيثور بينهم خلاف تخشى مغبته. ويرى بعضهم أن عمر لم ير واحدا من الستة أفضل من سائرهم، فلم ير أن يحمل أمام ربه وزر مشورة لا يطمئن إليها قلبه كل الاطمئنان. أم تراه خشي حين طعن أن يسرع إليه حينه قبل أن يجمع كلمة المسلمين على واحد منهم، فترك الأمر للشورى يتمون ما لم يجد هو فسحة من الوقت لإتمامه. هذه كلها فروض يتعذر على المؤرخ أن يرجح أحدها، وإن وجب أن يضاف إليها ما روي عن عمر أنه قال: «لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولي أبي حذيفة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله تعالى.» أفتعني هذه العبارة أنه كان يفضل أبا عبيدة وسالما على الستة الذين جعل الشورى فيهم، وأن هؤلاء الستة كانوا عنده سواء؟
على أنك تستطيع أن تجد تأويلا آخر لتصرف عمر؛ ذلك أنه لم يرد أن يلقي على أحد هؤلاء الستة عبء الخلافة وقد بلا من ثقله ما أجهده. روي أنه قال لعبد الرحمن بن عوف أول ما أفاق من طعنته: «إني أريد أن أعهد إليك» قال عبد الرحمن: «يا أمير المؤمنين إن أشرت علي قبلت منك.» فسأله عمر: «وما تريد؟» قال عبد الرحمن: «يا أمير المؤمنين أنشدك الله، أتشير علي بذلك؟» وأجابه عمر: «اللهم لا.» وكانت كلمة عبد الرحمن بعد هذه المشورة أن قال: «والله لا أدخل في هذا أبدا.» فقال عمر: «فهب لي صمتا حتى أعهد إلى النفر الذي توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض.»
أيا ما يكون الدافع الذي منع عمر من أن يستخلف، وجعله يسمي الشورى ليختاروا الخليفة من بينهم، فقد دلت الحوادث من بعد على صدق رأيه.
فقد اجتمع أصحاب الشورى لأول ما سماهم فإذا هم يختلفون، فيقول لهم عبد الله بن عمر: «أفتؤمرون وأمير المؤمنين حي؟» وسمع عمر هذه العبارة فناداهم: «أمهلوا، فإن حدث بي فليصل بكم صهيب
2
نامعلوم صفحہ
ثلاث ليال، ثم أجمعوا أمركم، فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.» ثم إنه دعا إليه أبا طلحة الأنصاري، وكان من الشجعان المعدودين فقال له: «يا أبا طلحة. كن في خمسين من قومك الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحدا يدخل عليهم، ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم. اللهم أنت خليفتي عليهم.»
قبض عمر وآن للشورى أن يجتمعوا ليختاروا أحدهم خليفة على المسلمين. واجتمعوا وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم ولم يرضوا أن يجلس المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص بالباب، بل حصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما وقال لهما: «تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى.» وبدءوا يتشاورون فما لبثوا أن اشتد بينهم الجدل، وارتفعت منهم الأصوات ارتفاعا دل أبا طلحة الأنصاري على شدة اختلافهم. فدخل عليهم وقال لهم: «إني كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها. والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم ، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون.»
كيف اشتجر الخلاف بين القوم وبلغ هذه الحدة، وكلهم من كبار صحابة رسول الله ومن أحسن المسلمين إيمانا بالله ورسوله؟
لقد رأينا ما شجر من خلاف بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة يسرع إلى تسليم الأنصار بحق قريش في الخلافة. وكان أبو بكر يومئذ جالسا بين عمر وأبي عبيدة. فأخذ بيد كل منهما وقال لمن حوله: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة - فأيهما شئتم فبايعوا.» وسمع عمر هذا الكلام فقال: «ابسط يدك يا أبا بكر»، وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وبايعه أبو عبيدة وبايعه الحاضرون جميعا خلا سعد بن عبادة زعيم الأنصار. وأصبح أبو بكر خليفة رسول الله في حكم الدول العربية الإسلامية، حتى إذا حضرته الوفاة لم يجد مشقة ذات بال في جمع كلمة المسلمين على استخلاف عمر.
ألم يكن للشورى في هذين الموقفين عبرة تسمو بهم على الاختلاف، وتدعوهم للاتفاق على من يبايعه المسلمون منهم على الخلافة؟
والواقع أن الأحوال التي أحاطت بالشورى كانت مختلفة كل الاختلاف عما أحاط بالمهاجرين والأنصار يوم السقيفة، وعما أحاط بالمسلمين يوم استخلف أبو بكر عمر. فيوم توفى الله رسوله كانت شبه الجزيرة ولما تلتئم وحدتها، وكانت أنباء المستنبئين في بني أسد وفي بني حنيفة وفي اليمن ذائعة يعرفها المهاجرون والأنصار، وكان الخوف من انتفاض العرب على الدين الجديد وعلى سلطان المدينة يساور النفوس، فكان ذلك كله واضح الأثر في جمع كلمة المجتمعين بالسقيفة. وزاد كلمتهم إسراعا إلى الاجتماع أن رسول الله كان قد أمر ببعث أسامة بن زيد على رأس جيش يواجه الروم، فزادهم ذلك تقديرا لدقة الموقف وجسامة التبعة التي يحملها من يقوم في خلافة رسول الله، ولم يكن المهاجرون ولا كان الأنصار قد عرفوا يومئذ من إغراء الفيء، ومن تدفقه على المدينة ما يجعلهم يرون الخلافة مغنما؛ لذلك كان الجدل بينهم دائرا حول دين الله ونصرته ومن يجب أن يخلف رسول الله فيها. أما ما وراء ذلك من شئون الملك وسلطانه فلم يكن يدور بخواطرهم إلا لماما. وكأنما استمسك الأنصار أول الأمر بحقهم في الاستئثار بالخلافة أو بالاشتراك فيها؛ لأن المدينة مدينتهم؛ ولأن المهاجرين طارئون عليهم فيها فهم أحق الناس بولاية أمرها وتدبير شئونها. فلما تبين لهم من محاورات السقيفة أن الأمر ليس أمر المدينة وحدها، ولكنه أمر الدين الناشئ أقروا بما للسابقين الأولين إلى هذا الدين وإلى صحبة رسول الله من حق في خلافته.
ويوم استخلف أبو بكر عمر كانت جيوش المسلمين بالعراق والشام تلقى الفرس والروم وتقف منهم موقف المدافع، ولا يعلم أحد ما يصير إليهم الأمر. بل لقد تثاقل المسلمون عن الذهاب إلى العراق ينصرون المثنى بن حارثة فيه، وأقاموا ثلاثة أيام لا يلبي أحد منهم دعوة عمر فزعا من الفرس وهيبة لهم. وليس حمل التبعة في هذا الموقف الدقيق مما يتنافس فيه المتنافسون يحاول كل أن يستأثر به لنفسه. وتقدير أبي بكر دقة هذا الموقف هو الذي دعاه لاستخلاف عمر؛ لأنه رآه أصلب أصحابه عودا وأقدرهم على متابعة سياسة لا بد لنجاحها من صلابة كصلابة عمر وعزم كعزمه. ورضي المسلمون خلافة عمر مع علمهم بشدته وغلظته، ولم ينافسه في هذه الخلافة أحد؛ لأنهم كانوا مشفقين من حرب الفرس والروم، تساورهم الحشية ألا يكتب الظفر للمسلمين الذين يواجهونهم، وأن يترتب على ذلك من النتائج ما تخشى عواقبه. فلما تولى عمر نجح في سياسة التوسع والفتح، فأقام الإمبراطورية الإسلامية وجعل من المدينة عاصمة العالم، ومن بلاد العرب الدولة الكبرى ترنو إليها أنظار الأمم جميعا من كل صوب، وتتدفق إليها الأموال من أرجاء الإمبراطورية أكداسا، فلا يدري عمر أيعدها عدا أم يكيلها كيلا، تبدلت الحال غير الحال ولم يبق عجبا أن يختلف الشورى، وأن يشتد بينهم الخلاف يريد كل منهم أن تكون الخلافة له.
وثم عامل آخر أثار الخلاف، ثم كان عميق الأثر في حياة الدولة من بعد. ذلك هو تنافس القبائل من قريش تنافسا كان قويا واضح الأثر في الجاهلية، فلما بعث النبي ودعا إلى المساواة وإلى الحق وإلى العدل المجرد عن الهوى كمن هذا التنافس في حياة الرسول، ثم بدأ يظهر عقب وفاته ولكن على استحياء. فلما انقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر ورأى العرب استعلاءهم على الفرس والروم برزت العصبية للقبيلة كرة أخرى، وعاد الناس يذكرون ما كان في الجاهلية من تنافس بين بني هاشم وبني أمية، وما كان لغيرها من القبائل من المكانة بمكة تدعوها جميعا إلى التنابذ والتناحر.
ويرجع التنافس بين بني هاشم وبني أمية إلى أكثر من مائة سنة قبل مولد النبي، فقد اجتمعت مناصب البيت الحرام كلها إلى قصي بن كلاب، وأقر أهل مكة بإمارته عليهم في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد. وكان لقصي ثلاثة بنين هم عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى، فلما كبر قصي وعجز عن الاضطلاع بالأمر جعل إمارة مكة ومناصب البيت الحرام لعبد الدار أكبر بنيه، وكان بنو عبد مناف أشرف في قومهم وأعظم مكانة. وكانوا أربعة هم: عبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب، وأغرتهم قوتهم بأن أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عمومتهم. وانقسمت قريش حلفين: حلف المطيبين ينصر بني عبد مناف، وحلف الأحلاف ينصر بني عبد الدار. ثم تداعى القوم إلى الصلح، فجعلوا لبني عبد مناف السقاية والرفادة،
3
نامعلوم صفحہ
ولبني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة.
وكان هاشم أكبر إخوته فولي السقاية والرفادة. فلما تقدمت به السن خيل لابن أخيه أمية بن عبد شمس أنه قدير على منافسته بأن يطعم قريشا في موسم الحج مثلما يطعمها هاشم، لكنه عجز فعيره الناس بعجزه، فخرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين. يقول المقريزي: «فكان هذا أول عداوة بين بني هاشم وبني أمية.»
4
بقيت هذه العداوة يرثها الأبناء عن الآباء. كانت العرب تحترم الجوار، فإذا أجار العربي رجلا أصبح بمأمن من أن يعتدي عليه أحد. وكان هذا عرفا محترما بينهم كل الاحترام. مع ذلك آذى حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم جد النبي في يهودي كان في جوار عبد المطلب، فما زال حرب بن أمية يغري به حتى قتله وأخذ ماله .
وظل التنافس متصلا بين بني أمية وبني هاشم، فلما بعث النبي كان بنو أمية أشد الناس عداوة له وتأليبا عليه، وكانت منافستهم بني هاشم أكبر باعث لهم على ذلك.
تجسس سليمان بن حرب والأخنس بن شريق وأبو الحكم بن هشام على الرسول ثلاث ليال، فسمعوا من وراء حجاب ما يتلو محمد من القرآن. وذهب الأخنس إلى أبي جهل في بيته وسأله: «يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟» فكان جواب أبي جهل: «ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!»
وكان أبو سفيان بن حرب بن أمية زعيم الذين حاربوا محمدا. كان ذلك دأبه ومحمد بمكة ثم ظل ذلك دأبه بعد أن هاجر رسول الله إلى المدينة. وحسبك أن تذكر أنه كان على رأس قريش في غزوة أحد. فلما انتصرت قريش صاح: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل.» وكان على رأس الأحزاب في غزوة الخندق، وكان قبل أحد وبعد الخندق يحرض على محمد ويدعو إلى قتله، فلما سار النبي لفتح مكة وخرج أبو سفيان ورأى أنه لا قبل لأهل مكة بلقاء المسلمين، استجار العباس بن عبد المطلب فأجاره وذهب به إلى ابن أخيه فسأل رسول الله أبا سفيان: أما آن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فكان جواب أبي سفيان: «بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء.»
5
ورأى بعد هذا الجواب أنه مقتول إن لم يسلم، فأسلم فرارا من القتل لا إيمانا بالله ورسوله، وبعد الفتح أسلم أهل مكة جميعا ومن بينهم بنو أمية، وكانوا أكثر قبائلها عددا وأعزها نفرا.
ولقد بقي التعصب للقبيلة آخذا بنفس أبي سفيان بعد إسلامه وإسلام بني أمية، وإن أعجزته قوة رسول الله وقوة الإسلام عن أن يبدي ما في نفسه، فلما توفي رسول الله وبويع أبو بكر ظن الفرصة سانحة لإلقاء بذور الفتنة. روي أنه أقبل بعد اجتماع البيعة لأبي بكر، وهو يقول:
نامعلوم صفحہ
والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، ثم نادى يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم ... أين المستضعفان، أين الأذلان علي والعباس؟ وأنشد يتمثل:
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
وتجمع الروايات التي أوردت هذا الحديث على أن عليا أبى أن يتابع أبا سفيان، وأنه قال له: إنك والله ما أردت بهذا إلا فتنة. وإنك والله طالما بغيت بالإسلام شرا. وقال له: طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئا، إني وجدت أبا بكر لها أهلا.
وقد اختلفت الروايات في موقف أبي سفيان من المسلمين بعد بيعة أبي بكر. فبعض يذهب إلى أنه حسن إسلامه وأنه كان يحض المسلمين بالشام على قتال الروم. وقد يؤيد هذه الرواية أن ابنيه يزيد ومعاوية كانا على رأس الجند بالشام، فلما مات يزيد جعل عمر بن الخطاب إمارة الشام لمعاوية. ويذهب البعض إلى أن أبا سفيان كان يظهر غير ما يبطن وأنه كان كهفا للمنافقين، فكان إذا رأى الروم ظهرت قال: إيه بني الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون تمثل بقول النعمان بن امرئ القيس بن أوس - أحد ملوك الحيرة:
بنو الأصفر الملوك الر
وم لم يبق منهم مذكور
فلما فتح الله على المسلمين وحدث الزبير بن العوام بحديث أبي سفيان قال: قاتله الله، أيأتي إلا نفاقا؟ أولسنا خيرا من بني الأصفر؟
والراجح أن الرواية الأخيرة مما وضعه الدعاة لبني العباس من بعد. فليس طبيعيا أن يتعصب أبو سفيان للروم على قومه العرب وابناه على رأس القوات التي تقاتل الروم. وربما كان من وضع هؤلاء الدعاة كذلك ما روي عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان بن عفان حين صارت الخلافة إليه، فقال له: «قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتارها بني أمية»، فصاح به عثمان: «قم عني!»
لكنا إن استطعنا أن نرجح كذب الرواية الأولى بسبب مغايرتها لمنطق الأحداث، فلا نستطيع أن نرجح كذب الرواية الثانية، وقد كان أبو سفيان متعصبا لقومه بني أمية أشد التعصب.
نامعلوم صفحہ
على أن هذا التنافس بين بني هاشم وبني أمية لم يمنع قوما من قرابة رسول الله الأدنين أن يناصبوه العداوة؛ لأنه طعن في دينهم وعاب ما كان يعبد آباؤهم. كان عمه أبو لهب وامرأته حمالة الحطب يؤذيانه أكثر مما كان يؤذيه بنو أمية وسائر قريش. وبقي عمه أبو طالب على دينه مع منعه النبي بكل ما كان له في مكة من جاه وأيد. وإنما أسلم عمه حمزة تعصبا لابن أخيه حين رأى أبا جهل يسب محمدا ويؤذيه. ولم يسلم عمه العباس حتى سار جيش المسلمين لفتح مكة.
لم يكن ذلك من أعمام محمد عجبا يؤاخذهم مؤاخذ به. فللعقائد سلطان على النفس يمسك الأكثرون معه عن مناقشة ما وجدوا عليه آباءهم، لمعرفة ما يحتويه من حق وما يشوبه من باطل، والأقلون الذين أنار الله بصائرهم هم الذين يهديهم الله إلى الحق عن بينة، فلا يتعصبون لباطل متى تبينوا الحق فأضاء آمالهم بنوره. هؤلاء لا تمنعهم عصبية لقبيلة ولا لجنس ولا لعقيدة عن أن يقبلوا على الحق متى دعوا إليه، فإذا اقتنعوا آمنوا به وأصبحوا من أكبر دعاته. كان ذلك شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، لم يكن أحد هؤلاء الصحابة من بني هاشم. وكان عثمان بن عفان من بني أمية، فهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. وكان أبو بكر أول رجل أسلم حين دعاه رسول الله بعد بعثه إلى الإسلام. وأذاع أبو بكر بين أصحابه دعوة الحق فتابعه هؤلاء الخمسة وعثمان على رأسهم، ودخلوا في دين الله وآمنوا بالله ورسوله. وهؤلاء الخمسة الذين سبقوا إلى الإسلام واستمسكوا به وحاربوا في سبيله ومات رسول الله وهو عنهم راض، هم الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى فيهم، وجعل معهم علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وختنه على ابنته فاطمة. ذلك أن عليا كان أول من أسلم من بني هاشم ثم حضر الغزوات كلها مع رسول الله.
وكانوا لسبقهم إلى الإسلام وصحبتهم رسول الله ذوي مكانة بين المسلمين. وكان لبعضهم برسول الله صلة قرابة أو رحم زادتهم قربا من قلوب الناس. وكان علي بن أبي طالب أقربهم رحما برسول الله وأكثرهم به صلة. وكان ابن عمه أبي طالب بن عبد المطلب، وأبو طالب هو الذي كفل محمدا صبيا بعد وفاة جده عبد المطلب، وهو الذي منعه من قريش بعد بعثه حين بالغت قريش في إيذائه؛ لذلك كفل رسول الله عليا في صباه فوفى بذلك لعمه أبي طالب خير وفاء. ومقام علي مع ابن عمه هو الذي جعله أول من أسلم من الصبيان، أسلم ولما يبلغ الحلم. فلما شب زوجه رسول الله ابنته فاطمة، فكانت معه إلى أن توفيت بعد أبيها بستة أشهر؛ وفاطمة هي أم الحسن والحسين ابني علي.
يلي الزبير بن العوام عليا في القرابة من رسول الله. فأمه صفية بنة عبد المطلب عمة محمد، وهو ابن العوام بن خويلد أخي خديجة أم المؤمنين. وقرابته هذه دفعته فأسلم، وهو ابن ست عشرة سنة ثم لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله، وذلك بعد أن هاجر الهجرتين جميعا إلى الحبشة فرارا إلى الله بدينه من أذى قريش. وقد بايع رسول الله يوم أحد على العرب. فلما كان يوم الخندق ندب رسول الله من يأتيه بخبر الأحزاب الذين حاصروا المدينة، فانتدب الزبير فقال رسول الله: (إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير بن العوام). وكانت مع الزبير إحدى رايات المهاجرين الثلاث يوم فتح مكة. وكان الزبير إلى قوة شكيمته وشدة بأسه كريما في الناس عزيزا عليهم؛ لهذا أدناه رسول الله وبادله الحب، فلما خط الدور بالمدينة جعل له بقيعا واسعا وأقطعه نخلا. وقد أحبه أبو بكر وعمر كما أحبه رسول الله، فأقطعه الصديق الجوف، وأقطعه عمر العقيق أجمع.
لم يكن لعثمان بن عفان مثل هذه القرابة من رسول الله، فجده أبو العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الجد الخامس للنبي، لكنه كان ختن رسول الله على ابنتيه رقية وأم كلثوم، وكان رسول الله قد زوجهما قبل بعثه من ابني عمه أبي لهب، فلما بعث واشتدت عداوة أبي لهب له أمر ابنيه فسرحا ابنتي محمد. فتزوج عثمان رقية، فهاجرت معه الهجرتين إلى الحبشة، وبقيت معه إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة. وقبيل غزوة بدر مرضت فتخلف عثمان عن الغزوة بإذن رسول الله لتمريضها، فلم يغن عنها التمريض فماتت فزوج رسول الله عثمان أختها أم كلثوم، فبقيت معه سنوات ثم ماتت قبل أبيها. قال رسول الله يعزي عثمان: «لو أن لنا ثالثة زوجناك.» ذلك بأن عثمان كان رجلا صالحا لينا حسن المعاشرة كريما، فكان رسول الله يحبه أعظم الحب ويعرف له فضله ورجحان عقله وحسن إيمانه.
ولم يكن صهر عثمان إلى النبي هو وحده الذي أدناه من محمد وحببه إلى قلبه، بل إنه كان كذلك من السابقين الأولين إلى الإسلام، لم يصده عنه منافسة قومه بني أمية لبني هاشم. وقد أثار إسلامه غضب قومه عليه. أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطا وقال له: «تدع دين آبائك إلى دين محدث. والله لا أدعك أبدا حتى تدع ما أنت عليه.» وكان جواب عثمان: «والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه.» ورأى عمه صلابته في الحق وشدة استمساكه به فلم يجد بدا من إرساله.
واشتد به أذى قومه من بعد فهاجر إلى الحبشة الهجرتين جميعا، فلما هاجر بعد ذلك إلى المدينة لم يضن على المسلمين بالبذل من ماله الكثير لمعونتهم، بل اشترك بأوفر نصيب في تجهيز جيش العسرة إلى تبوك، واشترى بئر رومة من يهودي ليشرب منها المسلمون، وجعل رشاءه فيها كرشاء واحد منهم. وكان رسول الله قد بعثه سفيرا إلى قريش عام الحديبية. فلما طال مكثه عندهم وظن المسلمون أنه قتل بايع رسول الله أصحابه بيعة الرضوان لقتال قريش ،
6
وضرب بإحدى كفيه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه بمحضر مما حدث. وكان عثمان كاتبا من كتاب الوحي. لا جرم، وذلك قربه من رسول الله أن قد كان له بين المسلمين حظوة ومقام كريم.
أما سعد بن أبي وقاص فكان من بني زهرة أخوال النبي، هو سعد بن مالك بن وهيبب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. فهو قرشي زهري. وأمه هي بنت سفيان بن أمية. وقيل: بنت أبي سفيان بن أمية. وكان سعد من أسبق الناس إلى الإسلام. أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان ذا مال ونعمة يرتدي الخز ويلبس في يده خاتما من ذهب، شهد مع رسول الله الوقائع كلها، ووقف إلى جانبه ودافع عنه يوم أحد حين ولى الناس. وكان له من مواقف البطولة والإقدام ما جعل المسلمين يجمعون على اختياره لمواجهة الفرس في القادسية بعد نكبة أبي عبيدة بن مسعود الثقفي في غزوة القرقس. وكان لسبقه إلى الإسلام ولشدة تعلقه بالنبي ولبطولته وإقدامه من أحب الناس إلى رسول الله وأقربهم إلى قلبه؛ لذلك كان مما قاله له عمر بن الخطاب يوم ولاه إمارة الجيش الذاهب إلى القادسية: «يا سعد، سعد بنو وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله
نامعلوم صفحہ
صلى الله عليه وسلم
وصاحبه، فإن الله - عز وجل - لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، ليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم
منذ بعث إلى أن فارقنا يلزمه فالزمه، فإنه الأمر.»
7
وكان عبد الرحمن بن عوف كسعد بن أبي وقاص قرشيا زهريا من أخوال رسول الله. هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، وأمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، وهي لذلك وثيقة القربى من أبيه، وكان عبد الرحمن صهرا لعثمان بن عفان وابن عم لسعد بن أبي وقاص. وكان منذ نشأته تاجرا أمينا زادت أمانته ربح تجارته وجعلته موضع الثقة من الناس جميعا، وموضع الثقة من رسول الله منذ دخل في دين الله مع السابقين والأولين، حتى كان رسول الله يقول عنه: «أمين في الأرض أمين في السماء.»
8
لما هاجر إلى المدينة نزل على سعد بن الربيع الخزرجي، فقال له سعد: «هذا مالي فأنا أقاسمه، ولي زوجتان فأنا أنزل لك عن إحداهما.» قال عبد الرحمن: «بارك الله لك في مالك وفي زوجك، ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم»، فدلوه، فخرج إليها فرجع رابحا، ثم لم يزل بعد ذلك يتجر ويزداد ربحه حتى كان عند وفاته من أكثر المسلمين مالا. وكان رسول الله يؤثره بصحبته، كما كان يشير على أبي بكر وعمر. وكان لأمانته ورفقه يحظى من ثقة أهل الرأي وطمأنينتهم بما جعل الكثيرين يرشحونه للخلافة بعد عمر.
وكان طلحة بن عبيد الله من بني تيم بن مرة قبيلة أبي بكر. فهو ابن عثمان بن عمر بن كعب بن تيم بن مرة. وأمه الصعبة بنت عبيد الله الحضرمي، وأم الصعبة عائشة بنت وهب بن عبد الدار بن قصي بن كلاب. وكان طلحة تاجرا يذهب في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام. وكان يعد من حكماء قريش ومن أكثر أهل مكة شجاعة وكرما، فلما بعث النبي وأسلم أبو بكر كان طلحة أول من جاء إلى الصديق، وذهب معه إلى النبي وأعلن إليه إسلامه. عاد يوما بعد رحلته إلى الشام فذكر للنبي أن أهل المدينة ينتظرون هجرته إليهم. فلما استقر المسلمون بالمدينة وبدأت الغزوات كان طلحة في مقدمة الذين اشتركوا فيها. بعثه رسول الله يتعرف أخبار أبي سفيان قبيل غزوة بدر. ولما أصيب رسول الله في أحد وقف طلحة إلى جانبه، وكان من أشد المدافعين عنه حتى أصابته جراحات كادت تقضي عليه. وبعد غزوة تبوك أمر رسول الله طلحة فأحرق بيت سويلم اليهودي الذي اتخذه المنافقون كهفهم للدس بين المسلمين. وعلى أثر وفاة رسول الله اعتزل طلحة مع علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في بيت فاطمة، فلم يحضر اجتماع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة في سقيفة بني ساعدة. وإذ بويع أبو بكر بالخلافة ووقف في وجه المرتدين والذين منعوا الزكاة كان طلحة مع علي والزبير على حراسة المدينة. ثم إن الخليفة استبقاه بعد ذلك إلى جانبه مع المشيرين عليه أمثال عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من كبار الصحابة والسابقين إلى الإسلام. وكان طلحة ممن عارضوا أبا بكر في استخلاف عمر حين كان الصديق في مرضه الأخير. ذهب إليه في جماعة من المسلمين، وقال له: «استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك. فغضب أبو بكر وصاح في طلحة: أبالله تخوفني؟ إذا لقيت ربي فسائلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.»
9
نامعلوم صفحہ
ولم يغير رأي طلحة في عمر من مكانته عند الفاروق بعد استخلافه. فقد بقي بالمدينة يشير عليه كما كان يشير على أبي بكر. فلما طعن عمر جعل طلحة في الشورى رغم غيابه عن المدينة، ثم قال لجماعة الشورى: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثة أيام فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم.
أما وهؤلاء هم الرجال الذين اختارهم عمر للشورى، وهذه صلتهم برسول الله ومواقفهم معه، فكيف اشتد الخلاف بينهم لأول ما اجتمعوا يختارون أحدهم في الخلافة حتى يقول لهم أبو طلحة الأنصاري: «أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها.» سقنا من الاعتبارات ما يشهد بأن الخلافة أصبحت بعد انفساح رقعة الإمبراطورية مأربا يطمع فيه الطامع. وثمة اعتبار آخر أدى إلى شدة الخلاف وكان طبيعيا أن يؤدي إلى هذه الشدة؛ فقد كانت العرب تحجم عن استخلاف بني هاشم مخافة أن تجتمع النبوة والخلافة في بيتهم، فيجتمع لهم بذلك سلطان الدين وسلطان الدنيا، فلا تطمع بعد ذلك قبيلة غيرهم في أن يكون لها حظ في الخلافة. وكانت العرب تخشى استخلاف بني أمية؛ لأنهم كانوا أكثر قريش عددا وأعزها نفرا، فإذا آلت الخلافة إليهم لم يكن يسيرا بعد ذلك دفعهم عنها. فرأى بنو هاشم وبنو أمية في موقف العرب منهم ظلما لا مسوغ له، ورأى كل من البيتين أن يعمل لرفع هذا الخطر الجائر بأن يسعى إلى الخلافة، ويلتمس الوسيلة ليكون الخليفة من بين أبنائه. أما وعثمان وعلي في الشورى فالفرصة لهذا السعي سانحة ومن سوء السياسة أن تضيع.
على أن ما بين بني هاشم وبني أمية من تنافس قديم حال بينهما وبين إعلان ما تكنه صدور رجالهما للناس. وأعانهما اختيار عمر جماعة الشورى على ستر هذا المكنون في الصدور، وإن كشف اختلاف الشورى وما انتهى إليه أمرهم عن الكثير منه.
لم يكن العباس بن عبد المطب عم النبي يطمع في الخلافة لنفسه. فهو لم يكن من السابقين إلى الإسلام، بل كان أدنى لأن يكون من مسلمة الفتح. فقد أسلم حين كان جيش رسول الله معدا لفتح مكة. ولكنه كان من أكثر بني هاشم حكمة ومن أشدهم حرصا على أن تكون الخلافة في بيت النبي. روي أنه قال لعلي بن أبي طالب حين سمى عمر الشورى: «لا تدخل معهم.» وأجابه علي: «إني أكره الخلاف.» فكان رد العباس: «إذن ترى ما تكره.»
وكان عمر قد قال للشورى: إن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فلما سمعهما علي خرج فلقي عمه العباس فقال له علي: عدلت عنا. فقال العباس: وما علمك؟ فقال علي: قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما.
فلما سمع العباس قول علي أجابه في شيء من الحدة : «لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك. واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا نناله إلا بشر لا ينفع معه خير.»
ولم يكن بنو أمية أقل من بني هاشم حرصا على أن تكون الخلافة فيهم. فلما حان دفن عمر فحمل جثمانه إلى مسجد النبي ليصلى عليه، أقبل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وكل يريد أن يتقدم صاحبه لهذه الصلاة فلما رآهم عبد الرحمن بن عوف على هذه الحالة قال: إن هذا لهو الحرص على الإمارة. لقد علمتما ما هذا إليكما، ولقد أمر به غيركما. تقدم يا صهيب فصل عليه.
10
نامعلوم صفحہ
اختلف أهل الشورى وارتفعت منهم الأصوات فدخل عليهم أبو طلحة وقال لهم: أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون. ومع ذلك ظل الخلاف متصل الحدة يوما كاملا في رواية، ويومين كاملين في رواية أخرى. وخشي عبد الرحمن بن عوف تفاقمه وما يؤدي إليه هذا التفاقم من نتائج تخشى عواقبها، فقال للمجتمعين: «أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم.» ونظر إليه القوم وقد تولتهم الدهشة. فأي كلام هذا؟! إنهم يتنازعون أشد النزاع يريد كل أن تكون الخلافة له. فكيف يريد عبد الرحمن أن يتنزل أحدهم عن مطمعه ليكون حكما بينهم يوما أو يومين، ثم لا يكون له بعد ذلك في الخلافة نصيب؟!
لكن دهشتهم لم تطل مداها؛ فقد أسرع عبد الرحمن فقال: «فأنا أنخلع منها.» وأسرع عثمان فأجابه: «أنا أول من رضي.» وقال سعد والزبير: «قد رضينا .» وإذ كان طلحة غائبا فلم يبق إلا أن يصرح علي بن أبي طالب عن رأيه. لكن عليا بقي ساكتا لا يقبل ولا يرفض. فلعله ظن هذا الصنيع من عبد الرحمن خدعة أراد بها أن يمهد الطريق لتولية صهره عثمان، فسكت يفكر فيما يفسد به هذه الخدعة. لكن عبد الرحمن لم يمهله ليدبر الرأي في نفسه بل سأله: «ما تقول يا أبا الحسن؟» وأبدى علي ريبته في صنيع ابن عوف بقوله: «أعطني موثقا، لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة نصحا»، فسارع عبد الرحمن فأجاب في غير تردد: «أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين نصحا.»
أي داع دعا عبد الرحمن لأن يسلك هذا المسلك؟ لقد كان يعلم أن كثيرين من المسلمين يرشحونه للخلافة، وأن العرب كانت ترضاه مطمئنة لسابقته؛ ولتظل الخلافة بعيدة عن بني هاشم وبني أمية. أفكان صدق الرغبة عن تولي الخلافة منذ كاشفه عمر رغبته في أن يعهد إليه؟ ما باله إذن قبل أن يكون في الشورى، وما له لم يتنح منذ اللحظة الأولى عن الاشتراك مع أهلها؟ يذهب المؤرخون المسلمون إلى أنه لم يكن يرفض أن يكون في الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، وأن رغبته عن الخلافة كان ميسورا تحقيقها مع وجوده فيمن اختارهم عمر. وهذا صحيح. ويذهب بعض المستشرقين إلى أنه أراد أن ينخلع من الترشيح وأن يجعل تولية الخليفة لنفسه ليولي صهره عثمان، ويحتجون لذلك بقول علي لعمه العباس: «وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان، فيولي أحدهما الآخر.» بل إن جماعة منهم ليسرفوا في الظن فيزعمون أن عبد الرحمن لم يكن يحسب أن يطول العمر بعثمان، وكان يومئذ قد بلغ السبعين وأن أعباء الخلافة كانت لا شك تهيضه، وأنه عند ذلك يستخلف عبد الرحمن لا محالة. وهذا الإسراف في المظنة لا مسوغ له، فعبد الرحمن كان مؤمنا صادق الإيمان، يعلم أن لكل أجل كتابا
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . أما صهره لعثمان وما قد يميل ذلك به إلى إيثار ابن عفان على علي فاستنتاج قد يغري بتصديقه ما حدث بالفعل من تولية عبد الرحمن عثمان. لكنه لا يعدو أن يكون استنتاجا قد يشوبه الخطأ. والطريقة التي اتبعها عبد الرحمن في اختيار الخليفة لا تجعل لهذا الاستنتاج محلا.
فقد كان عبد الرحمن يعلم أن عليا وعثمان هما المتنافسان الأساسيان؛ ولذلك سعى لحصر الترشيح فيهما، وأول ما صنع من ذلك أن خلا بعلي وقال له: «تقول إنك أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟» فأجابه علي: عثمان. ثم إنه خلا بعثمان وقال له: «تقول شيخ من بني عبد مناف، صهر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وابن عمه، لي سابقة وفضل، ولم تبعد، فلم يصرف هذا الأمر عني؟ ولكن لو لم تحضر، أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟» وأجابه عثمان: علي. وكان عبد الرحمن قد طلب إلى الشورى أن يفوض ثلاثة منهم ما لهم من حق في ولاية الأمر إلى ثلاثة: ففوض الزبير ما له من حق فيها إلى علي، وجعل سعد حقه إلى عبد الرحمن، وترك حق طلحة لعثمان. أما وقد خلع عبد الرحمن نفسه فقد انحصر الترشيح في علي وعثمان، وأصبح الأمر في اختيار أحدهما معلقا في عنق عبد الرحمن.
أتراه يستخير الله ويقضي بينهما أيهما أفضل فيوليه؟ لقد كان في حل من أن يفعل أن أعطى القوم ميثاقه وأخذ منهم ميثاقهم. لكنه خشي إن هو استقل برأيه أن لا تقره عليه كثرة المسلمين الذين اجتمعوا بالمدينة من أنحاء الإمبراطورية الإسلامية المختلفة بعدما أدوا فريضة الحج، ثم أمسكهم مقتل عمر في انتظار ما تسفر عنه الشورى؛ لذلك جعل يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد ورءوس الناس يسألهم جميعا، مثنى وفرادى، مجتمعين ومتفرقين، سرا وعلانية، حتى يجتهد في أفضل الرجلين فيوليه.
يجمع المؤرخون على أن مشاورات عبد الرحمن أسفرت عن كثرة تشبه الإجماع في صف عثمان، لكنهم يختلفون في الأسباب التي جمعت هذه الكثرة حوله. يقول بعضهم: إن الناس مالوا إلى رجل لا يكون كعمر بطشا وشدة وانصرافا عن الدنيا وصرفا للناس عنها، وإن عثمان كان هذا الرجل ولم يكنه علي؛ لذلك رغبوا عن ابن أبي طالب مخافة أن يحملهم على ما كان عمر يحملهم عليه. ويذهب البعض إلى أن مشاورات عبد الرحمن استمرت يومين وليلتين، كان بنو هاشم وبنو أمية يقوم كل منهما أثناءها بالدعاية لصاحبه. وإذ كان بنو أمية أكثر عددا وأوفر مالا وأسخى يدا فقد طغت دعايتهم على دعاية الهاشميين ومالت بالكثرة الكبرى إلى ناحية عثمان. فإذا صح هذا فلعل الدعاية الأموية قامت على أن الأمر إذا آل لصاحبهم وسع على الناس، وتركهم ينعمون بما تدره مغانم الفتح من أسباب المتاع ولم يبطش بهم بطش عمر. وفي رأي ثالث أن الناس رأوا عثمان ناهز السبعين أو جاوزها ولم يكن علي قد بلغ الستين، وذكروا صحبة عثمان لرسول الله ومواقفه منه، ثم رأوا خلافته غير مانعة عليا أن يكون الخليفة من بعده، فكان عطفهم على شيخوخته وتقديرهم ماضية سبب ميلهم إليه واختيارهم إياه.
وأيا ما صح من هذه الأسباب فقد كانت الكثرة التي تشبه الإجماع واضحة في صف عثمان، مع ذلك خشي عبد الرحمن بن عوف أن يتهمه أنصار علي إن هو أعلن هذه النتيجة، فذهب إلى دار ابن أخته المسور بن مخرمة فأيقظه، وقد مضى أكثر الليل من تلك الليلة الأخيرة التي فرضها عمر لاختيار أمير المؤمنين، وطلب إليه أن يدعو له عليا وعثمان، فلما أقبلا قال لهما: إني سألت الناس فلم أجدهم يعدلون بكما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهم لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن.
نامعلوم صفحہ
وخرج بهما إلى المسجد في الصبح بعد أن نودي في الناس أن الصلاة جامعة، فلما تم جمع الناس صعد عبد الرحمن المنبر فدعا دعاء طويلا ثم قال: «أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم.» قال سعيد بن زيد وهو في محله: إنا نراك لها أهلا. وأجابه عبد الرحمن: أشيروا علي بغير هذا. وأشار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو بعلي، وأشار عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن أبي ربيعة بعثمان. وأدى اختلاف الفريقين إلى تشاتم بين عمار وابن أبي سرح. وخشي سعد بن أبي وقاص أن يمتد الخلاف وتثور ثائرته، فصاح: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس! قال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
ألمح الآن عبد الرحمن بن عوف وهو بمجلسه على المنبر والمسلمون من حوله قد امتلأ بهم فراغ المسجد، فلا يفوتني شيء من أمارات الجد البادية على وجهه. إنه عزم أن يجعل الخلافة لعثمان وأن يدعو الناس لبيعته. أتراهم يسارعون إلى تلبية دعوته؟ أم ينقسمون ويجري بينهم ما جرى منذ هنيهة بين عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي سرح؟ لئن حدث هذا الأمر وافتتن الناس لتكونن الطامة الكبرى، ولتصبحن المدينة مسرحا لاضطراب يستطير شره. فكثرة الناس عبيد لأهوائهم ومنافعهم، وهم يضحون في سبيلها بأمن الدولة وسلامتها. ولكن التردد في تولية الخليفة لا يحسم الشر ولا يجنب المسلمين الفتنة بل هو أدعى إلى قيامها وإلى اشتدادها؛ لذا دعا عبد الرحمن عليا فأخذ بيده، وقال له: هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ فأجابه علي: «أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.» وأرسل عبد الرحمن يده ودعا عثمان وأخذه بيده وقال له: «هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟» وأجابه عثمان: «اللهم نعم.» فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال ثلاثا: «اللهم اسمع واشهد.» ثم قال: «اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك، وجعلته في رقبة عثمان.» وبايعه. عند ذلك أقبل من بالمسجد يتزاحمون يبايعون عثمان.
تختلف الروايات في موقف علي من بيعة عثمان، ولكنها تجمع على أن الناس أقبلوا على بيعة الخليفة الشيخ أفواجا، لم يختلف منهم أحد ولم يعترض أحد. أفكان ذلك حبا منهم لعثمان؟ أم اغتباطا بالفراغ من أمر خطير في حياة الدولة لم يكن من الفراغ منه بد؟ فقد كان الرجال الستة موضع إجلال المسلمين وإكبارهم. بل لقد نسب إلى علي أنه قال بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وما كانت في قريش تداولتموها بينكم»؛ لذلك لم يثر عدول عبد الرحمن بن عوف عن علي بن أبي طالب ثائرة، بل قابل الناس خلافة عثمان مقابلة رضا واطمئنان.
أما علي بن أبي طالب فتختلف الروايات في موقفه من عثمان اختلافا يتعذر معه ترجيح إحداها. روى ابن سعد بإسناد أن أول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب. وروي بإسناد آخر أن عليا بايع عثمان أول الناس ثم تتابع الناس فبايعوه. وروى ابن كثير أن عبد الرحمن بن عوف قعد على المنبر مقعد النبي، وأجلس عثمان بعد أن بايعه على الدرجة الثانية. وجاء إليه الناس يبايعونه وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال: آخرا. ويسوق الطبري روايتين تدلان على أن اختيار عثمان ترك في نفس علي أثرا عميقا. أما الأولى فتذهب إلى أنه لما أقبل الناس يبايعون عثمان بعد أن بايعه عبد الرحمن، تلكأ علي، فقال عبد الرحمن:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما . فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة أيما خدعة! أما الرواية الثانية فتجري بأنه لما بايع عبد الرحمن عثمان قال له علي: حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتهم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. والله كل يوم هو في شأن. وأجاب عبد الرحمن: «يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان.» وخرج علي وهو يقول: «سيبلغ الكتاب أجله.»
يشير ابن كثير إلى روايتي الطبري هاتين فيقول: «وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره من رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: «خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه»، وإنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن:
نكث فإنما ينكث على نفسه
إلى آخر الآية، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وفاعليها، والله أعلم.»
يتعذر ترجيح إحدى هذه الروايات. ويغلب على الظن أن الكثير منها وضع من بعد دعاية لأغراض سياسية. من ذلك ما فسر به الطبري قول علي بن أبي طالب: خدعة وأيما خدعة، وذلك حين دعاه عبد الرحمن بن عوف لبيعة عثمان حتى لا ينكث على نفسه. فقد ذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص لقي عليا في ليالي الشورى فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وإنه ما أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ولكن الجهد والطاقة فإنه أرغب له منك»، ثم لقي عثمان فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فأقبل.» ولست أشك في أن هذه الرواية نسجت بعد الذي كان بين علي وعمرو بن العاص عند الخلاف مع معاوية. فلم يكن عمرو كارها لعثمان حين مقتل الفاروق. وإن طائفة من الروايات لتجري بأن عثمان عزل عمرا عن مصر بعد قليل من توليته. والإجماع منعقد على أن عثمان استعان بعمرو حين هاجم الروم الإسكندرية، فلما انتصر ابن العاص أراد عثمان أن يجعله أميرا على جند مصر مع بقاء عبد الله بن أبي سرح واليا عليها وصاحب خراجها فرفض عمرو وقال: أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها! ثم عاد إلى مكة وبقي بها حتى انضم إلى معاوية في خلافه مع علي. وهذا كله يشهد بأن عمرا وعثمان حين الشورى كانا على وفاق يدعو عمرو لخدعة علي؛ وهو لذلك يقطع بأن الرواية التي أوردها الطبري تعليلا لقول علي: «خدعة وأيما خدعة»، منقوضة من أساسها.
وأعتقد كذلك أن ما أورد من الألفاظ على لسان علي أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما أدنى إلى أن يكون موضوعا عبر به واضعوه عما اقتنع بعضهم بأنه حدث، وما أراد بعضهم به الدعاية السياسية لغرض بذاته. ولست أريد الإسهاب في الإبانة عن الحجة التي تدعوني لهذا الاعتقاد. وحسبي أن أشير إلى ما ذكره جامعو الحديث عن النبي
نامعلوم صفحہ
صلى الله عليه وسلم
أنه لم يصح عندهم عشر معشار ما روي لهم منه. ورواية عبارات بألفاظها عن علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما أدعى إلى التمحيص. فإنما دونها المؤرخون بعد أن مرت عشرات السنين على الحوادث التي رووها، وبعد أن لعبت الدعايات السياسية دورا خطيرا في حياة الدولة الإسلامية. لا عجب وذلك هو الشأن أن يدونوا ألفاظا تعبر عن مشاعر أصحابها، وإن لم تكن هذه الألفاظ قد صدرت عنهم بذاتها.
لكن ثمة أمرين لا ريبة عندي في صحتهما: أولهما أن عليا وبني هاشم لم تسترح نفوسهم لبيعة عثمان بحجة أنهم أهل بيت النبي، فإذا ألقت الخلافة مقاليدها إليهم لم تخرج منهم أبدا.
الأمر الثاني أن الكثرة الكبرى من المسلمين استراحت لبيعة عثمان، وأقبلت عليها راضية مطمئنة. فليس منهم من ذكر حين البيعة أن عثمان من بني أمية، أو ذكر عداوة بني أمية لرسول الله ومنافستهم القديمة لبني هاشم وتخلفهم عن الدخول في الإسلام حتى فتحت مكة أبوابها عجزا عن مقاومة المسلمين، بل ذكروا جميعا سبق الخليفة الشيخ إلى الإسلام، ووقوفه في جانب رسول الله، وإحسانه معاملة زوجتيه رقية وأم كلثوم، وهجرته إلى الحبشة وإلى المدينة، وبذله عن سعة لنصرة دين الله والمؤمنين به. روي أن طلحة بن عبيد الله قدم المدينة غداة بيعة عثمان. فلما دعى للبيعة له قال: أكل قريش راض به؟ قيل: نعم. وذهب إلى عثمان فسأله: أكل الناس بايعوك؟ وأجابه عثمان: نعم. قال طلحة: قد رضيت، لا أرغب عما قد اجتمعوا عليه، وبايعه. ولقد تمت بيعة عثمان في جو من التفاؤل وحسن الرجاء في المستقبل. فلما فرغ الناس منها بدأ من جاءوا بعد الحج إلى المدينة ينصرفون عنها إلى مواطنهم بالعراق وفارس وبالشام ومصر، وكل يرجو أن يزيده الله سعة من فضله.
وكذلك عادت الأمور سيرتها الأولى، وجرى الناس في مألوف حياتهم، وآن لعثمان أن يضطلع بأعباء الخلافة يصرف أمورها على نحو يتفق مع ما جبل عليه من دماثة في الطبع ورقة في الخلق وصدق في الإيمان وتجرد للخير، وأن يواجه موقفا يختلف عن موقف عمر، وعن موقف أبي بكر يوم اضطلع كل منهما بعبء الخلافة، ويحتاج في مواجهته إلى لون جديد من السياسة وفق عثمان إليه توفيقا ظاهرا أول الأمر، ثم أعجزه تقدم السن وأعجزته الأحداث فلم يحسن تدبيره من بعد.
الفصل الثاني
عثمان بين أمسه وغده
كان عثمان قد ناهز السبعين حين بويع. وكان رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير حسن الوجه، رقيق البشرة، أسمر اللون، به شيء من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، أصابه الصلع بعد أن كان كثير شعر الرأس. وكان يشد أسنانه بالذهب، ويتختم في يده اليسرى، ويرتدي اللباس الحسن والثوب الثمين؛ ذلك أنه كان واسع الثروة يعيش في خفض ولين.
وكان شديد الحياء. روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نامعلوم صفحہ
أنه قال: «أصدق أمتي حياء عثمان.» وكان حياؤه يزيد في تلفته. وكان لإحدى نسائه جارية تدعى بنانة، فكان إذا اغتسل جاءته بثيابه فيقول لها: «لا تنظري إلي فإنه لا يحل لك.» ثم كان حياؤه يدعو إلى الحياء منه. روي عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله كان جالسا كاشفا فخذه فاستأذن عليه أبو بكر فأذن له وهو على حاله، واستأذن عليه عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه. فلما قاموا قالت عائشة: «يا رسول الله، استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك.» قال رسول الله: «يا عائشة، ألا نستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه.» أو قال: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة.» وفي رواية أن عائشة قالت: «يا رسول الله ما لي لا أراك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان.» فكان جوابه: «إن عثمان رجل حيي، فإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة ألا يبلغ إلي حاجته.»
وكان عثمان لحيائه يهاب الحديث. روى ابن سعد في الطبقات قول أحدهم: ما رأيت أحدا من أصحاب رسول الله كان أتم حديثا ولا أحسن من عثمان، إلا أنه كان يهاب الحديث، وكان لهيبته الحديث يعاف الحوار وطول الجدل، فإذا التزم أمرا أصر عليه فتعذر صرفه عنه، وكان يزيد في إصراره على رأيه ما أفاء الله عليه من بسطة في الرزق، وأنه من بني أمية أكثر قريش عددا وأقواها يدا. على أن ما جلبه عليه حياؤه من هيبة الحديث جعله لين الجانب، كما جعله ثراؤه وعلو حسبه كريما محسنا. وحببه كرمه وحببته رقته إلى الناس. ثم كان لاعتداده لعشيرته واعتزازه برأيه محترما فيهم مرموقا منهم بعين التقدير والإكبار.
وكان تاجر بز في جاهليته وإسلامه. وكانت أمانته وما قدمنا من صفاته سببا في رواج تجارته وكثرة ربحه، ثم كانت وكان حياؤه مانعين له في صباه وشبابه من الانزلاق مع نزوات الشباب. فلم يؤثر عنه أنه كان صاحب فخر أو صحاب نساء. وإن دلت الروايات مجتمعة على أنه كان رقيق القلب حلو المعشر، للعاطفة على نفسه سلطان أي سلطان. وكانت رقته وحلاوة معشره تدعوانه لتجنب الأذى والقسوة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ولد عثمان في السنة السادسة لعام الفيل، فكان يصغر النبي بست سنوات. ولقد عاش في صباه وفي شبابه عيش أمثاله الموسرين من قريش عامة ومن بني أمية خاصة. فلما بعث رسول الله كان في السابقين الأولين إلى الإسلام. وقد ذكر المؤرخون في سبب إسلامه روايات نثبت بعضها هنا.
قال ابن هشام في السيرة: «إن أبا بكر بعد إسلامه جعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه؛ فأسلم بدعائه عثمان بن عفان وسبعة آخرون سبقنا إلى ذكرهم. فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين استجابوا لدعائه فأسلموا وصلوا.» وقال ابن سعد في الطبقات: خرج عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله على أثر الزبير بن العوام، فدخلا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القرآن وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله، فآمنا وصدقا، فقال عثمان: «يا رسول الله، قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام إذا مناد ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا به. وكان إسلام عثمان قديما قبل دخول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نامعلوم صفحہ
دار الأرقم.» وقال ابن كثير في البداية والنهاية: «أسلم عثمان - رضي الله عنه - قديما على يدي أبي بكر الصديق»، وكان إسلامه عجيبا فيما ذكر الحافظ بن عساكر. وملخص ذلك أنه لما بلغه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زوج ابنته رقية، وكانت ذات جمال، من ابن عمه عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموما، فوجد عندهم خالته سعدية بنت كريز، وكانت كاهنة، فبشرته بزواجه من رقية. قال عثمان: «فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة وقد تزوجت بغيري. فقلت: أيا خالة ما تقولين؟!» قالت: «عثمان لك الجاه، ولك الشأن، هذا النبي معه البرهان، أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فتابعه لا تغتالك الأوثان.» قال: «قلت: إنك لتذكرين أمرا ما وقع ببلدنا.» فقالت: «محمد بن عبد الله رسول من عند الله، بتنزيل الله، يدعو به إلى الله»، ثم قالت: «مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح، ومدت الرماح.» قال عثمان: «فانطلقت مفكرا فلقيني أبو بكر فأخبرته»، فقال: «ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومك، أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع.» قلت: «بلى، والله إنها لكذلك.» فقال: «والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه؟» فاجتمعنا برسول الله. فقال: «يا عثمان، أجب الله إلى حقه، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه»، قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية ابنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكان يقال:
أحسن زوج رآه إنسان
رقية وزوجها عثمان
هذه روايات قيلت في إسلام عثمان، لك أن تأخذ منها ما تشاء وأن تدع ما تشاء. ولك أن تقول إن رواية ابن كثير موضوع أكثرها، فلم يكن أمر محمد قد فشا إلى يومئذ في قريش، وكانت دعوته لا يزال الناس يتحدثون عنها على استحياء. ولست أدري أكان لتعلق عثمان برقية أثر في إسلامه. فلم تكن هي قد بلغت العشرين، حتى ولو أنها كانت كبرى ما أعقب رسول الله، وكان عثمان يومئذ يقارب الأربعين. وكان قد تزوج غيرها في جاهليته فكان يكنى أبا عمر، فلما ولد له من رقية غلام سماه عبد الله واكتنى به، وبقيت له هذه الكنية رغم أن الغلام مات طفلا في السادسة من عمره. ولعل ابن كثير ساق هذه الرواية عن الحافظ ابن عساكر عمن أخذها الحافظ عنهم؛ لأنها تتفق وما عرف من رقة عثمان وتملك العاطفة قلبه. وهذا المعنى هو ما دعانا إلى إثباتها هنا، وإن كنا في ريب منها حتى لنرجح أنها وضعت من بعد لسبب من الأسباب.
أسلم عثمان وتزوج رقية بنت رسول الله وأقام معها بمكة يزاول تجارته، ويشارك إخوانه السابقين إلى الإسلام في الأخذ بما ينزل الوحي به وما يلقي محمد عليهم من تعاليمه. وبدأ الإسلام ينتشر فبدأت قريش تناوئ المسلمين وتصيبهم بالأذى. وظلوا كذلك سنوات حسوما. فلما ضاقوا به ذرعا أمرهم رسول الله أن يتفرقوا في الأرض فرارا إلى الله بدينهم، ونصح إليهم أن يذهبوا إلى أرض الحبشة. وكان أول الذين ذهبوا إليها أحد عشر مسلما رجالا ونساء، وكان عثمان وزوجته رقية أسبق هؤلاء إلى الهجرة.
نامعلوم صفحہ
ما هو السبب في إسراع عثمان إلى الهجرة وفي أخذه زوجه معه؟ وما باله لم يبق بمكة كما بقي بها من السابقين إلى الإسلام من آثروا المقام إلى جانب رسول الله يمنعونه، ولا يضيقون صدرا بالأذى في سبيل الله؟ أفكان ذلك طلبا منه للسلامة وإيثارا للعافية؟ أم أنه، وكان يمقت القسوة، لم يطق أن يرى غيره من المسلمين يقاسي العذاب ألوانا؟ أو ترى بني أمية كانوا أشد بالذين أسلموا من بني قومهم بطشا، فكان عثمان الأموي وصهر رسول الله أشد تعرضا للمكروه؟ قد يكون بعض هذه الأسباب أو كلها مما أسرع به إلى الهجرة. ولعله أسرع إلى الهجرة مخافة أن تصاب زوجه رقية بسوء ولا يستطيع منعها من قومه فيكون ذلك له عار الأبد. وهذا الدافع الأخير كان قوي الأثر في نفس عثمان. روي أن امرأة مسلمة قدمت من أرض الحبشة فسألها رسول الله عن رقية وعلى أي حال رأتها، فكان جوابها: «رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وقد رأيته يسوقها.» فتأثر رسول الله لما سمع فقال: «صحبها الله إن كان عثمان لأول من هاجر إلى الله بعد الوحي.»
أيا ما يكون دافع عثمان للإسراع إلى الهجرة، فقد ذهب مع ابنة رسول الله إلى الحبشة وبقي بها الهجرتين جميعا، ثم هاجر بعد ذلك من مكة إلى المدينة. فلما خط رسول الله دور المهاجرين من قريش إلى يثرب كانت دار عثمان في مواجهة دار الرسول، وكان باب عثمان في مواجهة بابه.
أقام عثمان بالمدينة ينعم بعطف النبي وبما ييسره له ثراؤه من خفض العيش ولينه. واتخذه رسول الله أمين سره فكان يكتب الوحي أحيانا. على أن رسول الله لم يشركه في غزوة من الغزوات التي سبقت بدرا. فلما خرج رسول الله على رأس المسلمين يلقى قريشا ببدر كانت رقية ابنته مريضة اشتد بها المرض، فأذن لعثمان في التخلف لتمريضها. ولم يغن عنها التمريض فماتت ودفنت يوم جاء البشير بانتصار المسلمين. وقسم رسول الله فيء بدر فجعل لعثمان سهما فيه كسهم من شهدها؛ ولذلك اعتبر عثمان من البدريين.
حزن عثمان لموت رقية أشد الحزن. وعرف له رسول الله حسن عشرته أهله، فزوجه من أختها أم كلثوم. وماتت أم كلثوم في حياة أبيها فحزن عثمان لموتها فكان مما واساه بها رسول الله قوله: «لو أن لنا ثالثة لزوجناك.» وزواج عثمان من رقية وأم كلثوم هو الذي جعل المسلمين يلقبونه من بعد «ذا النورين».
أفكان لعثمان زوجات شاركن رقية ثم شاركن أم كلثوم فراشه؟ أم أنه لم يشرك مع أيهن زوجا غيرها؟ يتعذر القطع في هذا الأمر أو إثباته، وإن أمكن القول: بأنه تزوج امرأة أو أكثر قبل رقية، ثم تزوج غير واحدة بعد أم كلثوم. وقد تزوج في جاهليته وإسلامه غير رقية وأم كلثوم من فاخته ابنة غزوان بن جابر، وأم عمرو بنت جندب بن عمرو من الأزد، وفاطمة ابنة الوليد بن عبد شمس بن المغيرة، وأم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري، ورملة ابنة شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ونائلة بنة الفرافصة بن الأحوص وهي التي حضرت مقتله. وقد أعقب من هاتيك النسوة جميعا بنين وبنات يزيدون على الخمسة عشر.
تخلف عثمان عن غزوة بدر يمرض رقية. فلما استدار العام وكانت غزوة أحد شهدها مع سائر المسلمين. ثم كان موقفه وموقف أمثاله بها مما عفى الله عنه بعد أخذهم به. ذلك أن المسلمين انتصروا صبح ذلك اليوم، ثم دارت الدائرة عليهم فأذاعت قريش أن محمدا قتل. وفت هذا النبأ في أعضاد المسلمين ففر منهم من فر؛ وكان عثمان في هؤلاء. وعرف المسلمون بعد قليل أن النبي حي، فعاد أكثرهم إليه ودافعوا المشركين عنه. ولم يكن عثمان في هؤلاء وعير بعضهم عثمان بذلك في خلافته فكان جوابه: كيف يعيرني بذلك وقد عفى الله عني فقال:
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .
1
وبعد أحد شهد عثمان الخندق وخيبر وفتح مكة وغزوات حنين والطائف وتبوك فكان شأنه فيها جميعا شأن رجل من المسلمين ليس في مقدمتهم ولا في مؤخرتهم. ذلك بأنه لم يكن من أبطال الحرب أمثال حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد ممن تثير حمية القتال نفوسهم وتدفعهم بين الصفوف في الوطيس يواجهون الموت ولا يهابونه، بل كان رجلا ساكن النفس يسير حين الحرب في صفوف الجماعة لا يتقدمها ولا يستأخر عنها.
وتستطيع أن تقول إن عثمان كان يحب المسالمة ما وجد إليها الوسيلة. وإنما كان إيمانه هو الذي يدعوه للخروج مع رسول الله في غزواته. يشهد بذلك موقفه من قريش أيام الحديبية. فقد سار رسول الله على رأس ثلاثمائة من المسلمين في السنة السادسة من الهجرة يريدون العمرة بمكة آمنين غير مقاتلين. وعلمت قريش بمسيرهم فأقسمت ألا يدخل محمد وأصحابه عليهم مكة عنوة. ورأى محمد فرسان مكة تبدو بظاهرها، فنزل بأصحابه الحديبية يريد السلم ويريد حج البيت وإعظام حرمته. وأراد رسول الله أن يبعث إلى قريش سفيرا عمر بن الخطاب، فاعتذر عمر بما تعرفه قريش من عداوته لها وغلظته عليها وأنه يخشاها على نفسه، واقترح أن يذهب عثمان بن عفان في هذه السفارة فهو أعز بمكة منه. وذهب عثمان فأجاره عثمان بن سعيد ثم حاول أن يقنع قريشا لتخلي بين محمد والبيت الحرام، فلم ترض قريش أن يدخل المسلمون مكة هذا العام عنوة. وطال احتيال عثمان بمكة يحاول أن يجد الوسيلة لبقاء السلم بين قريش والمسلمين. وظن المسلمون أن قريشا قتلت سفيرهم غدرا في الشهر الحرام فتولاهم القلق. وتولى رسول الله على عثمان من القلق أكثر مما تولى أصحابه فقال : «لا نبرح حتى نناجز القوم»، ودعا أصحابه إليه فبايعوه بيعة الرضوان أن يقاتلوا قريشا وألا يفروا حتى الموت. فلما تمت بيعتهم ضرب رسول الله بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم. وإن القوم ليأخذون الأهبة للقتال إذ عرفوا أن عثمان لم يقتل، وإذ أقبل عليهم عثمان يبلغ رسول الله ما دار بينه وبين قريش. وتبين رسول الله أن قريشا اقتنعت بأنه. جاء معتمرا وأنها لا تريد القتال ولكنها تخشى على هيبتها بين العرب أن تضيع إذا دخل المسلمون مكة هذا العام عنوة، فاتخذ - عليه السلام - محادثات عثمان أساسا لمفاوضات مع رسل قريش انتهت إلى عهد الحديبية، وبه رضي الفريقان أن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا، وأن يعودوا إليها في العام الذي يليه فيقيمون بها ثلاثة أيام يحجون البيت ويعظمون حرمته.
نامعلوم صفحہ
وكان عثمان إلى حبه المسالمة سخيا بماله فيما يصلح المسلمين. لما أزمع رسول الله الخروج لغزو الروم بتبوك وجهز جيش العسرة شارك عثمان في هذا الجهاز بثلاثمائة بعير كاملة العدة، وبألف دينار وضعها في حجر رسول الله يعين بها على تجهيز الغزاة. ورأى رسول الله ما صنع عثمان، فقال: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»، وكررها مرتين. وكان ليهودي بالمدينة بئر يبيع المسلمين ماءها بما يبهظهم، فقال رسول الله يوما لأصحابه: «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة.» فأتى عثمان اليهودي فساومه فيها فأبى أن يبيعها كلها فاشترى منه نصفها باثني عشر ألف درهم، واتفق مع اليهودي على أن يكون له يوم ولعثمان يوم. وجعل المسلمون يسقون في يوم عثمان ليومين. وذهب اليهودي إلى عثمان فقال له: «أفسدت على بئري فاشتر النصف الآخر.» فاشتراه للمسلمين بثمانية آلاف درهم، وجعل رشاءه فيها كرشاء رجل من المسلمين.
وكان عثمان شديد العطف على ذوي قرباه. وقد بالغ في هذا العطف مبالغة كان لها من بعد في حياته وفي حياة الدولة أبعد الأثر. ولم يكن هذا العطف من ضعف الشيخوخة بعد ولايته إمارة المؤمنين كما ظن بعضهم، بل كان بعض خلقه. لما فتح رسول الله مكة عفا عن قريش كافة إلا جماعة عينهم بأسمائهم ارتكبوا جرائم عظمى، فلم يكن لهم في العفو العام متسع. وهؤلاء أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة. وكان من هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان للرضاعة. فقد كان أسلم وكان يكتب الوحي لرسول الله ثم ارتد مشركا إلى قريش وزعم أنه كان يزيف ما يكتب من الوحي. وعرف ابن أبي سرح أمر رسول الله بقتله، ففر إلى عثمان فغيبه حتى اطمأن الناس بمكة ثم ذهب به إلى رسول الله فاستأمن له. يقول ابن هشام في السيرة: فزعموا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صمت طويلا ثم قال: نعم. فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليتقدم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إلي يا رسول الله؟ قال: «إن النبي لا يقتل بالإشارة.» وقد كان هذا العطف من عثمان بعض ما أوخذ به من بعد.
تشهد شفاعة عثمان للعفو عن عبد الله بن سعد بشدة عطفه على ذوي قرابته، وهي تشهد كذلك بما كان لعثمان عند رسول الله من مكانة جعلته، وهو يود لو يقوم من أصحابه من يقتل ابن سعد، ينتهي مع ذلك إلى العفو عند إرضاء لعثمان؛ ولعله فعل لأنه رأى، وهو يعرف من حياء عثمان ما يعرف، أن ابن عفان ما كان ليتغلب على حيائه، ولم يبلغ من حرصه على الإبقاء على ابن سعد أن يتحدث في ذلك إلى رسول الله بمحضر من هؤلاء الذين كانوا بمجلسه؛ لذلك أشفق إن هو رفض رجاء عثمان فيوجع قلبه، أو أن يجعل لبني أمية ما يعيرونه به.
وهذه المكانة هي التي جعلت رسول الله يستخلف عثمان على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، ثم يستخلفه عليها في غزوته إلى غطفان.
على أن ما كان لعثمان من هذه المكانة في قلب رسول الله لم يجعل له من الرأي في سياسة النظام الناشيء ما كان لأبي بكر وعمر. فأبو بكر وعمر كانا وزيري رسول الله وصاحبي مشورته، فكانا إذا اتفقا في أمر لم يخالفهما فيه أبدا. ولم يكن لعثمان من الرأي في الحرب ما كان لسعد بن أبي وقاص أو الزبير بن العوام. وإنما كان عثمان رجلا ورعا شديد الإيمان، منصرفا إلى العبادة وتلاوة القرآن، وكان كريما سخي اليد، فكان له بذلك كله عند رسول الله منزلة زاد فيها إحسانه معاشرة زوجتيه رقية وأم كلثوم.
وكان شأن عثمان في عهد أبي بكر كشأنه مع رسول الله. كان منصرفا إلى تجارته، وكان يدع لخليفة رسول الله من حرية التصرف في شئون الدولة ما توجبه التبعة الملقاة على عاتقه أمام الله وأمام المسلمين. لما عزم الصديق غزو الشام بعد غزو العراق دعا إليه جلة المهاجرين والأنصار يشيرون عليه. أما عمر فشجعه على المضي فيما يريد وكان مما قاله: سرب إليهم الخيل في إثر الخيل وبعث الرجال والجنود تتبعها الجنود. وأما عبد الرحمن بن عوف فدعا إلى الحيطة والحذر، وكان مما قاله: «والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير في أداني أرضهم، ثم تبعثها تغير فترجع إليك، ثم تبعثها فتغير ثم ترجع إليك. فإذا قبلوا ذلك مرارا اضرب بعددهم حتى تبلغ من أداني أرضهم قعودا فتقوى بذلك على قتالهم.» وسكت الناس بعد الذي سمعوا من ابن عوف فسألهم أبو بكر: ماذا ترون وحكم الله؟ وبعد هنيهة قال عثمان: «أرى أنك ناصر لأهل هذا الدين شفيق عليهم، فإن رأيت رأيا لهم فيه رشد وصلاح وخير فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين، ولا متهم عليهم.» وسارع الحاضرون حين سمعوا قول عثمان فأقروا رأيه، وألقوا التبعة كلها على الخليفة.
وكان عثمان ممن أحسنوا الشهادة في عمر حين أراد أبو بكر أن يستخلفه، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه. فقد كان كثيرون ممن استشارهم الصديق مشفقين من غلظة عمر وشدته. أما عثمان فأجاب الصديق حين سأله عن عمر: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله.» فلما بويع عمر أقام عثمان بالمدينة يباشر تجارته ويشير على أمير المؤمنين مع المشيرين عليه. ولكنه خالف عمر غير مرة. لما طلب أهالي بيت المقدس الصلح على أن يحضر عمر بنفسه إلى مدينتهم كان رأي عثمان ألا يفعل. قال مخاطبا أمير المؤمنين: «فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف، ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلى السير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» وخالفه علي بن أبي طالب، وأشار على عمر بالسير إلى بيت المقدس، فقد أصاب المسلمين جهد عظيم من استمرار الحرب والقتال وطول المقام. وآثر عمر رأي علي وأخذ به واستخلفه على المدينة وسار والناس معه فعقد صلح بيت المقدس.
وكان عثمان على رأس المعارضين في فتح مصر والذين يخالفون ابن العاص عن رأيه في ذلك ويعترضونه. وبلغ من شدة ابن عفان في هذه المعارضة أن قال لعمر: يا أمير المؤمنين إن عمرا لمجرأ وإن فيه حبا للإمارة، فأخشى أن يخرج من غير نفر ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلك رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا! وقد حشد عثمان لمعارضة ابن العاص في فتح مصر قوة من الرأي العام بالمدينة حسب عمر حسابها رغم اقتناعه برأي ابن العاص ومشاركته إياه فيه؛ لذلك لم يواجه عثمان والذين عارضوا معه، بل تحايل على معارضتهم بأن ترك لعمرو فرصة الدخول إلى مصر وقتال الروم فيها، واستنقاذها من أيديهم خالصة للمسلمين. هاتان مسألتان من كبريات المسائل التي وجهت تاريخ الإسلام، والتي خالف فيها رأي عثمان.
نامعلوم صفحہ
على أن عمر وعثمان كانا أقرب إلى الاتفاق في أكثر الأمور، كما أن عثمان لم يكن أكثر من غيره من كبار الصحابة مخالفة لرأي عمر أو اتفاقا معه. وقد رأيت كثيرين عارضوا فتح مصر كما عارضه عثمان. والذين أيدوا عثمان في هذه المعارضة خالفوه في مواقف أخرى؛ ذلك بأن هؤلاء الذين صحبوا رسول الله كانوا جميعا يبتغون بالرأي مصلحة الإسلام والمسلمين. مخلصين يريدون وجه الله ، يرجون رضاه ويخشون غضبه.
وكانوا يؤمنون بأن التمسك بالحق ما اقتنع المرء به أول واجب على من حسن إسلامه، وأن الرجوع إلى الحق متى بدا وجهه لا يصح أن يصد عنه تعصب أو غرور. فإذا أصر المرء على باطل بعد اقتناعه ببطلانه أتى منكرا يلعن الله صاحبه وينزل به غضبه. وكيف لمؤمن بالحق أن يحيد عن الحق أو أن يكتمه، فمن كتم الحق أو سكت عنه فهو شيطان أخرس.
كان عثمان عزيزا على عمر حبيبا له طول خلافته. فما طعن عمر عين الشورى ثم بايع الناس عثمان. قيل إنه لما تمت بيعته صعد المنبر يخطب الناس فأرتج عليه، فقال: «أيها الناس. إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، فإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها. وما كنا خطباء وسيعلمنا الله.» وقيل: بل خطب عثمان الناس حين تمت بيعته، فقال: «أيها الناس إنكم في دار قلقة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. فلقد أتيتم، صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها وتمتعوا بها طويلا. ألم تلفظهم؟ أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلا بالذي هو خير، فقال - عز وجل:
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .»
2
يثبت ابن كثير هذه الخطبة ويفند قول الذين قالوا: إن عثمان أرتج عليه، ويرى أن ما ذكروه لا سند له. وابن كثير مبالغ في هذا القول. فقد أثبت ابن سعد في الطبقات مقال عثمان حين أرتج عليه وذكر سنده. وأنا أشد ميلا لترجيح رواية ابن سعد وللشك في هذه الخطبة المنبرية التي أثبتها ابن كثير والطبري وغيرهما. فطبيعي أن يشغل عثمان بما كان أيام الشورى عن تهيئة خطاب يلقيه على الناس إثر بيعته. وطبيعي أن يقول لهم: إن بعد اليوم أياما، وإن الخطبة ستأتيهم من بعد على وجهها. وقد أثبت الطبري وابن كثير أن أول تصرف كان لعثمان بعد بيعته أنه زاد في عطاء الناس على ما كان عليه أيام عمر. فكيف تتفق زيادة العطاء وخطبته كلها تزهيد في الدنيا وترغيب عن المتاع بها!
أيا ما يكون الأمر فالخطبتان لا تصف أيهما ما كان يدور بخاطر عثمان من سياسة الغد. وأكبر الظن أنه لم يكن بعد قد رسم سياسة واضحة الحدود كما فعل أبو بكر حين عزم قتال أهل الردة، وكما فعل عمر حين أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم، وحين أمر بإجلاء نصارى نجران عن ديارهم، وحين انتدب الناس للذهاب إلى العراق مددا للمثنى. ولعل ما كان بين عمر وعثمان من اختلاف في المزاج بين الشدة واللين هو الذي استأنى عثمان فلم يرسم هذه السياسة.
على أن أمرا واجهه أول ما بويع لم يكن له بد من الفصل فيه. وذلك أمر عبيد الله بن عمر بن الخطاب. فقد اقتنع عبيد الله بأن مقتل أبيه لم يكن جريمة فردية ارتكبها أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة من تلقاء نفسه، بل كان نتيجة لمؤامرة اشترك فيها الهرمزان الفارسي وجفينة أحد نصارى الحيرة. وكان اقتناعه بذلك عن بينة. فقد شهد عبد الرحمن بن عوف أنه رأى السكين التي طعن بها عمر مع الهرمزان وجفينة عشية الحادث الذي روع المسلمين، وشهد عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: «قد مررت على أبي لؤلؤة قاتل عمر ومعه الهرمزان وجفينة وهم نجي فلما بغتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونصاب في وسطه، فانظروا ما الخنجر الذي قتل به عمر.» ونظر الناس فوجوده الخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر. عند ذلك ثار ثائر عبيد الله فتقلد سيفه، ثم بدأ بالهرمزان وجفينة فقتلهما، وانطلق إلى دار فيروز فقتل ابنة له صغيرة تدعي الإسلام.
حدث هذا قبل أن يبايع عثمان وثار له الناس، وتوعدوا عبيد الله وحبسوه. فلما بويع عثمان لم يكن له من القضاء في أمر عبيد الله بد. يذكر الطبري رواية عن شعيب عن سيف عن أبي منصور أنه قال: «سمعت القماذيان يحدث عن قتل أبيه - الهرمزان - قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه، وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: أبس به، فرآه رجل؛ فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا الخنجر مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله؛ فلما ولى عثمان دعاني فأمكنني منه - أي: من عبيد الله بن عمر - ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منا فاذهب فاقتله؛ فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبوه. فتركته لله ولهم، فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم.»
هذه رواية الطبري. وهي تجعل العفو عن عبيد الله من عمل القماذيان بن الهرمزان. وهذا قول يخالف المشهور، فأكثر الرواة يذكرون أن عثمان جلس بعد بيعته إلى جانب المسجد، فجيء بعبيد الله بن عمر من محبسه ليحاكمه، فلما مثل بين يديه قال عثمان للحاضرين: «أشيروا علي في هذا الذي قتل في الإسلام ما قتل.» وأجابه علي بن أبي طالب: «ما من العدل تركه، وأرى أن تقتله.»
نامعلوم صفحہ
فاعترض أحد حضور المجلس رأي علي بقوله: «قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟!» ووجم الحاضرون حين سمعوا هذا الاعتراض، وأمسك علي عن القول. ولعله أمسك مخافة أن يتهم بأنه يريد أن يثير على عثمان يوم بيعته. وأجال عثمان بصره فيمن حوله يلتمس عندهم الرأي، ويود لو وجد أحدهم من قتل عبيد الله مخرجا. قال عمرو بن العاص: «إن الله قد أعفاك من هذا الحدث، وقد كان وليس لك على المسلمين سلطان. تلك قضية لم تكن في أيامك، فدعها عنك.» ولم يقنع هذا الرأي عثمان فقال: «أنا وليهم - يريد ولي الذين قتلوا - وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي.»
كان هذا الرأي من عثمان عين الحكمة. فهو لم يعف عبيد من جريرة جريمته. وهو لم يأمر بتحقيق؛ لأنه إذا أثبت مؤامرة الهرمزان وجفينة وفيروز أثار ثائرة الفرس والنصارى، ثم لم يبرئ عبيد الله من قتل ابنة أبي لؤلؤة عمدا في غير إثم وبغير حق. وقد استراح الناس جميعا لصنيع عثمان إلا جماعة دفعتهم الحمية للتعريض به ونقده. من هؤلاء زياد بن عبيد البياض الذي انطلق يقول الشعر يسيء به إلى عبيد الله وينقد به حكم عثمان. وقد جاء به عثمان وأمره أن يكف عن هذا التعريض فكف. بذلك نامت فتنة لم يكن من الخير أن تستيقظ، وانصرف المسلمون في أرجاء الإمبراطورية إلى مألوف حياتهم قبل مقتل عمر.
فرغ عثمان من أمر عبيد الله بن عمر ثم جعل يفكر في السياسة التي يسير عليها. إنه يعلم أن بني هاشم لم يستريحوا لبيعته، وأن جمهور الناس يرجون خطة غير ما أخذهم به عمر من بطش وشدة، ويطمعون في حياة أكثر لينا مما ألفوا إلى يومئذ. وهو يعلم أن الجند هم عماد النظام وحماة الإسلام والمدافعون عن الإمبراطورية. فإذا استطاع أن يتألف الجمهور والجند جميعا استبشروا الناس بعهده واطمأنوا له، هذا على أن يستقر في نفوسهم أنه ليس أقل من عمر حرصا على الدفاع عن الدولة وما فتحت، وعلى إقامة العدل بين الناس عدلا يزيدهم أمنا على أنفسهم وأموالهم، وطمأنينة إلى غدهم. وهو يعلم أن الولاة في البلاد المفتوحة هم أعوانه الأولون، فإذا أنسوا إليه حفظوا النظام وبثوا السكينة في قلوب الناس في أقطار الأرض. فكيف يبلغ هذا كله في رفق ولين يتفقان مع طبعه، ثم لا يشوبهما ضعف يشوه جمالهما، أو يدعو الذين لم يستريحوا إلى بيعته إلى تمرد أو خروج.
تتفق الروايات على أن أول ما صنع عثمان أن زاد في عطاء الناس عما كان في عهد عمر. زاد في عطاء كل واحد من جند المسلمين مائة درهم على ما فرضه عمر لهم، وكان عمر قد جعل لكل مسلم في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين، فأقر عثمان ذلك وزاده، ثم إنه اتخذ في المسجد سماطا للمتعبدين والمعتكفين وأبناء السبيل والفقراء والمساكين. بذلك استبشر الجند واسبتشر الناس ورأوا فيه فألا حسنا بمستقبل يكونون فيه أطيب حياة وألين عيشا، وليس لأحد أن يؤاخذ به عثمان والأموال تتدفق على المدينة من أرجاء الإمبراطورية، فلا تضيق بما وسع أمير المؤمنين على المسلمين.
وليطمئن الناس إلى أن ما ألفوا من عدل في عهد عمر لن يعبث به عابث كتب عثمان إلى عماله: «أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة. وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة. وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.»
هذا كتاب صور به عثمان سياسته في الرعية وما يجب على عماله أن يأخذوها به. وهي سياسة كلها السداد والحكمة. فهو يأمر هؤلاء العمال أن يرعوا الناس بالرفق وألا يرهقوهم جباية واستغلالا، وأن يأخذوا من المسلم ومن الذمي ما عليه، وأن يعطوا المسلم والذمي ماله عدلا بغير بغي، وأن يفوا بما يقطعونه للعدو من عهد حتى تذهب حميته فلا يثير الناس بالمسلمين. تلك أعدل السير في نظر عثمان. إليها يطمئن الجميع فيسود الأمن ويستتب النظام، وتستقر الأمور في نصاب، لا يدع لشاك أن يشكو ظلما أو هضما.
كان لعمال الخراج من الاستقلال عن الولاة ما خشي عثمان معه أن يظلموا الناس فيبهظوهم بما لا يجب عليهم أداؤه، أو أن يستغلوا مناصبهم لفائدتهم وفائدة ذويهم فيثيروا النفوس ويسيئوا إلى نزاهة الحكم؛ لذلك كتب إلى عمال الخراج يقول: «أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق به. والأمانة الأمانة، قوموا عليها ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم.»
لم يرد عثمان أن يفهم الناس من كتبه إلا الولاة وإلى عمال الخراج أنه أعفى العامة من الواجبات الملقاة عليهم، أو أنه حين زاد في عطائهم يدعوهم إلى التمرغ في متاع الدنيا ورفه العيش؛ لذلك أذاع فيهم كتابا، قال فيه: «أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع؛ فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن. وقد قال رسول الله: الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا.»
وهذه الكتب الثلاثة إلى الولاة وإلى عمال الخراج وإلى العامة تصف مجملا من سياسة عثمان في إدارة الشئون الداخلية لبلاد الدولة كلها. ولكن عثمان لم يكن ليغيب عنه أن الإمبراطورية الناشئة لما تستقر إلى حال من الطمأنينة يستريح الخليفة إليه، وأن الفرس والروم لن تهدأ نفوسهم بعد الذي أصابهم في عهد عمر، وأنهم لا بد ينتهزون أول فرصة للثورة بالمسلمين حيثما وجدوا في الحكم العربي ضعفا عن مقاومتهم. ولم يكن هذا الأمر ليغيب على من كان أقل من عثمان بصرا بالأمور، واحتياطا لما قد يحدث. كتب عثمان إلى أمراء الأجناد في مختلف بلاد الدولة من غرب مصر إلى شرق فارس يقول: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، ولقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه.»
هذه هي السياسة التي رسمها عثمان وأذاعها في الأمصار أول ما بويع، وتستطيع أن تضيف إليها أنه أقر الولاة في ولاياتهم، لم يعزل أحدا منهم، ولم ينقل أحدا إلى غير ولايته التي كان فيها حين استشهد عمر. أقر نافع بن عبد الحارث الخزاعي على مكة، وسفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف، ويعلى بن منية على صنعاء، وعثمان بن أبي العاص الثقفي على البحرين وما والاها، والمغيرة بن شعبة على الكوفة، وأبا موسى الأشعري على البصرة، ومعاوية بن أبي سفيان على دمشق، وعمير بن سعد على حمص، وعمرو بن العاص على مصر، كما أقر عبد الله بن أبي ربيعة على الجند.
نامعلوم صفحہ
3
وليس في هذه السياسة؛ كما ترى، جديد يقف النظر أو يدعو إلى إعمال الرأي كما كان في سياسة عمر حين رفع الحظر عن أهل الردة، وحين أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم، وبإخراج نصارى نجران من ديارهم. ولعل حجة عثمان في نهج هذه السياسة كانت أنه عاهد عبد الرحمن بن عوف قبيل توليته على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من قبله، وأنه لم يقل ما قاله علي بن أبي طالب أنه يعمل بمبلغ حكمته وطاقته؛ لذلك لم يفكر في جديد يضيفه إلى سياسة الخليفتين أبي بكر وعمر، مخافة أن يتهم بأنه ابتدع من عند نفسه وعمل بعلمه مخالفا بذلك عهدا قطعه وبايعه الناس عليه. أم أن عثمان كان لشدة حيائه كثير العطاء تألفا للناس، ثم لم يتعرض في كتبه الأولى لرسم سياسة جديدة قد يضطر للرجوع عنها، فيكون رجوعه حجة يؤاخذه بها خصومه ويتخذونها عمادا لدعاية ما أغناه عنها.
أيا ما يكنه الأمر لقد كان متعذرا على عثمان وعلى غير عثمان في الموقف الذي بلغته الأمور حين مقتل عمر أن يتخذ خطة غير خطة الانتظار ومراقبة الأحوال، وما يمكن أن تتحول إليه. فقد كانت منازعات العرب الذين استوطنوا البصرة والكوفة متصلة، وكانت كل واحدة من المدينتين تسرع إلى مناوأة عامل الخليفة عليها، حتى اضطر عمر غير مرة إلى أن يولي عماله وأن يقول: «هات أمرا أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.» وكان يزدجرد كسرى الفرس لا يزال مقيما في فرغانة عاصمة الترك بسمرقند ينتظر الفرصة للعود إلى بلاده ومناجزة المسلمين. وكان الروم قد اطمأنت أمورهم بعض الشيء بعاصمة قسطنطين، وكانوا يتهيئون للأخذ بالثأر وشن الغارة من جديد على الشام وعلى مصر. وكان العرب في شبه الجزيرة وخارج شبه الجزيرة قد أنسوا إلى ألوان من المتاع وافتنوا فيه، فلم يكن عجبا أن يغريهم ذلك بطلب المزيد منه والتذمر إذا لم ينالوا ما يطلبون. لم يكن بد لمن ولي أمر دولة تلك حالها أن يطيل التفكير قبل أن يرسم خطة لسياستها. فإذا كان ولي الأمر في مثل حياء عثمان ولينه كان أشد حاجة للأناة وطول التفكير. وكان الأمر كذلك بخاصة؛ لأن عمر قتل والناس مطمئنون إلى أنه لا يزال له في العمر فسحة، لا يفكر أحد بذلك منهم في سياسة تخالف سياسته.
ولا يغيب عن الذاكرة مع هذا كله أن جند المسلمين في أرجاء مختلفة من أرض فارس وبرقة وجنوب مصر كانوا دائمي الأهبة لقتال العدو في قتال نظامي حينا، وفيما يشبه حرب العصابات أحيانا، فلم يكن لعثمان أن يغفل هذا الأمر، ولم يكن له بد من أن يعيره أعظم جانب من التفاته. ذلك أن الحوادث لم تطاوع عمر أن يقف بالفتح الإسلامي في حدود يعقد الصلح مع خصومه الفرس والروم على احترامها، فاضطر لمتابعة الفتح حتى قتل ولا يزال جنده متحصنا بأطراف فارس وأطراف مصر. وما كان لخليفة أن يقيض عن ذلك أو تتعرض الإمبراطورية كلها للانتقاض من أطرافها. والاحتياط لهذا الأمر هو عبء جسيم واجهه الخليفة الثالث لأول ما بويع.
وكان الفرس والروم يعرفون من شئون العرب ما يجعلهم يزيدون في هذا العبء فداحة. فقد فكروا في الانتقاض لأول ما جاءتهم الأنباء بمقتل عمر وبيعة عثمان. فتمردت ولايات كانت أذعنت لسلطان العرب وصالحتهم، فنقضت صلحها ومنعت الجزية التي صالحت عليها، لم يكن للخليفة بد من رد هذه الولايات إلى حمى الطاعة، وأن يفرض عليها جزاء أقله ما صالحت عليه في عهد عمر مخافة أن تنقض غيرها من الولايات صلحها، وتعلن الثورة والعصيان. فإذا وقع ذلك تفاقمت الأمور وتعذرت ملافاتها. •••
حدث أول انتقاض من هذا النوع في أذربيجان وأرمينية، ثم هاجم الروم الشام، ثم نقضت الإسكندرية عهدها واستعانت بالروم فأعانوها. أما وقد تتابعت هذه الأحداث وأمثالها فلا بد من قمعها والقضاء عليها في مهدها. وقد فعل عثمان، فأدى ما فعل إلى امتداد الفتح، وإلى اتخاذ المسلمين قواعد حربية لحماية الإمبراطورية، وإلى إنشائهم قوة بحرية إلى جانب قواتهم البرية. وسنوجز في الفصول التالية ما تم من ذلك كله، وما ترتب عليه في سياسة الدولة الخارجية؛ لنعود بعد ذلك إلى تفصيل سياسة الحكم الداخلي في عهد عثمان، وإلى ما انتهت إليه هذه السياسة من ثورة بالخليفة، ثم بالخلافة ليصبح الأمر بعد علي ملكا عضودا في بني أمية.
الفصل الثالث
الفتح في عهد عثمان
امتدت الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر من أقصى فارس شرقا إلى حدود برقة وطرابلس غربا. ومن بحر قزوين في الشمال إلى بلاد النوبة في الجنوب. وقد آمن ما فتحه المسلمون من بلاد هذه الإمبراطورية بأن غزاتهم لا غالب لهم. مع ذلك كانت أسباب الانتقاض لا تفتأ الحين بعد الحين تحرك نفوس الناس من أهل هذه الأقاليم إلى الثورة بالمسلمين ونكث ما عاهدوهم عليه. ولم يكن ذلك عجبا، والفاتحون يخالفونهم في الجنس واللغة والعقيدة، ثم لم يكن عجبا وقد كان عرب الحيرة والغساسنة إلى سنوات معدودة قبل الفتح يخضعون لسلطان الفرس ونفوذ الروم.
ولم يكن عجبا كذلك أن تحرك عوامل الفتنة نفوس الناس في البلاد المفتوحة، وذلك بحكم موقفهم من المسلمين وموقف المسلمين منهم. فلم تكن للمسلمين قوات مرابطة في هذه البلاد، بل كانوا يصالحون كل إقليم يفتحونه على جزية معينة يدفعها أهله لهم، ثم يتركون حكم الإقليم لأبنائه، وتنسحب قواتهم بعد ذلك عنه إلى المعسكرات العربية. وكانت أعظم هذه المعسكرات مركزة بالشام، في دمشق وفي حمص، كما كانت مركزة بالعراق في البصرة وفي الكوفة. أما في مصر فلم يكن للعرب مسلحة قوية إلا في حصن بابليون حيث تقع مصر القديمة اليوم؛ لهذا حدث غير مرة في عهد عمر نفسه أن انتقضت ولايات بعد إذعانها فمنعت الجزية وامتنعت من العرب بحصونها، فبعث إليها عمر من ردها إلى الطاعة وأعادها إلى الإذعان. لكنه لم يكن يترك من جنده بينها من يحفظ نظامها ويلزمها احترام عهدها؛ لأن انفساح الإمبراطورية السريع جعله في حاجة إلى تنقل هذه القوات من ميدان إلى ميدان. ثم إنه يخشى إن هو ترك قوات صغيرة في الأقاليم المفتوحة أن يثور الناس بها، وأن يتغلبوا عليها فيكون لذلك من سيئ الأثر في النفوس ما لا يحب. وهو إلى هذا قد كان قادرا دائما أن يرد العصاة عن عصيانهم، وأن ينزل بهم من العقاب ما يكون عبرة لغيرهم.
نامعلوم صفحہ