1 - حديث الشورى وبيعة عثمان
2 - عثمان بين أمسه وغده
3 - الفتح في عهد عثمان
4 - حكومة عثمان
5 - نهاية عثمان
1 - حديث الشورى وبيعة عثمان
2 - عثمان بين أمسه وغده
3 - الفتح في عهد عثمان
4 - حكومة عثمان
5 - نهاية عثمان
عثمان بن عفان
عثمان بن عفان
بين الخلافة والملك
تأليف
محمد حسين هيكل
«أصدق أمتي حياء عثمان» (حديث شريف).
الفصل الأول
حديث الشورى وبيعة عثمان
كانت شبة جزيرة العرب، أول ما قام النبي العربي داعيا إلى الإسلام، مقسمة بين قبائل مستقلة بعضها عن بعض، متفاوتة في درجات الحضر والبداوة، تعيش في صراع دائم ونزاع مستمر، يخضع أكثر أرجائها رخاء لسلطان الفرس أو نفوذ الروم. فلما اختار رسول الله الرفيق الأعلى بعد ثلاث وعشرين سنة من بعثه كان نفوذ الفرس والروم قد تقلص عن شبه الجزيرة، ودخلت القبائل العربية في دين الله أفواجا. واستخلف أبو بكر فحارب العرب الذين ارتدوا عن الإسلام وردهم إليه؛ فبدأت الوحدة الدينية والسياسية تنتظم شبه الجزيرة. عند ذلك مهد أبو بكر لقيام الإمبراطورية الإسلامية بغزو العراق والشام، لكن الأجل لم يمهله ريثما يتم ما بدأه.
واستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب فتابع سياسة الصديق، فاندفعت جيوش المسلمين من شبه الجزيرة إلى أراضي الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، فقضت على الإمبراطورية الفارسية، وانتزعت من الدول الرومانية أبرز ولاياتها. وامتدت الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر من الصين شرقا إلى ما وراء برقة غربا، ومن بحر قزوين في الشمال إلى بلاد النوبة في الجنوب، واشتملت فارس والعراق والشام ومصر. بذلك ضمت الدولة العربية أمما متباينة أشد التباين في كل مقوماتها، إذ كانت كل أمة منها تختلف عن غيرها في اللغة والجنس، والعقيدة والحضارة، والبيئة الاجتماعية والبيئة الاقتصادية. ولكن سرعان ما انتشر الإسلام بين هذه الأمم، وأصبح الدين الجديد الرابطة التي تربط بينها، كما نجح العرب في صبغ الأمصار المفتوحة بصبغة عربية.
وانتهى قيام الإمبراطورية في عهد عمر بمقتله. فقد ائتمر بحياته فارسيان، ونصراني من نصارى الحيرة. أما الفارسيان فهما الهرمزان، وأبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة. وأما النصراني الحيري فجفينة . وكان الهرمزان من قواد الفرس الذين شهدوا الغزوة الكبرى بالقادسية وانهزموا فيها. وقد فر بعدها إلى الأهواز وجعل يغير منها على قوات المسلمين التي تجاورها في العراق العربي. وظل دأبه حتى أمر عمر جنوده بالانسياح في بلاد فارس، فحاصر المسلمون الهرمزان «بتستر» وجاءوا به أسيرا إلى المدينة، وهناك دار بينه وبين عمر حوار أيقن الأمير الفارسي معه أن لا نجاة له من القتل إلا أن يسلم، فأسلم فأنزله عمر المدينة وفرض له ألفي دينار كل عام.
وكان فيروز فارسيا قاتل المسلمين في غزوة نهاوند، فأسر ثم وقع في ملك المغيرة بن شعبة. وكان نقاشا نجارا حدادا. ولعل النصل الذي طعن به عمر كان من صنع يده، وعمله في جند فارس هو الذي دعا المؤتمرين فاختاروه لتنفيذ مؤامرتهم.
أما جفينة فكان من نصارى الحيرة، وكان ظئرا لسعد بن مالك أقدمه إلى المدينة للملح الذي كان بينه وبينهم؛
1
لذلك غضب سعد حين قتله عبيد الله بن عمر بعد مقتل أبيه وكاد يقوم بينهما ما لا تحمد عواقبه.
لهذه المؤامرة دلالة أيدتها الحوادث من بعد. ودلالتها أن بعض الأمم التي فتحها المسلمون في عهد عمر لم تكن راضية عن المصير الذي انتهت إليه، وأن نفوس بعض أهلها كانت ثائرة به. والدلالة أكثر وضوحا؛ لأن هؤلاء الذين ائتمروا بعمر فقتلوه كانوا موضع حمايته بالمدينة، وكان رأسهم الهرمزان موضع الرضا من عمر عنه والعطف عليه، حتى كان يستشيره ويجعل له بالمدينة مثل مكانه بين قومه. أما وقد ائتمر مع ذلك بعمر فأحرى بغيره من الفرس المقيمين في وطنهم يحكمهم العرب فيه أن تتأجج الثورة في صدورهم، وإن بقيت مكبوتة بقوة السلطان الأجنبي المتسلط على البلاد.
وقد كشف مقتل عمر في بلاد العرب نفسها عن ظاهرة لم تكن لتوجد، لولا قيام الدولة العربية الإسلامية؛ فمنذ طعن أبو لؤلؤة عمر تولى المسلمين الفزع إشفاقا على مصيرهم، وجعلوا يفكرون فيمن يخلفه إذا قضى الله فيه بقضائه. وتحدث قوم إلى عمر في هذا الأمر وطلبوا منه أن يستخلف. وتردد عمر بادئ الأمر وقال: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني.» لكنه خشي بعد إعمال الفكر أن يضطرب الأمر إذا تركه رسلا. فقد اشترك العرب جميعا في محاربة الفرس والروم وأصبح لكل قبيلة أن تزعم لنفسها ما للمهاجرين والأنصار من حق الاشتراك في اختيار الخليفة، وقد يذهب بعضها إلى ادعاء الحق في ترشيح زعيمها لمقام الخلافة. وفي هذا الادعاء من الخطر على الإمبراطورية الناشئة ما لم يفت عمر؛ لذلك لم يلبث أن جعل الخلافة من بعده شورى في ستة يختارون أحدهم لها. وهؤلاء الستة هم: «عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص».
فلما عينهم بأسمائهم قال: «لا أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض، فأيهم استخلف فهو الخليفة من بعدي.»
واختيار عمر هؤلاء الستة يقف النظر. فليس بينهم واحد من أنصار المدينة ولا من غيرهم من قبائل العرب. بل هم جميعا من المهاجرين ومن قريش. مع ذلك لم يثر اختيار عمر إياهم ثائرة الأنصار ولا ثائرة غيرهم من العرب الذين أقبلوا أفواجا إلى المدينة بعد فريضة الحج، وظلوا بها بعد مقتل عمر حتى بايعوا خليفته. واطمئنان الأنصار وغيرهم من العرب إلى اختيار عمر هؤلاء الستة يعيد إلى الذاكرة ما حدث في سقيفة بني ساعدة إثر وفاة النبي، وحين كان جثمانه لا يزال في بيته لما يثو في قبره؛ فقد أراد الأنصار أن يكون الأمر لهم بعد رسول الله، وكان أكثرهم اعتدالا من يقول: «منا أمير ومن قريش أمير.» فلما قدم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى السقيفة يجادلون الأنصار فيما يطلبونه لأنفسهم كان مما قاله أبو بكر: «نحن المهاجرون، وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء وأنصارنا على العدو. أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعا. فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش؛ فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.»
أصبحت هذه الكلمة دستور الخلافة والحكم بين المسلمين قرونا حسوما منذ قالها أبو بكر؛ لذلك لم يعترض أحد استخلاف أبي بكر عمر، ولم يعترض أحد اختيار عمر الشورى بين هذا الحي من قريش، بل اطمأن له الأنصار واطمأن له العرب جميعا، وتركوا للستة أن يختاروا من بينهم من يرضونه خليفة لجماعة المسلمين.
لماذا ترك عمر الخلافة لاختيار الشورى ولم يستخلف واحدا بعينه من الستة الذين عينهم متأسيا بأبي بكر حين استخلفه؟
تجري بعض الروايات بأن سعد بن زيد بن عمر قال لعمر: «إنك لو أشرت برجل من المسلمين ائتمنك الناس.» فأجاب عمر: «إني قد رأيت من أصحابي حرصا سيئا.» وهذا الجواب يشهد بأنه خشي إن هو استخلف واحدا بذاته أن يدفع الحرص غيره إلى منافسته، فلا تجتمع كلمة المسلمين فيثور بينهم خلاف تخشى مغبته. ويرى بعضهم أن عمر لم ير واحدا من الستة أفضل من سائرهم، فلم ير أن يحمل أمام ربه وزر مشورة لا يطمئن إليها قلبه كل الاطمئنان. أم تراه خشي حين طعن أن يسرع إليه حينه قبل أن يجمع كلمة المسلمين على واحد منهم، فترك الأمر للشورى يتمون ما لم يجد هو فسحة من الوقت لإتمامه. هذه كلها فروض يتعذر على المؤرخ أن يرجح أحدها، وإن وجب أن يضاف إليها ما روي عن عمر أنه قال: «لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولي أبي حذيفة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله تعالى.» أفتعني هذه العبارة أنه كان يفضل أبا عبيدة وسالما على الستة الذين جعل الشورى فيهم، وأن هؤلاء الستة كانوا عنده سواء؟
على أنك تستطيع أن تجد تأويلا آخر لتصرف عمر؛ ذلك أنه لم يرد أن يلقي على أحد هؤلاء الستة عبء الخلافة وقد بلا من ثقله ما أجهده. روي أنه قال لعبد الرحمن بن عوف أول ما أفاق من طعنته: «إني أريد أن أعهد إليك» قال عبد الرحمن: «يا أمير المؤمنين إن أشرت علي قبلت منك.» فسأله عمر: «وما تريد؟» قال عبد الرحمن: «يا أمير المؤمنين أنشدك الله، أتشير علي بذلك؟» وأجابه عمر: «اللهم لا.» وكانت كلمة عبد الرحمن بعد هذه المشورة أن قال: «والله لا أدخل في هذا أبدا.» فقال عمر: «فهب لي صمتا حتى أعهد إلى النفر الذي توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض.»
أيا ما يكون الدافع الذي منع عمر من أن يستخلف، وجعله يسمي الشورى ليختاروا الخليفة من بينهم، فقد دلت الحوادث من بعد على صدق رأيه.
فقد اجتمع أصحاب الشورى لأول ما سماهم فإذا هم يختلفون، فيقول لهم عبد الله بن عمر: «أفتؤمرون وأمير المؤمنين حي؟» وسمع عمر هذه العبارة فناداهم: «أمهلوا، فإن حدث بي فليصل بكم صهيب
2
ثلاث ليال، ثم أجمعوا أمركم، فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.» ثم إنه دعا إليه أبا طلحة الأنصاري، وكان من الشجعان المعدودين فقال له: «يا أبا طلحة. كن في خمسين من قومك الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحدا يدخل عليهم، ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم. اللهم أنت خليفتي عليهم.»
قبض عمر وآن للشورى أن يجتمعوا ليختاروا أحدهم خليفة على المسلمين. واجتمعوا وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم ولم يرضوا أن يجلس المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص بالباب، بل حصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما وقال لهما: «تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى.» وبدءوا يتشاورون فما لبثوا أن اشتد بينهم الجدل، وارتفعت منهم الأصوات ارتفاعا دل أبا طلحة الأنصاري على شدة اختلافهم. فدخل عليهم وقال لهم: «إني كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها. والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم ، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون.»
كيف اشتجر الخلاف بين القوم وبلغ هذه الحدة، وكلهم من كبار صحابة رسول الله ومن أحسن المسلمين إيمانا بالله ورسوله؟
لقد رأينا ما شجر من خلاف بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة يسرع إلى تسليم الأنصار بحق قريش في الخلافة. وكان أبو بكر يومئذ جالسا بين عمر وأبي عبيدة. فأخذ بيد كل منهما وقال لمن حوله: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة - فأيهما شئتم فبايعوا.» وسمع عمر هذا الكلام فقال: «ابسط يدك يا أبا بكر»، وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وبايعه أبو عبيدة وبايعه الحاضرون جميعا خلا سعد بن عبادة زعيم الأنصار. وأصبح أبو بكر خليفة رسول الله في حكم الدول العربية الإسلامية، حتى إذا حضرته الوفاة لم يجد مشقة ذات بال في جمع كلمة المسلمين على استخلاف عمر.
ألم يكن للشورى في هذين الموقفين عبرة تسمو بهم على الاختلاف، وتدعوهم للاتفاق على من يبايعه المسلمون منهم على الخلافة؟
والواقع أن الأحوال التي أحاطت بالشورى كانت مختلفة كل الاختلاف عما أحاط بالمهاجرين والأنصار يوم السقيفة، وعما أحاط بالمسلمين يوم استخلف أبو بكر عمر. فيوم توفى الله رسوله كانت شبه الجزيرة ولما تلتئم وحدتها، وكانت أنباء المستنبئين في بني أسد وفي بني حنيفة وفي اليمن ذائعة يعرفها المهاجرون والأنصار، وكان الخوف من انتفاض العرب على الدين الجديد وعلى سلطان المدينة يساور النفوس، فكان ذلك كله واضح الأثر في جمع كلمة المجتمعين بالسقيفة. وزاد كلمتهم إسراعا إلى الاجتماع أن رسول الله كان قد أمر ببعث أسامة بن زيد على رأس جيش يواجه الروم، فزادهم ذلك تقديرا لدقة الموقف وجسامة التبعة التي يحملها من يقوم في خلافة رسول الله، ولم يكن المهاجرون ولا كان الأنصار قد عرفوا يومئذ من إغراء الفيء، ومن تدفقه على المدينة ما يجعلهم يرون الخلافة مغنما؛ لذلك كان الجدل بينهم دائرا حول دين الله ونصرته ومن يجب أن يخلف رسول الله فيها. أما ما وراء ذلك من شئون الملك وسلطانه فلم يكن يدور بخواطرهم إلا لماما. وكأنما استمسك الأنصار أول الأمر بحقهم في الاستئثار بالخلافة أو بالاشتراك فيها؛ لأن المدينة مدينتهم؛ ولأن المهاجرين طارئون عليهم فيها فهم أحق الناس بولاية أمرها وتدبير شئونها. فلما تبين لهم من محاورات السقيفة أن الأمر ليس أمر المدينة وحدها، ولكنه أمر الدين الناشئ أقروا بما للسابقين الأولين إلى هذا الدين وإلى صحبة رسول الله من حق في خلافته.
ويوم استخلف أبو بكر عمر كانت جيوش المسلمين بالعراق والشام تلقى الفرس والروم وتقف منهم موقف المدافع، ولا يعلم أحد ما يصير إليهم الأمر. بل لقد تثاقل المسلمون عن الذهاب إلى العراق ينصرون المثنى بن حارثة فيه، وأقاموا ثلاثة أيام لا يلبي أحد منهم دعوة عمر فزعا من الفرس وهيبة لهم. وليس حمل التبعة في هذا الموقف الدقيق مما يتنافس فيه المتنافسون يحاول كل أن يستأثر به لنفسه. وتقدير أبي بكر دقة هذا الموقف هو الذي دعاه لاستخلاف عمر؛ لأنه رآه أصلب أصحابه عودا وأقدرهم على متابعة سياسة لا بد لنجاحها من صلابة كصلابة عمر وعزم كعزمه. ورضي المسلمون خلافة عمر مع علمهم بشدته وغلظته، ولم ينافسه في هذه الخلافة أحد؛ لأنهم كانوا مشفقين من حرب الفرس والروم، تساورهم الحشية ألا يكتب الظفر للمسلمين الذين يواجهونهم، وأن يترتب على ذلك من النتائج ما تخشى عواقبه. فلما تولى عمر نجح في سياسة التوسع والفتح، فأقام الإمبراطورية الإسلامية وجعل من المدينة عاصمة العالم، ومن بلاد العرب الدولة الكبرى ترنو إليها أنظار الأمم جميعا من كل صوب، وتتدفق إليها الأموال من أرجاء الإمبراطورية أكداسا، فلا يدري عمر أيعدها عدا أم يكيلها كيلا، تبدلت الحال غير الحال ولم يبق عجبا أن يختلف الشورى، وأن يشتد بينهم الخلاف يريد كل منهم أن تكون الخلافة له.
وثم عامل آخر أثار الخلاف، ثم كان عميق الأثر في حياة الدولة من بعد. ذلك هو تنافس القبائل من قريش تنافسا كان قويا واضح الأثر في الجاهلية، فلما بعث النبي ودعا إلى المساواة وإلى الحق وإلى العدل المجرد عن الهوى كمن هذا التنافس في حياة الرسول، ثم بدأ يظهر عقب وفاته ولكن على استحياء. فلما انقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر ورأى العرب استعلاءهم على الفرس والروم برزت العصبية للقبيلة كرة أخرى، وعاد الناس يذكرون ما كان في الجاهلية من تنافس بين بني هاشم وبني أمية، وما كان لغيرها من القبائل من المكانة بمكة تدعوها جميعا إلى التنابذ والتناحر.
ويرجع التنافس بين بني هاشم وبني أمية إلى أكثر من مائة سنة قبل مولد النبي، فقد اجتمعت مناصب البيت الحرام كلها إلى قصي بن كلاب، وأقر أهل مكة بإمارته عليهم في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد. وكان لقصي ثلاثة بنين هم عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى، فلما كبر قصي وعجز عن الاضطلاع بالأمر جعل إمارة مكة ومناصب البيت الحرام لعبد الدار أكبر بنيه، وكان بنو عبد مناف أشرف في قومهم وأعظم مكانة. وكانوا أربعة هم: عبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب، وأغرتهم قوتهم بأن أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عمومتهم. وانقسمت قريش حلفين: حلف المطيبين ينصر بني عبد مناف، وحلف الأحلاف ينصر بني عبد الدار. ثم تداعى القوم إلى الصلح، فجعلوا لبني عبد مناف السقاية والرفادة،
3
ولبني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة.
وكان هاشم أكبر إخوته فولي السقاية والرفادة. فلما تقدمت به السن خيل لابن أخيه أمية بن عبد شمس أنه قدير على منافسته بأن يطعم قريشا في موسم الحج مثلما يطعمها هاشم، لكنه عجز فعيره الناس بعجزه، فخرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين. يقول المقريزي: «فكان هذا أول عداوة بين بني هاشم وبني أمية.»
4
بقيت هذه العداوة يرثها الأبناء عن الآباء. كانت العرب تحترم الجوار، فإذا أجار العربي رجلا أصبح بمأمن من أن يعتدي عليه أحد. وكان هذا عرفا محترما بينهم كل الاحترام. مع ذلك آذى حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم جد النبي في يهودي كان في جوار عبد المطلب، فما زال حرب بن أمية يغري به حتى قتله وأخذ ماله .
وظل التنافس متصلا بين بني أمية وبني هاشم، فلما بعث النبي كان بنو أمية أشد الناس عداوة له وتأليبا عليه، وكانت منافستهم بني هاشم أكبر باعث لهم على ذلك.
تجسس سليمان بن حرب والأخنس بن شريق وأبو الحكم بن هشام على الرسول ثلاث ليال، فسمعوا من وراء حجاب ما يتلو محمد من القرآن. وذهب الأخنس إلى أبي جهل في بيته وسأله: «يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟» فكان جواب أبي جهل: «ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!»
وكان أبو سفيان بن حرب بن أمية زعيم الذين حاربوا محمدا. كان ذلك دأبه ومحمد بمكة ثم ظل ذلك دأبه بعد أن هاجر رسول الله إلى المدينة. وحسبك أن تذكر أنه كان على رأس قريش في غزوة أحد. فلما انتصرت قريش صاح: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل.» وكان على رأس الأحزاب في غزوة الخندق، وكان قبل أحد وبعد الخندق يحرض على محمد ويدعو إلى قتله، فلما سار النبي لفتح مكة وخرج أبو سفيان ورأى أنه لا قبل لأهل مكة بلقاء المسلمين، استجار العباس بن عبد المطلب فأجاره وذهب به إلى ابن أخيه فسأل رسول الله أبا سفيان: أما آن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فكان جواب أبي سفيان: «بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء.»
5
ورأى بعد هذا الجواب أنه مقتول إن لم يسلم، فأسلم فرارا من القتل لا إيمانا بالله ورسوله، وبعد الفتح أسلم أهل مكة جميعا ومن بينهم بنو أمية، وكانوا أكثر قبائلها عددا وأعزها نفرا.
ولقد بقي التعصب للقبيلة آخذا بنفس أبي سفيان بعد إسلامه وإسلام بني أمية، وإن أعجزته قوة رسول الله وقوة الإسلام عن أن يبدي ما في نفسه، فلما توفي رسول الله وبويع أبو بكر ظن الفرصة سانحة لإلقاء بذور الفتنة. روي أنه أقبل بعد اجتماع البيعة لأبي بكر، وهو يقول:
والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، ثم نادى يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم ... أين المستضعفان، أين الأذلان علي والعباس؟ وأنشد يتمثل:
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
وتجمع الروايات التي أوردت هذا الحديث على أن عليا أبى أن يتابع أبا سفيان، وأنه قال له: إنك والله ما أردت بهذا إلا فتنة. وإنك والله طالما بغيت بالإسلام شرا. وقال له: طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئا، إني وجدت أبا بكر لها أهلا.
وقد اختلفت الروايات في موقف أبي سفيان من المسلمين بعد بيعة أبي بكر. فبعض يذهب إلى أنه حسن إسلامه وأنه كان يحض المسلمين بالشام على قتال الروم. وقد يؤيد هذه الرواية أن ابنيه يزيد ومعاوية كانا على رأس الجند بالشام، فلما مات يزيد جعل عمر بن الخطاب إمارة الشام لمعاوية. ويذهب البعض إلى أن أبا سفيان كان يظهر غير ما يبطن وأنه كان كهفا للمنافقين، فكان إذا رأى الروم ظهرت قال: إيه بني الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون تمثل بقول النعمان بن امرئ القيس بن أوس - أحد ملوك الحيرة:
بنو الأصفر الملوك الر
وم لم يبق منهم مذكور
فلما فتح الله على المسلمين وحدث الزبير بن العوام بحديث أبي سفيان قال: قاتله الله، أيأتي إلا نفاقا؟ أولسنا خيرا من بني الأصفر؟
والراجح أن الرواية الأخيرة مما وضعه الدعاة لبني العباس من بعد. فليس طبيعيا أن يتعصب أبو سفيان للروم على قومه العرب وابناه على رأس القوات التي تقاتل الروم. وربما كان من وضع هؤلاء الدعاة كذلك ما روي عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان بن عفان حين صارت الخلافة إليه، فقال له: «قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتارها بني أمية»، فصاح به عثمان: «قم عني!»
لكنا إن استطعنا أن نرجح كذب الرواية الأولى بسبب مغايرتها لمنطق الأحداث، فلا نستطيع أن نرجح كذب الرواية الثانية، وقد كان أبو سفيان متعصبا لقومه بني أمية أشد التعصب.
على أن هذا التنافس بين بني هاشم وبني أمية لم يمنع قوما من قرابة رسول الله الأدنين أن يناصبوه العداوة؛ لأنه طعن في دينهم وعاب ما كان يعبد آباؤهم. كان عمه أبو لهب وامرأته حمالة الحطب يؤذيانه أكثر مما كان يؤذيه بنو أمية وسائر قريش. وبقي عمه أبو طالب على دينه مع منعه النبي بكل ما كان له في مكة من جاه وأيد. وإنما أسلم عمه حمزة تعصبا لابن أخيه حين رأى أبا جهل يسب محمدا ويؤذيه. ولم يسلم عمه العباس حتى سار جيش المسلمين لفتح مكة.
لم يكن ذلك من أعمام محمد عجبا يؤاخذهم مؤاخذ به. فللعقائد سلطان على النفس يمسك الأكثرون معه عن مناقشة ما وجدوا عليه آباءهم، لمعرفة ما يحتويه من حق وما يشوبه من باطل، والأقلون الذين أنار الله بصائرهم هم الذين يهديهم الله إلى الحق عن بينة، فلا يتعصبون لباطل متى تبينوا الحق فأضاء آمالهم بنوره. هؤلاء لا تمنعهم عصبية لقبيلة ولا لجنس ولا لعقيدة عن أن يقبلوا على الحق متى دعوا إليه، فإذا اقتنعوا آمنوا به وأصبحوا من أكبر دعاته. كان ذلك شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، لم يكن أحد هؤلاء الصحابة من بني هاشم. وكان عثمان بن عفان من بني أمية، فهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. وكان أبو بكر أول رجل أسلم حين دعاه رسول الله بعد بعثه إلى الإسلام. وأذاع أبو بكر بين أصحابه دعوة الحق فتابعه هؤلاء الخمسة وعثمان على رأسهم، ودخلوا في دين الله وآمنوا بالله ورسوله. وهؤلاء الخمسة الذين سبقوا إلى الإسلام واستمسكوا به وحاربوا في سبيله ومات رسول الله وهو عنهم راض، هم الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى فيهم، وجعل معهم علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وختنه على ابنته فاطمة. ذلك أن عليا كان أول من أسلم من بني هاشم ثم حضر الغزوات كلها مع رسول الله.
وكانوا لسبقهم إلى الإسلام وصحبتهم رسول الله ذوي مكانة بين المسلمين. وكان لبعضهم برسول الله صلة قرابة أو رحم زادتهم قربا من قلوب الناس. وكان علي بن أبي طالب أقربهم رحما برسول الله وأكثرهم به صلة. وكان ابن عمه أبي طالب بن عبد المطلب، وأبو طالب هو الذي كفل محمدا صبيا بعد وفاة جده عبد المطلب، وهو الذي منعه من قريش بعد بعثه حين بالغت قريش في إيذائه؛ لذلك كفل رسول الله عليا في صباه فوفى بذلك لعمه أبي طالب خير وفاء. ومقام علي مع ابن عمه هو الذي جعله أول من أسلم من الصبيان، أسلم ولما يبلغ الحلم. فلما شب زوجه رسول الله ابنته فاطمة، فكانت معه إلى أن توفيت بعد أبيها بستة أشهر؛ وفاطمة هي أم الحسن والحسين ابني علي.
يلي الزبير بن العوام عليا في القرابة من رسول الله. فأمه صفية بنة عبد المطلب عمة محمد، وهو ابن العوام بن خويلد أخي خديجة أم المؤمنين. وقرابته هذه دفعته فأسلم، وهو ابن ست عشرة سنة ثم لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله، وذلك بعد أن هاجر الهجرتين جميعا إلى الحبشة فرارا إلى الله بدينه من أذى قريش. وقد بايع رسول الله يوم أحد على العرب. فلما كان يوم الخندق ندب رسول الله من يأتيه بخبر الأحزاب الذين حاصروا المدينة، فانتدب الزبير فقال رسول الله: (إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير بن العوام). وكانت مع الزبير إحدى رايات المهاجرين الثلاث يوم فتح مكة. وكان الزبير إلى قوة شكيمته وشدة بأسه كريما في الناس عزيزا عليهم؛ لهذا أدناه رسول الله وبادله الحب، فلما خط الدور بالمدينة جعل له بقيعا واسعا وأقطعه نخلا. وقد أحبه أبو بكر وعمر كما أحبه رسول الله، فأقطعه الصديق الجوف، وأقطعه عمر العقيق أجمع.
لم يكن لعثمان بن عفان مثل هذه القرابة من رسول الله، فجده أبو العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الجد الخامس للنبي، لكنه كان ختن رسول الله على ابنتيه رقية وأم كلثوم، وكان رسول الله قد زوجهما قبل بعثه من ابني عمه أبي لهب، فلما بعث واشتدت عداوة أبي لهب له أمر ابنيه فسرحا ابنتي محمد. فتزوج عثمان رقية، فهاجرت معه الهجرتين إلى الحبشة، وبقيت معه إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة. وقبيل غزوة بدر مرضت فتخلف عثمان عن الغزوة بإذن رسول الله لتمريضها، فلم يغن عنها التمريض فماتت فزوج رسول الله عثمان أختها أم كلثوم، فبقيت معه سنوات ثم ماتت قبل أبيها. قال رسول الله يعزي عثمان: «لو أن لنا ثالثة زوجناك.» ذلك بأن عثمان كان رجلا صالحا لينا حسن المعاشرة كريما، فكان رسول الله يحبه أعظم الحب ويعرف له فضله ورجحان عقله وحسن إيمانه.
ولم يكن صهر عثمان إلى النبي هو وحده الذي أدناه من محمد وحببه إلى قلبه، بل إنه كان كذلك من السابقين الأولين إلى الإسلام، لم يصده عنه منافسة قومه بني أمية لبني هاشم. وقد أثار إسلامه غضب قومه عليه. أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطا وقال له: «تدع دين آبائك إلى دين محدث. والله لا أدعك أبدا حتى تدع ما أنت عليه.» وكان جواب عثمان: «والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه.» ورأى عمه صلابته في الحق وشدة استمساكه به فلم يجد بدا من إرساله.
واشتد به أذى قومه من بعد فهاجر إلى الحبشة الهجرتين جميعا، فلما هاجر بعد ذلك إلى المدينة لم يضن على المسلمين بالبذل من ماله الكثير لمعونتهم، بل اشترك بأوفر نصيب في تجهيز جيش العسرة إلى تبوك، واشترى بئر رومة من يهودي ليشرب منها المسلمون، وجعل رشاءه فيها كرشاء واحد منهم. وكان رسول الله قد بعثه سفيرا إلى قريش عام الحديبية. فلما طال مكثه عندهم وظن المسلمون أنه قتل بايع رسول الله أصحابه بيعة الرضوان لقتال قريش ،
6
وضرب بإحدى كفيه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه بمحضر مما حدث. وكان عثمان كاتبا من كتاب الوحي. لا جرم، وذلك قربه من رسول الله أن قد كان له بين المسلمين حظوة ومقام كريم.
أما سعد بن أبي وقاص فكان من بني زهرة أخوال النبي، هو سعد بن مالك بن وهيبب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. فهو قرشي زهري. وأمه هي بنت سفيان بن أمية. وقيل: بنت أبي سفيان بن أمية. وكان سعد من أسبق الناس إلى الإسلام. أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان ذا مال ونعمة يرتدي الخز ويلبس في يده خاتما من ذهب، شهد مع رسول الله الوقائع كلها، ووقف إلى جانبه ودافع عنه يوم أحد حين ولى الناس. وكان له من مواقف البطولة والإقدام ما جعل المسلمين يجمعون على اختياره لمواجهة الفرس في القادسية بعد نكبة أبي عبيدة بن مسعود الثقفي في غزوة القرقس. وكان لسبقه إلى الإسلام ولشدة تعلقه بالنبي ولبطولته وإقدامه من أحب الناس إلى رسول الله وأقربهم إلى قلبه؛ لذلك كان مما قاله له عمر بن الخطاب يوم ولاه إمارة الجيش الذاهب إلى القادسية: «يا سعد، سعد بنو وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وصاحبه، فإن الله - عز وجل - لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، ليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم
منذ بعث إلى أن فارقنا يلزمه فالزمه، فإنه الأمر.»
7
وكان عبد الرحمن بن عوف كسعد بن أبي وقاص قرشيا زهريا من أخوال رسول الله. هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، وأمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، وهي لذلك وثيقة القربى من أبيه، وكان عبد الرحمن صهرا لعثمان بن عفان وابن عم لسعد بن أبي وقاص. وكان منذ نشأته تاجرا أمينا زادت أمانته ربح تجارته وجعلته موضع الثقة من الناس جميعا، وموضع الثقة من رسول الله منذ دخل في دين الله مع السابقين والأولين، حتى كان رسول الله يقول عنه: «أمين في الأرض أمين في السماء.»
8
لما هاجر إلى المدينة نزل على سعد بن الربيع الخزرجي، فقال له سعد: «هذا مالي فأنا أقاسمه، ولي زوجتان فأنا أنزل لك عن إحداهما.» قال عبد الرحمن: «بارك الله لك في مالك وفي زوجك، ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم»، فدلوه، فخرج إليها فرجع رابحا، ثم لم يزل بعد ذلك يتجر ويزداد ربحه حتى كان عند وفاته من أكثر المسلمين مالا. وكان رسول الله يؤثره بصحبته، كما كان يشير على أبي بكر وعمر. وكان لأمانته ورفقه يحظى من ثقة أهل الرأي وطمأنينتهم بما جعل الكثيرين يرشحونه للخلافة بعد عمر.
وكان طلحة بن عبيد الله من بني تيم بن مرة قبيلة أبي بكر. فهو ابن عثمان بن عمر بن كعب بن تيم بن مرة. وأمه الصعبة بنت عبيد الله الحضرمي، وأم الصعبة عائشة بنت وهب بن عبد الدار بن قصي بن كلاب. وكان طلحة تاجرا يذهب في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام. وكان يعد من حكماء قريش ومن أكثر أهل مكة شجاعة وكرما، فلما بعث النبي وأسلم أبو بكر كان طلحة أول من جاء إلى الصديق، وذهب معه إلى النبي وأعلن إليه إسلامه. عاد يوما بعد رحلته إلى الشام فذكر للنبي أن أهل المدينة ينتظرون هجرته إليهم. فلما استقر المسلمون بالمدينة وبدأت الغزوات كان طلحة في مقدمة الذين اشتركوا فيها. بعثه رسول الله يتعرف أخبار أبي سفيان قبيل غزوة بدر. ولما أصيب رسول الله في أحد وقف طلحة إلى جانبه، وكان من أشد المدافعين عنه حتى أصابته جراحات كادت تقضي عليه. وبعد غزوة تبوك أمر رسول الله طلحة فأحرق بيت سويلم اليهودي الذي اتخذه المنافقون كهفهم للدس بين المسلمين. وعلى أثر وفاة رسول الله اعتزل طلحة مع علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في بيت فاطمة، فلم يحضر اجتماع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة في سقيفة بني ساعدة. وإذ بويع أبو بكر بالخلافة ووقف في وجه المرتدين والذين منعوا الزكاة كان طلحة مع علي والزبير على حراسة المدينة. ثم إن الخليفة استبقاه بعد ذلك إلى جانبه مع المشيرين عليه أمثال عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من كبار الصحابة والسابقين إلى الإسلام. وكان طلحة ممن عارضوا أبا بكر في استخلاف عمر حين كان الصديق في مرضه الأخير. ذهب إليه في جماعة من المسلمين، وقال له: «استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك. فغضب أبو بكر وصاح في طلحة: أبالله تخوفني؟ إذا لقيت ربي فسائلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.»
9
ولم يغير رأي طلحة في عمر من مكانته عند الفاروق بعد استخلافه. فقد بقي بالمدينة يشير عليه كما كان يشير على أبي بكر. فلما طعن عمر جعل طلحة في الشورى رغم غيابه عن المدينة، ثم قال لجماعة الشورى: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثة أيام فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم.
أما وهؤلاء هم الرجال الذين اختارهم عمر للشورى، وهذه صلتهم برسول الله ومواقفهم معه، فكيف اشتد الخلاف بينهم لأول ما اجتمعوا يختارون أحدهم في الخلافة حتى يقول لهم أبو طلحة الأنصاري: «أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها.» سقنا من الاعتبارات ما يشهد بأن الخلافة أصبحت بعد انفساح رقعة الإمبراطورية مأربا يطمع فيه الطامع. وثمة اعتبار آخر أدى إلى شدة الخلاف وكان طبيعيا أن يؤدي إلى هذه الشدة؛ فقد كانت العرب تحجم عن استخلاف بني هاشم مخافة أن تجتمع النبوة والخلافة في بيتهم، فيجتمع لهم بذلك سلطان الدين وسلطان الدنيا، فلا تطمع بعد ذلك قبيلة غيرهم في أن يكون لها حظ في الخلافة. وكانت العرب تخشى استخلاف بني أمية؛ لأنهم كانوا أكثر قريش عددا وأعزها نفرا، فإذا آلت الخلافة إليهم لم يكن يسيرا بعد ذلك دفعهم عنها. فرأى بنو هاشم وبنو أمية في موقف العرب منهم ظلما لا مسوغ له، ورأى كل من البيتين أن يعمل لرفع هذا الخطر الجائر بأن يسعى إلى الخلافة، ويلتمس الوسيلة ليكون الخليفة من بين أبنائه. أما وعثمان وعلي في الشورى فالفرصة لهذا السعي سانحة ومن سوء السياسة أن تضيع.
على أن ما بين بني هاشم وبني أمية من تنافس قديم حال بينهما وبين إعلان ما تكنه صدور رجالهما للناس. وأعانهما اختيار عمر جماعة الشورى على ستر هذا المكنون في الصدور، وإن كشف اختلاف الشورى وما انتهى إليه أمرهم عن الكثير منه.
لم يكن العباس بن عبد المطب عم النبي يطمع في الخلافة لنفسه. فهو لم يكن من السابقين إلى الإسلام، بل كان أدنى لأن يكون من مسلمة الفتح. فقد أسلم حين كان جيش رسول الله معدا لفتح مكة. ولكنه كان من أكثر بني هاشم حكمة ومن أشدهم حرصا على أن تكون الخلافة في بيت النبي. روي أنه قال لعلي بن أبي طالب حين سمى عمر الشورى: «لا تدخل معهم.» وأجابه علي: «إني أكره الخلاف.» فكان رد العباس: «إذن ترى ما تكره.»
وكان عمر قد قال للشورى: إن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فلما سمعهما علي خرج فلقي عمه العباس فقال له علي: عدلت عنا. فقال العباس: وما علمك؟ فقال علي: قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما.
فلما سمع العباس قول علي أجابه في شيء من الحدة : «لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك. واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا نناله إلا بشر لا ينفع معه خير.»
ولم يكن بنو أمية أقل من بني هاشم حرصا على أن تكون الخلافة فيهم. فلما حان دفن عمر فحمل جثمانه إلى مسجد النبي ليصلى عليه، أقبل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وكل يريد أن يتقدم صاحبه لهذه الصلاة فلما رآهم عبد الرحمن بن عوف على هذه الحالة قال: إن هذا لهو الحرص على الإمارة. لقد علمتما ما هذا إليكما، ولقد أمر به غيركما. تقدم يا صهيب فصل عليه.
10
اختلف أهل الشورى وارتفعت منهم الأصوات فدخل عليهم أبو طلحة وقال لهم: أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون. ومع ذلك ظل الخلاف متصل الحدة يوما كاملا في رواية، ويومين كاملين في رواية أخرى. وخشي عبد الرحمن بن عوف تفاقمه وما يؤدي إليه هذا التفاقم من نتائج تخشى عواقبها، فقال للمجتمعين: «أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم.» ونظر إليه القوم وقد تولتهم الدهشة. فأي كلام هذا؟! إنهم يتنازعون أشد النزاع يريد كل أن تكون الخلافة له. فكيف يريد عبد الرحمن أن يتنزل أحدهم عن مطمعه ليكون حكما بينهم يوما أو يومين، ثم لا يكون له بعد ذلك في الخلافة نصيب؟!
لكن دهشتهم لم تطل مداها؛ فقد أسرع عبد الرحمن فقال: «فأنا أنخلع منها.» وأسرع عثمان فأجابه: «أنا أول من رضي.» وقال سعد والزبير: «قد رضينا .» وإذ كان طلحة غائبا فلم يبق إلا أن يصرح علي بن أبي طالب عن رأيه. لكن عليا بقي ساكتا لا يقبل ولا يرفض. فلعله ظن هذا الصنيع من عبد الرحمن خدعة أراد بها أن يمهد الطريق لتولية صهره عثمان، فسكت يفكر فيما يفسد به هذه الخدعة. لكن عبد الرحمن لم يمهله ليدبر الرأي في نفسه بل سأله: «ما تقول يا أبا الحسن؟» وأبدى علي ريبته في صنيع ابن عوف بقوله: «أعطني موثقا، لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة نصحا»، فسارع عبد الرحمن فأجاب في غير تردد: «أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين نصحا.»
أي داع دعا عبد الرحمن لأن يسلك هذا المسلك؟ لقد كان يعلم أن كثيرين من المسلمين يرشحونه للخلافة، وأن العرب كانت ترضاه مطمئنة لسابقته؛ ولتظل الخلافة بعيدة عن بني هاشم وبني أمية. أفكان صدق الرغبة عن تولي الخلافة منذ كاشفه عمر رغبته في أن يعهد إليه؟ ما باله إذن قبل أن يكون في الشورى، وما له لم يتنح منذ اللحظة الأولى عن الاشتراك مع أهلها؟ يذهب المؤرخون المسلمون إلى أنه لم يكن يرفض أن يكون في الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، وأن رغبته عن الخلافة كان ميسورا تحقيقها مع وجوده فيمن اختارهم عمر. وهذا صحيح. ويذهب بعض المستشرقين إلى أنه أراد أن ينخلع من الترشيح وأن يجعل تولية الخليفة لنفسه ليولي صهره عثمان، ويحتجون لذلك بقول علي لعمه العباس: «وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان، فيولي أحدهما الآخر.» بل إن جماعة منهم ليسرفوا في الظن فيزعمون أن عبد الرحمن لم يكن يحسب أن يطول العمر بعثمان، وكان يومئذ قد بلغ السبعين وأن أعباء الخلافة كانت لا شك تهيضه، وأنه عند ذلك يستخلف عبد الرحمن لا محالة. وهذا الإسراف في المظنة لا مسوغ له، فعبد الرحمن كان مؤمنا صادق الإيمان، يعلم أن لكل أجل كتابا
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . أما صهره لعثمان وما قد يميل ذلك به إلى إيثار ابن عفان على علي فاستنتاج قد يغري بتصديقه ما حدث بالفعل من تولية عبد الرحمن عثمان. لكنه لا يعدو أن يكون استنتاجا قد يشوبه الخطأ. والطريقة التي اتبعها عبد الرحمن في اختيار الخليفة لا تجعل لهذا الاستنتاج محلا.
فقد كان عبد الرحمن يعلم أن عليا وعثمان هما المتنافسان الأساسيان؛ ولذلك سعى لحصر الترشيح فيهما، وأول ما صنع من ذلك أن خلا بعلي وقال له: «تقول إنك أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟» فأجابه علي: عثمان. ثم إنه خلا بعثمان وقال له: «تقول شيخ من بني عبد مناف، صهر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وابن عمه، لي سابقة وفضل، ولم تبعد، فلم يصرف هذا الأمر عني؟ ولكن لو لم تحضر، أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟» وأجابه عثمان: علي. وكان عبد الرحمن قد طلب إلى الشورى أن يفوض ثلاثة منهم ما لهم من حق في ولاية الأمر إلى ثلاثة: ففوض الزبير ما له من حق فيها إلى علي، وجعل سعد حقه إلى عبد الرحمن، وترك حق طلحة لعثمان. أما وقد خلع عبد الرحمن نفسه فقد انحصر الترشيح في علي وعثمان، وأصبح الأمر في اختيار أحدهما معلقا في عنق عبد الرحمن.
أتراه يستخير الله ويقضي بينهما أيهما أفضل فيوليه؟ لقد كان في حل من أن يفعل أن أعطى القوم ميثاقه وأخذ منهم ميثاقهم. لكنه خشي إن هو استقل برأيه أن لا تقره عليه كثرة المسلمين الذين اجتمعوا بالمدينة من أنحاء الإمبراطورية الإسلامية المختلفة بعدما أدوا فريضة الحج، ثم أمسكهم مقتل عمر في انتظار ما تسفر عنه الشورى؛ لذلك جعل يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد ورءوس الناس يسألهم جميعا، مثنى وفرادى، مجتمعين ومتفرقين، سرا وعلانية، حتى يجتهد في أفضل الرجلين فيوليه.
يجمع المؤرخون على أن مشاورات عبد الرحمن أسفرت عن كثرة تشبه الإجماع في صف عثمان، لكنهم يختلفون في الأسباب التي جمعت هذه الكثرة حوله. يقول بعضهم: إن الناس مالوا إلى رجل لا يكون كعمر بطشا وشدة وانصرافا عن الدنيا وصرفا للناس عنها، وإن عثمان كان هذا الرجل ولم يكنه علي؛ لذلك رغبوا عن ابن أبي طالب مخافة أن يحملهم على ما كان عمر يحملهم عليه. ويذهب البعض إلى أن مشاورات عبد الرحمن استمرت يومين وليلتين، كان بنو هاشم وبنو أمية يقوم كل منهما أثناءها بالدعاية لصاحبه. وإذ كان بنو أمية أكثر عددا وأوفر مالا وأسخى يدا فقد طغت دعايتهم على دعاية الهاشميين ومالت بالكثرة الكبرى إلى ناحية عثمان. فإذا صح هذا فلعل الدعاية الأموية قامت على أن الأمر إذا آل لصاحبهم وسع على الناس، وتركهم ينعمون بما تدره مغانم الفتح من أسباب المتاع ولم يبطش بهم بطش عمر. وفي رأي ثالث أن الناس رأوا عثمان ناهز السبعين أو جاوزها ولم يكن علي قد بلغ الستين، وذكروا صحبة عثمان لرسول الله ومواقفه منه، ثم رأوا خلافته غير مانعة عليا أن يكون الخليفة من بعده، فكان عطفهم على شيخوخته وتقديرهم ماضية سبب ميلهم إليه واختيارهم إياه.
وأيا ما صح من هذه الأسباب فقد كانت الكثرة التي تشبه الإجماع واضحة في صف عثمان، مع ذلك خشي عبد الرحمن بن عوف أن يتهمه أنصار علي إن هو أعلن هذه النتيجة، فذهب إلى دار ابن أخته المسور بن مخرمة فأيقظه، وقد مضى أكثر الليل من تلك الليلة الأخيرة التي فرضها عمر لاختيار أمير المؤمنين، وطلب إليه أن يدعو له عليا وعثمان، فلما أقبلا قال لهما: إني سألت الناس فلم أجدهم يعدلون بكما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهم لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن.
وخرج بهما إلى المسجد في الصبح بعد أن نودي في الناس أن الصلاة جامعة، فلما تم جمع الناس صعد عبد الرحمن المنبر فدعا دعاء طويلا ثم قال: «أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم.» قال سعيد بن زيد وهو في محله: إنا نراك لها أهلا. وأجابه عبد الرحمن: أشيروا علي بغير هذا. وأشار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو بعلي، وأشار عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن أبي ربيعة بعثمان. وأدى اختلاف الفريقين إلى تشاتم بين عمار وابن أبي سرح. وخشي سعد بن أبي وقاص أن يمتد الخلاف وتثور ثائرته، فصاح: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس! قال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
ألمح الآن عبد الرحمن بن عوف وهو بمجلسه على المنبر والمسلمون من حوله قد امتلأ بهم فراغ المسجد، فلا يفوتني شيء من أمارات الجد البادية على وجهه. إنه عزم أن يجعل الخلافة لعثمان وأن يدعو الناس لبيعته. أتراهم يسارعون إلى تلبية دعوته؟ أم ينقسمون ويجري بينهم ما جرى منذ هنيهة بين عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي سرح؟ لئن حدث هذا الأمر وافتتن الناس لتكونن الطامة الكبرى، ولتصبحن المدينة مسرحا لاضطراب يستطير شره. فكثرة الناس عبيد لأهوائهم ومنافعهم، وهم يضحون في سبيلها بأمن الدولة وسلامتها. ولكن التردد في تولية الخليفة لا يحسم الشر ولا يجنب المسلمين الفتنة بل هو أدعى إلى قيامها وإلى اشتدادها؛ لذا دعا عبد الرحمن عليا فأخذ بيده، وقال له: هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ فأجابه علي: «أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.» وأرسل عبد الرحمن يده ودعا عثمان وأخذه بيده وقال له: «هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟» وأجابه عثمان: «اللهم نعم.» فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال ثلاثا: «اللهم اسمع واشهد.» ثم قال: «اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك، وجعلته في رقبة عثمان.» وبايعه. عند ذلك أقبل من بالمسجد يتزاحمون يبايعون عثمان.
تختلف الروايات في موقف علي من بيعة عثمان، ولكنها تجمع على أن الناس أقبلوا على بيعة الخليفة الشيخ أفواجا، لم يختلف منهم أحد ولم يعترض أحد. أفكان ذلك حبا منهم لعثمان؟ أم اغتباطا بالفراغ من أمر خطير في حياة الدولة لم يكن من الفراغ منه بد؟ فقد كان الرجال الستة موضع إجلال المسلمين وإكبارهم. بل لقد نسب إلى علي أنه قال بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وما كانت في قريش تداولتموها بينكم»؛ لذلك لم يثر عدول عبد الرحمن بن عوف عن علي بن أبي طالب ثائرة، بل قابل الناس خلافة عثمان مقابلة رضا واطمئنان.
أما علي بن أبي طالب فتختلف الروايات في موقفه من عثمان اختلافا يتعذر معه ترجيح إحداها. روى ابن سعد بإسناد أن أول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب. وروي بإسناد آخر أن عليا بايع عثمان أول الناس ثم تتابع الناس فبايعوه. وروى ابن كثير أن عبد الرحمن بن عوف قعد على المنبر مقعد النبي، وأجلس عثمان بعد أن بايعه على الدرجة الثانية. وجاء إليه الناس يبايعونه وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال: آخرا. ويسوق الطبري روايتين تدلان على أن اختيار عثمان ترك في نفس علي أثرا عميقا. أما الأولى فتذهب إلى أنه لما أقبل الناس يبايعون عثمان بعد أن بايعه عبد الرحمن، تلكأ علي، فقال عبد الرحمن:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما . فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة أيما خدعة! أما الرواية الثانية فتجري بأنه لما بايع عبد الرحمن عثمان قال له علي: حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتهم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. والله كل يوم هو في شأن. وأجاب عبد الرحمن: «يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان.» وخرج علي وهو يقول: «سيبلغ الكتاب أجله.»
يشير ابن كثير إلى روايتي الطبري هاتين فيقول: «وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره من رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: «خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه»، وإنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن:
نكث فإنما ينكث على نفسه
إلى آخر الآية، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وفاعليها، والله أعلم.»
يتعذر ترجيح إحدى هذه الروايات. ويغلب على الظن أن الكثير منها وضع من بعد دعاية لأغراض سياسية. من ذلك ما فسر به الطبري قول علي بن أبي طالب: خدعة وأيما خدعة، وذلك حين دعاه عبد الرحمن بن عوف لبيعة عثمان حتى لا ينكث على نفسه. فقد ذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص لقي عليا في ليالي الشورى فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وإنه ما أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ولكن الجهد والطاقة فإنه أرغب له منك»، ثم لقي عثمان فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فأقبل.» ولست أشك في أن هذه الرواية نسجت بعد الذي كان بين علي وعمرو بن العاص عند الخلاف مع معاوية. فلم يكن عمرو كارها لعثمان حين مقتل الفاروق. وإن طائفة من الروايات لتجري بأن عثمان عزل عمرا عن مصر بعد قليل من توليته. والإجماع منعقد على أن عثمان استعان بعمرو حين هاجم الروم الإسكندرية، فلما انتصر ابن العاص أراد عثمان أن يجعله أميرا على جند مصر مع بقاء عبد الله بن أبي سرح واليا عليها وصاحب خراجها فرفض عمرو وقال: أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها! ثم عاد إلى مكة وبقي بها حتى انضم إلى معاوية في خلافه مع علي. وهذا كله يشهد بأن عمرا وعثمان حين الشورى كانا على وفاق يدعو عمرو لخدعة علي؛ وهو لذلك يقطع بأن الرواية التي أوردها الطبري تعليلا لقول علي: «خدعة وأيما خدعة»، منقوضة من أساسها.
وأعتقد كذلك أن ما أورد من الألفاظ على لسان علي أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما أدنى إلى أن يكون موضوعا عبر به واضعوه عما اقتنع بعضهم بأنه حدث، وما أراد بعضهم به الدعاية السياسية لغرض بذاته. ولست أريد الإسهاب في الإبانة عن الحجة التي تدعوني لهذا الاعتقاد. وحسبي أن أشير إلى ما ذكره جامعو الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه لم يصح عندهم عشر معشار ما روي لهم منه. ورواية عبارات بألفاظها عن علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما أدعى إلى التمحيص. فإنما دونها المؤرخون بعد أن مرت عشرات السنين على الحوادث التي رووها، وبعد أن لعبت الدعايات السياسية دورا خطيرا في حياة الدولة الإسلامية. لا عجب وذلك هو الشأن أن يدونوا ألفاظا تعبر عن مشاعر أصحابها، وإن لم تكن هذه الألفاظ قد صدرت عنهم بذاتها.
لكن ثمة أمرين لا ريبة عندي في صحتهما: أولهما أن عليا وبني هاشم لم تسترح نفوسهم لبيعة عثمان بحجة أنهم أهل بيت النبي، فإذا ألقت الخلافة مقاليدها إليهم لم تخرج منهم أبدا.
الأمر الثاني أن الكثرة الكبرى من المسلمين استراحت لبيعة عثمان، وأقبلت عليها راضية مطمئنة. فليس منهم من ذكر حين البيعة أن عثمان من بني أمية، أو ذكر عداوة بني أمية لرسول الله ومنافستهم القديمة لبني هاشم وتخلفهم عن الدخول في الإسلام حتى فتحت مكة أبوابها عجزا عن مقاومة المسلمين، بل ذكروا جميعا سبق الخليفة الشيخ إلى الإسلام، ووقوفه في جانب رسول الله، وإحسانه معاملة زوجتيه رقية وأم كلثوم، وهجرته إلى الحبشة وإلى المدينة، وبذله عن سعة لنصرة دين الله والمؤمنين به. روي أن طلحة بن عبيد الله قدم المدينة غداة بيعة عثمان. فلما دعى للبيعة له قال: أكل قريش راض به؟ قيل: نعم. وذهب إلى عثمان فسأله: أكل الناس بايعوك؟ وأجابه عثمان: نعم. قال طلحة: قد رضيت، لا أرغب عما قد اجتمعوا عليه، وبايعه. ولقد تمت بيعة عثمان في جو من التفاؤل وحسن الرجاء في المستقبل. فلما فرغ الناس منها بدأ من جاءوا بعد الحج إلى المدينة ينصرفون عنها إلى مواطنهم بالعراق وفارس وبالشام ومصر، وكل يرجو أن يزيده الله سعة من فضله.
وكذلك عادت الأمور سيرتها الأولى، وجرى الناس في مألوف حياتهم، وآن لعثمان أن يضطلع بأعباء الخلافة يصرف أمورها على نحو يتفق مع ما جبل عليه من دماثة في الطبع ورقة في الخلق وصدق في الإيمان وتجرد للخير، وأن يواجه موقفا يختلف عن موقف عمر، وعن موقف أبي بكر يوم اضطلع كل منهما بعبء الخلافة، ويحتاج في مواجهته إلى لون جديد من السياسة وفق عثمان إليه توفيقا ظاهرا أول الأمر، ثم أعجزه تقدم السن وأعجزته الأحداث فلم يحسن تدبيره من بعد.
الفصل الثاني
عثمان بين أمسه وغده
كان عثمان قد ناهز السبعين حين بويع. وكان رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير حسن الوجه، رقيق البشرة، أسمر اللون، به شيء من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، أصابه الصلع بعد أن كان كثير شعر الرأس. وكان يشد أسنانه بالذهب، ويتختم في يده اليسرى، ويرتدي اللباس الحسن والثوب الثمين؛ ذلك أنه كان واسع الثروة يعيش في خفض ولين.
وكان شديد الحياء. روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «أصدق أمتي حياء عثمان.» وكان حياؤه يزيد في تلفته. وكان لإحدى نسائه جارية تدعى بنانة، فكان إذا اغتسل جاءته بثيابه فيقول لها: «لا تنظري إلي فإنه لا يحل لك.» ثم كان حياؤه يدعو إلى الحياء منه. روي عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله كان جالسا كاشفا فخذه فاستأذن عليه أبو بكر فأذن له وهو على حاله، واستأذن عليه عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه. فلما قاموا قالت عائشة: «يا رسول الله، استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك.» قال رسول الله: «يا عائشة، ألا نستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه.» أو قال: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة.» وفي رواية أن عائشة قالت: «يا رسول الله ما لي لا أراك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان.» فكان جوابه: «إن عثمان رجل حيي، فإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة ألا يبلغ إلي حاجته.»
وكان عثمان لحيائه يهاب الحديث. روى ابن سعد في الطبقات قول أحدهم: ما رأيت أحدا من أصحاب رسول الله كان أتم حديثا ولا أحسن من عثمان، إلا أنه كان يهاب الحديث، وكان لهيبته الحديث يعاف الحوار وطول الجدل، فإذا التزم أمرا أصر عليه فتعذر صرفه عنه، وكان يزيد في إصراره على رأيه ما أفاء الله عليه من بسطة في الرزق، وأنه من بني أمية أكثر قريش عددا وأقواها يدا. على أن ما جلبه عليه حياؤه من هيبة الحديث جعله لين الجانب، كما جعله ثراؤه وعلو حسبه كريما محسنا. وحببه كرمه وحببته رقته إلى الناس. ثم كان لاعتداده لعشيرته واعتزازه برأيه محترما فيهم مرموقا منهم بعين التقدير والإكبار.
وكان تاجر بز في جاهليته وإسلامه. وكانت أمانته وما قدمنا من صفاته سببا في رواج تجارته وكثرة ربحه، ثم كانت وكان حياؤه مانعين له في صباه وشبابه من الانزلاق مع نزوات الشباب. فلم يؤثر عنه أنه كان صاحب فخر أو صحاب نساء. وإن دلت الروايات مجتمعة على أنه كان رقيق القلب حلو المعشر، للعاطفة على نفسه سلطان أي سلطان. وكانت رقته وحلاوة معشره تدعوانه لتجنب الأذى والقسوة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ولد عثمان في السنة السادسة لعام الفيل، فكان يصغر النبي بست سنوات. ولقد عاش في صباه وفي شبابه عيش أمثاله الموسرين من قريش عامة ومن بني أمية خاصة. فلما بعث رسول الله كان في السابقين الأولين إلى الإسلام. وقد ذكر المؤرخون في سبب إسلامه روايات نثبت بعضها هنا.
قال ابن هشام في السيرة: «إن أبا بكر بعد إسلامه جعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه؛ فأسلم بدعائه عثمان بن عفان وسبعة آخرون سبقنا إلى ذكرهم. فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين استجابوا لدعائه فأسلموا وصلوا.» وقال ابن سعد في الطبقات: خرج عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله على أثر الزبير بن العوام، فدخلا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القرآن وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله، فآمنا وصدقا، فقال عثمان: «يا رسول الله، قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام إذا مناد ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا به. وكان إسلام عثمان قديما قبل دخول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
دار الأرقم.» وقال ابن كثير في البداية والنهاية: «أسلم عثمان - رضي الله عنه - قديما على يدي أبي بكر الصديق»، وكان إسلامه عجيبا فيما ذكر الحافظ بن عساكر. وملخص ذلك أنه لما بلغه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زوج ابنته رقية، وكانت ذات جمال، من ابن عمه عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموما، فوجد عندهم خالته سعدية بنت كريز، وكانت كاهنة، فبشرته بزواجه من رقية. قال عثمان: «فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة وقد تزوجت بغيري. فقلت: أيا خالة ما تقولين؟!» قالت: «عثمان لك الجاه، ولك الشأن، هذا النبي معه البرهان، أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فتابعه لا تغتالك الأوثان.» قال: «قلت: إنك لتذكرين أمرا ما وقع ببلدنا.» فقالت: «محمد بن عبد الله رسول من عند الله، بتنزيل الله، يدعو به إلى الله»، ثم قالت: «مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح، ومدت الرماح.» قال عثمان: «فانطلقت مفكرا فلقيني أبو بكر فأخبرته»، فقال: «ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومك، أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع.» قلت: «بلى، والله إنها لكذلك.» فقال: «والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه؟» فاجتمعنا برسول الله. فقال: «يا عثمان، أجب الله إلى حقه، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه»، قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية ابنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكان يقال:
أحسن زوج رآه إنسان
رقية وزوجها عثمان
هذه روايات قيلت في إسلام عثمان، لك أن تأخذ منها ما تشاء وأن تدع ما تشاء. ولك أن تقول إن رواية ابن كثير موضوع أكثرها، فلم يكن أمر محمد قد فشا إلى يومئذ في قريش، وكانت دعوته لا يزال الناس يتحدثون عنها على استحياء. ولست أدري أكان لتعلق عثمان برقية أثر في إسلامه. فلم تكن هي قد بلغت العشرين، حتى ولو أنها كانت كبرى ما أعقب رسول الله، وكان عثمان يومئذ يقارب الأربعين. وكان قد تزوج غيرها في جاهليته فكان يكنى أبا عمر، فلما ولد له من رقية غلام سماه عبد الله واكتنى به، وبقيت له هذه الكنية رغم أن الغلام مات طفلا في السادسة من عمره. ولعل ابن كثير ساق هذه الرواية عن الحافظ ابن عساكر عمن أخذها الحافظ عنهم؛ لأنها تتفق وما عرف من رقة عثمان وتملك العاطفة قلبه. وهذا المعنى هو ما دعانا إلى إثباتها هنا، وإن كنا في ريب منها حتى لنرجح أنها وضعت من بعد لسبب من الأسباب.
أسلم عثمان وتزوج رقية بنت رسول الله وأقام معها بمكة يزاول تجارته، ويشارك إخوانه السابقين إلى الإسلام في الأخذ بما ينزل الوحي به وما يلقي محمد عليهم من تعاليمه. وبدأ الإسلام ينتشر فبدأت قريش تناوئ المسلمين وتصيبهم بالأذى. وظلوا كذلك سنوات حسوما. فلما ضاقوا به ذرعا أمرهم رسول الله أن يتفرقوا في الأرض فرارا إلى الله بدينهم، ونصح إليهم أن يذهبوا إلى أرض الحبشة. وكان أول الذين ذهبوا إليها أحد عشر مسلما رجالا ونساء، وكان عثمان وزوجته رقية أسبق هؤلاء إلى الهجرة.
ما هو السبب في إسراع عثمان إلى الهجرة وفي أخذه زوجه معه؟ وما باله لم يبق بمكة كما بقي بها من السابقين إلى الإسلام من آثروا المقام إلى جانب رسول الله يمنعونه، ولا يضيقون صدرا بالأذى في سبيل الله؟ أفكان ذلك طلبا منه للسلامة وإيثارا للعافية؟ أم أنه، وكان يمقت القسوة، لم يطق أن يرى غيره من المسلمين يقاسي العذاب ألوانا؟ أو ترى بني أمية كانوا أشد بالذين أسلموا من بني قومهم بطشا، فكان عثمان الأموي وصهر رسول الله أشد تعرضا للمكروه؟ قد يكون بعض هذه الأسباب أو كلها مما أسرع به إلى الهجرة. ولعله أسرع إلى الهجرة مخافة أن تصاب زوجه رقية بسوء ولا يستطيع منعها من قومه فيكون ذلك له عار الأبد. وهذا الدافع الأخير كان قوي الأثر في نفس عثمان. روي أن امرأة مسلمة قدمت من أرض الحبشة فسألها رسول الله عن رقية وعلى أي حال رأتها، فكان جوابها: «رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وقد رأيته يسوقها.» فتأثر رسول الله لما سمع فقال: «صحبها الله إن كان عثمان لأول من هاجر إلى الله بعد الوحي.»
أيا ما يكون دافع عثمان للإسراع إلى الهجرة، فقد ذهب مع ابنة رسول الله إلى الحبشة وبقي بها الهجرتين جميعا، ثم هاجر بعد ذلك من مكة إلى المدينة. فلما خط رسول الله دور المهاجرين من قريش إلى يثرب كانت دار عثمان في مواجهة دار الرسول، وكان باب عثمان في مواجهة بابه.
أقام عثمان بالمدينة ينعم بعطف النبي وبما ييسره له ثراؤه من خفض العيش ولينه. واتخذه رسول الله أمين سره فكان يكتب الوحي أحيانا. على أن رسول الله لم يشركه في غزوة من الغزوات التي سبقت بدرا. فلما خرج رسول الله على رأس المسلمين يلقى قريشا ببدر كانت رقية ابنته مريضة اشتد بها المرض، فأذن لعثمان في التخلف لتمريضها. ولم يغن عنها التمريض فماتت ودفنت يوم جاء البشير بانتصار المسلمين. وقسم رسول الله فيء بدر فجعل لعثمان سهما فيه كسهم من شهدها؛ ولذلك اعتبر عثمان من البدريين.
حزن عثمان لموت رقية أشد الحزن. وعرف له رسول الله حسن عشرته أهله، فزوجه من أختها أم كلثوم. وماتت أم كلثوم في حياة أبيها فحزن عثمان لموتها فكان مما واساه بها رسول الله قوله: «لو أن لنا ثالثة لزوجناك.» وزواج عثمان من رقية وأم كلثوم هو الذي جعل المسلمين يلقبونه من بعد «ذا النورين».
أفكان لعثمان زوجات شاركن رقية ثم شاركن أم كلثوم فراشه؟ أم أنه لم يشرك مع أيهن زوجا غيرها؟ يتعذر القطع في هذا الأمر أو إثباته، وإن أمكن القول: بأنه تزوج امرأة أو أكثر قبل رقية، ثم تزوج غير واحدة بعد أم كلثوم. وقد تزوج في جاهليته وإسلامه غير رقية وأم كلثوم من فاخته ابنة غزوان بن جابر، وأم عمرو بنت جندب بن عمرو من الأزد، وفاطمة ابنة الوليد بن عبد شمس بن المغيرة، وأم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري، ورملة ابنة شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ونائلة بنة الفرافصة بن الأحوص وهي التي حضرت مقتله. وقد أعقب من هاتيك النسوة جميعا بنين وبنات يزيدون على الخمسة عشر.
تخلف عثمان عن غزوة بدر يمرض رقية. فلما استدار العام وكانت غزوة أحد شهدها مع سائر المسلمين. ثم كان موقفه وموقف أمثاله بها مما عفى الله عنه بعد أخذهم به. ذلك أن المسلمين انتصروا صبح ذلك اليوم، ثم دارت الدائرة عليهم فأذاعت قريش أن محمدا قتل. وفت هذا النبأ في أعضاد المسلمين ففر منهم من فر؛ وكان عثمان في هؤلاء. وعرف المسلمون بعد قليل أن النبي حي، فعاد أكثرهم إليه ودافعوا المشركين عنه. ولم يكن عثمان في هؤلاء وعير بعضهم عثمان بذلك في خلافته فكان جوابه: كيف يعيرني بذلك وقد عفى الله عني فقال:
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .
1
وبعد أحد شهد عثمان الخندق وخيبر وفتح مكة وغزوات حنين والطائف وتبوك فكان شأنه فيها جميعا شأن رجل من المسلمين ليس في مقدمتهم ولا في مؤخرتهم. ذلك بأنه لم يكن من أبطال الحرب أمثال حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد ممن تثير حمية القتال نفوسهم وتدفعهم بين الصفوف في الوطيس يواجهون الموت ولا يهابونه، بل كان رجلا ساكن النفس يسير حين الحرب في صفوف الجماعة لا يتقدمها ولا يستأخر عنها.
وتستطيع أن تقول إن عثمان كان يحب المسالمة ما وجد إليها الوسيلة. وإنما كان إيمانه هو الذي يدعوه للخروج مع رسول الله في غزواته. يشهد بذلك موقفه من قريش أيام الحديبية. فقد سار رسول الله على رأس ثلاثمائة من المسلمين في السنة السادسة من الهجرة يريدون العمرة بمكة آمنين غير مقاتلين. وعلمت قريش بمسيرهم فأقسمت ألا يدخل محمد وأصحابه عليهم مكة عنوة. ورأى محمد فرسان مكة تبدو بظاهرها، فنزل بأصحابه الحديبية يريد السلم ويريد حج البيت وإعظام حرمته. وأراد رسول الله أن يبعث إلى قريش سفيرا عمر بن الخطاب، فاعتذر عمر بما تعرفه قريش من عداوته لها وغلظته عليها وأنه يخشاها على نفسه، واقترح أن يذهب عثمان بن عفان في هذه السفارة فهو أعز بمكة منه. وذهب عثمان فأجاره عثمان بن سعيد ثم حاول أن يقنع قريشا لتخلي بين محمد والبيت الحرام، فلم ترض قريش أن يدخل المسلمون مكة هذا العام عنوة. وطال احتيال عثمان بمكة يحاول أن يجد الوسيلة لبقاء السلم بين قريش والمسلمين. وظن المسلمون أن قريشا قتلت سفيرهم غدرا في الشهر الحرام فتولاهم القلق. وتولى رسول الله على عثمان من القلق أكثر مما تولى أصحابه فقال : «لا نبرح حتى نناجز القوم»، ودعا أصحابه إليه فبايعوه بيعة الرضوان أن يقاتلوا قريشا وألا يفروا حتى الموت. فلما تمت بيعتهم ضرب رسول الله بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم. وإن القوم ليأخذون الأهبة للقتال إذ عرفوا أن عثمان لم يقتل، وإذ أقبل عليهم عثمان يبلغ رسول الله ما دار بينه وبين قريش. وتبين رسول الله أن قريشا اقتنعت بأنه. جاء معتمرا وأنها لا تريد القتال ولكنها تخشى على هيبتها بين العرب أن تضيع إذا دخل المسلمون مكة هذا العام عنوة، فاتخذ - عليه السلام - محادثات عثمان أساسا لمفاوضات مع رسل قريش انتهت إلى عهد الحديبية، وبه رضي الفريقان أن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا، وأن يعودوا إليها في العام الذي يليه فيقيمون بها ثلاثة أيام يحجون البيت ويعظمون حرمته.
وكان عثمان إلى حبه المسالمة سخيا بماله فيما يصلح المسلمين. لما أزمع رسول الله الخروج لغزو الروم بتبوك وجهز جيش العسرة شارك عثمان في هذا الجهاز بثلاثمائة بعير كاملة العدة، وبألف دينار وضعها في حجر رسول الله يعين بها على تجهيز الغزاة. ورأى رسول الله ما صنع عثمان، فقال: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»، وكررها مرتين. وكان ليهودي بالمدينة بئر يبيع المسلمين ماءها بما يبهظهم، فقال رسول الله يوما لأصحابه: «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة.» فأتى عثمان اليهودي فساومه فيها فأبى أن يبيعها كلها فاشترى منه نصفها باثني عشر ألف درهم، واتفق مع اليهودي على أن يكون له يوم ولعثمان يوم. وجعل المسلمون يسقون في يوم عثمان ليومين. وذهب اليهودي إلى عثمان فقال له: «أفسدت على بئري فاشتر النصف الآخر.» فاشتراه للمسلمين بثمانية آلاف درهم، وجعل رشاءه فيها كرشاء رجل من المسلمين.
وكان عثمان شديد العطف على ذوي قرباه. وقد بالغ في هذا العطف مبالغة كان لها من بعد في حياته وفي حياة الدولة أبعد الأثر. ولم يكن هذا العطف من ضعف الشيخوخة بعد ولايته إمارة المؤمنين كما ظن بعضهم، بل كان بعض خلقه. لما فتح رسول الله مكة عفا عن قريش كافة إلا جماعة عينهم بأسمائهم ارتكبوا جرائم عظمى، فلم يكن لهم في العفو العام متسع. وهؤلاء أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة. وكان من هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان للرضاعة. فقد كان أسلم وكان يكتب الوحي لرسول الله ثم ارتد مشركا إلى قريش وزعم أنه كان يزيف ما يكتب من الوحي. وعرف ابن أبي سرح أمر رسول الله بقتله، ففر إلى عثمان فغيبه حتى اطمأن الناس بمكة ثم ذهب به إلى رسول الله فاستأمن له. يقول ابن هشام في السيرة: فزعموا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صمت طويلا ثم قال: نعم. فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليتقدم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إلي يا رسول الله؟ قال: «إن النبي لا يقتل بالإشارة.» وقد كان هذا العطف من عثمان بعض ما أوخذ به من بعد.
تشهد شفاعة عثمان للعفو عن عبد الله بن سعد بشدة عطفه على ذوي قرابته، وهي تشهد كذلك بما كان لعثمان عند رسول الله من مكانة جعلته، وهو يود لو يقوم من أصحابه من يقتل ابن سعد، ينتهي مع ذلك إلى العفو عند إرضاء لعثمان؛ ولعله فعل لأنه رأى، وهو يعرف من حياء عثمان ما يعرف، أن ابن عفان ما كان ليتغلب على حيائه، ولم يبلغ من حرصه على الإبقاء على ابن سعد أن يتحدث في ذلك إلى رسول الله بمحضر من هؤلاء الذين كانوا بمجلسه؛ لذلك أشفق إن هو رفض رجاء عثمان فيوجع قلبه، أو أن يجعل لبني أمية ما يعيرونه به.
وهذه المكانة هي التي جعلت رسول الله يستخلف عثمان على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، ثم يستخلفه عليها في غزوته إلى غطفان.
على أن ما كان لعثمان من هذه المكانة في قلب رسول الله لم يجعل له من الرأي في سياسة النظام الناشيء ما كان لأبي بكر وعمر. فأبو بكر وعمر كانا وزيري رسول الله وصاحبي مشورته، فكانا إذا اتفقا في أمر لم يخالفهما فيه أبدا. ولم يكن لعثمان من الرأي في الحرب ما كان لسعد بن أبي وقاص أو الزبير بن العوام. وإنما كان عثمان رجلا ورعا شديد الإيمان، منصرفا إلى العبادة وتلاوة القرآن، وكان كريما سخي اليد، فكان له بذلك كله عند رسول الله منزلة زاد فيها إحسانه معاشرة زوجتيه رقية وأم كلثوم.
وكان شأن عثمان في عهد أبي بكر كشأنه مع رسول الله. كان منصرفا إلى تجارته، وكان يدع لخليفة رسول الله من حرية التصرف في شئون الدولة ما توجبه التبعة الملقاة على عاتقه أمام الله وأمام المسلمين. لما عزم الصديق غزو الشام بعد غزو العراق دعا إليه جلة المهاجرين والأنصار يشيرون عليه. أما عمر فشجعه على المضي فيما يريد وكان مما قاله: سرب إليهم الخيل في إثر الخيل وبعث الرجال والجنود تتبعها الجنود. وأما عبد الرحمن بن عوف فدعا إلى الحيطة والحذر، وكان مما قاله: «والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير في أداني أرضهم، ثم تبعثها تغير فترجع إليك، ثم تبعثها فتغير ثم ترجع إليك. فإذا قبلوا ذلك مرارا اضرب بعددهم حتى تبلغ من أداني أرضهم قعودا فتقوى بذلك على قتالهم.» وسكت الناس بعد الذي سمعوا من ابن عوف فسألهم أبو بكر: ماذا ترون وحكم الله؟ وبعد هنيهة قال عثمان: «أرى أنك ناصر لأهل هذا الدين شفيق عليهم، فإن رأيت رأيا لهم فيه رشد وصلاح وخير فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين، ولا متهم عليهم.» وسارع الحاضرون حين سمعوا قول عثمان فأقروا رأيه، وألقوا التبعة كلها على الخليفة.
وكان عثمان ممن أحسنوا الشهادة في عمر حين أراد أبو بكر أن يستخلفه، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه. فقد كان كثيرون ممن استشارهم الصديق مشفقين من غلظة عمر وشدته. أما عثمان فأجاب الصديق حين سأله عن عمر: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله.» فلما بويع عمر أقام عثمان بالمدينة يباشر تجارته ويشير على أمير المؤمنين مع المشيرين عليه. ولكنه خالف عمر غير مرة. لما طلب أهالي بيت المقدس الصلح على أن يحضر عمر بنفسه إلى مدينتهم كان رأي عثمان ألا يفعل. قال مخاطبا أمير المؤمنين: «فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف، ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلى السير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» وخالفه علي بن أبي طالب، وأشار على عمر بالسير إلى بيت المقدس، فقد أصاب المسلمين جهد عظيم من استمرار الحرب والقتال وطول المقام. وآثر عمر رأي علي وأخذ به واستخلفه على المدينة وسار والناس معه فعقد صلح بيت المقدس.
وكان عثمان على رأس المعارضين في فتح مصر والذين يخالفون ابن العاص عن رأيه في ذلك ويعترضونه. وبلغ من شدة ابن عفان في هذه المعارضة أن قال لعمر: يا أمير المؤمنين إن عمرا لمجرأ وإن فيه حبا للإمارة، فأخشى أن يخرج من غير نفر ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلك رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا! وقد حشد عثمان لمعارضة ابن العاص في فتح مصر قوة من الرأي العام بالمدينة حسب عمر حسابها رغم اقتناعه برأي ابن العاص ومشاركته إياه فيه؛ لذلك لم يواجه عثمان والذين عارضوا معه، بل تحايل على معارضتهم بأن ترك لعمرو فرصة الدخول إلى مصر وقتال الروم فيها، واستنقاذها من أيديهم خالصة للمسلمين. هاتان مسألتان من كبريات المسائل التي وجهت تاريخ الإسلام، والتي خالف فيها رأي عثمان.
على أن عمر وعثمان كانا أقرب إلى الاتفاق في أكثر الأمور، كما أن عثمان لم يكن أكثر من غيره من كبار الصحابة مخالفة لرأي عمر أو اتفاقا معه. وقد رأيت كثيرين عارضوا فتح مصر كما عارضه عثمان. والذين أيدوا عثمان في هذه المعارضة خالفوه في مواقف أخرى؛ ذلك بأن هؤلاء الذين صحبوا رسول الله كانوا جميعا يبتغون بالرأي مصلحة الإسلام والمسلمين. مخلصين يريدون وجه الله ، يرجون رضاه ويخشون غضبه.
وكانوا يؤمنون بأن التمسك بالحق ما اقتنع المرء به أول واجب على من حسن إسلامه، وأن الرجوع إلى الحق متى بدا وجهه لا يصح أن يصد عنه تعصب أو غرور. فإذا أصر المرء على باطل بعد اقتناعه ببطلانه أتى منكرا يلعن الله صاحبه وينزل به غضبه. وكيف لمؤمن بالحق أن يحيد عن الحق أو أن يكتمه، فمن كتم الحق أو سكت عنه فهو شيطان أخرس.
كان عثمان عزيزا على عمر حبيبا له طول خلافته. فما طعن عمر عين الشورى ثم بايع الناس عثمان. قيل إنه لما تمت بيعته صعد المنبر يخطب الناس فأرتج عليه، فقال: «أيها الناس. إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، فإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها. وما كنا خطباء وسيعلمنا الله.» وقيل: بل خطب عثمان الناس حين تمت بيعته، فقال: «أيها الناس إنكم في دار قلقة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. فلقد أتيتم، صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها وتمتعوا بها طويلا. ألم تلفظهم؟ أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلا بالذي هو خير، فقال - عز وجل:
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .»
2
يثبت ابن كثير هذه الخطبة ويفند قول الذين قالوا: إن عثمان أرتج عليه، ويرى أن ما ذكروه لا سند له. وابن كثير مبالغ في هذا القول. فقد أثبت ابن سعد في الطبقات مقال عثمان حين أرتج عليه وذكر سنده. وأنا أشد ميلا لترجيح رواية ابن سعد وللشك في هذه الخطبة المنبرية التي أثبتها ابن كثير والطبري وغيرهما. فطبيعي أن يشغل عثمان بما كان أيام الشورى عن تهيئة خطاب يلقيه على الناس إثر بيعته. وطبيعي أن يقول لهم: إن بعد اليوم أياما، وإن الخطبة ستأتيهم من بعد على وجهها. وقد أثبت الطبري وابن كثير أن أول تصرف كان لعثمان بعد بيعته أنه زاد في عطاء الناس على ما كان عليه أيام عمر. فكيف تتفق زيادة العطاء وخطبته كلها تزهيد في الدنيا وترغيب عن المتاع بها!
أيا ما يكون الأمر فالخطبتان لا تصف أيهما ما كان يدور بخاطر عثمان من سياسة الغد. وأكبر الظن أنه لم يكن بعد قد رسم سياسة واضحة الحدود كما فعل أبو بكر حين عزم قتال أهل الردة، وكما فعل عمر حين أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم، وحين أمر بإجلاء نصارى نجران عن ديارهم، وحين انتدب الناس للذهاب إلى العراق مددا للمثنى. ولعل ما كان بين عمر وعثمان من اختلاف في المزاج بين الشدة واللين هو الذي استأنى عثمان فلم يرسم هذه السياسة.
على أن أمرا واجهه أول ما بويع لم يكن له بد من الفصل فيه. وذلك أمر عبيد الله بن عمر بن الخطاب. فقد اقتنع عبيد الله بأن مقتل أبيه لم يكن جريمة فردية ارتكبها أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة من تلقاء نفسه، بل كان نتيجة لمؤامرة اشترك فيها الهرمزان الفارسي وجفينة أحد نصارى الحيرة. وكان اقتناعه بذلك عن بينة. فقد شهد عبد الرحمن بن عوف أنه رأى السكين التي طعن بها عمر مع الهرمزان وجفينة عشية الحادث الذي روع المسلمين، وشهد عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: «قد مررت على أبي لؤلؤة قاتل عمر ومعه الهرمزان وجفينة وهم نجي فلما بغتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونصاب في وسطه، فانظروا ما الخنجر الذي قتل به عمر.» ونظر الناس فوجوده الخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر. عند ذلك ثار ثائر عبيد الله فتقلد سيفه، ثم بدأ بالهرمزان وجفينة فقتلهما، وانطلق إلى دار فيروز فقتل ابنة له صغيرة تدعي الإسلام.
حدث هذا قبل أن يبايع عثمان وثار له الناس، وتوعدوا عبيد الله وحبسوه. فلما بويع عثمان لم يكن له من القضاء في أمر عبيد الله بد. يذكر الطبري رواية عن شعيب عن سيف عن أبي منصور أنه قال: «سمعت القماذيان يحدث عن قتل أبيه - الهرمزان - قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه، وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: أبس به، فرآه رجل؛ فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا الخنجر مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله؛ فلما ولى عثمان دعاني فأمكنني منه - أي: من عبيد الله بن عمر - ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منا فاذهب فاقتله؛ فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبوه. فتركته لله ولهم، فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم.»
هذه رواية الطبري. وهي تجعل العفو عن عبيد الله من عمل القماذيان بن الهرمزان. وهذا قول يخالف المشهور، فأكثر الرواة يذكرون أن عثمان جلس بعد بيعته إلى جانب المسجد، فجيء بعبيد الله بن عمر من محبسه ليحاكمه، فلما مثل بين يديه قال عثمان للحاضرين: «أشيروا علي في هذا الذي قتل في الإسلام ما قتل.» وأجابه علي بن أبي طالب: «ما من العدل تركه، وأرى أن تقتله.»
فاعترض أحد حضور المجلس رأي علي بقوله: «قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟!» ووجم الحاضرون حين سمعوا هذا الاعتراض، وأمسك علي عن القول. ولعله أمسك مخافة أن يتهم بأنه يريد أن يثير على عثمان يوم بيعته. وأجال عثمان بصره فيمن حوله يلتمس عندهم الرأي، ويود لو وجد أحدهم من قتل عبيد الله مخرجا. قال عمرو بن العاص: «إن الله قد أعفاك من هذا الحدث، وقد كان وليس لك على المسلمين سلطان. تلك قضية لم تكن في أيامك، فدعها عنك.» ولم يقنع هذا الرأي عثمان فقال: «أنا وليهم - يريد ولي الذين قتلوا - وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي.»
كان هذا الرأي من عثمان عين الحكمة. فهو لم يعف عبيد من جريرة جريمته. وهو لم يأمر بتحقيق؛ لأنه إذا أثبت مؤامرة الهرمزان وجفينة وفيروز أثار ثائرة الفرس والنصارى، ثم لم يبرئ عبيد الله من قتل ابنة أبي لؤلؤة عمدا في غير إثم وبغير حق. وقد استراح الناس جميعا لصنيع عثمان إلا جماعة دفعتهم الحمية للتعريض به ونقده. من هؤلاء زياد بن عبيد البياض الذي انطلق يقول الشعر يسيء به إلى عبيد الله وينقد به حكم عثمان. وقد جاء به عثمان وأمره أن يكف عن هذا التعريض فكف. بذلك نامت فتنة لم يكن من الخير أن تستيقظ، وانصرف المسلمون في أرجاء الإمبراطورية إلى مألوف حياتهم قبل مقتل عمر.
فرغ عثمان من أمر عبيد الله بن عمر ثم جعل يفكر في السياسة التي يسير عليها. إنه يعلم أن بني هاشم لم يستريحوا لبيعته، وأن جمهور الناس يرجون خطة غير ما أخذهم به عمر من بطش وشدة، ويطمعون في حياة أكثر لينا مما ألفوا إلى يومئذ. وهو يعلم أن الجند هم عماد النظام وحماة الإسلام والمدافعون عن الإمبراطورية. فإذا استطاع أن يتألف الجمهور والجند جميعا استبشروا الناس بعهده واطمأنوا له، هذا على أن يستقر في نفوسهم أنه ليس أقل من عمر حرصا على الدفاع عن الدولة وما فتحت، وعلى إقامة العدل بين الناس عدلا يزيدهم أمنا على أنفسهم وأموالهم، وطمأنينة إلى غدهم. وهو يعلم أن الولاة في البلاد المفتوحة هم أعوانه الأولون، فإذا أنسوا إليه حفظوا النظام وبثوا السكينة في قلوب الناس في أقطار الأرض. فكيف يبلغ هذا كله في رفق ولين يتفقان مع طبعه، ثم لا يشوبهما ضعف يشوه جمالهما، أو يدعو الذين لم يستريحوا إلى بيعته إلى تمرد أو خروج.
تتفق الروايات على أن أول ما صنع عثمان أن زاد في عطاء الناس عما كان في عهد عمر. زاد في عطاء كل واحد من جند المسلمين مائة درهم على ما فرضه عمر لهم، وكان عمر قد جعل لكل مسلم في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين، فأقر عثمان ذلك وزاده، ثم إنه اتخذ في المسجد سماطا للمتعبدين والمعتكفين وأبناء السبيل والفقراء والمساكين. بذلك استبشر الجند واسبتشر الناس ورأوا فيه فألا حسنا بمستقبل يكونون فيه أطيب حياة وألين عيشا، وليس لأحد أن يؤاخذ به عثمان والأموال تتدفق على المدينة من أرجاء الإمبراطورية، فلا تضيق بما وسع أمير المؤمنين على المسلمين.
وليطمئن الناس إلى أن ما ألفوا من عدل في عهد عمر لن يعبث به عابث كتب عثمان إلى عماله: «أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة. وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة. وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.»
هذا كتاب صور به عثمان سياسته في الرعية وما يجب على عماله أن يأخذوها به. وهي سياسة كلها السداد والحكمة. فهو يأمر هؤلاء العمال أن يرعوا الناس بالرفق وألا يرهقوهم جباية واستغلالا، وأن يأخذوا من المسلم ومن الذمي ما عليه، وأن يعطوا المسلم والذمي ماله عدلا بغير بغي، وأن يفوا بما يقطعونه للعدو من عهد حتى تذهب حميته فلا يثير الناس بالمسلمين. تلك أعدل السير في نظر عثمان. إليها يطمئن الجميع فيسود الأمن ويستتب النظام، وتستقر الأمور في نصاب، لا يدع لشاك أن يشكو ظلما أو هضما.
كان لعمال الخراج من الاستقلال عن الولاة ما خشي عثمان معه أن يظلموا الناس فيبهظوهم بما لا يجب عليهم أداؤه، أو أن يستغلوا مناصبهم لفائدتهم وفائدة ذويهم فيثيروا النفوس ويسيئوا إلى نزاهة الحكم؛ لذلك كتب إلى عمال الخراج يقول: «أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق به. والأمانة الأمانة، قوموا عليها ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم.»
لم يرد عثمان أن يفهم الناس من كتبه إلا الولاة وإلى عمال الخراج أنه أعفى العامة من الواجبات الملقاة عليهم، أو أنه حين زاد في عطائهم يدعوهم إلى التمرغ في متاع الدنيا ورفه العيش؛ لذلك أذاع فيهم كتابا، قال فيه: «أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع؛ فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن. وقد قال رسول الله: الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا.»
وهذه الكتب الثلاثة إلى الولاة وإلى عمال الخراج وإلى العامة تصف مجملا من سياسة عثمان في إدارة الشئون الداخلية لبلاد الدولة كلها. ولكن عثمان لم يكن ليغيب عنه أن الإمبراطورية الناشئة لما تستقر إلى حال من الطمأنينة يستريح الخليفة إليه، وأن الفرس والروم لن تهدأ نفوسهم بعد الذي أصابهم في عهد عمر، وأنهم لا بد ينتهزون أول فرصة للثورة بالمسلمين حيثما وجدوا في الحكم العربي ضعفا عن مقاومتهم. ولم يكن هذا الأمر ليغيب على من كان أقل من عثمان بصرا بالأمور، واحتياطا لما قد يحدث. كتب عثمان إلى أمراء الأجناد في مختلف بلاد الدولة من غرب مصر إلى شرق فارس يقول: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، ولقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه.»
هذه هي السياسة التي رسمها عثمان وأذاعها في الأمصار أول ما بويع، وتستطيع أن تضيف إليها أنه أقر الولاة في ولاياتهم، لم يعزل أحدا منهم، ولم ينقل أحدا إلى غير ولايته التي كان فيها حين استشهد عمر. أقر نافع بن عبد الحارث الخزاعي على مكة، وسفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف، ويعلى بن منية على صنعاء، وعثمان بن أبي العاص الثقفي على البحرين وما والاها، والمغيرة بن شعبة على الكوفة، وأبا موسى الأشعري على البصرة، ومعاوية بن أبي سفيان على دمشق، وعمير بن سعد على حمص، وعمرو بن العاص على مصر، كما أقر عبد الله بن أبي ربيعة على الجند.
3
وليس في هذه السياسة؛ كما ترى، جديد يقف النظر أو يدعو إلى إعمال الرأي كما كان في سياسة عمر حين رفع الحظر عن أهل الردة، وحين أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم، وبإخراج نصارى نجران من ديارهم. ولعل حجة عثمان في نهج هذه السياسة كانت أنه عاهد عبد الرحمن بن عوف قبيل توليته على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من قبله، وأنه لم يقل ما قاله علي بن أبي طالب أنه يعمل بمبلغ حكمته وطاقته؛ لذلك لم يفكر في جديد يضيفه إلى سياسة الخليفتين أبي بكر وعمر، مخافة أن يتهم بأنه ابتدع من عند نفسه وعمل بعلمه مخالفا بذلك عهدا قطعه وبايعه الناس عليه. أم أن عثمان كان لشدة حيائه كثير العطاء تألفا للناس، ثم لم يتعرض في كتبه الأولى لرسم سياسة جديدة قد يضطر للرجوع عنها، فيكون رجوعه حجة يؤاخذه بها خصومه ويتخذونها عمادا لدعاية ما أغناه عنها.
أيا ما يكنه الأمر لقد كان متعذرا على عثمان وعلى غير عثمان في الموقف الذي بلغته الأمور حين مقتل عمر أن يتخذ خطة غير خطة الانتظار ومراقبة الأحوال، وما يمكن أن تتحول إليه. فقد كانت منازعات العرب الذين استوطنوا البصرة والكوفة متصلة، وكانت كل واحدة من المدينتين تسرع إلى مناوأة عامل الخليفة عليها، حتى اضطر عمر غير مرة إلى أن يولي عماله وأن يقول: «هات أمرا أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.» وكان يزدجرد كسرى الفرس لا يزال مقيما في فرغانة عاصمة الترك بسمرقند ينتظر الفرصة للعود إلى بلاده ومناجزة المسلمين. وكان الروم قد اطمأنت أمورهم بعض الشيء بعاصمة قسطنطين، وكانوا يتهيئون للأخذ بالثأر وشن الغارة من جديد على الشام وعلى مصر. وكان العرب في شبه الجزيرة وخارج شبه الجزيرة قد أنسوا إلى ألوان من المتاع وافتنوا فيه، فلم يكن عجبا أن يغريهم ذلك بطلب المزيد منه والتذمر إذا لم ينالوا ما يطلبون. لم يكن بد لمن ولي أمر دولة تلك حالها أن يطيل التفكير قبل أن يرسم خطة لسياستها. فإذا كان ولي الأمر في مثل حياء عثمان ولينه كان أشد حاجة للأناة وطول التفكير. وكان الأمر كذلك بخاصة؛ لأن عمر قتل والناس مطمئنون إلى أنه لا يزال له في العمر فسحة، لا يفكر أحد بذلك منهم في سياسة تخالف سياسته.
ولا يغيب عن الذاكرة مع هذا كله أن جند المسلمين في أرجاء مختلفة من أرض فارس وبرقة وجنوب مصر كانوا دائمي الأهبة لقتال العدو في قتال نظامي حينا، وفيما يشبه حرب العصابات أحيانا، فلم يكن لعثمان أن يغفل هذا الأمر، ولم يكن له بد من أن يعيره أعظم جانب من التفاته. ذلك أن الحوادث لم تطاوع عمر أن يقف بالفتح الإسلامي في حدود يعقد الصلح مع خصومه الفرس والروم على احترامها، فاضطر لمتابعة الفتح حتى قتل ولا يزال جنده متحصنا بأطراف فارس وأطراف مصر. وما كان لخليفة أن يقيض عن ذلك أو تتعرض الإمبراطورية كلها للانتقاض من أطرافها. والاحتياط لهذا الأمر هو عبء جسيم واجهه الخليفة الثالث لأول ما بويع.
وكان الفرس والروم يعرفون من شئون العرب ما يجعلهم يزيدون في هذا العبء فداحة. فقد فكروا في الانتقاض لأول ما جاءتهم الأنباء بمقتل عمر وبيعة عثمان. فتمردت ولايات كانت أذعنت لسلطان العرب وصالحتهم، فنقضت صلحها ومنعت الجزية التي صالحت عليها، لم يكن للخليفة بد من رد هذه الولايات إلى حمى الطاعة، وأن يفرض عليها جزاء أقله ما صالحت عليه في عهد عمر مخافة أن تنقض غيرها من الولايات صلحها، وتعلن الثورة والعصيان. فإذا وقع ذلك تفاقمت الأمور وتعذرت ملافاتها. •••
حدث أول انتقاض من هذا النوع في أذربيجان وأرمينية، ثم هاجم الروم الشام، ثم نقضت الإسكندرية عهدها واستعانت بالروم فأعانوها. أما وقد تتابعت هذه الأحداث وأمثالها فلا بد من قمعها والقضاء عليها في مهدها. وقد فعل عثمان، فأدى ما فعل إلى امتداد الفتح، وإلى اتخاذ المسلمين قواعد حربية لحماية الإمبراطورية، وإلى إنشائهم قوة بحرية إلى جانب قواتهم البرية. وسنوجز في الفصول التالية ما تم من ذلك كله، وما ترتب عليه في سياسة الدولة الخارجية؛ لنعود بعد ذلك إلى تفصيل سياسة الحكم الداخلي في عهد عثمان، وإلى ما انتهت إليه هذه السياسة من ثورة بالخليفة، ثم بالخلافة ليصبح الأمر بعد علي ملكا عضودا في بني أمية.
الفصل الثالث
الفتح في عهد عثمان
امتدت الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر من أقصى فارس شرقا إلى حدود برقة وطرابلس غربا. ومن بحر قزوين في الشمال إلى بلاد النوبة في الجنوب. وقد آمن ما فتحه المسلمون من بلاد هذه الإمبراطورية بأن غزاتهم لا غالب لهم. مع ذلك كانت أسباب الانتقاض لا تفتأ الحين بعد الحين تحرك نفوس الناس من أهل هذه الأقاليم إلى الثورة بالمسلمين ونكث ما عاهدوهم عليه. ولم يكن ذلك عجبا، والفاتحون يخالفونهم في الجنس واللغة والعقيدة، ثم لم يكن عجبا وقد كان عرب الحيرة والغساسنة إلى سنوات معدودة قبل الفتح يخضعون لسلطان الفرس ونفوذ الروم.
ولم يكن عجبا كذلك أن تحرك عوامل الفتنة نفوس الناس في البلاد المفتوحة، وذلك بحكم موقفهم من المسلمين وموقف المسلمين منهم. فلم تكن للمسلمين قوات مرابطة في هذه البلاد، بل كانوا يصالحون كل إقليم يفتحونه على جزية معينة يدفعها أهله لهم، ثم يتركون حكم الإقليم لأبنائه، وتنسحب قواتهم بعد ذلك عنه إلى المعسكرات العربية. وكانت أعظم هذه المعسكرات مركزة بالشام، في دمشق وفي حمص، كما كانت مركزة بالعراق في البصرة وفي الكوفة. أما في مصر فلم يكن للعرب مسلحة قوية إلا في حصن بابليون حيث تقع مصر القديمة اليوم؛ لهذا حدث غير مرة في عهد عمر نفسه أن انتقضت ولايات بعد إذعانها فمنعت الجزية وامتنعت من العرب بحصونها، فبعث إليها عمر من ردها إلى الطاعة وأعادها إلى الإذعان. لكنه لم يكن يترك من جنده بينها من يحفظ نظامها ويلزمها احترام عهدها؛ لأن انفساح الإمبراطورية السريع جعله في حاجة إلى تنقل هذه القوات من ميدان إلى ميدان. ثم إنه يخشى إن هو ترك قوات صغيرة في الأقاليم المفتوحة أن يثور الناس بها، وأن يتغلبوا عليها فيكون لذلك من سيئ الأثر في النفوس ما لا يحب. وهو إلى هذا قد كان قادرا دائما أن يرد العصاة عن عصيانهم، وأن ينزل بهم من العقاب ما يكون عبرة لغيرهم.
كانت ولاية أذربيجان وما والاها من ناحية الغرب آخر ما أخضعه المسلمون من ولايات فارس في عهد عمر. وتقع أذربيجان إلى الجنوب الغربي من بحر قزوين، وهي بلاد جبلية ترتفع أرضها فوق سطح البحر نحو خمسمائة متر وألف متر، وبها قمم يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف من الأمتار. وكان بها معابد كثيرة للنار حين غزاها المسلمون. وقد أخضعها عتبة بن فرقد وصالح أهلها بإذن حذيفة بن اليمان، وأعطاهم كتابا بالأمان على سهلهم وجبلهم وشعائرهم وأهل ملتهم، وعلى أنفسهم وأموالهم وعقائدهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم.
وامتد الفتح من أذربيجان إلى الباب وإلى موقان. فلما أخضعهما المسلمون تحول عبد الرحمن بن ربيعة عنهما يريد غزو الترك المجاورين لها فاعتصموا منه بالجبال. وإنه ليعد للسير إليهم حيث اعتصموا إذ جاءته الأنباء بمقتل عمر فترك الترك لم يتعقبهم، وأقام حيث كان ينتظر أوامر عثمان.
أفأصدر عثمان إليه أمرا بمتابعة الغزو؟ لا تسعفنا روايات المؤرخين بما تطمئن له النفس. فقد اختلفوا في هذا الأمر كما اختلفوا في تاريخ الغزوات من بعد رسول الله. وأنت ترى في الكتاب الواحد من اختلاف الروايات ما تقف أمامه حائرا؛ أي رواية تأخذ وأي رواية تدع. فقد قيل: إن أذربيجان منعت في عهد عثمان ما كانت صالحت عليه حذيفة من جزية قدرها ثمانمائة ألف درهم، وإن الوليد بن عقبة سار إليها فردها إلى الطاعة وفرض عليها جزية حذيفة. وذهاب الوليد بن عقبة يكاد يتفق عليه جميع المؤرخين. لكنهم يختلفون؛ أذهب إلى أذربيجان سنة أربع وعشرين للهجرة، أي: بعد بيعة عثمان بأشهر، أم ذهب إليها سنة خمس وعشرين، أم سنة ست وعشرين. ويرجع اختلاف الرواة إلى قولهم: إن الوليد إنما غزا أذربيجان بعد أن ولاه عثمان الكوفة، وهو قد تولاها بعد سعد بن أبي وقاص. والرواة يختلفون: أتولى سعد الكوفة توا بعد مقتل عمر، أم أقر عثمان المغيرة بن شعبة عليها سنة ثم ولاها سعدا سنة وأشهرا، ثم تولاها الوليد بن عقبة من بعده. فإذا كان الوليد لم يذهب إلى أذربيجان إلا بعد ولايته الكوفة، فهو قد ذهب إليها سنة خمس وعشرين إن كان المغيرة بن شعبة قد عزل عن الكوفة إثر مقتل عمر، وسنة ست وعشرين إن كان سعد لم يتولها إلا بعد أن أقام المغيرة بن شعبة سنة على ولايتها.
على أن الطبري وابن الأثير، ومن جروا مجراهما يذكرون أن الوليد بن عقبة ذهب إلى أذربيجان سنة أربع وعشرين، أي: قبل ولايته الكوفة. وهذا ممكن، وأراني أميل إليه وإن كنت لا أقطع به. ويدعوني إلى هذا الميل أن أهل أذربيجان كانوا أقرب أهل فارس عهدا بغزو المسلمين، وأنهم رأوهم رجعوا عن الغزو حين جاءهم النبأ بمقتل عمر، فأدخل ذلك في روعهم أن سياسة الخليفة الجديد تخالف سياسة سلفه. ولما لم يكونوا قد تعودوا من أداء الجزية ما تعوده الذين أدوها سنوات عدة في عهد عمر، فقد منعوا ما صالحوا عليه حذيفة بن اليمان. ولم يتردد عثمان حين عرف أمرهم أن بعث الوليد بن عقبة لغزوهم فغزاهم وردهم إلى الطاعة، وإلى أداء الجزية. ثم إن الوليد بعث عبد الله بن شبيل بن عوف الأحمسي إلى موقان، والبير، والطيلسان، وكلها تجاوز أذربيجان، فغزاها وسبى وغنم من أهلها، ورد إلى قلوبهم الإيمان ببأس المسلمين وعظيم سلطانهم.
تجاور أرمينية هذه البلاد التي تغلب عليها الوليد بن عقبة ومن سار تحت لوائه من الأمراء والجنود. وكانت أرمينية قبل خلافة عمر مستقلة في بعض العهود، مقسمة بين الفرس والروم في عهود أخرى. وكانت أفسح رقعة من أرمينية التي نعرفها اليوم. روى البلاذري أنها كانت مقسمة إلى أرمينية الأولى، وأرمينية الثانية، وأرمينية الثالثة، وأرمينية الرابعة. وذكر أسماء البلاد التي كانت واقعة في كل منها، وأنها كانت تمتد من شمشاط غربا إلى تغلب، وإلى بلاد بحر الخزر شرقا. فلما كانت خلافة عمر، وأجلى المسلمون هرقل عن الشام، واستولوا على أنطاكية وحمص وشمال الشام كله سار خالد بن الوليد في بلاد أرمينية، فغزا مرعش وشمشاط وما والاها من البلاد التي كانت في حكم الروم، وعاد منها إلى الشام بالغنائم والأسلاب من غير أن يصالح أهلها على أمان أو جزية. وعلى أثر عودته ولاه عمر إمارة قنسرين. فلما بعث الروم بعد ذلك بالجنود على السفن إلى أنطاكية فانتقضت، وانتقضت حمص وحلب وبلاد الشمال من أرض الشام، أجلب المسلمون بخيلهم ورجلهم على هذه البلاد، وحصروها وطردوا الروم منها، ثم تجاوزها عياض بن غنم، وخالد بن الوليد إلى أرمينية فساروا فيها حتى بلغ خالد آمد والرهاء. وكان خالد في مسيرته يفتح البلاد ويستفيء الغنائم ويلقي في القلوب الرعب. واجتمع له من الفيء شيء عظيم عاد به إلى قنسرين من غير أن يعقد هو أو يعقد عياض بن غنم صلحا مع أهل أرمينية على أمان أو جزية. وكذلك ظلت أرمينية وليس للمسلمين فيها سلطان، وإن كانت قد ذاقت من بأسهم ما جعلها تتربص بهم الدوائر.
ترى أوجد أهل أرمينية في ثورة أذربيجان، بعد قليل من بيعة عثمان، فرصة الثأر لأنفسهم من المسلمين فانضموا إلى ما جاورهم من أرض فارس وشجعوهم على الانتفاض، فقاتلهم المسلمون وأخضعوهم؟ أم ترى المسلمين حين أخضعوا أذربيجان وما والاها، فلم يقف في سبيلهم أحد اندفعوا في أرض أرمينية كذلك فأخضعوها لسلطانهم؟ أم تحرك الروم في أرمينية وأرادوا السير منها لغزو الشام فلم يكن بد من أن يواجههم المسلمون؟ الاتفاق بين المؤرخين قائم على أن المسلمين غزوا أرمينية وأخضعوها. على أن الروايات تختلف في المقدمات ثم تتفق في النتيجة. يقول الطبري ومن أخذ عنه: إن الوليد بن عقبة حين فرغ من إخضاع أذربيجان وموقان والطيلسان بعث سلمان بن ربيعة الباهلي، فسار في أرض أرمينية، فقتل وسبى وغنم وانصرف وقد ملأ يده حتى أتى الوليد، فانصرف الوليد ودخل الموصل فنزل الحديثة. ويقول البلاذري:
1
إن عثمان لما استخلف كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يأمره أن يوجه حبيب بن مسلم الفهري إلى أرمينية، أو إن عثمان كتب إلى حبيب نفسه يأمره بغزو أرمينية، وإن حبيبا نهض إليها في ستة آلاف، فقاتل أهل (قاليقلا) فطلبوا الأمان على الجلاء والجزية، وجلا كثير منهم فلحقوا ببلاد الروم. وبلغ حبيبا بعد أشهر أن أهل أرمينية استعانوا بالروم، وجمعوا للمسلمين جمعا عظيما فاستمد حبيب عثمان، فكتب عثمان إلى معاوية، فأمده بألفي رجل أسكنهم (قاليقلا)، وأقطعهم القطائع وجعلهم مرابطة بها.
هاتان روايتان مختلفتان في ظاهرهما، لكنك تستطيع التوفيق بينهما، فأرمينية كما ذكرنا كانت ممتدة في أرض فارس وفي أرض الروم، فلا عجب أن يكون سلمان بن ربيعة الباهلي قد سار بأمر الوليد بن عقبة في جانبها الفارسي، وأن يكون حبيب بن مسلم الفهري قد سار في جانبها الرومي، بأمر عثمان أو أمر معاوية. وهذا ما نرجحه. وهو لا يخالف سياق الوقائع من بعد وإن اختلف الرواة في تفصيل هذه الوقائع.
فقد ذكر الطبري أن الوليد بن عقبة حين دخل الموصل أتاه كتاب من عثمان يقول فيه: «أما بعد فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة. وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة. فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف من المكان الذي يأتيك فيه رسولي والسلام.» فقام الوليد في الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «أما بعد فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنا، ورد عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادا لم تكن افتتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلي أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة آلاف إلى الثمانية آلاف تمدون إخوانكم من أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم والفضل المبين. فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي.» ولم تمض ثلاثة أيام حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة بإمرة سلمان بن ربيعة، فدخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري، فشنوا الغارات معا على أرض الروم، فأصابوا ما شاءوا من السبي وملئوا أيديهم من الغنم وافتتحوا حصونا كثيرة.
هذه رواية الطبري. أما البلاذري فيذكر أن عثمان لم يكتف بالكتابة إلى معاوية حين استمده حبيب بن مسلمة الفهري، بل كتب كذلك إلى سعيد بن العاص الأموي فأمده بجيش من الكوفة عليه سلمان بن ربيعة الباهلي، وأن سلمان سار في ستة آلاف رجل مددا للحبيب. لكن حبيبا قاتل الروم قبل أن يبلغه سلمان وظفر بهم ظفرا دل على حيلته وشجاعته. قالت له امرأته حين فكر في مهاجمتهم: «أين موعدك؟» قال: «سرادق الطاغية أو الجنة.» فلما انتهى إلى السرادق وجدها عنده. فلما بلغه سلمان وقد فرغ من عدوه أراد أهل الكوفة أن يكون لهم نصيب في الغنيمة، فأبى عليهم أهل الشام ما أرادوا، وتوعد بعضهم سلمان بالقتال فقال جندي من أهل الكوفة:
فإن تقتلوا سلمان نقتل حبيبكم
وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وهذه الرواية التي يذكرها البلاذري ويؤيدها يرويها الطبري وينسبها للواقدي للتوهين منها؛ لأن فتوح الشام المنسوب للواقدي مملوء بالخرافات وموضع شبهة من المؤرخين. كذلك يذكر البلاذري رواية الطبري التي أثبتنا من قبل ثم يقول: إن الخبر الذي رواه هو أثبت، ويذكر أسانيده.
ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في التفاصيل، فالروايات كلها تنتهي إلى أن أذربيجان ثارت وأن أرمينية أرادت معاضدتها فأخضع المسلمون أذربيجان وما والاها وساروا في أرمينية من جانب فارس ومن جانب الروم فاستولوا عليها، وإلى أن الروم خيل إليهم حين جاءتهم الأنباء بثورة أذربيجان وقيام أهل أرمينية أنهم قادرون على استرداد ما ضاع من هيبتهم ومن سلطانهم، فدحرهم المسلمون وردوهم على أعقابهم، وفتحوا من بلادهم ما لم يكونوا قد فتحوا من قبل. وقد حدث هذا كله في أول خلافة عثمان، فكان بالغ الأثر في رد السكينة إلى ربوع الشام وأقاليم فارس، وفي إعادة اليقين إلى أهل الأقاليم المفتوحة بأن مقتل عمر واستخلاف عثمان لم يوهن من بأس المسلمين ولم يضعف من شوكتهم.
يجب مع ذلك أن نقف وقفة قصيرة نذكر أثناءها ما حدث من خلاف على اقتسام الغنائم بين أهل الكوفة وأهل الشام، وما أدى إليه هذا الخلاف من تهديد هؤلاء وأولئك بعضهم لبعض. لقد حدث مثل هذا الخلاف في عهد عمر. لكنه لم يؤد إلى أي تهديد. أفكانت هذه ظاهرة جديدة للعهد الجديد. أم كانت مظهرا لشعور أصيل في نفس من استوطنوا العراق ومن استوطنوا الشام كان له من بعد أثره؟ لا نريد أن نسبق الحوادث بجواب على أي من هذين السؤالين. فما حدث من بعد في عهد عثمان وفي عهد علي كفيل بأن يفصح عن الجواب خير إفصاح. وحسبنا أن نذكر هنا أن الذين استوطنوا الشام من عرب شبه الجزيرة كانوا من المهاجرين والأنصار أهل مكة والمدينة، وأن الذين استوطنوا البصرة والكوفة قد جاءوا إليها من سائر أرجاء شبه الجزيرة، وأن المهاجرين والأنصار كان لهم على غيرهم من العرب فضل السبق إلى الإسلام، ثم كان لسائر العرب من فضل الجهاد لإقامة الإمبراطورية الإسلامية ما لا يقل عما كان للمهاجرين والأنصار وإن لم يزد عليه.
ترى هل أذعن الروم بعد هزيمتهم فلم يفكروا في مناجزة المسلمين؟ هل كفاهم ما أصابهم بالشام وبأرمينية؛ ليقنعوا بما بقي لهم في الأناضول وفي البلقان وفي إفريقية؟ لعلهم كانوا يفعلون لو لم يكونوا يعتزون بما لهم على البحر من قوة ليس للعرب مثلها، ولو لم تغرهم الإسكندرية بالوثوب إليها على متن الماء، وقد ظنوا أنهم قادرون على استرجاعها واسترجاع مصر منها.
فقد فتح عمرو بن العاص مصر، وأجلى الروم عنها، واستقرت له ولايتها في عهد عمر. وكانت سياسته فيها أن يتألف أهلها بتخفيف الضرائب وبتركهم أحرارا في عقيدتهم، وترك المناصب الإدارية لأبناء البلاد وللروم الذين آثروا البقاء بها على الهجرة إلى وطنهم الأول. على أن هذه السياسة التي أرضت المصريين في مجموعهم أغضبت أهل الإسكندرية. فقد كان لهؤلاء من الامتيازات قبل الفتح العربي ما أعفاهم من كثير من الضرائب. فلما سوى القائد العربي بينهم وبين غيرهم وفرض عليهم ما فرضه على غيرهم أحفظ ذلك قلوبهم، وهيأ للروم الذين لم يغادروا عاصمة الإسكندرية فرصة التأليب على المسلمين وإثارة النفوس بحكمهم. ولم يدر بخلد عمرو أن يؤدي ما قد يحدث من ذلك إلى فتنة أو انتفاض؛ لذلك أبقى للإسكندرية حصونها المنيعة، ولم يبق بها من جنده غير حامية لا تزيد على الألف تحفظ النظام فيها وتفرض سلطان المسلمين عليها. فلما استقر الأمر في بلاد القسطنطينية كاتب الروم المقيمون بالإسكندرية عاهل بيزنطة، وأوحوا إليه أنه قادر إذا بعث إليهم السفن تحمل الجنود من غير أن يفطن المسلمون إلى ما يصنع أن يأخذ المدينة على غرة، وأن يتحصن بها، ثم يسير منها إلى أرجاء مصر فيعيد فتحها، ويسترد هذا الإقليم الغني الذي أمتع رومة ثم أمتع بيزنطة بخيره الوفير.
لم تبلغ هذه الأنباء عمرا لأن الروم كتموها؛ ولأن ابن العاص كان في شغل عنها بما كان بينه وبين عمر من خلاف استفحل حتى اتهم عمر عمرا بأنه يفيد لنفسه من خراج مصر؛ ولذا بعث إلى مصر محمد بن مسلمة يقاسمه ماله، وكان عمر موشكا أن يعزل عمرا لولا أنه قتل. ولم يكن عثمان خيرا من عمر رأيا في ابن العاص. ولعله لم ينس ما قاله فيه منذ أربع سنوات حين سار لفتح مصر؛ لذلك أضفى على عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخيه في الرضاع، عطفا أثار نفس عمرو وأحفظ قلبه. وكان عبد الله بن سعد عاملا بمصر عينه ابن الخطاب تحت إمرة عمرو بن العاص. وأوجس عمرو خيفة أن يقدم عثمان ابن أبي سرح وأن يمد في سلطانه، فزاده ذلك انصرافا عن التفكير في أمر الإسكندرية، فلم يبلغه شيء من أنباء الروم وأفاعيلهم بها؛ وبخاصة لأن الروم كتموا ذلك أشد الكتمان.
لا أريد بالحديث عن عمرو في هذا المقام أن اتهمه بالتقصير. فسلطانه بمصر في هذه الفترة من الزمن يحيطه أشد الإبهام. قيل: إن عمر بن الخطاب إنما ولى عبد الله بن سعد ليضعف من سلطان عمرو؛ لذلك أسند إليه حكم الصعيد والفيوم وجعل له جباية الخراج. فلما بويع عثمان عزل عمرا وجعل ولاية مصر كلها لعبد الله بن سعد. ويذهب البعض من أصحاب هذه الرواية إلى أن عمرا غادر مصر إلى مكة عقب عزله، ويذهب البعض الآخر إلى أنه ظل مقيما بمصر رغم عزله. وفي رواية أخرى أن عثمان لم يعزل عمرا، لكنه مد في سلطان عبد الله بن سعد وأظهر عطفه الشديد عليه.
أما وذلك وضع عمرو بمصر في هذه الفترة من الزمن فمن العسير اتهامه بالتقصير لعدم تتبعه أنباء الروم بالإسكندرية. بل إن له من العذر، حتى لو أنه كان باقيا على ولاية مصر، أنه كان يدفع عن نفسه تهما شنيعة يراد إلصاقها به. وأية تهمة يمكن أن تسند لحاكم أشنع من اتهامه بعدم النزاهة، ومحاولة استغلال الحكم لمنفعته ولزيادة ثروته.
أيا ما يكون الأمر فقد أرسل روم الإسكندرية إلى الإمبراطور قنسطانز الثاني
Constans II
يسألونه أن يخلصهم من حكم المسلمين، ويهونون عليه الأمر بضعف مسلحة العرب في الإسكندرية، وبأنه صاحب البحر دون المسلمين، فإذا بعث بالجنود في السفن سرا فلم يفطن المسلمون له نزلت قواته عاصمة مصر فاستولت عليها واستولت منها على أقاليم مصر كلها. وراقت الفكرة قنسطانز وبلاطه وخيل إليهم أنهم متى عادوا إلى مصر فملكوها لم يكن ما أصابهم بالشام شيئا مذكورا.
ولا ريب كان لقنسطانز أبلغ العذر في الاقتناع بهذا الرأي. فلم يكن للعرب إلى يومئذ شراع واحد في البحر الأبيض. وقد طلب معاوية بن أبي سفيان إلى عمر بن الخطاب تجهيز السفن لحراسة الشواطيء بالشام ومصر ولمواجهة الروم إذا حاولت سفنهم مواجهة هذه الشوطيء، فأشفق ابن الخطاب مما طلب معاوية، وذكر ما أصاب العلاء بن الحضرمي حين غامر فاجتاز الخليج الفارسي بالجند في السفن فقطع عليه الفرس خط رجعته إلى سفنه. فلما ألح معاوية على عمر كتب إلى ابن العاص ليصف له البحر فكان جواب عمرو: «إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء، إن ركد أحزن القلوب، وإن ثار أراغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة. هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق.» فزاد هذا الوصف إشفاق عمر فلم يبح لمعاوية أن يجهز السفن ومنعه من العود إلى مخاطبته في الأمر. أما والمسلمون لا يعرفون من أمر البحر شيئا، وللروم على متنه القوة، وفي مقدورهم أن ينقلوا جندهم في السفن إلى مصر، فلا عجب أن ينتهز قنسطانز فرصة إن فاتته ضاع أمله في استرداد مصر، وفي استرداد هيبة الإمبراطورية التي ورثها عن أجداده، بل ضاع أمله في بقاء هذه الإمبراطورية في آسيا وإفريقية.
وجهز قنسطانز أسطولا من ثلاثمائة سفينة أوقرها بالرجال. وجعل على قيادتها مانويل الخصي ودفعها للغاية التي أرادها، لكنه أخفى على الناس مقصدها حتى يظل أمرها سرا مكتوما فلا يعرفه العرب. ونجح كيده فبلغ الأسطول الإسكندرية ونزل جنوده بها، فتلقاهم الروم المقيمون فيها وانضموا إليهم وساروا معهم إلى مسلحة العرب، فقتلوا رجالها جميعا لم ينج منهم إلا نفر لاذوا بالفرار. واستقر مانويل وجنوده بالعاصمة العظيمة، وخيل إليهم أن مغامرتهم نجحت، وأن جلاء المسلمين عن مصر أصبح قدرا مقدورا.
كان نزول الروم الإسكندرية في الأشهر الأولى من السنة الخامسة والعشرين للهجرة (664 ميلادية)، أي بعد عام وأشهر من بيعة عثمان. هذا تاريخ يكاد الرواة يجمعون عليه. وإجماعهم هذا يدل على أن مقتل عمر شجع بلاد القسطنطينية على المسارعة إلى إجابة الروم من أهل الإسكندرية، ظنا منهم أن وفاة الفاروق ستفت في عضد المسلمين وتقضي على الفتح الإسلامي الذي سار في عهده سيرة أذهلت الروم والفرس جميعا.
ماذا صنع العرب حين بلغت أنباء الروم الفسطاط؟ أتراهم خفوا للقائهم ووقفوا عن الزحف داخل البلاد؟ أم تولتهم الخشية أن يهزمهم الروم فلزموا مسالحهم حتى يأتيهم المدد من شبه الجزيرة؟ تضطرب الروايات عن هذه الفترة الأولى كاضطرابها في أمر عمرو بن العاص وبقائه بمصر أو ذهابه إلى مكة. والثابت أن الروم أغاروا على ما جاور الإسكندرية من البلاد، وسار جيشهم في أرجاء مصر السفلى ينهب القمح والثمر والأموال من قراها ولا يدافعه مدافع. والظاهر أن العرب وقفوا من هذه الحوادث موقف الحيرة والاضطراب، وأنهم استمدوا أمير المؤمنين بالمدينة الرأي وطلبوا إليه المعونة. وأجمع أهل الرأي بالمدينة كما أجمع المسلمون بمصر على أن الرجل الذي يستطيع مواجهة هذا الموقف الدقيق هو عمرو بن العاص دون سواه. فقد كان اسمه يبعث الرهبة في نفوس الروم، وكانت سياسته تلقى من أهل مصر الرضا والتأييد؛ لهذا عهد إليه عثمان أن يتولى قتال الروم فيجليهم عن مصر كما أجلاهم عنها أول مرة. أفكان عمرو بمصر؟ أم كان بمكة حين عهد إليه الخليفة هذا العهد؟ لا نستطيع البت في هذا الأمر وقد اختلفت الروايات فيه. وإنما الثابت أن عمرا لم يتردد في تنفيذ ما أمره الخليفة به، ولم يجد فيما أصابه من عمر ومن عثمان بعده ما يرده عن القيام بواجب مقدس هو الجهاد لله وفي سبيل الله.
أم صحيح ما يقال من أن الجهاد في سبيل الله لم يكن هو الذي أسرع بعمرو إلى إجابة عثمان إلى دعوته، وإنما دفعه إلى هذا الإسراع ما جبل عليه من الجرأة وحب الإمارة، ومن الحرص على أن يعرف المسلمون أن عمر بن الخطاب ظلمه حين خاصمه، وكان أحرى به أن يجزيه بالخير عن فتح مصر، وأن عثمان بن عفان لم ينصفه حين قدم عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأن المسلمين لا غنى لهم عن تدبيره وحسن حيلته، وأنهم سيحملون عثمان على أن يجعله على جند مصر وخراجها متى رد عادية الروم وأجلاهم عنها؟ لا نريد أن نسبق الحوادث بالجواب، فالحوادث كفيلة بإبرازه في وضوح وجلاء.
ندع هذا الجواب إذن ونقف مع عمرو بالفسطاط، ونسايره إلى مقر القيادة بحصن بابليون. لقد كان عمرو يعرف أفاعيل جيش الروم، وأنهم ساروا في بلاد مصر السفلى يغنمون وينهبون، ويتوفرون على الملذات ينتهبونها انتهابا، وأن المصريين وقفوا من هؤلاء الغزاة القساة موقف الخوف والفزع، لا يعترضونهم ولا يعاونهم من أهل البلاد إلا قليلون.
كان خارجة بن حذافة أمير الجند في حصن بابليون. وكان رأي خارجة أن يسارع عمرو إلى مناجزتهم قبل أن يأتيهم المدد أو ييأس أهل مصر من العرب، فينضموا إلى الروم فتتعذر المقاومة وتسوء العاقبة. لكن القائد الداهية رأى غير هذا الرأي. رأى أن يترك الروم ينتشرون في البلاد ويعيثون في الأرض فسادا فيزداد المصريون لهم بغضا. قال مجيبا دعوة خارجة لمبادرة العدو: «لا، ولكن دعهم يسيروا إلي فإنهم يصيبون من مروا به فيخزى بعضهم ببعض.» وهذه كلمة تدل على أن عمرا كان أعلم بالروم من أنفسهم، فكان يعرف أنهم يضمرون للمصريين أشد البغض منذ خرجت مصر من يدهم، وأنهم سيسيئون لا محالة معاملتهم.
وسار الروم في أرجاء مصر السفلى لا يلقون أية مقاومة. ولا يدعون المصريين مع ذلك وادعين، بل يغصبونهم ما لهم ويوجهون إليهم شر ألوان المهانة. وفي هذه الأثناء كان عمرو بن العاص ينظم ببابليون جنده ويعد للقتال عدته. فلما علم أن الروم اقتربوا من نقيوس خرج إليها وقد عزم لقاءهم بها. خرج على رأس خمسة عشر ألفا مؤمنين بأنهم إن لم يهزموا الروم ارتدوا على أعقابهم إلى شبه الجزيرة العربية يجللهم عار الفرار. والتقى الجيشان تحت أسوار حصن نقيوس على شاطيء النهر، ولا يخامر الريب أي جندي من الروم أو من المسلمين في أن مصير اليوم حاسم، وأن أي الفريقين ظهر خلصت له مصر بخبراتها وبكل ما فيها من ثروة ونعيم؛ لذلك اشتد القتال وحمي وطيسه واستمات الفريقان فيه فترجح النصر بينهما، ورأى عمرو شدة القتال فاندفع بين الصفوف، تحته فرسه، وفي يده سيفه، يضرب به هام كل رومي لقيه، وإنه لكذلك إذ أصاب فرسه سهم أرداه. فترجل عنه، وقاتل مع المشاة أشد ما يكون حماسة، وقد عقد العزم على أن ينتصر أو يستشهد. ولم يكن الروم وقائدهم أقل من العرب ولا من أميرهم حماسة. ولقد تضعضع العرب أثناء المعركة وولى بعضهم الأدبار. فلما رأى عمرو صنيعهم زاده ما رأى عزما وإقداما وإصرارا على الفوز أو الشهادة. ورأى العرب من حوله صنيعه فازدادوا على وطيس الحرب إقبالا. وفي هذه الساعات الحاسمة أبدى الروم وأبدى العرب من ضروب الشجاعة وآيات البسالة ما سجل التاريخ من حوادثه ما هو أدنى إلى الأساطير. قيل: إن فارسا من الروم عليه سلاح مذهب رأى مقتل الرجال من قومه ومن عدوه فتقدم الصفوف ودعا العرب إلى المبارزة، فبرز إليه منهم رجل اسمه حومل، فاقتتلا طويلا برمحين فلم يغلب أحدهما الآخر. وألقى الرومي الرمح وأخذ سيفه فصنع حومل صنيعه، وبلغ من بأسهما وبراعتهما في الصراع أن وقف الجيشان صفوفا خلف صفوف يشهدان هذا المنظر الرائع من مناظر البطولة. وتصاول الفارسان بالسيوف ثم حمل الرومي على مبارزه فتلقاه حومل وضربه بالسيف فقتله. وأصيب حومل بجراحات مات منها بعد أيام.
وعاد القتال بعد مصرع البطل الرومي فالتقى الجيشان واشتبك الناس وثار بينهم النقع. وسمت فعلة حومل بنفوس المسلمين. فأراد كل منهم أن يكون كحومل بأسا وشجاعة، فاندفعوا إلى عدوهم يريدون الشهادة ويرون الجنة فتحت لهم أبوابها. ولم يصبر الروم لحملاتهم فتضعضع عزمهم ووهنت قوتهم. فانهزموا مولين الأدبار لا يلوون على شيء يريدون الإسكندرية يلوذون بحصونها من الموت وهو ملاقيهم. وتعقبهم العرب وقد زادهم النصر قوة على قوتهم، ولم يبق لديهم ريب في أن الله ناصرهم على عدوهم.
مات حومل بعد أيام من وقعة نقيوس فأرسل عمرو جثته إلى الفسطاط على سرير ودفنه في مشهد أكرم به فعال هذا البطل المغوار أيما إكرام. يقول المقريزي: «ورئي عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم.» وعاد عمرو بعد أن أدى لهذا الشهيد واجبه الأخير، فسار مع الجيش يتعقب العدو المنهزم ليحاصره في العاصمة العظيمة.
لم يجد المسلمون مشقة في تعقب عدوهم، ولم يقف سيرهم إقدام العدو على تدمير الجسور وتخريب الطرق فقد عانى قبط مصر من بطش الروم ونهبهم في كل قرية مروا بها بعد نزولهم الإسكندرية، مما أعاد إلى ذاكرتهم ذلك الاضطهاد الديني الذي خضعوا له قبل الفتح العربي سنوات حسوما، كما ذكروا أن الفتح العربي هو الذي أنجاهم من ذلك الاضطهاد. فلما انهزم الروم بنقيوس وفروا يبتغون ملاذا بحصون الإسكندرية، وحطموا وراءهم كل جسر وأفسدوا كل طريق، هرع القبط من أهل القرى حين رأوا العرب يتعقبون هؤلاء الطغاة، فأصلحوا ما أفسده الروم وأمدوا العرب بما هم في حاجة إليه من عدة ومئونة، مظهرين من الاغتباط بما أصاب الروم، ما زاد العرب اطمئنانا إلى غدهم، وإلى أنهم لن يؤتوا من خلفهم.
وبلغ عمرو أسوار الإسكندرية، فألفى الروم تحصنوا بها، وأقفلوا أبوابها وأقاموا المجانيق في أعاليها يقذفون بها من يقترب من المدينة. وأسف عمرو حين تبدت أمامه العاصمة في قوة منعتها، ورأى أنه أخطأ إذ ترك أسوارها قائمة بعد الفتح الأول، وأقسم لئن أظفره الله بها ليهدمن هذه الأسوار حتى تصبح كبيت الزانية يؤتى من كل مكان. وعسكر بجنوده في جانب المدينة الشرقي ليحصرها بينه وبين البحر وترعة الثعبان فلا يستطيع أحد منها خروجا.
أفطال هذا الحصار أم قصر؟ وهل أقام عمرو من آلات الحصار ما صدع به الأسوار ثم دخل المدينة؟ أم خان واحد من حرسها الروم ففتح الباب الذي يحرسه لعمرو فدخل منه المسلمون؟ ليس لدينا من أسانيد التاريخ الثابتة ما يبين لنا زمن الحصار أو يرجح خيانة (ابن بسامة)، حارس الباب مما يسر اقتحام المسلمين المدينة بعد صدعهم أسوارها. فالروايات تضطرب هنا اضطرابها في كثير من وقائع الفتح لذلك العهد. فأما الأمر الذي أجمع عليه المؤرخون فذلك أن العرب أخذوا المدينة عنوة، وأنهم دخلوها يقتلون ويفتحون ويحرقون، وأن جند الروم فرت طائفة منهم بالمدينة فلاذت بالبحر، وأن أكثرهم قتل بالمدينة، وأن القائد مانويل الخصي كان في القتلى. وقد استمر العرب يقتلون ويغنمون حتى توسطوا المدينة، وحتى لم يبق أمامهم من يقاتلهم. هنالك أمرهم عمرو أن يرفعوا أيديهم، ثم أمر من بعد فبني بالمكان الذي حقنت فيه الدماء مسجدا هو مسجد الرحمة.
فر الروم إلى السفن وهربوا في البحر نجاة بأنفسهم. عند ذلك عادت إلى الإسكندرية السكينة، وعاد إليها من أهل مصر من كان قد فر منها لدخول الروم فيها. ويذكر (بتلر)
2
أن بطريق القبط بنيامين كان بين الذين فروا منها ثم عادوا إليها، وأنه هو الذي طلب إلى عمرو ألا يسيء إلى القبط؛ لأنهم لم ينقضوا عهدهم معه، وألا يعقد صلحا مع الروم، وأن يدفنه بكنيسة يخنس إذا مات. أما مؤرخو العرب فيذكرون أن الذي طلب هذه الأمور إلى عمرو هو المقوقس. والراجح أن المقوقس هنا هو بنيامين؛ لأن المقوقس كان لقبا ولم يكن اسما، وبذلك تتفق الروايتان.
أعاد عمرو فتح الإسكندرية فتم بذلك جلاء الروم عن مصر للمرة الثانية، وهم لم يمض بين نزولهم الإسكندرية وفرارهم منها في هذه المرة غير أشهر. وفي هذه الفترة الوجيزة بلغ عمرو ما أراد، واطمأن أهل مصر كرة أخرى إلى عود المسلمين وإلى حكمهم. فقد ألفوا هذا الحكم من قبل وسكنوا إلى عدله. وهم اليوم أشد رضا به وسكونا إليه بعد أن رأوا الروم ينهبون أموالهم، ورأوا المسلمين يردون عليهم هذه الأموال بعد أن غنموها من الروم. فقد ذهب أهل القرى إلى عمرو حين استتب له الأمر في العاصمة وقالوا له: «إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة.» فأراهم عمرو ما غنم المسلمون وطلب البينة ممن ادعى لنفسه شيئا منها، ورده على من أثبتت البينة صحة قوله. ولم يكن عمرو ولا كان أهل مصر بعد ذلك في ريب من أن ولاية مصر ستعود له كما كانت بعد الفتح الأول، وأنه سيتولى سياستها وتدبير أمرها بما عرف من عدله وحسن بصره بالأمور.
ولقد كان له ولأهل مصر أبلغ العذر عما اعتقدوا من ذلك. فيكف يخرج عثمان عمرا من مصر وقد أخرج عمرو الروم منها. ولكن عمرا قدر فأخطأ، وكان عثمان أبلغ منه كيدا. فقد تركه على ولاية مصر حتى عاد عبد الله بن سعد بن أبي سرح من غزو إفريقية، وذلك في تاريخ تختلف الروايات أكان في السنة السادسة والعشرين أم في السنة السابعة والعشرين للهجرة. عند ذلك أراد عثمان أن يقتصر عمرو على إمارة جند مصر، وأن يكون عبد الله بن سعد واليها وصاحب خراجها. ورأى عمرو في ذلك تعريضا بأمانته، وإيماء إلى أنه إن يكن قائدا ماهرا، فإن نزاهته ليست فوق مستوى الشبهات؛ لذا رفض ما أراد عثمان وقال: «أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها.» وعاد إلى مكة وفي نفسه من الحفيظة على عثمان ما سنرى أثره من بعد. يشهد بهذه الحفيظة أن عبد الله بن سعد بعث من خراج مصر، وعمرو بمكة، أكثر مما كان يبعث به عمرو، فقال عثمان يخاطب ابن العاص: «هل تعلم أن تلك اللقاح قد درت بعدك؟!» وأجابه عمرو: «وهلكت فصالها!» يريد أن المصريين أرهقوا بخراج لم يفرض هو عليهم مثله.
ولى عثمان عبد الله بن سعد مصر بعد عوده من غزو إفريقية في السنة السادسة والعشرين أو في السنة السابعة والعشرين للهجرة. وفي بعض الروايات أن عبد الله بن سعد استقل بولاية مصر قبل أن يذهب لغزو إفريقية، وأن هذا الغزو تم في السنة الثامنة والعشرين أو في السنة الثلاثين أو بعد ذلك. والرواة يذكرون هذه التواريخ ولا يؤكدونها. وأنا أرجح أن غزو إفريقية تم بعد أن قضى عمرو على ثورة الروم بمصر وجلائهم للمرة الثانية عن الإسكندرية، وأن ذلك كان في أواخر السنة الخامسة والعشرين، أو أوائل السنة السادسة والعشرين للهجرة؛ ولهذا الترجيح سند في كثير من الروايات، وله إلى جانب ذلك سببه. فما كان عثمان ليعزل عمرا عن مصر ويوليها عبد الله بن سعد ليبعثه توا إلى إفريقية، بل الأدنى إلى المنطق أن يظل عمرو بمصر يرد إلى ربوعها السكينة، وأن يذهب عبد الله بن سعد إلى إفريقية فلا يكون بقاؤه بمصر مثارا لنزاع بينه وبين عمرو. ومما يعزز هذا الترجيح أن عبد الله بن سعد لم يكن له في مقاومة الروم بمصر بلاء يذكر، وأن الذين يقولون: إنه قاومهم قبل أن يتولى عمرو بن العاص قتالهم يثبتون أن مقاومته باءت بالفشل.
وأنت تذكر أن ابن العاص كان قد سار إلى برقة إلى طرابلس ففتحهما بعد مصر في عهد عمر، وأنه أراد أن يتابع مسيرته ليفتح إفريقية، فنهاه عمر عن ذلك ورده عنه. فلما فتحت مصر للمرة الثانية أمر عثمان عبد الله بن سعد أن يسير إلى إفريقية وأمده بالرجال في قوة، اختلف أكانت عشرة آلاف، أم عشرين ألفا، أم أربعين ألفا. وتخطى عبد الله برقة وطرابلس حيث كان السلطان مطمئنا للمسلمين، وبلغوا إفريقية يريدون غزوها. وكانت إفريقية في تسمية العرب هي شمال القارة الإفريقية الممتد من تونس إلى طنجة في مراكش. وكانت هذه الأصقاع خاضعة لنفوذ الروم، متمتعة بحظ من الحكم الذاتي بإمرة أمير من الروم يدفع جزية عظيمة كل عام إلى بلاط بيزنطة. وفي قول أن حاكمها حين غزاها العرب، واسمه جريجوري (أو جرجير كما يسميه الطبري وابن الأثير وغيرهما) كان قد استقل بها على بيزنطة وأعلن نفسه إمبراطورا عليها. فلما تخطى عبد الله بن سعد حدود طرابلس إلى تونس لقيته قوات جريجوري بظاهر مدينة سبيطلة ومنعته من التقدم، وكانت هذه القوات جرارة ذكر مؤرخو العرب أن عددها بلغ مائة وعشرين ألفا أو مائتي ألف. ولقد ظل عبد الله بن سعد يداور هذه القوات يلتمس الوسيلة للظفر بها فلم يقدر. والراجح أنه أقام على ذلك أشهرا لا يواتيه النصر ولا يغلبه الروم. والراجح أنه كان يتقدم لمواجهتها أحيانا فلا ينال منها فيرتد عنها إلى طرابلس يريح ظهر رجاله ، ويأخذ ما هو في حاجة إليه من مدد ومؤن.
ظل عبد الله بن سعد على ذلك أشهرا انقطعت أخباره أثناءها عن مصر وعن المدينة، فأشفق عثمان أن يكون قد أصابه شر، فأمر عبد الله بن الزبير على جماعة من كبار المجاهدين بينهم طائفة من الصحابة والتابعين، وسيرهم مددا لعبد الله بن سعد يعينونه على النصر وينقذونه وجيشه من الفناء، وسار عبد الله بن الزبير ومعه عبد الله، وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأمثالهم، فتخطوا تهامة والحجاز إلى مصر. ثم برقة وطرابلس حتى بلغوا جند عبد الله بن سعد وهم يقاتلون الروم. وكبر المسلمون حين رأوهم واطمأنت نفوسهم إلى أن الله قد أذن لهم بنصر ظلوا أشهرا يطلبونه فلا يبلغونه.
وتجرى روايات بأن عبد الله بن الزبير لم يجد عبد الله بن سعد على رأس المقاتلين فسأل عنه فقيل: إنه مختبئ حذر. ذلك أنه سمع منادي جريجوري يقول: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي؛ لذلك خاف عبد الله أن يندس إليه من يقتله. وجاء ابن الزبير عبد الله بن سعد وأشار عليه أن يأمر مناديا ينادي: «من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف درهم، وزوجته ابنتي واستعملته على بلاده.» وفعل عبد الله ذلك، فصار جرجير أشد خوفا منه على نفسه.
وعجب ابن الزبير لإبطاء النصر كل هذا الإبطاء. فلما رأى المسلمين يقاتلون عدوهم من بكرة كل يوم إلى الظهيرة، فإذا كان الظهر عاد كل فريق إلى خيامه ليستأنف القتال بكرة الغد، أيقن أن الأمر على هذا النحو لن ينتهي إلى غاية، فذهب إلى مقر عبد الله بن سعد وقال له: «إن أمرنا على هذا النحو يطول مع هؤلاء، وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم. والرأي عندي أن تترك توا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين، ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم.»
راق هذا الرأي عبد الله بن سعد، فاستشار فيه كبار الصحابة فأقروه. فلما كان الغد تولى عبد الله بن الزبير تنفيذه. ترك شجعان المسلمين في خيامهم وعندهم خيولهم وهم على أهبة القتال، وسار مع بقية الجيش، فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا ثم لم يتركوهم ساعة الظهر حتى ألحوا عليهم بالقتال حتى أتعبوهم. وعاد ابن الزبير وقد أيقن الروم أن القتال لن يستأنف إلا بكرة الغد؛ ولذا ألقوا سلاحهم واستراحوا في خيامهم. لكنهم ما كادوا يفعلون حتى كان ابن الزبير قد عاد إليهم فغشيهم ومعه شجعان المسلمين الذين لم يقاتلوا في الصباح، فخالطوهم وحملوا حملة رجل واحد مهللين مكبرين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا أميرهم جريجوري وأخذوا ابنته سبية فكانت من نصيب رجل من الأنصار.
سار عبد الله بن سعد بعد هذا النصر إلى سبيطلة، وكانت دار الملك، فحصرها وفتحها وغنم المسلمون منها أموالا عظيمة، وبلغ سهم الفارس منها ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألف دينار.
ومن سبيطلة بعث ابن سعد جيوشه في البلاد فبلغت قفصة. وكذلك فتح المسلمون إفريقية سهلها وجبلها ومهدوا لانتشار دين الله فيها. وصالح عبد الله بن سعد أهلها على مليونين وخمسمائة ألف دينار، وفي رواية أنه صالحهم على ثلاثمائة قنطار ذهبا. وعاد عبد الله بن سعد من إفريقية إلى مصر بعد أن أقام بها خمسة عشر شهرا.
وحسن إسلام أهل إفريقية من بعد، وكانوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم. ومما يروى أن قنسطانز إمبراطور الروم بعث إليها بعد فتح المسلمين بلادهم أميرا نزل قرطاجنة وطلب إليهم أداء جزية قدر ما أدوا للمسلمين، فردوا طلبه بأنه لم يستطع منعهم فلا جزية له عليهم.
تجري في شأن الفيء الذي غنمه العرب حين فتحوا إفريقية روايات نثبتها: منها أن عثمان بن عفان جعل لعبد الله بن سعد حين ولاه فتح إفريقية، خمس ما يستحقه بيت المال من الفيء. وبيت المال يستحق الخمس من مجموع ما غنم المسلمون. فلما تم الفتح قسم ابن سعد أربعة أخماس الغنم على الجنود، واحتجز لنفسه خمس الخمس وبعث أربعة أخماسه إلى المدينة. وسار وفد من الجند الذين فتحوا إفريقية إلى عثمان وشكوا إليه ما احتجزه عبد الله لنفسه، فقال لهم: «أنا نفلته، وأمرت له به، وذلك إليكم الآن، فإن رضيتم فقد جاز، وإن سخطتم فهو رد.» قالوا: «فإنا نسخطه.» قال عثمان: «فهو رد.» وكتب إلى عبد الله برد ذلك وباستصلاحهم. وفي رواية أنهم لم يكتفوا بأن يرد عبد الله إليهم ما أخذه لنفسه، بل قالوا لعثمان: «اعزله عنا فإنا لا نريد أن يتأمر علينا وقد وقع ما وقع.» فكتب إليه عثمان أن «استخلف على إفريقية رجلا ممن ترضى ويرضون، واقسم الخمس الذي كنت نفلتك في سبيل الله، فإنهم قد سخطوا النفل.» ففعل عبد الله بن سعد ورجع إلى مصر.
هذه رواية الطبري. أما ابن الأثير فيقول: «وحمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه. وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية. فإن بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس إفريقية لعبد الله بن سعد. وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية - والله أعلم.»
ومؤاخذة عثمان لبيعه خمس الفيء لمروان بن الحكم ترجع - إن صحت - إلى أن عثمان خالف في ذلك سنة رسول الله وسنة أبي بكر وعمر، ونقض بهذه المخالفة ما عاهد عليه حين استخلف من الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. فلم تجر سنة رسول الله ولا سنة أبي بكر وعمر ببيع الغنائم، بل كانت توزع عينا على المسلمين يأخذ كل منها نصيبه بالعدل والقسطاس المستقيم. يضاف إلى ذلك أن مروان كان ابن عم عثمان، وأنه كان سفيرا إلى الطائف فلم يدخل مكة إلا في خلافة عثمان.
فتح عبد الله بن سعد إفريقية، وعاد إلى مصر. والرواة يختلفون: أترك ابن سعد أميرا من المسلمين يتولى أمر إفريقية؟ أم أنه لم يستخلف عليها أحدا؟ فالطبري يذكر أن عثمان أمر عبد الله بن سعد أن يستخلف على إفريقية، ويضيف أن أهل إفريقية اجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم. ويفهم من هذا القول: أنه خلف وراءه من المسلمين من أقام بإفريقية يفقه من أسلم من أهلها في دينهم ويقيم بينهم حدود الله. أما ابن الأثير فيذكر أنه: «قام بأمر إفريقية بعد جرجير رجل من الروم فطرده البطريق بعد فتن كثيرة فسار إلى الشام وبه معاوية، وقد استقر له الأمر بعد قتل علي، فوصف له إفريقية، وطلب إليه أن يرسل معه جيشا، فسير معه معاوية بن حديج السكوني ... فوصل إلى إفريقية وهي نار تضطرم، وأن ابن حديج قاتل أهل إفريقية وتغلب عليهم.» ويقول البلاذري: «لما صالح عبد الله بن سعد بطريق إفريقية، رجع إلى مصر ولم يول على إفريقية أحد ... فلما ولي معاوية بن أبي سفيان ولى معاوية بن حديج السكوني مصرا، فبعث في سنة خمسين عقبة بن نافع الفهري فغزاها وأخضعها.»
والذي يخلص من هذه الروايات أن المسلمين اكتفوا بإجلاء الروم عن إفريقية ثم تركوها لأهلها بعد أن صالحهم عبد الله بن سعد على الجزية، وأن أهل إفريقية أسلم كثير منهم، وأن البلاد وفت بما عاهدت عليه طيلة عهد عثمان وفي عهد علي، فلما عظمت الفتن بين المسلمين واحتدم النزاع بين علي ومعاوية نكث أهل إفريقية، من أسلم منهم ومن لم يسلم. فلما استقر الأمر لمعاوية جرد لهذه البلاد من فتحها ورد أهلها إلى الطاعة من جديد، ومن يومئذ أقام أهل الشمال الإفريقي على الإسلام وحسنت طاعتهم.
هذا ما أرجحه وتؤيده أكثر الروايات، فأما الذي لا خلاف عليه أن سلطان الروم تقلص عن شمال إفريقية، منذ فتحها المسلمون في عهد عثمان، وأن كل محاولة أريد بها استرداد هذه الأقاليم ذهبت عبثا.
3
امتدت الإمبراطورية الإسلامية بفتح إفريقية، فاشتملت كل البلاد التي تشاطئ البحر المتوسط من أنطاكية في شمال الشام، وفي أقصي الشرق من ذلك البحر إلى أقصى الغرب منه في شمال إفريقية. وأيقن معاوية بالشام أن هذه الشواطيء الممتدة ألوف الأميال لا يمكن أن تأمن فجاءات العدو من البحر إلا أن يكون للعرب أسطول يواجه أسطول الروم إذا حاول العودة إلى أي من هذه الأقاليم. كان هذا رأيه منذ تولى الشام وعرف مهاجمة الروم أنطاكية من البحر؛ لذلك كتب إلى عمر يذكر له قرب جزيرة قبرص من حمص، ويقول: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. ولم يأذن له عمر كما قدمنا. فلما تولى عثمان وهاجم الروم مصر من البحر ثم امتدت شواطيء الإمبراطورية حتى الشمال الإفريقي كله، أعاد معاوية الكرة على عثمان واستأذنه في غزو قبرص من البحر. وخشي عثمان إن هو أذن أن يخالف سيرة عمر، فينقض عهده يوم بيعته ويؤاخذه الناس بمخالفته. لكنه رأى في طلب معاوية من حسن الرأي وبعد النظر ما يكون الرفض معه من سوء السياسة؛ لذلك كتب إلى معاوية يقول: «لقد شهدت ما رد عليك عمر حين استأمرته في غزو البحر.» وأعاد معاوية عليه القول فأجابه إلى ما طلب، لكنه قال له: «تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه.» وكذلك جعل عثمان ركوب البحر والغزو فيه تطوعا لمن يشاء، فأمن مخالفة عمر في سيرته، ولم يرفض أمرا اعتبره من حسن الرأي وبعد النظر.
لم يلبث معاوية حين تناول كتاب عثمان أن جهز السفن للقتال. وعرف عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمر عثمان لمعاوية، فجهز السفن في مرفأ الإسكندرية وحمل عليها من تطوع للقتال على متن الماء. بذلك أصبح للمسلمين أسطول لا يقل عن أسطول الروم بأسا، وأصبحت الدولة الإسلامية ولها إلى جانب قوتها البرية قوة بحرية على شواطئ بحري الروم والقلزم، فيها من غناء القتال وعدته ما لم يكن للعرب به عهد من قبل.
كان معاوية لا ريب على حق فيما أشار به من بناء الأسطول وغزو قبرص، واتخاذ قواعد في البحر لحماية الإمبراطورية الناشئة. فقد كانت الإمبراطورية تزداد على الأيام سعة، وتزداد شواطئها امتدادا. ولم يكن قد بقي للروم من سيولة للعود إليها إلا البحر. فإذا أيقنوا أن أسطولهم سيلقى من بأس أسطول المسلمين ما يلقى جنودهم في الميادين من بأس جند العرب فت ذلك في ساعدهم وفتح أمام المسلمين أبواب التوسع إلى أقصى ما تمكنهم منه قوتهم وجيوشهم. ولعل عمر لو استطال به العمر وامتدت في عهده شواطئ الفتح كان ينتهي إلى الرأي الذي انتهى إليه عثمان. وقد كانت مشورة عثمان بالتطوع للغزو في البحر مشورة موفقة لم تفتح باب الخلاف ولم تترك لمعترض سبيلا؛ لذا أسرع ببناء الأسطول الإسلامي في الشام وفي مصر، وأقبل المتطوعون عليه بأكثر مما توقع عثمان وتوقع معاوية، وأصبحت الدولة الإسلامية في زمن وجيز دولة بحرية مرهوبة الجانب، ثم صادر الأسطول أداة جوهرية في امتداد الفتح وفي تقوية كيان الإمبراطورية من بعد.
تقع قبرص في أقصى الشمال الشرقي للبحر المتوسط، قريبة من أرض الأناضول الواقعة شمالها، ومن الشام الواقعة إلى شرقها. وليس يفصل البحر بينها وبين هاتين الأرضين إلا بفاصل ضيق. وفي قبرص سلسلتان من الجبال يزيد ارتفاع بعض القمم فيها على ثلاثة آلاف من الأمتار. وقد كانت أرض الجزيرة - ولا تزال - مشهورة بخصبها وجودة فاكهتها وطيب هوائها. وهي إلى هذا قاعدة حربية منيعة تتحكم في شرق البحر الأبيض كله؛ لذلك كانت مطمع الطامعين على توالي الحقب. وكانت في ذلك العهد داخلة في منطقة نفوذ الروم، ثم كانت أول جزيرة غزاها المسلمون في البحر الأبيض. ركب إليها معاوية بن أبي سفيان البحر واصطحب معه زوجه فاختة بنت قرظة، وطائفة من الصحابة الذين استوطنوا الشام بعد أن جاءوا إليه من مكة والمدينة. وسارت سفينة معاوية في الطليعة وسارت من خلفها السفن عليها متطوعة المسلمين. فلما بلغوا قبرص وارتقوا إلى ساحلها لم ير حاكمها ولا رأى أهلها قتالهم. وما لهم يقاتلونهم والجزيرة في حكم الروم، فإذا لم يدفع الروم عنها لم تستطع هي الدفاع عن نفسها. وها لم تتصد للمسلمين سفينة من سفن الروم ولم تحاول منعهم عن مقصدهم. وتفاوض الفريقان في الصلح، ورأى أهل قبرص ألا يعرضهم صلحهم مع المسلمين إلى خلاف مع الروم قد يجر عليهم أذى لا قبل لهم بدفعه؛ لهذا صالحوا المسلمين على جزية سبعة آلاف ومائتي دينار يؤدونها لهم كل عام، على شريطة أن يؤدوا للروم مثلها. وفي مقابل هذا الصلح المزدوج مع الروم ومع المسلمين جميعا لا يمنعهم المسلمون ولا يقاتلون عنهم من أرادهم من ورائهم، ويكون أهل قبرص عيونا للمسلمين يؤذنونهم بسير عدوهم من الروم.
هذه رواية البلاذري في فتح قبرص. وهو يذكر أن غزوها كان في السنة الثامنة والعشرين أو السنة التاسعة والعشرين للهجرة، وأن أهل قبرص وفوا بعهدهم إلى السنة الثانية والثلاثين. وفي هذه السنة «أعانوا الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين في خمسمائة مركب ففتح قبرص عنوة، فقتل وسبى ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليها باثني عشر ألفا، كلهم أهل ديوان فبنوا بها المساجد، ونقل إليها جماعة من بعلبك، وبنى بها مدينة وأقاموا يعطون الأعطية إلى أن توفي معاوية وولي بعده ابنه يزيد، فأقفل ذلك البعث وأمر بهدم المدينة. وبعض الرواة يزعم أن غزوة معاوية الثانية قبرص في سنة خمس وثلاثين.»
ورواية البلاذري هذه تفيد أن معاوية فتح قبرص وحده. أما الطبري وابن الأثير، ومن أرخ على وتيرتهما فيذكرون أن أسطول الشام، وأسطول مصر سار كل منهما يقصد قبرص. وكان على أسطول مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وأصحاب هذه الرواية لا يذكرون أن معاوية هو الذي تولى بنفسه قيادة الأسطول إلى قبرص بل يقولون: إنه استعمل على البحر عبد الله بن قيس الحارثي. ويتعذر القطع بصحة إحدى الروايات وزيف الأخرى. والذي أرجحه أن معاوية فتح قبرص بادئ الرأي صلحا، وذلك حين كان الروم في شغل بنكبتهم في مصر وفي إفريقية، وأن عبد الله بن قيس الحارثي كان معه في هذا الفتح الذي لم يرق فيه دم ولم يجر فيه قتال. فلما نقض أهل قبرص وأعانوا الروم سار أسطول الشام وأسطول مصر إلى الجزيرة ففتحاها عنوة وقتلا وسبيا من أهلها. وكان عبد الله بن قيس، وعبد الله بن سعد أميري البحر على الأسطولين في هذه الغزوة الثانية.
ويظهر من رواية الطبري ومن أخذ عنه أن عبد الله بن قيس برع في إمارة البحر أيما براعة، وأنه غزا خمسين غزاة ما بين شاتية وصائفة في البحر ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب.
ويضيف الرواة أن عبد الله بن قيس «كان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده خرج في قارب طليعة فأتى إلى المرقى من أرض الروم عليه سؤال يفدون بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها فقالت للرجال: هل لكم في عبد الله بن قيس. قالوا: وأين هو؟ قالت: في المرقى. قالوا: أي عدوة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس، فهو يختبئ. وقالت: أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد. فساروا إليه فهجموا عليه فقاتلوه وقاتلهم فأصيب وحده وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه ... وقيل لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفته؟ قالت: بصدقته، أعطى كما يعطي الملوك ولم يقبض قبض التجار.» ورواة هذا الحديث يذكرون أن سفيان بن عدي الأزدي سار بعد مقتل عبد الله بن قيس لقتال عدوه فلم يظفر به. وكذلك مات أول أمير للبحر من المسلمين قتيلا بغير قتال، ومات الرجل الذي لم يهزم قط لعجز أصحابه عن الأخذ بثأره والظفر بعدوه.
أيقن الروم بعد استيلاء المسلمين على قبرص، وبعد أن أصبح لهم أسطول يدافع عن شواطئ الشام وإفريقية، أنهم لن يستطيعوا العود إلى مصر وإفريقية، ولن يستطيعوا مناهضة المسلمين في الشام، ما لم يحطموا أسطول المسلمين لتعود لهم بتحطيمه سيادة البحر؛ وليكون لهم على موجه السلطان النافذ واليد المطلقة. ولن يتسنى ذلك لهم إذا تركوا المسلمين يكبر أسطولهم وتزداد كفاية ملاحيهم؛ لذلك عزموا غزوهم في البحر وتحطيم أسطولهم. وكانوا مطمئنين إلى مقدرتهم على الظفر بهذا الأسطول؛ لأن سفنهم كانت أكثر من سفن المسلمين عددا، ولأن ملاحيهم كانوا أكثر من ملاحي المسلمين براعة.
كان ذلك عام إحدى وثلاثين للهجرة في رواية، وأربع وثلاثين في رواية أخرى. وتنفيذا لعزمهم اجتمع الروم إلى قسطنطين بن هرقل وقد تولى قيادة خمسمائة أو ستمائة من السفن أطلقت شراعها تشق عباب البحر المتوسط إلى الإسكندرية تلقى فيها أسطول المسلمين الأكبر،
4
وعرف المسلمون نبأ الروم وسيرهم لقتالهم فتولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح والي مصر قيادة أسطول الإسكندرية وإفريقية وعدته مائتا سفينة شحنها بالشجعان المجربين ذوي البأس في الحرب. وأرسى بها بعيدا عن الإسكندرية وفي طريق الروم إليها. وتراءى الأسطولان حين آذنت الشمس بالمغيب فبات الروم يدقون نواقيسهم، وبات المسلمون يصلون ويقرءون القرآن، وكل ينتظر ما يتنفس عنه الغد. فلما أصبحوا صف ابن أبي سرح أسطوله ورجاله، وأقام مكانه ينتظر مجيء الروم إليه. وهبت من جانب البحر ريح عاتية اتقاها أسطول المسلمين بأن أرسى إلى شواطئه، ولم ينزعج لها الروم؛ لأنها كانت مواتية لمواقع أسطولهم. فلما سكنت الريح بعث ابن أبي سرح يقول لقسطنطنين: إن شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر؛ لأن الأعجل مقاومتكم. ولم يرض الروم هذا العرض؛ لأنهم ذاقوا من قبل بأس المسلمين في قتال البر؛ ولأن تدمير أسطول عدوهم كان مقصدهم الأول؛ لذلك بعثوا يقولون: الماء، الماء. ولم يتردد عبد الله بن سعد عن منازلتهم في الميدان الذي اختاروه. فتقدمت سفنه وتقدمت سفن الروم وأنشبوا القتال عنيفا غاية العنف، بلغ من عنفه أن تداخلت سفن الأسطولين، فكان الرجال يثبون على الرجال بالسيوف والخناجر، ولا تجد الرحمة إلى قلب أحد منهم سبيلا. ودفعت الأمواج سفن الأسطولين إلى الشاطئ فكان القتلى يهوون إلى رماله تغمرهم المياه ثم تنحسر عنهم وقد خالطتها دماؤهم فانقلب لونها أحمر قانيا. وحمى الوطيس وأبلى الروم وأبلى المسلمون أحسن البلاء، فكثر القتلى في الجانبين كثرة لم يعهد لها في ذلك العهد وفي مثل هذه الوقائع نظير. روي عن بعض من حضر ذلك اليوم أنه قال: «رأيت الساحل حيث تضرب الريح الموج وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم لغالب على الماء، وصبر الناس يومئذ صبرا لم يصبروه في موطن قط.» وأصابت قسطنطين جراحات أوهنت قوته وضعضعت عزمه. فلما بلغ منه ومن رجاله ورأى المسلمين لا يهن لهم عزم أيقن أن الدائرة لهم عليه فولى مدبرا بما بقي من أسطوله ورجاله، وقد آمن بأن بأس المسلمين في البحر لا يقل عن بأسهم في البر، وأنهم لا غالب لهم.
رأى عبد الله بن سعد فرار عدوه فلم يتعقبه، بل أمر الأسطول بالمقام في مكان الموقعة وبقي هناك أياما حتى استراح الناس ثم قفل راجعا إلى مرفأ الإسكندرية، وقد طعن عليه خصومه وخصوم عثمان بن عفان بما فعل من ذلك، وأذاعوا في الناس أنه لو تعقب أسطول الروم لقضى عليه القضاء الأخير، ولسوغ هذا القضاء، ولو إلى حد، ما أصاب المسلمين من خسائر فادحة في الرجال. أما ولم يفعل بل ترك عدوه يولي الأدبار، فحق على عثمان أن يعزله. لكن عثمان لن يفعل وابن أبي سرح أخوه في الرضاع، وعثمان هو الذي استوهب دمه من النبي يوم فتح مكة بعد أن أهدر النبي هذا الدم الفاسد المفسد. وانطلقت ألسنتهم في عثمان وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به، حتى لقد أمر ابن سعد ألا يركب معه محمد بن حذيفة ومحمد بن أبي بكر زعيما هذه الحركة.
أما قسطنطين فسار في سفينته إلى صقلية. فلما عرف أهلها ما أصابه، قالوا له: أهلكت النصرانية وأفنيت رجالها، لو أتانا العرب لم يكن عندنا من يمنعهم، ثم أدخلوه حماما وقتلوه فيه وتركوا من كان معه يعودون إلى القسطنطينية.
يطلق المؤرخون على هذه الغزاة اسم غزوة الصواري. وقد يتبادر إلى الذهن أنهم أسموها كذلك لما رووا أن المسلمين حين تهيئوا للمعركة ربطوا سفنهم بعضها ببعض، أو أنهم دنوا من الروم وربطوا سفنهم بسفنهم كما يقول ابن كثير في (البداية والنهاية). أم لعلها سميت كذلك؛ لأن المكان الذي وقعت فيه كان يدعى ذات الصواري. فالمؤرخون الذين رووا نبأ هذه الغزاة يقولون جميعا: إن عبد الله بن سعد أقام أياما بعد المعركة بذات الصواري، ثم عاد بعدها ظافرا إلى الإسكندرية.
ومقام عبد الله بن سعد بذات الصواري هو الذي دفع بعضهم للومه أن لم يتعقب أسطول قسطنطين في فراره. وليس لدينا من تفصيل الوقائع ما يجعلنا نشارك هؤلاء اللائمين في لومهم، ولا ما يدعونا لالتماس العذر لابن سعد؛ لأن العدد العظيم الذي فقده المسلمون من الرجال وما نال من بقي حيا من شدة الجهد قد مال به إلى الاكتفاء بظفره الحاسم بعدوه، وإلى إيثار المقام بمكان الموقعة لدفن القتلى وليستريح الناس. على أن الثابت أن الروم لم تقم لهم بعد هذه الغزاة في البحر قائمة، وأن المسلمين أصبحوا بعدها سادة البحرين المتوسط والأحمر، فأمنوا بذلك أن يسير العدو على ظهر الماء إلى أي مكان من شواطئهم. وذلك ما حدث. فلم يفكر الروم من بعد في العود إلى إفريقية، أو إلى مصر، أو الشام. •••
بينما كان الروم يحاولون غزو الشام واسترداد مصر وإفريقية، ويسيرون لتدمير أسطول المسلمين فيلقاهم المسلمون ويردونهم على أعقابهم في كل مكان، ويدمرون أسطولهم، كانت ولايات فارس يثور بعضها الحين بعد الحين فيلزمها المسلمون الطاعة، ويندفعون إلى ما وراءها من أرض آسيا. وقد رأينا كيف صالحت أذربيجان المسلمين في آخر عهد عمر، فلما استخلف عثمان منعت ما كانت صالحت عليه، فسار إليها الوليد بن عقبة فأخضعها على مثل صلحها الأول، كما رأينا في أرمينية وكيف أعان عليه الروم، فكان ذلك داعيا إلى اشتباكهم بالمسلمين وانتصار المسلمين عليهم.
وليس يرجع انتقاض الولايات الفارسية إلى وفاة عمر وإلى قيام عثمان في الخلافة مقامه. فكثيرا ما حدث في عهد عمر أن انتقضت هذه الولايات ومنعت ما صالحت المسلمين عليه فغلبها المسلمون على أمرها من جديد وردوها إلى الطاعة والإذعان. نقضت همذان صلحها مع المسلمين بعد غزوة نهاوند، فسار إليها نعيم بن مقرن فاستولى على ما حولها من البلاد ثم حاصرها فطلب أهلها الصلح فقبل نعيم منهم على أن تقيم بهمذان قوة من المسلمين يذكر وجودها أهل المدينة بالعهد ويقبض أميرها منهم الجزية. ونقضت اصطخر وانتقض في ولاية فارس كل مكان استطاع الانتقاض فسار الحكم بن أبي العاص إليها، وكان شهرك ملك هذه الولاية لا يزال متوجا، فانتصر عليه انتصارا حاسما وقتله هو وابنه وأخضع هذه الأرجاء من أرض كسرى إلى الصلح الذي عاهدت المسلمين عليه من قبل. وانتقضت غير اصطخر وهمذان مدن وولايات أخرى؛ فأعاد المسلمون إلى نفوس أهلها اليقين بأن مقاومتهم قد تحطمت، وأن كل ثورة يقومون بها تنقلب وبالا عليهم.
وليس عجبا أن يطمئن أهل مصر والشام وأن تثور ولايات فارس الحين بعد الحين. فقد كانت الشام وكانت مصر قبل الفتح العربي ولايتين رومانيتين خاضعتين لسلطان بيزنطة، وكانت تؤدي إلى عاهل القسطنطينية خراجا فادحا. فلما فتحها المسلمون لم يكرهوا أحدا من أهلها على الإسلام، وتركوا من شئون الإدارة لأبنائها ما طمأن هؤلاء الأبناء إلى الحكم العربي، وخففوا عن الناس أعباء الضرائب، فرضي الناس حكمهم ولم يكونوا يرضون حكم الروم. أما والعرب غالبون على أمر هذه البلاد كما كان الروم، أجانب عنها مثلهم، فلم يكن لدافع معقول أن يحرك أهل الشام أو أهل مصر للثورة بالعرب الفاتحين، وكانوا أكثر من الروم عدلا ورحمة؛ لذلك كان حكمهم أحب إلى القلوب وأدنى إلى أن تسيغه نفوس لم يترك الروم لذويها من القوة أو المنعة ما يدفعون به غزو غاز أو فتح فاتح.
وثم عامل آخر أدى إلى اطمئنان أهل الشام وأهل العراق. ذلك أن قبائل كثيرة من العرب نزحت إلى هذه البلاد، واستقرت بها وأقامت فيها إمارة الغساسنة بالشام وإمارة اللخميين بالحيرة، وذلك إلى أجيال كثيرة قبل بعثة النبي العربي؛ لذلك كثيرا ما أسرعت هذه القبائل فانضمت إلى بني عمومتها من العرب في صراعهم الروم والفرس، مع استمساك هذه القبائل أول الأمر بدينها. فلما تم للعرب الغلب في الشام وفي العراق، ودخل كثيرون من العرب الذين استقروا بهذين القطرين في الدين الجديد، فأصهروا إلى بني عمومتهم من أبنائه وأصبحوا وإياهم أمة إسلامية واحدة، كان ذلك من العوامل القوية الأثر في اندحار الروم حين حاولوا العود لغزو الشام، وحين عاونوا أهل أرمينية كي تكون بلادهم ثغرة ينفذ الروم منها إلى العراق.
ولم يغير من سكينة أهل العراق إلى الحكم الجديد أن المدائن عاصمة كسرى كادت تقع في بلادهم. فقد فرت قوات الفرس من المدائن ومن العراق كله إلى أرجاء إيران، فخلصت المدائن للعرب الفاتحين، ولأهل العراق الذين استقروا به منذ مئات السنين؛ لذا لا يحدثنا التاريخ عن انتقاض حدث في العراق بعد فتحه، سواء في عهد عمر أو عهد عثمان. وربما كان إنشاء البصرة والكوفة بأرض العراق وإقامة جند المسلمين بهما، وما كان لهذا الجند من قوة وبطش قد كان ذا أثر في استقرار الأمر بالعراق واستتباب السكينة في ربوعه.
فأما ما امتد إلى شرق العراق العربي من أرجاء فارس فقد بقيت الثورة كمينة في نفوس أهله، وبقيت لهم بقية ضئيلة من أمل في رجوع كسرى يزدجرد إليهم من منفاه في بلاد الترك ليعيد إلى بلاده مجد آبائه من بني ساسان. ولم يكن دافع هذا الأمل إلى نفوسهم عقيدة دينية تؤمن بها قلوبهم، فهم يدفعون عنها ويدفعون حياتهم ثمنا لها، بل كانت تحركهم إليه عزة قومية وطئها العرب بأقدامهم وبسنابك خيولهم. ولكن هذه العزة المهانة لم تبلغ من نفوسهم مبلغ التفاني في سبيلها، وبيع الأرواح بيع السماح لافتدائها.
وربما استبقى العرب أنفسهم هذه البقية الضئيلة من الأمل في نفوس الفرس. فقد كان المسلمون الذين أقاموا بالبصرة وبالكوفة طرازا غير طراز المسلمين الذين أقاموا بالشام وبمصر. كان المسلمون الذين آزروا معاوية بالشام، والمسلمون الذين آزروا عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بمصر، أكثرهم من أهل مكة والمدينة من المهاجرين والأنصار، وكثير منهم صحب رسول الله وامتثل تعاليمه وقاتل في سبيل الله معه. وهؤلاء لم يكن يثور بينهم نزاع أو تتلظى بينهم فتنة إلى سنوات عدة من عهد عثمان؛ لذلك لم يكن عمر ولا كان عثمان بحاجة إلى تغيير ولاتهم الحين بعد الحين، بل استقر معاوية بالشام منذ ولاه عمر عليه إلى أن صار الملك إلى بني أمية فاتخذوا دمشق عاصمتهم، واستقر ابن العاص ثم استقر عبد الله بن سعد من بعده بمصر إلى آخر العهد بعثمان. أما أهل البصرة والكوفة فكانوا من قبائل العرب البعيدة عن مكة والمدينة، قل منهم من كان قد صحب النبي أو استمع إليه أو قاتل معه؛ لذلك كانت العصبية القبلية كثيرا ما تثور بينهم، وكثيرا ما كان أمير المؤمنين يضطر لتغيير ولاتهم. ومنازعاتهم وبرمهم بالولاة هو الذي دفع عمر بن الخطاب ليقول: «هات أمرا أن أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.»
ثم إن القبائل التي سكنت البصرة والكوفة كانت لا تفتأ تظهر البرم بسلطان قريش، ويذكر بنوها أن الفتح في فارس تم بأيديهم، فليس لقريش حق في التسلط عليهم، وكانت أنباء ذلك تصل إلى الفرس في شتى الولايات، فكانت تشجعهم على الثورة والانتقاض الحين بعد الحين.
وكانت أنباء ما يحدث من ذلك تبلغ يزدجرد في منفاه فيحرك في نفسه شعاعة من أمل في مناوأة العرب، واستخلاص عرشه من أيديهم، وقد كان له في كثير من الولايات أنصار يؤمن بعضهم بحقه المقدس في العود إلى عرش آبائه، ونجحوا في أن يبثوا في قلوب البعض الحقد على الفاتحين الذين سلبوهم سلطانهم، فكان هؤلاء وأولئك يعملون على بث القلق وإلهاب النفوس ودفعها للثورة والانتقاض.
كانت هذه العوامل تتحرك في عهد عمر، لكنها كانت أشد بروزا في عهد عثمان. ذكرنا من قبل أن عثمان أبقى المغيرة بن شعبة على ولاية الكوفة سنة أربع وعشرين للهجرة تنفيذا لوصية عمر ألا يعزل الخليفة من بعده واليا من ولايته قبل انسلاخ عام من وفاته. وكان عمر حين سمى الشورى سمى سعد بن أبي وقاص بينهم؛ فقد قال: «فإن أصابت الخلافة سعدا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.» أما وسعد بطل القادسية وفاتح المدائن ومنشئ البصرة والكوفة فلا عجب أن يوليه عثمان إمارة الكوفة خلفا للمغيرة بن شعبة. وتولاها سعد فذكرت ولايته الناس بحميد فعاله في العراق كله. مع ذلك تحركت نفوس الفرس؛ لأنهم لم يذوقوا في بلادهم بأسه، فلم تنخلع قلوبهم لسماع اسمه. يقول البلاذري: «إن سعد بن أبي وقاص لما ولى الكوفة لعثمان بن عفان ولى العلاء بن وهب ماه وهمذان، فغدر أهل همذان ونقضوا، فقاتلهم. ثم إنهم نزلوا على حكمه فصالحهم على أن يؤدوا خراج أرضهم وجزية الرءوس ويعطوا مائة ألف درهم للمسلمين، ثم لا يعرض لهم في حرمة ولا مال ولا ولد.»
ولم تكن همذان وحدها هي التي انتقضت في عهد عمر، وفي عهد عثمان. بل انتقضت غيرها مدن وولايات كثيرة. وقد كانت الري كثيرة الانتقاض منذ فتحها نعيم بن مقرن في عهد عمر. يقول البلاذري:
5 «لما ولي سعد بن أبي وقاص الكوفة في مرته الثانية أتى الري وكانت ملتاثة فأصلحها، وغزا الديلم وذلك في أول سنة خمس وعشرين، ثم انصرف. وحدثني بكر بن الهيثم عن بكر بن ضريس قاضي الري، قال: لم تزل الري بعد أن فتحت أيام حذيفة تنتقض وتفتح حتى كان آخر من فتحها قرظة بن كعب الأنصاري في ولاية أبي موسى الكوفة لعثمان فاستقامت.»
لم تغن فعال سعد عنه، فلم يبق واليا على الكوفة غير سنة وبعض السنة ثم عزله عثمان عنها، وولى مكانه الوليد بن عقبة. ويذكرون سببا لعزله أنه استقرض مالا من بيت المال، وكان عليه عبد الله بن مسعود. فلما تقاضى عبد الله سعدا ما استقرضه لم يتيسر لسعد أداؤه، فاستعان قوما عند عبد الله لينظره إلى ميسرة، وأبى عبد الله وألح في اقتضاء ما لبيت المال عند والي الكوفة. وتلاقى سعد وعبد الله بعد ذلك، فقال ابن مسعود: «أد المال الذي قبلك»، فقال سعد: «ما أراك إلا ستلقى شرا، هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل؟!» ويجيبه عبد الله بن مسعود: «وإنك لابن حمينة.» ويشتد الجدال، فيتدخل أحد حضور المجلس قائلا: «والله إنكما لصاحبا رسول الله ينظر إليكما.» ولم يهدئ هذا القول، ولا هدأ ما قيل من مثله من حدتهما، ثم خرج سعد رافعا يديه يكاد يستنزل اللعنة على عبد الله، ورفع إلى عثمان ما حدث فغضب على الرجلين وهم بعزلهما. ثم إنه راجع نفسه فرأى سعدا أحق باللوم؛ لأن امتناعه عن أداء ما عليه هو الذي جر إلى النزاع، فجريرة سعد فيما وقع أعظم؛ لذا عزله عن الكوفة واستبقى ابن مسعود على بيت المال وأسند منصب سعد إلى الوليد بن عقبة.
كان الوليد بن عقبة أمويا كعثمان، وكان إلى ذلك أخا عثمان لأمه. وكان متهما بشرب الخمر. لكنه كان شجاعا جريء الجنان. سبقنا إلى ذكر فعاله حين انتقضت أذربيجان وكيف ردها إلى الطاعة، وكيف قاد الذين قاتلوا المنتقضين في أرمينية. ثم إنه كان رجلا حازما حسن الإدارة يستعين على أهواء الخاصة وشهواتهم بتألف قلوب الكافة وتقريبهم منه بالعطاء. قيل: «كان الوليد أدخل الناس على الناس خيرا، فكان يقسم للولائد والعبيد.»
6
ويقول الطبري: «كان الناس في الوليد فرقتين، العامة معه والخاصة عليه؛ لذا كان محبوبا إلى الناس قريبا إلى قلوبهم. بقي في ولاية الكوفة خمس سنين وليس لداره باب، ولا يجترئ عليه مع ذلك مجترئ لمحبة الناس له وتعلقهم به»؛ ولذا كان جند الكوفة طوع بنانه، وكانوا على أهبة دائمة للقضاء على كل انتقاض يقع في ولايات فارس الخاضعة لسلطانه. على أن أخذه الخاصة بالشدة انتهى إلى ائتمارهم وتربصهم، حتى إذا أمكنتهم الفرصة شكوه إلى عثمان لشربه الخمر فاستقدمه، وأقام عليه الحد وعزله، وولى سعيد بن العاص بن أمية مكانه. وسنعود عند الكلام عن حكومة عثمان إلى تفصيل الأسباب التي أدت إلى ائتمار المؤتمرين بالوليد بن عقبة، وكيف نجحوا في إقناع الخليفة بإقامة الحد عليه وعزله.
وكان سعيد بن العاص أمويا قريب القرابة لعثمان. كان قد ربي في حجر عثمان. فلما فتح المسلمون الشام ذهب إليه وأقام مع معاوية بن أبي سفيان وقاتل معه وعرف بلاءه وصلاحه. فلما بلغ عمر بن الخطاب أمره استقدمه إلى المدينة واستعمله وأسبغ عليه عطفه، ولم يمت عمر حتى كان سعيد من الرجال المعدودين في قرش، فلما ولاه عثمان الكوفة ذهب إليها وهو يعلم من تفشي الروح القبلية فيها ما جعله يؤثر الشدة على الرفق بأهلها، فلم يلبث حين بلغها وأزال عنه غبار السفر أن صعد المنبر فخطب الناس فقال: «والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني لم أجد بدا إذ أمرت أن أئتمر. ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، والله لأضربن وجهها حتى ألحقها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.»
ليس هذا الفصل مكان التفصيل لسيرة سعيد مع أهل الكوفة وسياسته فيهم، وإنما حديثنا فيه عن سياسة الفتح في عهد عثمان. وقد كان لسعيد بن العاص من الأثر في ذلك بالقضاء على انتقاض طبرستان ما نقف الآن عنده. فقد كان ملك طبرستان قد صالح سويد بن مقرن في عهد عمر بن الخطاب على طبرستان، وجبل جيلان بأن يدفع أهلها جزية كل عام، وهم من بعد ذلك آمنون لا يغار عليهم ولا يتطرق أحد إلى أرضهم إلا بإذنهم. وقد ظلوا سنوات يؤدون الجزية كاملة حينا، منقوصة حينا. فلما كانت سنة ثلاثين من الهجرة فشا الانتقاض في أرجاء مختلفة من بلاد الفرس، فنقضت خراسان، ونقضت جرجان، ونقضت طبرستان، ونقضت بلاد غيرها. وعرف سعيد بن العاص أن والي البصرة، وكان عبد الله بن عامر، قد سار إلى خراسان يخضعها. فسار هو إلى قومس وجرجان وطبرستان. ومن عجب أن هذه البلاد التي صالحت سويد بن مقرن في آخر عهد عمر دون قتال فزعا من بأس المسلمين، ورهبة لسلطانهم قد فكرت هذه المرة أن تقف وقفة المستيئس تريد أن تدفع هؤلاء الغزاة الذين بسطوا سلطانهم على ملك كسرى سبع سنوات أو تزيد. على أن سعيدا لم يلق مقاومة بقومس ولا بجرجان، بل صالحه أهل جرجان على مائتي ألف، فلما أراد أن يزحف من جرجان إلى طبرستان مشاطئا بحر قزوين قاتله أهل طميسه من ثغور طبرستان أشد قتال حتى صلى صلاة الخوف. واستمرت مقاومة هذا الثغر زمنا دل سعيدا على أن أهل طبرستان جمعوا له فيه، فما زال يدبر مكيدة الحرب حتى حاصرهم وحصرهم، وأراهم أن لا سبيل لهم إلى المضي في مقاومته. وتولاهم اليأس فسألوه الأمان فأجابهم إلى ما طلبوا على ألا يقتل منهم رجل واحد، لكنهم كانوا قد أرهقوه وجنده وقتلوا من المسلمين من لم يكن لقتلهم مثله عهد من قبل؛ لذلك لم يلبث القوم حتى فتحوا لسعيد أبواب حصنهم أن رأوه يقتحمه عليهم ويقتل من فيه جميعا خلا رجلا واحدا. واحتوى المسلمون ما في الحصن، ثم انطلقوا في أرض طبرستان وصحاريها، فلم يجدوا من يقاومهم.
أبلى جند الكوفة هذا البلاء الحسن في مقاومة الولايات الفارسية التي انتقضت. ولم يكن جند البصرة أقل من جند الكوفة حسن بلاء. وقد كان أبو موسى الأشعري والي البصرة حين وفاة عمر. فلما استخلف عثمان أقره عليها ست سنوات، أي: إلى سنة تسع وعشرين، وقيل: بل أبقاه ثلاث سنوات ثم عزله وولى مكانه عبد الله بن عامر ابن خال عثمان.
وقد ظلت الولايات الواقعة في سلطان جند البصرة مطمئنة إلى سكينتها زمنا بعد مقتل عمر، ثم امتدت إليها عدوى الانتقاض من غيرها من بلاد فارس، فأرسل إليها أبو موسى من ردها إلى حمى الطاعة.
ولا يفصل المؤرخون ما صنع أبو موسى، ومن بعثهم من أمراء الجند لرد المنتقضين إلى الطاعة. ولعل اختلاف الروايات في مدة ولايته البصرة أثناء خلافة عثمان، وهل كانت ثلاث سنوات أو ست سنوات، هو الذي صرفهم عن هذا التفصيل. يقول الطبري:
7 «عزل عثمان أبو موسى الأشعري عن البصرة، وكان عامله عليها ست سنين وولاها عبد الله بن عامر بن كريز ... وقيل: إن أبا موسى إنما عمل لعثمان على البصرة ثلاث سنين.» ويقول بإسناد: «لما ولى عثمان أقر أبا موسى على البصرة ثلاث سنين وعزله في الرابعة، وأمر على خرسان عمير بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة.» ثم يقول في سبب عزل أبي موسى: «ولما كانت السنة الثالثة كفر أهل أيذج والأكراد، فنادى أبو موسى في الناس فحضهم وندبهم، وذكر من فضل الجهاد في الرحلة حتى حمل نفر على دوابهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجالا. وقال آخرون: والله لا نعجل بشيء حتى ننظر ما صنيعه، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما فعل أصحابنا. فلما كان يوم خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلا، فتعلقوا بعنانه، وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول وارغب من الرجلة فيما رغبتنا فيه. فقنع القوم حتى تركوا دابته ومضى، فأتوا عثمان فاستعفوه منه، وقالوا: ما كل ما نعلم يجب أن نقوله، فأبدلنا به: فقال: من تحبون؟ فقال غيلان بن خرشة: في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا وأحيا أمر الجاهلية فينا ... فدعا عبد الله بن عامر وأمره على البصرة.»
وكان عبد الله بن عامر في فتوة الشباب. كان ابن خمس وعشرين سنة، قوي الجنان جريئا في الحرب. لما سمع أبو موسى بتوليته قال لأهل البصرة: «يأتيكم غلام خراج ولاج، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.» ولم يكذب أبو موسى؛ فقد جمع عثمان لعبد الله بن عامر جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي من عمان والبحرين.
انتفض أهل ولاية فارس لأول ما تولى عبد الله بن عامر أمر البصرة، فسير إليهم عبيد الله بن معمر ليردهم إلى الطاعة، ولقيهم عبيد الله على باب اصطخر فإذا بهم تواعدوا واستعدوا. ولقد استماتوا في القتال فانهزم المسلمون أمامهم وقتل عبيد الله فيمن قتل. فلما بلغ عبد الله بن عامر ما حدث استنقذ جند البصرة وسار بالناس إلى اصطخر، فلقيه الفرس فيها كما لقوا عبيد الله وقد استماتوا في القتال. لكن أبا عامر كان أوسع حيلة وأجرأ جنانا وأبرع محاورة؛ لذلك تراجع الفرس ولاذوا بحصون المدينة فحاصرها عبد الله وحاصرهم فيها ورماها بالمجانيق وما زال يضيق عليها الحصار حتى وهنت، فأخضعها عنوة وقتل بها مقتلة عظيمة وأفنى أكثر أهل البيوتات فيها ومن كان قد لجأ إليها من أساورة الفرس. فلما ذلت اصطخر سار عبد الله عنها إلى غيرها من مدن ولاية فارس، فقاوم بعضها عبثا وألقى بعضها سلاحه دون مقاومة. فقد اشتد عبد الله في معاملة هؤلاء الثائرين المنتقضين شدة أذلت أهل فارس جميعا ونكست رءوسهم.
وهناك من اصطخر المدينة المقدسة وعاصمة الفرس القديمة بعث عبد الله بن عامر أمراء جنده إلى ولاية خراسان التي انتقضت ليذلوها ويلزموها الطاعة ويبعث إلى نفوس أهلها اليقين بأن انتقاضهم لن يكون من أثره إلا أن يعرضهم للفناء أو للهوان. وبينما كان هؤلاء يسيرون في خراسان كان سعيد بن العاص يغزو جرجان وطبرستان وما والاها من الأرجاء، ويلزمهم جزاء ما نقضوا وثاروا ذلة وهوانا وجزية مضاعفة.
حدث انتقاض الكثير من ولايات فارس سنة ثلاثين من الهجرة. وسبب ذلك أن يزدجرد كسرى الفرس كان قد فر في خلافة عمر إلى خاقان الترك بسمرقند. فلما فتح الأحنف بن قيس بلاد خراسان وبلغ حدود الترك خشي خاقان الترك أن يجتاز المسلمون إلى بلاده، وأن يسلبوه ملكه، وأن يصنعوا به ما صنعوا بيزدجرد، فحشد جنده وحشد معه أهل فرغانة وسار بهم وبيزدجرد يلقى المسلمين بخراسان. وكان عمر بن الخطاب حين عرف فعال الأحنف بن قيس، وبلوغه بلخ قد أظهر غاية إعجابه به فصاح: «هو الأحنف وهو سيد أهل الشرق.» ثم بعث إليه في نفس الوقت يأمره ألا يجتاز خراسان إلى بلاد الترك. فلما أقبل خاقان ويزدجرد، ودخل خراسان انسحب الأحنف إلى مرو الروز وأقنع الترك بأنه لا يريد قتالهم، ولا يريد أن يتخطى أرض الفرس إلى أرضهم. فلما اقتنع خاقان بذلك ارتد راجعا إلى بلاده. وكان يزدجرد قد وصل في قوة فارسية إلى مرو الشاهجان فحصر حارثه بن النعمان أمير الجند المسلمين بها، واستخرج خزانته من موضعها. وكانت هذه الخزائن ثروة يخطئ تقديرها الإحصاء. فلما عرف انسحاب خاقان الترك وعوده إلى بلاده أراد أن يلحق به، وأن يحمل خزانته إلى عاصمة الترك معه. وأبى عليه أهل فارس أن يحمل الخزائن معه وأشاروا عليه أن يصالح العرب ليبقى بينهم. فلما أبى عليهم ما أرادوا، وأصر على الفرار بالخزائن ثاروا به وقاتلوه واستولوا على الخزائن، ففر وحاشيته إلى فرغانة عاصمة سمرقند.
وأقام لاجئا عند خاقان وفي نفسه بقية ضئيلة من أمل ضعيف في أن يعود يوما إلى عرشه. فلما قتل عمر كبرت هذه البقية وخيل إليه أن الفرصة سانحة لإثارة فارس بالمسلمين، فكاتب رجاله في مختلف الولايات كيما يحرض الناس على الثورة والانتقاض. وكان أهل الولايات المختلفة لا تزال تملأ نفوسهم رهبة المسلمين منذ حطموا قوتهم، ثم كانوا قد رأوا من عدل المسلمين وتسامحهم ما جعل القليل من هذه الولايات هو وحده الذي يسمع لدعاية كسرى، فينتقض على الحكم الجديد. وأسرع المسلمون فقضوا على ما حدث من الانتقاض في أول عهده، فسكنت فارس كلها إلى ما أصابها، وسكن يزدجرد زمنا غير قصير إلى سوء مصيره. على أن ما كان يحدث بالبصرة وبالكوفة من تغير المسلمين على ولاتهم، قد أدى إلى استرخاء قبضة المسلمين على الولايات الشرقية من أرض فارس. وشعر عمال يزدجرد بما حدث من ذلك فكاتبوه وأذاعوا الدعوة في أهل الولايات المختلفة أن كسرى قادم إليهم ليسترد ملكه، ودعوا أهل البلاد ليجمعوا أمرهم ليقوموا قومة رجل واحد في مؤازرة عاهلهم ليعود إلى عرشه؛ وليرد إلى بلاده ما ضاع من هيبتها ومن مكانتها. ونجحت الدعاية وعاد يزدجرد من ملجئه في فرغانة إلى خراسان فشجع ذلك كل فارسي وأثار حماسته ونخوته. وكذلك انتقضت الولايات الشرقية كلها وسارت بالمسلمين تريد أن تجليهم عن أرضها.
ترامت أنباء ذلك إلى سعيد بن العاص بالكوفة وإلى عبد الله بن عامر بالبصرة، فأيقنا أن الأمر إن يفلت من أيديهم تذهب ريح المسلمين في بلاد الفرس جميعا. عند ذلك ينقلب خصوم عثمان بالمدينة عليه وينزعونه من الخلافة. وإذا ضاع عثمان ضاع سعيد وضاع ابن عامر وضاع كل أموي. وتلك هي الطامة الكبرى؛ لذا سار كل من الرجلين بنفسه وسير أمراء جنده وحرضهم وحضهم على الجهاد في سبيل الله دفاعا عن دين الله وعن المسلمين جميعا. ولا أحسبهما نسيا ما في هذا الجهاد من دفاع عن العصبية وعن سلطانهما الذاتي المتصل بهذه العصبية. فلو أنها ذهبت وذهب هذا السلطان الذاتي معها فهيهات أن يعود.
التقى المسلمون والفرس في مواقع عدة ودار بين الفريقين قتال رأيت من شدته ومن احتماء وطيسه في بعض المواطن ما يذكرنا بالغزوات الكبرى. وقد ظفر الفرس بالمسلمين في بعض هذه المواقع. انهزم عبيد الله بن معمر أمام الفرس في اصطخر، وأدى حياته ثمنا لهزيمته وهزيمة المسلمين الذين كانوا في إمرته. وكان عبد الله بن عامر قد وجه الأسود بن كلثوم العدوى إلى بيهق، من أعمال نيسابور، فدخل البلد من ثغرة كانت في أسوارها، ودخل معه طائفة من المسلمين، فأخذ العدو عليهم تلك الثغرة فقاتلهم حتى قتل هو والذين معه.
على أن ظفر الفرس كان نادرا. وكان عبد الله بن عامر لا يلبث حينما يسمع بشيء منه أن يخف بنفسه أو يبعث من أمراء جنده من يرد العدو على أعقابه، ويرفع أعلام النصر عالية للمسلمين. وسار إلى اصطخر بعد مقتل ابن معمر، ففتحها وأذل أهلها، وأكمل أدهم بن كلثوم ما بدأه أخوه الأسود ففتح بيهق. واندفع ابن عامر في أرض خراسان ووجه أمراء الجند إلى شتى أرجائها فأشاع بها من الفزع ما تطايرت أمامه كل دعاية ليزدجرد، وما جعل أمراء الفرس على المدن يهرعون إلى الصلح يلتمسونه التماسا، ويقدمون في سبيله طائل الأموال وبارعات السبايا.
وقد ذكر البلاذري تفصيلا لبعض ما صالح عليه الفرس من أهل المدن والولايات المختلفة، فإذا به يبلغ عدة ملايين، لا أدري كيف كان يحصيها العرب! أكانوا يعدونها عدا أم يكيلونها كيلا؟! لا أراني بحاجة إلى تفصيل ما فرض على كل مدينة أو كل ولاية فتفصيله يطول ولا غناء فيه. وحسب القارئ لتستبين له صورة من ذلك أن يعلم أن المسلمين ساروا إلى أقصى الشرق من حدود فارس فردوا كل منتقض إلى الطاعة، وفتحوا ما لم يكن قد فتح في عهد عمر، وأنهم انحدروا في أفغانستان حتى صاروا على مقربة من حدود الهند. وتختلف الروايات: هل أخذوا كابول وغيرها من مدن أفغانستان واستقروا بها؟ أم أنهم ردوا عنها، أم فتحوها ثم خرجت عن الطاعة فلم يعودوا إليها في عهد الخلافة؟ وأرجح الروايات أنهم لقوا من الشدة في جبال الأفغان ما صرفهم أيام عثمان عن متابعة الغزو في تلك النواحي.
روي أن الناس قالوا لعبد الله بن عامر حين تم له كل هذا الفتح: ما فتح لأحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وخراسان! فقال: «لا جرم لأجعلن شكر الله على ذلك أن أخرج محرما من موقفي هذا، سأحرم بعمرة من نيسابور.» وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم.
بينما كان المسلمون تساير أعلامهم النصر في مختلف الأرجاء من أرض فارس، كان يزدجرد يفر من ولاية إلى ولاية حتى انتهى به الفرار إلى أن قتل في منزل رجل ينقر الأرض على شاطئ نهر المرغاب. والروايات في قتله كثيرة مضطربة. ويرجع اضطرابها إلى اختلاف التاريخ لفتح الولايات المختلفة من بلاد فارس، وهل تم كله في عهد عمر، أم أن فارس وكرمان وسجستان وخراسان لم تفتح إلا في عهد عثمان. والذي رجحناه في كتابنا عن الفاروق، ونرجحه هنا أن فارس كلها فتحت في عهد عمر، وأنها نقضت بعد ذلك وثارت، وأن يزدجرد انتهز فرصة ثورتها فعاد من ملجئه عند خاقان الترك إليها. ويتعذر القول في أي سنة من عهد عثمان عاد. لكنه لم يلبث بعد عوده أن حاول قتال العرب، فجمع حوله جندا يقاتل به عدوه. لكن هذا الجند لم يغن عنه شيئا، ففر من كرمان إلى سجستان إلى خراسان، وهناك على شط المرغاب لقي حتفه.
وتجمع الروايات على أنه لم يقتل حين فراره أمام المسلمين، بل قتل لاختلافه مع ملوك الفرس وأساورتهم، يقول البلاذري:
8
إن «يزدجرد جلس ذات يوم بكرمان، فدخل عليه مرزبانها فلم يكلمه تيها، فأمر بجر رجله وقال: ما أنت بأهل لولاية قرية فضلا عن الملك، ولو علم الله فيك خيرا ما صيرك إلى هذه الحال! فمضى إلى سجستان فأكرمه ملكها وأعظمه، فلما مضت عليه أيام سأله عن الخراج فتنكر له. فلما رأى يزدجرد ذلك سار إلى خراسان فلما صار إلى حد مرو تلقاه ماهويه مرزبانها معظما مبجلا. وقدم عليه نيزك طرخان فحمله وخلع عليه وأكرمه، فأقام نيزك عنده شهرا ثم شخص وكتب إليه يخطب ابنته، فأحفظ ذلك يزدجرد وقال: اكتبوا إليه إنما أنت عبد من عبيدي فما جرأك على أن تخطب إلي. وأمر بمحاسبة ماهويه مرزبان مرو وسأله عن الأموال، فكتب ماهويه إلى نيزك يحرضه عليه ويقول: هذا الذي قدم مفلولا طريدا فمننت عليه ليرد عليه ملكه، فكتب إليك بما كتب. ثم تضافرا على قتله. وأقبل نيزك في الأتراك حتى نزل الجنابذ فحاربوه فتكافأ مع الترك، ثم دارت الدائرة عليه فقتل أصحابه ونهب عسكره، فأتى مدينة مرو فلم يفتح له فنزل عن دابته ومشى حتى دخل بيت طحان على المرغاب.»
ثم يقص البلاذري بعد ذلك قصة قتله في بيت ذلك الطحان.
وقد أورد الطبري قصة نيزك ويزدجرد على غير هذا النحو. كما أورد قصصا أخرى تنتهي كلها إلى مقتل يزدجرد في بيت الطحان. وخلاصة ما أورده الطبري عن قصة نيزك أن يزدجرد فر بعد وقعة نهاوند إلى أصبهان وبها يومئذ دهقان يقال له: مطيار. وكان له عند أهل أصبهان حظوة؛ لأنه قاتل العرب ونال منهم. وأراد مطيار أن يدخل يوما على يزدجرد فحجبه بوابه فعظم ذلك عليه فوثب على البواب فشجه فأدماه. ودخل البواب على يزدجرد فأفظعه منظره ورأى بعد أن عرف سبب ما نزل به أن لا مقام له بأصبهان فارتحل عنها إلى سجستان، ثم سار من سجستان إلى مرو في ألف رجل من الأساورة. وكان ماهويه دهقان مرو. ولأمر ما أراد يزدجرد أن يصرف الدهقنة عنه إلى ابن أخيه سنجان، فعمل ماهويه على هلاكه؛ لذا كتب إلى نيزك طرخان أن تكون أيديهم معا في أخذ يزدجرد وقتله ومصالحة العرب عليه. وكتب نيزك إلى يزدجرد أنه قادم إلى نصرته. وخدع قوم يزدجرد فلقي نيزك في غير سلاح ولا جند، مطمئنا إليه وواثقا به؛ فلما توسط نيزك عسكره خطب إلى يزدجرد ابنته ليقاتل معه عدوه. وغضب يزدجرد وسب نيزك فعلاه نيزك بخفقته، ففر يزدجرد حتى انتهى إلى بيت الطحان على المرغاب وهناك قتل.
وفي رواية أخرى يسوقها الطبري عن ابن إسحاق أن يزدجرد هرب من كرمان إلى مرو فسأل مرزبانها مالا فمنعه. فخاف أهل مرو أن يعدو عليهم يزدجرد بعسكره، فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه فأخذوه فبيتوه وقتلوا أصحابه ففر يزدجرد إلى منزل الطحان على المرغاب حيث قتل.
والروايات في مقتل يزدجرد تختلف اختلافها في فراره. ولا حاجة بنا إلى تفصيل هذه الروايات في مثل إسهاب الطبري وغيره من المؤلفين. وحسبنا أن نشير إلى أن بعضها يذكر أن الطحان رأى على يزدجرد حلة فلما نام قتله، أو أنه قدم له طعاما فأكل وأتى له بشراب فسكر، فلما كان المساء أخذ منه الشراب فوضع تاجه على رأسه فعرفه الطحان فطمع فيه فقتله وأخذ جواهره وثيابه وألقاه في الماء، ثم عرف ماهويه خبره فقتل الطحان وأهل بيته وأخذ تاج كسرى وجواهره وثيابه. ويذكر البعض أن الطحان أخبر ماهويه بوجود يزدجرد عنده فعبث ماهويه عسكره، فذهبوا إلى يزدجرد فقتلوه، أو أنهم ذهبوا إليه فوجوده في النهر فأخرجوه منه فقال لهم: دعوني أصالح العرب، فأبوا عليه وقتلوه. وفي رواية أن الترك انتقموا له ووضعوا جثته في تابوت وحملوها إلى اصطخر حيث دفن. وأيما الروايات تصح فكلها تتفق على أن يزدجرد قتل بعد فراره إلى منزل ذلك الطحان، وبمقتله انتهت دولة الأكاسرة من بني ساسان.
فلم يكن ليزدجرد عقب يجتمع الناس حوله أو ينادون بأنه الوارث الشرعي للعرش. ثم إن كسرى قضى أربعا وعشرين سنة بين اعتلائه العرش، ومقتله لم يسترح إلى الملك أثناءها إلا أربع السنوات الأولى، ثم ظل من بعد ذلك عشرين سنة حسوما في فرار دائم أمام العرب الذين كانوا يطاردونه من ولاية إلى ولاية، ويضطرونه إلى مغادرة بلاده يستنصر الترك أو الصين، فلا يزجرونه إلا حين يخاف الترك أن يدهمهم العرب في عقر دارهم. أما وذلك شأنه وهذه ميتته، فأحرى بمقتله أن يسقط هيبة الملك في نفس كل فارسي، وأن يجعل أمراء الولايات يغتبط كل منهم، حين يبقى المسلمون، له سلطان كسلطانه في عهد الأكاسرة، ثم تكون الكلمة العليا للعرب في شئون الدولة العامة. والمؤرخون يذكرون أن يزدجرد اتصل بامرأة بيرو قبيل مقتله فولدت بعد أن مات غلاما ذاهب السن سمي المخدج، وأن المخدج هذا ولد له بخراسان أولاد بينهم جاريتان بعث الحجاج بن يوسف بهما أو بإحداهما إلى الوليد بن عبد الملك فكان يزيد بن الوليد الناقص من نسل إحدى الجاريتين. فطبيعي ألا يكون لهذا المخدج أو لعقبه نصير من الفرس يجمع كلمة الناس حوله.
خمدت بمقتل يزدجرد مقاومة الفرس في أرجاء المملكة جميعها، فصالح المسلمين منهم من لم يكن صالحهم، ولم يشذ عن ذلك إلا جماعة الترك من أهل بلخ، وكانوا يجاورون ولاية الباب في أقصى الشمال الغربي من أرض إيران المشاطئة لبحر الخزر. ولا عجب أن تظل هذه المنطقة من أرض فارس أكثر المناطق استعصاء على الفاتحين وأشدها ثورة بهم. فهي منطقة جبلية وعرة المسالك، وأهلها قوم ألفوا الحرب والانتقاض، فلا يسلمون طائعين وإن أحاط بهم العرب من كل جانب. ولقد أراد عبد الرحمن بن ربيعة حين بلغ أرضهم أن يقتحمها عليهم فقاوموه وقتلوه، وهزموا من كان في إمرته من المسلمين. وخشي عثمان ما ربما يكون لذلك من أثر في سائر الولايات، وأراد أن يثأر المسلمون لإخوانهم فكتب إلى سعيد بن العاص أمير الكوفة، وإلى معاوية بن أبي سفيان أمير الشام ليمد المسلمين الذين انحازوا بعد هزيمتهم إلى الباب، فسار حبيب بن مسلمة الفهري بأمر معاوية، وسلمان بن ربيعة الباهلي بأمر سعيد بن العاص إلى حيث أمرهم عثمان أن يسيروا. وانتصر المسلمون وأخذوا (فرج بلنجر) عنوة. لكن أهل الكوفة وأهل الشام اختلفوا من بعد. وكان هذا أول خلاف وقع بين جند المسلمين، والطبري ينسب خلافهم إلى أن سلمان أراد أن يتأمر على حبيب فأبى، وقال أهل الشام: ... لقد هممنا بضرب سلمان. وقال أهل الكوفة: ... إذن والله نضرب حبيبا فيكثر القتل فيكم وفينا. وفي ذلك يقول شاعر أهل الكوفة أوس بن مغراء:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم
وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا
وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته
ليالي. نرمي كل ثغر وننكل
أما البلاذري فيرد الخلاف إلى أن سلمان بلغ مكان الموقعة بجنده بعد أن فرغ أهل الشام من عدوهم. فطلب أهل الكوفة إليهم أن يشركوهم في الغنيمة فأبوا، فتغالظ حبيب وسلمان في القول وتوعد بعض أهل الشام سلمان بالقتل، فقال شاعر أهل الكوفة الأبيات التي سلف ذكرها. •••
استتب الأمر للمسلمين في فارس كما استتب لهم في إفريقية، فلم يلقوا إلى آخر خلافة عثمان محنة تذكر. وقد يحسب بعضهم هذا عجبا. فسنرى عما قريب حين نعرض بالحديث لحكومة عثمان واتجاهات الرأي في عهده وما نشأ عن هذه الاتجاهات من آثار انتهت إلى الثورة وإلى مقتل عثمان، أن دبيب الشقاق كان يدب في هذه الدولة الناشئة حتى لقد هدد كيانها بالخطر. فكيف مع ذلك أقام أهل فارس على الهوان، وكيف تقاعس الروم فلم ينتهزوا الفرصة، ولم ينهضوا للأخذ بثأرهم واسترداد ما ضاع من ملكهم؟!
ليس الجواب على هذا السؤال عسيرا، فقد بلغ النظام الاجتماعي والنظام السياسي في الفرس والروم مبلغا من الهرم والانحلال صرف الناس عن التحمس له والدفاع عنه؛ لذلك لم تكن تحرك فرق الجند حين ذهابها لقتال العرب فكرة تدافع عنها، أو رجاء تريد تحقيقه، أو مثل إنساني أعلى يسعد الناس به، بل كانت هذه الفرق تذهب طوعا لأمر السادة الحاكمين. وقل أن دفعت الطاعة للحاكم وحدها إلى تضحية وإن قلت، ما بالك والجندي يسير إلى ميدان القتال ليضحي بحياته؛ لهذا كان قواد الفرس وقواد الروم لا يضربون للجنود مثلا في الإقدام، وكان الجنود أنفسهم أشد ما يكونون اغتباطا ورضا من الغنيمة بالإياب.
أما المسلمون فكانوا لا يزالون مأخوذين بجلال الدين الجديد والدعوة السامية إلى الأخوة الإنسانية، مندفعين إلى مثل أعلى يريدون تحقيقه. صحيح أن دبيب الخلاف بدأ يدب بين بني هاشم وبين بني أمية منذ استخلف عثمان. لكنه كان يدب على استحياء، فلم يكن يبدو للناس منه أثر، ولم يكن يحركهم إلى الانتقاض. وصحيح كذلك أن العرب من مختلف القبائل كانوا ينقمون على قريش سيادتها عليهم وسلطانها فيهم، وكانوا يظهرون البرم بهذا السلطان بين حين وحين. لكن هذه المنافسة وهذا البرم كانا لا يزالان في المهد، يتحدث عنهما الأفراد ولا يصلان إلى تحريك الجماعات. ولم تكن هذه المنافسات لتبلغ بحال إلى حيث تطغي على إيمان العرب بالرسالة السامية التي ألقى القدر عليها نشرها في ربوع الأرض جميعا؛ لذا لم يكن من أثر التيارات الخفية التي كانت تمهد للثورة ولمقتل عثمان أن تقف سير الفتح أو تضعف ما دفعه الدين الجديد، والنظام الجديد إلى نفس المسلمين من قوة، وإن أمكن القول: بأن المسلمين كانوا قادرين لولاها على أن يذهبوا إلى أبعد مما ذهبوا، وأن يفتحوا أكثر مما فتحوا.
وهذا تفسير طبيعي؛ فقد قاوم العرب الدين الجديد مقاومة عنيفة، وتغلب على مقاومتهم لهذا الدين العرب الذين آمنوا به ورأوا فيه دعوة سامية إلى مبادئ بالغة غاية الرفعة. فلما واجهوا الفرس وواجهوا الروم وظفروا بهم زادهم الظفر بهذا الدين إيمانا، ولم يبق في نفوس الجماعات العربية ريب في أن الاستمساك به هو الذي أعزهم وأعلى كلمتهم وجعلهم سادة أولئك الذين كانوا إلى عهد قريب سادة العالم. مع ذلك لم تنتزع المبادئ السامية الجديدة من النفوس كل ما ورثت من ماضيها الطويل القديم، ولم تنتزع منها بخاصة ما اعتبره أصحاب هذا الماضي غير متناف مع هذه المبادئ. وهل تتنافى خصومة بني هاشم وبني أمية مع ما أوحى الله إلى رسوله. أو ليست قرابة بني هاشم إلى الرسول مؤيدة لهم في طلب الخلافة من بعده. أوليس ما نفاه الإسلام من تفاضل بين الناس إلا بالتقوى، وما أقره من أن الأمر شورى بين المسلمين مؤيدا لبني أمية وهم أكثر من بني هاشم نفرا وأعز منهم بين العرب مكانة. ولكن ما فضل بني أمية على سائر العرب وهؤلاء العرب هم الذين فتحوا، وغنموا وأقاموا بناء الإمبراطورية. وما فضل العرب على غيرهم من اليهود والنصارى الذين دخلوا في الإسلام. واليهود والنصارى أهل كتاب قبل إسلامهم، على حين كان العرب كفارا عبدة أوثان وأصنام؛ لا عجب إذن أن تتحرك هذه المعاني في النفوس في عهد عثمان. فالإيمان بالفكرة المجردة شيء، ومواجهة هذه الفكرة بواقع الحياة وتطبيقها على هذا الواقع شيء آخر.
على أن هذا التفكير لم يكن ليطغى على جلال الفكرة الإسلامية في عهد عثمان. فقد كان في النشأة الأولى لا يزال، ولم يكن ليمتد إلى الجماعات المندفعة بقوة الدين الجديد تفتح بلادا عدا الانحلال على كل ما فيها من عقائد ونظم؛ لذلك اطرد الفتح واستقر. مع ذلك أثمر هذا التفكير اتجاهات جديدة في حياة الإمبراطورية الناشئة، وكان له من الأثر ما انتهى إلى الثورة وإلى مقتل عثمان.
وقد كان لحكومة عثمان أثر في اطراد الفتح واستقراره. وكان لها أثر كذلك في تشجيع العوامل التي انتهت إلى مقتل الخليفة الشيخ. وسنرى هذا الأثر في الفصل التالي عن حكومة عثمان واتجاهات الرأي في عهده.
الفصل الرابع
حكومة عثمان
لم يكن من أثر التيارات الخفية التي كانت تمهد للثورة ولمقتل عثمان أن تقف من سير الفتح أو تضعف ما دفعه الدين الجديد والنظام الجديد إلى نفوس المسلمين من قوة، وإن أمكن القول: بأن المسلمين كانوا قادرين، لولا هذه التيارات، على أن يذهبوا إلى أبعد مما ذهبوا، وأن يفتحوا أكثر مما فتحوا.
لم يقتصر أثر هذه التيارات على الفتح يحد من خارق اندفاعه، بل امتد هذا الأثر إلى حياة الأمة العربية كلها، فوجه الكثير من شئونها توجيها هيمن على الإمبراطورية الإسلامية وعلى التاريخ الإسلامي كله من بعد؛ لذلك كانت دراسة هذه التيارات والعوامل جوهرية لإدراك التطور السياسي والمذهبي الذي وجه الحوادث من بعد توجيها لا يزال أثره بالغا إلى اليوم.
أول هذه العوامل ما سبقت الإشارة إليه من تنافس بين بني هاشم وبين بني أمية تنافسا يرجع عهده إلى مائة عام قبل النبي العربي. وقد استجن هذا التنافس بعد أن استقرت دعوة رسول الله فأقبل الناس من أرجاء شبه الجزيرة يدخلون في دين الله أفواجا. فلما اختار رسول الله جوار الرفيق الأعلى جالت بخاطر بني هاشم فكرة الخلافة على أنها ميراثهم عنه
صلى الله عليه وسلم ، ولكنها جالت بخاطرهم على استحياء، فلم تكن لها في حياة الدولة أثر في خلافة أبي بكر وعمر. فلما فتح المسلمون فارس والشام ومصر، ثم قتل عمر بن الخطاب، تجلى هذا التنافس وبرزت هذه العصبية في صورة جلوناها عند الحديث عن الشورى وبيعة عثمان. وقد اختلفت الروايات في موقف علي من هذه البيعة، لكنها جميعا تجمع على عدم اقتناع بني هاشم بها ونظرهم إليها نظرة أذكرتهم ما قاله عمر بن الخطاب لابن عباس: «إن الناس كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فإن قريشا اختارت لنفسها فأصابت.» وذلك قول علي بن أبي طالب بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم.»
كان لبرم بني هاشم بإسناد الخلافة إلى رجل من بني أمية أثر عميق في حكومة عثمان. كذلك كان لبرم العرب من غير قريش بسلطان قريش مثل هذا الأثر. فقد ذهب الذين غادروا مكة والمدينة من المهاجرين والأنصار ومسلمة الفتح إلى الشام واستقروا به. وذهب من غادروا اليمن ونجد أو سائر قبائل العرب في الجنوب والشرق من شبه الجزيرة إلى العراق واستقروا به. وإذ كان الولاة في عهد الخلفاء الثلاثة الأولين من رجالات مكة والمدينة فقد بدأ غيرهم من العرب يتساءلون: ما فضل هؤلاء علينا وليس لهم أكثر مما لنا من أثر في الفتح وفي بناء الإمبراطورية؟ لقد سبقونا حقا إلى الإسلام، فإذا كان هذا السبق مسوغا أن كون الخلافة في قريش فلم يكون مسوغا لاستئثارهم بكل مناصب الدولة؟ فالإسلام لا يجعل لعربي فضلا على عجمي إلا بالتقوى. ما بالك والذين نزلوا البصرة والكوفة عرب كأهل الحجاز وكأهل مكة والمدينة سواء. إن هذا الاستئثار إنما يدفع إليه الحرص على سيادة طائفة من العرب على طائفة سيادة لا يقرها الإسلام ولا يرضاها صاحب الرسالة به. ألم يجعل رسول الله لزيد بن حارثة، وكان مولى اشترته خديجة أم المؤمنين وأعتقته، سبقا على كثير من قريش ومن المهاجرين والأنصار؟ فكيف يؤخر أهل نجد وغيرهم ممن كان لهم في الفتح فضل أي فضل ويقدم عليهم أهل مكة والمدينة؟ إن هذا لهو الظلم الذي لا يرضاه حر، وهو الاستعلاء تأباه النفس العربية التي ألفت المساواة والحرية قرونا طويلة قبل أن يزيدها الإسلام بالمساواة والحرية إيمانا!
وثمة عامل ثالث لم يكن أقل من هذين العاملين أثرا في توجيه سياسة الدولة الوجهة التي انتهت إلى الثورة وإلى مقتل عثمان. ذلك هو شعور الأعاجم وشعور اليهود والنصارى باستعلاء العرب عليهم وتحكمهم فيهم، ولم يكن للعرب قبل عشرين سنة من ذلك العهد أي سلطان. فإلى أن اختار رسول الله الرفيق الأعلى، وإلى أن قضى أبو بكر على الردة في شبه الجزيرة، كان الروم وكان الفرس ينظرون إلى أولئك العرب على أنهم دونهم مكانة في الحضارة وقدرا في المقام العالمي. فكيف بهم اليوم يرضون أن يسود العرب بلاد قيصر وبلاد كسرى؟ وكان هذا الشعور أشد وضوحا في فارس منه في الشام وفي مصر؛ لأن فارس كانت مستقلة وكانت تنافس الروم المتحكمين في الشام وفي مصر سيادة العالم. ترى أبلغ الضعف والتخاذل من الفرس فلم يبق لهم من التخلص من هؤلاء العرب رجاء؟!
وأهل الكتاب واليهود منهم خاصة، سواء منهم من أسلم نفاقا ومن لم يسلم، لم يكن أحد منهم يظن أن دينا جديدا سيجليهم عن مواطنهم في شبه الجزيرة. وها هم هؤلاء العرب قد أجلوهم عنها.
كان لهذه العوامل أثرها العميق في حياة الدولة الناشئة. وقد ظهر بعض هذا الأثر في عهد عمر وانتهى إلى مؤامرة الهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بقتله. لكن أحدا لم يفكر يومئذ في اجتثاث أسباب الفتنة من جذورها؛ لأن أحدا لم يظن أن هذه الأسباب يمكن أن تستفحل فتثير الحرب الأهلية بين العرب وأنفسهم، وتنتقل بهم من نظام الخلافة إلى نظام الملك، وتغير سير الحوادث تغييرا بالغ الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية وفي حياة العالم كله؛ ولهذا انصرف تفكير عمر في عهده إلى معالجة ما يبدو من مظاهر هذه العوامل بما يقضي على أثرها الوقتي. ولم يكن عمر ليفعل أكثر من هذا فقد كان عهده كله عهد جهاد وحرب اتصلت على السنين طيلة خلافته، فلم يكن بد من أن يوجه أكبر همه إلى نجاح الفتح وإلى طمأنينة العرب للنظام الجديد الذي أقامه. وكذلك كان شأن عثمان في أول خلافته، إذ كانت الأمور مستقرة فلم يكن يساوره أو يساور غيره من الخوف أن تثور الأرض بفعل هذه العوامل، وأن تبلغ الثورة مبلغ الحرب الأهلية؛ لهذا وقف تفكير عثمان كما وقف تفكير عمر من قبل عند معالجة كل انتقاض بما يرد الطمأنينة إلى النفوس ويدفع بالفتح إلى أن يسير سيرته المظفرة.
والواقع من الأمر أن هذه العوامل كانت من الضعف في عهد عمر وفي السنوات الأولى من عهد عثمان، فلم يكن لأي من الخليفتين أن يخشاها. لقد كان عمر يظن أن ما يبدو من ظواهر الانتقاض يرجع إلى سوء تصرف الولاة، وقد تولى عثمان الخلافة ولم يكن أحد يسيء به الظن لأول عهده، بل إن المؤرخين ليجمعون على أن السنوات الست الأولى من خلافته كانت محل الرضا عنها والطمأنينة إليها والاغتباط بازدياد الرخاء أثناءها من جانب العرب، ومن جانب من اطمأنوا لحكم المسلمين، من غير العرب. ويذهب أكثر المؤرخين إلى أن الرضا والطمأنينة كانت أكثر شمولا في هذا النصف الأول من عهد الخليفة الشيخ مما كان في عهد عمر؛ لذلك لم يكن لأحد من بني هاشم أو من غيرهم أن يشكو أو يثير ثائرة. فقد كان عثمان لينا في غير ضعف، عادلا عدل عمر من غير أن يكون باطشا بطشه أو قاسيا قسوته. فقد رأيت أنه استفتح عهده بأن زاد في عطاء الناس ووسع عليهم، فزاد ذلك في طمأنينتهم ورضاهم.
وما كان عثمان ليغير شيئا من نظام الحكم الذي وضعه عمر حين دون الديوان وأقام القضاء ونظم المسالح ووضع بها الجند، وما كان له أن يخرج عن نظام الشورى الذي جرى عليه النبي
صلى الله عليه وسلم
وتابعه عليه أبو بكر وعمر؛ لذلك سارت الأمور لأول عهده هادئة مستقرة، ورجع الناس إلى مواطنهم بعد أن بايعوه وكلهم الرجاء الصالح في أن تستقر الإمبراطورية الناشئة، وأن تزداد على الأيام سعة وتزيد العرب رضا عن الحياة وتمسكا بالدين الذي أعزهم وأعلى كلمتهم.
لم يكتف عثمان أول عهده بأن زاد عطاء الناس عما كان عليه في عهد عمر زيادة أرضت الكافة والخاصة، بل أفسح لكبار المسلمين الذين أقاموا بالمدينة في حريتهم وأتاح لهم بذلك أن يستمتعوا بأنعم الحياة على نحو كان عمر يأباه عليهم. فقد منع عمر أعلام المهاجرين من قريش من الخروج في البلدان إلا بإذنه وإلى أجل، وكثيرا ما رفض الإذن بتاتا. وكان الرجل منهم يستأذنه في الغزو وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين فيقول له عمر: «قد كان لك في غزوك مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما يبلغك. وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك.» فعل عمر هذا بالمهاجرين ولم يكن فعله بغيرهم من أهل مكة. وكانت حجته في ذلك خشية أن تغري المهاجرين الدنيا، وأن يستكثروا من الأموال في البلاد المفتوحة فيطغوا، فيكونوا لغيرهم مثلا سيئا يضر بالدولة الناشئة. فلما ولي عثمان لم يأخذ المهاجرين بالذي كان يأخذهم به عمر؛ لأنه رأى قريشا ملت هذه الشدة في آخر عهد الفاروق؛ لذلك خلى عثمان عن المهاجرين وأباح لهم من الحرية في التنقل في أنحاء الإمبراطورية ما كان محظورا عليهم، فانساحوا في الأقطار ورأوا الدنيا ورآهم الناس، واضطربوا في البلاد وأخذوا من أنعم الحياة بالنصيب الوافر، فحبب ذلك إليهم حكومة عثمان وآثروا خفضها ولينها على ما اضطرهم إليه عمر من زهد وتقشف.
لم يفكر أحد في مؤاخذة عثمان بما في هذه الإباحة من مخالفة لسنة الخليفتين من قبله. فالناس إنما يثورون بالحاكم ويلتمسون المنطق الذي يسوغون به ثورتهم حين لا يرضي مطالبهم وأهواءهم أكثر مما يثورون به إذا تردد الرأي في تصرفاته بما يحقق المصلحة العامة وما لا يحققها. ذلك شأنهم في كل أمة وكل عصر. وقد كان للمسلمين في رقعة الإمبراطورية الفسيحة لأول عهد عثمان ما يكفل لمن شاء منهم ما شاء من رخاء ورفه عيش. وقد منعهم عمر من المتاع بهذا الرخاء وطال بهم هذا المنع، فملت نفوسهم هذه الشدة ولم يبق لها ما يسوغها. أما وقد أباح لهم عثمان ما ترضاه نفوسهم فهم من عثمان راضون وإن خالف سنة الخليفتين من قبله. فإنما أملت تصرفات أبي بكر وعمر في هذا الأمر أحداث لم يبق لها على الزمان وجود.
لم يكن عثمان يستطيع أن يلزم الناس من التقشف والزهادة ما كان يفرضه عمر عليهم؛ ذلك لأن عمر كان متقشفا شديد القسوة بنفسه، وكان يرى من الواجب عليه أن يشعر بشعور الضعيف والبائس والمحروم. وكان يقدر على احتمال هذه القسوة بنفسه لما حباه الله من صحة وقوة؛ ولأنه كان يوم ولي أمر المؤمنين في الخمسين من عمره. وكان صلبا شديد المراس فلم يكن لأحد من رعيته أن يلومه إذا هو طالب غيره أن يحذو حذوه، وأن يتأسى بسيرته. أما عثمان فكان في ذلك كله نقيض عمر. ولي الأمر وقد ناهز السبعين أو جاوزها. وقد كان، حتى في شبابه وفتوته، يحب لين العيش، يطعم أطايب الطعام ويلبس فاخر الثياب ويتختم ويشد أسنانه بالذهب. وكان له من سعة المال ما يدفع عنه - بعد أن ولي الأمر - كل شبهة في الأخذ لنفسه من أرزاق المسلمين. أما وذلك شأنه فلم يكن في وسعه أن يمنع المهاجرين أو غير المهاجرين من أن يمشوا في مناكب الأرض، وأن يأكلوا مما رزقهم الله حلالا طيبا.
وروي عن عمرو بن أمية الضمري أنه قال: إن قريشا كان من أسن منهم مولعا بأكل الخزيرة،
1
وإني كنت أتعشى مع عثمان خزيرة من طبخ من أجود ما رأيت قط، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى هذا الطعام؟ فقلت: هذا أطيب ما أكلت قط. فقال: يرحم الله ابن الخطاب ما أكلت معه هذه الخزيرة قط. قلت: نعم كادت اللقمة تفرث في يدي حين أهوي بها إلى فمي وليس فيها لحم، وكان أدمها السمن ولا لبن فيها. فقال عثمان: «صدقت إن عمر - رضي الله عنه - أتعب والله من تبع أثره، وإنه كان يطلب بثنيه عن هذه الأمور ظلفا، أما والله ما آكله من مال المسلمين ولكن آكله من مالي، أنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه. وقد بلغت سنا فأحب الطعام إلي ألينه، ولا أعلم لأحد علي في ذلك تبعة.»
2
وعن عبيد الله بن عامر قال: «كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدرمك الجيد وصغار الضأن كل ليلة، وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولا، ولا أكل من الغنم إلا مسانها. وقيل لعثمان في ذلك فقال: يرحم الله عمر ومن يطيق ما كان عمر يطيق؟!»
أما وذلك شأن عثمان في شبابه وشيخوخته، فلم يكن مستطاعا أن يحبس المهاجرين بالمدينة أو يصدهم عن أن يضربوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، ولم يكن مستطاعا أن يلزم الخليفة الناس التقشف والانصراف عن الدنيا أو يطلب إلى ولاته في الأمصار أن يلزموهم شيئا من ذلك.
لم يكن الطعام الطيب والثياب الفاخرة والحياة الناعمة هي وحدها ما يطبق عثمان في حياته الخاصة، بل كانت نظرة عثمان للأمور العامة والخاصة نظرة رجل له بكل متاع بريء هوى. كان مسجد النبي بالمدينة هو مكان الحكم، فكان
صلى الله عليه وسلم
ثم كان أبو بكر وعمر يجلسون فيه يديرون الأمور العامة. فإذا احتاج الأمر إلى مشاورة جمهور المسلمين نودي أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس بالمسجد فشاورهم النبي ثم شاورهم من بعده خليفتاه. كذلك فعل عثمان لكنه لم يرض عن بناء المسجد، وهو دار الحكم، على ما كان عليه في عهد النبي وفي عهد الخليفتين من قبله، بل رأى أن يخلع عليه من الهيبة ما لم يفكر فيه عمر، وما يجعله جديرا بأن تصدر منه الأوامر إلى أهالي الولايات الذين يقيمون بقصور دمشق والفسطاط والكوفة والبصرة.
كان مسجد النبي أول ما بني بسيطا، جدره من اللبن، وسقفه من الجريد، وعمده من خشب النخل. وبقي المسجد كذلك ست سنوات تباعا، ولم يغير منه ما كان من انتشار الإسلام وازدياد الرخاء بالمدينة وما أفاء الله على أهلها من بسطة الرزق. فلما فتح المسلمون خيبر وخلصت المدينة للمسلمين وزاد عددهم بها بمن هداهم الله للإسلام، لم يكن من توسيع رقعة المسجد بد، فزاد النبي في رقعته مائة متر مربع أو أكثر. لكنه لم يغير من عمارته باللبن والجريد وجذوع النخل شيئا.
ولم يحدث في خلافة أبي بكر إلا ما روي من أن سواري المسجد نخرت فبناها. فلما كان عهد عمر واطردت زيادة المسلمين بالمدينة لم يكن من توسيع المسجد كرة أخرى بد، فزاد عمر في رقعة المسجد ولكنه لم يغير من عمارته. فقد بنى الجدر كما بناها رسول الله، وجعل الأساس من الحجارة وما فوقه من اللبن، وجعل عمده من الخشب والسقف من الجريد، وجعل للمسجد ستة أبواب، واتخذ إلى جانبه مكانا سمي البطحاء، أمر من أراد أن يلفظ أو يرفع صوتا أن يخرج إليه تنزيها له عن أن يكون له شيء من تجارة الدنيا أو يكون فيه عبث أو تأثيم.
فلما آلت الخلافة لعثمان كلمه الناس أول ما تولاها أن يزيد في المسجد، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة بعد أن ازداد سكان المدينة زيادة عظيمة لامتداد الفتح. واستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه.
وزاد عثمان في رقعة المسجد زيادة عظيمة. لكنه لم يقف عند زيادة رقعته على نحو ما فعل عمر، بل أحدث من التطور في عمارته ما يتفق واتجاه ميوله، فأنكر صنيعه يومئذ جماعة من المسلمين الذين أرادوا أن يبنى المسجد على نحو ما بناه رسول الله. ولم يحفل عثمان بقولهم، ولم يجدد المسجد باللبن، ولم يجعل عمده الخشب وسقفه الجريد، بل بنى جدره كلها بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقورة أدخل فيها بعض الحديد، وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها، وجعل سقفه من الساج. بذلك أقر المسجد على أساس من بنائه، وخلع عليه بعض الرونق والرواء؛ ولذلك أنكر عليه بعض أصحاب رسول الله صنيعه وآخذوه بمخالفته سنة رسول الله وسنة الخليفتين أبي بكر وعمر.
خلع عثمان على مسجد النبي هذه الهيبة؛ لأنه كان مركز الحكم، فكانت الأوامر تصدر منه إلى الولاة الذين يقيمون في قصور دمشق والفسطاط والكوفة والبصرة. وإنما يدعونا إلى هذا القول أنه لم يصنع مثل هذا الصنيع بالمسجد الحرام بمكة حين وسعه. فقد كانت الكعبة بيت الله الحرام قائمة، وليس حولها إلا فناء ضيق يصلي الناس فيه، وظل ذلك شأنه طيلة عهد النبي وفي خلافة أبي بكر، فلما امتد الفتح وكثر الذين يشهدون الحج ويصلون حول البيت في عهد عمر ضاق بهم هذا الفضاء حين الصلاة. ثم كانوا يدخلون إليه من الأبواب القائمة بين الدور المحيطة به. عند ذلك اشترى عمر دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في حرم البيت الحرام وأحاطها بجدار قصير. وزاد عدد الذين يشهدون الحج في خلافة عثمان، فاحتذى مثل عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها، وأحاطها بجدار قصير لا يرتفع إلى قامة الرجل كما فعل عمر من قبل. هو إذن لم يصنع بمسجد مكة ما صنعه بمسجد المدينة؛ لأن مسجد مكة كان خالصا للعبادة والصلاة؛ ولأن مسجد المدينة كان دار الحكم وكانت تقام فيه الصلاة.
لم يدفع عثمان إلى ما صنع من عمارة المسجد، وما أباح للمهاجرين من الانتشار في بلاد الإمبراطورية، وما كان من زيادة العطاء، تهالك على الدنيا أو حب لمظاهر السلطان. فقد كان الخليفة الشيخ من أتقى الناس ومن أكثرهم حياء وأصدقهم إيمانا، وكان يقول: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف.» لما تسور الثائرون بعثمان عليه داره ألفوه يقرأ القرآن، وما مات حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه. وقالت امرأته نائلة للذين أحاطوا به في داره يوم مقتله: «إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن.» وكان عثمان إذا قام في الليل للصلاة لا يوقظ أحدا ليعينه على وضوء إلا أن يجده يقظان. فقيل له غير مرة: «لو أيقظت بعض الخدم؟» فكان يقول: «لا، الليل لهم يستريحون فيه.»
وما كان عليه عثمان من صدق الإيمان هو الذي أدى به إلى جمع الناس على قراءة واحدة للقرآن، وإلى إحراق ما سوى مصحف عثمان من المصاحف. فقد كان حذيفة بن اليمان يقاتل مع المسلمين في أرمينية وأذربيجان في السنة الثانية أو في السنة الثالثة من خلافة عثمان. وكان قد اجتمع في هذا القتال خلق من أهل الشام ممن يقرءون على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق ممن يقرءون على قراءة ابن مسعود وأبي موسى الأشعري، وآخرون حديثو عهد بالإسلام كانوا يفضلون قراءة على قراءة، وبالغ كل فريق في تفضيل قراءتهم ودب الخلاف لذلك بينهم، وعظم اختلافهم وتشتتهم، حتى إن الرجل ليقول لصاحبه: إن قراءتي خير من قراءتك، وبلغ حدا كاد يكون فتنة. فقد اختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا ورأى حذيفة خلافهم وانتشار الكلام السيئ بينهم ففزع وفر راجعا إلى المدينة، ودخل على عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك ! قال عثمان: في ماذا؟ قال حذيفة: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وقد صحبت ناسا من العراق والشام والحجاز. ثم وصف له ما تقدم من اختلافهم في القراءة وأردف: وإني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى. ورأى عثمان الخطر، فجمع الناس يشاورهم في الأمر. فسألوه رأيه فقال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة. فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا. وأقره أهل الرأي فبعث إلى حفصة يسألها أن ترسل إليه مصحف أبي بكر لنسخه في المصاحف. ذلك أن مصحف أبي بكر كان عند الصديق في حياته، ثم عند عمر بن الخطاب، ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر.
وأمر عثمان زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب المصحف، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي، بحضرة عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة مضر؛ لأن القرآن نزل على رجل من مضر. فلما أتموا كتابته على قراءة واحدة أمر عثمان فكتب لأهل الشام مصحفا، ولأهل مصر مصحفا، وبعت إلى البصرة مصحفا، وإلى الكوفة مصحفا، وأرسل إلى مكة مصحفا وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفا. وهذه المصاحف اطمأنت لها الأمة ولا يزال الناس يسمونها المصاحف العثمانية؛ لأنها كتبت بأمر عثمان وإن لم تكتب بخطه.
ولما أرسلت هذه المصاحف إلى الأمصار وأوجب الخليفة القراءة بما فيها أمر أن يجمع ما سواها من المصاحف فجمع وأحرق. وقد أثار هذا الأمر من جانب عثمان ثائرة كثيرين، بينهم قوم من الصحابة والتابعين، وآخذوا عثمان بأنه صنع ما لم يصنعه أبو بكر وعمر. روي عن ابن مسعود أنه تعنت لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى:
ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، فكتب إليه عثمان يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك جمعا للكلمة وحسما لكل شقاق.
ولا شبهة في أن ما صنعه عثمان من جمع الناس على قراءة واحدة قد كان الحكمة عين الحكمة؛ لأنه بصنيعه هذا قد أبقى للقرآن صفاءه كما أوحاه الله إلى رسوله
صلى الله عليه وسلم . وصحيح قول علي بن أبي طالب: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين.» لكن عثمان لم يكن أقل من أبي بكر أجرا لما صنع تلافيا للاختلاف وحسما للخلاف. وليس ينقص من أجره أن اختلف الناس وإن لامه بعضهم لحرقه كل المصاحف إلا مصحفه. فلو أنه لم يفعل لبقي النزاع وما انحسم الشر.
سئل علي بن أبي طالب في إحراق المصاحف فقال: «لو لم يصنعه هو لصنعته.» وبالغ قوم مع ذلك في التثريب على عثمان لحرق المصاحف فوقف علي في الناس فقال: «أيها الناس، إياكم والغلو في عثمان تقولون: حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل ما فعل.»
كيف لام قوم عثمان لعمارته مسجد على نحو ما صنع وهو إنما فعل بعد مشاروته أولي الرأي من أصحاب رسول الله؟ وكيف لامه قوم على جمعه الناس على قراءة واحدة للقرآن وعلى حرقه المصاحف التي تخالف هذه القراءة، وهو لم يفعل ذلك إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله؟ وما بال هؤلاء الناس لم يكونوا يلومون عمر بن الخطاب وقد كان يجتهد بالرأي في كثير من الشئون، وكان يخالفه في اجتهاده من يخالفه؟ أتراهم استلانوا عثمان فاستضعفوه فأنكروا عليه ما لم يكونوا ينكرون على عمر لبأسه وشدته؟! أم تراهم رأوا عمر يعيش عيشهم، قاسيا بنفسه، ناسيا إياهم، متجردا لله، فلم يكن لأحد أن يؤاخذه بشيء إيمانا بأنه يصنع ما يصنع عن بينة ويقين؟ ثم رأوا عثمان في خفض من العيش لا يستطيع أكثرهم أن يبلغه، فنفسوا عليه، فكان لومهم وتثريبهم مظهر هذه النفاسة؟! مهما يكن من شيء فإن التطور الذي حدث في بلاد العرب منذ عهد الرسول في الناحية الفكرية، وفي الناحية الاقتصادية كان عظيم الأثر في موقف هؤلاء الناس من عثمان. فقد انتقلت بلاد العرب في هذه الفترة القصيرة، التي لا تزيد على ثلاثين سنة، من دين إلى دين، ومن التبعية أو ما يشبهها للفرس أو الروم إلى التغلب على الفرس والروم، ومن حال اقتصادية أدنى إلى العسر إلى يسار ورخاء لم تعرف مثلهما من قبل. وقد كان رسول الله وكان أبو بكر وعمر يؤثرون أن يسير المسلمون سيرة الشظف؛ لأنهم كانوا يهيئون بمغانم الحرب لمتابعة الحرب. أما وقد زادت المغانم وزاد الخراج والجزية، على ما تقتضيه الحرب فقد تشعب الرأي. أيظل الناس على ما كانوا عليه من إعراض عن الدنيا؟ أم يأخذون من متاعها بالنصيب الذي يسره لهم ما أفاءه الله عليهم من أخلاف الرزق؟ كان أكثر الذين يؤثرون الشظف هم الذين آخذوا عثمان لعمارته المسجد عمارة خالف بها ما كان عليه لعهد النبي والخليفتين الأولين، ولعلهم كذلك هم الذين آخذوه بإحراق المصاحف. فالمعرضون عن الدنيا هم أشد الناس تشبثا بحرية الرأي، وبالحرية الفردية. أما الذين رأوا في هذا التطور مدعاة لحياة جديدة غير التي كانوا عليها إلى أن انتهت خلافة الفاروق، فكان أكثرهم على رأي عثمان في عمارة المسجد وفي توحيد القراءة.
لم يكن للوم اللائمين أثر في السنوات الأولى من خلافة عثمان؛ لأن هذا التطور جعل ما صنعه الخليفة الشيخ أمرا محتوما لا مفر منه، وجعل اتجاهه الجديد في سياسة الحكم موضع الرضا من جانب الكثرة العظمى. فقد كان أهل الشام وأهل العراق من العرب ومن الفرس والروم يجيئون إلى المدينة على أنها عاصمتهم، وهم قد ألفوا أن يروا من جلال الملك في بلاد الروم وبلاد الفرس ما يجعلهم يصرفون أنظارهم عن دار للحكم اتخذ بناؤها من اللبن وعمدها من جذوع النخل، وسقفها من الجريد. فإذا وجب أن يبقى المسجد على بساطته، فلا بد أن يكون له من ظاهر الهيبة ما يجعل هؤلاء الأجانب عن شبه الجزيرة يعظمونه ولا تزور أبصارهم عنه.
ثم إن التطور ألقى على الخليفة عبئا جديدا نهض عمر بشيء منه، وكان لا بد لعثمان من أن يضاعف الجهد للنهوض به. ذلك تنظيم الحياة المدنية تمهيدا للحضارة التي وضع القرآن أساسها. لقد كان معظم الجهد في عهد رسول الله وفي عهد أبي بكر مبذولا لتوطيد الدعوة الدينية الجديدة وتثبيت قواعدها. فلما اتسعت رقعة الإمبراطورية لم يكن ثمة بد من التفكير في العمران ونشره ليعم الناس الرخاء؛ وليكون لهم من ارتفاع مستوى العيش ما يجعلهم يطمئنون للنظام الذي يسر له سعة الرزق؛ لهذا زاد عثمان عطاء الناس وأباح للمهاجرين ما كان مباحا لغيرهم من التنقل في أنحاء الإمبراطورية والنيل من خيراتها. بذلك عم الرخاء العرب وآن لهم أن يفكروا في التمتع بما أبيح لهم التمتع به من طيبات ما رزقهم الله.
بل إن كثيرين منهم بدءوا ينظرون إلى ألوان من اللهو على أنها بعض المتاع المباح. فمع أن القرآن نص على أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، وطلب إلى المسلمين اجتناب هذا الرجس أقام كثيرون منذ عهد النبي يشربون الخمر ويباشرون الميسر. ومع أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين جلدة بعد أن استشار المسلمين؛ لم يمتنع عن شربها من استتر واستطاع النجاة من الحد. وكان كثيرون يرون في عهد عمر أن الشراب إنما يحرم منه ما أسكر، فأما ما لم يسكر فلا يحد صاحبه. وكان عمر يقسو بهؤلاء ولا يرضى عن أمر فيه ما يضعف النفس أو يستذلها لعادة من عاداتها. فلما تولى عثمان ظل الأمر على ما كان عليه في عهد عمر، وكان ولاة عثمان أكثر تغاضيا عن هذه الألوان من اللهو؛ لأن كثيرين منهم كانوا يتوقرون عليها توقرا كان له في حكومة هذا العهد أثر بالغ.
3
الفصل الخامس
نهاية عثمان
كانت الكوفة موطن الثورة الأساسي في خلافة عثمان، فكثيرا ما أظهر أبناؤها تذمرهم من أمرائهم وولاتهم، فسخطوا على سعد بن أبي وقاص، ثم اتهموا الوليد بن عقبة بشرب الخمر، فولى عثمان سعيد بن العاص ، فلما قدم على الكوفة قال لأهلها في خطبة له: إنه تولى أمورهم وهو كاره لذلك، وأعلن أن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها. ثم أخذ سعيد يدرس أحوال الكوفة وأهواء أهلها ليتبين مواطن الداء. ولما وقف على حقيقة الحال فيها كتب إلى عثمان بما شاهده في هذه المدينة، فقال: «إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب على أهل الشرف والبيوتات منهم، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعراب لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف أو بلاء من نابتتها ولا نازلتها.» فبعث عثمان إلى سعيد بن العاص يطلب إليه أن يقدم الصحابة على غيرهم من سكان الكوفة. وقد جاء في كتابه: «أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدم، ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوه، وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس يصاب بها العدل.»
كذلك ألقى عثمان على أهل المدينة خطبة، أخبرهم فيها بما وصله عن الحالة في الكوفة وحذرهم الفتنة، وعرض عليهم أن ينقل إلى الناس فيئهم حيث يقيمون في بلاد العرب، فرحب أهل المدينة بذلك وقالوا له: كيف تنقل إلينا ما أفاء الله علينا من الأرض؟ فقال عثمان: «نبيعها ممن شاء بما كان بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد.» فأظهروا ابتهاجهم وفتح الله لهم أمرا لم يكن في حسابهم.
وكان هناك فريق من المسلمين يملك كثيرا من المال بالحجاز، فاشتروا بهذا المال أرضا في بلاد العراق التي اشتهرت بالخصب والثراء، وأصبح عدد كبير منهم من كبار الأثرياء مما أدى إلى تذمر العرب الذين كانوا يقيمون في أمصار العراق، وازداد سخطهم على عثمان وولاته لحرمانهم من الفيء والغنائم، وطالبوا الخليفة بألا يعطي من الفيء إلا الذين قاتلوا عليه. كما أن كثيرا من سكان الأمصار الإسلامية أظهروا عدم ارتياحهم لسياسة عثمان.
أخذت بعض الشخصيات تثير السخط في نفوس أهل هذه الأمصار. من ذلك ما قام به عبد الله بن سبأ - وكان يهوديا من أهل صنعاء ببلاد اليمن ثم اعتنق الإسلام في أيام عثمان - إذ تنقل في الأمصار الإسلامية محاولا إثارة الناس ضد عثمان. ففي البصرة تأثر بدعوته كثير من العامة. ولما تناهى أمره إلى عبد الله بن عامر أخرجه منها، فرحل إلى الكوفة يبث دعوته، ثم طرد ابن سبأ من الكوفة، فقصد الشام، لكن معاوية ما لبث أن أمره بالرحيل عنها، فذهب إلى مصر حيث أخذ ينشر دعوته، ويرسل منها رسله إلى أشياعه في البصرة والكوفة؛ وكانت دعوته تتضمن أن لكل نبي وصيا، وأن عليا وصي محمد وأنه خاتم الأوصياء بعد محمد خاتم الأنبياء، وبذلك هيأ العقول إلى أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق من علي وصي رسول الله.
ومن الشخصيات التي عارضت سياسة عثمان أبو ذر الغفاري - أحد كبار أئمة الحديث - الذي دعا إلى إصلاح أحوال المسلمين وتخفيف الفروق بين الأغنياء والفقراء. ذلك أن العرب الذين نزحوا إلى الولايات المفتوحة حصلوا على ثروات كبيرة، في حين كان إلى جوارهم بعض المسلمين يحيون حياة أقرب إلى الفاقة منها إلى التقشف. وصار أبو ذر ينكر على عثمان سياسته في التولية والعزل. فلما أمره عثمان بالرحيل إلى الشام، رحل إليها وأخذ يقول هناك ما قاله في المدينة، ويدعو إلى مواساة الفقراء، وما زال ينشر دعوته حتى رأى معاوية بن أبي سفيان أن يختبر صدق نوايا أبي ذر، فبعث إليه ذات ليلة برسول يحمل إليه ألف دينار، ثم أوعز إلى رسوله في الصباح ليستردها منه معتذرا بأن المقصود بها غيره، فوجد أن أبا ذر وزعها على الفقراء، فأيقن معاوية أن أبا ذر جاد في دعوته. ولما خشي معاوية على أهل الشام من دعوة أبي ذر وكثرت شكايات الأغنياء مما يلقون من الفقراء، كتب يشكو منه إلى عثمان؛ فبعث عثمان إلى معاوية يأمره بإنفاذه إليه، ثم أذن له بعد قدومه إلى المدينة بالإقامة في الربذة؛
1
وصار يجري عليه العطاء حتى مات.
رأى عثمان إزاء الدعايات السيئة في الأمصار الإسلامية ضد سياسته أن يبعث في طلب ولاته على هذه الأمصار في موسم الحج سنة 34ه ليكشفوا له عن أسباب الفتنة؛ فقدم عليه عبد الله بن عامر ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص؛ فلما اجتمع شملهم في الموسم، قال لهم: «إن لكل إمام وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي. وقد صنع الناس ما رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون؛ فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي.» فقال له ابن عامر: «أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه ...» وقال سعيد: «احسم عنك الداء، فاقطع عنك الذي تخاف. إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر»؛ فقال عثمان: «إن هذا هو الرأي لولا ما فيه.» وقال معاوية: «أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام.» وقال عبد الله بن سعيد: «إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.» ثم قام عمرو بن العاص، فقال: «يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا. فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وأقدم قدما.» فقال له عثمان: «أهذا الجد منك؟» فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال: «والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك، ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرا وأدفع عنك شرا.»
لما عاد عثمان إلى المدينة بعد أن فرغ من مشاورة ولاته. عقد مجلسا آخر شهده معاوية بن أبي سفيان وبعض كبار الصحابة، ومن بينهم علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص. وبدأ معاوية الحديث بقوله: «أنتم أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وخبرته وولاة أمر هذه الأمة، لا يطمع في ذلك أحد غيركم، اخترتم صاحبكم من غير غلبة ولا طمع ، وقد كبرت سنه وولى عمره، ولو انتظرتم به الهرم كان قريبا، مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغ به ذلك، وقد فشت قالة خفتها عليكم، فما عتبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم، فوالله لئن طمعوا في ذلك لا رأيتم فيها أبدا إلا إدبارا.» فرد علي بن أبي طالب على مقالة معاوية بقوله: «وما لك وذلك؟ وما أدراك، لا أم لك.» فغضب معاوية إذ عرض علي بأمه هند وقال: «دع أمي مكانها، ليست بشر أمهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأجبني فيما أقول لك.» فقال عثمان: «صدق ابن أخي إني أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتسابا، وإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال لمكان ما أقوم به فيه، ورأيت أن ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه، فأمري لأمركم تبع. فقالوا: أصبت وأحسنت.» وانفض جمعهم وهم راضون.
2
أخذت الأمصار تحذو حذو الكوفة في التعبير عن استيائها من سياسة عثمان وسياسة عماله؛ فأقبل إلى المدينة في رجب سنة 35ه وفد كبير من أهل العرب في مصر. وكانوا قد كاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافدوا بالمدينة. وأظهروا أنهم يريدون أن يسألوا عثمان عن أشياء لتطير في الناس ولتحق عليه. فأرسل إليهم عثمان رجلين أحدهما من بني مخزوم والآخر من بني زهرة؛ ليقفا على سبب مجيئهم إلى المدينة. فلما التقيا بهم، قالوا لهما: نريد أن نذكر له (أي: لعثمان) أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها، فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به، فنخلعه، فإن أبى قتلناه. ثم عاد الرجلان إلى عثمان وأخبراه بما سمعاه عن هؤلاء القوم، فضحك وقال: «اللهم سلم هؤلاء، فإنك إن لم تسلمهم شقوا.»
دعا عثمان المسلمين إلى صلاة جامعة، فأقبلوا جميعا إلى مسجد المدينة، وفيهم صحابة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فوقف عثمان فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، ثم قام الرجلان اللذان كان عثمان قد بعثهما للوقوف على حقيقة أغراض الوافدين إلى المدينة، فقالا لعثمان: «اقتلهم، فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله، فاقتلوه.» فقال عثمان: «بل نعفو ونقيل ونبصرهم بجهدنا، ولا نحاد أحدا حتى يركب حدا أو يبدي كفرا، إن هؤلاء ذكروا أمورا قد علموا منها مثل الذي علمتم إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونها ليوجبوها علي عند من لا يعلم.» ثم أخذ عثمان يسوق ما اتهمه به هؤلاء الثوار ويدافع عن نفسه فيرد الاتهام عنه، فقال: «قالوا: أتم الصلاة في السفر وكانت لا تتم، ألا وإني قدمت بلدا فيه أهلي، فأتممت لهذين الأمرين أوكذلك؟» فقالوا «اللهم نعم.» وانتقل عثمان إلى الاتهام الثاني، فقال: «وقالوا: وحميت حمى، وإني والله ما حميت حمى قبلي، والله ما حموا شيئا لأحد ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعيته أحدا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها؛ لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحوا منها أحدا إلا من ساق درهما. وما لي من بعير غير راحلتين ... وإني قد وليت وإني أكثر العرب بعيرا وشاة، فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟» فقال له الحاضرون: «اللهم نعم.» وطلبوا منه أن يقتل هؤلاء الثوار؛ فأبى عثمان ومضى يفند اتهاماتهم له؛ فقال: «وقالوا: إني رددت الحكم بن العاص - وقد سيره رسول الله
صلى الله عليه وسلم - والحكم مكي سيره رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى الطائف، ثم رده رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فرسول الله سيره، ورسول الله رده ... أكذلك؟» فأجاب الحاضرون: «اللهم نعم.» ثم قال عثمان: وقالوا: استعملت الأحداث، ولم أستعمل إلا مجتمعا محتملا مرضيا، وهؤلاء أهل عملهم فسلوهم عنه. وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولى من قبلي أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
أشد مما قيل لي في استعماله أسامة.
3
أكذلك؟» فأجاب الحاضرون في المسجد: نعم.
واصل عثمان تفنيد الاتهامات التي وجهت إليه فقال: «وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم. وأما إعطاؤهم، فإني أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيدة من صلب مالي أزمان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي، فقال الملحدون ما قالوا، وإني والله ما حملت على مصر من الأمصار فضلا فيجوز ذلك لمن قاله، ولقد رددته عليهم وما قدم علي إلا الأخماس، ولا يحل لي منها شيء.»
استمع المسلمون الذين شهدوا هذا الاجتماع بالمسجد إلى دفاع عثمان عن سياسته، ورأوا أن يقتل عثمان كل من رفع لواء العصيان والثورة. غير أن عثمان آثر العفو عنهم ليعودوا إلى بلادهم. ولا غرو. فقد كان العفو والتسامح من أبرز صفات عثمان.
عاد أهل مصر إلى بلدهم، لكنهم ما لبثوا أن أقبلوا إلى المدينة في شوال من هذه السنة، وخرج في نفس الوقت جموع من الكوفة والبصرة، وأظهروا أنهم يريدون الحج حتى لا يتعرض أحد لهم، فلما جاءوا إلى المدينة رأوا عليا وطلحة والزبير، فعرض وفد مصر على علي بن أبي طالب أن يبايعوه فأبى وأمرهم بالانصراف عنه، وقدم وفد البصرة على طلحة فصدهم عنه. فعادوا يجرون أذيال الخيبة، وقدم وفد الكوفة على الزبير فخيب ظنهم.
تظاهرت وفود الأمصار الثائرة بالعودة إلى بلادهم حتى يفترق أهل المدينة، لكنهم ما لبثوا أن كروا راجعين، وفوجئ أهل المدينة بهؤلاء الثوار مكبرين في أرجاء بلدهم، وضربوا حصارا حول دار عثمان وأعلنوا أن من كف يده فهو آمن، فلزم الناس بيوتهم .
أخذ كل من علي بن أبي طالب وطلحة والزبير يسأل الثوار عن سبب رجوعهم إلى المدينة، فأجاب أهل مصر عليا بقولهم: أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا. وقال البصريون والكوفيون مثل ذلك لطلحة والزبير، وأضافوا: نحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعا. وقد روى الطبري قصة ذلك الكتاب فقال: إنما رد أهل مصر إلى عثمان بعد انصرافهم عنه أنه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم وأن يصلب بعضهم، فلما أتوا عثمان قالوا: هذا غلامك. قال: غلامي انطلق بغير علمي. قالوا: جملك. قال: أخذه من الدار بغير أمري، قالوا: خاتمك. قال: نقش عليه.
لما تحقق عثمان من خطورة الحالة بالمدينة ورأى نفسه عاجزا عن إخماد حركة الثوار، بعث بكتب إلى الأمصار يطلب فيه المدد والنجدة. وجاء في هذه الكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن الله - عز وجل - بعث محمدا بشيرا، فبلغ عن الله ما أمره به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه، وخلف فينا كتابا فيه حلاله وحرامه وبيان الأمور التي قدر فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - وعمر رضي الله عنه، ثم أدخلت في الشورى من غير علم ولا مسألة ولا ملأ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى عن ملأ منهم، ومن الناس على غير طلب مني ولا محبة فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون تابعا غير مستتبع، متبعا غير مبتدع، مقتديا غير متكلف. فلما انتهت الأمور وانتكث الشر بأهله بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضي إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها، فصبرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنتين، وأنا أرى وأسمع، فازدادوا على الله - عز وجل - جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.»
وعلى الرغم من وجود الثوار بالمدينة، فإن عثمان ظل فترة يخرج إلى المسجد يصلي بالناس كما كان يصلي بهم من قبل؛ فقصد المسجد ذات يوم، ثم جلس على المنبر ووجه حديثه إلى الثوار بقوله: يا هؤلاء العدى، الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد
صلى الله عليه وسلم ، فامحوا الخطايا بالصواب فإن الله - عز وجل - لا يمحو السيئ إلا بالحسن. فقام محمد بن مسلمة وقال: «أنا أشهد بذلك.» وتصدى له حكيم بن جبلة وأرغمه على السكوت والقعود. ثم قام زيد بن ثابت وطلب الاطلاع على الكتاب الذي زعم الثوار أن عثمان كتبه وبعث به إلى وليه على مصر. لكن الثوار سرعان ما هبوا في وجهه وثارت ثائرتهم، فحصبوا الناس حتى اضطروهم إلى الخروج من المسجد، ثم تحولوا إلى عثمان فحصبوه حتى سقط من فوق المنبر مغشيا عليه؛ فحمله بعض المسلمين إلى داره.
ولما أفاق من وعكته؛ خرج إلى المسجد يصلي بالناس، واستمر على ذلك عشرين يوما أو ثلاثين يوما في بعض الروايات حتى حال الثوار بينه وبين الخروج إلى المسجد، وعهدوا بالصلاة إلى زعيمهم الغافقي بن حرب العكي، الذي أعلن المصريون والكوفيون والبصريون طاعتهم له. ثم بعث الثوار إلى عثمان برسالة جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فاعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالله الله؛ ثم الله الله، فإنك على دنيا، فاستتم إليها معها آخرة، ولا تلبس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدنيا، واعلم أنا والله لله نغضب، وفي الله نرضى، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة ...» وما لبث الثوار أن أعادوا الكرة على عثمان، فبعثوا إليه وفدا من قبلهم ولما التقى هذا الوفد بعثمان عاتبه على كتابه إلى واليه بمصر؛ فنفى عثمان صدور هذا الكتاب عنه، فقال له أعضاء الوفد: اعزل عنا عمالك الفساق، واستعمل علينا من لا يتهم على دمائنا وأموالنا واردد علينا مظالمنا، فأجابهم عثمان بقوله: ما أراني إذن في شيء إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من كرهتم. الأمر إذن أمركم! فقالوا: والله لتفعلن أو لتعزلن أو لتقتلن، فانظر لنفسك أو دع. فأبى عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه الله.
وهكذا أراد الثوار حسم الأمر، فخيروا عثمان بين أن يمحو مظالمهم أو ينزل عن الخلافة، وإلا قتلوه. فأبى عثمان تحقيق الأمرين الأول والثاني. وكان الثوار قد طالت بهم الإقامة في المدينة، وأرادوا أن يحققوا ما قدموا من أجله، ومن ثم أخذوا يشددون الحصار على عثمان ليرغموه على النزول عن الخلافة.
لم يكن عثمان يظن أن من بين المسلمين من يقدم على قتل خليفتهم، ويتضح لنا ذلك من قوله لأصحابه: «ولم يقتلونني وقد سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس. فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، ففيم يقتلونني؟»
على أن الثوار المحاصرين لدار عثمان ما لبثوا أن شرعوا في تنفيذ ما توعدوه به وأخذوا يدبرون قتله، فأشرف عليهم عثمان من داره، وصاح فيهم: يا قوم، لا تقتلوني فإني وال وأخ مسلم، فو الله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعا أبدا ولا تغزوا جميعا أبدا ولا يقسم فيؤكم بينكم. ثم عاد عثمان يناشد الثوار التعقل والروية، ولما أيقن أنه أخفق في حث الثوار على العدول عن موقفهم بدا عليه الحنق والغيظ، وتوجه إلى ربه بالدعاء عليهم، فقال: «اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا.»
طال حصار الثوار لدار عثمان، وساءت معاملتهم له، فمنعوه من الخروج والصلاة في مسجد النبي وحالوا دون وصول الماء إليه، فأرسل عثمان إلى بعض أصحاب النبي وأمهات المؤمنين يطلب إليهم أن يمدوه بحاجته من الماء ، فسارع علي إلى تلبية رغبته، وأقبل على الثوار، وقال لهم: «إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي، وما تعرض لكم هذا الرجل، فبم تستحلون حصره وقتله؟!» قالوا: «لا والله ولا نعمة عين، لا نتركه يأكل ولا يشرب.»
قيل: إن الحصار استمر أربعين يوما. وكان عثمان من حين لآخر يحذر الثائرين الفتنة ويذكرهم بآيات الله، فلا يحفلون به. وبينما هو على هذه الحال، إذ دعاه رجل من الصحابة يدعى نيار بن عياض الأسلمي أن يخلع نفسه، فرماه كثير بن الصلت الكندي - أحد الذين كانوا يدافعون عن عثمان - بسهم أصاب منه مقتلا؛ فطلب الثوار من عثمان أن يسلمهم قاتل ابن عياض ليقتلوه به، فأبى عثمان تسليمه لهم، وقال: «لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي.» ولم يلبث الثوار أن أقدموا على مهاجمة دار عثمان وأشعلوا النار في بابها والسقيفة التي عليه، فخرج إليهم أصحاب عثمان يقاتلونهم ويصدونهم عن الدار. ودار بين الفريقين قتال عنيف، وأصيب فيه كثير من أنصار عثمان بجراح وقتل آخرون. ولم يكتف الثوار بذلك، بل أخذوا يتسللون إلى دار عثمان عن طريق دار عمرو بن حزم الأنصاري، فوجدوا عثمان يقرأ في المصحف سورة البقرة. وتقدمهم محمد بن أبي بكر الذي أمسك بلحية عثمان؛ وقال له: «قد أخزاك الله يا نعثل!» (ونعثل هذا كان رجلا يهوديا من أهل المدينة يشبه عثمان في طول وكثافة لحيته.) فاستاء عثمان من فعله وقال له: «لست بنعثل ولكن عبد الله وأمير المؤمنين.» واستمر ابن أبي بكر يجذب لحية عثمان وهو يقول لعثمان: «ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك ابن عامر، ما أغنت عنك كتبك؟» فقال له عثمان: «يا ابن أخي دع عنك لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه.» فرد عليه ابن أبي بكر بقوله: «لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، وما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك.» فقال عثمان في صبر وجلد: «أستنصر الله عليك وأستعين به.» فطعنه ابن أبي بكر في جبينه بمشقص (وهو سهم له نصل عريض)، ثم رفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه، ثم علاه بالسيف فضربه به. وأراد عثمان أن يتقي ضربة السيف بيده فقطعها، كما أكبت عليه زوجه نائلة، وتلقت السيف عنه بيدها، فقطع إصبعها. وضرب سودان بن حمران المرادي عثمان في جنبه فخر صريعا. وكان ذلك في يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة سنة 35ه، ثم هجم العامة على الدار فنهبوها كما نهبوا بيت المال.
لم يسمح الثوار في بادئ الأمر بدفن جثمان عثمان، فظل ثلاثة أيام دون دفن. وطلب بعض القرشيين من علي بن أبي طالب أن يتوسط لدى الثوار؛ ليسمحوا بمواراة جثمانه التراب؛ فأذنوا بدفنه. ولم يشهد جنازته سوى مروان بن الحكم وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة العدوي، ونيار بن مكرم، وزوجتي عثمان نائلة بنت الفرافصة وأم البنين بنت عيينة. وحاول الدهماء قذف جنازة عثمان بالحجارة، فنهرهم علي بن أبي طالب، وهرع القوم بالجثمان ليواروه متخذين من الظلام ستارا يحجبهم عن عيون الثوار.
نامعلوم صفحہ