فأجاب الولد بعد أن أطلق زفرة من صدره: إنك لشديد الغرور يا صديقي، ولو تبصرت قليلا لرأيت أن المدرسة أم تسقي ولدها لبان العلوم التي لا غنى له عنها.
آه! لو يتسع لي أن أتعلم! ولكن المدارس لم تشيد لمثل فريد! لأنه بائس يا صديقي!
فأجاب لبيب: إني أعرف ذلك؛ فأنت فقير لا مال لديك، ولو لم يكن والدي شديد العطف على أبيك لكنت أكثر فقرا مما أنت عليه ... أبلغك ما حدث الأحد الماضي؟ - لا!
فاستطرد لبيب قائلا: لقد أبصر والدي والدك سكران حتى الموت، منطرحا على السلك الحديدي بالقرب من مفتاح القطار، وكان من واجب والدي أن يطرده من الشركة، إلا أنه لم يفعل! ... أتفهم؟ إن التصرف السيئ الذي يتصرفه والدك لمما يدعو إلى خطر عظيم، ومن الجهل أن تستبقي الشركة عاملا سكيرا في عداد عمالها.
فخفض فريد رأسه إلى الأرض، فأكمل لبيب حديثه فقال: غير أن والدي عفيف الضمير شفيق، ففكر فيما تئول إليه عائلة سالم لو طرد سالم من العمل، وما لبث أن غفر له زلته، ولكن إذا عاد والدك إلى مثلها! ...
فقاطعه فريد قائلا: سوف يعود إلى ما كان عليه ولا أرى مندوحة من طرده، وسوف نشقى طويلا يا صديقي.
فأثر هذا الكلام في نفس لبيب تأثيرا عظيما، حتى إنه لم يملك نفسه من ذرف دمعة على خده، فقال: هل ذقت طعاما في هذا النهار يا فريد؟ سمعت والدي يقول مرارا: إن امرأة أبيك ستميتك جوعا. قال هذا وأخرج من جيبه قطعا من «الشوكولاتة»، فقال فريد بلهجة تتخللها عزة النفس: أجل، لقد أكلت؛ فالأم سالم لا تمنع الطعام عني ولكنها تقدم لأولادها ما لا تقدمه لي، أتجد غرابة في ذلك؟
في تلك الساعة دخل القطار إلى المحطة، فأسرع الولدان إلى الرصيف ليتفرجا على القادمين.
كان سالم ورفاقه يشحنون البضاعة وينزلونها، في حين كانت عجلات النقل قادمة لتقل الأحمال إلى أماكنها، أما بطرس موزع البريد فقد كان يذهب ويجيء مستشيرا بنظره الأوراق التي بيده، وأما المدير فقد كان يلح على العمال في الإسراع بما عهد إليهم، مسترئيا من وقت إلى آخر ساعته الذهبية، عند هذا تقدم منه أحد المسافرين حاسرا وقال له بصوت تراوده اللكنة: أنا رهين إشارتك يا سيدي المدير! - من أنت؟ - أنا عزيز الذي عينت موزعا للبريد مكان داود. فقطب المدير حاجبيه وقال: ولكن داود لا يود أن يستعفي؛ لأن له مصالح تضطره إلى البقاء في الشركة، فقد اشترى أرضا وبعض كروم في هذه الجهة استوطن فيها مع امرأة له هي أبرع خياطة في جونية. كان الأحرى بك ألا تعجل في قدومك قبل الاطلاع على هذا الأمر.
فأجاب عزيز بعظمة: إن من كان مثلي موظفا قديما في الشركة لا يجد بدا من النزول عند إشارة مديره، فعندما قال لي المدير: يجب أن تذهب لم أجد مندوحة من الإطاعة، فهيأت أمتعة منزلي بأسرع ما يمكن وامتثلت للأمر. ففتل المدير شاربيه متذمرا ودمدم قائلا: إن هذا لأمر مضجر فرأيي هو ألا يستقر أمرك قبل أن تنتظر النتيجة التي يئول إليها أمر داود، فأبق أمتعتك في عجلة السكة وانزل موقتا في فندق المحطة عند يوسف ...
نامعلوم صفحہ