الفصل الأول
1
كان لبيب راغب ولدا في العاشرة من سنيه، جميل الطلعة، عذب النظرات، يميل عن الوحدة إلى الزهو واللعب، وكان لهذا الفتى صديق من أترابه يدعى فريدا، كريه المنظر، مجعد الوجه، تمت ملامحه إلى ملامح القردة أكثر مما تمت إلى ملامح الإنسان. ففي يوم من أواخر أيام نيسان كان الفتى لبيب يلعب في الحديقة، فنادى إليه صديقه فريدا أولا وثانيا بدون أن يسمع جوابا لندائه.
كانت أشعة الشمس تلهب بحرارتها المحطة الصغيرة ذات الجدران البيضاء القائمة في وسط ريف يبعد نحوا من ألفي متر عن بلدة جونية.
في تلك الآونة كان المدير راقدا نصف رقدة على الدكة، وقد نهكه التعب وحمله القيظ ما لا يطيق؛ إلا أن الحديقة - حيث كان لبيب ابن المدير ينادي رفيقه بصوت مرتفع - كانت لا تزال مرطبة بأنداء الفجر، وكانت رطوبة معتدلة تتساقط من الأغصان المورقة، وتتصاعد من الأعشاب الكثيفة أو من الأزهار العطرة تحت عناقيد الأزدرخت والقصاص المضطربة لدى خطرات النسيم. - فريد! فريد! ألا تأتي؟ لقد عزفت أمثولتي على الأرغن وتلقيت أمثولة غيرها وأصبحت حرا طليقا، فتعال نلعب!
في تلك الدقيقة خرج فريد من منزله القائم على مقربة من الحديقة، وأسرع راكضا إلى لبيب وقال له بصوت تتخلله رعشة الخوف: يجب علي أن أجيء بأعشاب لغداء الأرانب قبل أن تطلق حريتي. - إنك لأبله! فلا أغرب عندي من أن أراك مهتما جد الاهتمام بتلك الأرانب المضحكة. - ولكن ما العمل؟ إذا عرفت الأم أني لهوت باللعب عن الأرانب فلا تتردد عن صفعي وتوبيخي. - إن الأم سالم غير أمك فهي امرأة أبيك! ثم إنها لن تدرك أنك لهوت، وإذا أردت ففي الحديقة أعشاب لا تجد مثلها في مكان آخر.
فأطاع الولد كلام رفيقه، وزحف على قدميه ورجليه إلى أن بلغ الحائط فتسلقه إلى الحديقة، فقال لبيب: أي نوع من الألعاب تختار؟ ألا تفضل لعبة الفوارس؟ إذن فألق يديك على الأعشاب محنيا ظهرك وكن فرسي.
كان فريد دائما يشغل وظيفة الفرس، ولماذا؟ ذلك لأن النظام يوجب على أبناء العمال أن ينزلوا في كل حين عند إرادة أبناء الرؤساء.
كان العشب في تلك الحديقة كثير النضج طافحا بمياه النبات، إلا أن العوسج وفروع الشجيرات كان يحتبك بعضها ببعض، وتتجاوز الأدغال إلى بعض الجهات الجثيلة، كأنما هي غابة عذراء لم تمر عليها شفرات المناجل. وكانت الآبار تنتصب فوقها الأشعة البيضاء كسطوح صغيرة من التوتيا المعدنية، وأشجار الورد تمزج غصونها المشعثة بفروع الراتينج المظلمة، وأريج الأزدرخت الزكي والزعرور الممتلئ بعسل أزهاره يجذب إليه أسرابا من النحل كثير العدد.
نهك التعب ذينك الولدين فجلسا يستريحان على أحد الحجارة، في حين كان قطار الساعة الثالثة والنصف يصفر في الأبعاد معلنا قدومه، وبعد هنيهة شخص لبيب إلى جهة القطار وقال: هو ذا الكاهن! لقد عرفت منذ نهار السبت أنه سيذهب لزيارة أسقفه الساكن في مدينة بيروت، ويقولون: إن كاهنا آخر سيخلفه، وترى والدي شديد الأسف كثير الشجون، فمن يا ترى يحل محله في إعطائي الدروس العربية؟ لا شك في أن والدي سيرسلني إلى المدرسة بعد ذلك، أليس من الحزن أن أسجن في المدرسة يا فريد؟
نامعلوم صفحہ