فإن رفض ذلك الإنسان الارتقاء إلى عليين، وعشق الظلمة، ومقت النور، وأبى إلا أن يهبط بنفسه إلى وحل الشهوات، فتمرغ فيها، وانحط إلى نزوات الحمر، وسفاسف الأمور، ونزغات الشياطين، وتثاقل إلى الأرض؛ سقط إلى سجين، وما أدراك ما سجين، وانحدر دون مرتبة ذوات الحوافر، قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}، وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}.
فهم كالأنعام ليس لهم هم إلا تحصيل الشهوات:
كالعير ليس له بشيء همة ... إلا اقتضام القضب (¬1) حول المذود (¬2)
كما أن الأنعام تسهو، وتلهو بالطعام، وتغفل عن عاقبة النحر والذبح بعده، وهولاء أيضا ساهون عما في غدهم.
وهم أضل من الأنعام، لأنها تبصر منافعها ومضارها، وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك، قال عطاء: "الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه".
وصف سعد بن معاذ -رضي الله عنه- المشركين، فقال: "رأيت قوما ليس لهم فضل على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم: قوم يعرفون ما جهل أولئك، ويشتهون كشهوتهم".
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة"، ووصف الشاعر أكولا، يستغرق حياته في نهمه وشهوته، فقال:
عريض البطان (¬3) جديد الخوان ... قريب المراث (¬4) من المرتع
فنصف النهار لكرياسه (¬5) ... ونصف لمأكله أجمع
صفحہ 46