خرجت من جديد إلى الحوش المظلم. الجو حار وخانق. إلى اليسار أقبية بها إصطبل الدواب، ومخزن الغلال، ومطبخ كبير به ركن للأخشاب والفحم. إلى اليمين حجرات الخدم والعبيد والضيوف، أبوابها مفتوحة تتصاعد منها همهمة خافتة. تجاوزت الحجرة الواسعة المخصصة للطلبة والمجاورين وحلقات التدريس. تطلعت حولي فلم أر أثرا لأحد. اقتربت من الباب الداخلي ودفعته. صعدت سلما قليل الدرج إلى الطابق الأعلى. هاجمتني الرائحة المطهرة لنبات الشيح الممزوج بخشب الصبر، ممشى دائري يشرف على الحوش، عقود وأعمدة من الرخام الملون، مصابيح مبلورة وقناديل فضية مضاءة. غرف مغلقة. مستوقد تسخين المياه الذي يجري في مواسير إلى الحمام.
خلعت أحد القناديل وحملته في يدي. اقتربت من قاعة مرتفعة درجتين. دفعت الباب ودخلت. رفعت القنديل إلى أعلى وأجلت البصر حولي. السقوف والجدران مزينة بالخشب المحفور والمبخور وبالقيشاني الملون، ساعة حائط من البندقية، بجوار الحائط خزانتان متقابلتان فيهما الآنية الفاخرة، أرائك وشلت حريرية فوق السجاجيد، تحف منثورة في الزوايا ومعلقة على الجدران. الأسطرلاب الذي ورثه عن أبيه ويجري عليه أبحاثه في الفلك. ثريات بفروع من البلور، شماعد. يدعو الشيخ هذه القاعة «مجلس العقد الداخل». في صدرها أبيات من الشعر مطرزة على قطعة من الحرير، تهنئة من الشيخ مصطفى الصاوي بتمام البناء، بابان ملبسان بالأصداف والنحاس البراق. أحدهما يفضي إلى خزانة الكتب وغرف النساء والعيال. والثاني إلى فسحة بها كرسي راحة، ثم القاعة الكبرى التي يجلس فيها كبار الزائرين.
لمحت ورقة ملقاة فوق إحدى الأرائك. خلعت حذائي عند حافة السجاجيد ووضعت القنديل على الأرض. تناولت الورقة. نسخة من مكتوب الفرنسيين الذي حمله مالطيون من الإسكندرية. كنت أعرف محتوياته لكني قربته من الضوء ومررت ببصري فوق سطوره: «بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية (...) أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته يعرف أهل مصر أن الصناجق الذين يتسلطون على البلاد المصرية (...) يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية ويظلمون تجارها ...»
قفزت فوق السطور التي حفظتها عن ظهر قلب: «يا أيها المصريون، لقد قيل لكم إني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم (...) ماذا يميز المماليك عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء فيها من الجواري الحسان، والخيل العتاق، والمساكن المفرحة.» ابتسمت وواصلت القراءة: «إن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم (...) إن الفرنساوية مسلمون مخلصون (...) لحضرة السلطان العثماني.»
أعدت المكتوب الفرنساوي إلى مكانه متعجبا مما به من تدليس. اقتربت من الشباك. الحارة مظلمة. الناس محبوسة في بيوتها بعد إغلاق البوابة. لغط من خلف الجدران.
حملت القنديل واقتربت في خفة من الباب المفضي إلى غرف النساء. فتحته في رفق. خرجت إلى بسطة يضيئها ضوء خافت منبعث من قنديل معلق في أعلى الحائط. أطفأت قنديلي ووضعته جانبا. تقدمت من جسم ممدد في الركن. تعثرت في قبقاب خشبي فوجهت السباب إلى نفسي لأني لم أنتبه. انحنيت فوق الجارية السوداء. كانت عيناها الواسعتان مفتوحتين. رفعت قميصها الواصل حتى العقبين فلم تنبس بكلمة.
مددت يدي إلى خصرها. بحثت حتى عثرت على دكة لباسها القطني. جذبته إلى أسفل دون أن تعترض. أمسكت بساقيها وثنيتهما إلى أعلى ثم وقعت عليها. وجدت صعوبة في دخولها فاستعنت بريقي. انتهيت بسرعة. لم تنبس بكلمة أو حتى آهة. وظلت تتطلع إلي وفي عينيها نظرة لم أدرك كنهها.
اعتدلت واقفا وبسطت قميصي فوق السروال. مسحت عرقي بطرفه. تناولت قنديلي وانسحبت عائدا إلى حجرتي.
الثلاثاء 24 يوليو
توضأت وصليت الصبح وأفطرت. اتجهت إلى الإسطبل لآخذ الحمار الباقي. اعترضني جعفر مذكرا بتعليمات الشيخ. قال: إن الأوباش يملئون الشوارع. وإنهم نهبوا بيوت إبراهيم بك ومراد بك بخطة قوصون قرب القلعة وأحرقوهما. نهبوا أيضا عدة بيوت للأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وباعوه بأبخس الأثمان.
نامعلوم صفحہ