قبل أن تقرأ
العمامة والقبعة
مصادر الحملة الفرنسية
قبل أن تقرأ
العمامة والقبعة
مصادر الحملة الفرنسية
العمامة والقبعة
العمامة والقبعة
تأليف
صنع الله إبراهيم
نامعلوم صفحہ
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
العمامة والقبعة
نامعلوم صفحہ
1
الأحد 22 يوليو 1798 ظهرا
اندفعت وسط الجموع الصاخبة. الحرارة خانقة. الشمس لاهبة. التراب يملأ الجو. العرق يسيل على وجهي وأسفل إبطي. تعثرت في نتوء وسط الطريق كونته القاذورات والعفوشات المتراكمة. توقف الكنس والرش منذ ظهر الفرنسيس على تخوم القاهرة. أوشكت على الوقوع لولا أن لحقني أحدهم وشدني من ساعدي. سقطت عمامتي فوق الأرض وانفك عقدها، التقطتها وأعدت ربطها فوق رأسي.
سكك ودروب، سوق السمك، وكالة القمح، وكالة الأرز، جامع المعلق، وكالة الكتان، وكالة الزيت، وكالة الأبزارية، وكالة الملايات، درب القصاصين، درب البرابرة، موقف الحمير ، جامع أبو العلا، سكة أبو العلا.
بالأمس ذاع خبر هزيمة مراد بك في إنبابة. وخرج عمر مكرم نقيب الأشراف من القلعة حاملا بيرقا كبيرا أسماه العامة «البيرق النبوي». تبعته الألوف بالنبابيت والعصي، ورجال الطرق الصوفية بالطبول والزمور والأعلام والكاسات. جاء في أعقابهم العجزة والشحاذون والمسلولون والعميان والمجذومون. أغلقت الدكاكين والأسواق. اتجه الجميع لبر بولاق لينضموا إلى إبراهيم بك الذي حشد مماليكه لملاقاة الفرنسيين. توزع أبناء الطوائف بين المساجد والخرابات. نصبوا خياما لإقامتهم ومبيتهم. تطوع البعض للإنفاق على الآخر. جهز التجار جماعات من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل. ولم يفد هذا كله بشيء؛ فسرعان ما انهزم إبراهيم بك وولى هاربا. وبدأت رحلة العودة إلى المدينة.
رددت مع الصائحين: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف. زعق أحد خلفي: بالك! التفت لأرى حصانا يمتطيه مملوك شاب في سروال كبير أحمر اللون، وصديري واسع ذي أكمام طويلة، وعمامة ملفوفة حول طربوش طويل. كانت الدماء تلوث ملابسه. شق طريقه بعنف بين الجارين فأوقع بعضهم أرضا ودهسهم. التصقت بالجدار. مال فوق فرسه ولوح بسيفه. التقط عمامة أحد أولاد البلد وانفجر ضاحكا. تكشفت عمامة الضحية عن رأس حليق لم يتبق من شعره سوى خصلة واحدة. لوح بسيفه مرة أخرى في اتجاهي. ارتميت على الأرض. لعنته في سري فلم أجرؤ على الاحتجاج.
ابتعد المملوك فنهضت واقفا. وضعت ذيل جلبابي بين أسناني وجريت. مررت بشونة قمح، ثم حانوت الكتان المستورد من ألمانيا الذي تملكه الزوجة الثانية للشيخ الجبرتي ويديره ابنه خليل، ثم منزله تجاه جامع ميرزا جوربجي، يقضي به الصيف عادة ولم ينتقل إليه بعد. وكالات القطن والحناء والسكر والزعفران والبن والصمغ والعاج.
أزقة ضيقة لا تتسع لمرور رجلين متقابلين. حوار دائرية يتوه فيها من لا يعرف المنطقة جيدا. عويل النساء في البيوت. رجال مهرولون وأمتعتهم فوق رءوسهم. نساء حاسرات يحملن أطفالهن فوق الأكتاف.
المقس المقفرة التي تكاد تخلو من العمران. امرأة بطرحة مطوحة خلف الكتف وصرة. فلاحات عجفاوات في جلاليب سوداء، ورجال ضامرون في قمصان زرقاء تشدها على خصورهم حبال غليظة من التيل.
الأزبكية. بيوت الأمراء والأعيان. الأتباع يكدسون الأمتعة فوق الجمال. ناس تخب فوق حميرها.
نامعلوم صفحہ
درت حول البركة. أوشكت أن أصطدم ببغلة يمتطيها شيخ عجوز لحقت به جماعة من الإنكشارية جند الوالي التركي، تميزهم ريشة ذات شعبتين فوق طراطيرهم. حاذى أحدهم العجوز فدفعه جانبا وأوقعه، ثم التقط مقود البغلة وجرها خلفه.
ساعدت العجوز على النهوض، وأخذ يولول على بغلته المخطوفة. واصلت الركض. تراجعت الشمس وخف لهيبها. الموسكي. عبرت القنطرة بصعوبة. خيل لي أنها ستقع من فرط الزحام. قطعت شارع الأشرفية حتى نهايته في مبتدأ شارع الغورية. عطفت على خط الصنادقية. اندفعت من باب الحارة المفتوح. رأيت مدرسة السنانية التي تعلم بها شيخي مغلقة الأبواب، في مقابلها وكالة السلطان إينال مغلقة، وبجوارها البيت. توقفت أمامه ألهث أسفل المشربيات المغلقة النوافذ.
باب مقنطر موارب. مدخل قصير بجوار مصطبة منحوتة من الحجر. باب آخر يفتح على رحبة واسعة في وسطها حديقة صغيرة. الشيخ عبد الرحمن الجبرتي واقف قرب الباب الداخلي للبيت ومسبحته في يده. الاضطراب ظاهر على وجهه. إلى جواره ابنه خليل الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره ويصغرني بعامين. منصور، عبده الأسود، يداه مضمومتان إلى صدره، وعيناه مثبتتان على عيني سيده، يدرس رغباته لينفذها قبل أن ينطق بها.
لحقني جعفر بقلة الماء. حكيت لأستاذي ما وقع من أحداث. كيف قاتل المماليك في شجاعة؛ الواحد منهم يطلق أولا قربينته ثم يدسها تحت فخذه، وبعدها يطلق طبنجاته ويقذف بها من فوق كتفه ليلتقطها خدمه، ثم يقذف بسهام الجريد الفتاك، وأخيرا يهاجم بسيفه الأحدب، وأحيانا يحمل سيفين في آن واحد ويضرب بهما ولجام الجواد بين نواجذه. لكنهم تراجعوا أمام الفرنساوية الذين نظموا أنفسهم في مربعات غريبة الشكل.
سألني: وإبراهيم بك؟
قلت: هرب.
انفرجت أسارير وجهه الأسمر الذي يشي بأصوله الحبشية في ضحكة جافة. قال: جمعت الهزيمة أخيرا بين الأميرين المتنافسين.
طوفت البصر في أرجاء الحوش الصغير الذي سقف بعضه، تبينت بغلة أستاذي مسرجة وفوقها صندوق كبير. صندوق آخر فوق حمار، ظننته ذاهبا إلى أحد المنزلين اللذين ورثهما عن أبيه الشيخ حسن؛ واحد بجوار الأبزارية على شاطئ النيل، الثاني جهة بركة الرطلي بين المزارع والبساتين. قال إنه سيغادر المدينة إلى مزرعته في إبيار حتى تستقر الأمور.
تطلعت إليه متسائلا. قال: عمر مكرم وبقية الأعيان والعلماء غادروا المدينة، والشيخ السادات والشيخ الشرقاوي هربا إلى المطرية. سكت لحظة ثم استطرد: لم تعد المقاومة مجدية بعد هزيمة الأميرين. ولا بد أن الفرنساوية سيدخلون المدينة في الصباح.
قلت: الطريق خطرة. والعربان والفلاحون يتلقفون الخارجين من المدينة فيأخذون متاعهم ولباسهم.
نامعلوم صفحہ
قال: الله خير حارس.
قلت: خذ معك غدارة.
أرسل الخادم جعفر لشراء بارود. خلع عمامته ومسح عرق رأسه بكم جلبابه. شعره فاحم السواد رغم سنه المتقدمة، بلغ الخامسة والأربعين منذ شهور.
انجابت الشمس. الرائحة العفنة تأتي من ناحية الحفرة التي تفرغ بها كراسي الراحة. لم يأت أحد من الشماعين لكسحها منذ أيام. قال أستاذي إن إبراهيم بك سيئ الحظ؛ من أسبوع ضبطته زوجته يجامع إحدى إمائه فضربته. - وسكت عليها؟ - لا يستطيع معها شيئا؛ فهي ذات مكانة عظيمة، ولها كرامات ويأتيها الوحي من النبي.
سألته عن صديقه الشيخ حسن العطار، قال: ذهب إلى الصعيد. مساتير الناس هربت ولم يبق إلا الفقراء.
قلت إن الأمير أيوب بك الدفتردار استشهد في إنبابة. وكنت أعرف أنه كان قريبا من أستاذي.
قال: سمعت من لفظه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين تدل على ذلك. ولما حضروا إلى بر إنبابة هب لملاقاتهم، وصار يقول: أنا بعت نفسي في سبيل الله.
تفكر قليلا ثم أضاف: رحمه الله. كان ذا دهاء ومكر، ويتظاهر بالانتصار للحق، وحب الأشراف والعلماء، ويشتري المصاحف والكتب، ويواظب على الصلاة في الجماعة، ويقضي حوائج السائلين والقاصدين بشهامة، ويميل إلى الخلاعة وسماع الألحان والأوتار، ويباشر الضرب عليها بيده.
عاد جعفر بالبارود والرصاص. قال إن سعرهما غلا؛ فصار رطل الأول بستين بارة والثاني بتسعين.
أحضر منصور الغدارة ملفوفة في خرقة. تبعه خادم يحمل قنديلا رفعه إلى أعلى. انهمك منصور في تنظيف الغدارة وحشوها .
نامعلوم صفحہ
امتطى الشيخ بغلته وأردف خليل خلفه. لم يكن يملك جوادا لأن المماليك لا يسمحون لأحد غيرهم بركوب الجياد. انزاح أسفل قفطانه عن مركوب جديد أحمر اللون هو المعروف بخف القسطنطينية. حمل منصور الغدارة في يد وجر الحمار خلفه. جر السايس بغلة أستاذي حتى الباب. تبعتهم أنا وجعفر.
التفت الشيخ إلينا وقال: لا تفتحا لأحد أو تخرجا، والجماعة أمانة.
كان يقصد زوجتيه؛ الأولى زوجه لها أبوه وعمره 15 سنة؛ أي من ثلاثين عاما، والثانية تزوجها منذ 18 سنة، وولدت له «خليل» والبنت «أمان».
خرجنا إلى الحارة. البيوت المتلاصقة مظلمة. وارب البواب باب الحارة الثقيل فصر. نبح كلب. انتظرت حتى خرجا إلى الطريق. أغلق البواب الباب وأحكم إغلاقه بخشبة الدقر التي أدخلها في الحائط.
ولجنا البيت من جديد، وأغلق جعفر الباب الخارجي بالمفتاح والمزلاج.
الأحد 22 يوليو مساء
نفذنا من الباب الداخلي وأغلقته. عبرنا الحوش، واتجه جعفر إلى غرفة الخدم بينما ولجت الغرفة المخصصة لي، كانت جدرانها مطلية بالجير وذات لون أبيض ناصع.
انحنيت فوق صندوق حاجياتي ورفعت غطاءه. أخرجت حاشية كبيرة ووسادتين وملاءة. جذبت حصيرة من سعف النخيل بمربعات سوداء وصفراء بحيث تواجه الباب التماسا للطراوة، وبسطت فرشتي فوقها.
طاردت الذباب والناموس. وخرجت مغلقا الباب خلفي. دخلت كوة كرسي الراحة ذات المدخل المكوع. لم تفلح فتحة التهوية العلوية في تبديد الرائحة. تبولت وغسلت يدي بجذور عيش النون الصفراء التي لا رائحة لها. عدت إلى غرفتي فوجدت خادما قد أحضر لي الأكل على طبلية. رفعت القماش الذي يغطيه. ملوخية بها قطعة من اللحم، فجل وبصل وخيار وطماطم، بنجر وخيار منقوعان في الخل، رغيفان مستديران من الخبز. لاحظت أن حجمهما أصغر من المعتاد. ولمست طعم التراب عندما مضغت لقمة، ومع ذلك أكلت في حماس، فلم يدخل جوفي شيء منذ الصباح.
شربت كوبا من شربات الورد. تجشأت. دفعت الطبلية ونهضت واقفا. ولجت كرسي الراحة ودعكت أسناني بالجذور الصفراء وتوضأت. عدت إلى غرفتي فجففت يدي وصليت العشاء.
نامعلوم صفحہ
خرجت من جديد إلى الحوش المظلم. الجو حار وخانق. إلى اليسار أقبية بها إصطبل الدواب، ومخزن الغلال، ومطبخ كبير به ركن للأخشاب والفحم. إلى اليمين حجرات الخدم والعبيد والضيوف، أبوابها مفتوحة تتصاعد منها همهمة خافتة. تجاوزت الحجرة الواسعة المخصصة للطلبة والمجاورين وحلقات التدريس. تطلعت حولي فلم أر أثرا لأحد. اقتربت من الباب الداخلي ودفعته. صعدت سلما قليل الدرج إلى الطابق الأعلى. هاجمتني الرائحة المطهرة لنبات الشيح الممزوج بخشب الصبر، ممشى دائري يشرف على الحوش، عقود وأعمدة من الرخام الملون، مصابيح مبلورة وقناديل فضية مضاءة. غرف مغلقة. مستوقد تسخين المياه الذي يجري في مواسير إلى الحمام.
خلعت أحد القناديل وحملته في يدي. اقتربت من قاعة مرتفعة درجتين. دفعت الباب ودخلت. رفعت القنديل إلى أعلى وأجلت البصر حولي. السقوف والجدران مزينة بالخشب المحفور والمبخور وبالقيشاني الملون، ساعة حائط من البندقية، بجوار الحائط خزانتان متقابلتان فيهما الآنية الفاخرة، أرائك وشلت حريرية فوق السجاجيد، تحف منثورة في الزوايا ومعلقة على الجدران. الأسطرلاب الذي ورثه عن أبيه ويجري عليه أبحاثه في الفلك. ثريات بفروع من البلور، شماعد. يدعو الشيخ هذه القاعة «مجلس العقد الداخل». في صدرها أبيات من الشعر مطرزة على قطعة من الحرير، تهنئة من الشيخ مصطفى الصاوي بتمام البناء، بابان ملبسان بالأصداف والنحاس البراق. أحدهما يفضي إلى خزانة الكتب وغرف النساء والعيال. والثاني إلى فسحة بها كرسي راحة، ثم القاعة الكبرى التي يجلس فيها كبار الزائرين.
لمحت ورقة ملقاة فوق إحدى الأرائك. خلعت حذائي عند حافة السجاجيد ووضعت القنديل على الأرض. تناولت الورقة. نسخة من مكتوب الفرنسيين الذي حمله مالطيون من الإسكندرية. كنت أعرف محتوياته لكني قربته من الضوء ومررت ببصري فوق سطوره: «بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية (...) أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته يعرف أهل مصر أن الصناجق الذين يتسلطون على البلاد المصرية (...) يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية ويظلمون تجارها ...»
قفزت فوق السطور التي حفظتها عن ظهر قلب: «يا أيها المصريون، لقد قيل لكم إني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم (...) ماذا يميز المماليك عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء فيها من الجواري الحسان، والخيل العتاق، والمساكن المفرحة.» ابتسمت وواصلت القراءة: «إن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم (...) إن الفرنساوية مسلمون مخلصون (...) لحضرة السلطان العثماني.»
أعدت المكتوب الفرنساوي إلى مكانه متعجبا مما به من تدليس. اقتربت من الشباك. الحارة مظلمة. الناس محبوسة في بيوتها بعد إغلاق البوابة. لغط من خلف الجدران.
حملت القنديل واقتربت في خفة من الباب المفضي إلى غرف النساء. فتحته في رفق. خرجت إلى بسطة يضيئها ضوء خافت منبعث من قنديل معلق في أعلى الحائط. أطفأت قنديلي ووضعته جانبا. تقدمت من جسم ممدد في الركن. تعثرت في قبقاب خشبي فوجهت السباب إلى نفسي لأني لم أنتبه. انحنيت فوق الجارية السوداء. كانت عيناها الواسعتان مفتوحتين. رفعت قميصها الواصل حتى العقبين فلم تنبس بكلمة.
مددت يدي إلى خصرها. بحثت حتى عثرت على دكة لباسها القطني. جذبته إلى أسفل دون أن تعترض. أمسكت بساقيها وثنيتهما إلى أعلى ثم وقعت عليها. وجدت صعوبة في دخولها فاستعنت بريقي. انتهيت بسرعة. لم تنبس بكلمة أو حتى آهة. وظلت تتطلع إلي وفي عينيها نظرة لم أدرك كنهها.
اعتدلت واقفا وبسطت قميصي فوق السروال. مسحت عرقي بطرفه. تناولت قنديلي وانسحبت عائدا إلى حجرتي.
الثلاثاء 24 يوليو
توضأت وصليت الصبح وأفطرت. اتجهت إلى الإسطبل لآخذ الحمار الباقي. اعترضني جعفر مذكرا بتعليمات الشيخ. قال: إن الأوباش يملئون الشوارع. وإنهم نهبوا بيوت إبراهيم بك ومراد بك بخطة قوصون قرب القلعة وأحرقوهما. نهبوا أيضا عدة بيوت للأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وباعوه بأبخس الأثمان.
نامعلوم صفحہ
جعفر مجرد خادم. وجدته بالبيت عندما ضمني الشيخ إليه. ورثه عن أبيه. قصير القامة، ضخم الجثة. يشرف على بقية الخدم والعبيد. يجهد دائما ليبسط سيطرته علي.
وقفت حائرا في الحوش . تصاعدت رائحة التقلية من المطبخ. كان به كانون متنقل يتألف من بضع لبنات توضع فوقها شبكة من الحديد. وكان باب الحاصل مفتوحا تبدو منه زلع الزيت والسمن والعسل والقمح، وبجواره انهمكت خادمة في دق البن لتحميصه، وبجوارها عكف الدجاج والبط على التقاط الغداء. وفي ركن انحنت خادمة على طست الغسيل. كانت قد جذبت ثوبها إلى أعلى فتعرى فخذاها، تأملتهما لحظة آملا في رؤية المزيد.
لمحت الجارية السوداء بجوار بئر الماء تشطف كوزا نحاسيا في طست ثم تملأ زير الماء. اشتراها أستاذي من سوق العبيد منذ شهر، دفع فيها ثمانين قرشا إسبانيا. كان شعرها مرفوعا إلى أعلى كعادة الإماء، وفوقه طرحة من التيل. التقت نظراتنا فلم يبد على وجهها تعبير ما.
صعدت إلى مجلس العقد. تركت خفي عند المدخل وتقدمت من خزانة الكتب. استخرجت كتابا في الطب كنت أنسخه لأحد العطارين لأستعين بأجره على مصاريفي. لم أجد عندي رغبة في العمل فأعدته مكانه وقلبت بين الكتب؛ نسخة من القرآن الكريم قدر ثمنها بمائة وعشرين بارة، كتب الأوراد الصوفية، خطط المقريزي وميزان الشعراني و«حسن المحاضرة» للسيوطي بخطه، دلائل الخيرات نسختان: واحدة رخيصة اشتراها الشيخ بعشر بارات، وأخرى فاخرة بخط جميل اشتراها بعدة مئات. كتب جالينوس وسقراط وأفلاطون مجموعة من الكتب الصغيرة في الطب اشتراها من عطار بخمسين بارة. مخطوط «القول الصريح في علم التشريح» للإمام الدمنهوري. مؤلفات أبيه الشيخ حسن. نسخة فريدة من القاموس العربي للجوهري. ينفرد بين كتب المكتبة بأنه ليس منسوخا وإنما طبع على المطبعة الحجرية في تركيا.
فتشت عن كتاب للحكايات والطرائف أو النوادر والأمثال. لم أجد «أنيس الجليس» أو «هز القحوف» للشربيني، أو نوادر جحا، ولا كليلة ودمنة، ولا حوليات الإسحاقي المليئة بالطرائف والحكايات الإباحية، لا بد أنه أخذهم معه.
استخرجت مجموعة من الكراسات كان يسجل فيها تواريخ الأعلام بطلب من الشيخ مرتضى الزبيدي قبل وفاته.
تصفحت الكراسات على مهل مستمتعا بخطه الرقعة الجميل ثم أعدتها مكانها. بحثت حتى وجدت ورقة فارغة. قربت مني القلم البوص ودواة الحبر النحاسية المستطيلة. وتربعت فوق الأريكة في المكان الذي يحتله أستاذي عادة. أسندت الورقة إلى فخذي. سجلت ما وقع لي منذ عركة بولاق وهزيمة إبراهيم بك. توقفت حائرا قبل تسجيل واقعتي مع الجارية السوداء. يركز الشيخ في طياراته على الأحداث العامة ويتجنب الحديث عن الأمور الشخصية. قررت ألا أقلده ورويت واقعتي مع الجارية. دونت التاريخ الهجري، ثم استبدلته بالتاريخ الميلادي بالطريقة التي تعلمتها من التاجر الفرنسي. ضربت العدد المعبر عن السنة الهجرية في 131، وقسمت الناتج على 135، ثم أضفت إلى خرج القسمة الرقم 621، فحصلت على السنة الميلادية الموافقة.
رششت قليلا من الرمل فوق الورقة وطويتها ثم دسستها في سروالي. وهبطت إلى غرفتي. ارتديت قميصا من التيل الأزرق فوق السروال. لففت عمامتي حول رأسي. اقتربت من الباب وتطلعت في حذر إلى الخارج.
لمحت جعفر يدخل حجرته فخرجت إلى الحوش. شربت من الزير وأنا أبص على غرفته. وعندما لم يخرج منها اتجهت بسرعة إلى الباب. التقيت بخادم قادم من السوق يحمل صفحة من الجريد رصت فوقها أرغفة الخبز المدورة.
خرجت إلى الحارة. ترددت بين الاتجاه يمينا حيث وكالة الجلابة التي يعرض بها العبيد عرايا، ثم مخرج الحارة المطل على ميدان جامع الأزهر. اخترت الاتجاه المعاكس المؤدي إلى الأشرفية فمررت من أمام وكالة السلطان إينال ووكالة الصناديق حيث تصنع من خشب الأرز ويصنع معها الورق المقوى.
نامعلوم صفحہ
وجدت الناس تجري في اتجاه الجمالية. تصايحوا بأن الفرنساوية عدوا إلى بر مصر، ودخل قائدهم من باب النصر. جريت في أعقاب الجموع.
كان الزحام شديدا أكثر من المعتاد في بين القصرين. بغال وحمير ومتسولون وبضع نساء متشحات بالسواد يحاول الرجال الاحتكاك بهن، ضجيج التصايح، وجند الوالي من الإنكشارية يقفون غير مبالين.
لحقت الموكب قبل أن يصل بين القصرين. وبعد دقائق رأيت ضريح السلطان برقوق بقبته المميزة، وبعدها ببضعة أمتار مدرسة وضريح السلطان الناصر محمد بن قلاوون بمئذنته السامقة، ثم البيمارستان المنصوري حيث درس خليل الطب بعض الوقت ولم يفلح. رفعت عيني إلى النقش المنحوت على الحجر بطول المبنى حاملا ألقاب قلاوون: سلطان العراقيين والمصريين، ملك البر والبحرين، صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين.
عدت أدراجي خلف الموكب الذي سار ببطء تتقدمه راية مؤلفة من مربع كبير أبيض في الوسط يحيط به اللونان الأزرق والأحمر في الزوايا الأربع. حزرت أنها راية الفرنساوية. وكان المشايخ والعظماء يتقدمونني فوق بغالهم ممسكين بمسابحهم. وأمامهم كالعادة جماعة من العدائين المسلحين بالشوم يخلون لهم الطريق بضرب المارة كيفما اتفق. لم يكن ثمة وجه للمقارنة مع أبهة مواكب فرسان المماليك بالسلاح والعمائم المزركشة، والعباءات الحريرية الفضفاضة.
انحرف الموكب نحو الأزبكية. عبرنا القنطرة المقابلة لحارة الإفرنج. ثم أبطأ قرب بركة الرطلي. تسللت في الزحام حتى مقدمة الموكب فرأيته قد توقف أمام بيت محمد بك الألفي.
كان البيت مهجورا بعد هروب صاحبه. ولم تكن تنقصه البيوت فله داران أخريان بالأزبكية غير واحدة في باب النصر. اصطنع أيضا قصرا من خشب يتألف من أجزاء تركب بشناكل متينة يحمل على عدة جمال. إذا أراد النزول في مكان يجري تركيبه فيصير مجلسا مسقوفا يسع ثمانية أشخاص له شبابك من الجهات الأربع.
شببت على أطراف قدمي. تبينت رءوس الفرنساوية التي تغطيها قلانس غريبة الشكل ورأيت القادة يترجلون. تقدمهم واحد منهم قصير القامة ضئيلها. تبزغ من قلنسوته ثلاث ريشات كبيرة. وبمنطقته سيف طويل يصل إلى الأرض. تبعوه إلى داخل البيت. وبدأ الجنود في إنزال الصناديق من فوق عربة يجرها حمار. وكانت المرة الأولى التي تعهد الشوارع مثلها. وأدركت أن قائدهم سيسكن القصر.
هززت رأسي إعجابا بالحكمة الإلهية. فقد شيد الألفي قصره في السنة الماضية. وكان البناء حديث المدينة. فقد عمل رجاله بجواره عدة قمائن لحرق الأحجار. وركبوا طواحين لطحن الجبس. وقطعوا الأحجار ونقلوها في المراكب من طرا ثم نشروها بالمناشير ألواحا كبارا لتبليط الأرض. وأحضروا الأخشاب المتنوعة من بولاق وإسكندرية ورشيد ودمياط.
وعندما تم البناء سكن به وأقام احتفالا كبيرا دعا إليه أصدقاءه من المماليك والشيوخ ومن بينهم الجبرتي. واصطحبني الشيخ فولجنا بستانا عظيما تضيئه القناديل به جمالون مستطيل من الدكك والأعمدة ، وإلى جواره فسقية عظيمة من الرخام أهداها إليه الإفرنج، بها أسماك من الرخام يخرج من أفواهها الماء. وطفنا بالداخل فرأينا للنوافذ ألواحا من الزجاج والسلالم من الرخام المرمر والأرضية من الفسيفساء.
شربنا يومها عصير الفواكه في كئوس من فضة. وأكلنا كتاكيت مشوية. وفتتنا الخبز في بهريز ثقيل الدسم مع عكاوي وذيول ثيران وأمخاخ طيور ونخاع ضأن. لكنه لم يهنأ بكل هذا سوى أيام. فلم يمض على إقامته بالدار الجديدة ستة عشر يوما حتى هزم أستاذه مراد بك في إنبابة، وغادر الدار هربا هو وحريمه وعياله.
نامعلوم صفحہ
شرع المشايخ في الانصراف فتبعتهم. قلبت جيوبي حتى جمعت خمس بارات هي ما تبقى معي من المصروف الذي يعطيه لي أستاذي. تلفت حولي بحثا عن مكاري أكتري حماره فلم أجد. فكرت في السير إلى محطة الحمير قرب مسجد الكخيا. ثم عدلت عن ذلك. درت حول البركة حتى صار ربع الرويعي على يساري، ثم عبرت أرض وقف مصطفى كتخدا مقتربا من حارة النصارى. لمحت جمعا من الناس وبعض العسكر الإنكشارية؛ فاتجهت مباشرة إلى بيت حنا.
كان في مثل عمري، وكنت قد تعرفت عليه لدى تاجر الحبوب والعقاقير الفرنسي الذي عملت عنده قبل أن يضمني الجبرتي إلى بيته. أما هو فقد انتقل إلى بيت الشيخ البكري الذي اتخذه سكرتيرا. واستمرت صداقتنا.
طرقت الباب عدة مرات، فتحه لي شاحب الوجه، جذبني إلى الداخل في لهفة، تبعته وأنا أردد بصوت مرتفع: دستور، يا ساتر؛ لتنبيه النساء. جلسنا في قاعة مجاورة للباب. أحضر لي كوبا من الماء الذي يحرص الأقباط على غليه. حكيت له مشاهداتي. عرضت عليه أن يخرج معي لنتفرج. هز رأسه مترددا. ألححت عليه. غادر الغرفة وعاد مرتديا عمامة القبط سوداء اللون. كان ممنوعا على القبط واليهود لبس العمامة الخضراء أو الحمراء أو البيضاء، أو انتعال المراكيب الحمراء والصفراء. امتنع عليهم أيضا ركوب الخيل والبغال، أو البقاء فوق حميرهم عندما يمرون بالمساجد.
سألته عما به، فقال إنه لم ينم جيدا لأن أطفال سكان الطابق الأعلى كانوا يمرحون بالقباقيب الخشبية ، ويلعبون بدق الهون.
استمهلني عند الباب وواربه. ترددت في الخارج صيحات تدعو إلى قتل النصارى واليهود. اصفر وجهه وارتعش أنفه الكبير. قلت له: غير ملابسك. قال: كيف؟ قلت غير العمامة، ضع واحدة بيضاء، والبس مركوبا أصفر.
قال: سيكتشفونني. قلت: لا تخش شيئا. الفرنسيون الآن هم الذين يحكمون وهم من ملتك.
دخل وعاد مرتديا عمامة بيضاء.
غادرنا البيت. وجدته يتجه تلقائيا إلى يسار الطريق كعادة الأقباط الذين يتحتم عليهم ترك الجانب الأيمن من الشارع للمسلمين. جذبته من ذراعه ليسير إلى جواري ناحية اليمين. خرجنا إلى الشارع وسط صيحات الحمارين. قال: نذهب إلى بيت البكري فأنا قلق عليه.
قلت: لن يصيبه أذى؛ فهؤلاء الشيوخ يفلتون دائما من كل مصيبة.
قال: أنا خائف على زينب.
نامعلوم صفحہ
التفت إليه مصعوقا: زينب من؟
أطرق برأسه إلى الأرض: ابنة الشيخ البكري. - يا وقعة سودة! احكي لي. - في البداية لم أكن أراها أو حتى أسمع صوتها. كنت أظل بالحجرة المخصصة لي أسفل مسكن الحريم مباشرة. وتبلغني الوكيلة أوامرها. ثم سمح لي بالصعود إلى الحجرة المجاورة. وصارت تملي علي أوامرها بنفسها عبر باب مفتوح بين الغرفتين. هكذا سمعت صوتها. - رأيتها؟ - لم تكن تخرج إلا لماما. وفي هذه الحالة ترتدي السبلة الواسعة التي تتدلى حتى الأرض، وتغطي وجهها بالبرقع الذي لا يكشف سوى عينيها. في مرة برزت فجأة من حجرتها، كانت سافرة. طالعني وجه مثل القمر في تمامه تحيط به ضفيرتان من الشعر، ويعلوه إكليل مرصع. كانت في ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر فوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمنطقة من الحرير الدمشقي الثمين. وتدلى من أذنيها قرطان تألفا من جوهرتين كبيرتين. لم أعرف النوم من لحظتها. - هذا كل شيء؟ - تكررت رؤيتي لها سافرة. كانت تمر من أمام باب حجرتي دون حجاب. - هل تعرف عمرها؟ - أظنها في السادسة عشرة.
أرادني أن أصحبه حتى بيت البكري في الأزبكية، لكني فضلت العودة.
الجمعة 27 يوليو
توضأت وتهيأت للخروج. كانت رائحة بيت الراحة لا تطاق، لم يصلح البخور في تبديدها . لمحت الجارية السوداء تملأ القلل من مياه البئر بعد أن اختفى السقاءون الذين يمدوننا به. تابعتها وهي تفرغ أكواب المستكة المغلية في القلل لتعطيرها. ولم تبد ما يدل على أنها شعرت بنظراتي. كنت آتيها كل ليلة منذ سافر أستاذي. ترقد تحتي صامتة دون أن نتبادل كلمة واحدة. وعرفت أنهم أسموها ساكتة لأنها لا تتحدث مع أحد.
ظهر جعفر في أعقاب خادم يحمل طاجنا من السمك المتبل. وصاح به عند الباب: قل للفران يرسله مع غلامه أذان العصر.
غادرت البيت إلى الحارة وانحرفت يمينا. مررت بوكالة الجلابة، كان بابها مواربا تتصاعد من خلفه أصوات التجار. خرجت إلى الميدان المقابل لجامع الأزهر. اتجهت إليه ودخلت من باب المزينين الشامخ الذي تعلوه ثلاث من المآذن الخمس للمسجد. أعلاها مئذنة قانصوه الغوري ذات الرأسين.
خلعت حذائي ومضيت فوق البسط المنقوشة بشكل المحاريب. وعبرت الرواق الجديد ذا السقوف المذهبة المحلاة بآيات من القرآن الكريم في الخط الكوفي.
وقفت أتأمل مزولة المواقيت التي أضافها وال كان تلميذا لوالد أستاذي.
انضممت إلى المصلين في صحن الجامع، كانت وجوههم متوجسة تنتظر ما سيقوله الخطيب، لكنه لم يخرج عن المألوف في كل جمعة، ولم يشر بشيء لدخول الفرنساوية، ثم اختتم بالدعوة للسلطان العثماني، وهدر جمع المصلين بكلمة «آمين».
نامعلوم صفحہ
غادرت الجامع ومضيت إلى خان الخليلي. لمحت زحاما حول عدة جنود فرنساوية، كانوا بغير سلاح. اقتربت منهم في تردد. كانوا يرتدون سراويل مقمطة للغاية، وقلنسوات تشبه زنابيل الأرز، وشعورهم مرسلة فوق الجبهة وحول الرأس ومعقودة من الخلف بأنشوطة.
رأيتهم يضاحكون الناس، وكان أحدهم يبغي شراء دجاجة، تطوعت لمساعدته في التفاهم مع البائع باللغة التي تعلمتها عند التاجر الفرنسي. ولم تكن هناك حاجة لمساعدتي فقد أخذ الجندي الدجاجة وأعطى البائع ريال فرانسة؛ أي مائة بارة، بينما سعرها لا يتجاوز العشرين. وتكفي عشر بارات لمصروف بيت في اليوم من اللحم والخضار. وهو نفس المبلغ الذي يتقاضاه أستاذي في اليوم عن التدريس.
ألقى إلي الجندي بقطعة فضية من 40 بارة فدسستها في ملابسي.
عندما عدت وجدت الخادم صالح يشكو من عينه؛ فأرسلت جعفر ليشتري بذور الششم لنطحنها ونضع منها ضمادة فوق العين الملتهبة.
السبت 28 يوليو
اقتحم جعفر حجرتي منفعلا. قال إن الفرنساوية يفتحون بيوت الأمراء المغلقة، ويسكنون بعضها أو يتركونها بعد أن يجردوها من أثمن ما فيها. وقال إن الناس تحمي نفسها بأن تأخذ منهم ورقة تلصقها على دورها. وطلب مني أن أسعى في الحصول على هذه الورقة. أوشكت أن أقترح ترك الأمر للشيخ عند عودته، ثم تبينت الفرصة السانحة للتجوال في المدينة.
ارتديت قميصي على الفور، ووضعت خفا في قدمي، وطلبت من السائس أن يحضر لي الحمار. اعترض جعفر قائلا: إني لن أضطر للذهاب بعيدا؛ فقد عين الفرنساوية النصراني اليوناني برطلمين في وظيفة كتخدا مستحفظان مسئولا عن الأمن والنظام بالمدينة، ويتبعه حراس لهم مراكز في الأحياء. وكان برطلمين هذا من حرس محمد بك الألفي في السابق، وله حانوت بالموسكي يبيع فيه القوارير الزجاجية.
غادرت البيت وخرجت إلى الغورية. واصلت طريقي بحثا عن المراكز التي تحدث عنها جعفر. رأيت واحدا فذهبت إليه وأعربت عن مرادي. فقال لي العسكري في غلظة: إن صاحب البيت هو الذي يحضر ومعه ما يثبت ملكيته.
مضيت إلى الفحامين ووقفت أتفرج على جماعة من الفرنساوية فوق الحمير. كانوا يصخبون في مرح وبينهم فتاة شقراء جميلة. تبعتهم حتى توقفوا أمام أحد البيوت. فترجلوا تاركين حميرهم مع المكارية. ولجوا البيت فاقتربت منه. كان الباب مفتوحا ورأيت في الداخل عدة دكك مرتفعة من الخشب حولها مقاعد يجلس الفرنساوية حولها. ورأيت فراشا يضع أمامهم أطباقا من الطعام.
سألت أحد المكارية المنتظرين عن هذا البيت، فقال إنه للأكل، وقد افتتحه أحد أولاد البلد من الإفرنج يصنع فيه أنواع الأطعمة والأشربة المستساغة لدى الفرنساوية؛ فيشتري الأغنام والدجاج والخضراوات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم ويطبخها، ثم يقدمها لمن يشاء مقابل قدر من الدراهم.
نامعلوم صفحہ
واصلت سيري شاعرا بالجوع. توقفت أمام دكان حديث يبيع الفطير والكعك والسمك والجبن المقليين واللحوم المحمرة. اشتريت ثلاث بيضات مسلوقة ببارة، وكانت الخمس ببارة منذ أسبوع .
الثلاثاء 31 يوليو
عاد أستاذي اليوم من إبيار حاملا معه أقفاصا من العنب والتين والخوخ غير الجوافة. دب الحماس في أرجاء البيت فنحن لا نأكل الفاكهة إلا في المواسم لأنها غالية الثمن ونادرة الوجود.
وبهذه المناسبة كان العشاء قدرا كبيرا من اليخني وأرزا بالزعفران والزبيب والبازلاء والبصل. وحلينا بالشمام البارد.
اجتمعنا في غرفة العقد بعد صلاة العشاء. وانضم إلينا خليل. وأرسل أستاذي إلى العطار يشتري معجونا منشطا من العنبر، ثم صرح لنا بأن الفرنساوية استدعوه لحضور اجتماعات الديوان الذي أنشئوه. وطلب مني أن أحكي له ما جرى من أحداث أثناء غيابه.
حدثته عن الورقة المطلوبة منه، ثم وصفت له موكب بونابرته واستقراره في بيت الألفي. هز رأسه آسفا. كان معجبا بالمملوك ويصفه بالأمير الكبير والضرغام الشهير. قال: هل تعرف قصته؟ لقد جلبه بعض التجار من الأناضول منذ عشرين سنة، واشتراه مراد بك بألف إردب من الغلال فسمي بالألفي. وكان جميل الصورة فأحبه وأعتقه، وجعله كاشفا بالشرقية؛ فطرد العربان وصادر ممتلكاتهم واشتهر بعسفه. ثم أقام في الصعيد أربع سنوات رجع منه بعد الطاعون، وقد اتزن عقله وتعلق بمطالعة كتب التاريخ والعلوم، وأكثر من شراء المماليك حتى صار عنده نحو ألف مملوك، وصار يزوجهم لجواريه، ويجهزهم بالجهاز الفاخر، ويسكنهم الدور الواسعة، ويعطيهم الفائظ والمناصب.
لحظت تغيرا في هيئة أستاذي، فمنذ مات أستاذه الشيخ مرتضى الزبيدي في الطاعون منذ سبع سنوات كف عن ترجمة أعلام العصر، وأخذ يبدو فاقدا للهمة والحماس. وكان يكتفي بأن يسجل بعض الوقائع والأحداث في أوراق متفرقة يسميها «طيارات». لكنه لم يستعد أبدا حيويته السابقة. وها هو الآن قد دب فيه النشاط.
استأذن خليل منصرفا فسأله أستاذي إذا كان قد قرأ الكتاب الذي أعطاه له وهو «آداب السلوك في الحمام العام» للشيخ المناوي، فأجاب بالنفي. قال: دخل حكيم على حكيم في منزله وهو متوحد، فقال له: أيها الحكيم. إنك لصبور على الوحدة. فقال: ما أنا وحدي فمعي جماعة من الحكماء والأدباء يخاطبونني وأخاطبهم. وضرب بيده على رصة كتب بجانبه ، وقال : هذا جالينوس حاضرا، وهذا بقراط يناظر، وسقراط واعظ، وأفلاطون لاقط، وهذا داود المعلم.
تنهد في أسى. كان يعذبه أن خليل لا يهوى القراءة. ومضى قائلا: هل سمعت عن الشيخ يوسف المغربي الذي توفي منذ أكثر من مائة عام؟ لقد بدأ حياته حرفيا قبل أن يخطو على الطريق الذي جعل منه عالما. كان يصنع حمائل السيف وهو صبي، وفي نفس الوقت يقرأ القرآن الكريم في جامع طولون من المغرب إلى العشاء، فمنعه أحد أخواله قائلا ليس في أقاربنا علماء. تطلع لمن؟ فأخذ يقرأ خفية، ثم ترك صنع الحمائل، وساعده جماعة من الناس على الاشتغال بالعلم، سمحوا له بالجلوس في دكان قماش يبيع فيها، وصار يشتري الكتب ويقرؤها، ثم التحق بالأزهر.
انصرف خليل فسألني عن أثر الأحداث في الناس، قلت: إنهم خائفون، فالفرنساوية يقطعون كل يوم رءوس خمسة أو ستة في الشوارع. وبعض السوقة فتحت عدة دكاكين بجوار منازلهم يبيعون فيها أصناف المأكولات. وفتح النصارى اليونانيون خمامير وقهاوي، ثم أضفت: هناك أيضا شائعات عن معارك بين المماليك والفرنساوية في القبة والمطرية والخانكة وأبي زعبل.
نامعلوم صفحہ
حسر أكمام جبته إلى قرابة إبطيه. وطلب مني أن أحضر له المحبرة والريشة وأوراقا. كان يجلس متربعا فوضع الأوراق على فخذه وانحنى فوقها، وأخذ يكتب. وعندما انتهت الصفحة ألقاها جانبا وتناول غيرها.
اكتشف نفاد الحبر فاستدعى خادما وأرسله إلى الحسينية ليشتري من الحبارين. تغلب علي فضولي فسألته عما يكتب. قال وهو يبعد الناموس عن وجهه: أسجل ما ذكرته لي الآن. سأكتب مدة الفرنسيس في مصر؛ فقلبي يحدثني أننا مقبلون على أحداث جسام.
سمعنا دقا على الباب الخارجي؛ انزعج وجمع الصحف وأخفاها تحت حشية الأريكة، نهضت واقفا منزعجا أنا الآخر.
ظهر جعفر عند باب القاعة وخلفه الشيخ المهدي الذي يحرر منشورات بونابرته في القالب العربي. فك الشيخ المست الجلدي الذي يغطي نعليه ثم خلعهما، وترك عصاه بجوار الباب. نهض أستاذي مرحبا بالشيخ، وأفسح له مكانا بجواره. كان يرتدي عمامة كبيرة ملفوفة حول قاووق طويل تبدو قمته ظاهرة في أعلاها . وحول عنقه فرو سمور تدلى طرفاه فوق كتفيه.
خلع الفرو والعمامة متشكيا من الحر وألقاهما على الأريكة، ومسح رأسه وجبينه بكم قفطانه. أحضر له خادم كوبا من شربات الورد، ثم وضع أمامه صحنا من الفواكه المجففة التي كانت ترد من تركيا قبل وصول الفرنساوية.
قال إنه حضر اجتماع الديوان قبل يومين ببيت قائد أغا قرب الرويعي، وحضر معه الفرنساوية، وبعض المشايخ مثل عبد الله الشرقاوي، وخليل البكري، وسليمان الفيومي، والصاوي، والسرسي. - ماذا فعلوا؟ - طلب الفرنساوية خمسمائة ألف ريال سلفة من التجار. ووضعوا اشتراطات محصلها التحايل على أخذ الأموال. وأخذ يعد على أصابعه: أن يأتي أصحاب الأملاك بحججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك، فإذا أحضروها وبينوا وجه تملكهم لها إما بالبيع أو الانتقال لهم بالإرث؛ يؤمر بالكشف عليها في السجلات، ويدفع الواحد منهم على ذلك الكشف قدرا معينا من الدراهم، فإن وجد تمسكه مقيدا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد بعد ثبوته وقبوله قدرا آخر، ويأخذ بذلك تصحيحا، ويكتب له بعد ذلك تمكين، وينظر بعد ذلك في قيمته، ويدفع على كل مائة اثنين. فإن لم يكن له حجة، أو لم تكن مقيدة بالسجل، أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد؛ فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم.
قال الجبرتي: خرجنا من بلوة لنقع في واحدة أشد. هل تذكر عندما فرض الأتراك ضريبة الحماية على الأرض؟ جعلوا على كل فدان عشر بارات، فكل من كان تحت يده شيء يكتب له عرضحال، ويذهب به إلى ديوان الدفتردار فيعلم عليه علامة، ثم يذهب بذلك العرضحال إلى كاتب الرزق فيكشف عنه في الدفاتر المختصة بالإقليم الذي فيه الأرصاد بموجب الإذن بتلك العلامة، فيكتب له تحتها علامة بعد أن يأخذ منه دراهم، فيرجع إلى الدفتردار فيكتب تحته علامة غير الأولى، فيذهب إلى كاتب الميري؛ فيطالبه حينئذ بسنداته وحجج تصرفه، ومن أين وصل إليه ذلك، فإن سهلت عليه الدنيا ودفع له ما أرضاه كتب له تحت ذلك عبارة بالتركي لثبوت ذلك، وإلا تعنت على الطالب بضروب من العلل، وكلفه بثبوت كل دقيقة يراها في سنداته وعطل شغله، فما يسع ذلك الشخص إلا بذل همته في تتميم غرضه بأي وجه؛ فيستدين أو يبيع ثيابه.
سألته بعد انصراف الشيخ المهدي عما إذا كان سيحضر اجتماعات الديوان. تفكر قليلا وهو يتحسس لحيته، قال: لن نخسر شيئا، ستكون فرصة ثمينة للحصول على الأخبار من منبعها.
2
الجمعة 17 أغسطس
نامعلوم صفحہ
أيقظني أستاذي في الفجر لنحضر الاحتفال بوفاء النيل المبارك. صلينا وأفطرنا. امتطى بغلته وركبت أنا حمارا. خرجنا إلى الجامع الأزهر فالتقينا السقائين بستراتهم الجلدية وأحذيتهم العالية.
اتجهنا جنوبا واخترقنا الحواري والأزقة حتى بلغنا الشارع المحاذي لضفة الخليج اليمنى، والذي يمتد من باب الشعرية حتى قناطر السباع.
صادفنا موكبا من العساكر والمارة يتقدمهم رجل عملاق ببشرة برونزية، وعينين جاحظتين، وخدين غائرين، وفوق رأسه عمامة بيضاء كبيرة، ويحيط بجبهته رباط أسود، ويتعلق خنجر طويل بنطاقه الأحمر اللون فوق قميص موشى بالقصب، وحذاء برقبة، وبين يديه الخدم بالحراب المفضضة. تعرفت فيه على الخواجا برطلمين.
تباطأنا حتى ابتعد الموكب، ثم واصلنا السير لغاية قصر قنطرة السد عند فم الخليج. هنا يخرج الخليج من النيل جنوبي قصر العيني عند السبع سواقي.
التحقنا بالركب الذي تقدمه القائد بونابرته بصحبة بقية القادة ومشايخ الديوان، وخلفه عساكره وطبوله وزموره. كان الزحام شديدا على الشاطئ الذي ظللته أشجار الكافور والصفصاف. ورأيت أن أغلب الحاضرين من النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم، وقليل من الناس البطالين.
تعلقت عيوننا بمنصة خالية تعلوها مظلة. ثم دقت الطبول والصنوج. وتقدم بونابرته ومعه الجنرالات ومندوب الباشا وأغا المشاة نحو المنصة بخطوات ثابتة وسط التصفيق. لم أصدق عيني عندما تبينت ملابسه؛ كان يرتدي قفطانا دمشقيا، وعمامة غرست فيها ريشة إوزة.
اتخذ مكانه فوق سرادق مذهب يطل على النيل الممتلئ. وانحنى شخص على المياه يقيس مستوى ارتفاع النهر. ساد الصمت، ثم أعلن عن منسوب المياه. صفق الجمهور. أعطيت إشارة تحطيم الحاجز الذي كان يحبس المياه، فهوت المعاول. وشرع مرور الماء، ثم انكسر الحاجز، وتدفقت المياه إلى الخليج لتملأ برك القاهرة وتروي القليوبية والشرقية. علت الزغاريد ودوت المدفعية. وقذف أحدهم في المياه بتمثال لعروس النيل فهدرت الأصوات. وقفز بعض الرجال والصبية في الماء، بينما ألقت فيه النسوة مزقا من شعورهن وملابسهن.
ووصلت مئات المراكب القادمة من بولاق في سباق للفوز بالجائزة المخصصة للصف الأول، وقام بونابرته بتسليمها للفائزين. ثم شرع يوزع بسخاء هبات كثيرة تسابق الجمهور عليها. وأخذ يرسل التحايا بكفيه مائلا إلى الأمام بشكل مضحك. ثم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وقلده نقابة الأشراف مكان عمر مكرم الهارب. وأخيرا أعطى الإشارة بالانصراف.
استدار أستاذي ببغلته في طريق العودة. واستأذنت منه في زيارة صديقي عبد الظاهر الذي يسكن قرب قناطر السباع، أذن لي فانطلقت بحماري وسط بيوت مظلمة متداعية تنبعث منها روائح كريهة وحوانيت أشبه بمرابط الخيل. رجال في أسمال محشورين في الأزقة أو قاعدين يدخنون القصبات أمام مداخل بيوتهم وحوانيتهم. عميان يشحذون. نساء قليلات مقززات يخفين وجوها عجفاء خلف خرق نتنة، وتبدو صدورهن المتهدلة من أرديتهن القذرة. أطفال صفر الوجوه ينهشها الذباب.
بلغت مجموعة من الأحواش الكبيرة التي تمتلئ بأكواخ صغيرة يتكدس داخلها الفقراء مع حيواناتهم. ولجت حوشا يلعب به أطفال قذرون بجوار كرسي راحة مكشوف. وفي جانب ركع شاب على ركبتيه دافنا رأسه بين ركبتي حلاق يزيل شعره. ربطت الحمار في مسمار بمدخل الحوش، واتجهت إلى الكوخ الذي يقيم به عبد الظاهر مع أمه الكفيفة، ويدفع إيجارا له عشر بارات في الشهر.
نامعلوم صفحہ
كنا قد تعلمنا سويا في الكتاب. وجئنا معا من الصعيد هربا من الطاعون. واضطر للعمل في وكالة أقمشة ليعول أمه. ولم تنقطع صلتنا. وصرنا نلتقي كثيرا بصحبة حنا.
كان في سني وأكثر سمرة ونحولا. رحب بي وجلسنا فوق مصطبة حجرية بالحوش. تعرفت أمه بالداخل على صوتي فحيتني. ونادته فدخل وعاد بصحن من البلح وكوب من اللبن الرائب. سألته عن الأحوال فاشتكى من قلة الرزق. وقال إن التاجر صاحب الوكالة أنقص أجرته متحججا بالأموال التي دفعها للفرنساوية، وإنهم لم يذوقوا اللحم منذ عدة شهور .
ترددت فجأة صيحات مذعورة، واختفى الأطفال على الفور داخل أكواخهم، وأغلقت أبوابها، وأزاح الحلاق زبونه جانبا ولوح بموساه في الهواء.
ظهرت دورية من جند الفرنساوية في مدخل الحوش وتجاوزته مبتعدة. ولم تلبث أبواب الأكواخ أن فتحت وخرج الأطفال، وعاد الزبون الشاب إلى حجر الحلاق.
قال عبد الظاهر إن الفرنساوية يصعدون الأزقة والدروب للتحرش بالنساء. وأردف بتصميم: ونحن على استعداد لهم.
رددت آية من سورة القصص:
وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون .
قال: نسيت أول الآية:
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا . - لم يأت أحد بعد. وعموما فإننا أفضل حالا من أيام الأتراك والمماليك. - خسئت. أولئك مسلمون لا نصارى. - سمعت من أستاذي أن الفرنساوية ليسوا نصارى وإنما هم من الدهرية.
سألني هازئا: وما هذه الدهرية يا مولانا؟ - الذين ينكرون البعث والدار الآخرة والأنبياء، ويقولون بقدم العالم، وبأن الحوادث الكونية من فعل الحركات الدورية. وعقيدتهم هي تحكيم العقل. ويزعمون أن الرسل محمدا وعيسى وموسى كانوا جماعة عقلاء، وأن الشرائع المنسوبة إليهم كناية عن قوانين وضعوها بعقولهم لتناسب أهل زمانهم. - إذن هم كفرة ويجب قتالهم. - وكيف السبيل إلى ذلك؟
نامعلوم صفحہ
لم يجب وشعرت أنه يضمر شيئا لا يفصح عنه.
سألني عن حنا، ثم قال إن القبط استقووا بالفرنساوية وإن معلمهم يعقوب رافق عسكرهم إلى الصعيد ليعرفهم الأمور. دافعت عن حنا قائلا: إنه لا شأن له بهذه الأمور، وإنه موضع ثقة الشيخ البكري.
دعاني لتناول طعام الغداء لكني اعتذرت وانصرفت بحماري لألحق بصلاة الجمعة.
الجمعة 17 أغسطس مساء
اضطجع أستاذي فوق الأريكة وتربعت عند قدميه. قرأت عليه حصة اليوم من كتاب الشيخ النفراوي في الرد على الأسئلة الخمسة التي ذكرها الشيخ العلامة أحمد الدمنهوري. كنت أقرأ وأنا أهتز كالعادة يمنة ويسرة، ويستوقفني ليستفسر عما فهمته أو ليشرح لي ما استغلق علي فهمه. انتهيت من السؤالين الأول والثاني حول إبطال الجزء الذي لا يتجزأ وقول ابن سينا عن ذات الله، وكيف أنها نفس الوجود المطلق. ثم توقفنا عند السؤال الثالث في قول أبي منصور الماتريدي إن معرفة الله واجبة بالعقل مع أن المجهول من كل وجه يستحيل طلبه.
قال الشيخ: يكفي هذا اليوم. حان وقت العشاء. نأكل هنا.
كانت عادته أن يتعشى في غرفة نومه بالطابق العلوي.
انضم إلينا خليل، وأحضر لنا الخادم صينية بها صحنان من العدس وبصل.
تبسم الشيخ وقال: هل تعرف ما قاله الشيخ الأنبوطي الشافعي رحمه الله؟ قال:
اجتنب مطعوم عدس وبصل
نامعلوم صفحہ
في عشاء فهو للعقل خبل
لم تمنعنا أبيات الأنبوطي من التهام الطعام بالملاعق الخشبية، ثم اغتسلنا وأخرج الشيخ أوراقه وبدأ يكتب. رويت له واقعة الدورية الفرنساوية وتعليق عبد الظاهر عليها، لكني احتفظت بالحديث الذي دار بيني وبينه لنفسي. وتناولت ورقة فارغة ووضعتها على فخذي، وغمست ريشة في المحبرة، سجلت ذلك الحديث، ثم وصفت احتفال وفاء النيل.
تطلع إلي فجأة عابسا: ماذا تفعل؟
قلت: أدون تفاصيل الاحتفال. - لأي غرض؟ لقد دونتها. - فكرت أن أقلدك.
بدا عليه الضيق ولزم الصمت. واصلت الكتابة حتى انتهيت، ثم أعدت المحبرة والريشة مكانهما، وحملت الورقة وأنا أحركها في الهواء ليجف الحبر، وانسحبت إلى حجرتي.
استلقيت على فرشتي وأنا أفكر في رد فعله. تقلبت واشتقت إلى الجارية السوداء لكني لم أجرؤ على الذهاب إليها في وجود أستاذي.
الخميس 23 أغسطس
أقضي هذه الأيام في حجرتي بين الفرشة وكرسي الراحة، فقد أصابني الزحار كعادتي مع كل فيضان. وتناولت كميات كبيرة من مغلي جذور الإشار الهندية والصمغ العربي والرمان.
السبت أول سبتمبر
عاد الجبرتي من اجتماع الديوان ساخطا، قال إنه طلب مع الآخرين من أصحاب التزامات الأراضي الإذن في التصرف في حصصهم؛ فاشترط الفرنساوية دفع الحلوان.
نامعلوم صفحہ
كان الشيخ ملتزما على أرض في قريته إبيار. يدفع ما يتقرر عليها من مال، ويحصل من استغلالها على ما يشاء.
تبعته إلى مجلس العقد حيث خلع فروته وحذاءه وهو يزفر مستاء، قال: إن بونابرته أحضر شالا بألوان الراية الفرنساوية، ووضعه على كتف الشيخ الشرقاوي؛ فتغير مزاجه وامتقع لونه واحتد طبعه، ورمى به إلى الأرض. ثم قرأ المعلم التركي نقولا قصيدة باللغة العربية يشيد بها بالقائد الفرنساوي. سكت ثم ردد بلهجة متهكمة بيتا منها:
الشهم بونابرته
أسد الوغى ذو الاقتدار
قهر الممالك كلها
وقضى المراد بما أشار
أضاف: عند انصرافنا صادفنا الشيخ السادات في طريقه لمقابلة بونابرته. لا أظنه سيرفض وضع الشال الفرنساوي.
استأذنت من الجبرتي بعد القيلولة، وذهبت إلى مقهى فتحي - أحد صنائع الفرنساوية قرب المشهد الحسني. كان مزودا بموائد وكراسي خشبية بدلا من المصاطب أو المقاعد الحجرية. ويجتمع فيه الناس للسمر والحديث واللعب ويحضر معهم فرنساوية.
انضم إلي حنا ثم عبد الظاهر. قال حنا إن الفرنساوية احتلوا بني سويف. كان يبدو حزينا كسيف البال. سأله عبد الظاهر ساخرا عن أخبار زينب، قال: إن البنت فجرت؛ فهي تخرج الآن كل يوم دون أن تغطي وجهها. سكت ثم قال: تلصصت عليها مرة في حجرتها. كانت سافرة بلا برقع، واليلك مفتوح من أمام يظهر منه قميصها، ورأسها تحت طاقية تدور بها مسبحة من اللؤلؤ، وتتدلى منها ضفاير من الحرير تزيد من طول خصلات الشعر. كانت ممسكة بمرآة تزيل بالموسى كثافة حاجبيها وتجعلهما خطين رفيعين فوق الجفن. ثم اكتشفت أنها تتكلم مع أبيها. ورأيتها تمد نحوه قدمها ذات الخلاخيل فإذا به يركع ويقبلها، ودفعته بقدمها فوقع على الأرض.
تطلعنا إليه في دهشة. قال إنه لا يستغرب هذا؛ فالرجل معروف بمجونه. كل ليلة يشرب خمر البرجندي الممزوج بالبراندي، ولا يرحم البنات والصبيان.
نامعلوم صفحہ
ظهر الاستنكار على وجه عبد الظاهر، وقال: كافر وكافرة.
دخل قبطان فرنسي برفقة امرأة من أولاد البلد المخلوعين. رماها عبد الظاهر بعيون نارية، وقال: هي وأمثالها يستحقون القتل.
قال حنا: قوما معي لنرى زينب فموعد خروجها الآن.
مضينا نحو الموسكي وعبرنا القنطرة، وسرنا بين المتاجر المتخصصة في بضائع أوروبا: جوخ، ورق، مناديل، سجاجيد، تبغ، صابون، تين مجفف، سكاكين، أمواس، شيلان، أكواب زجاجية، سكر، ساعات حائط، فانلات منقوشة، ساعات ذهبية، دبابيس. مررنا بعطفة تؤدي إلى حارة اليهود حتى وصلنا العتبة. سرنا في اتجاه شارع مشتهر، ثم انحرفنا يسارا قرب جامع الكخيا . استوقفنا زحام من الناس. وتبينا أن حمارين اصطدما بسبب السرعة، وكان الراكبان فرنسيين، وقد تكرر هذا في الآونة الأخيرة بسبب من السرعة التي يسوق بها الفرنساوية. ولاحظت أن عددا من المحلات التجارية رفعت لافتات باللغة الفرنساوية. وكان الجابي أمام أحدها.
كان في زي المماليك المؤلف من السراويل الفضفاضة الطويلة المشدودة فوق الكعبين والعمامة فوق القاووق، وحول وسطه منطقة علق بها خنجر من الأمام، وعلى منكبيه جبة تدلى على جانبها الأيمن سيف معقوف. برفقته جندي فرنسي يحمل دفترا كبيرا فيه أسماء التجار، وبيانات عن الضرائب المطلوبة منه، ومعه الكاتب وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي منطقته دواة مستطيلة من النحاس.
بعد عدة عطفات ولجنا درب عبد الحق حتى الدار التي أنشأها علي بك الكبير على بركة الأزبكية لمحظيته خاتون التي تزوجها مراد بك من بعده. كانت دار البكري بجوارها وتطل على البحيرة.
رأينا أمامها جمعا غفيرا من أولاد الكتاتيب والفقهاء والعميان والمؤذنين وأرباب الوظائف. وعرفنا منهم أنهم يشتكون إلى الشيخ البكري من قطع رواتبهم وخبزهم لأن الأوقاف استولى على نظارتها النصارى القبط والشوام.
خرجت جماعة منهم من البيت بعد قليل. وشرع الجميع في الانصراف.
وقفنا على مبعدة ننتظر. وعند الغروب ولجت الدرب مركبة فاخرة يجرها جوادان. وفي مقدمتها يجلس جنديان ثبت ريش النعام في قلنسوتيهما.
قلنا في نفس واحد: مركبة ساري عسكر. فلم يكن يركبها أحد غير بونابرته.
نامعلوم صفحہ