وتصاعدت من الخمسة قهقهة غطت على كل الضجة الصادرة من البوفيه ... قهقهة انزعجت لها لا بد أبنية المصلحة العالية الوقورة، وما لبثت الطرقة والصالة وحجرة الموظفين في قسم الأرشيف - الوحيدة التي بقيت على حالها رجالية محضة - أن امتلأت بموظفي المصلحة وكأنهم في حالة فسحة أو إضراب ... جماعات متفرقة وشلل وأقسام بأكملها على هيئة مؤتمر، وحتى حجرات الرؤساء ذات السجاجيد كنت تجد بعضهم قد سعى إلى الآخر وطلب القهوة وجلس وبدأ الحديث.
في تلك الساعات الأولى من اليوم الأول لم تكن الآراء محددة، بل لم تكن هناك آراء على الإطلاق! ضحكات وقهقهات كنت تجد تريقة، لا على الموظفات الجديدات ولكن على أنفسهم، أو على وجه أصح على الضعفاء منهم، وبالذات تلك النماذج الغلبانة التي ليس باستطاعتها التريقة أو قول النكات، أحدهم يقترح على عم فرج موظف الخزنة أن يذهب ويبحث لنفسه عن عمل آخر، إذ هم في الطريق إلى فصله من عمله بسبب شكله القبيح وتعيين موظفة خزنة من طراز مارلين مونرو، والنكات تنهال على الحاج إبراهيم الفراش ذي اللحية: بكره الست تبعتك تشتري خضار يا حاج ... واللا ترضع النونو، ومين عارف يمكن تقصدك مرة ترجع الكورسيه! وذلك الذي يقترح على متعهد البوفيه أن يفتح فاترينة للروج والريميل! إلى آخر ما استطاعت عقول الموظفين ابتكاره من أبواب القافية والتنكيت.
وفي طواف أحمد وشفيق بالمصلحة، والمصلحة كلها كانت في حالة طواف ببعضها البعض، التقيا بالباشكاتب وسلما عليه بحرارة وكأنهما يقابلانه بعد سفر، وهو الآخر أخذهما بالأحضان وكأنه نجا لتوه من حادث، وقال له أحمد: هيه ... إيه رأيك؟ - قالوا اللي يعيش يا ما يشوف ... وياما لسه حنشوف!
واكتشف الثلاثة بعد برهة أن «الجندي» ليس موجودا في طرقات المصلحة ولا ردهاتها، وأنه لا بد قد عسكر في الحجرة لم يبرحها، وزمانه في تلك اللحظة هو و«الست» وحدهما، وأن يترك الجندي مع سيدة بمفردها في حجرة تقابل عندهم أن يترك المراهق مع سيجارة، أو المراهقة مع تليفون، وضع معناه كارثة محققة. •••
وليس لهذا الأمر وحده عادوا جميعا إلى الحجرة، كانوا بعدما شبعوا ضحكا وتهليلا وأفرغوا كل ما عندهم من نكات، قد اكتشفوا أن أحدا منهم أو من غيرهم ممن كتب عليهم أن يرزءوا بفتاة من الفتيات الخمس لم يكن قد رأى «الست» أو تفرج عليها، اكتشفوا أن انفعالهم كان لمجرد الخبر المؤكد الذي ليس إشاعة أو نية أو اتجاها، ولكن حقيقة واقعة أصبح لها مكاتب، وصدرت من أجلها قرارات، أليس من الواجب أن يروا كنه تلك الحقيقة ويتأملوها؟
وصح ما توقعوه، فما إن فتح أحمد الباب وتراجع ليدخل الباشكاتب أولا، حتى تناهى إلى سمعهم صوت محمد الجندي الأخنف قليلا يقول: يعني لسه ما تشرفناش باسم حضرتك.
ولأول مرة يتعالى في حجرتهم صوت حريمي يقول: سناء.
يقولها في خجل متلعثم سريع لا يليق بزميلة، هنا تلكأ الباشكاتب في الدخول وبقي الباب مفتوحا، وجاءهم صوت محمد الجندي مرة أخرى يقول بطريقة ليست غريبة عليهم. - تشرفنا ... أهلا وسهلا ... ثناء وأنت صحيح ثناء. - أنا اسمي سناء ... سناء بالسين.
وإلى هنا لم تحتمل الأعصاب، وهجم الثلاثة داخلين في كتلة مندفعة ذات ثلاثة أحجام مختلفة ما لبثت أن انقسمت وتمكتبت، وصوبت ستة أزواج من العيون التقت كالأنوار الكاشفة النهارية على وجه محمد الجندي، وكأنما لتضبطه وتصب عليه ستين زوجا من اللعنات ... لعنات الباشكاتب معروفة بترفعها واحتقارها لأساليب الجندي، ولعنات أحمد الطويل فيها قرف من لزاجة الجندي المعهودة، ولعنات شفيق لم تكن في حقيقتها لعنات، كانت مجرد تأنيب دقيق كإمضائه لا تتبينه بسهولة كتأشيراته، كآرائه في الناس والحياة.
وفعل كل هذا فعله في الجندي، فما لبث أن اختفى وجهه عن الأنظار اللاهثة الكاشفة وانكفأ يكتب، أو على الأصح يحرك القلم على هيئة كتابة.
نامعلوم صفحہ