والضجة التي لم تحدث إلا حين ذهبوا إلى عملهم ذات يوم كالمعتاد لا بهم ولا عليهم، فوجدوا في أكثر من حجرة من حجرات المصلحة فتيات، وأكثر من هذا وجدوا قرارات بسرعة قد كتبت على الآلة الكاتبة في أقسام المستخدمين، ومكاتب جديدة - وخطان تحت جديدة هذه - أعدت وجلست عليها الفتيات.
ولا يهمنا ما حدث في الحجرات الأخرى، يكفي جدا أن نختار مكتب التصاريح الذي قدر أن تعمل به «سناء» من بين الخمس فتيات اللاتي عين كدفعة أولى، وخطان تحت أولى هذه.
يومها وبعدما بقيت في الردهة فترة تسأل عن محيي أفندي الذي قيل لها أن تذهب إليه بالورقة التي معها، وفي الطرقة الطويلة نسيت اسمه، ووقفت حائرة تسأل الساعي الجالس فوق كرسي واضعا ساقا على ساق، ومن تحت شاربه الكث غير المشذب تخرج كميات هائلة من الدخان أكثر بكثير من التي يجذبها تباعا من السيجارة النحيفة التي لا تكاد تظهر بين أصابعه ... تسأله عن محيي أفندي والساعي يحتسي القهوة من الكوب الزجاجي الرفيع باستمتاع، ويؤكد لها أن لا أحد في قسمهم له هذا الاسم، وبعدها تحايلت على التذكر بأن طلبت منه في لباقة - وابتسامة لجأت إلى أنوثتها كي تجعلها ساحرة - أن يعدد لها أسماء الموظفين، وتفعل الابتسامة فعلها ويكر الساعي الأسماء، وبهذا وحده تعثر كالغريقة على اسم محيي أفندي، وبعد قليل تعثر عليه شخصيا، ويدخلها الساعي وهو لا يعلم من تكون، بل وكاد يفقد عقله وظل أكثر من ربع ساعة يضرب كفا بكف - لا تدري لماذا - حين عرف أنها موظفة جديدة عينت في المكتب، ولا يصدق ... ولا يصدق حتى وهو يقطع احتساءه للقهوة ويحمل لها على كاهله من المخزن مكتبا جديدا أنيقا ويضعه كيفما اتفق في حجرة الموظفين ذات الأربعة مكاتب، ويعاني الأمرين وهو يضعه وكل منهم يشير عليه أن يضعه في مكان، والمشير والمشار إليه لا يزالان غير مصدقين أو مقتنعين أو مؤمنين بأن ما يدور، أمامهما وأمام الآخرين، حدث حقيقي سيظل موجودا غدا مثلا وبعد غد وإلى وقت القيام بالإجازة السنوية، حتى حين استقرت سناء على مكتبها الذي جاء وضعه في أسوأ مكان في الحجرة، فالحجرة لها أربعة أركان، وكل موظف فيها قد اختار له ركنا تشبث به واحتمى، واحتله احتلالا أبديا، وكل ما يميز ركن الباشكاتب رئيس الثلاثة، أن مكتبه أكبر قليلا ومتقدم قليلا بحيث يواجه الداخل إلى الحجرة. المكتب الجديد وضعوه هكذا بجوار الباب مباشرة ودون أن يتنازل أيهم ويزحزح مكتبه، حتى بدا وضعه نشازا، وبدا وكأنه متطفل على الحجرة؛ فللحجرة أربعة أركان، وفيها أربعة مكاتب قائمة وثابتة ومشغولة، ما حاجتها إلى موظف أو موظفة جديدة أو ركن خامس؟! ولم تكن هذه كل سيئات الوضع الجديد للمكتب، فبوجوده بجوار الباب يعرض الجالس عليه - أقصد الجالسة - للخبط كلما فتح الباب، حتى حين حاولت سناء جهدها أن تعدل من الوضع بحيث يتلقى مكتبها أقل الخبط باءت جهودها بالفشل.
كل هذه تفاصيل صغيرة وغير مهمة، فالمهم أن الساعة ما كادت تشرف على التاسعة حتى كانت سناء قد استقرت تماما على كرسيها، ووضعت يديها أمامها فوق المكتب كعادتها إذا جلست إلى ترابيزة لجنة الامتحان قبل توزيع الأسئلة، كانت تنتظر ما سوف يعهد إليها به من عمل، فهي لم تنم ليلة الأمس إلا نادرا، وقضت الساعات الطويلة تحلم بما سوف يحدث في الغد بتفاصيله الصغيرة حتى: كانت تحلم بدخولها المكتب، برئيسها، بالطريقة التي تقابل بها زملاءها، ثم أخيرا بالعمل، لم تكن تعرف بالضبط ماذا ستعمل، ولكن أحلامها ظلت تدور في غموض مثير حول هذه النقطة بالذات، ويدق قلبها بالانفعال وكأنها ستزف إلى العمل مثلا ... إلى ذلك الشيء الغامض المحير الذي له رائحة الرجال ولملامحه جديتهم وصرامتهم. مهما كان فهي تريده، وها هي ذي تحلم وتتلوى وتحتضن المخدة مفكرة فيه محاولة أن تتخيل نوعه ووقعه وأهميته، وتصرفاتها إزاءه.
وحين جاء الصباح أخيرا وتم كل شيء تقريبا كما تخيلت، لا تزال برغم وجودها فوق كرسي وأمام مكتب وفي حضرة رئيس وزملاء، تحلم وتتصور وتبتلع ريقها مرارا في انتظار ما ستكشف عنه اللحظات القليلة الخطيرة المقبلة. •••
اللحظات القليلة المقبلة لم تتكشف عن شيء ذي بال بالنسبة لسناء، الحقيقة تكشفت عن أشياء بالنسبة لزملائها الموظفين! إذ في ذلك اليوم ورغم مضي ساعة على بدء العمل لم يبدأ العمل، وإن وجد كل منهم نفسه مشغولا بترتيب أوراق، والتحدث إلى الرئيس الباشكاتب في مسائل تتعلق بالعمل، مستعملا في حديثه اصطلاحات وتعبيرات تكنيكية خاصة، مدسوسة من عمد، ولكن أحدا منهم - حتى الباشكاتب نفسه - لم يكن قد فكر لثانية واحدة في العمل، وفي الفترات التي كانوا يكفون فيها عن التفكير في العمل - وهي ليست قليلة بالمناسبة خلال اليوم الواحد - كانوا في العادة يتحدثون عبر المكاتب ويتناقشون، في تلك الساعة لم يعملوا، ووجدوا أنفسهم غير قادرين لسبب ما على التحدث عبر المكاتب كما اعتادوا، لا لوجود سناء أو لخجلهم منها ولا لأي سبب معلوم، كل ما في الأمر أن أمنية كل منهم كانت قد تركزت دون أن يشعر حول أن يتاح لهم أن ينفردوا بأنفسهم قليلا ليعودوا أربعة مثل ما كانوا حتى يصبح باستطاعتهم التفكير أو الحديث، وأيضا لم يكن يعرف أي منهم بالضبط ما يريد قوله، أشياء كثيرة يحس بها، ولكنه لم يكن يعرف بالضبط ما هي أو كيف يعبر عنها، وحتى تلك اللحظة لم يكن أي منهم قد ألقى نظرة متطلعة أو متعمقة إلى زميلتهم الجديدة، ولا حتى رأى إن كان شكلها يعجبه، أو حاول معرفة اسمها أو ماذا ستقوم به من عمل، كان يؤجل هذا كله إلى أن يعود نفسه أولا ... أن يمسك بزمام كيانه ليستطيع أن يتكلم أو يرى أو يسمع أو يعرف، كل شيء ظل يؤجله إلى أن تغادر القادمة الجديدة الحجرة، ولو حتى للحظة.
ولكن سناء لم تغادر الحجرة، بل وكانت هي الأخرى لا تستطيع أن ترى أو تسمع أو تحس بما حولها، وإن كانت لا تزال جالسة ويداها فوق المكتب وعقلها في حالة سكون تام في انتظار أن يقول أحد له تحرك ليتحرك. خيالها فقط هو الذي كان يتحرك ... وحتى لم يكن يذهب بعيدا، كان يتحرك «محلك سر»، يترقب أن يعرف أخيرا هذا الشيء المجهول الذي تعبت سناء وأتعبت أهلها معها وتعلمت ونجحت ليتاح لها أن تأتي إلى هذا المكان وتعرفه.
وفقط حين انتقل عقرب دقائق الساعة المثبتة فوق رأس الباشكاتب إلى علامة النصف بعد الثانية «فالساعة كانت ثمة خمس ساعات فرق بينها وبين التوقيت المحلي للقاهرة»، حين تحرك العقرب ليشير إلى التاسعة والنصف ولم تتحرك سناء أو تغادر الحجرة، بدأ الأربعة يتململون ولم يعد باستطاعتهم الصبر، واستأذن أحمد وخرج، وما لبث شفيق أن تبعه والتقى الاثنان على الباب، وقبل أن يحدث أي شيء آخر وجدا نفسيهما يقهقهان ويتصافحان بعنف، وكأن أحدهما قد انتهى لفوره من إلقاء نكتة أعجبت الآخر، وجعلته يتطوح ويتلوى «ويدق» على كف زميله مرة ومرات.
قال أحمد: شفت يا عم؟
وضحك شفيق وهو يأخذه من ذراعه ويبتعد عن الحجرة حتى لا تتسرب ضحكاتهما إلى الداخل، ولم يذهبا بعيدا فقرب البوفيه وجدا إسماعيل وصفوت و«أبو» النجا من قلم المراجعة في حالة مؤتمر ضاحك، دخل عليهم أحمد بقامته الرفيعة الطويلة وصديريه الذي يتهدل من ناحية ويبدو في هذه الناحية بالذات أوسع من صدره وقميصه، وطوق صفوت وإسماعيل بذراعيه قائلا: شفتوا اللي حصل؟ - دا احنا لسه نا نتكلم. - كفك على كده.
نامعلوم صفحہ