لا الكتكوت يعرف.
ولا هو قد عرف.
فالإحساس الطاغي الوحيد لكليهما أنه الآن في عالم آخر، فسيح جدا.
الختان
بعد سلسلة من الميراث والتوريث، والقطع والبيع والموت والميلاد، آبت الجميزة العجوز إلى ساق ضخمة سميكة قصيرة، تنتهي إلى فرعين اثنين ورثهما الشقيقان محمد الهادي الكبير، والهادي محمد الصغير. ونحن كنا أبناء محمد الهادي الكبير، وبمثل ما قسمت الجميزة بين الأخوين، قسم البيت الكبير أيضا، ولكن الجميزة العجوز كانت أروع ما في طفولتنا كلها. أروع من ليالي القمر، وصيد السمك، ونزهات الحقل، ومشاهد الصراع الحافل بين زوجة عمنا وأمنا. كانت شيئا خرافيا، نسأل عنه الآباء والجدات وعواجيز القرية فلا يدرون أهي نبتت «شيطاني» أم أن جد جد جدنا الأكبر الهادي الأول هو الذي زرعها؟ كانت مثار دهشتنا، مختلفة تماما عن أي كافورة أو نخلة، خشنة وقد حفر الزمن بأظافره وأنيابه في ساقها الغليظة السميكة، فصنع معه بروزات وشقوقا، وحفائر، وجروحا غائرات، وندوبا، ومسامير حدادي مدفونة صدئة. مشهد رائع، وكأنما الزمن الذي عاشته، والتطورات التي حدثت لعائلتنا قد تجسدت مكتوبة ومحفورة على ساق الجميزة.
المهم أننا ونحن في تلك السن بدأنا نلاحظ أن فرعنا نحن، الذي ورثه أبي، دائما شاحب الأوراق، ذابل الأفرع، قليل الثمار حين وقت الثمر، فقير الأغصان لا يصلح أبدا لإخفاء صغير منا حين نلعب الاستغماية مع أقاربنا، وبالذات أولاد عمنا الهادي، ونتخذ من الجميزة بفرعيها الهائلين الضخمين مكانا للاستخفاء. كنا نتبارى في الوصول إلى فرع عمنا لتسترنا أوراقه العريضة شديدة الاخضرار، وأغصانه شديدة الكثافة، وثماره التي كنا ننتهز فرصة الاختفاء، وننهال عليها التهاما. ثمار كثيرة، منفوخة بالطزاجة كالكرة الحمراء الحلوة.
الشجرة هي الشجرة والساق هي الساق الأزلية، والفرعان لهما نفس الحجم الهائل، ولكن شتان بين فرعنا الهزيل رغم ضخامته، وفرع عمنا الهائج بالأوراق والأغصان والثمر. نساء العائلة يقلن: إن المسائل أقدار، وإن عمنا الهادي هكذا «مبخت»، محاصيل أرضه دائما أوفر، ولبن جاموسه أكثر، وعنزته دائما تلد اثنين، بينما أبونا محمد الهادي يعزو الأمر إلى أن أباه «جدنا» كان يؤثر عليه عمنا، ولهذا وصى له بالفرع الأحسن. ورغم حبنا لأبينا فبيننا وبين أنفسنا كنا لا نصدقه؛ فالفرعان متماثلان تماما في الطول والحجم والارتفاع، بل إننا لنسمع أنه هو كان المفضل لدى جدنا وليس أخاه. ويقول لنا القائلون إنهم لم يسمعوا في حياتهم عن فرع في جميزة واحدة، أو أي شجرة، أخصب من فرع، فالشجرة الأم أبدا لا تظلم أحدا من فروعها، فشريعة الكون كله العدل، والظلم شيء لا يعرفه إلا الإنسان وحده، وبفعل الإنسان.
وكنت أنا أكثر الأولاد حيرة للأمر. حيرة كانت تدفعني لتأمل الجميزة طويلا وكثيرا، بل كانت تدفعني لمراقبة أبي وعمي كلما صعد أحدهما إلى فرعه يشذبه، أو «يختن» ثماره، أو يقتلع غصنا كسرته الريح أو يد طفل شقي. أبي كان رجلا طيبا حقا، كان كما يقولون لا يؤذي نملة، يصلي ويصوم ويعاملنا بسماحة، وعمري ما رأيته غاضبا، أو يقدح الشرر من عينيه، ولكنه كان يميل إلى الوحدة، ولا يعرف جلسة الأصحاب، وما رأيته أبدا يهزل، أو سمعته يقهقه، أو يسهر، أو حتى يدخن. لا أقول على عكسه، وإنما عمي الهادي كان غير هاد بالمرة، كان صاخب الوجود دائما، معظم الأحيان مكشرا، ولكنه إذا ضحك زلزل الأرض بضحكه، غير أنه نادرا ما كان يفعل، فلم يكن يضحكه غير الشديد القوي الشدة.
كل ما في الأمر أن الموقف كان يختلف حين يصعد أي منهما إلى الجميزة؛ فأبي لم يكن يحب الشجر؛ كان يظن أنه بظله الذي يلقيه على أرضنا المزروعة قمحا أو قطنا، يضعف الزرع ويمرضه. وكان لا يصعد إلى فرعنا إلا مضطرا، بل نادرا ما كان يلحظ وجود الجميزة أو يدرك أن موعد التختين قد حل إلا بعد أن يرى أخاه قد بدأ «يختن». وتختين الجميز هو تحضيره لعملية اللقاح ونضج الثمرة، حين يقارب حجم الثمرة حجم الليمونة الخضراء الكبيرة، لا بد أن تشق بسكين حاد شقا يفتح داخلها ويعرضها للهواء. وحين كبرت عرفت أن هذا الشق يسمح للهواء بالدخول، والهواء يحمل حبوب اللقاح، وبهذا تتم عملية التلقيح وتبدأ الثمرة، كالأنثى التي حملت، تنتفخ، ويبدأ لونها الأخضر كلون وجنات العذارى، يحمر ويندمل الجرح، ويستحيل إلى شق أسود تجمد الدم الأخضر على شفتيه، والذي نتج عن عملية التختين، في الوقت الذي تستحيل فيه الثمرة إلى فاكهة ناضجة، يقطفها القاطف، أو تسقط من تلقاء ذاتها، وحين يأكلها ويأكل معها البذور إنسان أو حيوان أو جمل؛ ينشر البذور في الآفاق ويتكاثر النوع، ومن جديد تعاد قصة الجميزة الشجرة.
كان أبي يقوم بعملية الختان كلها في يوم واحد، وبصبر نافد، فإذا ضايقته ورقة عريضة اقتلعها، وكان لا يهمه أن يكون السكين حاميا، أو حتى الجرح نافذا، حتى كان يخيل إلي أن الثمرات العذراوات تتألم. ولأنه يقوم بالعملية في يوم واحد، فلم يكن يهمه عمر الثمرة، أو إن كان قد آن أوان تختينها، طفلة أو كبيرة هو يشق استدارتها، وفي أي مكان يتراءى له، وينتهي من العملية، ويهبط من فوق فرعنا، وقد حفل وجهه بالعرق، ويلهث وكأنما كان يؤدي فريضة واجبة حمدا لله أن انتهى منها. عمي بالعكس، يجيء من البيت غاضبا لأمر أو لآخر، يشرب سيجارته حتى ينفث غضبه، ثم يخلع جلبابه، ويقف تحت فرعه، وشيئا فشيئا تبدأ ابتسامة ما، باهتة، لا تلبث أن تتعانق وتتسع، وعلى مهل يصعد الجذع المشترك، ثم يدلف إلى فرعه كالعريس يدلف إلى غرفة عروسه. يمتحن الفرع بأوراقه وأغصانه، وكأنما يطمئن على كل جزء منه، يلوي شفتيه ضيقا إذا لمح اصفرارا أو ذبولا، ويتهلل وجهه فرحا حين يلمح جنين غصن قد «بزبز»، ومن جيب «الصديري» يخرج مطواة قرن غزال سنها في اليوم السابق على حجر الطاحونة، ومهما ضربت الشمس يافوخي وأنا أتفرج فلا أتزحزح، وأنا أرى عمي الكشر صاحب المزاج المتغير دوما وقد حفل وجهه بسعادة نادرا ما أراها يحفل بها وجهه، بإصبعين يمسك الثمرة الخضراء، برقة يمتحنها حتى إذا أدرك أنها للختان حانت، في سرعة الساحر يمر بسيف مطواته على مكانها ختانها المضبوط، ثم يرنو إلى الجرح الباهر العميق الذي أحدثه في ومضة، ويتأمل أعماق الثمرة الشاحبة الاحمرار والاصفرار، وربما يتفكر لهنيهة في لونها حين يتأنث ويحمر ويتغير، وفي شكلها وحلاوتها حين تنضج، ويتركها لغيرها وكأنه يترك مائدة سعادة حافلة إلى مائدة حافلة ثانية قادمة.
نامعلوم صفحہ