وكشبح يطفو من الماضي داعب ذاكرته ما قرأه في جريدة تركها صاحبها في الحدائق، ورأى فيها صورته، صورة بطاقته الشخصية العجوز الجامدة الملامح: خرج ولم يعد، رجل في الخمسين أسمر الملامح حليق اللحية والشارب أبيض الشعر، يرتدي جلبابا مقلما وشبشب زنوبة، من يجده يتصل بهذا التليفون أو بالعنوان ... خرج ولم يعد. خرج ولن يعود أبدا، والحياة لا بد قد سارت من بعده أفضل بكثير مما كانت تسير به.
أبدا لن يعود. •••
لم تعد الساق حين ترفس تجدي، تشنجت الرغبة هذه المرة في الرقبة، بجماع رقبته دق بمنقاره على الجدار الأصم، رن المنقار مرتطما بالجدار. بآخر ما تبقى في قمة البيضة من هواء امتلأت حوصلته فسدد منقاره ودق. انتهى الهواء، وانهال برأسه المدبب على الجدار مختنقا، دقا مستميتا يدق، آخر دق.
لا يعرف لماذا يدق، وإلى أين هو صائر، ولكنه مختنق يدق ويدق. لا يعرف إلا أن حياته كلها تلخصت في أن يدق ويدق!
وفجأة ...
انهارت قطعة دقيقة، وأخرج المنقار منها، ورغما عنه تنفس، هواء كثيرا يدخل الحوصلة، ويزيده نشاطا ينهال به على الفتحة يوسعها، فيخرج رأسه، ويحطم ما تبقى من الجدار فيخرج جسده الكتكوتي المرتعش.
النور باهر يغلق عينيه.
الهواء كثير، وفسيح، ودنيا واسعة واسعة أوسع من كل قدرته على الرؤية.
وانتفض يسقط ما علق بجسده، وانطلق في مرح لا نهائي يجري.
لماذا أصر على الدق والدق حتى كسر الجدار؟ وهو لم يكن يعرف أنه جدار، وأن خارجه كل ذلك النور والاتساع، أهي قوة مجهولة داخله كانت تعرف؟ أم هو الضيق بالاختناق دفعه أن ينقر وينقر ليموت نقرا وضيقا؟
نامعلوم صفحہ