فأدرك ضرغام أنه يعني بابك الخرمي القائم على الدولة في أردبيل. وكان عالما بانتقاضه وبوقائع جرت بينه وبين جند المسلمين ولم يظفروا منه بطائل حتى استفحل أمره، فقال: «وهل أحدث هذا الرجل حادثا جديدا؟»
فقال القاضي: «لا يخفى عليك أن بابك الخرمي تمرد على أمير المؤمنين بأرمينيا، فرماه بالأفشين ورجاله مرة، وبغيرهم مرة أخرى، والشقة بيننا وبين أرمينيا واسعة؛ فكانت الحرب سجالا، ولا يزال الرجل معتصما هناك وأمير المؤمنين ...» وسكت ونظر إلى المعتصم، فأتم هذا كلامه قائلا: «قلت لك يا صاحب إني لا أثق بالأفشين هذا ولا أعلم كيف أستغني عنه وقد رأيته أنت في بلاده بين أهله وعشيرته، فكيف وجدته؟»
قال: «إن لهذا الرجل سطوة عظيمة في تلك البقاع، فهم يعدونه ملكا كبيرا ويسمونه ملك الملوك، وبعضهم يخاطبه بإله الآلهة كما كانوا يفعلون قبل إسلامه، ولعله الآن يستنكف من هذا. وقد رأيت يا أمير المؤمنين من سلطانه شيئا عظيما حتى يجتمع لندائه ألوف الألوف من الرجال. وإذا رأى أمير المؤمنين أن يخلعه فإنه فاعل ما يشاء، وإذا شاء أن يرمي بي في مكانه بذلت دمي وروحي في خدمته. ولا أزعم أني أقدر من ذلك الرجل ولكنني طوع أمير المؤمنين والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.»
فقال القاضي للمعتصم: «إن الصاحب يبدي إخلاصه وتفانيه في خدمة الدولة، ولكنه لو سئل عن عاقبة هذا التبديل لما جهل الخطر الذي يترتب عليه. لا أرى أن يعلم الأفشين أو أحد رجاله بما يجول بأذهاننا عنهم، وإذا أذن أمير المؤمنين أبديت رأيا لعل فيه نفعا.»
فقال: «قل ما بدا لك.» والتفت إلى ضرغام وقال: «إن القاضي أحمد يحل لدينا محل الوزراء والمشيرين، فعندنا من الوزراء والخاصة غير واحد ولكنني لا أثق بأحد منهم وثوقي به. قل أيها القاضي.»
فقال: «إن الأفشين ملك في بلده وعنده الجند والأعوان، وقد رضي أن يخدم أمير المؤمنين طمعا في المال. ويتحدث بعض الناس بأنه لا يخدم المسلمين إلا لذلك، ولو ترك لشأنه لانضم إلى بابك وحاربنا. وهو إذا صح إسلامه فإنه لا يزال حديثا فيه، فإذا جافيناه انقلب علينا، وإذا اتحد مع بابك أصبحا خطرا علينا مما لا يخفى على أمير المؤمنين. والذي أراه أن نظهر له ثقتنا بإخلاصه ونشتريه بالمال هو ورجاله ونضرب بهم ذلك المجوسي المتمرد في أرمينيا، فإذا غلبوه كفونا شره، وإذا اتضح لأمير المؤمنين بعد ذلك أن الأفشين خائن، سهل علينا الاقتصاص منه؛ إذ يكون وحيدا. وإذا أخلص حقا نال ما يستحقه.»
فلما سمع ضرغام كلام القاضي أدرك أن الرجل ينطق عن تعقل ودهاء، ولو ترك هو لرأيه لم يصل إلى هذا الحكم؛ لأنه من أهل الشجاعة وليس من أهل الرأي، ويندر اجتماع الشجاعة والرأي في واحد. ثم قال الخليفة: «أرى قاضي القضاة يغالي بقوة هذا الفارسي أو الأشروسني ويخشاه، وفاته من في جندنا من القواد العظام وكل منهم يدفع عن دولتنا برجاله وعدته.»
قال: «صدق أمير المؤمنين؛ فعنده أشناس التركي وأيتاخ وبغا وسما وغيرهم، ولكن هؤلاء نشئوا من العامة ليس لأحد منهم ما للأفشين من النفوذ في نفوس الجند، وقد سمعنا الآن بما لهذا الرجل من السطوة في قومه وهم ألوف الألوف، فإذا أغضبناه لا يقوم هؤلاء مقامه. ولولا تمرد بابك هذا لم نكن نخشى بأس الأفشين. وأنت يا أمير المؤمنين شجاع باسل، أيدك الله بالخلافة، فلا ترى الالتجاء إلى الحيلة أو الصبر على المكاره، ولكنا نعلم من الحديث المأثور عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «الحرب خدعة.» فهذا رأيي والأمر من قبل ومن بعد لأمير المؤمنين، وأنا وسائر رجال الدولة رهن ما يريد، نبذل دماءنا وأرواحنا في طاعته.»
نامعلوم صفحہ