أبطال الرواية
مراجع رواية عروس فرغانة
1 - فذلكة تاريخية
2 - جهان عروس فرغانة
3 - كتاب ضرغام
4 - ضرغام وجهان
5 - في قصر المرزبان
6 - ضرغام وجهان
7 - اجتماع المحبين
8 - موت المرزبان ووصيته
نامعلوم صفحہ
9 - بين الأفشين وجهان
10 - المعتصم و«سامرا»
11 - أم ضرغام
12 - المعتصم والأسد
13 - أحمد بن أبي دؤاد
14 - المعتصم والعرب
15 - فراق فرغانة
16 - بين بابك وجهان
17 - يأس ضرغام
18 - سقوط البذ
نامعلوم صفحہ
19 - مصرع بابك
20 - فتح عمورية
21 - محاكمة الأفشين
22 - نسب ضرغام
أبطال الرواية
مراجع رواية عروس فرغانة
1 - فذلكة تاريخية
2 - جهان عروس فرغانة
3 - كتاب ضرغام
4 - ضرغام وجهان
نامعلوم صفحہ
5 - في قصر المرزبان
6 - ضرغام وجهان
7 - اجتماع المحبين
8 - موت المرزبان ووصيته
9 - بين الأفشين وجهان
10 - المعتصم و«سامرا»
11 - أم ضرغام
12 - المعتصم والأسد
13 - أحمد بن أبي دؤاد
14 - المعتصم والعرب
نامعلوم صفحہ
15 - فراق فرغانة
16 - بين بابك وجهان
17 - يأس ضرغام
18 - سقوط البذ
19 - مصرع بابك
20 - فتح عمورية
21 - محاكمة الأفشين
22 - نسب ضرغام
عروس فرغانة
عروس فرغانة
نامعلوم صفحہ
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
المرزبان طهماز:
من سراة فرغانة.
عروس فرغانة:
جهان بنت طهماز.
القهرمانة خيزران:
مربية جهان.
سامان:
نامعلوم صفحہ
شقيق جهان.
ضرغام:
رئيس حرس المعتصم.
الأفشين حيدر:
قائد جند بغداد.
آفتاب:
والدة ضرغام.
أحمد بن أبي دؤاد:
قاضي القضاة.
بابك الخرمي:
نامعلوم صفحہ
صاحب أردبيل.
مراجع رواية عروس فرغانة
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ: ابن الأثير - المسعودي - المقدسي.
تاريخ التمدن الإسلامي.
البلدان لليعقوبي.
معجم ياقوت.
سير الملوك.
رحلة ابن بطوطة.
تاريخ طبرستان لابن اسفندبار.
نامعلوم صفحہ
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
فرغانة مدينة كبيرة على حدود تركستان، كانت عاصمة الكورة المسماة باسمها، وكان الفرس يسمونها «اخشيكسيت». وهي تطل على ضفاف نهر جيحون الذي يسميه العرب نهر «الشاش» ويسميه الإفرنج نهر «يكسارت» والأتراك يسمونه نهر «سرداريا».
وبيننا وبين فرغانة بعد شاسع يستغرق قطعه بضعة أشهر، في السير شرقا عبر الشام فالعراق ففارس فخراسان. ثم عبور نهر سيحون واختراق بخارى وسمرقند وأشروسنة للوصول إلى ضفاف جيحون أو نهر الشاش، بعد اجتياز كثير من الجبال والصحاري والسهول والأودية، ومشاهدة أمم شتى فيما بين سيحون وجيحون. تختلف لغة وعنصرا ودينا. ناهيك بالمفاوز التي يعسر سلوكها، وكثرة قطاع الطرق فيها، وأكثرهم من بدو التركمان وهم أهل خشونة وسطو.
وقد استطاع العرب بعد الإسلام أن يفتحوا الشام والعراق ومصر وفارس في بضع عشرة سنة. لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى فرغانة إلا في أواخر القرن الأول للهجرة. وكان فتحها على يد قتيبة بن مسلم فاتح تركستان سنة 94ه. ولم يستعمرها العرب أو يقيموا بها إلا بعد ذلك بأعوام عديدة. وكانت تابعة لعامل خراسان في تأدية الجزية والخراج.
وبرغم ما تقدم ذكره من المفاوز والجبال في الطريق إلى فرغانة، كان المسافر إليها إذ ينتهي بعد تلك الأخطار إلى نهر جيحون يسير ما بقي من الطريق حتى مدينة فرغانة على ضفة النهر الشرقية، فيرى هنالك الأسواق والقصور ذات الأسوار العالية، ويرى الأرباض والبساتين على ضفتي النهر ممتدة في أرض مستوية مساحتها ثلاثة فراسخ. ثم يرى شماليها جبلا وعرا على بعد ميل منها. ويرى وسطها قلعة عظيمة يقال لها في اصطلاح الفرس «قهندر» شيدت لتعتصم بها حامية المدينة عند الحاجة. ولذلك بنيت بناء متينا بالأحجار الضخمة دون كل أبنية المدينة المتخذة من الطين. وحول القلعة سور له أربعة أبواب. تليه أرباض فسيحة، ثم سور ثان بأبواب أربعة أيضا. ويتخلل المدينة والأرباض مياه جارية وحياض كثيرة. هذا إلى ما يحيط بالمدينة كلها من بساتين ملتفة ونهيرات جارية تصلها بالنهر. فكانت هذه المنطقة من أنزه بلاد تركستان أو ما وراء النهر.
وكان سكان فرغانة عند الفتح الإسلامي خليطا من أهل البلاد الأصليين الذين يسمونهم «طاجية». وجماعات من الفرس والهنود والأتراك وأهل الصين. وكان الفرس أرقاهم جميعا. بل كانوا أرقى المشارقة في ذلك العصر. فكانت لهم الرياسة والسياسة والنفوذ الأدبي والديني، لأنهم كانوا ينقلون معهم تمدنهم حيثما حلوا. وكانت لغتهم البهلوية (الفارسية القديمة) لغة الطبقة الراقية في الشرق الأقصى، كما هو شأن اللغة الفارسية الحديثة الآن. وكانت لغة أهل فرغانة الأصليين التركية القديمة المعروفة بالشاغطائية. وكانت المجوسية دين أكثر الفرس حتى ذلك الحين.
وحينما فتح العرب فرغانة كان يحكمها أمراء أو ملوك يلقب كل منهم بلقب خاص بهم هو «أخشيد ». كما يلقب ملك الحبشة بالنجاشي، وملك الروم بقيصر، وملك الفرس بكسرى. وكان الأخاشيد الذين يتولون أجزاء كورة فرغانة كثيرين. فلما دخلت في حوزة المسلمين وألحقوها بإمارة خراسان، لم تبق بها حاجة إلى ملوكها المذكورين، ولم يعترضهم المسلمون في دينهم أو عاداتهم أو شيء من أحوالهم، فبقي أكثرهم في البلاد يتمتعون بالسكينة والعيش الهنيء في ظل المسلمين، ونزح بعضهم إلى قلب المملكة الإسلامية في العراق، فتقربوا إلى بلاط الخلفاء وخدموهم واعتنقوا الإسلام وتولوا الأعمال، وأشهرهم الأخشيد طغج بن جف صاحب مصر.
الفصل الثاني
جهان عروس فرغانة
نامعلوم صفحہ
أصبح أهل فرغانة في يوم من أيام سنة 221 للهجرة وهم يتأهبون للاحتفال بالنيروز (رأس السنة). فأخذوا في إقامة معالم الزينة، ناصبين الأعلام الملونة فوق منازلهم، معلقين طاقات الرياحين على أبوابها. ثم تقاطروا إلى الأسواق يبتاعون الألبسة الجديدة لهم ولأولادهم، وأطباق الحلوى وغيرها من المآكل التي تكفي خلال أيام العيد الستة.
ولو دخلت المنازل لرأيت النساء قد أوقدن النيران لإعداد الأطعمة والحلوى، وأحمين الحمامات للاغتسال. ولرأيت الجواري مشتغلات بتزيين الأولاد والطبخ وعجن أرغفة العيد. وهي أرغفة كان يصنعها الفرس في ذلك اليوم من حنطة السنة الجديدة ليقتسموها صباح العيد متفائلين بأكلها استبشارا بخصب تلك السنة.
وكانوا يتعاملون في ذلك اليوم بالنقود الجديدة ويتهادون الحبوب الجديدة على أطباق من الفضة ونحوها، ويترامون بالبيض والثمار.
أما الأسواق فكانت في ذلك الصباح تحفل بالمارة من الرجال والأولاد. هذا يحمل قفة وذاك ينقل سلة، وذاك يسوق حمارا أو فرسا، وكلهم يتسابقون إلى المنازل أو إلى بيت النار، يحملون الهدايا لأولادهم أو للموبذان - كهان المجوس - وقد تصاكت مناكبهم وتصادمت أقدامهم.
ولو أنك صعدت إلى القلعة الكبرى (القهندر) القائمة وسط المدينة وأشرفت من سطحها على أطراف فرغانة، لرأيتها أشبه بخريطة مرسومة على ورق أو صورة ملونة. فحول القلعة مبان متشابهة من الطين كلها من طبقة واحدة ما عدا بناءين: أولهما «بيت النار» وهو الهيكل الذي يتعبد فيه المجوس. وكانت المجوسية لا تزال متغلبة هناك، ويسمونه «كارشان شاه». وهو رفيع العماد يظهر بارزا بين أبينة المدينة كالنخلة بين الرياحين وقد نصبوا حول سطحه رايات من الديباج طول الواحدة منها عشرات من الأذرع، مرسلة في الفضاء يلاعبها الهواء، أكثرها خضراء اللون. أما البناء الثاني فهو «بيت المرزبان» - والمرازبة هم حكام المقاطعات في عهد الأكاسرة - وحول البيت حديقة فيها من كل فاكهة زوجان.
وهناك وراء سور المدينة امتدت الأغراس والأعناب والرياحين تتخللها مجاري الماء وتتغنى على أفنانها الأطيار.
فبينا أهل المدينة في ذلك الاحتفال إذا بموكب جليل يخترق الأسواق ويشغلهم عما هم فيه لفخامته وغرابته. وهو مؤلف من مركبة كبيرة أشبه بالغرفة منها بالعربة، فوقها قبة من الفضة المموهة بالذهب قائمة على أعمدة من الخشب الملون بينها ستائر من الديباج الأزرق، ويجر المركبة جوادان مجللان بالحرير المزركش، وقد ركب السائق أحدهما وفي يده سوط يسوقهما به. وعود كبير يصوبهما به إذا عاجا عن القصد. ويكتنف المركبة بضعة من الخصيان يركضون إلى جانبيها، وقد أرخيت الستائر على الراكبين فلا يراهم أحد. على أنه لم يكن في فرغانة أحد من الرجال أو النساء لا يعرف صاحب هذه المركبة؛ إذ ليس هناك مثلها، وهي مركبة مرزبان المدينة، أهداها إليه بعض أهل امرأته في بلاد القوقاز؛ إذ كان فارسي الأصل وامرأته جركسية من القوقاز. وأهل تلك البلاد يستخدمون هذه المركبات لحمل الخواتين في خروجهن أو أسفارهن، وفي المركبة كل ما يحتاج إليه الخاتون من الأدوات حتى الطعام والشراب، فكان أهل فرغانة لا تمر بهم هذه المركبة إلا تشوقوا لرؤية من فيها لعلمهم أنها تقل بنت المرزبان التي يحبونها ويجلون قدرها ويعجبون بجمالها وتعقلها. وكثيرا ما رأوها تمر بهم في مركبتها وقد أزاحت ستائرها فلا تحتجب عن أحد. وإذا وقع بصرها على أحدهم ابتسمت له ابتساما يزيده تهيبا منها.
أما في ذلك اليوم فكانت ابنة المرزبان قد أرخت ستائر المركبة، وأركض السائق الجوادين، وأدرك المارة من إسراعه أنه يريد الخروج من المدينة. ثم رأوا وراء المركبة جوادين مسرجين لا يقودهما سائق ولا يركبهما راكب، أحدهما أدهم على سرجه جعبة مملوءة بالنبال فلم يخف على العارفين أن الجواد لصاحبة المركبة وقد تعودوا أن يروها خارجة عليه بألبسة الرجال للصيد أو السباق، ووراء الجوادين خدمة الصيد وفيهم أصحاب الكلاب والفهود. ولم يعجب أهل فرغانة لرؤيتهم معدات الصيد هذه؛ لأنهم يعلمون مهارة بنت المرزبان فيه، ولكنهم عجبوا لخروجها في ذلك اليوم.
وكان بين المارة رجلان؛ أحدهما تاجر من أهل فرغانة، والآخر قريب له من أهل «خوقند» أتى لقضاء أيام النيروز عنده. ولم يكن رأى شيئا من ذلك قبلا. فسأل رفيقه عن صاحب هذا الموكب فقال: «هو موكب الخاتون «جهان» بنت المرزبان «طهماز». ألم تسمع عنها من قبل؟»
قال: «سمعت في المرة الماضية عن مرزبان يقيم بهذه المدينة معتزلا وأنه ذو ثروة طائلة وليس له إلا ابنة سمعت الناس يتحدثون بجمالها، فهل هي وحيدته؟»
نامعلوم صفحہ
قال: «لها أخ أجرد قبيح الخلق والخلق كأنه ليس أخاها.»
قال: «لعل المرزبان من أهل المدينة؟»
قال: «بل هو غريب عنها جاءها وهو شاب منذ ثلاثين سنة أو أربعين، واتخذها وطنا له فرارا من المسلمين العرب. وكان حاكما في بعض مقاطعات فارس فقاسى اضطهادا ولم يشأ أن يبدل دينه فأتى بأمواله وأقام هنا.»
فسأله: «وهل هو غني يا صاحبي؟»
قال: «له ثروة طائلة، وأكثر المغارس خارج فرغانة على ضفة نهر الشاش ملك له، فضلا عن المنازل والنقود والجواهر. ولكن ما لنا وله؟ دعنا من ذلك وامض بنا إلى سوق اللحم لنبتاع خروفا نذبحه لأولادنا.»
وكان رفيقه من محبي الاطلاع على أخبار الناس والاعتراض على أعمالهم فلم يصغ لرأي صاحبه، بل قال: «قل لي كيف تخرج هذه الخاتون من البيت في مثل هذا اليوم؟»
فضحك رفيقه وقال: «كأنك تريدها أن تبقى في البيت لتعجن العجين وتخبزه ولتطبخ الطبيخ كما تفعل نساؤنا؟! إنها يا صاحبي سيدة بيت أبيها، وقد توفيت والدتها منذ أعوام فلم يتزوج المرزبان بعدها إكراما لها، فهو يحبها حبا جما ويعاملها كأنه عاشق يدلل عشيقته!»
قال: «لست أعني أن تقيم في البيت للعجن أو الطبخ بل تبقى فيه لاستقبال الزائرين الذين يتوافدون على بيت أبيها بالهدايا والتحف في يوم العيد.»
فقطع الآخر كلامه قائلا: «دعنا من ذلك يا صديقي، وسر بنا إلى السوق لننتقي خروفا نشتريه.»
وكان الموكب قد جاوز الرجلين حتى خرج من المدينة إلى الأرباض، ومنها إلى البساتين، فوقف عند مضرب لبعض أتباع المرزبان تعودوا استقبال هذا الموكب فخفوا لملاقاته. فلما وقفت المركبة ترجل السائق ووقف بجانب الجوادين ليمنعهما من السير أثناء نزول الخاتون، وتقدم أحد الخصيان للأخذ بيدها، وكانت قد قربته للطفه وخفة ظله واسمه «مرجان». فوقف بجانب المركبة لا يتجرأ على إزاحة الستارة. فطال وقوفه دون أن تفتح أو تطل الخاتون، ولكنه سمع حديثا داخل الستارة فتاق إلى معرفته، ولكن رده التهيب عن الإصغاء لسماعه. وكان رجال الموكب والأجراء في المزرعة واقفين ينتظرون ترجل جهان. فلما أبطأت قلقوا. وكان جوادها الأدهم أشد قلقا منهم. فأخذ يفحص الأرض بقوائمه وسائسه لا يقوى على زجره. ثم صهل كأنه ينادي صاحبته أو يستعجلها، فإذا بستارة المركبة قد أزيحت ونزلت منها امرأة كهلة في الخمسين من عمرها عليها سمات الرزانة، وقد زادها الانقباض فتنة، وكانت ترتدي ثوبا يغطي كل جسمها، وعلى رأسها وعنقها خمار أحمر لا يظهر غير وجهها. فعرف الواقفون أنها القهرمانة خيزران مربية جهان ووصيفتها ومستودع أسرارها.
نامعلوم صفحہ
وبعد أن ترجلت القهرمانة مدت يدها لاستقبال سيدتها، فنزلت «جهان» حتى وقفت بجانب المركبة والأبصار شاخصة إليها للتمتع بجمالها الجاذب النادر. وكانت قد لبست ذلك اليوم ثوب الصيد، وهو يتألف من السراويل والقباء أو الدراعة، وتزملت بما يشبه العباءة من الحرير المزركش، ولفت رأسها بعمامة أشبه بالعصابة تغطي الجبين إلى الحاجبين، وأرسلت منها ذؤابتين خلف العنق اتقاء حر الشمس. وأدارت العباءة حول العنق حتى لا يبدو منها غير بعض وجهها.
وكانت طويلة القامة جليلة الطلعة، في وجهها هيبة وصحة وجمال، وعيناها كبيرتان فيهما نور وذكاء وجاذبية لا يعبر عنها بغير السحر؛ ولذلك يشعر من يبادلها النظر أو الحديث بسلطانها على قلبه وعقله فلا يقوى على التبسط معها في الحديث ، ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها في أمر كأنها ملكت عليه إرادته فيصبح آلة بيدها. وكان الناس ينتظرون خروجها من منزلها للصيد أو النزهة فيقفون في الطرق ليشاهدوا محياها فكانت تبتسم للناظرين فتزيدهم تعلقا بها.
أما في ذلك اليوم فخاب فألهم؛ لأنهم رأوا في وجهها قلقا وفي عينيها دمعتين تحاول إخفاءهما بالابتسام.
ولو أنك نظرت إلى جهان في بيتها وقد أزاحت اللثام حتى ظهر عنقها وأرخت شعرها، لرأيت قوة الجنان ورباطة الجأش ظاهرتين حول فمها وفي ذقنها، وتجلت لك قوتها في اندماج عنقها. وقد تعجب لأول وهلة من اختلاف ملامحها عن ملامح الفارسيين وأبوها منهم. فإذا علمت أن أمها جركسية زال تعجبك وعلمت أنها ورثت تلك الملامح عن أمها، كما ورثت عنها كثيرا من سجايا الجراكسة كالقوة والشجاعة والأنفة وتعود ركوب الخيل والسباق بها والخروج للصيد. على أنها أخذت عن أبيها ذكاء الفرس وتعقلهم ودقة إحساسهم؛ فكانت لهذا وذاك نادرة عصرها جمالا وجلالا، وشغف بها الفرغانيون وسموها «عروس فرغانة».
فلما نزلت من المركبة ورأت الناس وقوفا لانتظارها وهم شاخصون بأبصارهم إليها، حيتهم على عجل خوفا من ظهور اضطرابها وهي حريصة على كتمان ما بها؛ ثم التفتت إلى القهرمانة وقالت بصوت موسيقي جميل: «أين الجواد يا أماه؟» وكانت تناديها بذلك تلطفا وتحببا؛ لأنها ربتها من صغرها وكانت ضنينة بها شفيقة عليها؛ ولذلك كانت جهان تستودعها أسرارها وتكشف لها عن مكنونات قلبها. ولم تبطئ في الخروج من المركبة إلا لاشتغالها بالتحدث إليها في شيء أهمها.
فأشارت القهرمانة إلى السائس، فأتى بالجواد يختال تيها كأنه يرقص، فلما دنا من جهان نظرت إليه وابتسمت ثم داعبت جبينه بأناملها، وكان على جبينه شعرات بيضاء تمثل أسدا رابضا فسمته لذلك «شير» وهو اسم الأسد بالفارسية. فلما شعر الجواد بأناملها استأنس وأخذ يضرب الأرض برجله. ثم التفتت القهرمانة إلى الواقفين وقالت: «إن مولاتنا ذاهبة إلى الصيد فامكثوا مع المركبة هنا لإعداد الطعام، وليتبعنا منكم رجلان يحسنان الركض حتى إذا وقع لنا صيد أتيا به.» ثم امتطت جهان جوادها الأدهم بأسرع من البرق، وقدم «فيروز» السائس للقهرمانة خيزران جوادها، وأعانها على الركوب، فركبت وأشارت إلى السائس أن يتقهقر ويمشي مع الرجلين الآخرين وأحدهما مرجان، وساقت جوادها إلى جانب جواد سيدتها وسارتا متلازمتين، وقد تنكبت جهان القوس وأما جعبة النبال فكانت معلقة بالقربوس، والتمست عرض البر والجوادان يسيران معا على مهل، والأرض سهلة وأكثرها مزروع، وتبدو في أقصاها الجبال المحيطة بالمدينة.
كانت جهان قد تعودت الذهاب في الشعاب والأودية مع الفهادين وأصحاب الكلاب لاصطياد الغزلان أو حمر الوحوش أو الوعول. ولكنها في هذا اليوم لم تصطحب أحدا من أولئك؛ لرغبتها في الانفراد، وإنما اتخذت الصيد حيلة للخروج.
فلما أمعنتا في الخلاء التفتت القهرمانة إلى جهان لفتة حنو وانعطاف وقالت: «والآن يا سيدتي ألا تكشفين لي عن سبب انقباضك، وأنت تعلمين أني مستودع أسرارك وأسرار أمك من قبلك؟»
فتنهدت جهان وقالت: «دعيني يا أماه من هذا الحديث، إنما جئت لأروح عن النفس بالصيد.»
فضحكت القهرمانة وقالت: «وهل تريدين مني أن أصدق أنك خرجت للصيد وأنا التي اخترعت هذه الحيلة لنخرج معا؟ أم تحسبين سرك خافيا علي؟!»
نامعلوم صفحہ
فأرادت مغالطتها فقالت: «أتستغربين انقباضي وأنت ترين أبي مريضا بالنقرس منذ أعوام. وقد سمعت طبيبه يصرح بضعف الأمل في شفائه؟! إنني إذا أصيب أبي بسوء أصبح وحيدة لا أهل لي هنا، ولست أعرف أهل أبي في بلاد فارس ولا أهل أمي في بلاد القوقاز، ولا أدري مع ذلك كيف ...!» وغصت بريقها.
فقالت القهرمانة: «إن مرض سيدي المرزبان لم يحدث بغتة، وقد كنت تخافين على حياته من قبل ولم يبد عليك مثل هذا الانقباض ... وإنما سببه سر أنت شديدة الحرص على كتمانه، ولكنني أعرفه!»
فالتفتت إليها جهان مستغربة وتفرست في عينيها ووجهها كأنها تحاول أن تقرأ ضميرها، فتأثرت القهرمانة من نظرها وبما تلألأ في عينيها وهي تغالب عواطفها وقالت: «نعم إن سرك غير خاف علي، وإن كنت تحاولين إخفاءه حياء. وأرى هذا الحياء يبدو على وجهك الآن.»
فصعد الدم إلى وجنتي جهان فتوردتا وأشرق وجهها وأبرقت عيناها بريقا ينم عما يجيش في قلبها من لواعج الحب. واعتراف العينين حجة صادقة مهما يبالغ صاحبهما في الإنكار. فإذا قالت العين قولا وقال اللسان آخر فالصادق هي لا هو، خصوصا من يكون مثل جهان في رقة الإحساس وقوة العاطفة؛ فقد كانت كبيرة القلب وكبيرة العقل معا، ولكن الضعف النسائي غلب عليها في تلك اللحظة فأطرقت، فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تعجبي يا سيدتي لاطلاعي على السر، ولست أنا وحدي المطلعة عليه فإنه متداول بين أهل القصر لا يجهله أحد غير أبيك، ولولا تهيب أهل القصر لنقلوه إليه ولكنهم لا يستطيعون ذلك إلا على يدي وأنا لم أفعل.»
فبغتت جهان وقالت وهي تتشاغل بإصلاح عرف جوادها: «وأخي سامان؟ هل يعلمه أيضا؟!»
فابتسمت ابتسامة تشف عن تألمها من ذكر ذلك الاسم وقالت: «سامان؟! إن سامان لا تخفى عليه خافية يا سيدتي وقد قلت لك ذلك مرارا.»
فأدركت جهان أنها تريد انتقاد إخلاص أخيها. فقطعت كلامها قائلة: «إني أتوسم في أخي سامان شيئا لا يرتاح إليه قلبي ولا أدري ما هو، ولكنني لا أحب العيب فيه فهو أخي الوحيد، وأرى منه انعطافا إلي، وإن كان بعضه لا يروق لي، على أني لا أحبذ انشغاله بالأسرار حتى ليخيل إلي أنه جعبة خفايا وغوامض. وكثيرا ما يغيب عن البيت يوما فنبحث عنه في فرغانة بحثا دقيقا فلا نقف له على خبر، ثم يرجع ونسأله عن غيابه فلا يجيب أو يجيب جوابا مبهما. وقد أخبرنا بعضهم أنه كثير الاختلاء بالموبذ كاهن بيت النار في المدينة. ولا يخفى ما هو عليه هذا الكاهن من الدهاء والمكر.»
فقالت خيزران: «أظن هذا الموبذ يؤيد طائفة الخرمية الجمعية السرية التي يتزعمها «بابك الخرمي» صاحب الحول والطول، والذي أصبح خليفة المسلمين يخافه، ولا يبعد أن يكون أخوك سامان أحد أعضاء هذه الجمعية، ولا بأس بذلك فالخرمية يعملون على إعادة السلطة للفرس ومحاربة المسلمين.»
قالت: «لا أنكر ما في أخي سامان من مواضع الضعف، ولكنه أخي. وعلى كل حال ما لنا وله الآن ؟»
فأطرقت القهرمانة وهي تعجب لحسن ظن الفتاة بأخيها، رغم ما يظهر من قبيح أعماله وما تعتقده هي من سوء قصده، ولكنها أعرضت عن ذكره.
نامعلوم صفحہ
ورجعت إلى ما كانا فيه فقالت: «والآن ألا تبوحين لي بما شغلك؟»
فأعظمت جهان أن يغلب عليها الضعف إلى هذا الحد أمام مربيتها، فتحركت فيها الأنفة وقالت: «لا تستضعفيني يا أماه فقد تكونين واهمة، وإلا فاذكري لي سبب كدري إن كنت تعلمين.»
فقالت: «إن ضرغام هو السبب!»
فلما سمعت جهان ذلك خفق قلبها وعاد الدم إلى وجنتيها وأبرقت عيناها فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تنكري يا حبيبتي فعيناك تشهدان بأنك تحبين ضرغاما!»
فسكتت جهان منتظرة أن تسمع من خيزران استحسانا أو استهجانا لذلك الحب، فقالت القهرمانة: «إن ضرغاما شاب جميل وشجاع باسل، لا مثيل له في فرغانة ولا في غيرها من بلاد فارس.»
فقالت: «فهمت أنه شجاع وجميل ثم ماذا؟»
فهمت خيزران بأن تصرح برأيها ولكنها خافت على جهان فأطرقت وسكتت. فقالت لها جهان بصوت هادئ وجأش رابط: «صرحي يا أماه ولا تخشي شيئا.»
فقالت: «ليس في العالم أحسن من ضرغام لولا نسبه؛ فليس في فرغانة من يعرف أصله ونسبه حتى هو لا يعرف من أبوه.»
قالت جهان وهي تتشاغل بإصلاح القوس على كتفيها: «وماذا يقول الناس عنه؟»
قالت: «يقولون إنه مثال الشجاعة وكرم الخلق، عدا جماله وعلو همته وكبر نفسه. لكنهم يتساءلون عن نسبه، وأنا أذكر أمه عندما أتت إلى فرغانة تحمله، وكانت في إبان شبابها جميلة الطلعة، وقد خطبها غير واحد من أهل فرغانة فأبت أن تتزوج وانصرفت إلى تربية ابنها، فقد كانت على فقرها شديدة العناية به، ثم سمع سيدي المرزبان بخبرها فدعاها إليه وسألها ما خطبها فتكتمت في بادئ الأمر، ثم ذكرت أنها أخذت طفلة من حضن أمها في بادية الترك ونشأت في منزل أحد النخاسين بالعراق حتى انتهت إلى رجل من أهل تلك البلاد فأعتقها وتزوجها، ثم توفي قبل أن تضع حملها، فلما وضعته أحبت الانقطاع إلى تربيته. وقد شك سيدي المرزبان في قولها وأحب أن يجربها فعرض عليها أن يزوجها من أحد رجاله فأبت واعتذرت؛ فازداد شكا في حديثها، وأنزلها بجانب قصره وأمر لها بما تحتاج إليه من أسباب المعيشة، وكانت تحسن الخياطة وتعمل مع خدم القصر حتى أصيبت بالرمد وكف بصرها فكفت عن العمل وظلت في بيت أبيك كما تعلمين. ولما شب ضرغام تعلم ركوب الخيل والرمي بالنشاب وظهرت فيه سجايا نبيلة؛ فجعله مولاي المرزبان في جملة أعوانه. وكان يحبه ويجل مناقبه حتى بعث الخليفة المعتصم منذ بضعة أعوام إلى هذه البلاد ليجند الرجال من الأتراك والفراغنة والأشروسنيين، فتطوع ضرغام لخدمته. وكنت قد لحظت ما بينكما من الحب المتبادل الذي تحاولين الآن إخفاءه، ولكنني عجبت لذهابه وغيابه كأنه رأى نفسه أقصر باعا من أن ينالك للتباعد بينكما في المقام والنسب!»
نامعلوم صفحہ
وكانت القهرمانة تتكلم وجهان مصغية تسمع كلامها بشوق ولهفة. ثم أجابتها قائلة: «إنه تطوع للعمل في خدمة المعتصم لعلمه أن الرجال إنما تظهر مواهبهم في مثل هذا الوقت. وكان قد تغلب عليه الوهم الذي أراه متغلبا عليك؛ فرغم أنه لا يستحقني، وأنا أراه يفضلني بدرجات، فالمرء لا يقدر بمزارعه ومنازله وإنما بمواهبه ومناقبه، وأنت تشهدين والناس كلهم يشهدون بأنه لا يبارى في مواهبه ومناقبه. ولا ريب عندي أنه سيبلغ أرقى مراتب الجند، فقد سمعنا بأناس من رقيق البلاد ابتاعهم الخليفة ورباهم وجندهم فبلغ بعضهم وبلغوا مراتب القواد. فكيف بضرغام وهو كما تعرفينه وأعرفه!» وكانت تقول ذلك ولسانها يكاد يتلعثم لخفقان قلبها وثورة عواطفها.
فأدركت القهرمانة مما سمعت أنها عالقة بضرغام، وهي تعرف ثباتها على رأيها فلم تر أن تعارضها لكنها قالت: «لا شك عندي أن ضرغاما سينال مرتبة عليا في جند المعتصم، ولكن عروس فرغانة أرقى من أن ينالها القواد؛ فإن الملوك يخطبون رضاها.» قالت ذلك جادة تعني ما تقول لا على سبيل الإطراء والمجاملة. ولكيلا تترك لجهان وقتا للتفكير والجواب أظهرت أنها تعبت من الركوب والتفتت إلى ما حولها فوجدت أنها على مقربة من تل يشرف على أودية كانت تأتيها جهان للصيد، فقالت لها: «ألا ترين أن نترجل للاستراحة هنا قليلا ثم نعود إلى الركوب إذا شئت؛ لأني لا أصبر صبرك على هذه المشقة؟»
فأجابت جهان بالقبول. وترجلتا فسارع السائس إلى الجوادين فانتحى بهما ناحية، وافترش لنا ذنبها على صخرة مبسطة فوق التل قعدتا عليها واشتغل هو بعلف الجوادين. ثم أشارت جهان إلى الخادمين بأن يتوغلا في الأودية يستطلعان حال الصيد هناك.
الفصل الثالث
كتاب ضرغام
قالت القهرمانة لجهان: «كيف رأيت كلامي يا سيدتي؟»
قالت: «لا بدع إذا أطريتني وأعجبت بي فإني بمنزلة ابنتك وكل أم بابنتها معجبة حتى تظن الملوك يقتتلون عليها.»
فقالت: «إني لم أقل ما قلته إلا واثقة من صحته، وهل هناك شك في أن أعظم ملوك الفرس يطلبون رضاك؟!»
فهزت جهان كتفيها مفكرة مستبعدة وقالت: «ملوك الفرس؟ وهل للفرس ملوك اليوم؟» فاستبشرت القهرمانة بقرب إقناعها بعلو مرتبتها؛ لأنها على ثقة مما تقول فقالت: «لا تهزي كتفيك يا سيدتي. إن للفرس ملوكا عظاما لا يلبثون أن يعيدوا سلطان الأكاسرة. ألا تعرفين مازيار صاحب طبرستان؟ ألا تعرفين بابك الخرمي صاحب أردبيل؟ إن كلا من هذين ملك عظيم تخضع له الألوف من الأبطال، ولكنه في الوقت نفسه يخضع لعروس فرغانة، ويضحي بحياته في سبيل رضاها.»
فهزت جهان رأسها مستخفة وقالت وهي تنظر إلى جوادها الأدهم سارحا يرعى العشب: «دعينا من الملوك، لا أرب لنا في غير ضرغام. وما لنا وبابك ومازيار وأين نحن من أردبيل وطبرستان؟»
نامعلوم صفحہ
قالت: «إذا كنت في شك من قولي فاسألي أخاك سامان عن بابك الخرمي.»
قالت وقد تذكرت: «أظنني سمعته يطري صاحب هذا الاسم، ولكنني لا أثق بأقواله كلها كما تعلمين، ولم أكترث للأمر؛ لأن ضرغاما ليس مثله أحد عندي ولا رغبة لي في الملوك والأمراء.»
فقالت: «إذا كنت تستبعدين تلك البلاد فهذا الأفشين صاحب أشروسنة على مقربة منا، وهو الآن قائد جند المسلمين كافة في بغداد، وعما قليل يأتي لزيارة أبيك؛ لأن سيدي كتب إليه منذ أشهر يدعوه إلى زيارته في عيد النيروز .»
وكانت جهان حتى الساعة لا تبالي ما تقوله خيزران، فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وتغير وجهها وانقبضت نفسها، وصدت خيزران عن الكلام بكفها كأنها تقول: «كفي لا تذكري هذا الاسم!»
وأرادت هذه أن تستأنف الحديث فصاحت بها جهان قائلة: «دعيني من ذكر هذا الرجل؛ إني لا أتحمل سماع اسمه! إنه سبب كدري الذي زعمت أنك عرفته؛ فإن نفسي انقبضت منذ سمعت بقرب قدومه إلى فرغانة وأنه سيقضي بعض أيام عيد النيروز عندنا، ولو أني استطعت أن أقضي العيد في مكان بعيد لفعلت.»
فاستغربت خيزران كرهها للأفشين وقالت: «وهل أساء إليك الأفشين في شيء؟»
قالت: «ما أساء إلي ولا كلمني كلمة، ولكنني منذ رأيته يأتي لزيارة أبي ونفسي تعافه وتنكر النظر إليه. ولا أذكر أن شعوري خانني في الحكم على الناس!»
فقالت القهرمانة: «يا للعجب! ألا تعلمين أن الأفشين رئيس ضرغام، وإن غاية ما يبلغه ضرغام من التقدم في جند المسلمين أن يصير قائدا من قواد الأفشين وتحت رايته.»
فقالت بترفع وهدوء: «كلا يا أماه، إنه لا يعمل تحت رايته بل هو رئيس حرس الخليفة.»
قالت وقد ظهر الاستغراب في محياها: «وهل أنت على يقين مما تقولين؟!»
نامعلوم صفحہ
فنظرت إليها وابتسمت وقالت: «نعم، أنا من ذلك على يقين أصح من يقينك برغبة الملوك في طلبي!» ومدت يدها إلى جيبها وقالت: «وقد جاءني كتابه منذ بضعة أشهر يخبرني بذلك وينبئني بقرب قدومه إلى فرغانة، ولكنه إلى الآن لم يأت.» وأخرجت الكتاب ودفعته إليها لتقرأه وهو مكتوب بالبهلوية، فقرأت فيه:
من ضرغام في سامرا إلى حبيبة قلبه جهان في فرغانة
يا سيدتي، ولا أزال أدعوك سيدتي لأنك سيدة العالمين؛ وأنت أيضا حبيبتي لأنك ملكت قلبي وكل جوارحي. تركت فرغانة منذ بضع سنوات ولم أكتب إليك حتى الآن؛ لأني لم أكن أهلا لمخاطبتك، وكيف يتجاسر ضرغام الفقير اليتيم أن يخاطب جهان بنت المرزبان صاحبة السيادة مالكة الأموال والرقاب! وقد وعدتك يوم الوداع أن أبذل جهدي في طلب العلا، فإذا بلغت درجة تقربني من مقامك أتيت إليك والتمست رضاك وإلا فإني أموت في سبيل طلبك. وقد انتظمت في الجندية وخضت المعامع باسمك واستقبلت النبال بصدري وهو فيه فوقاني من الأذى. ولما ارتقيت في مراتب الجند حتى صرت رئيس الحرس في قصر الخليفة بادرت إلى زف البشرى إليك، وكأنك تسألينني عن عاقبة ذلك التقدم فإنه إن لم يكن لأكتسب به رضاك فلا مأرب لي فيه؛ لأني لا أرى للحياة قيمة إن لم تكن لك ومعك. وقد أخذت أسعى في الشخوص إلى فرغانة لأقبل يد سيدي المرزبان وأحظى بمشاهدة حبيبتي جهان، ولولا بعض المشكلات التي نخاف عواقبها على الخلافة لجئت إليك منذ أشهر، على أني ظفرت الآن بوسيلة تساعدني على الرحيل؛ ذلك أن أمير المؤمنين بنى سامرا بالقرب من بغداد كما تعلمين لتكون خاصة به ليجعل فيها جنده الأتراك وأنا واحد منهم، وقد أراد أن ينتصر بهم على الأحزاب المختلفة التي نشأت في المملكة الإسلامية من الفرس وغيرهم، وخشي على هؤلاء الجنود إذا اختلطوا بسكان المدن المجاورة أن تذهب شدتهم ونخوتهم؛ فارتأى أن يزوجهم جواري تركيات من وراء النهر، وعين أناسا يرسل بهم إلى ما وراء فرغانة يبتاعون الجواري والإماء ويعودون بهن. وقد أعربت له عن رغبتي في زيارة وطني وطلبت السماح لي بمصاحبة ذلك الوفد، فوعدني الخليفة بتحقيق هذه الرغبة. فعسى أن آتيك قريبا. وقد عهدت في توصيل كتابي هذا إلى رجل من خاصتي. أمي تهديك السلام.
فلما فرغت القهرمانة من تلاوة الكتاب همت بجهان وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهي تقول: «بورك فيك وفيه، إنه أهل لك. صدقت؛ إن الرجل بأعماله لا بماله، وإذا كان قد أصبح رئيس الحرس بجده وبسالته فكيف بعد أعوام والدولة الإسلامية لا تزال حروبها قائمة ومثل ضرغام لا يعدم وسيلة للارتقاء!»
فسرت جهان لموافقة القهرمانة على ما في ذهنها لكنها ما لبثت أن استدركت وقالت: «إن هذا الكتاب جاءني منذ عدة أشهر ولم يأت ضرغام ولا عرفت شيئا عنه.»
قالت: «لا تجزعي إنه آت. ولكن ...» وأطرقت كأنها تفكر في أمر طرأ لها . فقالت جهان: «ولكن ماذا؟ قولي يا أماه!»
قالت: «ولكن أباك قد لا يرضى بضرغام.»
قالت: «لم أخاطبه في شأنه بعد، ولكنني أعلم أنه يحبه ويجله. كما أنه لم يمنعني أمرا أردته قط.»
قالت: «أعلم أن سيدي المرزبان يحب ضرغاما ويجله، ولكن هناك أمرا آخر هل فكرت فيه؟»
قالت: «وما هو؟»
نامعلوم صفحہ
قالت: «إن ضرغاما مسلم على ما أعلم، فكيف يصح زواجه بك إلا إذا اعتنقت الإسلام.»
فقالت: «وما يمنعني من ذلك، والإسلام دين الدولة؟!»
فقالت: «وتتركين ديانة أبيك وعشيرتك؟!»
قالت: «إذا كانت هذه الديانة تحول بيني وبين ضرغام فإني أتركها؛ لأني أحب أن أكون حيث يكون هو في الدنيا والآخرة.» قالت ذلك واغرورقت عيناها وهي تبتسم.
وأحست القهرمانة أن الحديث طال وتحرج، فأحبت أن تشغل عنه جهان فنهضت وقالت: «مضى قسم من النهار ولم تباشري الصيد، فاركبي فرسك وأنا أتبعك وألهو بما أشاهده من مهارتك في مطاردة الغزلان.» •••
أشارت جهان إلى السائس أن يأتي بالجواد والقوس والنبال، ثم نظرت إلى الجبال أمامها لتختار جهة تركب إليها، فبصرت بوعل يركض على صخر قريب منها، ولم تكن تعهد وجود الوعول في تلك الجهة فبغتت وصاحت بالسائس: «فيروز، هات القوس.»
فأسرع إليها بالقوس فأوترتها وسددت السهم، وأسرت أنها إذا أصابت طريدتها كان ذلك فألا بنيلها ضرغام وقرب مجيئه وإلا فلا. ونظرت إلى الوعل فرأته وقفا على تلك الصخرة والتفت نحوهم فرمته بأسرع من لمح البصر وسمعت طنين النبل في الهواء وخيزران تنظر إلى الوعل وتخاف أن يفر قبل إطلاق السهم فما لبثت أن رأته سقط ثم انقلب إلى شق بين صخرين فصاحت جهان: «وقع وقع ... إلي به يا مرجان.» فركض ورفيقه والسائس في أثرهما، وظلت جهان واقفة وقلبها يكاد يطير من الفرح، ثم تقدمت خيزران إليها وهي تضحك وتقول: «لقد سرني رمي هذا الوعل، ليس لأنك أصبته فقط ولكنني قبل أن ترميه أضمرت أن يكون فوزك في صيدك هذا رمزا إلى فوزك بضرغام.»
فابتسمت جهان وقالت: «وهذا ضميري أيضا ... أتقولين بعد ذلك إن ضرغاما يليق بي؟»
قالت: «بسطت لك رأيي وأنا الآن أكثر رغبة فيه.» وضحكت تمازحها.
فانبسطت نفس جهان وسري عنها بعد مكاشفة خيزران. ثم سمعت صياحا فالتفتت فرأت الرجال يجرون الوعل جرا لثقله فأسرعت إليهم فرأت الوعل ميتا لا حراك به. فتعجبت من سرعة مصرعه بسهم واحد. فلما وصلت إليه رأت سهمها لا يزال مغروسا في خاصرته ولاحت منها التفاتة فرأت سهما آخر في ليته فصاحت: «إنه مصاب بسهمين وأنا لم أطلق إلا سهما واحدا. هو ذا السهم الآخر!»
نامعلوم صفحہ
وأمرت مرجان أن يستخرجه فأخرجه بعد عنف شديد وهو يقول: «إن الوعل مات بهذا السهم.» ودفعه إلى جهان فتناولته وقلبته بين أناملها فرأت على ريشه كتابة بالعربية وكانت تحسن قراءتها، ولم تكد تتبين أحرفها حتى صاحت: «ضرغام ... ضرغام! إني أقرأ اسم ضرغام على هذا السهم.» فتقدم مرجان، وكان يقرأ العربية أيضا، فقال: «هو اسم ضرغام.»
فبهتت جهان والتفتت إلى خيزران وهي تتجلد خوفا من ظهور بغتتها أمام الرجلين، ثم أمرتهما أن يذهبا بالوعل إلى مكان يذبحانه فيه ويفعلان به ما شاءا، فلما ابتعدا قالت: «ما قولك في هذه المصادفة؟»
قالت: «يظهر أن ضرغاما قريب من هذا المكان وهذا سهمه قد رمى الوعل به فحمل الوعل جرحه مسافة طويلة؛ لأن هذه الوعول لا تسرح إلا عند ضفاف نهر الشاش على مسافة بعيدة من هذا المكان.»
فأطرقت جهان وهي تحسب نفسها في حلم ثم قالت: «إنها مصادفة غريبة! على أني أخاف أن نكون قد أخطأنا الظن. ولكن لا ... إن قلبي يحدثني بصدق ظني ... فإذا كنت مصيبة فأين تظنين ضرغاما الآن؟»
قالت: «أظنه معسكرا على ماء للاستراحة قبل دخول فرغانة، ولا أعرف ماء في هذه الجهة إلا نهر الشاش فلعله معسكر على ضفته الشرقية.»
قالت: «وهل هذه الضفة بعيدة عنا؟»
قالت: «إنها على فرسخ وبعض الفرسخ من هنا. أظنك تريدين الذهاب؟»
فابتسمت والخجل يعارض ابتسامها، وحدقت في خيزران لتستطلع حقيقة غرضها من السؤال، فرأتها تنظر إليها باهتمام فعلمت أنها تشاركها شعورها فقالت: «وهل تظنين في ذهابي إليه بأسا؟»
فأشفقت خيزران على عواطفها وأحبت مجاراتها فقالت: «لو علم القوم أنك ذاهبة إليه عمدا لتحدثوا بذهابك، ولكننا إذا لقيناه اتفاقا فلا بأس، على أن المكان بعيد لا يخلو الذهاب إليه من المشقة. هل تستطيعين ذلك؟»
قالت: «لا مشقة علينا ونحن راكبتان، هلمي بنا.» قالت ذلك والتفتت إلى الرجلين فرأتهما مشتغلين بذبح الوعل بعيدا.
نامعلوم صفحہ
فأدركت خيزران أنها تريد استقدامهما فسبقتها إلى ذلك وقالت: «أرى أن آتي بخادمك فيروز يسير في ركابك وتأمري الآخر بالذهاب مع بقية الموكب بباب المدينة ينتظرنا مع بقية الخدم هناك.»
فاستحسنت جهان رأيها، فمشت خيزران إلى الرجلين ونادتهما وأومأت إلى فيروز أن يأتي فأسرع مهرولا فأمرته بإبلاغ رفيقه أن يذهب للانتظار مع بقية الركب، وبأن يأتي هو بالجوادين، ويظل في ركابهما ففعل، وانطلق خلفهما لا يدري إلى أين تسيران.
الفصل الرابع
ضرغام وجهان
أدارت جهان رأس جوادها نحو النهر ومضت وعيناها شائعتان في الأفق لعلها ترى حبيبها قادما، وبجانبها خيزران على جوادها. وكانت الشمس قد تكبدت السماء، ونسيت جهان لفرط انشغالها أنها لم تذق طعاما في ذلك اليوم. وقد يغلب الحب على صاحبه حتى ينسيه وجوده.
وظل الجوادان يسيران بهما في أرض بعضها مزروع وفيه الأجراء الذين يعرفون عروس فرغانة، كما يعرفون جوادها وخادمها. فكانوا يقفون لها احتراما ويبتسمون إعجابا، وهي لا تبتسم لتبلبل بالها. وبينما هي غارقة في تفكيرها صهل فرسها وفرس خيزران فانتبهت ونظرت أمامها فرأت على مقربة منها مزرعة فيها خيام كروية السقف على شكل خيام التركمان - وهم يبنونها مستديرة وسقفها قبة - ورأت بين الخيام بضعة جياد وغلامين يحلبان فرسين على عادة أهل بادية تركستان إذ يغتذون بألبان الخيل كما يتغذى بدو العرب بألبان الإبل.
فلما رأتهم جهان أرادت أن تسلك طريقا آخر لا يمر بهم توفيرا للوقت. ولكن خيزران حولت شكيمة جوادها نحوهم وأشارت إليها أن تتبعها قائلة: «أرى يا مولاتي أن نسأل هؤلاء القوم عن ضرغام لعلهم رأوه مارا فيغنينا ذلك عن تكبد المشقة في الوصول إلى النهر؟»
فاستحسنت جهان رأيها وحولت إليهم شكيمة جوادها أيضا. فلما رآهما أحد الغلامين فنهض وقد علم من قيافة جهان أنها أميرة كبيرة وأسرع إلى أبيه في إحدى الخيام يدعوه إلى استقبال الأضياف. فجاء الرجل وهو فلاح شيخ يتوكأ على عكازه، وما وقع بصره على جهان حتى عرفها. فأمر أولاده بأن يعاونوها على الترجل مبالغة في الحفاوة بها، ولكنها لم تشأ النزول وأثنت على الرجل. ثم التفتت إلى خيزران كأنها تحرضها على السؤال، فقالت لها هذه: «انزلي يا سيدتي للاستراحة هنيهة ثم نركب.» فأطاعتها مرغمة واستلم فيروز زمام الجوادين وابتعد بهما عن المكان لئلا يشوشا الموقف بالصهيل مع بقية الخيل.
ولما ترجلتا خاطبهما الشيخ بلطف وسذاجة قائلا: «ألا تشرفنا بنت المرزبان بجلوسها لحظة في هذا البيت الحقير؟» فخجلت وجلست على جلد افترشوه لها ولرفيقتها. وقبل أن تهم خيزران بالسؤال جاء الغلام يحمل قدحا من الخشب فيه سائل عرفت أنه لبن الأفراس فاعتذرت بأنها لا تشعر بالجوع. فقال الشيخ يخاطب غلامه: «قدم لها قدحا من القومز، وهو لبن الخيل يخمرونه ويقدمونه شرابا للزائرين كما يقدم العرب السويق وكما يقدم أهل هذا الزمان الليمونادة أو الشاي. ونظر إلى جهان وقال: «هذا القومز لا يستدعي جوعا فإنه كالماء ويزيل التعب.»
فلم تستطع جهان رده فتناولته، فاغتنمت خيزران تلك الفترة وخاطبت الشيخ قائلة: «ألم يمر بكم أضياف غيرنا في هذا اليوم؟»
نامعلوم صفحہ