أبطال الرواية
مراجع رواية عروس فرغانة
1 - فذلكة تاريخية
2 - جهان عروس فرغانة
3 - كتاب ضرغام
4 - ضرغام وجهان
5 - في قصر المرزبان
6 - ضرغام وجهان
7 - اجتماع المحبين
8 - موت المرزبان ووصيته
9 - بين الأفشين وجهان
10 - المعتصم و«سامرا»
11 - أم ضرغام
12 - المعتصم والأسد
13 - أحمد بن أبي دؤاد
14 - المعتصم والعرب
15 - فراق فرغانة
16 - بين بابك وجهان
17 - يأس ضرغام
18 - سقوط البذ
19 - مصرع بابك
20 - فتح عمورية
21 - محاكمة الأفشين
22 - نسب ضرغام
أبطال الرواية
مراجع رواية عروس فرغانة
1 - فذلكة تاريخية
2 - جهان عروس فرغانة
3 - كتاب ضرغام
4 - ضرغام وجهان
5 - في قصر المرزبان
6 - ضرغام وجهان
7 - اجتماع المحبين
8 - موت المرزبان ووصيته
9 - بين الأفشين وجهان
10 - المعتصم و«سامرا»
11 - أم ضرغام
12 - المعتصم والأسد
13 - أحمد بن أبي دؤاد
14 - المعتصم والعرب
15 - فراق فرغانة
16 - بين بابك وجهان
17 - يأس ضرغام
18 - سقوط البذ
19 - مصرع بابك
20 - فتح عمورية
21 - محاكمة الأفشين
22 - نسب ضرغام
عروس فرغانة
عروس فرغانة
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
المرزبان طهماز:
من سراة فرغانة.
عروس فرغانة:
جهان بنت طهماز.
القهرمانة خيزران:
مربية جهان.
سامان:
شقيق جهان.
ضرغام:
رئيس حرس المعتصم.
الأفشين حيدر:
قائد جند بغداد.
آفتاب:
والدة ضرغام.
أحمد بن أبي دؤاد:
قاضي القضاة.
بابك الخرمي:
صاحب أردبيل.
مراجع رواية عروس فرغانة
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ: ابن الأثير - المسعودي - المقدسي.
تاريخ التمدن الإسلامي.
البلدان لليعقوبي.
معجم ياقوت.
سير الملوك.
رحلة ابن بطوطة.
تاريخ طبرستان لابن اسفندبار.
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
فرغانة مدينة كبيرة على حدود تركستان، كانت عاصمة الكورة المسماة باسمها، وكان الفرس يسمونها «اخشيكسيت». وهي تطل على ضفاف نهر جيحون الذي يسميه العرب نهر «الشاش» ويسميه الإفرنج نهر «يكسارت» والأتراك يسمونه نهر «سرداريا».
وبيننا وبين فرغانة بعد شاسع يستغرق قطعه بضعة أشهر، في السير شرقا عبر الشام فالعراق ففارس فخراسان. ثم عبور نهر سيحون واختراق بخارى وسمرقند وأشروسنة للوصول إلى ضفاف جيحون أو نهر الشاش، بعد اجتياز كثير من الجبال والصحاري والسهول والأودية، ومشاهدة أمم شتى فيما بين سيحون وجيحون. تختلف لغة وعنصرا ودينا. ناهيك بالمفاوز التي يعسر سلوكها، وكثرة قطاع الطرق فيها، وأكثرهم من بدو التركمان وهم أهل خشونة وسطو.
وقد استطاع العرب بعد الإسلام أن يفتحوا الشام والعراق ومصر وفارس في بضع عشرة سنة. لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى فرغانة إلا في أواخر القرن الأول للهجرة. وكان فتحها على يد قتيبة بن مسلم فاتح تركستان سنة 94ه. ولم يستعمرها العرب أو يقيموا بها إلا بعد ذلك بأعوام عديدة. وكانت تابعة لعامل خراسان في تأدية الجزية والخراج.
وبرغم ما تقدم ذكره من المفاوز والجبال في الطريق إلى فرغانة، كان المسافر إليها إذ ينتهي بعد تلك الأخطار إلى نهر جيحون يسير ما بقي من الطريق حتى مدينة فرغانة على ضفة النهر الشرقية، فيرى هنالك الأسواق والقصور ذات الأسوار العالية، ويرى الأرباض والبساتين على ضفتي النهر ممتدة في أرض مستوية مساحتها ثلاثة فراسخ. ثم يرى شماليها جبلا وعرا على بعد ميل منها. ويرى وسطها قلعة عظيمة يقال لها في اصطلاح الفرس «قهندر» شيدت لتعتصم بها حامية المدينة عند الحاجة. ولذلك بنيت بناء متينا بالأحجار الضخمة دون كل أبنية المدينة المتخذة من الطين. وحول القلعة سور له أربعة أبواب. تليه أرباض فسيحة، ثم سور ثان بأبواب أربعة أيضا. ويتخلل المدينة والأرباض مياه جارية وحياض كثيرة. هذا إلى ما يحيط بالمدينة كلها من بساتين ملتفة ونهيرات جارية تصلها بالنهر. فكانت هذه المنطقة من أنزه بلاد تركستان أو ما وراء النهر.
وكان سكان فرغانة عند الفتح الإسلامي خليطا من أهل البلاد الأصليين الذين يسمونهم «طاجية». وجماعات من الفرس والهنود والأتراك وأهل الصين. وكان الفرس أرقاهم جميعا. بل كانوا أرقى المشارقة في ذلك العصر. فكانت لهم الرياسة والسياسة والنفوذ الأدبي والديني، لأنهم كانوا ينقلون معهم تمدنهم حيثما حلوا. وكانت لغتهم البهلوية (الفارسية القديمة) لغة الطبقة الراقية في الشرق الأقصى، كما هو شأن اللغة الفارسية الحديثة الآن. وكانت لغة أهل فرغانة الأصليين التركية القديمة المعروفة بالشاغطائية. وكانت المجوسية دين أكثر الفرس حتى ذلك الحين.
وحينما فتح العرب فرغانة كان يحكمها أمراء أو ملوك يلقب كل منهم بلقب خاص بهم هو «أخشيد ». كما يلقب ملك الحبشة بالنجاشي، وملك الروم بقيصر، وملك الفرس بكسرى. وكان الأخاشيد الذين يتولون أجزاء كورة فرغانة كثيرين. فلما دخلت في حوزة المسلمين وألحقوها بإمارة خراسان، لم تبق بها حاجة إلى ملوكها المذكورين، ولم يعترضهم المسلمون في دينهم أو عاداتهم أو شيء من أحوالهم، فبقي أكثرهم في البلاد يتمتعون بالسكينة والعيش الهنيء في ظل المسلمين، ونزح بعضهم إلى قلب المملكة الإسلامية في العراق، فتقربوا إلى بلاط الخلفاء وخدموهم واعتنقوا الإسلام وتولوا الأعمال، وأشهرهم الأخشيد طغج بن جف صاحب مصر.
الفصل الثاني
جهان عروس فرغانة
أصبح أهل فرغانة في يوم من أيام سنة 221 للهجرة وهم يتأهبون للاحتفال بالنيروز (رأس السنة). فأخذوا في إقامة معالم الزينة، ناصبين الأعلام الملونة فوق منازلهم، معلقين طاقات الرياحين على أبوابها. ثم تقاطروا إلى الأسواق يبتاعون الألبسة الجديدة لهم ولأولادهم، وأطباق الحلوى وغيرها من المآكل التي تكفي خلال أيام العيد الستة.
ولو دخلت المنازل لرأيت النساء قد أوقدن النيران لإعداد الأطعمة والحلوى، وأحمين الحمامات للاغتسال. ولرأيت الجواري مشتغلات بتزيين الأولاد والطبخ وعجن أرغفة العيد. وهي أرغفة كان يصنعها الفرس في ذلك اليوم من حنطة السنة الجديدة ليقتسموها صباح العيد متفائلين بأكلها استبشارا بخصب تلك السنة.
وكانوا يتعاملون في ذلك اليوم بالنقود الجديدة ويتهادون الحبوب الجديدة على أطباق من الفضة ونحوها، ويترامون بالبيض والثمار.
أما الأسواق فكانت في ذلك الصباح تحفل بالمارة من الرجال والأولاد. هذا يحمل قفة وذاك ينقل سلة، وذاك يسوق حمارا أو فرسا، وكلهم يتسابقون إلى المنازل أو إلى بيت النار، يحملون الهدايا لأولادهم أو للموبذان - كهان المجوس - وقد تصاكت مناكبهم وتصادمت أقدامهم.
ولو أنك صعدت إلى القلعة الكبرى (القهندر) القائمة وسط المدينة وأشرفت من سطحها على أطراف فرغانة، لرأيتها أشبه بخريطة مرسومة على ورق أو صورة ملونة. فحول القلعة مبان متشابهة من الطين كلها من طبقة واحدة ما عدا بناءين: أولهما «بيت النار» وهو الهيكل الذي يتعبد فيه المجوس. وكانت المجوسية لا تزال متغلبة هناك، ويسمونه «كارشان شاه». وهو رفيع العماد يظهر بارزا بين أبينة المدينة كالنخلة بين الرياحين وقد نصبوا حول سطحه رايات من الديباج طول الواحدة منها عشرات من الأذرع، مرسلة في الفضاء يلاعبها الهواء، أكثرها خضراء اللون. أما البناء الثاني فهو «بيت المرزبان» - والمرازبة هم حكام المقاطعات في عهد الأكاسرة - وحول البيت حديقة فيها من كل فاكهة زوجان.
وهناك وراء سور المدينة امتدت الأغراس والأعناب والرياحين تتخللها مجاري الماء وتتغنى على أفنانها الأطيار.
فبينا أهل المدينة في ذلك الاحتفال إذا بموكب جليل يخترق الأسواق ويشغلهم عما هم فيه لفخامته وغرابته. وهو مؤلف من مركبة كبيرة أشبه بالغرفة منها بالعربة، فوقها قبة من الفضة المموهة بالذهب قائمة على أعمدة من الخشب الملون بينها ستائر من الديباج الأزرق، ويجر المركبة جوادان مجللان بالحرير المزركش، وقد ركب السائق أحدهما وفي يده سوط يسوقهما به. وعود كبير يصوبهما به إذا عاجا عن القصد. ويكتنف المركبة بضعة من الخصيان يركضون إلى جانبيها، وقد أرخيت الستائر على الراكبين فلا يراهم أحد. على أنه لم يكن في فرغانة أحد من الرجال أو النساء لا يعرف صاحب هذه المركبة؛ إذ ليس هناك مثلها، وهي مركبة مرزبان المدينة، أهداها إليه بعض أهل امرأته في بلاد القوقاز؛ إذ كان فارسي الأصل وامرأته جركسية من القوقاز. وأهل تلك البلاد يستخدمون هذه المركبات لحمل الخواتين في خروجهن أو أسفارهن، وفي المركبة كل ما يحتاج إليه الخاتون من الأدوات حتى الطعام والشراب، فكان أهل فرغانة لا تمر بهم هذه المركبة إلا تشوقوا لرؤية من فيها لعلمهم أنها تقل بنت المرزبان التي يحبونها ويجلون قدرها ويعجبون بجمالها وتعقلها. وكثيرا ما رأوها تمر بهم في مركبتها وقد أزاحت ستائرها فلا تحتجب عن أحد. وإذا وقع بصرها على أحدهم ابتسمت له ابتساما يزيده تهيبا منها.
أما في ذلك اليوم فكانت ابنة المرزبان قد أرخت ستائر المركبة، وأركض السائق الجوادين، وأدرك المارة من إسراعه أنه يريد الخروج من المدينة. ثم رأوا وراء المركبة جوادين مسرجين لا يقودهما سائق ولا يركبهما راكب، أحدهما أدهم على سرجه جعبة مملوءة بالنبال فلم يخف على العارفين أن الجواد لصاحبة المركبة وقد تعودوا أن يروها خارجة عليه بألبسة الرجال للصيد أو السباق، ووراء الجوادين خدمة الصيد وفيهم أصحاب الكلاب والفهود. ولم يعجب أهل فرغانة لرؤيتهم معدات الصيد هذه؛ لأنهم يعلمون مهارة بنت المرزبان فيه، ولكنهم عجبوا لخروجها في ذلك اليوم.
وكان بين المارة رجلان؛ أحدهما تاجر من أهل فرغانة، والآخر قريب له من أهل «خوقند» أتى لقضاء أيام النيروز عنده. ولم يكن رأى شيئا من ذلك قبلا. فسأل رفيقه عن صاحب هذا الموكب فقال: «هو موكب الخاتون «جهان» بنت المرزبان «طهماز». ألم تسمع عنها من قبل؟»
قال: «سمعت في المرة الماضية عن مرزبان يقيم بهذه المدينة معتزلا وأنه ذو ثروة طائلة وليس له إلا ابنة سمعت الناس يتحدثون بجمالها، فهل هي وحيدته؟»
قال: «لها أخ أجرد قبيح الخلق والخلق كأنه ليس أخاها.»
قال: «لعل المرزبان من أهل المدينة؟»
قال: «بل هو غريب عنها جاءها وهو شاب منذ ثلاثين سنة أو أربعين، واتخذها وطنا له فرارا من المسلمين العرب. وكان حاكما في بعض مقاطعات فارس فقاسى اضطهادا ولم يشأ أن يبدل دينه فأتى بأمواله وأقام هنا.»
فسأله: «وهل هو غني يا صاحبي؟»
قال: «له ثروة طائلة، وأكثر المغارس خارج فرغانة على ضفة نهر الشاش ملك له، فضلا عن المنازل والنقود والجواهر. ولكن ما لنا وله؟ دعنا من ذلك وامض بنا إلى سوق اللحم لنبتاع خروفا نذبحه لأولادنا.»
وكان رفيقه من محبي الاطلاع على أخبار الناس والاعتراض على أعمالهم فلم يصغ لرأي صاحبه، بل قال: «قل لي كيف تخرج هذه الخاتون من البيت في مثل هذا اليوم؟»
فضحك رفيقه وقال: «كأنك تريدها أن تبقى في البيت لتعجن العجين وتخبزه ولتطبخ الطبيخ كما تفعل نساؤنا؟! إنها يا صاحبي سيدة بيت أبيها، وقد توفيت والدتها منذ أعوام فلم يتزوج المرزبان بعدها إكراما لها، فهو يحبها حبا جما ويعاملها كأنه عاشق يدلل عشيقته!»
قال: «لست أعني أن تقيم في البيت للعجن أو الطبخ بل تبقى فيه لاستقبال الزائرين الذين يتوافدون على بيت أبيها بالهدايا والتحف في يوم العيد.»
فقطع الآخر كلامه قائلا: «دعنا من ذلك يا صديقي، وسر بنا إلى السوق لننتقي خروفا نشتريه.»
وكان الموكب قد جاوز الرجلين حتى خرج من المدينة إلى الأرباض، ومنها إلى البساتين، فوقف عند مضرب لبعض أتباع المرزبان تعودوا استقبال هذا الموكب فخفوا لملاقاته. فلما وقفت المركبة ترجل السائق ووقف بجانب الجوادين ليمنعهما من السير أثناء نزول الخاتون، وتقدم أحد الخصيان للأخذ بيدها، وكانت قد قربته للطفه وخفة ظله واسمه «مرجان». فوقف بجانب المركبة لا يتجرأ على إزاحة الستارة. فطال وقوفه دون أن تفتح أو تطل الخاتون، ولكنه سمع حديثا داخل الستارة فتاق إلى معرفته، ولكن رده التهيب عن الإصغاء لسماعه. وكان رجال الموكب والأجراء في المزرعة واقفين ينتظرون ترجل جهان. فلما أبطأت قلقوا. وكان جوادها الأدهم أشد قلقا منهم. فأخذ يفحص الأرض بقوائمه وسائسه لا يقوى على زجره. ثم صهل كأنه ينادي صاحبته أو يستعجلها، فإذا بستارة المركبة قد أزيحت ونزلت منها امرأة كهلة في الخمسين من عمرها عليها سمات الرزانة، وقد زادها الانقباض فتنة، وكانت ترتدي ثوبا يغطي كل جسمها، وعلى رأسها وعنقها خمار أحمر لا يظهر غير وجهها. فعرف الواقفون أنها القهرمانة خيزران مربية جهان ووصيفتها ومستودع أسرارها.
وبعد أن ترجلت القهرمانة مدت يدها لاستقبال سيدتها، فنزلت «جهان» حتى وقفت بجانب المركبة والأبصار شاخصة إليها للتمتع بجمالها الجاذب النادر. وكانت قد لبست ذلك اليوم ثوب الصيد، وهو يتألف من السراويل والقباء أو الدراعة، وتزملت بما يشبه العباءة من الحرير المزركش، ولفت رأسها بعمامة أشبه بالعصابة تغطي الجبين إلى الحاجبين، وأرسلت منها ذؤابتين خلف العنق اتقاء حر الشمس. وأدارت العباءة حول العنق حتى لا يبدو منها غير بعض وجهها.
وكانت طويلة القامة جليلة الطلعة، في وجهها هيبة وصحة وجمال، وعيناها كبيرتان فيهما نور وذكاء وجاذبية لا يعبر عنها بغير السحر؛ ولذلك يشعر من يبادلها النظر أو الحديث بسلطانها على قلبه وعقله فلا يقوى على التبسط معها في الحديث ، ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها في أمر كأنها ملكت عليه إرادته فيصبح آلة بيدها. وكان الناس ينتظرون خروجها من منزلها للصيد أو النزهة فيقفون في الطرق ليشاهدوا محياها فكانت تبتسم للناظرين فتزيدهم تعلقا بها.
أما في ذلك اليوم فخاب فألهم؛ لأنهم رأوا في وجهها قلقا وفي عينيها دمعتين تحاول إخفاءهما بالابتسام.
ولو أنك نظرت إلى جهان في بيتها وقد أزاحت اللثام حتى ظهر عنقها وأرخت شعرها، لرأيت قوة الجنان ورباطة الجأش ظاهرتين حول فمها وفي ذقنها، وتجلت لك قوتها في اندماج عنقها. وقد تعجب لأول وهلة من اختلاف ملامحها عن ملامح الفارسيين وأبوها منهم. فإذا علمت أن أمها جركسية زال تعجبك وعلمت أنها ورثت تلك الملامح عن أمها، كما ورثت عنها كثيرا من سجايا الجراكسة كالقوة والشجاعة والأنفة وتعود ركوب الخيل والسباق بها والخروج للصيد. على أنها أخذت عن أبيها ذكاء الفرس وتعقلهم ودقة إحساسهم؛ فكانت لهذا وذاك نادرة عصرها جمالا وجلالا، وشغف بها الفرغانيون وسموها «عروس فرغانة».
فلما نزلت من المركبة ورأت الناس وقوفا لانتظارها وهم شاخصون بأبصارهم إليها، حيتهم على عجل خوفا من ظهور اضطرابها وهي حريصة على كتمان ما بها؛ ثم التفتت إلى القهرمانة وقالت بصوت موسيقي جميل: «أين الجواد يا أماه؟» وكانت تناديها بذلك تلطفا وتحببا؛ لأنها ربتها من صغرها وكانت ضنينة بها شفيقة عليها؛ ولذلك كانت جهان تستودعها أسرارها وتكشف لها عن مكنونات قلبها. ولم تبطئ في الخروج من المركبة إلا لاشتغالها بالتحدث إليها في شيء أهمها.
فأشارت القهرمانة إلى السائس، فأتى بالجواد يختال تيها كأنه يرقص، فلما دنا من جهان نظرت إليه وابتسمت ثم داعبت جبينه بأناملها، وكان على جبينه شعرات بيضاء تمثل أسدا رابضا فسمته لذلك «شير» وهو اسم الأسد بالفارسية. فلما شعر الجواد بأناملها استأنس وأخذ يضرب الأرض برجله. ثم التفتت القهرمانة إلى الواقفين وقالت: «إن مولاتنا ذاهبة إلى الصيد فامكثوا مع المركبة هنا لإعداد الطعام، وليتبعنا منكم رجلان يحسنان الركض حتى إذا وقع لنا صيد أتيا به.» ثم امتطت جهان جوادها الأدهم بأسرع من البرق، وقدم «فيروز» السائس للقهرمانة خيزران جوادها، وأعانها على الركوب، فركبت وأشارت إلى السائس أن يتقهقر ويمشي مع الرجلين الآخرين وأحدهما مرجان، وساقت جوادها إلى جانب جواد سيدتها وسارتا متلازمتين، وقد تنكبت جهان القوس وأما جعبة النبال فكانت معلقة بالقربوس، والتمست عرض البر والجوادان يسيران معا على مهل، والأرض سهلة وأكثرها مزروع، وتبدو في أقصاها الجبال المحيطة بالمدينة.
كانت جهان قد تعودت الذهاب في الشعاب والأودية مع الفهادين وأصحاب الكلاب لاصطياد الغزلان أو حمر الوحوش أو الوعول. ولكنها في هذا اليوم لم تصطحب أحدا من أولئك؛ لرغبتها في الانفراد، وإنما اتخذت الصيد حيلة للخروج.
فلما أمعنتا في الخلاء التفتت القهرمانة إلى جهان لفتة حنو وانعطاف وقالت: «والآن يا سيدتي ألا تكشفين لي عن سبب انقباضك، وأنت تعلمين أني مستودع أسرارك وأسرار أمك من قبلك؟»
فتنهدت جهان وقالت: «دعيني يا أماه من هذا الحديث، إنما جئت لأروح عن النفس بالصيد.»
فضحكت القهرمانة وقالت: «وهل تريدين مني أن أصدق أنك خرجت للصيد وأنا التي اخترعت هذه الحيلة لنخرج معا؟ أم تحسبين سرك خافيا علي؟!»
فأرادت مغالطتها فقالت: «أتستغربين انقباضي وأنت ترين أبي مريضا بالنقرس منذ أعوام. وقد سمعت طبيبه يصرح بضعف الأمل في شفائه؟! إنني إذا أصيب أبي بسوء أصبح وحيدة لا أهل لي هنا، ولست أعرف أهل أبي في بلاد فارس ولا أهل أمي في بلاد القوقاز، ولا أدري مع ذلك كيف ...!» وغصت بريقها.
فقالت القهرمانة: «إن مرض سيدي المرزبان لم يحدث بغتة، وقد كنت تخافين على حياته من قبل ولم يبد عليك مثل هذا الانقباض ... وإنما سببه سر أنت شديدة الحرص على كتمانه، ولكنني أعرفه!»
فالتفتت إليها جهان مستغربة وتفرست في عينيها ووجهها كأنها تحاول أن تقرأ ضميرها، فتأثرت القهرمانة من نظرها وبما تلألأ في عينيها وهي تغالب عواطفها وقالت: «نعم إن سرك غير خاف علي، وإن كنت تحاولين إخفاءه حياء. وأرى هذا الحياء يبدو على وجهك الآن.»
فصعد الدم إلى وجنتي جهان فتوردتا وأشرق وجهها وأبرقت عيناها بريقا ينم عما يجيش في قلبها من لواعج الحب. واعتراف العينين حجة صادقة مهما يبالغ صاحبهما في الإنكار. فإذا قالت العين قولا وقال اللسان آخر فالصادق هي لا هو، خصوصا من يكون مثل جهان في رقة الإحساس وقوة العاطفة؛ فقد كانت كبيرة القلب وكبيرة العقل معا، ولكن الضعف النسائي غلب عليها في تلك اللحظة فأطرقت، فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تعجبي يا سيدتي لاطلاعي على السر، ولست أنا وحدي المطلعة عليه فإنه متداول بين أهل القصر لا يجهله أحد غير أبيك، ولولا تهيب أهل القصر لنقلوه إليه ولكنهم لا يستطيعون ذلك إلا على يدي وأنا لم أفعل.»
فبغتت جهان وقالت وهي تتشاغل بإصلاح عرف جوادها: «وأخي سامان؟ هل يعلمه أيضا؟!»
فابتسمت ابتسامة تشف عن تألمها من ذكر ذلك الاسم وقالت: «سامان؟! إن سامان لا تخفى عليه خافية يا سيدتي وقد قلت لك ذلك مرارا.»
فأدركت جهان أنها تريد انتقاد إخلاص أخيها. فقطعت كلامها قائلة: «إني أتوسم في أخي سامان شيئا لا يرتاح إليه قلبي ولا أدري ما هو، ولكنني لا أحب العيب فيه فهو أخي الوحيد، وأرى منه انعطافا إلي، وإن كان بعضه لا يروق لي، على أني لا أحبذ انشغاله بالأسرار حتى ليخيل إلي أنه جعبة خفايا وغوامض. وكثيرا ما يغيب عن البيت يوما فنبحث عنه في فرغانة بحثا دقيقا فلا نقف له على خبر، ثم يرجع ونسأله عن غيابه فلا يجيب أو يجيب جوابا مبهما. وقد أخبرنا بعضهم أنه كثير الاختلاء بالموبذ كاهن بيت النار في المدينة. ولا يخفى ما هو عليه هذا الكاهن من الدهاء والمكر.»
فقالت خيزران: «أظن هذا الموبذ يؤيد طائفة الخرمية الجمعية السرية التي يتزعمها «بابك الخرمي» صاحب الحول والطول، والذي أصبح خليفة المسلمين يخافه، ولا يبعد أن يكون أخوك سامان أحد أعضاء هذه الجمعية، ولا بأس بذلك فالخرمية يعملون على إعادة السلطة للفرس ومحاربة المسلمين.»
قالت: «لا أنكر ما في أخي سامان من مواضع الضعف، ولكنه أخي. وعلى كل حال ما لنا وله الآن ؟»
فأطرقت القهرمانة وهي تعجب لحسن ظن الفتاة بأخيها، رغم ما يظهر من قبيح أعماله وما تعتقده هي من سوء قصده، ولكنها أعرضت عن ذكره.
ورجعت إلى ما كانا فيه فقالت: «والآن ألا تبوحين لي بما شغلك؟»
فأعظمت جهان أن يغلب عليها الضعف إلى هذا الحد أمام مربيتها، فتحركت فيها الأنفة وقالت: «لا تستضعفيني يا أماه فقد تكونين واهمة، وإلا فاذكري لي سبب كدري إن كنت تعلمين.»
فقالت: «إن ضرغام هو السبب!»
فلما سمعت جهان ذلك خفق قلبها وعاد الدم إلى وجنتيها وأبرقت عيناها فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تنكري يا حبيبتي فعيناك تشهدان بأنك تحبين ضرغاما!»
فسكتت جهان منتظرة أن تسمع من خيزران استحسانا أو استهجانا لذلك الحب، فقالت القهرمانة: «إن ضرغاما شاب جميل وشجاع باسل، لا مثيل له في فرغانة ولا في غيرها من بلاد فارس.»
فقالت: «فهمت أنه شجاع وجميل ثم ماذا؟»
فهمت خيزران بأن تصرح برأيها ولكنها خافت على جهان فأطرقت وسكتت. فقالت لها جهان بصوت هادئ وجأش رابط: «صرحي يا أماه ولا تخشي شيئا.»
فقالت: «ليس في العالم أحسن من ضرغام لولا نسبه؛ فليس في فرغانة من يعرف أصله ونسبه حتى هو لا يعرف من أبوه.»
قالت جهان وهي تتشاغل بإصلاح القوس على كتفيها: «وماذا يقول الناس عنه؟»
قالت: «يقولون إنه مثال الشجاعة وكرم الخلق، عدا جماله وعلو همته وكبر نفسه. لكنهم يتساءلون عن نسبه، وأنا أذكر أمه عندما أتت إلى فرغانة تحمله، وكانت في إبان شبابها جميلة الطلعة، وقد خطبها غير واحد من أهل فرغانة فأبت أن تتزوج وانصرفت إلى تربية ابنها، فقد كانت على فقرها شديدة العناية به، ثم سمع سيدي المرزبان بخبرها فدعاها إليه وسألها ما خطبها فتكتمت في بادئ الأمر، ثم ذكرت أنها أخذت طفلة من حضن أمها في بادية الترك ونشأت في منزل أحد النخاسين بالعراق حتى انتهت إلى رجل من أهل تلك البلاد فأعتقها وتزوجها، ثم توفي قبل أن تضع حملها، فلما وضعته أحبت الانقطاع إلى تربيته. وقد شك سيدي المرزبان في قولها وأحب أن يجربها فعرض عليها أن يزوجها من أحد رجاله فأبت واعتذرت؛ فازداد شكا في حديثها، وأنزلها بجانب قصره وأمر لها بما تحتاج إليه من أسباب المعيشة، وكانت تحسن الخياطة وتعمل مع خدم القصر حتى أصيبت بالرمد وكف بصرها فكفت عن العمل وظلت في بيت أبيك كما تعلمين. ولما شب ضرغام تعلم ركوب الخيل والرمي بالنشاب وظهرت فيه سجايا نبيلة؛ فجعله مولاي المرزبان في جملة أعوانه. وكان يحبه ويجل مناقبه حتى بعث الخليفة المعتصم منذ بضعة أعوام إلى هذه البلاد ليجند الرجال من الأتراك والفراغنة والأشروسنيين، فتطوع ضرغام لخدمته. وكنت قد لحظت ما بينكما من الحب المتبادل الذي تحاولين الآن إخفاءه، ولكنني عجبت لذهابه وغيابه كأنه رأى نفسه أقصر باعا من أن ينالك للتباعد بينكما في المقام والنسب!»
وكانت القهرمانة تتكلم وجهان مصغية تسمع كلامها بشوق ولهفة. ثم أجابتها قائلة: «إنه تطوع للعمل في خدمة المعتصم لعلمه أن الرجال إنما تظهر مواهبهم في مثل هذا الوقت. وكان قد تغلب عليه الوهم الذي أراه متغلبا عليك؛ فرغم أنه لا يستحقني، وأنا أراه يفضلني بدرجات، فالمرء لا يقدر بمزارعه ومنازله وإنما بمواهبه ومناقبه، وأنت تشهدين والناس كلهم يشهدون بأنه لا يبارى في مواهبه ومناقبه. ولا ريب عندي أنه سيبلغ أرقى مراتب الجند، فقد سمعنا بأناس من رقيق البلاد ابتاعهم الخليفة ورباهم وجندهم فبلغ بعضهم وبلغوا مراتب القواد. فكيف بضرغام وهو كما تعرفينه وأعرفه!» وكانت تقول ذلك ولسانها يكاد يتلعثم لخفقان قلبها وثورة عواطفها.
فأدركت القهرمانة مما سمعت أنها عالقة بضرغام، وهي تعرف ثباتها على رأيها فلم تر أن تعارضها لكنها قالت: «لا شك عندي أن ضرغاما سينال مرتبة عليا في جند المعتصم، ولكن عروس فرغانة أرقى من أن ينالها القواد؛ فإن الملوك يخطبون رضاها.» قالت ذلك جادة تعني ما تقول لا على سبيل الإطراء والمجاملة. ولكيلا تترك لجهان وقتا للتفكير والجواب أظهرت أنها تعبت من الركوب والتفتت إلى ما حولها فوجدت أنها على مقربة من تل يشرف على أودية كانت تأتيها جهان للصيد، فقالت لها: «ألا ترين أن نترجل للاستراحة هنا قليلا ثم نعود إلى الركوب إذا شئت؛ لأني لا أصبر صبرك على هذه المشقة؟»
فأجابت جهان بالقبول. وترجلتا فسارع السائس إلى الجوادين فانتحى بهما ناحية، وافترش لنا ذنبها على صخرة مبسطة فوق التل قعدتا عليها واشتغل هو بعلف الجوادين. ثم أشارت جهان إلى الخادمين بأن يتوغلا في الأودية يستطلعان حال الصيد هناك.
الفصل الثالث
كتاب ضرغام
قالت القهرمانة لجهان: «كيف رأيت كلامي يا سيدتي؟»
قالت: «لا بدع إذا أطريتني وأعجبت بي فإني بمنزلة ابنتك وكل أم بابنتها معجبة حتى تظن الملوك يقتتلون عليها.»
فقالت: «إني لم أقل ما قلته إلا واثقة من صحته، وهل هناك شك في أن أعظم ملوك الفرس يطلبون رضاك؟!»
فهزت جهان كتفيها مفكرة مستبعدة وقالت: «ملوك الفرس؟ وهل للفرس ملوك اليوم؟» فاستبشرت القهرمانة بقرب إقناعها بعلو مرتبتها؛ لأنها على ثقة مما تقول فقالت: «لا تهزي كتفيك يا سيدتي. إن للفرس ملوكا عظاما لا يلبثون أن يعيدوا سلطان الأكاسرة. ألا تعرفين مازيار صاحب طبرستان؟ ألا تعرفين بابك الخرمي صاحب أردبيل؟ إن كلا من هذين ملك عظيم تخضع له الألوف من الأبطال، ولكنه في الوقت نفسه يخضع لعروس فرغانة، ويضحي بحياته في سبيل رضاها.»
فهزت جهان رأسها مستخفة وقالت وهي تنظر إلى جوادها الأدهم سارحا يرعى العشب: «دعينا من الملوك، لا أرب لنا في غير ضرغام. وما لنا وبابك ومازيار وأين نحن من أردبيل وطبرستان؟»
قالت: «إذا كنت في شك من قولي فاسألي أخاك سامان عن بابك الخرمي.»
قالت وقد تذكرت: «أظنني سمعته يطري صاحب هذا الاسم، ولكنني لا أثق بأقواله كلها كما تعلمين، ولم أكترث للأمر؛ لأن ضرغاما ليس مثله أحد عندي ولا رغبة لي في الملوك والأمراء.»
فقالت: «إذا كنت تستبعدين تلك البلاد فهذا الأفشين صاحب أشروسنة على مقربة منا، وهو الآن قائد جند المسلمين كافة في بغداد، وعما قليل يأتي لزيارة أبيك؛ لأن سيدي كتب إليه منذ أشهر يدعوه إلى زيارته في عيد النيروز .»
وكانت جهان حتى الساعة لا تبالي ما تقوله خيزران، فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وتغير وجهها وانقبضت نفسها، وصدت خيزران عن الكلام بكفها كأنها تقول: «كفي لا تذكري هذا الاسم!»
وأرادت هذه أن تستأنف الحديث فصاحت بها جهان قائلة: «دعيني من ذكر هذا الرجل؛ إني لا أتحمل سماع اسمه! إنه سبب كدري الذي زعمت أنك عرفته؛ فإن نفسي انقبضت منذ سمعت بقرب قدومه إلى فرغانة وأنه سيقضي بعض أيام عيد النيروز عندنا، ولو أني استطعت أن أقضي العيد في مكان بعيد لفعلت.»
فاستغربت خيزران كرهها للأفشين وقالت: «وهل أساء إليك الأفشين في شيء؟»
قالت: «ما أساء إلي ولا كلمني كلمة، ولكنني منذ رأيته يأتي لزيارة أبي ونفسي تعافه وتنكر النظر إليه. ولا أذكر أن شعوري خانني في الحكم على الناس!»
فقالت القهرمانة: «يا للعجب! ألا تعلمين أن الأفشين رئيس ضرغام، وإن غاية ما يبلغه ضرغام من التقدم في جند المسلمين أن يصير قائدا من قواد الأفشين وتحت رايته.»
فقالت بترفع وهدوء: «كلا يا أماه، إنه لا يعمل تحت رايته بل هو رئيس حرس الخليفة.»
قالت وقد ظهر الاستغراب في محياها: «وهل أنت على يقين مما تقولين؟!»
فنظرت إليها وابتسمت وقالت: «نعم، أنا من ذلك على يقين أصح من يقينك برغبة الملوك في طلبي!» ومدت يدها إلى جيبها وقالت: «وقد جاءني كتابه منذ بضعة أشهر يخبرني بذلك وينبئني بقرب قدومه إلى فرغانة، ولكنه إلى الآن لم يأت.» وأخرجت الكتاب ودفعته إليها لتقرأه وهو مكتوب بالبهلوية، فقرأت فيه:
من ضرغام في سامرا إلى حبيبة قلبه جهان في فرغانة
يا سيدتي، ولا أزال أدعوك سيدتي لأنك سيدة العالمين؛ وأنت أيضا حبيبتي لأنك ملكت قلبي وكل جوارحي. تركت فرغانة منذ بضع سنوات ولم أكتب إليك حتى الآن؛ لأني لم أكن أهلا لمخاطبتك، وكيف يتجاسر ضرغام الفقير اليتيم أن يخاطب جهان بنت المرزبان صاحبة السيادة مالكة الأموال والرقاب! وقد وعدتك يوم الوداع أن أبذل جهدي في طلب العلا، فإذا بلغت درجة تقربني من مقامك أتيت إليك والتمست رضاك وإلا فإني أموت في سبيل طلبك. وقد انتظمت في الجندية وخضت المعامع باسمك واستقبلت النبال بصدري وهو فيه فوقاني من الأذى. ولما ارتقيت في مراتب الجند حتى صرت رئيس الحرس في قصر الخليفة بادرت إلى زف البشرى إليك، وكأنك تسألينني عن عاقبة ذلك التقدم فإنه إن لم يكن لأكتسب به رضاك فلا مأرب لي فيه؛ لأني لا أرى للحياة قيمة إن لم تكن لك ومعك. وقد أخذت أسعى في الشخوص إلى فرغانة لأقبل يد سيدي المرزبان وأحظى بمشاهدة حبيبتي جهان، ولولا بعض المشكلات التي نخاف عواقبها على الخلافة لجئت إليك منذ أشهر، على أني ظفرت الآن بوسيلة تساعدني على الرحيل؛ ذلك أن أمير المؤمنين بنى سامرا بالقرب من بغداد كما تعلمين لتكون خاصة به ليجعل فيها جنده الأتراك وأنا واحد منهم، وقد أراد أن ينتصر بهم على الأحزاب المختلفة التي نشأت في المملكة الإسلامية من الفرس وغيرهم، وخشي على هؤلاء الجنود إذا اختلطوا بسكان المدن المجاورة أن تذهب شدتهم ونخوتهم؛ فارتأى أن يزوجهم جواري تركيات من وراء النهر، وعين أناسا يرسل بهم إلى ما وراء فرغانة يبتاعون الجواري والإماء ويعودون بهن. وقد أعربت له عن رغبتي في زيارة وطني وطلبت السماح لي بمصاحبة ذلك الوفد، فوعدني الخليفة بتحقيق هذه الرغبة. فعسى أن آتيك قريبا. وقد عهدت في توصيل كتابي هذا إلى رجل من خاصتي. أمي تهديك السلام.
فلما فرغت القهرمانة من تلاوة الكتاب همت بجهان وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهي تقول: «بورك فيك وفيه، إنه أهل لك. صدقت؛ إن الرجل بأعماله لا بماله، وإذا كان قد أصبح رئيس الحرس بجده وبسالته فكيف بعد أعوام والدولة الإسلامية لا تزال حروبها قائمة ومثل ضرغام لا يعدم وسيلة للارتقاء!»
فسرت جهان لموافقة القهرمانة على ما في ذهنها لكنها ما لبثت أن استدركت وقالت: «إن هذا الكتاب جاءني منذ عدة أشهر ولم يأت ضرغام ولا عرفت شيئا عنه.»
قالت: «لا تجزعي إنه آت. ولكن ...» وأطرقت كأنها تفكر في أمر طرأ لها . فقالت جهان: «ولكن ماذا؟ قولي يا أماه!»
قالت: «ولكن أباك قد لا يرضى بضرغام.»
قالت: «لم أخاطبه في شأنه بعد، ولكنني أعلم أنه يحبه ويجله. كما أنه لم يمنعني أمرا أردته قط.»
قالت: «أعلم أن سيدي المرزبان يحب ضرغاما ويجله، ولكن هناك أمرا آخر هل فكرت فيه؟»
قالت: «وما هو؟»
قالت: «إن ضرغاما مسلم على ما أعلم، فكيف يصح زواجه بك إلا إذا اعتنقت الإسلام.»
فقالت: «وما يمنعني من ذلك، والإسلام دين الدولة؟!»
فقالت: «وتتركين ديانة أبيك وعشيرتك؟!»
قالت: «إذا كانت هذه الديانة تحول بيني وبين ضرغام فإني أتركها؛ لأني أحب أن أكون حيث يكون هو في الدنيا والآخرة.» قالت ذلك واغرورقت عيناها وهي تبتسم.
وأحست القهرمانة أن الحديث طال وتحرج، فأحبت أن تشغل عنه جهان فنهضت وقالت: «مضى قسم من النهار ولم تباشري الصيد، فاركبي فرسك وأنا أتبعك وألهو بما أشاهده من مهارتك في مطاردة الغزلان.» •••
أشارت جهان إلى السائس أن يأتي بالجواد والقوس والنبال، ثم نظرت إلى الجبال أمامها لتختار جهة تركب إليها، فبصرت بوعل يركض على صخر قريب منها، ولم تكن تعهد وجود الوعول في تلك الجهة فبغتت وصاحت بالسائس: «فيروز، هات القوس.»
فأسرع إليها بالقوس فأوترتها وسددت السهم، وأسرت أنها إذا أصابت طريدتها كان ذلك فألا بنيلها ضرغام وقرب مجيئه وإلا فلا. ونظرت إلى الوعل فرأته وقفا على تلك الصخرة والتفت نحوهم فرمته بأسرع من لمح البصر وسمعت طنين النبل في الهواء وخيزران تنظر إلى الوعل وتخاف أن يفر قبل إطلاق السهم فما لبثت أن رأته سقط ثم انقلب إلى شق بين صخرين فصاحت جهان: «وقع وقع ... إلي به يا مرجان.» فركض ورفيقه والسائس في أثرهما، وظلت جهان واقفة وقلبها يكاد يطير من الفرح، ثم تقدمت خيزران إليها وهي تضحك وتقول: «لقد سرني رمي هذا الوعل، ليس لأنك أصبته فقط ولكنني قبل أن ترميه أضمرت أن يكون فوزك في صيدك هذا رمزا إلى فوزك بضرغام.»
فابتسمت جهان وقالت: «وهذا ضميري أيضا ... أتقولين بعد ذلك إن ضرغاما يليق بي؟»
قالت: «بسطت لك رأيي وأنا الآن أكثر رغبة فيه.» وضحكت تمازحها.
فانبسطت نفس جهان وسري عنها بعد مكاشفة خيزران. ثم سمعت صياحا فالتفتت فرأت الرجال يجرون الوعل جرا لثقله فأسرعت إليهم فرأت الوعل ميتا لا حراك به. فتعجبت من سرعة مصرعه بسهم واحد. فلما وصلت إليه رأت سهمها لا يزال مغروسا في خاصرته ولاحت منها التفاتة فرأت سهما آخر في ليته فصاحت: «إنه مصاب بسهمين وأنا لم أطلق إلا سهما واحدا. هو ذا السهم الآخر!»
وأمرت مرجان أن يستخرجه فأخرجه بعد عنف شديد وهو يقول: «إن الوعل مات بهذا السهم.» ودفعه إلى جهان فتناولته وقلبته بين أناملها فرأت على ريشه كتابة بالعربية وكانت تحسن قراءتها، ولم تكد تتبين أحرفها حتى صاحت: «ضرغام ... ضرغام! إني أقرأ اسم ضرغام على هذا السهم.» فتقدم مرجان، وكان يقرأ العربية أيضا، فقال: «هو اسم ضرغام.»
فبهتت جهان والتفتت إلى خيزران وهي تتجلد خوفا من ظهور بغتتها أمام الرجلين، ثم أمرتهما أن يذهبا بالوعل إلى مكان يذبحانه فيه ويفعلان به ما شاءا، فلما ابتعدا قالت: «ما قولك في هذه المصادفة؟»
قالت: «يظهر أن ضرغاما قريب من هذا المكان وهذا سهمه قد رمى الوعل به فحمل الوعل جرحه مسافة طويلة؛ لأن هذه الوعول لا تسرح إلا عند ضفاف نهر الشاش على مسافة بعيدة من هذا المكان.»
فأطرقت جهان وهي تحسب نفسها في حلم ثم قالت: «إنها مصادفة غريبة! على أني أخاف أن نكون قد أخطأنا الظن. ولكن لا ... إن قلبي يحدثني بصدق ظني ... فإذا كنت مصيبة فأين تظنين ضرغاما الآن؟»
قالت: «أظنه معسكرا على ماء للاستراحة قبل دخول فرغانة، ولا أعرف ماء في هذه الجهة إلا نهر الشاش فلعله معسكر على ضفته الشرقية.»
قالت: «وهل هذه الضفة بعيدة عنا؟»
قالت: «إنها على فرسخ وبعض الفرسخ من هنا. أظنك تريدين الذهاب؟»
فابتسمت والخجل يعارض ابتسامها، وحدقت في خيزران لتستطلع حقيقة غرضها من السؤال، فرأتها تنظر إليها باهتمام فعلمت أنها تشاركها شعورها فقالت: «وهل تظنين في ذهابي إليه بأسا؟»
فأشفقت خيزران على عواطفها وأحبت مجاراتها فقالت: «لو علم القوم أنك ذاهبة إليه عمدا لتحدثوا بذهابك، ولكننا إذا لقيناه اتفاقا فلا بأس، على أن المكان بعيد لا يخلو الذهاب إليه من المشقة. هل تستطيعين ذلك؟»
قالت: «لا مشقة علينا ونحن راكبتان، هلمي بنا.» قالت ذلك والتفتت إلى الرجلين فرأتهما مشتغلين بذبح الوعل بعيدا.
فأدركت خيزران أنها تريد استقدامهما فسبقتها إلى ذلك وقالت: «أرى أن آتي بخادمك فيروز يسير في ركابك وتأمري الآخر بالذهاب مع بقية الموكب بباب المدينة ينتظرنا مع بقية الخدم هناك.»
فاستحسنت جهان رأيها، فمشت خيزران إلى الرجلين ونادتهما وأومأت إلى فيروز أن يأتي فأسرع مهرولا فأمرته بإبلاغ رفيقه أن يذهب للانتظار مع بقية الركب، وبأن يأتي هو بالجوادين، ويظل في ركابهما ففعل، وانطلق خلفهما لا يدري إلى أين تسيران.
الفصل الرابع
ضرغام وجهان
أدارت جهان رأس جوادها نحو النهر ومضت وعيناها شائعتان في الأفق لعلها ترى حبيبها قادما، وبجانبها خيزران على جوادها. وكانت الشمس قد تكبدت السماء، ونسيت جهان لفرط انشغالها أنها لم تذق طعاما في ذلك اليوم. وقد يغلب الحب على صاحبه حتى ينسيه وجوده.
وظل الجوادان يسيران بهما في أرض بعضها مزروع وفيه الأجراء الذين يعرفون عروس فرغانة، كما يعرفون جوادها وخادمها. فكانوا يقفون لها احتراما ويبتسمون إعجابا، وهي لا تبتسم لتبلبل بالها. وبينما هي غارقة في تفكيرها صهل فرسها وفرس خيزران فانتبهت ونظرت أمامها فرأت على مقربة منها مزرعة فيها خيام كروية السقف على شكل خيام التركمان - وهم يبنونها مستديرة وسقفها قبة - ورأت بين الخيام بضعة جياد وغلامين يحلبان فرسين على عادة أهل بادية تركستان إذ يغتذون بألبان الخيل كما يتغذى بدو العرب بألبان الإبل.
فلما رأتهم جهان أرادت أن تسلك طريقا آخر لا يمر بهم توفيرا للوقت. ولكن خيزران حولت شكيمة جوادها نحوهم وأشارت إليها أن تتبعها قائلة: «أرى يا مولاتي أن نسأل هؤلاء القوم عن ضرغام لعلهم رأوه مارا فيغنينا ذلك عن تكبد المشقة في الوصول إلى النهر؟»
فاستحسنت جهان رأيها وحولت إليهم شكيمة جوادها أيضا. فلما رآهما أحد الغلامين فنهض وقد علم من قيافة جهان أنها أميرة كبيرة وأسرع إلى أبيه في إحدى الخيام يدعوه إلى استقبال الأضياف. فجاء الرجل وهو فلاح شيخ يتوكأ على عكازه، وما وقع بصره على جهان حتى عرفها. فأمر أولاده بأن يعاونوها على الترجل مبالغة في الحفاوة بها، ولكنها لم تشأ النزول وأثنت على الرجل. ثم التفتت إلى خيزران كأنها تحرضها على السؤال، فقالت لها هذه: «انزلي يا سيدتي للاستراحة هنيهة ثم نركب.» فأطاعتها مرغمة واستلم فيروز زمام الجوادين وابتعد بهما عن المكان لئلا يشوشا الموقف بالصهيل مع بقية الخيل.
ولما ترجلتا خاطبهما الشيخ بلطف وسذاجة قائلا: «ألا تشرفنا بنت المرزبان بجلوسها لحظة في هذا البيت الحقير؟» فخجلت وجلست على جلد افترشوه لها ولرفيقتها. وقبل أن تهم خيزران بالسؤال جاء الغلام يحمل قدحا من الخشب فيه سائل عرفت أنه لبن الأفراس فاعتذرت بأنها لا تشعر بالجوع. فقال الشيخ يخاطب غلامه: «قدم لها قدحا من القومز، وهو لبن الخيل يخمرونه ويقدمونه شرابا للزائرين كما يقدم العرب السويق وكما يقدم أهل هذا الزمان الليمونادة أو الشاي. ونظر إلى جهان وقال: «هذا القومز لا يستدعي جوعا فإنه كالماء ويزيل التعب.»
فلم تستطع جهان رده فتناولته، فاغتنمت خيزران تلك الفترة وخاطبت الشيخ قائلة: «ألم يمر بكم أضياف غيرنا في هذا اليوم؟»
قال: «كلا يا سيدتي؛ ولذلك سررت بقدومكم، وقد تشرفت بمرور مولاتنا جهان فإذا فاتنا الأضياف فهي خير من ألف ضيف.»
فقالت: «وهل يمر بكم المسافرون دائما؟»
قال: «نعم يا سيدتي؛ لأن القادم من أشروسنة أو خوكند أو بخارى قاصدا إلى المشرق لا بد له من أن يمر بنا بعد اجتيازه النهر. ثم يذهب إلى فرغانة أو إلى غيرها. وكثيرا ما تمر بنا قوافل التجار قادمة من الهند أو التبت أو الصين قاصدة إلى بلاد الروم، أو راجعة منها إلى بلادهم.»
فنظرت إلى جهان وكلمتها بالفارسية - وأكرة تلك البلاد يتكلمون الشاغطائية أي التركية القديمة - وقالت لها: «ألا ترين أن نمكث هنا ريثما يمر ضرغام إذا كان لا بد من مروره؟ أليس ذلك أفضل من أن نقصده هناك وقد نسير إليه من طريق ويأتي هو من طريق آخر فلا نلتقي؟»
فلم تجب ولكن ظهر على ملامح وجهها أنها رضيت. فقالت لخيزران: «ائذني للرجل في أن يقدم لنا شيئا نأكله.»
فقالت: «وكيف نطلب الطعام بعد أن رفضناه؟»
قالت: «أنا أطلبه بأسلوب معقول. والتفتت إلى الرجل وقالت بلغته: «ألا تبيعون خيلا للذبح؟»
قال: «كلا يا سيدتي؛ لأننا نربي الأفراس للبن ولا نذبحها إلا متى عجزت وقل لبنها.»
قالت: «وإذا أردتم مهرا للذبح كيف تفعلون؟»
قال: «نترصد قطيعا من الخيل مارا من هنا فنشتري منه ما شئنا.»
ثم أشار بيده إلى الشرق وقال: «وقد مضت علي برهة وأنا أنظر إلى هذه الجهة فأرى في الأفق البعيد غبارا كثيفا محلقا في الجو، وأتوقع دنوه فلعله غبار قطيع من الخيل قادم إلينا فأبتاع منه فرسا أو فرسين للذبح. وإذا شاءت مولاتنا المكث هنيهة أخرى وتنازلت بأن تتناول الطعام عندنا ذبحت لها فرسا سمينا.»
فاستحسنت جهان أريحية الرجل وخفة روحه وابتسمت له، ففهم أنها رضيت فأمر أحد أبنائه بملاقاة القطيع وتعجيله، فأسرع الغلام يعدو واشتغل الشيخ بإعداد المائدة ثم أتى ببطيخة وضعها بين يدي جهان وقال: «وهذه بطيخة من بطيخ بخارى المشهور بحلاوته سنذبحها لمولاتنا في جملة الذبائح!»
فاستغربت جهان وجود هذا البطيخ عنده وهو مما يتفاخر باقتنائه الكبراء. ولم يفت الرجل ما جال في خاطرها فاستدرك قائلا: «أهداني هذه البطيخة شاب مغرم جاء ليطلب إلي إحدى بناتي فأتى بهذه البطيخة في جملة الهدايا.»
فلما سمعت جهان ذكر الغرام تذكرت لوعتها، فتنهدت وأومأت إلى الشيخ أن يحتفظ بالهدية وقالت: «احفظ الهدية لصاحبتها.»
وأراد الشيخ أن يجيبها فسمع صوتا يناديه فالتفت فرأى ابنه راجعا يعدو وهو يلهث من التعب ويقول: «إن رعاة القطيع لا يبيعون من قطيعهم شيئا.»
ونظرت جهان إلى جهة الغبار المتصاعد من قطيع الخيل القادم، فرأت في مقدمته فارسا على جواد مسرج ، ووراءه عشرات من الخيول عارية تتزاحم وتتراكض، وعلى بعضها رعاة من بدو الكرج الذين يعيشون في براري تركستان على رعاية الخيل والماشية. ورأت الفارس الأول لابسا لباس الجند وبيده راية على رمح لم تنتبه للاسم الذي طرز عليها ولو قرأته لارتعدت فرائصها.
أما الشيخ فأسرع إلى الفارس واستوقفه وقال: «ألا تبيعوننا فرسا من هذه الأفراس؟»
فأجاب الفارس بأنفة وعجرفة: «كلا.»
قال: «أنا في حاجة إلى ذبيحة فنعطيكم الثمن الذي تريدونه.»
فأدار رأسه يمنة ويسرة إشارة إلى الرفض. ولكن الشيخ عاد فسأله: «ولماذا لا تبيعون؟»
فقال: «لأن هذا القطيع لأناس لا يبيعونه.»
فقال: «ومن هؤلاء؟ أليسوا تجارا؟»
أجاب: «كلا». ثم أومأ إلى الراية وقال: «أظنك لا تعرف القراءة ولو عرفتها لكفيتنا مئونة السؤال والجواب».
فلما سمعت جهان قوله نظرت إلى الراية فقرأت فيها: «الأفشين حيدر بن كاوس» بأحرف عربية. فتغير لونها ونظرت إلى خيزران فرأتها في مثل بغتتها. أما الشيخ فأجاب الفارس قائلا: «صدقت إني لا أعرف القراءة. لمن هذه الراية؟»
قال: «هي للأفشين حيدر بن كاوس قائد جند الخليفة المعتصم وصاحب مملكة أشروسنة.»
ولم يكن أحد في تركستان يجهل هذا الاسم؛ لأن الأفشين كان ملكا على أشروسنة قبل دخوله في خدمة المعتصم. فبغت الشيخ وتهيب وقال: «إن مولانا الأفشين مقيم ببغداد على ما نعلم.»
قال: «كان في بغداد ولكنه جاء إلى أشروسنة منذ أيام وبعثنا نبتاع الماشية لرجاله.»
فقال: «وأنتم ذاهبون الآن بهذا القطيع إلى أشروسنة؟»
قال: «كان مولانا الأفشين في أشروسنة، ولكنه قادم إلى فرغانة يقضي عيد النيروز فيها، ورجاله معسكرون خارجها على ضفاف الشاش، وهذه الخيول لهم. فهل تحتاج إلى زيادة إيضاح؟» قال ذلك وساق جواده وتبعه الرعاة بالخيول.
فلم يعد الشيخ يجرؤ على السؤال، وخجل من جهان؛ لأنه عجز عن القيام بضيافتها. وأخذ يهيئ عبارة يعتذر بها إليها فإذا بها وقفت وأشارت إلى خادمها أن يأتي بالجوادين وأسرعت إلى الشيخ وقالت: «إني شاكرة حسن صنيعك يا عماه وقد طرأ علي ما يدعو إلى الإسراع برجوعي، وعسى أن أتمكن من زيارتك في فرصة أخرى.»
فأكبر الشيخ ذلك التلطف وهم بتقبيل يد ابنة المرزبان شكرا على تلطفها وتنازلها، فاجتذبت يدها منه وأشارت إلى القهرمانة فدفعت إليه بضعة دنانير وقالت له: «أعط هذه الدوانق إلى الغلام يشتري بها قوسا ونشابا يلهو بهما.» فشكر الشيخ لهما، وودعتاه وركبتا جواديهما فانطلقا بهما وخلفهما فيروز.
وبعد هنيهة التفتت جهان إلى خيزران وقالت بعد تنهد يدل على غيظ تكتمه: «والآن ماذا تقولين؟ هذا الأفشين أتى فرغانة ولا شك أنه نازل عندنا لزيارة أبي.»
قالت: «وما الذي يهمك من زيارته؟ و...»
فقطعت كلامها قائلة: «لا يهمني شيء من أمره ولا أكترث له، ولا جنده يخيفني، ولكنني أكره مجالسته و...» وبلعت ريقها، وتشاغلت عن إتمام الحديث بإصلاح عصابتها على رأسها.
ففهمت خيزران تخوفها ولكنها تجاهلت وقالت: «إن جهان العاقلة الحكيمة لا يخشى عليها من أحد ألا تزالين عازمة على المسير إلى النهر.»
فنظرت إليها جهان شزرا وابتسمت كأنها تستغرب سؤالها ولسان حالها يقول: «وكيف لا؟!»
وساقتا الجوادين وهما تنظران إلى قطيع الخيل حتى توارى وطريقه غير طريقهما، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل وأثر الجوع في خيزران. أما جهان فشغلها تلهفها للقيا حبيبها عن كل عاطفة، وقضت معظم الطريق ساكتة وهواجسها تتعاظم وتتلاطم، وكلما تصورت لقاءها حبيبها اختلج قلبها ورأت أنها ارتكبت شططا ما كانت لتأتيه لولا غلبة الحب على إرادتها. وكثيرا ما يغلب الحب الإرادة ويكون الفوز له عليها، وقد تفوز الإرادة ولكن إلى أجل قريب، وإذا طالت غلبتها كان الحب ضعيفا سريع الزوال. وقد يكون المحب كبير العقل مدبرا حكيما ويرتكب في سبيل الحب أمورا لا يأتيها غير أهل الطيش. وليس استغراب الناس عمله أكثر من استغرابه هو عمل نفسه؛ لأنه يأتي تلك الأمور وعقله مشرف على عمله ينتقده ويقبحه ولا يرى له سلطانا على رده؛ وذلك لأن للعاقل الحكيم قلبا فطر على الحب الشديد، فإذا هو خالف هوى قلبه تألم ألما لا طاقة له باحتماله وقد يجن أو يصعق، وكم من عاشق ذهب ضحية النزاع بين العقل والقلب؛ فالعاقل إذا أحب انتشبت بين إرادته وعواطفه حرب لها اضطرام، فإذا كان كبير النفس قوي الجنان جارى عواطفه اعتمادا على عزة نفسه وقوة جنانه فلا يخاف أن يغلب على أمره.
وكانت جهان كبيرة العقل قوية الإرادة، ولكنها كانت كذلك كبيرة القلب شديدة العواطف، ألوفة شديدة التعلق بما تألفه. فكيف بها وهي تحب الأليف وقد عاشرته أعواما عدة حتى تمكن حبه من قلبها؟! وكانت قوية الجنان ثابتة الرأي في حبه وزادها تعلقا به تخوفها من الأفشين ونفورها من رؤيته، فلم تر بأسا من السعي لملاقاة حبيبها خصوصا أنها ذاهبة بحجة الصيد. •••
سارت جهان وخيزران حينا وهما تنظران إلى الأفق والجوادان يدلانهما على الطريق المؤدي إلى ضفة النهر، حتى أطلتا على الماء عن بعد ورأتا الشاطئ فلم تجدا عليه خياما ولا رأتا جندا ماشيا ولا راكبا. فأوقفت جهان جوادها والتفتت إلى القهرمانة وقالت: «هل ترين أحدا هناك؟»
قالت: «كلا يا سيدتي ولكننا على مقربة من الشاطئ. فهلم بنا إليه لعلنا نرى فيه أثرا يفيدنا.»
فاستأنفتا السير وخلفهما فيروز، حتى بلغتا الشاطئ بقرب كوخ تحت شجرة. فرأتا آثار أناس كانوا هناك وانصرفوا من برهة وجيزة. ومن بين هذه الآثار بقية نار لا تزال موقدة. وبقايا طعام وفاكهة وعظام. ثم إذا بصاحب الكوخ قد خرج للقائهما ورحب بهما ظانا أنهما نازلتان عنده. وكانت خيزران قد دعت فيروز وأمرته أن يسأل أهل الكوخ عن القوم الذين كانوا هناك، فتقدم وحيا الرجل وسأله فقال: «هم جند من المسلمين عبروا النهر عند الفجر وأقاموا هنا إلى الظهر فتغدوا وانصرفوا.»
قال: «وهل عرفت وجهة مسيرهم؟»
قال: «أظنهم يقصدون فرغانة ولعلهم يريدون قضاء النيروز فيها.»
فلما سمعت جهان قوله رجحت أن القوم ضرغام ورجاله، وندمت على مجيئها لاعتقادها أن ضرغاما إذا أتى فرغانة يذهب توا إلى دار أبيها، فرأت أن ترجع إليها لتدركه، وأشارت إلى خيزران أن تحول عنان جوادها وتتبعها قبل أن يدركهما الظلام وهما على بعد ميلين من المدينة. ففعلت وحثتا الجوادين عائدتين إلى المكان الذي ينتظرهما الركب فيه بباب المدينة.
وكان من في الموكب قد قلقوا لغياب جهان، وأرسلوا بعضهم للبحث عنها في الجهة التي ذهبت للصيد فيها، فعاد هؤلاء دون أن يجدوها. فازداد القلق عليها. فلما رأوها مقبلة عرفوها من بعيد بقيافتها ولون فرسها. ثم رحبوا بها وجاءوها بالطعام المهيأ لها، فأشارت عليها خيزران أن تتناول شيئا منه فأطاعتها وتناولت بعض اللحم والقومز والفاكهة على عجل. ولحظت أثناء ذلك أن خادما يكلم القهرمانة همسا وأن هذه تغير وجهها. فأدركت أن هناك أمرا ذا بال. ونادت القهرمانة ونظرت في عينيها مستفهمة فقالت خيزران: «إن مولاي سامان جاء إلى هنا وسأل عنك، ثم رجع لتوه.»
فقالت: «وماذا قال؟»
قالت: «لم يقل شيئا.» وتشاغلت بازدراد لقمة كانت تمضغها وكادت تغص بها.
فتفرست جهان في وجه الخادم الذي كان يخاطب خيزران وقالت: «أظنه جاء في شأن أبي. هل عليه بأس؟»
فلم تستغرب خيزران سرعة انتباهها؛ لأنها كثيرا ما كانت تقرأ أفكار المتكلمين بالتفرس في عيونهم. فأجابتها بقولها: «لا بأس على مولاي بفضل «أورمزد» - إله الخير عند المجوس - لكنه استبطأ عودتك ويريد أن يراك فنحن في يوم النيروز.»
فنهضت جهان وأشارت إلى الخدم أن يعدوا المركبة للعودة وقالت: «لم يبعث أبي إلي إلا وهو يشكو من اشتداد المرض عليه. هيا بنا.»
وكانوا قد أعدوا المركبة فركبتاها معا، وسار الموكب إلى القصر وهي تتوقع أن تجد ضرغاما هناك.
الفصل الخامس
في قصر المرزبان
بلغ موكب جهان قصر أبيها عند العشاء، فرأت الحديقة تتلألأ بما أوقد فيها من المصابيح، وقد غصت بجماهير الناس وما يحملونه من الهدايا والتحف إلى المرزبان كعادتهم في مثل ذلك المهرجان. على أنهم في الأعياد السابقة كانت وجوههم تطفح سرورا وبهجة. وكانوا يقرعون طبولهم ويضربون طنابيرهم. أما اليوم فقد أتوا بآلات الطرب لكنهم لم يضربوا عليها تهيبا لما علموه من اشتداد المرض على المرزبان. فرأتهم جهان متفرقين زرافات ووحدانا في طرقات الحديقة وعلى السلم، وعليهم ألبسة العيد من الخز والديباج، وكلهم وقوف يتهامسون ويتلفت بعضهم إلى بعض وعلامات الأسف بادية على وجوههم. وبباب الحديقة الدواب تحمل التحف من الثياب والأطياب والفاكهة. والخدم يشتغلون بإنزالها وحملها إلى داخل القصر.
ولما وصلت مركبة جهان إلى باب القصر تفرق الناس إلى الجانبين وشغلوا بمشاهدتها عما هم فيه. وكانوا يحبونها ويتبركون بطلعتها ويتوسمون فيها الخير. فلما نزلت من المركبة هتفوا بالسلام عليها، وسري عنهم حين رأوا وجهها ونسوا ما كانوا فيه من القلق كأنهم يحسبون دخولها على أبيها يذهب مرضه ويعافيه.
أما هي فحنت رأسها للسلام تلطفا، وخيل إليهم أنها ابتسمت لفرط ما في محياها من الوداعة والإيناس. وكانت خيزران قد نزلت فسبقتها ومشت إلى جانبها، والناس يوسعون الطريق ويقفون احتراما حتى دخلت جهان الحديقة ماشية بجلال ورشاقة وصعدت درجات السلم المؤدي إلى إيوان القصر وهي تتفرس في الوجوه خلسة لعلها ترى ضرغاما، خائفة أن ترى الأفشين. وكان أهل القصر في انتظارها على أحر من الجمر فجاءوا لاستقبالها، ولم تجد أخاها سامان بينهم فظنته عند أبيها في غرفته. فلما لقيت قيمة القصر سألتها عن أبيها فقالت: «إنه في خير، فشكرا لرحمة أورمزد.»
فاطمأنت قليلا ولكنها ظلت سائرة إلى غرفة أبيها بين صفوف الجواري والخصيان والكل وقوف إجلالا لها. فمشت في دهليز مفروش بالسجاد حتى أتت غرفة أبيها وقد اشتدت لهفتها لرؤيته وقلبها يخفق خشية عليه. وكان بباب الغرفة حاجب من المماليك الخصيان قد اختص بباب المرزبان، فلما رأى جهان أسرع إلى سيده وبشره بقدومها، ثم عاد ورفع الستر ووسع لها، فدخلت وهي لا تزال باللباس الذي خرجت به للصيد والعصابة على رأسها، ولكنها حسرت عن وجهها وعنقها فبان إشراقهما وقد زادها القلق والتعب هيبة وجمالا، فأقبلت على سرير أبيها ووجهها يطفح رونقا وبهاء وعيناها تبرقان ذكاء وفطنة.
وكان المرزبان كهلا لم يتجاوز الستين من عمره، ولكن المرض والضعف جعلاه شيخا هرما، فابيض شعر لحيته التي تملأ صدره، وزاد الضعف في غور عينيه وتجاعيد وجهه. ولكن هذا كله لم يقلل شيئا من هيبته ولا من بريق عينيه الذي اشتد حين علم بمجيء ابنته في إبان الحاجة إليها. وكان قد استلقى على سريره المصنوع من خشب الأبنوس، تحمله أربع قوائم نزل فيها العاج، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وفوقه غطاء من الديباج المزركش بالقصب على نصفه الأعلى الذي يغطي الصدر مطرف من فرو النمور الثمين، ويداه مرسلتان فوق المطرف وقد حسر عنهما كم القميص فبان هزالهما.
فلما دخلت جهان من الباب، اتجهت أولا إلى صنم مذهب نصب على عضادة بارزة من الحائط بجانب سرير أبيها وأمامه شمعة مضيئة غير المصباح المعلق بالسقف، فانحنت للصنم خاشعة على عادة المجوس، ثم سارعت إلى أبيها فجثت بجانب سريره وأكبت على يده تقبلها. وقد أثر فيها ضعفه ولكنها تجلدت تشجيعا له فابتسمت وعيناها لا تبتسمان ولكنهما تنطقان بأجلى بيان بعظيم احترامها لأبيها وشدة حبها له. أما هو فحالما رآها ابتسم والدمع يترقرق في مآقيه، وفتح ذراعيه فعلمت أنه يريد تقبيلها فألقت نفسها على صدره فقبلها واستنشق رائحة عنقها فأحست بحرارة نفسه وخشونة شعره فاستأنست بتلك الخشونة لاطمئنانها على صحته؛ لأنها كانت تخاف ألا تدركه حيا.
ثم تجلد المرزبان وتحامل على ساعديه حتى اتكأ على الوسادة وأشار إليها أن تقعد على الفراش بجانبه فقعدت وسألته: «كيف ترى نفسك يا سيدي؟»
قال: «إني بفضل أورمزد إله الخير الحنون في خير، وكنت أخشى أن يتغلب أهريمان إله الشر فلا أراك، وذلك لشدة ما قاسيته من الألم والضعف. ولكنني شعرت بالراحة منذ علمت برجوعك إلى القصر، وأنت تعلمين أنك تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، فلا تفارقي القصر؛ لأني أرتاح لرؤيتك.»
فأرسلت جهان دمعتين دلتا على حنوها وخففتا لوعة أبيها الشيخ المريض وأثرتا في نفسه. وكأنه تصور حال ابنته بعد موته فغلب عليه الحنو فبكى وهو يحاول إخفاء عواطفه رفقا بعواطفها، فابتسمت هي وتجلدت، ولم يفتها ما خالج ذهنه فقالت: «شكرا لأورمزد الشفوق، إني أراك في صحة، وسأصلي له وأتوسل إليه (وأشارت إلى التمثال) أن يعافيك ويدفع عنك المرض، ولا ريب أنه يسمع دعائي.»
فقال: «قد أرسلت أخاك سامان في طلب الموبذ (الكاهن) فإذا جاء صلينا معا.»
فأحست جهان براحة لاتكال أبيها على الصلاة. وليس للإنسان تعزية في مثل هذه الساعة غير الإيمان، فهو وحده خير تعزيه له في الشدائد، بعد أن يعجز عقله وتغل يده عن درئها. ولولا الإيمان لكان حظ الناس من دنياهم التعاسة والشقاء. يدلك على ذلك أن الأرض لم تخل من دين. وما من أمة إلا وهي تدين بشيء ترجع إليه في رد القوي عن الضعيف، وتتعزى به في المصائب التي يضيع فيها الاجتهاد ويعجز عنها العقول، ولا ينجح في دفعها لا مال ولا سلطان، ولا يفيد فيها جند ولا أعوان. وتقصر عن معالجتها مهارة الأطباء، وحكمة الفلاسفة وعلوم العلماء. هذه المصائب لا ينجح فيها غير الإيمان والاستسلام عن اعتقاد صحيح في الدين؛ فالمؤمن يتلقى المصائب بالشكر، ويستقبل الموت ضاحكا مسرورا. وليس أضر للبشرية ممن يضع الشكوك في أذهان العامة؛ لأنها تقتلهم وتذهب بسعادتهم، وهو نفسه، مهما يبلغ من شكوكه أو إنكاره، إذا أصيب بضعف أو خاف على حبيب نفدت حيلته في إسعافه لا يرى مندوحة عن الالتجاء إلى غير الوسائل المعروفة فيستغيث بقوة لا يعرفها. ويتوسل إلى شخص لا يراه ولا يعتقد بوجوده. وقد اختلف الناس في تفاضل الأديان لكنهم أجمعوا على التدين بواحد منها.
فلما رأت جهان اتكال أبيها على الصلاة سكن اضطرابها واطمأن قلبها فقالت: «وهل يأتي الموبذ الليلة؟»
فتنهد وقال: «قد بعثت أخاك في طلبه، ولكن ما أظنه يأتي به لأنه عودني ألا يطابق عمله ما في نفسي.» وكأنه ندم على هذا التعريض فاستدرك وقال: «لا بأس من تأجيل ذلك إلى الغد.»
وشعرت جهان بأن أباها غير راض عن أخيها. وكانت قد لحظت شيئا من ذلك من قبل ولم تعلم سببا لهذا الفتور. وكان المرزبان يبالغ في كتمان ذلك لعلمه بذكاء جهان وسرعة انتباهها وأنها إذا اطلعت على ما في قلبه من أمر أخيها يتكدر عيشها. فسكتت وسكت أبوها حينا، وأخيرا انتبه هو فقال: «اذهبي يا جهان يا حبيبتي إلى غرفتك ، لتبدلي ثيابك وتتناولي عشاءك فإني أشعر براحة وميل إلى الرقاد.»
فنهضت وهي تقول: «ألا تحتاج إلى شيء أقضيه لك يا أبتي قبل ذهابي؟»
قال: «لا أحتاج إلى شيء الآن، وإذا أصبح الصباح وجاء الموبذان علمت شيئا جديدا. اذهبي محفوظة محروسة.»
شغلت جهان بأمر النبأ الذي وعد أبوها بأن يطلعها عليه في اليوم التالي، وتاقت إلى معرفته. ولكن تفكيرها لم يهدها إلى شيء، وقد سرها على أية حال أن أباها لم يذكر «الأفشين». وودت لو سنحت لها فرصة تذكر فيها ضرغاما لعله يذكره بخير فتطلعه على ميلها إليه. وكان أبوها قد عودها ألا تتحرج أمامه من ذكر مثل ذلك، ثم همت بالخروج من حجرة أبيها مؤجلة ذلك حتى يأتي ضرغام لزيارته فتتخذ هذه الزيارة ذريعة للحديث في ذلك الشأن.
وقبل أن تخرج دخل الخادم وقال للمرزبان: «إن سامان بالباب.» فلما سمع المرزبان اسمه انقبضت نفسه ولكنه قال: «يدخل». فدخل سامان ولا يكاد الناظر إليه يصدق أن جهان أخته؛ إذ كانت أمه جارية هندية ماتت وهو في الثامنة من عمره وسافر أبوه على أثر ذلك إلى بلاد القوقاس فلقي هناك فتاة شركسية أعجبه جمالها فتزوجها وجاء بها إلى فرغانة فولدت له توأمين هما جهان وطفلة أخرى. وماتت الأم والطفلتان صغيرتان فعهد في أمرهما خيزران ولم يتزوج بعد أمهما؛ لأنه كان يحبها حبا شديدا لفرط جمالها وتعلقها، وأحب ابنتيها لشدة مشابهتهما لها، ولكنهما لم تبلغا الثالثة من العمر حتى فقدت توأم جهان فبقيت هذه وحدها وتحولت كل محبة أبيها إليها.
ولم يكن فقد تلك الشقيقة بسبب موتها، ولكنها فقدت بطريقة عجيبة هي أن فرسا اختطفتها. وكان في تركستان جماعة من اللصوص يدربون الخيل على اختطاف الأطفال أو الأحمال بأسنانها والفرار بها إلى حيث ينتظرونها في مكان بعيد. وبقي أهل فرغانة من ذلك العهد يحذرون خطف أطفالهم بهذه الطريقة.
أما المرزبان فنظر إلى سبب ضياع ابنته نظرا آخر، وتولد البغض في قلبه لسامان من ذلك الحين، لكنه كتم السبب عن كل إنسان! •••
كان سامان قصيرا أجرد ليس في وجهه إلا شعرات متفرقة في ذقنه. وخداه منبسطان، ويخامر بياض عينيه حمرة كأنه استيقظ من رقاد، فضلا عن شدة حوله، فإذا نظر إليك حسبته ينظر إلى السقف أو إلى الباب ولا يستقر نظره على شيء. وهو يكلمك مطرقا أو محولا بصره عنك وأجفانه ترتجف، وشفتاه ترتعشان كأنه خائف تخرج الألفاظ من بينهما متلاحقة متقطعة. ولكنه كان كثير الدهاء واسع الحيلة شديد الأنانية يكره كل أحد إلا نفسه.
فلما أذن له أبوه في الدخول، دخل مهرولا، وعلى رأسه قلنسوة من الخز بلا عمامة، وقد ارتدى جبة طويلة تغطي ثيابه فكان يتعثر بأردانها، ثم وقف بين يدي أبيه وقال: «ذهبت إلى بيت كرشان شاه (هيكل المجوس بفرغانة) فلم أجد الموبذ هناك، وقيل لي أنه يعود في الصباح فهل أبحث عنه في منزله؟»
فهز المرزبان رأسه متضجرا وقال: «لقد كان في إمكانك أن تبحث عنه قبل مجيئك ولكن لا بأس ... غدا نرسل من يأتينا به. اذهب الآن.»
فرأت جهان في خطاب أبيها له جفاء زادها شكا في ميله إليه. ولم تكن قد سمعته يخاطبه بهذه اللهجة من قبل. أما سامان فقال: «لم أكن أحسبك تريده الليلة، وإلا لبحثت عنه حتى رجعت به. هل أذهب للبحث عنه الآن؟»
وكان المرزبان يحدق في وجه ابنه وهو يتكلم، فلما انتهى أدار وجه عنه وقال: «كلا، ولكن دعني الآن فإني أحتاج إلى الراحة!»
فأكب سامان على يدي أبيه يقبلهما، ثم خرج يتعثر في أذياله، وظلت جهان واقفة تنظر إلى أبيها فرأت في عينيه دمعتين تكادان تنحدران وهو ينظر إلى الشمعة المضيئة بين يدي التمثال، وقرأت حول شفتيه معنى دلها على سر في خاطره يحب إفشاءه فقعدت على السرير وتناولت يده فشعرت بعرق بارد ورعدة خفيفة فقالت: «هل تريد شيئا يا أبتاه أم أذهب؟»
فقال وهو يصلح متكأه: «اذهبي يا حبيبتي ... لا ... لا تذهبي ... لا بل اذهبي واستريحي!»
فقالت: «ما بالك؟ هل أغضبك إهمال أخي سامان؟ إنه لم يكن يعلم مرادك.»
فهز رأسه وقال : «إنه لم يفهم مرادي ولكنني فهمت مراده. وقد دنا وقت الحساب.» قال ذلك واستلقى على الفراش ورفع الغطاء إلى كتفيه لينام، فعلمت أنه لا يريد الخوض في الموضوع، فأصلحت غطاءه وقبلت يده ثم خرجت وذهبت إلى غرفتها وهي في شاغل جديد بأخيها، وكانت خيزران في انتظارها فرحبت بها وسألتها عن أبيها ثم قالت: «أبدلي ثيابك واذهبي إلى فراشك.»
فظلت واقفة ولم تجبها فأدركت أن ذهنها مشتغل بضرغام فقالت لها: «إن الناس قد انصرفوا وأطفئت الأنوار في الحديقة والإيوان ولم يأت ضرغام ولعله يأتي غدا.»
فاقتنعت وأخذت في تبديل ثيابها بمساعدة خيزران، ثم ودعتها هذه وانصرفت، وأرادت جهان أن تذهب إلى فراشها وإذا بخادمة دخلت تقول: «إن مولاي سامان يطلب أن يكلم مولاتي.»
فسرت جهان بمجيئه؛ لأن حديث أبيها معه لم يرق لها، فدخل وعليه ملامح الاكتئاب والانكسار، فلما رأته أخذتها الشفقة عليه فرحبت به وابتسمت له وقالت: «لا يسوءك ما صدر من أبينا من إشارات الكدر، فأنت ضيق الصدر لمرضه.»
فقعد مطرقا على وسادة ولم يجب. فجلست إلى جانبه ونظرت إليه فرأت دموعه تتساقط على خديه فأثر منظره وغلب حنوها وطيب عنصرها على فراستها وتعقلها وقالت: «ما يبكيك يا أخي؟»
فرفع بصره إليها وقال وصوته مختنق: «تسألينني عن أمري وقد شاهدت بعينيك وسمعت بأذنيك؟!»
قالت: «قلت لك إن ما أتاه أبوك ليس عن غرض بل هو عن مرض، فإنه يحبك وليس له ابن سواك، وأنت حامل اسمه وأنت ...» فقطع كلامها قائلا: «قد يكون أبي يحبني، ولكني سيء الطالع. فأنا أبذل جهدي في طاعته، ولم يكن قد كلفني استدعاء الموبذ ولكنني رأيته يسأل عن خادم يرسله في طلبه، فتطوعت لخدمته. ولا أرى منه غير الإعراض، ويؤلمني ألا يكون راضيا عني!»
قالت: «إنه راض عنك، أو إنه سيرضى، كن مطمئنا.»
قال: «أنا أعلم أنك تحبينني وتسعين في استرضائه لي، ولكن آخرين يكيدون لي عنده، وهو لسلامة نيته ينخدع بأقوالهم.» قال ذلك ووقف يهم بالخروج خشية أن يسوءها حديثه، فأوقفته وقالت: «من تعني بأولئك الكائدين؟»
قال: «أعني جماعة تعرفينهم أسروا عقولنا وقلوبنا وأموالنا باسم الدين.»
فأدركت أنه يعني الموبذان (الكهان) فقالت: «فهمت، وأظنك تعمدت الرجوع وحدك الليلة فلم تأت بالموبذ؟»
فتنحنح وبلع ريقه وقال: «لم أتعمد ولكنني لم أجده في بيت النار فلم أبحث عنه في مكان آخر؛ لأن دخول الموبذان بيتنا يفسده!»
فقطعت كلامه قائلة: «لا أرى رأيك في هذا؛ لأن أولئك الموبذان يصلون لأجلنا فهم بركة لنا، وليس لنا عزاء إلا بهم، ثم إن أبانا يؤمن بهم ولا ينبغي أن نخالفه.»
فقال: «لا أنكر أن بينهم أناسا صالحين، ولكن بعضهم طماعون يبغون أن يستولوا على كل شيء. ما لنا ولهم الآن فإنما يهمني ألا يكون أبي ناقما علي.»
فقالت: «اترك هذا لي، واذهب إلى فراشك مطمئنا.»
فخرج مطأطئ الرأس مظهرا الانكسار، ودخلت هي فراشها حيث عادت إلى هواجسها ولم تنم تلك الليلة إلا قليلا.
الفصل السادس
ضرغام وجهان
وبكرت جهان في صباح اليوم فالتفت بمطرفها وذهبت إلى أبيها فرأته جالسا في سريره وهو أحسن حالا منه بالأمس، ففرحت وسألته عن حاله فقال: «شكرا لأورمزد، لقد نمت ليلتي مرتاحا، وأشعر اليوم بنشاط. ألم يبلغك قدوم الأفشين إلى فرغانة؟ لقد كنت على موعد من مجيئه في هذا العيد.»
فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وقالت: «لا أعلم يا سيدي، ولعله جاء ولم يأت إلينا بعد.»
فقال: «من لي بمن يبحث عنه؟»
فقالت: «إذا أمرت أن نبعث في طلبه فعلنا، ولكنه لو أتى فرغانة لجاءنا بلا دعوة.»
قال: «صدقت، وهل ذهب أخوك ليدعو الموبذ اليوم؟»
قالت: «خرج من الفجر للبحث عنه، وقد ساءه البارحة أنك لم تكن راضيا عنه.»
فقال: «ننتظر رجوعه. اسقني شربة ماء من يدك.»
فأسرعت مسرورة فأتته بكأس ماء وقدمته إليه فشربه. ثم دخل الحاجب يقول: «إن ضيفا قادما من العراق يستأذن على مولاي المرزبان.»
فصاح المرزبان: «هذا هو الأفشين.» وأظهر ارتياحه لمجيئه ولم يسأل عمن هو قبل الإذن على جاري العادة فقال: «ليدخل.» وأسفت جهان لوجودها هناك، ولو استطاعت أن تشق الحائط وتخرج منه لفعلت، ولكنها تجلدت إكراما لأبيها فوقفت وقد انقبضت نفسها فتماسكت لئلا يبدو ذلك عليها.
فأزاح الحاجب الستر فدخل القادم، فلما أطل أجفلت جهان وبدت الدهشة في وجهها وانقلب انقباضها إلى انبساط، وتحول امتقاع لونها إلى تورد؛ لأن القادم لم يكن الأفشين وإنما ضرغام. فلما رآه المرزبان ابتسم له ورحب به وصاح: «ضرغام؟ أهلا بولدنا ضرغام. ظننتك صديقنا الأفشين. أقادم أنت من العراق؟» قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «وهل أتى الأفشين معك؟» قال: «لم يأت معي ولكنني علمت يوم خروجي من العراق أنه عازم على المجيء إلى أشروسنة، وأظنه أتى.»
وكان ضرغام شابا في حوالي الثلاثين من العمر قد كمله الله خلقا وخلقا؛ ربع القامة، ممتلئ الجسم، عريض المنكبين، واسع الجبهة كبير العارضين كث اللحية، تلوح البسالة والهمة في عينيه، وتتجلى المروءة وصدق اللهجة حول شفتيه. وعلى رأسه قلنسوة قرمزية حولها عمامة سوداء، وقد لبس قباء سماوي اللون تمنطق عليه بمنطقة علق عليها سيفا قبضته مذهبة، وتحت القباء سراويل من الخز الأرجواني وفوق القباء حبة سوداء، وقامته قامة الأبطال؛ إذا وقف حسبته جبلا راسخا.
وكان قد دخل على المرزبان غير مقدر أن يلقى جهان هناك، فلم تكن دهشته أقل من دهشتها.
أما هي فلما وقع بصرها عليه لم تعد تعلم كيف تخفي عواطفها، فإذا استطاعت إخفاء خفقان قلبها وارتعاش أعضائها فكيف تستطيع إخفاء ما ظهر من التورد في وجنتيها أو الإشراق في عينيها. وقد نسيت مرض أبيها وأصبح همها أن تلاحظ ما يبدو منه نحو حبيبها من ترحاب أو انعطاف، فلما رأته يرحب به فرحت وكانت بجانب الصنم فأسندت ظهرها إلى العضادة وتشاغلت بمسح ما على الصنم من الغبار مخافة أن يبدو ارتعاشها، ولم تغط وجهها؛ لأن نساء تلك البلاد لم يكن يعرفن الحجاب يومئذ ولا سيما جهان فقد كانت تستنكف من تغطية وجهها وتعد الحجاب جبنا وضعفا.
ولا تسل عن سرور ضرغام بتك المصادفة. وساعده في إخفاء عواطفه السلام على المرزبان فأكب على يديه يقبلهما. فأمر بوسادة جلس عليها وجلست جهان على وسادة أخرى، وأخذ المرزبان يسأله عن حاله فقال ضرغام: «قد أسرعت في الزيارة لأكون أول من يهنئك بهذا المهرجان المبارك، ولم أكن أعلم أنك متوعك فأرجو أن تكون أحسن حالا.»
فقال المرزبان: «أصبحت مرتاحا اليوم وقد سررت برؤيتك وأنت تعلم حبي لك.»
فانحنى ضرغام شاكرا، وسره عطفه عليه، ولكن سروره لم يكن شيئا يذكر بالقياس إلى سرور جهان، فكانت تسمع كلمات أبيها وقلبها يرقص فرحا فأجابه ضرغام: «إني أشكر لسيدي المرزبان التفاته إلى ضيفه، وقد تأكدت فضله علي من قبل وأنا غرس نعمته.»
فخجل المرزبان من ذلك الإطراء وسأله: «أقادم أنت توا من العراق؟»
قال: «نعم يا سيدي، وقد وصلت إلى فرغانة مساء أمس.»
قال: «وكيف فارقت القوم هناك؟»
قال: «فارقتهم في شغل شاغل بالمشكلات، وكل واحد يخاف صاحبه ويحذره، ويستعين عليه بجند من غير جنسه. وإنما السبق اليوم للجند التركي.»
فقال: «علمت أن الخليفة الجديد المعتصم بالله استعان في تأييد خلافته بأخواله الأتراك فأعانوه، وفي جملتهم الأفشين ملك أشروسنة وأنت.»
فسرت أن قرن المرزبان اسمه باسم الأفشين فقال: «إن الأفشين عون كبير للخلافة وأما أنا فلا أستحق الذكر.»
فقطع المرزبان كلامه قائلا: «إن مستقبلا مجيدا ينتظرك لما أعلمه من بسالتك وعلو همتك. إنك لنعم القائد البطل ولا شك أنك تقدمت في جند الخليفة.»
قال: «نعم أصبحت بفضل مولاي رئيسا للحرس.»
قال: «رئيس حرس الخليفة؟!»
قال: «نعم يا سيدي.»
فبان السرور على وجه المرزبان والتفت إلى جهان كأنه يشركها في إعجابه بذلك التقدم السريع، فرأى جهان شاخصة إلى ضرغام تسمع حديثه وتكاد تلتقفه ببصرها. ولو أدنى المرزبان أذنيه من صدرها لسمع خفقان قلبها. فالتفتت إليه وابتسمت ثم سكتت وعيناها تتكلمان كلاما لم يفهمه وإن فهمه ضرغام.
وعاد المرزبان إلى الكلام عن الجند فقال: «إذن في العراق الآن جند كبير من الأتراك.»
قال: «إنهم يزيدون على عشرين ألفا، وفي جملتهم أبناء ملوك فرغانة الأخاشيد وغيرهم.»
فقال: «أظنه رغب في تجنيدهم لأن أمه منهم.»
قال: «لا يخلو أن يكون ذلك بعض السبب، ولكن السبب الأكبر أن دولة المسلمين هذه عربية الأصل كما تعلم، ولما نهض المسلمون للفتح كان الجند كلهم عربا ففتحوا الأمصار وأسسوا الدولة وظل معظم الجنود عربا في أيام بني أمية. ثم قام الفرس بنصرة العباسيين وشاركوهم في تأسيس دولتهم، فاشتد ساعد الفرس وضعف أمر العرب. وما زال الفرس يتوقون إلى أيام المأمون الخليفة السابق، فأصبحوا أهل الدولة وفي أيديهم الحل والعقد. ولا يخفى عليك أنهم ما زالوا من أول الإسلام يعملون على رد السلطة إلى الأكاسرة.»
فتنهد المرزبان تنهدا عميقا أدرك منه ضرغام أنه يتحسر على ضياع دولة الفرس، فتجاهل ومضى في حديثه فقال: «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم، خاف الفرس ولا سيما أنهم قتلوا أخاه الأمين وسلموا الدولة إلى أخيه وابن أختهم المأمون تمهيدا لردها إلى الفرس بعد موته؛ فلم ير المعتصم خيرا من أن يستعين بقوم أشداء لم تذلهم الحضارة فعمد إلى تجنيد الأتراك.»
فقال: «وهل يقيم هؤلاء ببغداد؟»
قال: «كانوا يقيمون بها إلى عهد غير بعيد، ولكن البغداديين ضاقوا بهم لأنهم كانوا يؤذون العوام في الشوارع، وربما قتلوا بعضهم في الأسواق، فابتنى لهم المعتصم مدينة سماها «سر من رأى» أو «سامرا» واختط فيها الخطط واقتطع فيها القطائع. وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار. ثم شيدت بها القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه وتسامع الناس أن دار الملك قد انتقلت إلى هناك؛ فقصدوها وجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس؛ فاتسع عمرانها.»
فأعجب المرزبان بهذا التدبير فقال: «إذن هي مدينة كبيرة؟ وهل بقي الأتراك على دينهم أم غيروه؟»
قال: «لا يخفى على مولاي أن معظمهم يدين بالزرادشتية ولكنهم أصبحوا اليوم مسلمين. ومن أغرب الوسائل التي تذرع بها الخليفة لإبقاء الجند قويا كما هو الآن أنه أبعده عن أهل البلاد ومنع رجاله أن يتزوجوا منهم. ورأى أن يزوجهم ببنات تركيات ابتاعهن من تركستان. وقد أرسل وفدا لابتياع هؤلاء الجواري فاغتنمت أنا الفرصة واستأذنت في مرافقة هذا الوفد فأتيت إلى فرغانة لهذا السبب.»
فقال المرزبان: «لقد سرني قدومك يا ولداه وفرحت برؤيتك، وكأن أورمزد قد هيأ ذلك حتى أراك قبل ...» قال ذلك وتغيرت سحنته وبان الانقباض في وجهه لكنه تشاغل بالسعال ومسح شاربيه وعينيه حتى لا يظهر بكاءه. فاختلست جهان أثناء ذلك نظرة إلى ضرغام بادلها مثلها. وقد فرحت بتودد أبيها إليه ولكنها تأثرت من يأس أبيها. وهي أرغب في بقائه بعد ما عاينته من رضاه على حبيبها، ووثقت بأنه لا يمانع في زواجها منه، وعزمت على ذكر ذلك له في أول فرصة.
أما المرزبان فأراد أن يشغل ضرغاما عما بدا منه فقال: «وكيف حال أمك المسكينة؟»
قال: «هي في خير والحمد لله، ولا تفتر لحظة عن ذكر مولاي وأفضاله علينا، وتذكر مولاتنا جهان؛ لأنها شديدة التعلق بها.»
فرأت جهان سبيلا لمخاطبته فقالت: «مسكينة آفتاب! إني أحبها محبة الابنة لوالدتها، ولم ألق امرأة أطيب قلبا منها، وقد كنت كثيرة الاستئناس بها.»
وهب المرزبان بغتة كأن شيئا نبهه فقال: «أين سامان؟ هل أتى الموبذ؟ ادعوه لي حالا. إن سامان لا يعول عليه.» قال ذلك وهز رأسه هزة كلها معان.
فنهض ضرغام وقال: «أنا ذاهب لاستدعائه فإني أعرفه وأعرف مكانه.»
فقال المرزبان: «لا تكلف نفسك الذهاب وفي قصرنا عشرات من الخدم والخصيان ... ولو لم يتصد سامان للذهاب بنفسه لكان لنا غنى عنه بواحد منهم.»
فقال: «قد أحسن سامان بتطوعه لتنفيذ أمر أبيه بنفسه. وإذا أذن مولاي أن أتولى أنا ذلك فعلت.»
فقطع المرزبان حديثه قائلا: «كلا لا تذهب أنت.»
فقال: «أتأذن لي في أن أبعث إليه بخادمي بل رفيقي وردان. فإني لم أكل إليه أمرا إلا أنفذه ولو ركب إليه رءوس الأسنة.» قال ذلك وخرج فنادى: «وردان». فأتاه رجل في نحو الأربعين من العمر خفيف العضل خفيف اللحية، يظهر من بروز أنفه وبقية ملامحه أنه أرمني. وكان قد دخل في خدمة ضرغام بسامرا منذ عهد قريب وسرعان ما اكتسب ثقته بما أبداه من علو همته ونشاطه، فكان ضرغام يعامله معاملة الرفيق فلما وقف بين يديه وعليه عمامة مستديرة وسراويل قصيرة وفروة من جلد الغنم قال له ضرغام: «هل عرفت بيت النار الذي مررنا به مساء أمس وعليه الأنوار والرايات؟» قال: «نعم.»
قال: «اذهب إلى هناك واسأل عن الموبذ، وقل له: «إن المرزبان يريدك في هذه الساعة.» وارجع به معك.» فأشار مطيعا وخرج.
أما جهان فأصبحت متشوقة لتحادث ضرغاما وتشاكيه الغرام، وكانت تشعر بأن رأسها مملوء بالأخبار التي يلذ لها كشفها له، على عادة المحب إذا فارق حبيبه فإنه لا يمل الكلام مهما يكن موضوعه أو مرماه، فلا عجب إذا اشتاقت جهان لمجالسة ضرغام بعد ذلك الفراق الطويل.
وكان هو في مثل شوقها ولهفتها. ولكنه كان في حيرة لا يدري كيف يتسنى لهما ذلك. فإذا بالمرزبان ينادي جهان قائلا: «مري «المهتر» - قيم الدار - أن ينزل حبيبنا ضرغام في القصر، ويعد له ما يحتاج إليه، ومتى فرغ من ذلك يجيء إلي فإني أريد أن أختلي به حينا حتى يأتي الموبذ.»
فخرجت لتنفيذ ما أمر به أبوها. وسبقها ضرغام إلى قاعة خاصة تعود أن يراها جالسة فيها. •••
حينما خرج وردان من قصر المرزبان رأى الناس يتزاحمون ببابه بأفراسهم وهداياهم وعليهم أثواب العيد وهم ينتظرون الإذن في الدخول، فلما رأوه خارجا جعلوا يتساءلون عن سبب عجلته وسأله بعضهم عن حال المرزبان فلم يجبهم وظل سائرا حتى جاوز القصر، فمضى في الطريق وقد تزاحمت فيها الأقدام وتصادمت المناكب والناس في شغل شاغل من أمر العيد، وهم يحملون الفاكهة والحلوى، ويتبادلون التهنئة. فلم يكترث لشيء من هذا، ومشى حتى أطل على بيت النار. والأعلام تخفق على سوره وحوله مقاصير تعد بالعشرات، يقيم بها السدنة والخدم والقوام، وقد تزاحم الناس ببابه الذي زين بالريحان. فتظاهر وردان بأنه واحد من عباد النار وقد جاء لأداء فريضة الزيارة. ودخل إلى صحن المعبد فرآه مفروشا بالديباج والحرير، تحيط به أروقة مستديرة قد علقت فيها الستائر المطرزة وبعضها مرصعة بالحجارة الكريمة.
واتصل من الصحن بباحة المعبد حيث يقيمون الصلاة، فإذا هي بقعة مربعة يقوم وسطها بناء معقود في وسطه فجوة بمثابة الباب يصعد إليها بخمس درجات. وحول الباحة أحواض ملتصقة بالجدران أوقدوا فيها النيران وأحرقوا البخور فتصاعد دخانها في الفضاء، وعلى زوايا القبة أجران تصاعد دخانها كما تصاعد من مئات أمثالها فوق السور. وفي بعض جوانب الباحة إلى اليسار وعاء مستدير مملوء بالنفط يتصاعد اللهب من فوهة فيه، وقد اصطف الناس حوله بين جلوس ووقوف وهم يتعبدون أو يصلون.
ورأى رجلا واقفا على الدرج ظنه الموبذ، فهم بالذهاب إليه فاعترضه رجل على رأسه قلنسوة مستطيلة هرمية الشكل عرف من منظره أنه أحد السدنة، فقال له وردان: «أريد مولانا الموبذ. أليس هذا هو؟» وأشار إلى الرجل الواقف على الدرج.
فقال السادن: «كلا، إن الموبذ مشغول الآن.»
قال: «وأين هو؟»
قال: «ما لك وله؟! إذا شئت الصلاة أو البركة فهذه هي النار في الأجران.»
قال: «بل أنا أريد الموبذ.»
فحول الرجل وجهه عنه وقال: «إنك لن تظفر برؤيته إلا بعد الصلاة.»
فاستمهله قائلا: «لا تغضب يا سيدي فإني غريب وقد أتيت من خوكند بالأمس وعهدي بكم تكرمون الغرباء.»
فخجل السادن ووقف له وقال: «ألم تأت للصلاة أو الاقتباس؟ أمامك النار المقدسة فاقبس منها ما شئت.» قال: «بل أنا أريد الموبذ.»
فتقدم السادن وأدنى فاه من أذنه وهمس قائلا: «إن الموبذ في خلوة مع بعض الكبراء في هذه الحجرة التي إلى اليمين، فانتظر خروجه أو افعل ما شئت.»
فمد وردان يده إلى جيبه وأخرج دنانير دفعها إليه وهو يبتسم وقال: «ألا تأذن لي أن أدنو من الحجرة أصلي بجانبها استئناسا بمولانا الموبذ.»
فتناول السادن الدنانير وقال: «افعل ولكن احذر أن يشعر بك أحد.»
فقال: «طبعا.» وهرول إلى الحجرة معتزما أن يحتال للدخول على الموبذ ويبلغه أمر المرزبان. فلما دنا من الباب رأى الموبذ ومعه رجلان بلباس فاخر. عرف أن أحدهما «الأفشين» ثم ما كاد يعرف الآخر حتى اضطرب دهشة إذ عرف فيه رجلا في نفسه منه أمر عظيم، وهو أصبهنذ (نائب) بابك الخرمي.
وأخذ يسائل نفسه عما جاء به من أردبيل في أرمينيا، وبينها وبين فرغانة سفر طويل؟ فلما لم يجد جوابا شافيا وقف في مكانه متظاهرا بالصلاة والدعاء، وأخذ يفكر في سبب هذه الخلوة في بيت نار المجوس بين «الأفشين» قائد جند المسلمين، ونائب بابك الخرمي المجوسي ألد أعداء المسلمين!
وبعد هنيهة تحول إلى فرجة تؤدي إلى ممر وراء الحجرة به نافذة تشرف على ما في داخلها بحيث يرى الجلوس فيها وهم لا يرونه. فتربص وأخذ يتفرس فيهم فرآهم جالسين على بساط من الديباج؛ الموبذ بقلنسوته وقبائه الأرجواني، والأفشين بعمامته حول القلنسوة. والأصبهبذ بالقلنسوة بلا عمامة. وكان عهده بالأفشين يلبس الجبة السوداء شعار العباسيين، وطالما رآه يصلي بمسجد سامرا. فعجب لارتدائه القباء الأرجواني الذي يلبسه كبار المجوس في العيد. ولوجوده مع المصلين في بيت النار. على أنه لم يستغرب مجوسية الأصبهبذ؛ لعلمه بأنه لم يعتنق الإسلام.
وأصاخ بسمعه إلى ما يقولون فسمع الموبذ يقول: «سنفوز بعون أورمزد، ولكن علينا أن نصبر.»
قال الأصبهبذ: «إننا صابرون، ولن يطول اصطبارنا بشرط.» وسكت فجأة. فقال الأفشين: «لا بأس من الصبر وإن طال، ولكن ما كان ينبغي لصاحبك أن يغير رأيه في.»
فقال الأصبهبذ: «إنه لم يغير رأيه فيك، ولكنه رآك أصلت التقرب من أولئك اليهود الذين يسمون أنفسهم مسلمين أو عربا. وقد أرسلني للاجتماع بك في هذا العيد لأذكرك بعهدك بين يدي الموبذ.»
فضحك الأفشين وقال: «ربما ظن صاحبك أنني غافل عما تعاهدنا عليه هنا منذ بضع سنين ومعنا المازيار صاحب طبرستان. ولكن هذا هو الموبذ يشهد بأني أقمت بعهدي.»
فأشار الموبذ برأسه أن «نعم». واستطرد الأفشين قائلا: «إن هذه النار تشهد على عهدنا، فقل لأخي بابك بأنني لا أدخر وسيلة في جمع المال وإرساله، ولا أخطو خطوة في حرب أو سلم لدى المعتصم إلا اقتضيت عليها مالا أرسله إلى خزينتنا بأشروسنة. وأما المازيار فإنه كذلك مقيم على العهد، ولم يحضر معنا هذا العام لأسباب خاصة. وقد كتب إلي يحثني على الثبات، ويعد بأن يكون هو وطبرستان كلها معنا متى تحركنا. ولا شك أنه أشد غيرة منا على التخلص من هذه الدولة وإرجاع دولة الفرس.»
فقال الأصبهبذ: «ذلك عهد مولاي بك، ولكنه رآك أطلت الرضوخ لحكم اليهود كأنك أصبحت واحدا منهم حتى تصديت لحربنا غير مرة.»
فقهقه الأفشين وهز رأسه قائلا: «ألمثلي يقال هذا؟ وهل يخفى قصدي على أخي بابك؟ ألا يعلم أني إذا خرجت لحربه فإنما أفعل ذلك إخفاء لغرضي! إنني لن أدع فرصة تسنح دون أن أنتهزها لنقوم جميعا قومة رجل واحد فننال أمنية قصر عن نيلها أبو مسلم الخراساني وجعفر البرمكي والفضل بن سهل! إن هؤلاء أفسدوا أمرهم بالعجلة، أما نحن فسنفوز بالتؤدة.»
فالتفت الموبذ إلى الأصبهبذ وقال: «صدق الملك. فإنه رجل حنكه الدهر، فأبلغ ولدنا بابك أن ينتظر. وليثق بأن أورمزد في عوننا. فقد رأيت فيما يرى النائم أن الفوز قد دنا أجله.»
وكان وردان يسمع الحديث وقد أخذته الدهشة، وكيف لا وقد تبين أن قائد جند الخليفة مجوسي يمالئ أعداء المسلمين على الإيقاع بالدولة عند سنوح الفرصة. على أنه اغتبط بأنه حصل على سلاح ماض يستعمله عند الحاجة. ثم رأى الموبذ يتحفز للنهوض، فنهض الأفشين ورفيقه وتلثما تخفيا. فغادر مكمنه، ثم وقف في صحن الهيكل ليلتقي بالموبذ عند خروجه.
وكان الناس في شغل شاغل بعبادتهم، فأومأ إليهم السادن أن الموبذ خارج، فتهيئوا للتبرك بطلعته، ووقف وردان بينهم يقلد حركاتهم، ثم ظهر الموبذ يخطر بثوب يبهر البصر بألوانه وتطريزه، وفي عنقه عقد من الجوهر، وفي شماله صولجان قبضته مذهبة، وفي يمينه عصا يضرب بها الأرض مختالا، والناس يطأطئون رءوسهم إجلالا وتعظيما له.
فلما اقترب من وردان، سارع هذا إليه وأكب على يده يقبلها وقال: «إن مولانا المرزبان يدعوك إليه الساعة لأمر ذي بال.»
فقال: «هل اشتد المرض عليه؟»
قال: «لا أدري، ولكنه ألح علي أن أرجو منك أن تزوره الآن، وأمرني ألا أعود إلا بك.» قال: «انتظرني خارجا لأذهب معك.»
فخرج وردان محاذرا أن يراه الأفشين لئلا يدرك أنه اطلع على شيء من سره. ولما صار بالباب رأى مركبة شد إليها فرسان عليهما العدة المذهبة فعلم أنها معدة للأفشين. ثم خرج الموبذ فركبها والأفشين إلى جانبه وهو ملثم، وأشار إلى وردان فركب أحد الفرسين، ومضوا إلى قصر المرزبان.
الفصل السابع
اجتماع المحبين
تركنا ضرغاما في انتظار جهان بغرفتها وأهل القصر لا يرون بأسا من اجتماعهما، لما يعلمونه من منزلة ضرغام عند مولاهم، ولأن جهان لا تحتجب عن الرجال، جلس ضرغام على كرسي في بعض جوانب الغرفة ينتظر حبيبته وهو على مثل الجمر وقد أهمه ما شاهده من مرض أبيها وتشاءم من ذلك، ولكن شوقه لجهان وشدة رغبته في مقابلتها أنسياه كل شاغل.
ثم سمع صوتها بجانب باب الغرفة تكلم «المهتر» وتوصيه بما أمر به أبوها، فخفق قلبه، ثم دخلت فلما أقبلت عليه خف للقائها وكلاهما يبتسم وقلبه يضحك، وقد نسيا الدنيا ومصائبها كأنهما انتقلا من عالم الشقاء إلى عالم السعادة والهناء.
وإذا عجز الفلاسفة تمثيل الفردوس، فإن أقرب مثل لحال المقيمين به، وحال حبيبين تصافيا وصفا لهما الزمان وخلا الجو، فاجتمعا وطفقا يتشاكيان لا يزعجهما رقيب، ولا يخامر قلبيهما شك أو غيرة. تلك هي الجنة لولا ما ينتابها من القصر، أو يعرض لأصحابها من طوارق الحدثان.
فلما رأت جهان حبيبها واقفا لاستقبالها هشت له ومدت يدها لمصافحته، فمد يده وقبض على كفها وقلبه يضحك وعيناه تبرقان. وإذا كان، وهو الشجاع الباسل الذي لا يهاب مواقف القتال، قد ارتعد واضطرب. فكيف يكون شأنها وهي مهما تبلغ من رباطة الجأش والتعقل لا تخرج عن طبيعة المرأة الحساسة!
وبدأ ضرغام الكلام فقال: «لقد أطلت الغيبة عليك يا سيدتي.»
فنزعت يدها من يده ونظرت في عينيه نظرة المحب العاتب وقالت: «لا تقل سيدتي بل ...» وتشاغلت عن إتمام الكلام بالقعود وهي تدعوه إليه، فقعد كل منهما على كرسي، وأدرك هو مرادها فقال: «كيف لا أدعوك سيدتي وأنت جهان عروس فرغانة وبنت المرزبان، وأنا ضرغام اليتيم ابن آفتاب الأرملة المسكينة؟!»
فقطعت كلامه قائلة: «بل أنت سيدي ومولاي. ليس لأنك رئيس حرس الملك أو قائد جند الخليفة، ولكن لأنك شهم نبيل باسل. بل إن هذا أيضا لا يزيدك رفعة في عيني. إني أشعر بشيء آخر يعجزني التعبير عنه؛ أشعر بسلطة لك علي، إذا لم تسعفني بالتعبير عنها كنت حزينة بائسة!» قالت ذلك وتوردت وجنتاها وغلب الحياء عليها، فعلم أنها تعني الحب وأن الحياء يمنعها من التصريح فقال: «إن العامل الذي تحسبين ضرغاما المسكين أصبح به سيدا قد جعل الأميرة جهان معبودة فأنا عبدها الخاضع المطيع.»
فقالت: «قلت لك إني عاجزة عن أداء ما في خاطري أو بيان أسبابه، وإنما أعلم أن منزلتك عندي لا تعلوها منزلة أحد على وجه هذه البسيطة. ويهمني الآن ألا نضيع الوقت سدى؛ إذ أخشى أن يأتي الموبذ فيدعوني أبي إليه.»
ولما ذكرت أباها تذكرت حاله فتنهدت ثم استدركت فقالت: «إن وقتنا ثمين يا حبيبي. نعم يا حبيبي! سامحني إذا دعوتك بهذا اللقب قبل أن تدعوني أنت به. آه من سلطان الحب!»
فقال وقد هاجت أشجانه: «لا يحق لأحد أن يبدأ بهذا التصريح سواك، وقد فعلت حتى يكون لك فضل المتقدم. وهل أجسر أنا أن أدعوك به قبل أن أسمعه من فيك؟ فأحمد الله على ذلك. وحق لي الآن أن أسميك حبيبتي ... آه ما أشهى هذا اللفظ في فمي، وما أخفه على قلبي! لطالما كررته في خلواتي، وكم تمنيت أن أسمعه من فيك. وقد سمعته. فهل في العالم رجل أسعد مني؟!»
فأطرقت وهو لا يحول نظره عنها وكأنه يهم بأن يضمها بجفنيه تهيبا من أن يضمها بذراعيه، فلما رآها مطرقة وقد بدا الاهتمام في محياها اختلج قلبه في صدره وتوهم أنها ستخطف من بين يديه فقال: «ما بالك مطرقة يا حبيبتي؟»
فرفعت بصرها إليه وابتسمت وقد فهمت ما خالج خاطره وقالت: «لا تذهب بك المخاوف بعيدا. إني لم أسمك بهذا الاسم وأنا أخاف أحدا أو أخشى بأسا، ولا سيما بعد أن آنست من أبي ما آنسته من الارتياح إليك والتعلق بك، ولولا مرضه. آه لولا مرضه ...!» وسكتت.
فقال : «أرجو أن يشفى قريبا.» وسكت وعيناه تتفرسان في عينيها، وكل منهما يقرأ فكر صاحبه، ولعلها قرأت أكثر مما قرأ هو فقالت: «ضرغام، لا ينبغي أن يغلب الضعف على جهان حتى تخفي إحساسها عن حبيبها وتحمله على الشك في شيء من أمرها. لقد تعاشرنا أعواما وعرف كل منا صاحبه حتى امتزجت روحانا فما في الأرض قوة تستطيع التفريق بيننا، وأراني غير قادرة على الاستقلال بفكري أو حياتي عنك. فأنا أشعر بأنك مني وأنا منك. فإذا فكرت في شيء رأيت فكري يمر على تذكارات أنت قوامها، وإذا تخيلت أمرا كان خيالك نصب عيني يحول بيني وبينه، ولا ترتسم في عقلي صورة إلا وفيها شيء من صورتك. فهل بعد ذلك يستطيع البشر أن يفصلوا بيننا؟ وإذا استطاعوا التفريق بين هذين الثوبين الباليين فإنهم أعجز من أن يفصلوا بين روحينا وفكرينا. ولكننا مقبلون على أمر عظيم. فإذا تجاوزناه ...» وسكتت وحولت وجهها عنه خشية أن يبدو له ما يتردد في مآقيها.
أما هو فأسكره تعبيرها ومرآها، على أنه لم يفهم مرادها فقال: «وما الذي يخيفك؟ لا أعهدك تخافين، ولك من تعقلك وثبات جأشك حصن حصين. وهذه روحي بين يديك فارمي بها من تشائين.»
قالت: «سلمت روحك يا ضرغام. إني لا أخاف شيئا؛ إذ ليس في الأرض قوة تستطيع أن تبعدني عنك. وكنت أحاذر أن أجد من أبي تغيرا أو فتورا، فذهب حذري اليوم. ولكنه مريض، فعساه أن يشفى قريبا.»
قال: «يشفى بإذن الله. وهل تخافين شيئا آخر؟»
قالت: «أتوقع أمورا كثيرة تخيف غيري، ولكنني لا أخافها لأني أعدها أعراضا وأنت الجوهر، فإذا كنت لي فقد ملكت الدنيا وما فيها - اعذرني على هذا التصريح وخاطبني بمثله فإني لا أحب التكتم والتردد!»
فقال بلهفة وعزم ثابت: «تريدين أن أصرح بأني أحبك، أو بأني أترك الدنيا لأجلك؟ إن هذا لا حاجة لي إلى ذكره، والظمآن لا يطلب منه الاعتراف بحاجته إلى الماء، والتعس لا يسأل هل يتمنى السعادة. وأنا بغيرك ظمآن بلا ماء، وجسم بلا روح، وأنت سعادتي وحياتي وأنت كل شيء!»
فأبرقت عيناها وسري عنها وقالت: «هذا كل ما أبغيه. إني أسمع صوت سامان في الدار، وربما دخل علينا فيقطع حديثنا، فنحن على العهد وعند إبلال أبي سأفاتحه في هذا الشأن ثم أخبرك بما يكون.» قالت ذلك وتحفزت للوقوف، فإذا بخيزران قد دخلت وفي وجهها انقباض ولهفة، فنهضت جهان لملاقاتها فابتدرتها خيزران قائلة: «إن سامان داخل على مولاي المرزبان.»
قالت: «وهل أتى الموبذ معه؟» قالت: «كلا».
فهزت رأسها وحرقت أسنانها ثم قالت لها وهي تشير إلى ضرغام: «هل رأيت ضرغاما؟»
قالت وقد علاها الخجل: «لم أره يا سيدتي. اعذريني لدخولي بهذه اللهفة فقد شغلت بأمر سامان لعلمي أن أباك يستاء من دخوله عليه وقد أوصى بألا يدخل عليه أحد.» وتحولت إلى ضرغام فحيته باحترام وهمت بتقبيل يده.
فرد التحية وابتسم لها، وكان يستأنس بها لعلمه بحبها لجهان، وقال: «ما لي أراكم تخافون دخول سامان على أبيه؟!»
قالت جهان: «لأن أبي تكدر منه أمس لإهماله المجيء بالموبذ إليه.»
قالت ذلك وخرجت وهي تقول: «سأذهب إلى أبي ثم أعود.»
لبث ضرغام في مكانه وسارت جهان حتى أتت غرفة أبيها، فرأت سامان واقفا بالباب والحاجب يحول بينه وبين الدخول وهو يجادله مغضبا، فقالت: «ما بالك يا أخي؟»
قال: «إن هذا الرجل يمنعني من الدخول على أبي.»
قالت: «لا تغضب فإن أبانا في فراشه، وقد صرفني وأدخل المهتر ليكلمه في بعض الشئون. هل رأيت الموبذ؟»
قال: «لا. لم أجده.»
قالت: «ألا تعلم أن رجوعك وحدك يغضب أبانا؟»
وبينما هما في ذلك سمعا المرزبان ينادي من الداخل: «لا تدخلوا علي سامان، ادخلي يا جهان.»
فالتفتت إلى أخيها وقالت له هامسة: «اذهب يا أخي إلى الإيوان، ولا تكدر أبانا، وسأعود إليك حالا.» فأطاع وانصرف. ودخلت هي فوجدت القيم جاثيا بين يدي أبيها وأمامه أوراق ودفاتر وقلم ودواة، ورأت أباها جالسا في السرير وقد تغير وجهه وبدا الجد في عينيه، فلما دخلت رفع بصره إليها وابتسم، فبشت له ودنت منه فقبلت يده وقالت: «وكيف أنت الآن يا أبتاه؟ عسى أن تكون بخير!»
فضمها إليه وقبلها وأطال معانقتها، وأحست بدمعة حارة سقطت على عنقها فارتجفت ونظرت في وجهه فرأت الدمع في عينيه، فأثر منظره فيها، وكأنه خاف أن تنزعج فقال وهو يتكلف الابتسام: «إنني في خير. لا تخافي. سأعمل كل شيء في سبيل راحتك، اجلسي.» وأشار إلى القيم فخرج وأغلق الباب، فأعادت نظرها إلى ما بين يدي أبيها من الأوراق والدفاتر ولم تستحسن أن تسأله عنها.
أما هو فتثاءب وأشار إليها أن تساعده على التوسد فأعانته، فاستلقى واتكأ على الوسادة وقال: «علمت أن أخاك سامان عاد هذه المرة أيضا وحده، فإنه لا يرى في مجيء الموبذ نفعا له.»
فقالت: «لقد أرسل ضرغام خادمه ليأتي بالموبذ، ولا يلبث أن يجيء، فاطمئن.»
وقد ذكرت ضرغاما عمدا لترى ما يبدو من أبيها، فقال: «إن ضرغاما جل كريم النفس، وقد سررت بلقائه وهو جدير لأن يكون أخا لك لا سامان الشرير.»
فسرها ثناؤه على حبيبها، وهمت بأن تفاتحه في شأنه وإذا بالحاجب دخل يقول: «الموبذ بالباب ومعه الأفشين.»
فلما سمع اسم الأفشين أشرق وجهه وبغت وقال: «والأفشين أيضا؟!»
قال: «نعم يا سيدي.»
أما جهان فلما سمعت اسم الأفشين انقلب سرورها كآبة، ووقفت كأنها تحاول الفرار من رؤية ذلك الرجل، ولكنها تجلدت ولبثت تنتظر أمر أبيها فقال لها: «لا بأس من بقائك هنا إذا شئت، ولك الخيار.»
قالت: «أتأذن لي في الخروج؟»
قال: «اخرجي واطمئني.» فخرجت من باب سري في ناحية من الغرفة، والتفت المرزبان إلى الحاجب وقال: «يدخل الموبذ والأفشين.»
فدخل الموبذ والأفشين وراءه، وتوجه الموبذ أولا إلى الصنم فوقف أمامه وانحنى متمتما، وفعل الأفشين فعله.
فأشار المرزبان إليهما فجلسا، ثم رحب بهما ووجه كلامه إلى الأفشين قائلا: «لقد أبطأت علي حتى اشتد شوقي إليك.»
فقال وهو يحك ذقنه وقد شاب معظمها لأنه كان في نحو سن المرزبان: «كان قد طرأ علي ما عاقني فلم أصل إلى فرغانة إلا اليوم. كيف أنت؟»
قال: «كما تراني. وقد جئت في إبان الحاجة إليك.» ثم التفت إلى الموبذ وقال: «أرسلت في طلبك غير مرة فلم تأت.»
قال: «لم يأتني أحد قبل الآن.»
قال: «أرسلت إليك بني سامان أمس واليوم فلم يجدك في كارشان شاه.»
فاستغرب الموبذ كلامه وقال: «إني لم أفارق المعبد منذ ثلاثة أيام لمناسبة العيد وتقاطر الناس إلى فرغانة للتبرك وإيفاء النذور. وكيف تدعوني ولا أجيب؟! وكيف يسأل عني في المعبد ولا أعلم. لا شك أن ولدنا سامان لم يسأل عني أو لعله سأل غير العارفين.»
فحرق المرزبان أسنانه غيظا وقال: «بل هو لم يسأل عنك. ولا أدري غرضه من ذلك أو لعلي أدري ولا أقول، ولقد آن وقت الجزاء وهذا أخي الأفشين شاهد.» ثم صفق فدخل الحاجب فقال له: «لا تأذن لأحد علينا وأغلق الباب.»
كانت جهان قد غادرت الغرفة منفعلة مضطربة لمفاجأتها بقدوم الأفشين، ولما لاحظته من اهتمام أبيها بإعداد الورق والدواة والقلم. فسارت توا إلى ضرغام فرأته واقفا بالإيوان وحده، فأنستها رؤيته هواجسها، وسري عنها. أما هو فتقدم نحوها وسألها عن أبيها، فقالت: «إنه أحسن حالا من الصباح وقد ذكر أنه كان يتمنى أن تكون لي في مكان أخي سامان. فليته علم أنك خير منه مكانا.» قالت ذلك ونظرت إليه نظرة أغنته عن شرح كثير.
فقال لها وعيناه تضحكان: «أشكرك على حسن ظنك يا جهان. وكيف تركت أباك الآن؟»
فتنهدت وقالت: «ألم تعلم بمجيء الأفشين والموبذ؟»
قال: «هل جاء الأفشين أيضا. إني لم أر وردان بعد.»
قالت: «أتيا معا ... هذا الذي كنت أتخوفه! ولكن لا بأس ما دام أبي أحسن حالا.»
قال: «وأين هما؟» قالت: «هما عنده في خلوة وقد خيرني بين البقاء معهم وبين الخروج ففضلت الخروج للتخلص من رؤيتهما ولكي أشاهد حبيبي ضرغاما.»
قال: «لعل خلوتهم ستطول. فهل تأذنين لي بالانصراف برهة ثم أعود؟»
قالت: «إلى أين تتركني؟»
قال: «إذا شئت بقيت، ولكنني لن أطيل الغياب.»
قالت: «اذهب في حراسة أورمزد ولا تبطئ.»
فلما سمعها تذكر أورمزد قال: «لقد أذكرتني شيئا لا بأس من سؤالك عنه فهل أقول؟»
فحدقت في عينيه فقرأت فكره وقالت: «أظنك ستسألني عن أورمزد وأنت تدين لغيره أليس كذلك؟»
فدهش لفراستها وقال: «نعم هذا سؤالي.»
قالت: «إني أدين بما تدين به لأني لا أحب فراقك في الدنيا ولا في الآخرة.»
ففرح لتعلقها به وقال: «ولي سؤال آخر!» قالت: «قل ما بدا لك.»
قال: «أنت تعلمين غرام والدتي بالإقامة بالعراق لسر لا أعلمه.»
فقطعت كلامه وقالت: «إني أكون حيث تشاء أنت، فإن الدنيا كلها حيث تقيم، ولا يهمني شيء مما لنا في فرغانة أو غيرها.»
فقال: «قد نلت الآن ما أتمناه وقبضت على السعادة بيدي. فهل تأذنين في ذهابي لأرى رجال الوفد الذين صحبتهم فأتخلص منهم ثم آتي الليلة؟»
قالت: «اذهب في حراسة الله.» فودعها وخرج بعد أن أرسل من يستقدم وردان.
الفصل الثامن
موت المرزبان ووصيته
خيل إلى جهان أن قلبها يتحفز للذهاب في أثر ضرغام، فتماسكت واسترجعت رشدها وفكرت فيما هي فيه من أسباب القلق والاضطراب لمرض أبيها فإنه إذا مات تصبح يتيمة ليس لها إلا أخوها، وهو لا يؤمن جانبه ولا يعول عليه. وذكرت خلوة أبيها بالموبذ والأفشين فخفق قلبها خوفا من تلك الخلوة وقامت في ذهنها هواجس كثيرة ومخاوف شتى؛ لما تعلمه من مطامع الموبذان ودسائسهم ولا سيما بعد أن تحولت الكهانة إلى مرتزق لهم ومورد للأموال.
والعقائد إذا تقادم عهدها وتولاها أهل المطامع دب إليها الفساد وأصبحت شرا على الناس من الكفر. وعلى ذلك لم تكن جهان شديدة الأخذ بأسباب دينها. وإنما كانت على الزردشتية مذهب أبيها على غير تفهم أو نقد؛ لأنها ولدت فيها فشبت عليها كما شبت على سائر عاداتها وأخلاقها. وهذا شأن السواد الأعظم من العامة فإنهم يدينون بما يألفونه من صغرهم، وإذا كبروا وتثقفوا ودلهم العلم على مظنة للنقد فيه اغتفروها في جانب ما غرس في قلوبهم وعقولهم من مبادئه، فأصبح الدين كالجنس يغضب له المرء وينصره غيرة وحمية كما ينصر عرضه ويذب عن حياضه.
وكانت تنظر إلى الموبذان وأمثاله مستخفة بما يقولونه ويزعمونه ، فلم تكن تحذرهم لاعتقادهم أنهم يعجزون في كل شيء عدا اكتناز الأموال. فلم يكن اختلاء الموبذ بأبيها ليهمها لو لم يكن الأفشين معه وهي تكرهه بلا سبب ظاهر. وتخافه لأنه ملك ذو أعوان وجند. على أن أباها كان يجله ويعول عليه.
ووقع بصرها عفوا على بساط في الغرفة رأت عليه من الرسوم المزركشة صورة أسد رابض عيناه كأنهما شرارتان فتذكرت حبيبها لأن اسمه من أسماء الأسد. فلما ذكرته ذهبت مخاوفها لعلمها بأنه ما دام بقربها فلا خوف عليها.
بقيت جهان مستغرقة في هواجسها، حتى سمعت وقع أقدام أدركت أنها لخيزران القهرمانة فخفق قلبها توقعا لخبر تسمعه، فلما دنت منها قالت: «إن سيدي المرزبان يدعوك إليه. تجلدي يا جهان وكوني كما أعهدك.»
فأوجست خيفة من تحذيرها ولم تسألها عن السبب اعتمادا على قدرتها في تحمل الصدمات، وأكبرت أن تبدي جزعا فمشت مسرعة، وذكرت أنها سترى الموبذ والأفشين عند أبيها فانقبضت نفسها وظلت سائرة حتى وصلت إلى باب الغرفة فوسع لها الحاجب فدخلت وعيناها إلى سرير والدها. فرأته مستلقيا وعيناه شاخصتان إلى الباب وقد غشيهما الدمع وتكسرت أهدابهما من البكاء. وحالما وقع بصره عليها ابتسم ابتسامة لا حياة فيها، ولولا بريق تينك العينين وما يتحلى فيهما من الحنو والمحبة لظننته ميتا. فتمالكت ودنت من السرير، فلما رآها أحس بنشاط جديد فبسط ذراعيه وفتح فاه ليكلمها فامتنع عليه النطق فاكتفت بحركات شفتيه وترامت على صدره، ولولا ثبات جأشها لأغمي عليها؛ لأنها تحققت في تلك اللحظة أنها لا تلبث أن تصير يتيمة وحيدة.
فأمسكت بذراعي أبيها المحتضر ونظرت في وجهه نظرة الاستعطاف كأنها تتوسل إليه ألا يتركها، فسبقتها العبرات وبكت وهي تمسك أنفاسها لئلا يسمع شهيقها وأطرفت لئلا تظهر دموعها.
أما هو فلم يفته ما خامر قلبها من الحزن والخوف، وأراد تعزيتها فعصاه النطق ولم يزد على أن حرك شفتيه وحول نظره وأشار بيده إلى الأفشين والموبذ. فالتفتت فرأت الأفشين جالسا وفي يده لفافة من الورق فلما رآها تنظر إليه بعد إشارة أبيها أراها اللفافة وابتسم لها كأنه يعزيها. وكان الموبذ واقفا بجانب التمثال يصلي ويتضرع فالتفت إليها وهو يظهر الأسف والحزن. ففهمت جهان خلاصة ما تم في تلك الخلوة وهو ما كانت تخشاه وتحذر الوقوع فيه. وأعادت النظر إلى المريض وصاحت: «كيف أنت؟ إنك في خير.»
فأراد أن يجيبها ويطمئنها والحشرجة تمنعه من الكلام، فجلست بجانبه وأمسكت يده فوجدتها تندى بعرق بارد، فكادت تصيح وتولول لأنها تحققت أنه في آخر ساعات الدنيا، وتجلدت لكنها لم تستطع إمساك دموعها فأطرقت والدمع يتساقط على خديها وقد زادهما احتباس العواطف توردا وزاد عينيها بريقا. وأما المريض فإن سرعة تنفسه وخرير صدره ودنو أجله لم تفقده شيئا من رشده ولا أنسته ابنته الحبيبة، وجاهد كي يطلق لسانه بكلمة يقولها ولكنه غلب على أمره. فلما تحقق عجزه عن الكلام أشار إليها أن تخرج لعله ينام. فوقفت ترتعد مترددة لا تدري أتطيعه فتخرج أن تبقى بين يديه.
ثم رأته قد ازدادت حشرجة صدره وأخذ يدير رأسه ويلتفت كأنه يحاول النهوض ولا يقوى عليه، وأخيرا حدق نظره في جهان فتطلعت في عينيه فرأت ماءهما قد جف وذهب منهما بصيص الحياة وكأنه هم بأن يبسط يديه نحوها فلم ترتفعا إلا قليلا، ثم شهق وأرخى يديه وسكن صدره وهمد جسده وأظلمت عيناه وتراخت أجفانه وبرز أنفه ووجنتاه، واصفر اصفرار الموت ونفش شعر لحيته ورأسه حتى أصبح منظره مروعا مفزعا، فصاحت جهان: «وا أبتاه!» وحلت شعرها ولطمت وجهها وسمع أهل القصر صوتها، وبلغ الخبر إلى القهرمانة فركضت وأخذت بيد جهان وراحت تخفف عنها وتعزيها.
ولما قضي الأمر أخذ أهل القصر في إعداد المأتم كما هي عادة المجوس، فغسلوا الجثة وألبسوها ثوبا أبيض ووضعوها على دكة في غرفة كبيرة أخلوها من الأثاث، وجلس الأخصاء حولها. والموبذ يصلي ويدعو وهم يؤمنون ويستغفرون. وبعد هنيهة جاء سامان وكان غائبا عن البيت وأخذ يندب أباه والناس يخففون عنه، وأما جهان فبعد أن استسلمت للجزع ساعة الوفاة رجعت إلى نفسها فغلب عليها التعقل وإعمال الفكر. وكانت تفكر في ضرغام مصدر تعزيتها الوحيد فأخذت تتلفت لعلها تجده قادما فتتعزى برؤيه ومخاطبته.
ثم أشار إليها الموبذ أن تتبعه إلى غرفة أخرى، ومشى فتبعته مطأطئة الرأس، وتبعها سامان فلما خلا الموبذ إليهما قال: «لا ينبغي أن تبالغا في الحزن على أخينا الراحل، فإن أورمزد معه لأنه كان رجلا تقيا محسنا، وسنوقد النيران على اسمه ثلاثة أيام ونجعل وقودها الند والصندل. ولا يخفى عليكما أن روح أبيكما لم تفارق هذا المكان بعد ولا تفارقه إلا بعد ثلاثة أيام فلا تحزناها بالبكاء والنوح. وقد أوصى بتفريق الحسنات والمبرات وهو لا ريب عندي من أهل النعيم. ولذلك فإن روحه بعد أن تقضي ثلاث ليال حول الجثة تصعد إلى الأماكن المباركة فتلاقي ضميره على هيئة حورية تقص عليه حسناته وتقوده إلى النور الأبدي. كما أننا سنوالي الصلاة على روحه طول السنة فلا تجزعا. على أني أبلغكما وصيته عن دفنه.»
وكانت جهان تسمع مطرقة وتتلقى دموعها بمنديلها، فلما قال ذلك رفعت بصرها إليه وفي عينيها ملامح الاستفهام فقال: «لقد أوصى بأن ندفنه في برج السكوت.»
فلما قال ذلك بانت الدهشة على وجه الفتاة وأخيها وقالت: «كيف ذلك؟! إنما يدفن في برج السكوت عامة الناس والفقراء، ومثل أبي يدفن في حجرة خاصة.»
قال: «نعم ولكنه أوصى بدفنه هناك، وأسر إلي السبب الذي بعثه على ذلك ولا أقدر أن أبوح به.»
فاكتفت بقوله وسكتت، أما سامان فلم يسكت وقال: «كيف ندفن أبانا المرزبان في برج السكوت وأنت تعلم أنه مدفن العامة، توضع فيه الأجساد على أحجار تعرضها للهواء وتذهب طعاما للنسور والكواسر فلا يبقى منها إلا العظام ثم تطرح هذه في البئر العميقة وسط البرج فتختلط بعظام الطغام والمجرمين و...»
فاستغرب الموبذ اعتراضه ولم يعره التفاتا وإنما قال له: «هذه وصية الفقيد بحضور مولانا الأفشين وقد دونها في وصيته التي ستتلى عليكم بعد بضعة أيام.» قال ذلك وتوجه إلى قيم القصر فأوصاه بما ينبغي إعداده للدفن.
وقضى القوم بضعة أيام في المأتم وتوابعه من مراسم وتعاز وإحسانات وصلوات . وطال انتظار جهان رجوع ضرغام، وشغلت لإبطائه وزادها هذا حزنا على حزنها، وغم عليها أن المهمة التي ذهب فيها قد تستغرق أسابيع، والمحب كثير القلق سريع التخوف. ولكنها آنست من أخيها سامان تقربا وتلطفا لم تعهدهما فيه قبلا، فلم يعد يفارقها لحظة، وكلما رآها تتضجر خفف عنها. ولم يكن غافلا عن تعلقها بضرغام وإن لم يفاتحها في شأنه من قبل، فأخذ يكثر من ذكره وبالغ في الثناء عليه، مع أنه كثيرا ما كان يحسن لها غيره ولا سيما بابك الخرمي. وكان سامان لا يعرف الحب ولا يشعر بجواذب المحبين ولكنه لذكائه ودهائه لم يكن يخفى عليه أمرهم وأوجه الضعف فيهم.
ورغم قوة فراسة جهان وسوء ظنها بأخيها، كانت تلتذ بحديثه، وسرها أنه يحب حبيبها ويعجب بمناقبه وبسالته، فاستأنست به وأخذت تتناسى ما كانت تعهده من نقائصه أو تخافه من مطامعه.
ذلك هو سلطان الحب، يعمي ويصم فمهما أوتي صاحبه من الحكمة والتعقل فإنه يفقدهما إذا وقع في شراكه، وقد يبقى حكيما في كل شيء، وقد يعد من كبار أهل الدهاء والسياسة أو من كبار العلماء أو الشعراء أو الفلاسفة، ولكنه إزاء الحب يكون كالطفل يقاد بخيط، وقد يغلب عليه الوهم في بعض الأحوال حتى يصدق المستحيل ويعتقد الخرافات إذا كان في ذلك ما يسهل عليه أمنية أو يطمئن له قلبا.
ومن هنا نرى الأب الحنون مهما يبلغ من إثارة الخرافات إذا مرض ابنه وفشلت في علاجه حيل الأطباء قادته رغبته في شفائه إلى تصديق ما يصف الدجالون! •••
بقي الموبذ والأفشين يترددان على قصر المرزبان أثناء المأتم قياما بواجب العزاء، وسامان في شوق إلى معرفة وصية أبيه. فلما انتهى المأتم جاء الموبذ وطلب الاختلاء بجهان وأخيها، فلما اختلوا أخرج من جيبه أسطوانة من فضة فتحها وأخرج منها درجا ملفوفا وقال: «هذه هي وصية أبيكما التي عهد بها إلى مولانا الأفشين بحضوري.» والتفت إلى جهان وقال: «والحق يقال أن أباك قد أحسن الاختيار بإلقاء مقاليد الوصية إلى صديقه الأفشين.»
فأصاخت جهان بسمعها وسامان جامد لا يتحرك. ففتح الموبذ الدرج وقال: «وقد أوصاني مولانا الأفشين بأن أبلغكما الوصية ثم أدفعها إليه فاسمعاها وتفهماها.» ثم أخذ يتلوها متمهلا، وهذه هي:
هذا ما عهد به المرزبان طهماز في فرغانة، في آخر يوم من أيام حياته، إلى الملك الأفشين حيدر بن كاروس صاحب أشروسنة وقائد جند المعتصم، بحضور الموبذ صاحب بيت كارشان شاه وبمعونة أورمزد العظيم، في اليوم العاشر من شهر خرداد ماه من السنة ... للإسكندر.
يعهد المرزبان طهماز إلى الأفشين حيدر بن كاروس ملك أشروسنة وقائد جند المعتصم بأن يكون وصيا على أهله من بعده يتصرف فيما خلفه من مال وعقار، فيما يعود على الورثة بالخير، بمقتضى هذه الوصية. ولم يخلف المرزبان طهماز من الورثة الشرعيين غير ولدين، هما الفتى سامان، والفتاة جهان، وقد أوصى بما يملكه جميعه لابنته جهان وحدها فهي الوريثة للقصر بما فيه والضياع وما فيها من ماشية ودواب ومنشآت، ولها كل ما خلفه من جارية ورفيق وأثاث ومصنوعات وآنية ونقد. يكون ذلك كله ملكا لها بشرط إشراف صديقنا الأفشين عليه وتدبيره بما يلهمه أورمزد إليه من أسباب النفع لها.
أما ولدنا سامان فإنه محروم من هذا الميراث كله، لا يصير إليه منه مال ولا عقار إلا ما يكفي لمعيشته على ما يقدره الوصي. وأما سبب حرماني إياه فلم أشأ أن أدونه في هذه الوصية. ولكن لكيلا يبقى مجهولا ويذهب معي إلى القبر قصصته على الوصي بحضور الموبذ. على أن يبقى مكتوما عندهما إلى حين الحاجة.
هذه وصيتي كتبت أمامي، وقد صدرتها وختمتها بتوقيعي، وشهد فيها الموبذ. ومن أخل بحرف منها كان ملعونا خمسين لعنة. وقد فعلت كل ذلك باختياري وأنا في سلامة العقل.
وأوصيت أيضا أن أدفن بعد موتي في برج السكوت في ضاحية فرغانة، وتترك جثتي طعاما للكواسر.
وأورمزد يتولى القيام بهذه الوصية ويعين صديقي الأفشين على العمل بها.
وكان الموبذ يقرأ وسامان وجهان صامتان، حتى بلغ إلى حرمان سامان من الإرث فتغير وجه الشاب وامتقع لونه، ولكنه تجلد وكظم حتى فرغ الموبذ من تلاوة الوصية فقال له: «كيف حرمني أبي من حقي وأنا ابنه الوحيد؟! هذا لا يكون أبدا. أنا وارث اسم أبي ولقبه وأما العقار فلي ولأختي جهان!»
فقال الموبذ: «قد قرأت عليكما الوصية ولا سبيل إلى غير ما فيها. والرأي في كل حال رأي الأفشين، وقد فرغت من رسالتي فائذنا لي في الانصراف، وسيأتي الأفشين فيتولى العمل بالوصية، والدولة تساعده على تنفيذها بالقوة، فأنصح لك يا ولدي بأن تصبر على ما فاتك من إرث والدك.» قال ذلك وخرج مسرعا وخرج سامان يشيعه إلى سلم الإيوان. فلما ودعه ونزل الحديقة وقف سامان ينظر إليه ويحرق أسنانه ويقول في نفسه: «هذا ما كنت أخافه من مجيئك يا موبذ النحس، كم أرسلني أبي لطلبك وأنا أماطل وأحتال لتأخير حضورك خوفا من مثل هذه الوصية؛ لأني كنت أشعر بما في نفس أبي علي. نعم أنا أعرف سبب غضبه وما كنت أظنه عرفه، ولكن ذلك لا يحرمني من حقي في الميراث. صدقت يا موبذ إن الأمر بيد الأفشين اللعين وهذا أطمع من نملة. ولعله سعى في الوصاية ليستولي على التركة ويحرمنا منها جميعا. آه لو كانت جهان تطاوعني لكنا نكيد له كيدا عظيما، ولكنها شديدة التمسك بما يسمونه شرف النفس والأريحية على أني سأكيد لهم جميعا.» وكان يناجي نفسه بهذه الخواطر وهو ينظر إلى الموبذ الذي غادر الحديقة وركب فرسه وسار في سبيله، ثم رجع سامان إلى أخته. وكانت قد شق عليها أن يكون الأفشين وصيا عليها، ولكنها رأت ألا مفر من ذلك. كما شق عليها حرمان أخيها من الإرث، فقالت له: «طب نفسا يا أخي، إنك لن تلاقي ضيما وأنا على قيد الحياة. فأنت أخي وأنا أعوضك عما فاتك من الميراث.»
فأطرق ولوى عنقه تذللا ومسكنة، ثم رفع بصره والدمع في عينيه وقال: «لم يسؤني حرماني من الإرث بقدر ما ساءني سببه، فأي ذنب ارتكبته حتى أعامل هذه المعاملة؟!»
قالت: «لا أعلم السبب ولا يعلمه إلا الأفشين، وسيسافر إلى بغداد ونبقى نحن والمال بين أيدينا نتصرف فيه كما نشاء.»
فشكر لها عطفها عليه، وكظم ما في نفسه، وشق عليه أن يطلع الأفشين والموبذ على سبب حرمانه فسكت، وجلس يفكر في تدبير المكائد ونصب الحبائل، وخاف أن تنتبه أخته لما في ذهنه فشغلها بذكر ضرغام فقال: «لقد أبطأ علينا البطل ضرغام، ولا بد لتغيبه من سبب قهري.»
قالت: «يلوح لي أنه بعيد عن فرغانة، فلو كان بها أو قريبا منها لما فاته خبر المصيبة التي حلت بنا، ولعله يعود قريبا.»
فقال: «لو كان هنا لخفت المصيبة علينا؛ إني أستأنس بطلعته، لقد سموه ضرغاما وهو اسم على مسمى. وكم فيه من خصال تندر في سواه!»
فوقع ذلك الإطراء في نفس جهان وقوع الماء على الظمآن. ومع علمها أن أخاها يمدحه مجاملة لها، أسرع لسماع الحديث عمن تحب، وأخذت تغالط نفسها في أن أخاها يحبه، وأنها كانت مخطئة في زعمها الأول!
وبينما هما في الحديث أتت القهرمانة تنبئ سيدتها بمجيء ضرغام، فخفق قلبها ونسيت حزنها. ولكنها بكت إذ تذكرت إعجاب أبيها به وما كانت تتوقعه من السعادة لو بقي حيا. ثم تجلدت وابتسمت له عندما رأته، فحياها وأخذ في تعزيتها، ثم تحول نحو سامان وعزاه فقال سامان: «إن لنا في بقائك تعزية كبرى.»
ومشت جهان إلى غرفتها فتبعها ضرغام بلباس السفر فدعته إلى الجلوس وقالت: «لقد كانت مصيبتنا مضاعفة لغيابك يا ضرغام.»
قال: «كنت في مكان بعيد اضطررت للذهاب إليه تعجيلا للفراغ من المهمة التي جئت لإنجازها، ولكن ...» وسكت، فسألته: «وماذا جرى؟»
قال: «جاءني أمر الخليفة يستعجلني بالرجوع.»
فأطرقت ثم قالت: «إن سفرك يسوءني كثيرا ولكنني ...»
فقطع كلامها قائلا: «سأبقى في فرغانة؛ لأن فيها قلبي وعقلي وكل جوارحي.» وانتبه إلى أن سامان يسمعه فأجفل وخجل. فقالت له: «لا تخجل، إن أخي عالم بما بيننا، وأراه يحبك كثيرا ويعجب ببسالتك ومناقبك، وليس ما يمنعنا من العلانية، أما بقاؤك هنا فهو أمنية حياتي، ولكنني أرى أن تلبي طلب الخليفة؛ لأنه أكرمك ورفع منزلتك وقد يكون في حاجة إلى حسامك أو رأيك. وهل لم يرسل الخليفة في طلب الأفشين أيضا؟»
قال: «لم يبلغني شيء عن دعوته، ولكنني أظنه يطلبه قريبا؛ لأن الأمر حرب والأفشين كبير القواد. ولكن كيف أسافر وأنت في هذا الحزن وكيف أطمئن وأنت ...!»
فقطع سامان كلامه قائلا: «لا بأس عليها؛ لأن أبانا عهد إلى مولانا الأفشين بتولي شئونها.» وارتجفت شفتاه من الغضب والحقد. فالتفتت جهان إليه وقد شق عليها أن يفشي ذلك لضرغام فيقلقه. وهذا شأن المرأة العاقلة فإنها تكتم متاعبها عن رجلها ولا تظهر له إلا ما يسره، ما لم تضطر إلى غير ذلك.
وعجب ضرغام مما سمعه عن وصاية الأفشين، ونظر إلى جهان مستفهما فقالت: «إن الأفشين صديق لأبي، وكان يثق فيه كثيرا، فأراد أن يكرمني ويهيئ لي أسباب الراحة بعد موته فأوصاه بي بعهد كتبه له وأشهد الموبذ عليه. وما في ذلك شيء غريب.»
فأطرق وأعمل فكرته، فرأى أن الأفشين معه في العراق، فوصايته خير من وصاية رجل من أهل فرغانة لا سبيل له إليه. فمال إلى السفر وأحب أن يسمع رأيها في سفرها معه، فنظر إليها وعيناه تسبقانه إلى الكلام وهي لا تحول نظرها عنه فقال: «إذا كان الأمر كذلك فقد يبقى الأفشين هنا أياما ليدبر ما عهد فيه إليه، وفي هذا ما يطمئنك في بعدنا.»
فأدركت غرضه وقالت: «لا يطول بقائي هنا إلا ريثما تنقضي عدة الحداد، ثم أسافر إلى بغداد؛ فإني لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد بعد وفاة أبي، وقد أصبحت رغم ما ألقاه من مؤانسة الفرغانيين ومحبتهم أشعر بأني غريبة بينهم، ولا سيما بعد أن تسافر.»
وكان سامان يسمع ما يدور بينهما ولا يشعر؛ لأن قلب الأجرود مغلق لا نافذة فيه ولا سبيل للحب إليه، ولكنه رأى من الحكمة أن يجاريهما فلما سمع كلام أخته قال: «إن جهان ولا شك مشتاقة إلى رؤية والدتك في بغداد، فهي صديقتها وكانت تحبها وتأنس بها.»
فالتفتت جهان إلى أخيها لفتة تأنيب وقالت: «أنا لا أحب غير الصراحة ، لكأنك تظنني أخشى التصريح بحبي ضرغاما، على أني لا أرى في الحب عارا، ولو مد أورمزد في أجل أبي عاما آخر لانتهى الأمر على ما تمنيناه. فماذا ترى أنت؟»
فقال سامان: «لا أرى بأسا بحبك ضرغاما؛ إنه أهل لذلك، ولو لم تسبقيني إلى حبه لسبقتك أنا إليه. لولا أنه لا يرضى بهذا البدل!»
فراقها مزاح أخيها، على ما في قلبه من الغيظ منذ سمع الوصية. ولكنها كانت تعرف فيه الكظم والدهاء والحقد. فلما سمعت مزاحه نظرت إليه شذرا في غير غضب، ثم وجهت كلامها إلى ضرغام قائلة: «إن سفرك يسوءني، ولكنه واجب، ولا يمضي إلا القليل حتى ألحق بك.» فقطع سامان كلامها قائلا: «وأنا أكون في خدمتها حتى أصل بها إليك، أو إلى والدتك.»
فأتمت كلامها قائلة: «ولا تظن شيئا من حطام الدنيا يحول بيني وبينك وقد أكتب إليك قبل سفري.» قالت ذلك وهي تشعر بما يهددها من التعب ولكنها كانت كثيرة التعويل على نفسها كبيرة الثقة بتدبيرها. أما ضرغام فكان يخشى أن تمنعه من السفر وهو راغب فيه تحقيقا لآماله، فلما رآها تدعوه إليه زهد فيه وآثر البقاء، فسكت وهو لا يعلم بماذا يجيب، فأدركت تردده فقالت: «إن بقاءك معي أكبر أسباب سعادتي، ولكن القائد الباسل ليس من شأنه إلا أن يلبي الدعوة، فما بالك وهي موجهة إليه من الخليفة مالك رقاب الناس؟!»
وقال له سامان: «كن مطمئنا فإني في خدمتها حتى تصل إليك سالمة.»
ولم يكن ضرغام ممن يتخلفون عن أداء الواجب، ولكنه ظن أن في سفره وحده ما يسوء جهان؛ لأنها لا تستطيع مصاحبته قبل انتهاء أيام الحداد، فلما رآها ترغبه في السفر سري عنه فقال: «إذا كان هذا ما تريدين فأنا طوع أمرك، وغدا أسافر إن شاء الله.»
وأحس سامان بثقل وجوده في تلك الساعة، فنهض بحجة أن لديه أمورا خاصة لا بد من ذهابه لإنجازها ثم يعود، فقالت له جهان: «لا تطل غيابك كعادتك فقد تغيرت الأحوال الآن وأصبح وجودك في القصر ضروريا.»
فأشار مطيعا وخرج مسرعا يتعثر بأذيال قبائه. أما ضرغام فلما رأى نفسه في خلوة مع جهان شعر كأنه في عالم غير هذا العالم، ونسي السفر والحرب والرتب والألقاب، وتمنى لو تتحول تلك الساعة إلى دهر أو تمتد إلى الأبد، لا يلتمس معها طعاما ولا شرابا ولا ثراء، كأنه تجرد عن المادة ورأى في تقارب روحيهما معنى لا يشوبه شيء مما يفتقر إليه البدن أو تجر إليه الشهوات. والحب تجاذب بين الأرواح لا يفسده أو يضعفه غير الجسد بشهواته وميوله؛ ولذلك لا يبرح قويا ما دام عذريا. فمن رغب في بقاء الحب فلينزهه عن شهوة الجسد. فإذا بادل المحب حبيبته حبا بحب أتته السعادة صاغرة وأنبأ الملأ الذين عجزوا عن تمثيل النعيم أنه استمتاع الأرواح بالحب الطاهر المنزه عن أغراض الجسد - وقد يعد الناس هذا الحب خيالا شعريا، ولكن ما أدرانا أن هذا الخيال لا يكون حقيقة في وقت من الأوقات.
ولا خلاف على كل حال في أن اجتماع الحبيبين بعد فراق طويل، مثل اجتماع جهان وضرغام، يمثل السعادة الحقيقية. ولعل جهان كانت أشد شعورا بتلك السعادة بعد ما نال الحزن من قلبها بموت أبيها. والنفس الحزينة أحوج إلى التعزية وأشد شعورا بها من سواها.
فأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وما حديثهما إلا التشاكي، وقد نسيا موقعهما وطال حديثهما، ولو لم تدخل عليهما القهرمانة خيزران لبقيا في غفلة عن الوجود وأهله.
وكانت خيزران لا تترك جهان برهة طويلة وحدها لئلا تستسلم للأحزان، وكانت تحسبها وحدها بعد خروج سامان فأتت تفتقدها، فلما رأت ضرغاما عندها خجلت وتراجعت، فنادتها جهان فدخلت وقد أذهلها ما رأته في ذينك المحبين من ظواهر الهيام كتورد الوجنتين وبريق العينين وشخوص كل منهما إلى رفيقه ببصره وسمعه، فأيقظهما دخولها ونقلهما من عالم الأرواح إلى عالم الأجساد. فحيت ضرغاما وسألت جهان عن حالها وعما تحتاج إليه. فقالت هذه: «لا أحتاج إلى شيء. ولكن كيف رأيت ضرغاما يا خيزران؟»
فأجفلت القهرمانة لأنها لم تكن تتوقع سماع هذا السؤال وقالت: «تسألينني عن رجل وقع منك هذا الموقع وأنت أعلم مني بأقدار الناس. فمن أين لمثلي أن تبدي رأيا، وغاية جهدي أن أتوسل إلى أورمزد ليمنحكما ما تتمنيان!»
ثم سألتهما عن سامان فقالت: «خرج من القصر على أن يعود على عجل، فعسى أن يصدق.»
ووقفت فوقف ضرغام وقال: «أتأذنين لي في الانصراف؟» فقالت: «يعز علي سفرك، ولكن ...» ثم تجلدت وقالت: «سر محروسا وكن مطمئنا فإني لا ألبث أن ألحق بك فقد كرهت الإقامة بهذه البلاد.»
فودعها وخرج، وكان وردان في انتظاره مع بعض أهل القصر فأمره بإعداد ما يقتضيه الرحيل إلى العراق.
الفصل التاسع
بين الأفشين وجهان
عادت جهان إلى القاعة وقد فارقها قلبها وفقدت رباطة جأشها، فندمت على ترغيب ضرغام في السفر، وأخذت تفكر فيما هي فيه، فعزمت على أخذ أمورها بالحزم والتعقل حتى تتخلص من تلك الوصية أو ترى سبيلا آخر.
ومضى النهار وسامان لم يعد. وفي اليوم التالي نهضت مبكرة وضفرت شعرها ولبست ثوبا أسود وتزملت فوقه بمطرف من الخز الأسود، وغطت رأسها بنقاب أسود ووجهها من وراء ذلك السواد كالقمر، لو أن في القمر تلك المعاني، أو لو كان فيه مثل تينك العينين الساحرتين!
وخرجت إلى الحديقة تتمشى بين أشجارها متشاغلة بالتنقل من شجرة إلى أخرى حتى وصلت إلى مقعد فقعدت واستغرقت في تأملاتها، وإذا بالقهرمانة تأتي مسرعة تقول: «سيدتي، أنت هنا؟»
قالت: «ما وراءك؟»
قالت: «جاء ... جاء الأفشين، وهو يطلب أن يراك.»
لم تستغرب جهان الخبر؛ لأنها كانت تنتظره بل فرحت بقدومه لتعرف غرضه عسى أن ترى وسيلة للنجاة من وصايته. فنهضت وسألت: «أين هو؟» قالت: «في الإيوان ينتظر قدومك.»
فمشت مشية الجلال كأنها ملك يحف به الأعوان لا تبالي ما ينتظرها لاعتمادها على قوة جنانها وعزة نفسها، حتى أتت القصر، فصعدت الدرجات المؤدية إلى الإيوان متشاغلة بمخاطبة القهرمانة في شئون لا أهمية لها، حتى أطلت على باب الإيوان فرأت الأفشين جالسا متصدرا، فلما رآها خف لاستقبالها، وهو يومئذ في نحو الستين من عمره وقد خضب لحيته حرصا على مظاهر الشباب . وكان طويل القامة كبير العينين مستطيل الوجه والعنق، وقد تجعد جبينه وبرزت وجنتاه، وعلى رأسه قلنسوة قصيرة حولها عمامة من الخز الموشى، ولبس قباء بني اللون تظهر السراويل من تحته ترف على قدميه، وفوق القباء جبة سوداء. تمنطق تحتها بمنطقة مرصعة علق بها سيفا قبضته مرصعة. ومشى لملاقاتها مشية معجب بمنصبه، يحسب الترحيب بها تلطفا أو تنازلا، فلما دنا منها ابتسم وقال: «مرحبا بعروس فرغانة، كيف أنت اليوم؟» ومد يده لمصافحتها فمدت يدها فأخذها وتباطأ في الإفراج عنها، فاقشعر بدنها وأحست بنفور دلها عليه قلبها ولكنها أجابته عن سؤاله فقالت: «إني في خير، تفضل اجلس.»
فتثاقل حتى جلست، ثم جلس على كرسي أمامها وعيناه لا تتحولان عن وجهها، فلمحت فيهما معاني زادتها نفورا منه فأطرقت حياء وترفعا، فحمل ذلك منها على محمل الحزن فقال لها: «إن المصيبة التي أصابتك كبيرة يا عزيزتي؛ لأن موت أبيك - رحمه الله - خسارة لا تعوض، وأنت تعلمين ما كان بيننا من صلات المودة، ويؤكدها أنه قد وكل إلي الاهتمام بشئونك بعده، ولم يفعل إلا لعلمه بمنزلتك عندي. ألم تسمعي ذلك منه في حياته ...؟ ألم يقل لك كم أنا معجب بتعقلك وذكائك.»
فاستغربت دخوله في الحديث على هذه الصورة، ولكنها سايرته فقالت: «كثيرا ما سمعت أبي يذكر مودتك ورفعة مقامك، والأفشين صاحب أشروسنة مشهور ليس في فرغانة ولا أشروسنة من لا يعرف اسمه أو سمع بأعماله.»
فسره إطراؤها وجرأه على التقدم خطوة أخرى نحو الغرض الذي طالما كتمه فقال: «لم أسألك هذا السؤال لأسمع إطراءك ومدحك وإنما أردت سماع الجواب عن سؤالي. فهل لم تسمعي من أبيك عما لك من المنزلة عندي؟»
فلم يفتها ما يعنيه أو يضمره، ولكنها تجاهلت وقالت: «لا أذكر أني سمعت شيئا من ذلك، ولا أظنك أحسنت الظن بي إلا لأنك تعدني من بعض أولادك كما تعد أبي أخا لك، فشكرا لك على هذا الإحساس، وهذا ما يشجعني على أن تجيبني إلى طلب لي عندك.»
قال: «وما هو؟» قالت: «رأيتك تثني على تعقلي وذكائي، فإذا كنت عند حسن ظنك فما معنى الوصاية علي؟»
فضحك وقال: «إن الوصاية يا عزيزتي لا تسلبك شيئا من هذه الخلال!»
فقالت: «إنك ملك وقائد، ولك من المهام والأعمال ما يشغلك عن الاهتمام بمثلي، وأنت مقيم بالعراق وأنا بفرغانة، فهل ألقيت أثقال الوصاية عنك؟»
فقال: «كلا ... كلا! إني لا أستطيع أن أخالف وصية أبيك، ومهما تكلفني من الأعباء فهي هينة ما دامت في سبيل خدمتك، وهذه أمنية طالما تمنيتها، وأما البعد بين العراق وفرغانة فأمره سهل، فإما أن تنتقلي إلى العراق أو أنتقل أنا إلى فرغانة، ولا بد من أن نكون معا على كل حال!»
فتحققت غرضه ولكنها لم تشأ أن تفهم مراده فقالت: «لا أرى باعثا على هذا الارتباط يا مولاي.»
فقال وهو يستعطفها: «لا تقولي مولاي.»
فقالت: «يا أبت أو يا عماه، كما تشاء، إني لا أرى داعيا لهذا الارتباط.»
فقطب حاجبيه وابتسم، ثم قرب كرسيه من كرسيها وقال: «إن قولك يا عماه يسيء إلي أكثر من قولك يا مولاي. لماذا لا تخاطبيني كما أخاطبك؟» قال ذلك وأخرج من جيبه عقدا من الجوهر يساوي مالا كثيرا ومد يده نحوها والعقد يتلألأ في كفه وقال: «ما لي أناديك يا عزيزتي فتنادينني يا عمي؟!»
فحولت جهان وجهها عنه وهي تنظر إليه شزرا وتباعد كرسيها، ووضعت يديها وراء ظهرها وقالت: «لا يا سيدي، لا حاجة لي إلى الجواهر، فإني حزينة ولا أرى مع ذلك مسوغا لهذا الخطاب.»
فأظهر استغرابه من نفورها وقال: «أهكذا تعاملين رجلا أقامه أبوك وصيا عليك؟ هبي أني من عامة الناس فاحترمي وصية أبيك.»
فقالت بصوت هادئ يزينه وقار وترفع: «كان الأولى أن تبدأ أنت باحترام تلك الوصية أيها الملك والقائد!»
فقال بنغمة الفائز الظافر: «أتظنين أباك لم يوص إلا بما في تلك الورقة؟ إنه أوصاني وصية شفاهية لا بد لي من تنفيذها.»
فقالت والازدراء باد في شفتيها وعينيها: «لو كان أبي حيا ما قبل منك ذلك.»
فابتسم وأبرقت عيناه بريقا أزعجها، وقال بلحن الهائم الولهان : «هبي أنه لم يقل شيئا من ذلك، ألا يكفي أن أقوله أنا. يلوح لي أن ما ظننته من تعقلك وذكائك لم يكن في محله؟ أيسوق إليك ملك أشروسنة عبارات التقرب والتودد وتجيبينه بالخشونة والنفور؟!»
فنظرت إليه نظرة ملؤها الاستغراب والدهشة وقالت وفي كلامها تهديد: «قف عند هذا الحد من التلميح، واحذر أن تنزع إلى التصريح، إن ملكك وإن ضخم لا يساوي عندي شيئا.»
قال: «يظهر أنك لم تفهمي مرادي. ألم تفهمي بعد؟ إني أحبك يا جهان، نعم إني أحبك.» قال ذلك وقد ازدادت عيناه بريقا وبدا فيهما الاحمرار.
فلما سمعت ذلك نهضت عن كرسيها ونفرت نفور الظبي من الأسد، وقالت: «قلت لك قف عند حد التلميح فلم تصغ، أما وقد تجاوزته، فاعلم أني لا أسمح لك بمثل هذا الخطاب. وهل يليق بك وقد اشتعل رأسك شيبا أن تخطب محبة فتاة أصغر من بعض أبنائك؟»
فتنهد الأفشين تنهدا حارا وقال وهو يتذلل ويتلطف: «آه يا جهان! أتحسبين الحب محرما على غير الشبان؟ إني أرى الكهولة أولى به وأقدر عليه. إن الناس مخطئون بما يتوهمون فلا شأن للسن بالحب.»
ثم اعتدل في مجلسه وأشار إلى صدره وقال: «إن في هذا القلب من لواعج الغرام ما لا يتسع له صدور الشبان. ولقد كنت شابا وأنا اليوم كهل، وأقسم لك بما تعبدين أني أشد كلفا وأعرق في الحب من قبل، ويدلك على ذلك أني وأنا الملك السيد والقائد الباسل أترامى عند قدميك لأخطب ودك وألتمس رضاك متذللا متصاغرا.» وترامى عند قدميها وقال: «فإذا أطعتني رأيتني عاشقا يبذل نفسه في سبيل سعادتك، وكنت الملكة النافذة الكلمة في العراقين وفارس وخاراسان وأشروسنة وفرغانة. وإن أبيت وظللت على خطئك ...»
فقطعت كلامه وهي تنظر في وجهه مستخفة وقالت: «انهض يا حيدر، انهض يا ابن كاروس، انهض يا ملك أشروسنة وارجع إلى رشدك ودع ما تقول وأنا أصفح عنك وأغضي عما فرط منك وأكتم خبر جرأتك. إنه لا ينبغي أن تكون فتاة مثلي أربط منك جأشا وأكثر تعقلا .»
فوقع كلامها وقع السهم في قلبه فنهض يحرق أسنانه وقال: «لقد قتلتني بعنادك، فلا تحسبيني عاجزا عن إرغامك؟ وارجعي إلى صوابك وفكري فيما عرضته عليك من أسباب السعادة ولا تعملي عمل أهل الجهالة، واعلمي أنك وما تملكين في قبضة يدي. فإذا أطعتني كنت أنا وما أملك في قبضة يدك!»
فهاج غضبها ودبت الحمية في عروقها وحدثتها نفسها بأن تزيده تأنيبا، لكنها أمسكت لعلمها أنها لا تقوى على مناوأته وهو ملك وعنده الجند والعوان، وبيده عهد أبيها بالوصاية المطلقة عليها، فلا ينصرها عليه حاكم ولا ينجيها منه سلطان، إلا إذا كان في دار الخلافة فربما استعانت عليه بالخليفة فينصفها.
فرأت من الحكمة أن تستعين عليه بالتعقل والتدبير، فتمالكت جأشها بما فطرت عليه من قوة الإرادة وقالت بصوت خافت: «سمعتك تستمهلني ريثما أفكر فيما عرضته علي، وأنا أمهلك لتفكر فيما قلته لك، ونرى بعد ذلك ما يكون ... وسأكتم ما بدا منك وأبذل جهدي في نسيانه حتى يكون مكتوما عني أيضا؛ لأني أضن بصديق أبي ووصيه أن يقال عنه ما قد يقال عنك لو علم الناس أقوالك. فهل تقبل ما أقوله لك؟ وإذا أبيت إلا الطيش فأنا أولى بالطيش منك ولا تحسبني فتاة ضعيفة.»
فأحس الأفشين بعظمة تلك الفتاة، ولم يعد يقوى على النظر في عينيها، كأن الغضب زاد كهربائيتهما فتطاير منهما الشرر. ووقع كلامها على رأسه كالصاعقة وقال: «ما أنت فتاة ضعيفة ولا أنا من أهل الطيش، ولكنك ترين ما يرى سائر الناس أن الحب مقصور على الشبان، وأنا أريك رأي العين أن الكهول أشد هياما. إن بين جنبي قلبا يضحي بالملك وبالحياة في سبيل محبوبه، فهل يفعل الشبان ذلك؟ وهم إنما يحبون عن خفة وجهالة لا يثبتون في الحب ولا يرعون زمام المحبوب. أما وقد استمهلتني فها أنا ذا أجيب طلبك راجيا أن ترجعي إلى رشدك، وأيام الحزن على صديقي أبيك لم تنقض بعد، فنحن الآن في أوائلها، ولعلي لا يخيب ظني بعد انقضاء أجل الحداد، وبعد أن تتحققي صفاء نيتي فيما أرجوه لك من الخير في دنياك، فأعملي فكرك على مهل.»
فأغضت عن طويل شرحه في بث عواطفه وآماله. وقالت بصوت هادئ وجأش رابط: «بقيت لي كلمة أحب أن تسمعها بوصفك وصيي الأمين، هل قمت بحق الوصية فدبرت شئون القصر وأهله؟»
قال: «فعلت كل شيء؛ فالزراع عاملون في الحقول، والقيم يدير شئون القصر، وأنا أحرص على مالك منك.» ومد يده والعقد لا يزال فيها وقال: «والعقد ألا تقبلينه؟ خذيه إذا شئت.»
فحولت وجهها عنه مشمئزة وقالت: «لا أريد قبول شيء يذكرني بهذا الاجتماع، ولو استطعت أن أجرد هذه القاعة من فراشها وأثاثها لفعلت حتى لا أرى شيئا شهد هذا الموقف أو سمع هذا الكلام. والآن اسمح لي أن أشكر لك عنايتك بشئون التركة، وذلك ما كنت أرجوه من الأفشين صديق أبي الأمين على أهله. وأخيرا هل لي أن أعرف لماذا حرمتم أخي سامان إرثه؟»
فأحس الأفشين عند سماع أقوالها أنه يتصاغر أمامها، وأنها هي تعظم وتعلو حتى كاد يتلعثم لسانه وأغلق عليه. وإنما غلبته على بسالته وسلطانه بالعفة وأدب النفس، فتجلد وقال: «إنك تسألينني سؤال القاصر لولي أمره وأنا مكلف أن أكتم السبب، فلو سألتني سؤال الحبيب لمحبه لأطلعتك على كل شيء.»
قالت: «اعمل بالوصية ودع الحب للمحبين.»
فدهش الأفشين ولم يزدد إلا هياما بها، ولكنه تهيب الكلام معها، فسكت ونهض مستأذنا في الانصراف. ثم خرج وقد غلب على أمره وعلم أنه لن ينال رضاها، وإنما أطاعها وقبل التأجيل فرارا من الفشل.
الفصل العاشر
المعتصم و«سامرا»
ظلت جهان واقفة تنظر إلى الأفشين حتى غادر غرفتها، فرفعت بصرها إلى صورة مطرزة على ستارة الحائط تمثل وجه أبيها، وتنهدت تنهدا عميقا وأحست بضعف مفاصلها كأنها خارجة من عمل شاق فألقت نفسها على الكرسي، والتفتت إلى ما حولها وناجت نفسها قائلة: «آه يا جهان، أواه يا عروس فرغانة! ما الذي دهاني في هذين اليومين؟» مات أبي، وحسنت السفر لحبيبي. ولكن لا بأس من سفره حتى لا يعلم بما يضمره ذلك الشيخ الجاهل - قبحه الله من ملك صعلوك وتبا له من قائد مغرور! أيطمع في جهان وهي أبعد عنه من الثريا؟ ما لي لم أقل له إن قلبي لضرغام؟ ولكني لو قلت ذلك لعرضت حبيبي للخطر. حبيبي ضرغام أين أنت؟!» ولما ذكرت اسمه وتذكرت بعده عنها انقبضت نفسها واستسلمت للبكاء؛ فأطلقت لدموعها العنان وهي تحاذر أن يسمع صوت بكائها أحد، وكأنها نسيت نفسها وهون عليها البكاء آلامها فأغرقت فيه. وفيما هي في ذلك أعادها إلى نفسها أن سمعت وقع خطوات مسرعة نحوها، فالتفتت فإذا بالقهرمانة دخلت مذعورة وقد فتحت ذراعيها كأنها تهم بأن تضمها إليها، فترامت جهان بين ذراعيها وقد أخذها الخجل لما بدا من ضعفها فابتدرتها خيزران قائلة: «ما بالك يا سيدتي، ماذا أصابك؟»
فقالت وهي تتجلد وتمسح دموعها: «أتستغربين بكائي يا أماه وقد فقدت أبي بالأمس؟ إن مصيبتي بفقده مضاعفة!»
ولم تكن خيزران غافلة عما دار بين جهان والأفشين وإن لم تسمعه، ولكنها أدركت شيئا منه لما رأت وجه الأفشين عند خروجه فقالت: «صدقت، إن وفاة سيدي المرزبان رزء عظيم، خصوصا إذا خلفه مثل هذا الوصي!» وغصت بريقها وهمت بجهان فضمتها وقبلتها وقالت: «أنا أعلم سبب بكائك فلا تهتمي، واعلمي أني أضحي بحياتي في خدمتك، وكذلك كل أهل القصر بل أهل فرغانة جميعا يفدونك بأنفسهم.»
فتخلصت جهان من بين ذراعي خيزران بلطف، وأشارت إليها أن تقعد إلى جانبها، فجلست وهي ترمق جهان ولا ترتوي من النظر فرأت وجهها تغير من الحزن والقنوط إلى الاهتمام والجد وأطرقت وبدا التفكير في عينيها وجبينها. وطال سكوتها وخيزران مصغية تنتظر ما يبدو منها وما تريد أن تقوله، وأخيرا وقفت جهان فجأة ونظرت إلى خيزران نظرا حادا وقالت: «لا مقام لي بهذه الديار بعد الآن!»
فصعقت خيزران عند سماعها ذلك منها ووقفت وصاحت قائلة: «ماذا تقولين؟!»
قالت: «ينبغي أن أترك هذا القصر، يجب أن أسافر حالا.»
قالت: «وإلى أين؟ كيف تتركينه وفيه كل مالك وقد ربيت فيه؟! لمن تتركينه؟»
قالت: «أتركه للطامعين فيه. أتركه للأفشين والموبذ !»
قالت وقد اصفر وجهها وجلا: «كيف تتركينه وفيه ثروتك وأنت صاحبة الأمر والنهي فيه؟!»
قالت والحزم باد في محياها: «لا تهمني الثروة ولا الأمر والنهي، وما الفائدة من الجدران والأشجار والأحجار؟ ليست السعادة بهذه الأمور.»
فأدركت أنها تشير إلى ما تخشاه من مطامع الأفشين وهي بعيدة عن ضرغام، فقالت: «إذا كان ذلك الرجل قد أساء إليك فانبذيه نبذ النواة. لا تعيريه التفاتة فأنت سيدة في قصرك ولن يجرؤ على إخراجك منه.»
فنظرت إليها شزرا وقالت: «هل هو يريدني أن أبقى فيه وأنا التي أطلب الذهاب.»
قالت: «كيف تذهبين يا سيدتي وإلى أين؟»
فأطرقت ثم قالت: «إني ذاهبة. نعم ذاهبة ... لا محالة. وأما أنت فامكثي هنا!»
فقطعت خيزران كلامها وقالت وهي تشرق بدموعها: «أنا أبقى؟! وماذا أفعل هنا من غيرك؟ إني بين يديك حيثما تذهبين. وإنما أردت أن أعلم الجهة التي تقصدين.»
قالت: «إني ذاهبة إلى العراق.»
قالت: «إنك تقولين ما يسهل لفظه ويصعب فعله، أتعلمين المسافة بيننا وبين العراق؟»
قالت: «لا أعلم، ولكني سأذهب إليها.»
قالت: «إنك حكيمة لا تقدمين على أمر إلا بعد التفكير، فهل تعلمين أن بيننا وبين العراق مسيرة بضعة أشهر، يقطع معظمها في البراري الخطرة التي لا يستطيع سلوكها إلا القوافل المحروسة لكثرة اللصوص وقاطعي الطريق؟»
قالت: «مهما يكن من الأمر فإني ذاهبة إلى العراق.»
قالت: «تبصري يا سيدتي، أو يا حبيبتي، وأشفقي على شبابك ولا تعرضي نفسك للهلاك ... إن القاصد إلى العراق ينبغي له أن يقطع صحاري قاحلة يكثر فيها اللصوص من التركمان وغيرهم، وكثيرا ما يعترضون قوافل التجار الذاهبة إلى خراسان أو فارس فيقتلون أصحابها ويسلبون أموالها فكيف تسافرين أنت فيها؟»
قالت: «أسافر كما يسافر الناس. وسندبر وسيلة للسفر.»
فلما لم تر حيلة لإرجاعها عن عزمها قالت: «إذا كنت تذهبين إلى العراق خوفا من الأفشين فالعراق مقره وهو صاحب النفوذ هناك.»
قالت: «لست أخافه هناك، فإن يد الخليفة فوق يده، وهناك ضرغام أيضا.» قالت ذلك وسكتت لحظة ثم استأنفت الكلام قائلة: «لا أعني أن أستعين بضرغام عليه ولكنني ألقى هذا الشيخ الجاهل في بلد يسمع فيه صوت الحق. إنه يغلبني هنا بجنوده ولكنه هناك لا يقدر على ذلك، فلا تحاولي أن ترجعيني عن عزمي.» ومشت إلى الباب فتبعتها خيزران وقد أخذتها الدهشة ولم تتمالك عن البكاء.
أما جهان فمشت مسرعة نحو غرفتها لا تلتفت يمينا ولا شمالا وقد تمثلت فيها الشجاعة وثبات الجنان، ولم تجرؤ خيزران أن تعترضها ولا أن تدخل في أثرها فتباطأت في مشيتها. وإذا بجهان تناديها من الداخل، فأسرعت إليها فرأتها جالسة على سريرها والحيرة تتجلى في عينيها رغم ما في جبينها من دلائل العزم الصادق، فلما دخلت ابتدرتها جهان قائلة: «ألم يعد سامان بعد؟»
قالت: «كلا يا سيدتي، لم أشاهده هذا الصباح.»
فهزت رأسها وقالت: «تعالي، اجلسي بجانبي يا أماه.»
فجلست خيزران وهي تتهيب النظر إليها، فقالت جهان: «احذري أن يعلم أحد سبب سفري، وأوصي المهتر (قيم القصر) بأن يستمر في تعهد أموالنا ومغارسنا، وأخبريه أننا خارجون إلى بلد قريب ...»
قالت: «سأفعل ذلك يا مولاتي ... ومتى السفر؟»
قالت: «في أقرب وقت. وقبل انقضاء عدة الحداد وهي لا تزال طويلة وسأحدده لك. إنما أرجو منك أن تعدي ما ينبغي حمله من الأمتعة فإننا على سفر طويل.»
فأشارت برأسها مطيعة وسكتت تنتظر ما يأتي به الغد، وإن كانت لا تتوقع رجوع جهان عن عزمها لما خبرته من إقدامها وثباتها وحزمها فتركتها في الغرفة وحدها وخرجت.
قضت جهان بقية اليوم تفكر في أخيها سامان لاحتياجها إلى صحبته في ذلك السفر الطويل وهي تعلم أنه لا يقل عنها رغبة فيه. وأصبحت في اليوم التالي فإذا سامان يقرع باب غرفتها فابتدرته بالعتاب على غيابه فقال: «إذا كان غيابي عنك يوما واحدا قد أقلقك فكيف إذا غبت عنك أشهرا؟»
قالت: «هل اعتزمت السفر؟»
قال: «وفيم الإقامة ببلد حرمت من خيراته فأنا غريب بين أهلي! أما أنت فإنك وريثة القصر والمال فامكثي ودعيني أضرب في الأرض.» قال ذلك وهو يتظاهر بالحزن فلم يفتها قصده ولكن سفره وافق هواها فقالت: «وما قولك إذا سافرنا معا؟»
قال: «أعازمة على السفر أيضا؟»
قالت: «نعم.»
قال: «لا أرى باعثا على شكرك إلا إذا كنت تقصدين العراق وهناك ضرغام حبيبك.»
قالت: «نعم أنا عازمة على السفر إلى العراق. وأنت؟»
قال: «ولكن مثل هذا السفر لا يتأتى إلا بعد التأهب الكافي، ولا بد لنا من صحبة قافلة؛ لأن الطريق وعر وطويل.»
قالت: «دبر ما تراه وليكن في القريب العاجل.»
فأبرقت أسرة سامان وهو إنما بدأ بتلك المقدمة ليسمع هذه الخاتمة لحاجة في نفسه طالما سعى في قضائها، ولولا رغبة جهان في السفر فرارا من الأفشين لانكشف لها غرض أخيها، ولكنها تعامت وتجاهلت رغبة في النجاة، والإنسان كثيرا ما يطغى غرضه على تعقله، فعهدت إلى سامان بتدبير أمر السفر وأخذت هي وخيزران تستعدان في الخفاء.» •••
وكان المعتصم قد ترك بغداد وبنى مدينة «سر من رأى» أو «سامرا» على مسافة خمسين ميلا شمالها، ليقيم بها رجاله الأتراك وغيرهم، فكانت المدينة الثانية من مدن بني العباس، وقسمها إلى قطائع أقطعها لرجاله وهم فرق تنتسب كل فرقة منهم إلى مواطنها التي حملت منها، فقد حمل بعضهم من سمرقند وهم الأتراك، وبعضهم من فرغانة، وبعضهم من أشروسنة أو غيرها، وجعل على كل جماعة قائدا. وأشهر قواده الأفشين وأصله من أشروسنة، وأشناس وكان في الأصل مملوكا لبعض قواد المعتصم فابتاعه ورقاه، وأيتاخ، وسما، وكانا مملوكين أيضا.
ولما استقر رأيه على بناء «سامرا» أحضر المهندسين والفعلة والبنائين وأصحاب المهن من النجارين والحدادين، وأمر بحمل الساج والخشب والجذوع من البصرة وبغداد وسائر السواد، ومن أنطاكية وسائر سواحل الشام، وأحضر الرخام من اللاذقية.
وأقام قصره وسط المدينة وبجانبه المسجد الجامع، واختط الأسواق حول المسجد، وجعل كل تجارة منفردة في سوق على نحو ما فعل المنصور في بغداد، وأفرد لقواده قطائع أبعدها عن قصره وعن منازل الناس وأهل الأسواق، فأقام أشناس في محلة بأقصى شمال المدينة على بضعة أميال من قصره سماها الكرخ على اسم كرخ بغداد. وأقام الأفشين في الطرف الجنوبي في مكان يسمى المطيرة على نحو تلك المسافة من قصره. وأنشأ للفراغنة قطائع أقرب إليه من سواهم. وكذلك الأتراك والخراسانية والمغاربة. وأمر قواده أن يبنوا المساجد والأسواق في قطائعهم لرجالهم. وجعل لسامرا شوارع موازية لمجرى دجلة تقطعها دروب وأزقة أكبرها الشارع الأعظم يمتد من المطيرة شمالا على موازاة دجلة إلى الكرخ، وتمتد قطائع الناس يمنة ويسرة على هذا الشارع وتتصل إليه بدروب وأزقة تنفذ إلى دجلة. وفي هذا الشارع كان ديوان الخراج وقصر المعتصم والمسجد وسوق الرقيق. ويلي الشارع الأعظم شارع آخر على موازاته يعرف بشارع أبي حمد.
وبنى على دجلة جسرا يوصل الشاطئ الشرقي بالغربي، وأقام في هذا الجانب العمارات وغرس البساتين وحفر الآبار واستقدم من كل بلد أصحاب الأعمال اللازمة للعمارة، فاستقدم مهندسي الماء وصناع القراطيس من مصر، وصناع الزجاج والخزف من البصرة، وأنزل أهل كل مهنة وصناعة مع عيالهم، وجعل الأبنية قصورا حولها البساتين وبينها الميادين. ولما تسامع الناس ببناء هذه المدينة تقاطروا إليها للبيع والشراء، وزاد فيها الواثق والمتوكل وغيرهما ممن خلف المعتصم كثيرا من الأبنية الفخمة.
وكان في جملة أبنية الفراغنة بقرب قصر المعتصم بيت متوسط الحجم قائم في حديقة حولها سور، له باب مطل على دجلة وعنده نخلتان. ولم يكن أهل سامرا يعرفون شيئا عن أهل هذا البيت؛ إذ قلما كانوا يرون فيه أحدا غير الخدم الذين يخرجون إلى السوق في حوائجه، على أن القواد كانوا يعرفون أنه منزل القائد ضرغام وكانوا يعجبون لرغبته عن زخارف الحياة خلافا لسائر القواد أو الأمراء الذين كانوا يستكثرون من الحاشية والموالي والمماليك. وكان أكثرهم يظنونه وحيدا فيه، وربما زاره بعضهم أثناء إقامته بسامرا. أما بعد سفره الأخير فإنهم انقطعوا عنه إذ لم يبق في البيت أحد إلا امرأة مكفوفة البصر هي أمه ومعها جارية عجوز تخدمها اسمها مسعودة.
الفصل الحادي عشر
أم ضرغام
كانت أم ضرغام واسمها آفتاب قد كف بصرها في عنفوان شبابها قبل ذهابها إلى فرغانة، ولم يكن أهل ذلك البلد أكثر معرفة بسابق حياتها من أهل سامرا، حتى المرزبان وأهل قصره مع طول إقامتها بينهم؛ فقد كانت تكتم أصلها حتى عن ابنها ضرغام، فكان إذا سألها عن أبيه زعمت أنه كان من جند المسلمين وقتل في بعض الوقائع، وأنها نذرت لبس السواد عليه كل حياتها. ولم يصدق ضرغام قولها؛ لما لاحظه من التجائها إلى الإيجاز عند ذكره، فألح عليها ذات يوم واستحلفها أن تخبره الحقيقة، فوعدته أن تطلعه عليها فيما بعد، وكان كلما ذكرها بوعدها استمهلته إلى فرصة أخرى. وقضى شبابه في فرغانة وهو يطلب الشخوص إلى العراق لينخرط في الجندية أو يتعاطى عملا يرتزق منه كما فعل أمثاله من أهل النشاط والذكاء، فلم توافقه على ذلك إلا في الأعوام الأخيرة فجاء معها وأقام بسامرا، فظهرت مواهبه وارتقى في الجندية حتى صار رئيس الحرس، وكان يسألها عن أبيه فتؤجل الجواب.
ولما استأذنها في الذهاب إلى فرغانة في مهمته الأخيرة أذنت له وألحت عليه في أن يعجل بالرجوع، وبقيت في ذلك القصر ليس معها غير جاريتها مسعودة. وكانت تقضي نهارها في البيت لا تخرج إلى البستان إلا نادرا، والجارية تبذل جهدها في تسليتها، وقد قضت في خدمتها أعواما عديدة لم ترها ضاحكة قط، فلم تكن أقل استغرابا لحالها من الآخرين. على أنها كانت تحترمها وتحبها حبا جما لما خبرته من لطفها وطيب عنصرها، مع التزامها الصمت إلا نادرا.
وكانت آفتاب على كهولتها وابتلائها بفقد بصرها جميلة الخلقة خفيفة الروح، تدل ملامح وجهها على ما كانت عليه في شبابها من الجمال المفرط وكانت رشيقة القوام ممتلئة البدن محتفظة بآثار الجمال رغم ما مر بها من تكاليف الحياة، فكانت جاريتها مسعودة تبذل جهدها في تسليتها وتروي لها ما تسمعه من الأخبار، فتلحظ منها الإصغاء لسماع أخبار الخليفة المعتصم، ولا سيما بعد أن صار ابنها رئيسا لحراسه. ولم تكن تسمع منها جوابا غير قولها وهي تتنهد: «متى يعود ضرغام! لقد طال غيابه.»
حتى إذا جاء البشير بقدومه كان أول من علم به مسعودة، أخبرها به رسول أنفذه ضرغام قبل وصوله لعلمه أن أمه تتلهف لرجوعه. فدخلت مسعودة على سيدتها مهرولة، ولو تيسر لآفتاب أن ترى وجهها لقرأت فيه دلائل البشر. ولكنها حرمت نعمة النظر لا لذنب أو مرض وإنما قضت عليها بذلك مظالم ذلك العصر، كما قضت تلك المظالم أيضا بأن تكتم سبب عماها وتخفي حقيقة حالها على كل إنسان.
فلما دخلت مسعودة شعرت آفتاب بسرعة حركتها وحدثها قلبها بخير تحمله إليها فبدت على وجهها ملامح الاهتمام ولم تمهل خادمتها حتى تتكلم فابتدرتها قائلة: «ما وراءك يا مسعودة؟ هل أتى ضرغام؟»
فصاحت: «نعم يا سيدتي، من أنبأك بهذا؟»
قالت: «أنبأني قلبي! وهل لقلبي شغل سواه! أين هو؟»
قالت: «إنه على مقربة منا.»
فما تمالكت آفتاب عن النهوض فجأة وبدت في محياها علامات البشر وتقطر من بياض عينيها دمعتان سالتا على خديها فتلقتهما بطرف نقابها الأسود، وصاحت وهي تبتسم: «أتى ضرغام؟! الحمد لله. متى يصل إلينا؟»
قالت: «يصل هذا المساء، إن شاء الله.»
فقالت: «أعدي العشاء.» ومشت نحو غرفتها مشية البصير لا تعثر بشيء ولا يوقفها شيء، على عادة العميان الأذكياء. فدخلت غرفتها وغسلت وجهها وبدلت ثيابها وشغلت نفسها ببعض المهام حتى لا يطول عليها الانتظار.
وكان من توقد ذهنها ورقة شعورها أنها تتعرف مكان كل واحد من خدمها في الغرفة أو الحديقة وهي جالسة في مجلسها، فبعد أن فرغت من إصلاح شأنها جلست في الإيوان ومسعودة في المطبخ تهيئ الطعام تفكر في قدوم مولاها مفعمة سرورا لفرح مولاتها، فإذا بها تسمعها تنادي: «مسعودة ...»
فهرولت الجارية تقول: «أمرك يا مولاتي.»
قالت: «إن ضرغاما آت قولي للخدم يخرجوا لاستقباله.»
فعجبت مسعودة لكلامها؛ لأنها لم تكن ترى شيئا يدل على ذلك، فخرجت إلى الحديقة فلم تجد أحدا فعادت تقول: «لم يأت بعد ولكنه آت قريبا.»
قالت: «إني أسمع وقع حوافر جواد!»
وكانت مسعودة قد تعودت منها كثيرا من أدلة الشعور البعيد، فذهبت إلى البستان وأمرت الخدم بالخروج لاستقبال سيدهم وهي لا ترى أحدا قادما، ولكنها لم تبلغ البستان حتى نظرت الغبار من بعيد وسمعت وقع حوافر الخيل وتحققت قول سيدتها، ولم تمض هنيهة حتى رأت ضرغاما قادما على جواده بلباس السفر، ووراءه تابعه وردان على جواد آخر. فرجعت لتبشر سيدتها فرأتها قد سبقتها إلى باب الدار وعيناها شائعتان نحو الجهة التي تسمع الصوت منها وهما تجولان بين الأجفان كأنهما تريان شيئا. وإنما حركهما محرك البصيرة النقادة ولهفة الوالدة المشتاقة، ولم تمهلها فسبقتها إلى الكلام قائلة: «ألم أقل لك إنه جاء؟! وإني أشعر بوقع حوافر جواده يمشي في مفاصلي وكأني أحس بحرارة أنفاسه، حرسه الله.» قالت ذلك وكأنها تنطق بعينيها وحاجبيها ويديها وبكل جارحة من جوارحها، فأثر منظرها في مسعودة وخفق قلبها شفقة عليها، وودت لو تعيرها عينيها لترى بهما ابنها وتفرح بمنظره.
ولما وصل ضرغام إلى باب البستان ترجل وأعطى الخادم زمام جواده، ثم صعد درجات الدار حتى بلغ مكان أمه، فأكب على يديها يقبلهما. فضمته إلى صدرها وقبلته ومشت إلى الإيوان ترحب به وتكرر تقبيله وتستنشقه وتتفحص كتفيه وذراعيه وصدره وعنقه بيديها وتتحسس بأصابعها وجهه ولحيته وشاربيه وعينيه كأنها تحدق فيه بأناملها. حتى إذا دخل الإيوان جلست على وسادة وأجلسته بجانبها وهي تضمه وتشمه كأنها تخاف أن يخطفه أحد من بين يديها. بينما الدمع يتساقط من عينيها وهو لا يعترضها فيما تعمله ليسرها. ثم أخذت تسأله عن صحته، فطمأنها وشرح لها شوقه إليها وأنها لم تبرح من خاطره أثناء ذلك السفر الطويل. فأمرت مسعودة أن تهيئ المائدة، فاستأذنها ضرغام في تبديل ثيابه قبل الطعام فأذنت له، ثم قاموا إلى المائدة ففرغوا من الطعام نحو العشاء وقد أنير البيت بالشموع وهي أول ليلة أنير فيها منذ سفره؛ لأن آفتاب في غنى عن الضوء ولم يكن يزورها أحد فلم تكن تنار الشموع في غياب ضرغام إلا نادرا.
وبعد العشاء خلت آفتاب إلى ابنها وأخذا يتحدثان. فاتكأ ضرغام على وسادة، ووالدته بجانبه وهي قابضة بيدها على يده كأنها تعتاض عن المشاهدة باللمس، وأخذت تسأله عن سفره وهو يقص عليها ما شاهده في طريقه من الغرائب والأخطار حتى وصل سامرا في ذلك المساء فقالت: «وهل أقمت بفرغانة كثيرا؟»
فلما ذكرت فرغانة تذكر أشياء كثيرة فقال: «نعم، أقمت بها بضعة أيام.» وسكت مترددا في إخبارها بموت المرزبان فأدركت تردده من صوته فقالت: «قص علي ما رأيته هناك. ماذا جرى؟»
قال: «ماذا أقص عليك! إن القوم يذكرون جيرتك ويتحدثون عنك كثيرا.»
قالت: «وكيف المرزبان وأهله؟»
قال: «كلهم في خير إلا المرزبان فإنه مريض مرضا ثقيلا عجز الطب والأطباء عن علاجه.»
قالت: «أظنه مات. أليس كذلك؟»
قال: «إذا لم يكن مات فإنه يموت قريبا لطول مرضه. والحق يقال إنه رجل طيب القلب يكن لك احتراما كبيرا.»
قالت: «أراك تتلطف في إبلاغي خبر موته، رحمه الله، كيف فارقت أهله؟»
فلم يستغرب ضرغام شعورها بموت المرزبان، وقد تعود منها مثل هذا الشعور المرهف، وأحب الاستطراق إلى التحدث عن جهان فقال: «إن أهله في خير فقد ترك لهم مالا كثيرا.»
قالت: «وقد آل هذا الميراث إلى جهان على ما أظن.»
فاستغرب نسيانها سامان فقال: «وهل نسيت سامان أخاها؟»
فأدركت أنها كادت تبوح بسر تكتمه، وبان الارتباك في وجهها فأطرقت وعيناها ترقصان في وجهها من الحيرة ثم قالت: «لم أنس سامان ولكنني أحسب أن أباه حرمه من الميراث.»
فازداد تعجبه وهو يعلم أنها لا تلقي الكلام جزافا فقال: «أتقولين ذلك تخمينا أم أن هنالك سببا تكتمينه؟»
فقالت: «ربما كان ذلك. وهب أني لم أكتم سببا، فلو جاز لي أن أقوله لك لقلته، دعنا الآن من سامان وأخبرني عن جهان عروس فرغانة كيف هي؟ إني أحبها وأعجب بذكائها ولطفها.»
فلما سمع إطراءها جهان شغل بها عن رغبته في استطلاع خبر سامان وطاب له التحدث عن حبيبته فقال: «إن جهان جديرة بإعجابك، وهي موضع إعجاب الفرغانيين على بكرة أبيهم. إني لم أر مثلها بين النساء ولا مثل جمالها وتعقلها. وكم تمنيت أن يمن الله عليك بالبصر لتشاهديها.»
وحينما سمعت إعجابه بها آنست منه ميلا شديدا إليها فقالت: «أراك كثير الإطراء لسجاياها، ولا ألومك على ذلك ؛ إذ لم يفتني من مشتهيات المبصرين في هذه الدنيا إلا رؤيتك ورؤيتها.» وتنهدت وقالت: «هذا نصيبي من دنياي، وأحمد الله أنه أنار بصيرتي ومن علي ببقائك. وإذا فاتني أن أراك بعيني فلم تفتني رؤيتك بقلبي. أما جهان فلم أحب فتاة مثل حبي لها وهي أيضا مرسومة في قلبي.» قالت ذلك ومدت يدها إلى صدر ضرغام وهي تظهر أنها تحاول ضمه فأحست بخفقان قلبه فتحققت حبه لجهان وهو لا يفقه مرادها ثم قالت: «إني أحب جهان يا ضرغام فهل أنت تحبها؟»
فقال: «نعم يا أماه. ولا أظنك ترين بأسا بذلك؛ لأنك وضعتها في قلبك معي كما تقولين.»
قالت: «لا أرى بأسا. ولكن هل هي تحبك أيضا؟ إنها بنت المرزبان وقد كنا أضيافا في قصر أبيها. فربما حسبت نفسها أرفع منك مقاما على عادة أهل اليسار. ولا لوم عليها إذا فعلت ذلك لأنها لا تعرف أباك.» ولم تكد تقول ذلك حتى تصاعد الدم إلى وجهها ثم أمسكت كأنها ندمت على ما فرط منها.
فقال: «اطمئني يا أماه، إن جهان تحبني حبا شديدا، وهي بحمد الله بمنجاة من الكبرياء، وقد تعاقدنا على الزواج وهي لا تعرف نسبي، والآن وقد جرنا الحديث إلى ذلك ألا ترين أنه قد آن لك أن تبري بوعدك؟»
فعلمت أنه يستنجزها وعدها ليعرف اسم أبيه فقالت: «لم يجئ الوقت يا ولدي، وسيأتي قريبا. عد بي إلى حديث جهان فإن خبر خطبتها يفرحني وطالما تمنيت وأنا أحسبه بعيدا. فهل حدث ذلك على يد أبيها؟»
فقال: «أعترف لك الآن بسرنا فقد تعاقدنا على الزواج قبل مجيئي معك إلى سامرا، ولم أبح لك قبلا لأني لم أكن أحسب نفسي أهلا لها وأنا يومئذ لا شأن لي، فلما وفقني الله إلى المنصب الذي نلته عند أمير المؤمنين احتلت في الذهاب إلى فرغانة لأعلمها وأتمم العقد على يد أبيها فذهبت فوجدتها عند عهدنا. وكدنا نعقد القران لولا مرض أبيها ووفاته فأجلنا هذا الأمر إلى فرصة أخرى.»
قالت: «وهل تنوي إن تزوجتا أن تقيما بفرغانة ، أم تأتي بها إلى هنا؟»
قال: «هذا أمر منوط برأيك، فهي لا تخالف لك رأيا، وكنت قد عزمت على البقاء هناك حتى تنقضي عدة الحداد فأعقد القران وآتي بها إلى هنا. فجاء أمر الخليفة يستعجلني الرجوع، ولقيتها قبل سفري فحبذته على أن نعمل بما نراه بعد ذلك.»
فأبرقت أسرة آفتاب وابتسمت وقالت: «أحمد الله على هذا التوفيق وأطلب إليه أن يتم نعمته عليك بما في خاطري لتكون أسعد الناس.»
فعلم أنها تشير إلى سر أبيه فقال: «إني أسعد الناس بك. ولكن ...»
فخافت أن يستأنف سؤالها عن أبيه فقطعت كلامه وقالت: «لماذا استعجل الخليفة بقدومك؟»
قال: «لم أعلم بعد، ولعله سيرسلني في مهمة عسكرية. هل علمت شيئا عن هذا؟»
قالت: «لم أسمع شيئا في غيابك؛ لأني لم أكن أعلم أحدا غير مسعودة.»
فقال: «وهل بعث في طلب الأفشين أيضا؟»
قالت: «لا أدري. أين هو الأفشين الآن؟ أليس في سامرا؟»
قال: «كلا إني لقيته في فرغانة.»
فأطرقت كأنها تفكر في أمر خطر لها ثم قالت: «إن الأفشين كان صديقا حميما للمرزبان. هل شهد موته؟»
قال: «نعم شهده وقد أقامه المرزبان وصيا على أهله بعده.»
فابتسمت ابتسام مطلع على أمور سابقة تؤيد ما قاله. فلحظ ضرغام ابتسامتها فقال: «ما بالك تبتسمين؟ هل عرفت شيئا عن هذا الأمر من أحد غيري؟»
قالت: «لا، ولكنني تذكرت أشياء كنت سمعتها من صديقتي أم جهان، رحمها الله، فقد كانت تسر إلي كل ما يهمها. وأنا أيضا كنت أكاشفها بأسراري. وكثيرا ما شكت إلي ثقة زوجها بالأفشين وهي لا تثق به؛ لما تعلمه من جشعه وطمعه، ولكنها لا تجسر على اعتراض المرزبان في أعماله.»
فلما سمع ذكر الجشع والطمع شغل باله لأن الرجل أصبح وصيا على تركة كبيرة ربما تلاعب بأموالها ولكنه كان حسن الظن بالناس لسلامة طويته، فأكبر أن يطمع ذلك القائد العظيم في مال أقيم وصيا عليه فقال: «هل تظنين الأفشين يمد يده إلى شيء من التركة؟»
قالت: «لا أدري، ولكنني ذكرت لك ما كانت تسره إلي تلك المسكينة. وهي التي أسرت إلي ما علمته عن سامان وسبب حرمانه من الإرث.»
فانتبه ضرغام لشيء لحظه من سامان فقال لها: «لا شك أن سامان نفسه كان عالما بنية أبيه؛ ولذلك كان يبذل جهده في منع الوصية؛ فكان كلما بعث به أبوه لاستقدام الموبذ، لم يفعل وانتحل أعذارا غير مقبولة!»
قالت: «وهل كتبت الوصية على يد الموبذ؟»
قال: «نعم، وأنا أرسلت وردان للمجيء به.»
فهزت رأسها وقالت: «أنعم به من موبذ! وهكذا أيضا كانت تلك المسكينة تستثقل ظله وتنفر من رؤيته، فإذا زارهم في عيد هربت من الإيوان حتى لا تلتقي به. وقد أذكرتني وردان، أين هو؟»
قال: «هنا عندنا، وأظنه نام الآن؛ لأنه متعب من السفر. إنه والحق يقال همام غيور كنت كثير الاعتماد عليه في شئوني، وأنا لا أدعوه خادما فهو أولى أن يدعى صديقا؛ لأنه أرقى كثيرا من طبقة الخدم، ولعل له شأنا.»
فقالت: «احتفظ به فقد يكون شهما خانه الدهر والدهر بالناس قلب.» ثم انتبهت إلى أن قد دنا موعد الرقاد، ولا سيما أنه متعب من السفر؛ فقالت: «اذهب يا حبيبي إلى فراشك، وغدا تخرج بحراسة الله إلى المعتصم، وأرجو أن تلقاه وأنت في خير وعافية.» قالت ذلك ونهضت وذهب كل إلى فراشه.
الفصل الثاني عشر
المعتصم والأسد
نهض ضرغام في صباح اليوم التالي، فقبل يد أمه وأفطر، ثم ارتدى الثياب التي يدخل بها على الخليفة وأهمها: القلنسوة حولها العمامة، والسواد وهو الجبة السوداء الخاصة بالعباسيين وتحتها القباء والسراويل. وتقلد السيف، ثم ركب جواده، وركب وردان في أثره، وسارا يلتمسان قصر الخليفة.
وكان قصر المعتصم في الجانب الشرقي من سامرا، ويقال له الجوسق، ويحتوي على أبنية عدة يضمها سور واحد. وقد قلد في بنائه طراز الأكاسرة في المدائن؛ فجعل بابه الخارجي مثلث القناطر؛ القنطرة الوسطى كبيرة لمرور الفرسان، وإلى كل من جانبيها قنطرة صغيرة يمر تحتها المشاة. ويستطرق الداخل إلى حديقة كبيرة بها أبنية كثيرة أكبرها البناء الذي يقيم به المعتصم، وبقية الأبنية للحاشية وفي جملتها بناء للأضياف وآخر للسباع. فقد كان المعتصم مولعا باقتنائها وكثيرا ما يخرج لاقتناصها.
وصل ضرغام إلى ذلك القصر في الضحى، فلما أقبل على الباب وقف له الحرس وحيوه، فدخل على جواده، وترجل وردان وقاد فرسه في أثره أما ضرغام فلم يترجل حتى دنا من قصر الخليفة فأخذ وردان فرسه وساق الفرسين إلى الإصطبل، فرحب الحاجب بضرغام، ولما سأله عن المعتصم قال: «لقد خرج أمس للقنص ولم يعد بعد.»
قال: «وهل تظنه يعود الآن؟»
قال: «لا يلبث أن يأتي.»
فأدخله الحاجب إلى قاعة يستريح فيها، ووقف بين يديه وأخذ يرحب به ويسأله عن سفره، فطمأنه وسأله عن الأحوال الجارية لعله يفهم سبب طلبه فلم يجد ما يشفي غليله. ومكث وهو يتشاغل بمشاهدة ما أحدث في القصر من الرياش الجديد. ثم رأى أن يخرج إلى الحديقة يتفرج على ما فيها من الأشجار والرياحين فرافقه الحاجب إلى بعض أطرافها وإذا بأهل القصر في هرج ومرج وصاح بعضهم: «عاد الخليفة.» فتحول القوم نحو الممر المؤدي إلى القصر وأخذت طلائع الموكب تتقاطر بين فرسان ومشاة، ثم أقبل الخليفة على جواده وعليه لباس الصيد فوق الدرع التي يلبسها إذا خرج للصيد خوفا من وثوب السباع أو غيرها من الضواري.
وكان المعتصم ربع القامة طويل اللحية أبيض أصهب مشربا حمرة تلوح الشجاعة في وجهه وتتجلى القوة العضلية في بدنه. وبلغ من قوته أنه كان يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات. وإذا اعتمد بإصبعيه السبابة والوسطى على ساعد إنسان دقه. وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقا ويشد على الدينار بإصبعه فيمحو كتابته. وكان غضوبا شديد النقمة منصرف الهمة إلى ركوب الخيل واللعب بالصوالجة. فلما وصل إلى باب القصر ترجل وحيا الوقوف وأكثرهم من القواد والفرسان، فوقع بصره على ضرغام فهش له وحياه فأسرع ضرغام إليه وهم بتقبيل يده. فمنعه وقال: «أنت هنا!»
قال: «جئت يا مولاي طوعا لأمرك.»
قال: «وددت لو كنت البارحة معي في هذا الصيد.»
قال: «وأنا أشتهي ذلك يا أمير المؤمنين ... لا زلت ظافرا غانما.»
وبعد أن حول الخليفة وجهه نحو القصر رجع كأنه تذكر شيئا وأشار إلى الوقوف فانصرفوا واستبقى ضرغاما، وقال له: «سأذكر لك الآن شيئا يسرك؛ فقد اصطدت أسدا هائلا، ولا أرى أسدا إلا تذكرتك؛ لأنك تسمى ببعض أسمائه.» ثم أشار إلى الحاجب فوقف بين يديه فقال له: «قل لأصحاب الصيد أن يأتوا بالأسد إلى تلك المصطبة.» ومشى الخليفة إلى مصطبة في بعض جوانب الحديقة وهو يراعي ضرغاما ويكلمه، واغتنم فرصة الانتظار وأخذ يسأله عن سفره قائلا: «عسى أن تكون قد وفقت في هذه الرحلة إلى ما يسرنا.»
قال: «صدعت بأمر مولاي فرافقنا توفيقه فابتعنا الجواري ...»
فقطع كلامه قائلا: «أنت ابتعتهن؟»
قال: «كلا يا مولاي، فليس لي أن أكون تاجرا، ولكنني ساعدت الجماعة في ابتياع ما يلزم وسيصلون هنا عما قليل، وإنما تعجلت المجيء طوعا لأمر أمير المؤمنين.»
فلما قال ذلك بدا الاهتمام في وجه المعتصم وأطرق ثم قال: «سنتكلم في هذا بعد قليل.» والتفت إلى باب الحديقة فأبرقت أسرته، وأشار إلى ضرغام فالتفت فإذا بجماعة يحملون قفصا من قضبان الحديد على أعمدة. وفي القفص أسد هائج يكاد الشرر يتطاير من عينيه. فقطب ضرغام حاجبيه تهيبا وكأن شيئا جاش في خاطره؛ إذ تمثلت له الشجاعة في وجه ذلك الحيوان المفترس.
فلبث المعتصم واقفا، فلما اقتربوا بالقفص أمرهم بوضعه، فوضعوه أرضا والأسد يزأر زئيرا تصطك له المسامع، فقال المعتصم: «إنه يزأر من شدة الألم؛ لأني رميته بنبل أصاب ليته، وأخشى أن يموت منه. مع أني أحب أن يبقى حيا لأتمتع بلذة هذا الصيد كلما رأيته.» قال ذلك ومشى إلى القفص وضرغام بجانبه إلى الوراء تأدبا حتى أصبحا على بضع أذرع من الأسد. وكان بيد الخليفة نبل ليس معه من الأسلحة سواه؛ لأن صاحب لباسه أخذ أسلحته ساعة وصوله واستبقى النبل بيده يتشاغل به. فلما دنا من القفص أخذ يداعب الأسد ويشير إليه بالنبل كأنه يهم بضربه والأسد يزأر ويتململ والدم يقطر من ليته وقد جمد بعضه على صدره وقائمتيه واحمرت عيناه وتناعستا، فظن المعتصم أنه سيموت فرمى النبل عليه لمداعبته، فأصاب عينه فهب الأسد غضبا وألما ووثب يطلب الخليفة فلطم رأسه قضبان الحديد فارتد وقد اشتد غضبه كأنه جن، والمعتصم وضرغام ينظران إليه مستهزئين وقلباهما يخفقان، فإن للأسد رهبة حتى في حالة الاحتضار.
وفيما هم في ذلك وضرغام يتفرس في الأسد راثيا لما أصابه إذا بالأسد يضرب جانب القفص برأسه ضربة قوية حطمت منه قضيبين وأحدث فرجة نفذ منها خارجه، فذعر الناس وفروا مسرعين يطأ بعضهم بعضا، ما عدا ضرغاما والخليفة. ولم تكن إلا لحظة حتى هجم الأسد على الخليفة ممسكا ذراعه بمخالبه، وفتح فمه وهم بأن يلتقم رأسه، فبغت المعتصم، وذهبت قوته وأيقن بالهلاك؛ إذ لم يجد شيئا يدفع به عن نفسه ولا وسيلة للنجاة من براثن الأسد وقد ولى الناس فرارا ورعبا. على أن ضرغاما ثبت في موقفه وانقض على الأسد فقبض على فكه الأسفل بيد وعلى الأعلى باليد الأخرى، وهو يقول: «لبيك يا مولاي. سلمت بإذن الله.» وما عتم الخليفة أن سمع تمزق شدقي الأسد. وشعر بأن ذراعه تخلصت من مخالبه ثم رآه يهجم على ضرغام، ولكن هذا استل خنجره ومضى يطعنه في ليته وخاصرته وتحت إبطه، وقد غلبت عليه سورة الغضب حتى أصبح منظره أشبه رهبة من الأسد، فوقف شارباه واحمرت عيناه وتقطب حاجباه.
وكان الجمود قد استولى على الحاضرين، ولكنهم لما رأوا الأسد مضرجا بدمه وضرغام فوقه والخليفة واقف وعيناه شائعتان إلى ضرغام تقاطروا راجعين، وعلا صياحهم يهنئون الخليفة وينظرون إلى ضرغام معجبين. وابتسم المعتصم لضرغام والاصفرار غالب على سحنته من أثر البغتة، وقال: «بورك فيك يا ضرغام ... إنك والله ضرغام حقيقة!»
فلما سمع إعجاب الخليفة به رجع إلى رشده فوقف والخنجر في يده يقطر دما. فرماه وقال: «إني عبد أمير المؤمنين ولم أفعل شيئا إلا ببركته، وإنه أولى مني بالانتقام من هذا الوحش. ولو انفرد به لقتله ولكنني غلبت على رشدي فلم أستطع صبرا على ما رأيته من جرأته فنبت عن مولاي بقتله ، وهي جرأة أستغفر لها.»
فأعجب المعتصم بأسلوبه في الاعتذار وشكره، ورأى أن يؤجل ما بقي عنده من الكلام لخلوة يختليانها، وهم بالمسير فأحس بألم في ذراعه من أثر مخالب الأسد ولكنه تجلد ومشى وأمر القوم بالانصراف، وتحول ضرغام إلى قصره وأمر الحاجب أن يمنع الدخول عليه في ذلك اليوم إلا للطبيب الذي أمر بإحضاره، فلما أتى هذا وكشف عن الجرح لم يجده يستحق الاهتمام؛ لأن الدرع صانت موقع المخالب. فهنأه بالسلامة وأشار عليه أن يلزم الفراش بقية ذلك اليوم. •••
وتسامع أهل الجوسق بما وقع للخليفة، فتقاطر الوزراء والقواد للسؤال فأنبأهم الحاجب بما أوصاه به فرجعوا. ثم دعا ضرغاما إلى مخدعه فدخل بعد أن غسل يده وأصلح من شأنه، فتحفز المعتصم للوقوف له إظهارا لإعجابه، فأكب ضرغام على يده يقبلها، ثم أمره الخليفة بالجلوس بجانبه فجلس متأدبا، فقال له: «إن حياتي الآن من يدك يا ضرغام.»
فأطرق ضرغام استحياء وقال: «عفوك يا مولاي، إني لم أفعل ما يستحق هذا الإطراء فإنما نبل أمير المؤمنين أردى الأسد من قبل، وما وثوبه هذا إلا من حشرجة الاحتضار. وهب أني أتيت شيئا فأنا عبد أمير المؤمنين أفديه بدمي.»
قال: «بورك فيك. إني لطالما أعجبت ببسالتك وإخلاصك وأنا محاط بالمداهنين والمملقين لا أثق إلا بقليلين، وإن كنت أظهر وثوقي بهم جميعا. وإن قائدا مثلك يندر في بلاط الخلفاء في مثل هذا الجيل الفاسد. ولم أكن أجهل إخلاصك من قبل؛ ولذلك جعلتك رئيس حرسي، فأنت جدير بهذا المنصب ولا يليق إلا بك.» ثم التفت إلى الباب ثم إلى النافذة كأنه يتفقد المكان ليتحقق خلوه من الرقباء وأطرق وضرغام ساكت يسترق النظر إليه، ثم رفع المعتصم رأسه وقال: «أتعلم لماذا استعجلت مجيئك من فرغانة؟» قال: «كلا يا مولاي.»
قال: «أتعلم أن دولتنا قامت على كتم الأسرار؟»
قال: «نعم أعلم ذلك، وليتأكد مولاي أني أحفظ لسره من صدره.»
قال: «إني وثقت بك لإخلاصك وحسن بلائك منذ رأيتك للمرة الأولى وقد شعرت بشيء حببك إلي.»
فتحفز ضرغام للوقوف إجلالا وشكرانا وقال: «تلك منة لا أستحقها، ومن أين لجندي مثلي أن ينال هذه الحظوة عند أمير المؤمنين؟! وأي فضل لي إذا أخلصت الخدمة لخليفة الرسول؟ أليس ذلك فرضا على كل مسلم؟!»
فقال وهو يقعده بيده: «بلى. إن ذلك فرض على المسلمين ولكن المخلصين قليلون، ولولا ذلك ما اضطررت إلى الخروج من بغداد وإنشاء هذه المدينة ولا كان ثمة ما يدعو لتجنيد هؤلاء الأجناد من أقصى تركستان وفرغانة لأستعين بهم على قومي وعشيرتي، وعلى أولئك الفرس الذين أطمعهم أخي المأمون في الدولة. إني محاط بالأعداء من كل ناحية. وكأنه ما كفاني الأعداء الأباعد في أذربيجان وطبرستان حتى ابتليت بهم في مدينتي وفي قصري! حتى هؤلاء الأتراك الذين جعلتهم بطانتي وعهدت إليهم في حمايتي ونصرة هذه الدولة، لا ينصرونني إلا طمعا في المال! وأنا إنما أسايرهم وأخادعهم وأنفق الأموال فيهم، وهم يظنون أنهم يخدعونني!» وسكت وبدا الجد في عينيه فأبرقتا بريقا يوهم الناظر إليهما أن الدمع يغشاهما فتهيب ضرغام من ذلك وأطرق ينتظر ما يبدو من الخليفة فاستأنف هذا كلامه وقال: «ضرغام، هل رأيت الأفشين في فرغانة؟» قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «وما الذي ذهب به إلى هناك؟»
قال: «لم يخبرني عن سبب ذهابه، ولكنني أظنه ذهب ليتعهد بلده وأهله في عيد النيروز. وأظنه قادما قريبا.»
قال: «إنه قادم لا شك؛ لأنه لا يجد رزقا أوسع من هذا ولكن ...»
قال: «وهل أمير المؤمنين في ريب من إخلاصه؟»
فقال: «إني أكاد ألمس ذلك بيدي ولكني أغالط نفسي وأظهر الثقة به؛ لأننا في حرب لا غنى لنا فيها عن رجاله، وليتني كنت مخطئا، فالذي أبغيه منك الآن أن تكون موضع سري وألا تفارق قصري.»
فأجابه على الفور: «إني عبد أمير المؤمنين وطوع إشارته.»
قال: «أنت منذ الآن صاحبي، فإنه وإن كان اسمك أليق الأسماء ببسالتك فقد اخترت لك اسم «الصاحب»؛ لأنك مصاحبي. فهمت يا صاحب؟»
فحنى ضرغام رأسه شكرا وقال: «لقد تكاثرت علي نعم أمير المؤمنين، ولا أراني أهلا لها ولكنه أراد أن يرفع صنيعته و...»
فقطع الخليفة كلامه قائلا: «كيف لا تكون أهلا لذلك وقد أنقذتني من براثن الأسد؟!»
فأطرق ضرغام استحياء وقلبه يرقص طربا لما يتوقع من فرح جهان بارتفاعه في نظر الخليفة، وبأنه صار أهلا لها بحق - والمحبون إنما يطلبون العلا إرضاء لأحبائهم - ونظر إلى الخليفة وقال: «لم أعد أستطيع الشكر على نعم مولاي.»
فقال: «إذا كنت تعد هذه نعما، فكيف بما أعددته لك من النعم الحقيقية؟»
فظل ضرغام ساكتا واستأنف الخليفة الكلام قائلا: «علمت أنك لم تتزوج بعد وأنك تقيم مع والدتك. فأردت أن تقيما بقصر خاص بجوار هذا القصر، وقد آن لك أن تتزوج. أليس كذلك؟»
فأطرق ضرغام أدبا وقال: «الأمر لمولاي.»
قال: «لقد استحسنت لك جارية تركية عرفت فيها الذكاء والجمال. رأيتها منذ عام وبعض العام فأضمرت أن أزوجك منها.»
فلما سمع ضرغام كلامه سقط في يده؛ لأن قلبه ليس له، وقد أحب جهان ولا يريد أن يحب سواها، ولكنه لم يستطع مخالفة الخليفة ولا استطاع التأمين على قوله، فظل ساكتا وقد حار في أمره.
فرأى المعتصم حيرته، ولم يدر في خلده أنه يمتنع. فقال: «لماذا لا تجيب؟ ألم يرقك اقتراحي؟»
قال: «كيف لا! إن جوار أمير المؤمنين أمنية الأماني.» وسكت عن الزواج فظنه الخليفة سكت حياء فقال: «والزواج ... لعلك لست كسائر الناس؟ ليس في جندي واحد لا يتمنى الزواج؛ ولذلك تراني أبعث في ابتياع الجواري لهم من تركستان؛ لأني لا أريد لهم أن يختلطوا بالسوقة ببغداد وغيرها فيغلب عليهم التخنث. أم لعلك تؤثر أن تختار جارية من الجواري اللواتي ابتعتموهن في هذه الرحلة. ولكنك لن تجد في تركستان كلها فتاة أجمل من التي اخترتها لك ولو جهدت. ويكفي أن اختياري وقع عليها. وقوادي يتنازعون عليها لفرط جمالها وذكائها ولكنني قد اختصصتك بها دونهم!»
فلم يجد ضرغام سبيلا للقبول أو لإبداء ما يجول في خاطره، ثم تشجع وقال: «إننا في حرب أو في تأهب لحرب، ومتى فرغنا من ذلك فإني عبد أمير المؤمنين.»
فاكتفى المعتصم بما سمعه وأعجبه منه تأهبه للحرب فقال: «وهب أننا في حرب فلست تفارق قصري. وأت بأمك وأهلك إلى هنا وأخبرها أن اسمك من اليوم «الصاحب»، وسأوصي بطانتي وقوادي وسائر رجال دولتي بذلك.» ثم تزحزح من مكانه فتحفز ضرغام للنهوض وقال: «أيأذن أمير المؤمنين في أن أذهب لأخبر والدتي بما أمر؟»
قال: «سر إذا شئت وستهيئ القهرمانة لكم المنزل اليوم.»
فمشى ضرغام ووجهه إلى المعتصم حتى خرج. ثم أرسل إلى وردان فجاءه بالفرس فركبا قاصدين إلى البيت وضرغام تتقاذفه الأفكار، وقد سره إعجاب الخليفة به ودعوته ليقيم بقربه كما ساءه أمر الزواج، ولكنه لم يعلق عليه كبير شأن؛ إذ لا دخل له بالسياسة فيسهل التخلص منه.
فلما وصل إلى منزله تلقته أمه بالترحاب، وسألت وردان عن حاله وكانت قد أعدت الطعام فجلست معه إلى المائدة، وشعرت من سكوته أن تغييرا طرأ عليه فقالت: «هل لقيت أمير المؤمنين؟» قال: «نعم يا أماه.»
قالت: «كيف حاله؟ وهل أخبرك بسبب تعجيله باستقدامك؟»
فأبطأ في الجواب؛ لأنه خاف إن قال لها كل شيء أن يخلف الوعد ويبوح بالسر ثم قال: «أخبرني، ولكن حدث أمر غريب.»
قالت: «ما هو؟» فقص عليها خبر الأسد وما كان من دفاعه عن الخليفة، فانشرح صدرها وبان في محياها. ثم أخبرها أن الخليفة غير اسمه وسماه «صاحب»، وذكر لها السبب فازداد سرورها، ثم قال: «وقد دعاني للإقامة بجواره.»
وكانت تهم بلقمة من الرغيف لتتناولها فلما سمعت كلامه ارتبكت وشخصت بعينيها البيضاوين إليه وقالت: «دعاك للإقامة بجواره؟ لماذا؟»
قال: «لأكون ملازما له. وذلك إكرام عظيم.»
قالت وقد توقفت عن ازدراد ما فيها من الطعام: «وهل يريد أن أكون أنا معك أيضا؟»
قال: «نعم فقد قال لي: «تسكن أنت وأمك هنا».»
فتغير لونها وتشاغلت بالمضغ وبان قلقها من تسرعها فيه وقالت: «اذهب أنت وحدك، ولا حاجة بي إلى الإقامة بقصر الخليفة.»
قال: «ولماذا يا أماه؟ إذا كنت لا تريدين الذهاب معي فأنا أيضا لا أذهب.»
قالت: «اذهب أنت فإن القرب من الخليفة شرف يتمناه القواد، وأما أنا فأمكث هنا على أن تتردد علي حينا بعد آخر لألمسك وأقبلك.»
فعجب ضرغام من استنكافها وإبائها وقال: «بل تذهبين معي فنقيم هناك كما نقيم هنا، وقد وعدت الخليفة بذلك ولا سبيل إلى الإخلاف.»
فوجمت حينا ثم قالت: «ننظر في ذلك.»
قال: «ليس في الوقت متسع فإننا ذاهبون غدا، فقولي لمسعودة تستعد، وسأوصي وردان بأن يساعدها. ولا ريب أنك ستأنسين بمن في قصر الخليفة من النساء فتقضين النهار في الحديث أو سماع الغناء. وذلك خير من بقائك وحيدة هنا. هذا فضلا عن حاجتي إلى وجودك هناك لأمر يهمني.»
فصعد الدم إلى وجنتيها وتغيرت سحنتها وأدارت عينيها دورة تكاد تنطق بما اعتراه من الارتباك، وقالت: «أما الاستئناس فلا أبغيه من سواك فأنت تعزيتي الوحيدة لا أطلب سواها، بل أنا أشترط عليك إذا كان لا بد من ذهابي أن يكون لي الخيار في البقاء بالمنزل أو الخروج منه. ولكن ما حاجتك إلي وأنا مكفوفة البصر كما ترى؟»
قال: «أنت ضوئي، وستكونين عوني على إنقاذي من السعادة التي أعدها الخليفة لي.»
قالت: «إنقاذك من سعادة؟! ماذا تعني؟»
قال: «أعني أن الخليفة خطب لي جارية تركية ذكر أنها أجمل نساء هذه المدينة واختصني بها دون قواده.»
قالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «أجلت الجواب لأني استحييت أن أرفض.»
قالت: «هل نويت الرفض؟» قال: «وهل أقبل؟»
فسكتت وذكرت أنه عالق بجهان فقالت: «وكيف ترفض أمر الخليفة؟»
قال: «وجهان؟ أليست خطيبتي؟»
قالت: «لذلك تريدني أن أكون معك؟ عسى أن أحتال لإنقاذك من هذه الورطة. ذلك شيء يسير.»
فانشرح صدره وقال: «إذن غدا ننتقل جميعا. واحذري أن تناديني ضرغاما فإن الخليفة قد سماني «الصاحب» وقد يستاء إذا دعيتني بغير ما سماني.»
قالت: «لك علي ذلك.» وكانوا قد فرغوا من الطعام فأمرت مسعودة بالتأهب، وأمر وردان بمساعدتها، وفي اليوم التالي انتقل الجميع إلى قصر الخليفة وأقاموا بمنزل بجانبه وليس معهم من الخدم إلا وردان ومسعودة. اكتفاء بخدم الخليفة.
الفصل الثالث عشر
أحمد بن أبي دؤاد
قضى الصاحب في جوار الخليفة أياما يتوقع أن يسمع خبرا عن جهان أو نبأ بقدومها، وقد ازداد رغبة في مجيئها لتنقذه من الجارية التي اختارها الخليفة. ولم يداخله شك في أن الخليفة إذا رأى جهان زهد في سائر نساء الأرض فلا يلومه حينئذ إذا أبى الزواج بسواها. وطال غيابها واستبطأها فقلق لتأخرها وانقطاع أخبارها، وضاق صدره عن كتمان القلق، فاستدعى وردان ذات يوم وقال له: «ما قولك في أهل فرغانة؟»
ففهم وردان قصده وقال: «أتعني مولاتي جهان؟»
قال: «أعني أني كنت على موعد معها هنا بعد انقضاء الحداد، ولكنها لم تأت ولا سمعنا عنها خبرا، فما رأيك؟»
قال: «أتريد أن أذهب للبحث عنها؟»
فأعجب الصاحب بتفانيه في خدمته وابتسم وقال: «بورك فيك يا وردان، لا أكلفك هذه المشقة ولكنني أستشيرك في الأمر.»
فأطرق وردان يفكر ثم قال: «الرأي عندي أن نصبر مدة أخرى حتى يأتي مولانا الأفشين من فرغانة.»
قال: «ومتى يكون هذا؟»
قال: «جاءت البشائر بقرب وصوله، فإذا جاء سألناه أو سألنا بعض رجاله.»
فاستحسن ضرغام ذلك، وقال له: «أرى أن تتولى أنت أمر البحث من بعض رجال الأفشين.»
قال: «فهمت مرادك.»
فضحك الصاحب (ضرغام) وقال: «لا تكتم رأيا ترى فيه نفعا لي. واعلم أني أعدك رفيقا لي لا خادما فأنت أرقى من ذلك كثيرا.»
فأطرق وردان احتراما وقال: «أنا خادمك، أتفانى في خدمتك. أتأذن لي في أن أذهب للقاء حملة الأفشين قبل وصولها؟» قال: «افعل ما يبدو لك.» فودعه وخرج.
ومكث ضرغام ساعة في القصر، ثم جاءه رسول المعتصم يدعوه إليه، فلبس سواده وذهب إلى القصر فقيل له إن الخليفة في خلوة مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد في دار الخاصة.
وكان ضرغام يعرف منزلة ابن أبي دؤاد عند الخليفة، وأنه لا يختلي به إلا أمر ذي بال، فاستأذن ودخل فرأى الخليفة جالسا على سريره في صدر القاعة، وأحمد بن أبي دؤاد على كرسي بين يديه.
وكان أحمد هذا معروفا بالمروءة وبعصبيته العربية؛ إذ كان ينتسب إلى بني إياد، ولكن المعتصم وإن أبعد العرب من مجلسه وقطع أعطياتهم وحط من أقدارهم واختص الأتراك ببطانته؛ كان شديد الثقة به لا يمضي أمرا إلا بمشورته ولا يشاور وزراءه.
وكانت نشأة ابن أبي دؤاد في قرية من أعمال قنسرين، ثم هاجر أبوه إلى الشام للتجارة فأخذه معه إليها وهو غلام، فنشأ في طلب العلم ولا سيما الفقه والكلام حتى فاق معاصريه، وأصبح معتزليا فصيحا قوي الحجة، ونال عند المعتصم حظوة ودالة لم يسبقه إليهما أحد، حتى صار يفتتح الكلام في حضرته وكانت العادة عند الخلفاء ألا يبدأهم أحد بالكلام. ومن أمثلة دالته هذه أن المعتصم غضب مرة على خالد بن يزيد الشيباني وأشخصه من ولايته لعجز لحقه في مال طلب منه وأسباب أخرى، فجلس المعتصم لعقوبته، وكان قد طرح نفسه على القاضي أحمد فشفع فيه فلم يجبه المعتصم، فلما جلس لعقوبته حضر القاضي أحمد فجلس دون مجلسه الذي اعتاده فقال له المعتصم: «يا أبا عبد الله لم جلست في غير مجلسك؟» قال: «ما ينبغي لي أن أجلس إلا دون مجلسي هذا!» فقال له: «وكيف؟» قال: «لأن الناس يزعمون أن ليس موضعي موضع من يشفع في رجل فيشفع.» قال: «فارجع إلى مجلسك.» قال: «مشفعا أو غير مشفع؟» قال: «بل مشفعا.» فارتفع إلى مجلسه. ثم قال: «إن الناس لا يعلمون رضا أمير المؤمنين عنه إن لم يخلع عليه.» فأمر بالخلع عليه فقال: «يا أمير المؤمنين، قد استحق هو وأصحابه رزق ستة أشهر لا بد أن ينالوها، وإن أمرت لهم بها في هذا الوقت قامت مقام الصلة.» فقال: «قد أمرت بها.» فخرج خالد وعليه الخلع والمال بين يديه، وكان الناس في الطريق ينتظرون الإيقاع به فصاح به رجل: «الحمد لله على خلاصك يا سيد العرب.» فقال له: «اسكت، سيد العرب، والله، أحمد بن أبي دؤاد.»
ولم يكن نفوذ ابن أبي دؤاد خافيا على ضرغام، فلما دخل على المعتصم وهو عنده علم أنه دعي لأمر ذي بال، فلما أقبل على الخليفة حياه بتحية الخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.»
فهش له المعتصم وناداه وأمره بالجلوس بجانب ابن أبي دؤاد وهو يقول: «مرحبا بالصاحب.» ثم التفت إلى القاضي وقال: «أظنك تستغرب تسميتي هذا القائد بغير اسمه، فاعلم أني عملت بحسن رأيك فيه؛ فقد طالما أثنيت على شهامته وإخلاصه، وقد رأيت منه فوق ما وصفت حتى عرض نفسه للموت لأجلي؛ إنه أنقذني من براثن الأسد ببسالته؛ فقربته وسميته الصاحب وأسكنته بعض قصوري.»
وكان ابن أبي دؤاد في نحو الستين من عمره وقد خط الشيب لحيته وعارضيه، فازداد إجلالا ووقارا وهو يلبس زي القضاة: العمامة الطويلة، والطيلسان الرقيق، فلما سمع إطراء المعتصم وترحيبه بضرغام هش له وحياه، والتفت إلى المعتصم فقال: «ألا يرى أمير المؤمنين حسن ظني في محله؟ إني أنزلته من نفسي منزلا رفيعا يوم رأيته، وتوقعت له مستقبلا مجيدا. أعانه الله على خدمة أمير المؤمنين.»
فقال المعتصم: «وبناء على ذلك أرى ألا نخفي عنه ما يدور بيننا.»
وكان ضرغام جالسا متأدبا ينتظر أمر الخليفة فقال الخليفة: «اعلم يا صاحب أني كنت والقاضي نتشاور فيما بلغنا من أخبار المجوسي في أرمينيا.»
فأدرك ضرغام أنه يعني بابك الخرمي القائم على الدولة في أردبيل. وكان عالما بانتقاضه وبوقائع جرت بينه وبين جند المسلمين ولم يظفروا منه بطائل حتى استفحل أمره، فقال: «وهل أحدث هذا الرجل حادثا جديدا؟»
فقال القاضي: «لا يخفى عليك أن بابك الخرمي تمرد على أمير المؤمنين بأرمينيا، فرماه بالأفشين ورجاله مرة، وبغيرهم مرة أخرى، والشقة بيننا وبين أرمينيا واسعة؛ فكانت الحرب سجالا، ولا يزال الرجل معتصما هناك وأمير المؤمنين ...» وسكت ونظر إلى المعتصم، فأتم هذا كلامه قائلا: «قلت لك يا صاحب إني لا أثق بالأفشين هذا ولا أعلم كيف أستغني عنه وقد رأيته أنت في بلاده بين أهله وعشيرته، فكيف وجدته؟»
قال: «إن لهذا الرجل سطوة عظيمة في تلك البقاع، فهم يعدونه ملكا كبيرا ويسمونه ملك الملوك، وبعضهم يخاطبه بإله الآلهة كما كانوا يفعلون قبل إسلامه، ولعله الآن يستنكف من هذا. وقد رأيت يا أمير المؤمنين من سلطانه شيئا عظيما حتى يجتمع لندائه ألوف الألوف من الرجال. وإذا رأى أمير المؤمنين أن يخلعه فإنه فاعل ما يشاء، وإذا شاء أن يرمي بي في مكانه بذلت دمي وروحي في خدمته. ولا أزعم أني أقدر من ذلك الرجل ولكنني طوع أمير المؤمنين والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.»
فقال القاضي للمعتصم: «إن الصاحب يبدي إخلاصه وتفانيه في خدمة الدولة، ولكنه لو سئل عن عاقبة هذا التبديل لما جهل الخطر الذي يترتب عليه. لا أرى أن يعلم الأفشين أو أحد رجاله بما يجول بأذهاننا عنهم، وإذا أذن أمير المؤمنين أبديت رأيا لعل فيه نفعا.»
فقال: «قل ما بدا لك.» والتفت إلى ضرغام وقال: «إن القاضي أحمد يحل لدينا محل الوزراء والمشيرين، فعندنا من الوزراء والخاصة غير واحد ولكنني لا أثق بأحد منهم وثوقي به. قل أيها القاضي.»
فقال: «إن الأفشين ملك في بلده وعنده الجند والأعوان، وقد رضي أن يخدم أمير المؤمنين طمعا في المال. ويتحدث بعض الناس بأنه لا يخدم المسلمين إلا لذلك، ولو ترك لشأنه لانضم إلى بابك وحاربنا. وهو إذا صح إسلامه فإنه لا يزال حديثا فيه، فإذا جافيناه انقلب علينا، وإذا اتحد مع بابك أصبحا خطرا علينا مما لا يخفى على أمير المؤمنين. والذي أراه أن نظهر له ثقتنا بإخلاصه ونشتريه بالمال هو ورجاله ونضرب بهم ذلك المجوسي المتمرد في أرمينيا، فإذا غلبوه كفونا شره، وإذا اتضح لأمير المؤمنين بعد ذلك أن الأفشين خائن، سهل علينا الاقتصاص منه؛ إذ يكون وحيدا. وإذا أخلص حقا نال ما يستحقه.»
فلما سمع ضرغام كلام القاضي أدرك أن الرجل ينطق عن تعقل ودهاء، ولو ترك هو لرأيه لم يصل إلى هذا الحكم؛ لأنه من أهل الشجاعة وليس من أهل الرأي، ويندر اجتماع الشجاعة والرأي في واحد. ثم قال الخليفة: «أرى قاضي القضاة يغالي بقوة هذا الفارسي أو الأشروسني ويخشاه، وفاته من في جندنا من القواد العظام وكل منهم يدفع عن دولتنا برجاله وعدته.»
قال: «صدق أمير المؤمنين؛ فعنده أشناس التركي وأيتاخ وبغا وسما وغيرهم، ولكن هؤلاء نشئوا من العامة ليس لأحد منهم ما للأفشين من النفوذ في نفوس الجند، وقد سمعنا الآن بما لهذا الرجل من السطوة في قومه وهم ألوف الألوف، فإذا أغضبناه لا يقوم هؤلاء مقامه. ولولا تمرد بابك هذا لم نكن نخشى بأس الأفشين. وأنت يا أمير المؤمنين شجاع باسل، أيدك الله بالخلافة، فلا ترى الالتجاء إلى الحيلة أو الصبر على المكاره، ولكنا نعلم من الحديث المأثور عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «الحرب خدعة.» فهذا رأيي والأمر من قبل ومن بعد لأمير المؤمنين، وأنا وسائر رجال الدولة رهن ما يريد، نبذل دماءنا وأرواحنا في طاعته.»
فالتفت المعتصم إلى ضرغام كأنه يستطلعه رأيه، فقال ضرغام: «إني لا أرى ردا على قول قاضي القضاة، ولم أكن لأفطن لما فطن هو له من حسن السياسة، وقد سمع أمير المؤمنين جوابي فإني رجل سيف أصدع بالأمر، فإذا رميت بي أذربيجان أو تركستان أو أرمينيا ركبت إليها ودمي على كفي، ولكن الصواب فيما قاله قاضي القضاة والرأي الأعلى لأمير المؤمنين.»
فقال المعتصم: «قد استشرتكما في الأمر لسببين؛ الأول: أن طلائع الأفشين جاءت تبشر بقرب وصوله، والثاني: أن قد جاءنا جاسوس من أرمينيا بأن بابك الملعون قد استفحل أمره وربما تحرك نحونا، فلا ينبغي أن نمكث هنا في انتظاره.»
قال القاضي: «لا أظنه يجسر على القدوم وإنما هو يقنع بأن نتركه وشأنه، وعلى كل حال أرى أن نحتفل بقدوم الأفشين ونبالغ في إكرامه حتى نفرغ من حاجتنا إليه.» •••
وفيما هم في ذلك سمعوا صوت الأذان لصلاة العصر، فتحفز الخليفة للقيام وصفق فجاء الحاجب فأمره بأن يخبر صاحب وضوئه أنه سيصلي العصر في المسجد الكبير.
فلم يبق لضرغام والقاضي بد من الذهاب إلى الصلاة معه في ذلك المسجد، وكان المعتصم قد بناه وبالغ في إتقانه على شكل لم يسبق له مثيل في الإسلام، فجعل جدرانه من مرايا حتى إذا وقف الخليفة للصلاة رأى من يدخل المسجد من خلفه، وبنى له منارة عظيمة على شكل لولبي مكشوف يصعد إليها على درج لولبي من ظاهرها. ولعل ابن طولون بنى منارة جامعه في مصر على مثال تلك. وكان المعتصم كثيرا ما يصلي في ذلك المسجد لقربه من قصره. فلما تحفز للنهوض استأذن أحمد وضرغام في الانصراف وذهب كل منهما إلى منزله حيث توضأ ويمم المسجد.
دخل الخليفة أولا والناس وقوف للتبرك برؤيته، وفيهم القواد والوزراء حتى إذا دخل المقصورة الخاصة في أثره، وفيهم القاضي أحمد، ومحمد بن عبد الملك الزيات وزيره، وقواده الأتراك الذين ذكرناهم. أما ضرغام فدخل حتى وقف في جملة الحاشية وكانت المرايا في الجدران على شكل غريب يرى الناس صورهم فيها كأن أمامهم مسجدا آخر فيه أناس يصلون، ووقف ضرغام في جملة الواقفين للصلاة.
وبينما ضرغام واقف يصلي وعيناه على المرايا في المحراب يرى الناس يدخلون من الباب وراءه ممن يعرفهم ولا يعرفهم، وقع بصره على رجل لم يكد يتثبته حتى أجفل ولم يتمالك أن التفت إلى الوراء ليتحقق ظنه فإذا هو مصيب في تخيله؛ وكان قد رأى بالمرآة صورة سامان أخي جهان، فاحتال في التقهقر رويدا رويدا حتى دنا من الباب ورآه سامان يتقهقر فسبقه إلى صحن المسجد، فخرج ضرغام في أثره وهو يحدق فيه ويكاد ينكره لما رأى في حاله من التغير. فقد فارقه في فرغانة وعليه لباس أهل الوجاهة مما يعوض عن قبح صورته بعض الشيء، ولكنه رآه هذه الساعة في حالة يرثى لها من الضعف ورثاثة الثوب وقد ربط زنده وعصب رأسه ووقف ذليلا كئيبا، فأثر منظره فيه وأخذته عليه الشفقة وخشي أن يكون قد أصاب جهان سوء فصاح به: «سامان؟!» قال: «نعم أنا سامان يا سيدي.»
فقال: «ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ أين جهان؟»
قال: «إذا أذنت لي في خلوة قصصت عليك كل شيء، فقد تعبت من البحث عنك في سامرا، وأخيرا أتيت المسجد لعلي أراك.»
فأشار إليه أن يمشي وراءه في صحن الجامع وقال: «يظهر أنك سألت عني باسمي القديم (ضرغام) وأنا اليوم لا يعرفني أحد بهذا الاسم، وإنما اسمي الصاحب. أين جهان؟ وما لي أراك رث السربال على هذه الحال؟» وكانا قد انتهيا من الصحن إلى بناء مربع على هيئة الكعبة. فرأى الصاحب أن يدخل إليه ليختلي بسامان؛ إذ لم يبق له صبر حتى يصل إلى المنزل، فدخل وأشار إليه أن يجلس على دكة هناك وهو يقول: «أخبرني أين جهان وماذا جرى لكم؟»
فجلس يتنهد ويتمسكن وقال: «أحمل إليك خبرا لا يسرك.»
فاضطرب ضرغام وقال: «هل أصاب جهان سوء؟»
قال: «لم يصبها سوء ولكن ...» وبلع ريقه.
قال: «ولكن ماذا؟ أين هي؟ قل!»
قال: «لا أدري أين هي يا سيدي ... فقد خطفها مني اللصوص.» قال ذلك وتظاهر بالبكاء.
فزأر ضرغام كزأر الأسد وحملق عينيه ووقف شعر شاربيه وأصبح منظره مخيفا وقال: «اختطفوها؟ من تجاسر على ذلك؟»
قال: «لا أعلم يا سيدي من أولئك اللئام الذين اختطفوها. ولكن تمهل قليلا حتى أقص عليك الخبر كما وقع.»
قال: «قل وأوجز.»
قال: «فارقتنا يا مولاي وظللنا في فرغانة بعد سفرك بضعة أيام ذقنا فيها الأمرين.» قال ذلك وأرسل بصره إلى صحن الجامع وخفض صوته كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فلما تحقق خلو المكان من السامعين قال: «إن مصيبتنا أتت من أقرب الناس إلينا؛ أتت من الرجل الذي أوصاه أبي بنا؛ فالأفشين لم يكتف بأنه حرمني من ميراث أبي حتى مد يده إلى أختي!»
فاقشعر جسد ضرغام من هذا التعبير مع ظنه أنه يعني تعديه على حصتها من الميراث كما تعدى على حصة سامان، ولم يخطر له شيء وراء ذلك فقال: «أظنه طمع في ميراثها أيضا؟»
فتشاغل سامان بحك ذقنه الأجرود وتنحنح وظل ساكتا، فارتاب ضرغام في أمره فقال: «أليس الأمر كما أقول؟»
قال: «لو أنه اكتفى بالإرث لكان خيرا، ولكنه طمع فيها هي نفسها. ويحزنني أن أغضبك بهذا الخبر ولكنه الواقع وعلي أن أصدقك؛ فإنه طلب الاقتران بأختي على علمه أنها مخطوبة للبطل ضرغام وأنها يستحيل أن تقبل سواه.»
فقال ضرغام وهو يرتعد: «ثم ماذا؟»
قال : «تداركنا الأمر بالفرار؛ ففررت أنا وجهان في قافلة بما خف حمله من المال والمتاع، ولم نخبر أحدا من أهل القصر إلا القهرمانة خيرزان، فأخذناها معنا وركبنا مسرعين نقصد إلى سامرا قبل أن يعلم الأفشين بنا، فقطعنا البراري والقفار، وقاسينا عذابا شديدا من الحر والبرد والتعب حتى دخلنا خراسان ودنونا من همذان. وهناك فارقتنا القافلة وحسبنا أننا صرنا في أمان، فاعترضنا قوم من قطاع الطريق على خيولهم فدافعنا عن أنفسنا دفاعا حسنا جهد طاقتنا حتى كلت يدي وجرح رأسي، وكنت أتمنى لو أقتل وتبقى جهان سالمة ولكن ...»
فصاح به: «ولكن ماذا؟ هل أصابها سوء ...؟ أليست حية؟»
قال: «هي حية يا سيدي ولكنهم خطفوها وذهبوا بها وبقهرمانتها، وآخر ما سمعته منها قولها: «سلم على ضرغام وأخبره بما جرى».»
فتعاظم غضب ضرغام حتى غلى دمه واحمرت عيناه وقال: «ومن هم أولئك اللصوص؟ ألم تعرف أحدا منهم؟»
قال: «كلا؛ فقد كانوا ملثمين ولم يفوهوا بكلمة ولا سمعنا لهم صوتا خوفا من انكشاف أمرهم.» •••
وأطرق ضرغام برهة كان فيها كالضائع يحسب نفسه في حلم أو كأنه انتقل إلى عالم آخر، ثم انتبه لجلبة الناس أثناء خروجهم من المسجد وتذكر أن الخليفة معهم، فخاف أن يراه مختبئا فيشك في أمره فخرج واختلط برجال الدولة وأشار إلى سامان أن ينتظره فظل واقفا في مكانه. وبعد قليل انفرج الوقوف وشقوا طريقا للخليفة ووقفوا للتحية فمر بهم المعتصم يتفرس في وجوههم حتى وقع بصره على ضرغام فأشار إليه أن يتبعه، فاستعاذ بالله وخاف أن يكون في تلك الدعوة ما يحول دون البحث عن جهان. وتفرق الناس عن الخليفة رويدا رويدا حتى وصل إلى القصر ولم يبق معه غير ضرغام، فدخل وأشار إليه أن يلحقه، ففعل حتى وصلوا إلى غرفة خاصة، فالتفت الخليفة إليه وقال: «رأيتك خرجت من المسجد قبل الفراغ من الصلاة.»
فخجل ضرغام من هذا الاستفهام وقد فاته أن الخليفة يرى الخارجين والداخلين بالمرايا كما رأى هو سامان، ولكن رؤية سامان فجأة أنسته نفسه وموقفه. فلما سأله الخليفة عن سبب خروجه اعتذر بقوله: «خرجت لمشاهدة رجل لم أكن أنتظر رؤيته ويهمني أمره، وكان ينبغي أن أتم الصلاة لأكون في معية أمير المؤمنين، فعفوا لمولاي، وإني أعد ملاحظته التفاتا كبيرا إلى صنيعته.»
قال: «إني كثير الاهتمام بشئونك؛ لأنك صاحبي، فأرجو ألا يكون عليك بأس مما رأيته أو سمعته.»
فرأى ضرغام الفرصة مناسبة للاستئذان في الذهاب إلى همذان فقال: «لا بأس علي ما دمت في ظل مولاي أمير المؤمنين، ولكن قوما من أهلي قادمين من فرغانة إلى العراق فأصابهم ما أخر وصولهم فبعثوا يستعينون بي على ذلك، فهل يأذن مولاي بذهابي بضعة أيام؟»
فأطرق المعتصم ثم قال: «سر ولا تطل الغياب، وإذا رأيت أن تستعين بجند أو بريد فافعل.»
فانحنى ضرغام شاكرا واستأذن وعاد إلى المسجد حيث ترك سامان، وقد سره اهتمام المعتصم بأمره ولكنه ظل مضطرب البال لما سمعه عن جهان والأفشين، ولم يكن الأفشين قد وصل إلى سامرا بعد، فرأى ضرغام المبادرة إلى همذان فأمر بإعداد أفراس البريد ينتقل بها هو وسامان، وذهب لوداع أمه وذكر لها أنه ذاهب في مهمة يعود منها بعد بضعة أيام، فقبلته وودعته. فركب في ذلك المساء وقلبه يكاد يسبقه من شدة القلق إلى همذان، وكلما وصل إلى محطة من محطات البريد لتبديل الركائب يسأل الناس هل سمعوا بلصوص يلجئون إلى بعض الأماكن في تلك الناحية. وكان يواصل السير نهارا وليلا ولا ينام إلا قليلا حتى دنوا من همذان وبجانبها جبل وعر وطريق البريد بجانب ذلك الجبل وفيه محطة لخيل البريد، فلما وصل إلى هناك سأل سامان: «ألا تذكر المكان الذي وقع فيه الحادث؟»
قال: «وراء هذا الجبل على ما أظن.»
وكان وصولهم إلى الجبل عند الغروب، وقد أعد له أصحاب البريد منزلا يبيت فيه، ولكنه لم يستطع صبرا إلى الغد. وكان في تلك المحطة غير واحد من السعاة والكوهبانية وأصحاب الأخبار التقوا هناك صدفة وكل منهم سائر في طريق، وعلم صاحب تلك المحطة أن الصاحب من خاصة الخليفة وقد جاء للبحث عن شيء يهمه، وأنبأ الآخرين بذلك فأصبحوا يتوقون إلى خدمته، وسأل ضرغام صاحب المحطة: «هل أنت هنا من زمن طويل؟»
فقال: «من بضعة أسابيع ونحن أصحاب البريد ننتقل دائما، فهل يأمر مولاي بخدمة نقوم بها؟»
قال: «شكرا لك، هل سمعت بلصوص أو قطاع طريق يعتصمون في بعض هذه الأودية أو الجبال أو يمرون من هذه الأمكنة؟»
قال: «قلما نسمع بشيء من هذا، ولكني علمت بالأمس أن جماعة من قطاع الطريق معتصمون وراء هذا الجبل، ولم يصل خبرهم إلى الحكومة بعد على ما أظن.»
فلما سمع ضرغام كلامه قال له: «أرسل معي رجلا يهديني إلى مكان أولئك اللصوص.» ومشى.
فأعجب الرجل بشجاعته ومبادرته إلى الذهاب وحده فقال: «ألا ترى يا سيدي أن نرسل أحدا للبحث عنهم وتمكث أنت هنا؟»
قال: «كلا، يكفي أن ترسل معنا رجلا يدلنا على الطريق.» ومشى وسيفه إلى جانبه وقد التف بعباءته والكوفية حول رأسه، وتبعه سامان ورجل من حراس تلك المحطة، سار أمامهما في شعاب وعرة وقد غابت الشمس وأخذ الظلام يتكاثف، وضرغام مطرق لا يلتفت ولا يتكلم، حتى انتهوا إلى منعطف في ذلك الجبل فوقف الدليل وأشار بيده إلى نور ضعيف على أكمة أمامهم وقال: «هذا مقر القوم يا سيدي، وأخاف أن يبطشوا بنا.»
الفصل الرابع عشر
المعتصم والعرب
أظهر سامان أنه يود الذهاب مع ضرغام، ولكن هذا أبقاه هناك ومشى وحده يتعثر بالحصى ويسمع لوقوع نعاله قرقعة كأن غضبه أعماه عن الخطر الذي يهدده بالسير وحده، ولكنه كان شديد الاعتداد بقوته كثير الاعتماد على بسالته. حتى إذا صار على مرمى سهم من مقر اللصوص، رأى أشباحا تتراوح بينه وبين المصباح وسمع هرير الكلاب فلم يبال. ورآه القوم قادما وحده فلم يخطر لهم أنه عدو لعلمهم أن العدو لا يجسر على القدوم وحيدا، فتصدر واحد منهم وصاح: «من هذا؟»
فقال ضرغام: «قادم يبحث عن ضائع ... أين كبيركم؟»
ومضت لحظة رأى في أثنائها القوم في حركة وتهامس، ثم تقدم واحد منهم وبيده قبس وقد تلثم بكوفية والتف بعباءة ، فتفرس ضرغام فيه فلم يعرفه ولكنه جعل يده على قبضة سيفه وهو يتحفز للوثوب أو الدفاع ولم يكد صاحب القبس يصل إلى ضرغام حتى قال له: «أهلا بضرغام، أهلا بالصاحب.»
فلما سمعه يناديه باسمه خفق قلبه واستأنس به ولكنه لم يعرفه فقال: «من أنت؟»
وكان قد وصل إليه فأزاح اللثام وأدنى القبس من وجهه وقال: «ألم تعرفني؟»
فتفرس ضرغام فيه، ولما عرفه صاح: «حماد؟! ما الذي أتى بك إلى هنا؟»
قال: «أتى بي إلى هنا ظلم صاحبك. تفضل.» قال ذلك وصفر صفيرا أبطل نباح الكلاب، وفرق الرجال الذين كانوا مجتمعين، ومشى وهو قابض على يد ضرغام يرشده إلى الطريق، وضرغام يعجب لما يراه؛ لأنه يعرف حمادا من وجوه رجال الدولة في سامرا، وقد رآه فيها منذ أسابيع وكان صديقا حميما له، فتبعه مطمئنا حتى وصلا إلى بناء قديم حجارته ضخمة وجدرانه مهدمة. ولو تفرس القادم فيما بقي من أنقاضه على ضوء القبس لرأى عليها نقوشا وصورا من آثار قدامى الفرس. ولكن ضرغاما لم ينتبه إلى شيء من ذلك. وإذا بصاحبه قد أوصله إلى غرفة ليس فيها شيء من الأثاث أو الرياش، ولكنه شاهد في أرضها أكياسا من الحبوب وصناديق فيها الآنية والمتاع كأنها أخذت من أصحابها التجار في تلك الساعة. فأشار حماد إلى ضرغام فجلس على صندوق وجلس هو على صندوق آخر وقال: «أظنك تعجب لما تراه؟»
فقال: «كيف لا أعجب وقد بلغني عن هذا المكان أنه مأوى اللصوص وأراك فيه كواحد من أهله.»
قال: «بل أنا زعيم أصحابه. ولم أكن لأكاشفك بذلك وأدخلك هذا المكان لولا ثقتي بك ولتعلم مغبة ظلم صاحبك.»
قال: «أتعني أمير المؤمنين؟»
قال: «بل أعني أمير الأتراك والفراغنة، وإذا أحرجتني قلت إنه أمير الكافرين مثل أخيه المأمون.»
فشغل ضرغام بهذا الأمر الغريب عن الغرض الذي جاء من أجله فقال: «إني لا أرى مسوغا لهذه النقمة، ولولا ما تعلمه من حبي لك ما صبرت على ما أسمعه منك، ولكنني أذكر صداقتك وأحب أن تصرح لي بما يكنه ضميرك عساي أن أذهب ما في نفسك من الغل على الخليفة، ونحن في حاجة إلى رأيك وسيفك وأعداؤنا كثيرون فلا ينبغي أن نتفرق.»
فاعتدل حماد في مجلسه وبان الاهتمام في وجهه وقال: «لا ألومك على دفاعك عن المعتصم؛ لأنه صديق الأتراك والفراغنة، وقد عادى أهله وعشيرته من أجلهم. وأنت الآن صاحبه ومن أقرب المقربين إليه. لا أقول إنك لا تستحق ذلك بل أنت أهل لأكثر منه، ولكنك لو كنت في مكاننا نحن العرب لما قبلت ما يأتيه هذا الرجل من المظالم؛ لم يكفه أنه صادرنا في ديننا وجلد الإمام أحمد بن حنبل الرجل التقى البار حتى غاب عن رشده وسال دمه وتقطع جلده، ثم قيده وحبسه واضطهد كل من لم يقل بخلق القرآن، لم يكفه ذلك حتى قطع العطاء عن العرب كافة، ومنع المسلمين من رواتبهم ولم يفعل ذلك أحد قبله. ولا أذكرك بما كان للعرب من العز والسؤدد في عهد الراشدين والأمويين يوم كان الفرس والترك وسائر الأعاجم يعدون من العبيد والموالي، ولا يستنكفون أن يكون العرب سادتهم، بل كانوا يتشرفون بالانتماء إليهم. وإنما أذكرك بما كان لهم من الزعامة في صدر الدولة العباسية مع أنها قامت بسيوف الفرس. حتى المأمون الذي حارب العرب وحاربوه لم ينقص شيئا من أعطياتهم كما فعل المعتصم هذا، مع أن المأمون كان معتزليا مثله يقول بخلق القرآن ويضطهد الأئمة القائلين بقدمه، ولكنه كان يعلم أن العرب مادة الإسلام وأصل هذه الدولة وروح هذه الأمة. أما صاحبك فقد قطع العطاء عن كل عربي، ولم يفعل ذلك عن فقر أو جدب فإنه ينفق الأموال الطائلة في اصطناع الأتراك والأشروسنية والفراغنة، وقد بنى لهم سامرا وأحضر لهم النساء والجواري وأسال النضار في خزائنهم. ولو كنت أنت أعرابيا ما صبرت على ذلك.»
فلم ير ضرغام حجة يدفع بها قول حماد؛ لعلمه أنه يقول الحق، ولكن غيرته على المعتصم وإخلاصه في خدمته حملاه على انتحال الأعذار فقال: «لا أنكر عليك ما ذكرته من مواضع النقد على أمير المؤمنين. ولكنك حملت ذلك منه على سوء القصد؛ فهو قطع العطاء عن بعض العرب بعد أن تحقق عداوتهم للدولة، ومنهم من حاربه وجرد الجيش عليه. أما الذين يخلصون في خدمته فيبالغ في تقريبهم والإنعام عليهم. هذا القاضي أحمد بن أبي دؤاد لا أزيدك علما بمنزلته عند الخليفة وهو عربي. وأنت؟ ألم تكن مقربا ولك منصب رفيع؟»
فهز حماد رأسه وقال: «أراك تحسن الدفاع عن صديقك الخليفة. وقد أتيت بالقاضي أحمد شاهدا وهو عربي من بين ألوف قد لحقهم الذل والعار والفقر. أما أنا فقد كان لي منصب وبئس المنصب لو بقي! جعلني سادن الكعبة التي أنشأها في سامرا ليحول المسلمين عن كعبة مكة ويذهب بما بقي للعرب من مصادر الرزق حتى يميت عرب الحجاز؛ لأنهم يرتزقون من الحجاج، فأنشأ الكعبة في سامرا ليغني المسلمين عن الحجاز ...»
فقطع ضرغام كلامه قائلا: «ولكنه ليس أول من فعل ذلك من الخلفاء أو الأمراء؛ فقد حاول ذلك الحجاج والمنصور ولم يفلحا.»
فقال: «وهذا لن يفلح أيضا؛ لأن بيت الله في مكة فلا يقدر أن يجعله في سامرا.» •••
ورأى ضرغام أن الحديث قد طال لا يهمه بقدر ما يهمه الأمر الذي جاء لأجله، فأراد أن يختصر الكلام فقال: «ومع ذلك لا أجد فيما ذكرته مسوغا يجيز لك اللصوصية.»
فقال: «لا تقل اللصوصية. إننا لم نرتكب شيئا من ذلك على الإطلاق.»
فتضاحك ضرغام وهز رأسه استخفافا بدفاع حماد. فابتدره هذا قائلا: «لا تضحك يا صديقي. إننا لا نسرق وما نحن لصوص وإنما نحن نستولي على حقوقنا بأيدينا.»
فاستغرب قوله ونظر إليه وتطاول بعنقه نحوه كأنه يستفهمه فقال حماد: «إن هذه الأموال التي تجدها ملقاة هنا إنما هي حق الفقراء وأبناء السبيل بأمر الله - تعالى - في كتابه، وهي عشور الأموال أو أخماس الفيء، فهذه كان الخلفاء في صدر الإسلام يأخذونها من أصحاب الأموال والتجار ويفرقونها صدقة أو عطاء، وقد قطع المعتصم هذه الأعطيات، فهل يموت المسلمون جوعا لأنهم عرب؟! فنحن إنما نستولي على حقوق الفقراء بالقوة ؛ لأن الإمام أراد ضياعنا!»
فتعجب ضرغام لقوة تلك الحجة ولكنه أراد وقف الجدال فقال: «ما لنا وذاك! لقد علمت أنك كنت في سامرا من عهد قريب ولم يقطع الخليفة عطاءك فما الذي حملك على الخروج؟»
فوقف حماد وتنهد وتغيرت سحنته من الغضب إلى الكآبة ونظر إلى ضرغام وقال: «إن ما حملني على هذا الخروج وأثار في هذه الضغائن أمر أصاب مني مقتلا، أصاب قلبي فأذهب رشدي؛ فأنا ناقم على الرجل الظالم ما دمت حيا.» قال ذلك وقد تصبب العرق من جبينه، فازداد ضرغام رغبة في كشف خبره وتوسم من عبارته أنه يشكو من حبيب فارقه فقال: «وما ذاك يا أخي؟ قل وأوجز فإني أتيتك لأمر يهمني كثيرا فشغلتني بأمورك.»
قال: «مهما يكن من أمرك فلست بالغا أمري. أحببت جارية لبعض البغداديين وأحبتني، فلما أقدمت على الزواج بها، تصدى لي رجل من خاصة المعتصم اسمه الحارث السمرقندي أظنك تعرفه وطلبها لنفسه وأخذها مني عنوة، فشكوت أمري إلى الخليفة على يد القاضي الذي ذكرته فأجابني بقوله: «ابحث عن جارية أخرى فإن هذه لا تكون لك.» مع علمه بأنها تحبني حبا شديدا.» ثم تنهد وقال: «آه يا ياقوته!»
فقال ضرغام: «هل اسمها ياقوتة؟»
قال: «نعم هذا اسمها. فهب أني أغضيت عن كل السيئات التي ذكرتها فهل أقدر أن أغضي عن هذه؟ إني والله ناقم على الخليفة ودولته، وما خرجت لأكون لصا وإنما خرجت لأنتقم من هذه الدولة ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وأعداؤها كثيرون.»
فتأثر ضرغام من حكاية ياقوتة؛ لأنه واقع في مثلها. والإنسان إنما يشارك الناس في المصائب التي أصيب بمثلها أو يخشى أن يصاب بها. فالأعزب لا يشعر بمصاب الآباء بفقد أبنائهم كما يشعر من تزوج وله ولد، ولا يشارك المحب في شعوره إلا الذي جرب الهوى. فقال ضرغام لحماد: «هون عليك ولعلي أنفعك في شيء من شكواك. وقد آن لي أن أسألك عن الأمر الذي جئت في هذا الليل لأجله فأعرني سمعك واعلم أني أول من يشاركك إحساسك؛ لأني واقع في مثل ما أنت فيه.»
فقال حماد: «قل أيها البطل فإني سامع.»
قال: «لي خطيبة كانت في فرغانة وأنا في سامرا، فركبت مع أخيها وجاريتها، فلما وصلوا إلى همذان هجم عليهم اللصوص واختطفوا الفتاة وجاريتها وجاء إلي أخوها بالخبر فأسرعت للبحث عن الجناة فأنبأني صاحب البريد عن هذا المكان فأتيت، فما قولك؟»
قال: «أما نحن فلا نختطف نساء. وقد أخبرتك بما نفعله، وأنا على يقين أنه ليس في هذا الجوار لصوص أو قاطعو طريق.»
قال: «ولكن أخا الفتاة شهد الوقعة وهو الذي نجا من المعركة وأخبرني.»
فهز رأسه هزة الإنكار وقال: «نحن هنا منذ أسابيع، ولم نسمع بحدوث شيء من ذلك وأظن الراوي كاذبا.»
فانتبه ضرغام إلى ما يعلمه من سوء نية سامان من يوم عرفه فقال: «إن الراوي واقف في مدخل هذه الشعب. وسأستقدمه إليك لتسأله.»
فأشار حماد إلى بعض رجاله أن ينادي الرجل الواقف هناك، فذهب وعاد يقول إنه لم يجد أحدا. فذهب ضرغام بنفسه فلم يجد سامان. وسأل الدليل عنه فقال إنه مضى إلى حيث لا يعلم. فبعث في البحث عنه فلم يقف له على أثر، فرجح لديه أن في الأمر سرا غامضا وأن الرجل قد يكون كاذبا فيما رواه حتى عن الأفشين، فقلت ثقته بما رواه عن جهان. ولم ير بدا من الرجوع إلى سامرا، فاستأنف الكلام مع صديقه ونصح له أن يرجع معه فلم يرض وقال: «لا أرى في رجوعي فائدة ولو اقتصر ظلم صاحبك على خسارة المال لتحملته ولكنه طعنني في قلبي وأنت تقدر شعوري. فلا تلمني.»
فتذكر ضرغام مصيبته وتصور نقمته على خاطف حبيبته فعذره وقال: «صدقت إني معك فيما ذكرت، ولو علمت أن الخليفة صادرني في خطيبتي لنقمت عليه مثل نقمتك وأشد منها. فافعل ما بدا لك. وعلى كل حال أرجو أن تذكرني ولك مني مثل ذلك.» وأطرق قليلا ثم قال: «وإذا حدث ما يدعو إلى الاتصال بك أو المجيء إليك فهل أجدك هنا؟»
فأجاب: «لا أعلم أين يكون مقري بعد الليلة ، وما قيامي هنا إلا إلى أجل موقوت. وأنا إذا وفقت إلى أمر يسرك وأردت أن أراك فأين تكون؟»
قال: «في سامرا.» •••
ودع ضرغام صاحبه وهو يفكر فيما سمعه، وصورة جهان لا تذهب من مخيلته؛ لأنه في المكان الذي قيل له أنها أخذت فيه والليل مظلم مثل ظلام الليلة التي خطفت فيها. فتصور حالها وهم يقبضون عليها وتوهم أنه يسمعها تستغيث به وتناديه باسمه فاقشعر بدنه وحرق أسنانه. وقضى في تلك الهواجس مدة وهو يتلمس ذلك الطريق الوعر على هدي الدليل يسير بين يديه حتى أدرك محطة البريد فركب وعاد إلى سامرا. وطريق البيت في الرجوع إليه أقصر منها في الخروج منه ولكن ضرغاما استطال الطريق واستبطأ وصوله لشدة رغبته في ملاقاة وردان لكي يستشيره في الأمر وقد تعود ذكاءه وصدق فراسته.
وأشرف ضرغام أو الصاحب على سامرا نحو الغروب والشمس تقابله وقد ضعف نورها وتبددت أشعتها واحمر لونها وتكور شكلها وتعاظم حرها فظهرت كأنها كرة من نار سابحة في ضباب من دم. ونظر إلى أبينة سامرا وأعظمها قصر الخليفة والمسجد الأعظم ومنارته تناطح السحاب. ويخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب نهر دجلة وعلى ضفافه أشجار النخيل واقفة وقوف الجند يحملون سهامهم في عمائمهم. فشغله منظر الطبيعة عما في نفسه فأحس بارتياح فوقف هنيهة والبريدي على بغلته إلى جانبه لم يدهشه ذلك المنظر؛ لأنه تعوده، والنفس يختلف تأثرها بمناظر الطبيعة باختلاف حالها. والمحبون أكثر الناس مشاركة للطبيعة في أحوالها.
وأحس ضرغام بميل إلى الانفراد هناك، فأشار إلى البريدي أن يسبقه إلى سامرا فأطاع، وبقي ضرغام وحده يراقب الشمس ساعة الغروب وهي تتراءى لعينيه من وراء جذوع النخل عن بعد، بألوانها القزحية وإن غلب عليها لون الأرجوان، حتى إذا أدركت حافتها الأفق استطالت تلك الحافة إلى شبه خرطوم نزل وراء الأفق وهبطت في أثره الهويناء وقد أخذت الظلال تستطيل وتنتشر حتى توارت الشمس وخلفت مكانها أفقا أخذ احمراره في الاكفهرار شيئا فشيئا؛ من الدموي إلى الأرجواني فالبنفسجي فالأزرق على اختلاف ألوانه، حتى استحالت الظلال إلى ظلام. فأحس ضرغام بانقباض نبهه إلى المسير فوخز الفرس وخزا خفيفا فمشى مشيا بطيئا حتى تخلل مغارس المدينة من طرفها الأسفل، وتراءى له دجلة في مكان لا يغشاه النخيل فيممه على أن يسير على ضفته إلى الجوسق.
وكان الجو هادئا، فلما دنا من دجلة عاد إلى تخيله فلج في نيار فكره والجواد يسير على ضفة النهر من تلقاء نفسه، وقد هب النسيم عليلا، وسكنت الطبيعة، فلم يعد يسمع إلا حفيف الورق ووقع حوافر الفرس. ولم يكن ضرغام يسمع شيئا لذهوله، وإذا بجلبة فاجأته من ورائه وسمع صوتا وقع وقوع السهم في قلبه وأجفله؛ لأنه صوت امرأة تستغيث قائلة: «خافوا من الله ... اتركوني ... يا ناس ... اتركوني ...» ثم اختنق الصوت. فارتعدت فرائص ضرغام؛ لأن الصوت كثير الشبه بصوت جهان، وتذكر ما أصابها من اللصوص، وتصور أنها استغاثت بمثل الكلام ولم ينجدها أحد فصمم على نجدة هذه المستغيثة لعل الله يوفق جهان إلى منجد ينقذها. وسرعان ما ترجل عن جواده وركض إلى جهة الصوت شاهرا في يده حسامه وهو يقول: «لبيك لبيك. اتركوها أيها اللئام.»
قال ذلك وهو لا يرى أحدا لشدة الظلام، فخاف أن تكون قد خدعته أوهامه وأن ما سمعه هاتف يمثل له جهان. لكنه ما عتم أن سمع الصوت يقترب منه ورأى شبح امرأة تعدو من ضفة النهر باسطة يديها إليه وتصيح: «بالله أغثني أشفق على حياتي.» ورأى رجلين يجريان في أثرها وقد شهر أحدهما السيف ويقول: «إلى أين تهربين يا خائنة؟! سأقتلك لا محالة.»
فصاح ضرغام: «دعها يا رجل وإلا ضربت عنقك.»
فلم يبال الرجل وظل مسرعا حتى كاد يدرك المرأة، وكانت قد وصلت إلى ضرغام وترامت على قدميه. فلما رآه ضرغام هاجما والسيف بيده تناوله بضربة أطارت رأسه فوقع مجندلا بدمه، وهجم على رفيقه وهم بأن يضربه فرآه أعزل، فأمسك وصاح فيه: «من أنتم؟» فقال: «ما لك ولنا؟ ليس هذا من شأنك. دع الجارية وامض في سبيلك وسترى عاقبة أمرك.»
قال: «قف حيث أنت وإلا قتلتك . أو قل لي من أنت وما خبر هذه الفتاة؟»
قال: «إنها جارية هربت من بيت مولاها فبعثنا للبحث عنها فأدركناها هنا وأبت الرجوع فهددها رفيقي تخويفا لها. ولولاك لرجعت صاغرة ولكنها سببت قتل رفيقي. وسوف تعلم مصيرك.»
فلما سمعت الجارية كلامه وكانت مستلقية على العشب من التعب نهضت وصاحت: «كذبتم أيها الغادرون، ليس الأمر كذلك.»
فلما سمع كلامها شبه له صوت جهان واختلج قلبه في صدره واستبعد أن تكون هي نفسها؛ إذ لو كانت هي لعرفت صوته فقال للرجل: «قل الحق ولا تخوفني بأحد وإلا ألحقتك برفيقك.»
قال: «لا تغتر بما سمعته، إن هذه الجارية هاربة من بيت الخليفة فمن يجسر على حمايتها؟»
قال: «أنا أجسر، دعها وسر في طريقك.»
فصاح الرجل: «من أنت حتى تجسر على ذلك؟»
فحول ضرغام وجهه عنه وأمسك الفتاة بيدها ومشى وهو يقول: «قل للخليفة أو لسواه ممن يدعي السيادة على هذه الفتاة أنها في حماية الصاحب.»
فلما سمع الرجل اسمه تراجع وبهت كأنه صعق ثم قال: «عفوك يا مولاي عن جرأتي؛ إذ لم أكن أعلم أن مولانا الصاحب يخاطبني.» قال ذلك وقفل راجعا.
أما ضرغام فترك يد الفتاة ومشى إلى جواده وكان لا يزال واقفا في مكانه، فقاده بلجامه وسار وقال للجارية: «امشي يا بنية لا تخافي. وأخبريني عن حقيقة أمرك فقد سلمت الآن من الخطر.»
فقالت وصوتها مختنق: «أشكر الله إذ أرسلك لإنقاذي، ولولاك لذهبت ضحية الظلم.»
فأطربه صوتها وأحب أن ينظر إلى وجهها وقلقه على جهان يوهمه أنها قد تكون هي بعينها، ولكن الظلام كان يحول دون ذلك فقال لها: «قولي ما خبرك؟»
قالت: «كنت جارية لبعض الناس وأعتقني سيدي لوجه الله. فطلبني شاب عرفني وعرفته وتحاببنا وتواعدنا على الزواج، ثم رآني رجل من بطانة أمير المؤمنين يقال له الحارث السمرقندي، فتقرب إلي وخطبني لنفسه، فأبيت عليه ذلك.»
فلما سمع ضرغام اسم الحارث ذكر ما سمعه من حماد فقال: «وما اسم خطيبك؟» قالت: «حماد.»
قال: «فأنت إذن ياقوتة؟!»
فلما سمعته يذكر اسمها دهشت وتلعثم لسانها وقالت: «كيف عرفت ذلك يا مولاي؟ هل تعرف حمادا؟ أين هو؟»
قال: «عرفته ولكن لا سبيل إليه الآن. وسأقص عليك خبره فيما بعد. فأتمي حديثك.»
فلم تعد تعرف كيف تتكلم لشدة فرحها فقالت: «فلما أبيت على الحارث ما أراد وسط القاضي أحمد لدى أمير المؤمنين، فطلب الخليفة أن يراني، فلما مثلت بين يديه نظر إلي طويلا ثم أودع أذن القاضي كلاما وأمرني أن أبقى عند الحارث بلا زواج حتى يبدي رأيه في. فأخذني الحارث إلى منزله وحبسني وأخذ يحاول إقناعي بأن أقترن به، تارة بالحسنى وطورا بالتهديد. حتى جاءني منذ بضعة أسابيع وهو يهزأ بي ويقول: «إن خطيبك غادر سامرا.» فلم أصدقه، وعزمت على الفرار إلى حماد وهو على مقربة من قصر الخليفة. فأدركني هذان الرجلان وهما من أعوان الحارث وأرادا إرجاعي، ولما رفضت الرجوع هدداني فصحت الصيحة التي سمعتها وجئت لإنقاذي، جزاك الله عني خيرا.»
فلما فرغت من حديثها سره أنه أنقذها إكراما لصديقه، ولكنه تذكر أن حمادا برح همذان في الليلة التي فارقه فيها ولا يعرف مقره، فظل ساكتا وهو يفكر في ذلك وصورة جهان أمام عينيه وهو يناجي نفسه: «هل يتاح لجهان من ينقذها يا ترى كما أنقذت أنا هذه الفتاة؟» ظل برهة يفكر في ذلك وياقوتة ماشية إلى جانبه وقلبها يخفق سرورا وقلقا وهي تتوقع أن تسمع منه ما يعلمه عن حبيبها، فلما استبطأته قالت: «وعدتني يا مولاي أن تخبرني عن حماد. هل خرج من سامرا؟»
قال: «نعم، خرج منها كما قال لك الحارث.»
قالت: «وأين هو؟» قال: «لا أدري. وقد لقيته منذ بضعة أيام في مكان خارج بغداد، وأخبرني أنه مسافر إلى حيث لا يعلم، وقد قص علي غضبه من الحارث والخليفة من أجلك. كوني على ثقة أنه شديد المحافظة على ودك.»
فلطمت خدها بكفها وقالت: «ويلاه وأين أذهب وأين أبيت وكيف أعرف مقره؟!»
فقال: «لا بأس عليك، إنك تمكثين في منزلي مع أمي حتى يأتي الله بالفرج، فإني على موعد مع حماد أن يكتب إلي عند الحاجة؛ لأنه صديقي.»
فقالت: «جزاك الله خيرا يا سيدي، ولكن ...»
قال: «لا تخافي يا أخية، إنما تكونين مع أمي في خير وأمان لا يمسك أحد بسوء، إن أمي وحيدة في البيت ولا ريب أنها تتخذك ابنة لها وتستأنس بك كثيرا.»
وانتبهت ياقوتة في تلك اللحظة إلى أنها على مقربة من الجوسق، فوقفت وقالت: «أراني بجانب قصر الخليفة؟»
قال: «إني أقيم بقصر داخل هذا الجوسق.»
فتراجعت وقالت: «أكون إذن في خطر إذا عرف الخليفة بأمري؟»
قال: «كوني مطمئنة. إنك في مأمن عندي.» وكانا قد وصلا إلى باب الجوسق، فلما رأى الحراس ضرغاما وسعوا له وتقدم أحدهم فأخذ الجواد إلى الإصطبل. وسار ضرغام مع ياقوتة حتى أتى منزله، فلما رآه الخدم أسرع بعضهم إلى أمه فبشروها وأناروا الشموع، فدخل والفتاة في إثره حتى توسط الدار، وأول شيء فعله أنه تفرس في الفتاة على نور الشموع، وحالما وقع بصره عليها خفق قلبه وبدت البغتة في وجهه لشدة المشابهة بينها وبين جهان، فقال في نفسه: «سبحان الخالق! ما هذه الصدفة؟» وأحس بارتياح إلى الفتاة، وأعجبه ما قرأه في محياها من الهيبة والجمال رغم ما كان يغشاها من الاضطراب. ويكفي لارتياحه إليها مشابهتها حبيبته بالوجه والصوت. وزاده استئناسا بها ما قاساه في سبيل إنقاذها. والمرء بفطرته يحب الذين يشقى في سبيل راحتهم، ولذلك كان الرجل أكثر انعطافا إلى أشد أولاده حاجة إليه. وكلما تعب الوالد في سبيل ابنه ازداد تعلقا به. ولو لم يكن قلب ضرغام مشتغلا بجهان لتعلق بياقوتة.
أما آفتاب فكانت قد تهيأت لاستقبال ابنها، فلما سمعت وقع خطواته أسرعت إليه وقبلته. ثم شعرت بحركة في الدار فقالت: «من رفيقك؟» قال: «بل هي رفيقة لك.»
فظنت أنه جاءها بجهان فتوجهت ببصرها نحو الحركة التي كانت تسمعها كأنها تستقبل الضيفة وصاحت: «هل هي جهان؟»
فوقع قولها وقعا شديدا على قلب ضرغام فتح جراحه فتنهد وقال: «كلا يا أماه ولكنها عزيزة علي؛ لأنها خطيبة بعض أصدقائي.»
ودنت الفتاة من آفتاب وهمت بتقبيل يدها فضمتها ورحبت بها وقالت: «ما اسمك يا حبيبتي؟»
قالت: «اسمي ياقوتة يا سيدتي.»
فلما سمعت صوتها دهشت وبان الاستغراب حول مبسمها وفي اختلاج عينيها البيضاوين وقالت: «سبحان الله، كأني أعرف هذا الصوت!»
فقال ضرغام: «أظنك تعنين صوت جهان فإنه كثير الشبه به وقد لحظت ذلك منذ سمعتها تتكلم للمرة الأولى.»
فسكتت آفتاب ولم تجبه، وأخذت الفتاة بيدها وأجلستها إلى جانبها وجعلت تضمها وترحب بها والتفتت إلى ضرغام وقالت: «كيف لقيت هذه الياقوتة، وأين كانت؟»
فقال: «اتفق لي وأنا عائد من المهمة التي أخبرتك عنها أني مررت بأسفل المدينة، فسمعت الفتاة تستغيث من رجلين كانا يحاولان أخذها إلى رجل يريد أن يتزوجها رغم إرادتها، فأنقذتها منهما وجئت بها.»
قالت: «ومن هو ذلك الرجل؟»
قال: «يقال له الحارث السمرقندي من أعوان أمير المؤمنين.»
قالت: «ولماذا لم تقبله فإنه ذو جاه ومال؟»
قال: «لأنها أحبت رجلا اسمه حماد العربي، ألا تعرفينه؟»
قالت: «أظنني سمعت صوته مرة وقد جاء معك. أين هو الآن؟»
قال: «غائب، وستبقى ياقوتة هنا حتى يعود. هل يسرك ذلك؟»
قالت: «يسرني كثيرا؛ لأنها تكون تسليتي إذا خرجت أنت في مهمة. ولقد شعرت من هذه اللحظة كأني أعرفها منذ أعوام، أهلا وسهلا بك يا حبيبتي.» •••
وأمرت مسعودة فأخذتها لتبدل ثيابها وتصلح من شأنها ثم جيء لهم بالطعام، فقال ضرغام لأمه: «ألم يأت وردان؟»
قالت: «جاء منذ بضعة أيام وسألني عنك فلم أقدر أن أخبره عن مكانك.»
قال: «هل أخبرك بشيء عن الأفشين؟»
قالت: «أخبرني أنه جاء وعسكر خارج سامرا على أن ينتقل بعد بضعة أيام إلينا، وأظن أن وردان قد عاد إليه أو لعله يريد الذهاب إليه غدا أو بعد غد.»
ولم يطيلوا السهرة التماسا للراحة. وأصبح ضرغام في اليوم التالي وقد عادت إليه هواجسه وأصبح شديد الاهتمام بلقاء وردان ليسأله عما سمعه من أصحاب الأفشين عن جهان.
وفي أصيل ذلك اليوم جاءه رسول الخليفة يطلب حضوره، فلبس سواده وقلنسوته وذهب إليه في دار العامة، فاستأذن ودخل فوجد القاضي أحمد فسلم ووقف فاستدناه إليه وأمره بالجلوس فجلس. فقال له الخليفة وهو يبش في وجهه: «متى عدت من السفر؟»
قال: «أتيت مساء البارحة يا مولاي، وكنت عازما على المثول بين يدي أمير المؤمنين قبل أن يأتيني رسوله.»
قال: «من لقيت في طريقك؟» ففطن إلى أنه يشير إلى ياقوتة، لعلمه أن الحارث لا بد من أن يشكوه فقال: «لقيت فتاة بين يدي رجلين يعذباها.»
قال: «وهل أنقذتها كعهدك؟ بارك الله فيك.»
فعلم أن الخليفة يشير إلى فضله عليه في إنقاذه من مخالب الأسد، فخجل وتجاهل وقال: «لم أتمالك يا أمير المؤمنين عن إنقاذها. ثم علمت أنها تنتمي إلى بعض رجال الدولة فحملت تبعة عملي طمعا في حلم أمير المؤمنين وهو ذنب أستغفر له.»
فضحك المعتصم وقال: «لقد اصطدت حلالا، أنت أولى الناس بإحرازه، كيف رأيت الفتاة؟ أهي جميلة؟»
قال: «لا بأس بها يا مولاي.» قال: «قد وجب عليك إقرارك.»
فلم يفهم ضرغام قصده فابتدره القاضي: «أتذكر أن أمير المؤمنين خطب لك جارية؟» قال: «نعم.»
قال: «هذه هي الفتاة بعينها.» فاستغرب ضرغام ذلك الاتفاق الغريب، وتحير في الجواب فقال القاضي: «إن أمير المؤمنين رأى هذه الفتاة للمرة الأولى منذ أسابيع وقد جاء بها الحارث يخطبها لنفسه، وكان رجل آخر يدعي أنها له، وكنت حاضرا فقال لي أمير المؤمنين: «إنها تصلح للصاحب.» وأمر الحارث أن يحتفظ بها حتى يطلبها. وفي هذا الصباح جاء الحارث يشكوك؛ لأنك خطفت ياقوتة منه فقال له: «إنها للصاحب، ولا سبيل لك إليها.» فخرج مفحما، ولذلك قال مولانا إنك اصطدت صيدا حلالا ووجب إقرارك عليك.»
فلم يسع ضرغام إلا الدعاء للمعتصم على التفاته إليه وقال: «إن أمير المؤمنين يتصرف بعبيده ومواليه كما يشاء.»
فقال المعتصم: «أحرزت أجمل نساء سامرا، بارك الله لك فيها.»
ثم صفق، فجاء الحاجب، فأشار إليه إشارة فهمها، وخرج ثم عاد غلام يحمل طبقا عليه عقد من الجوهر يتلألأ كالشمس، فأشار الخليفة إلى الغلام أن يقدمه إلى الصاحب، فقدمه، فبهر ضرغام من لمعان ذلك العقد ووقف احتراما، فابتدره المعتصم قائلا: «هذا عقد تلبسه ياقوتة وتتحلى به.»
فانحنى ضرغام احتراما وامتنانا وقال: «قد غمرني أمير المؤمنين بإنعامه.»
قال: «إنك أهل لأكثر من ذلك.»
فتناول ضرغام العقد ولفه بمنديل وكرر الدعاء. ثم استأذن وخرج فقصد إلى منزله والهواجس تتقاذفه، على أن أمر الزواج بياقوتة لم يزده قلقا؛ لأنه رأى استبقاءها في بيته حتى يجد خطيبها فيجمعه بها دون أن يعلم الخليفة هل تزوجها أم لا. فوصل إلى المنزل ولقي أمه فسألته وياقوتة جالسة عن سبب ذهابه إلى الخليفة فقال: «دعاني لأمر يتعلق بياقوتة.»
فأجفلت ياقوتة؛ لأنها كانت تخاف وشاية الحارث، لكنها اطمأنت لما رأته يبتسم ونظرت إليه مستعطفة، ثم سألته أمه عما جرى فقال: «شكانا السمرقندي إلى أمير المؤمنين، فأرجعه خائبا، وأوصاني بياقوتة خيرا.»
فانشرح صدر الفتاة وازدادت إعجابا بضرغام وسمو منزلته عند الخليفة ونفوذ كلمته في الدولة، وأعجبت بهيبته وجلال طلعته. والإعجاب إذا اقترن بالألفة وبالعادة تحول إلى غرام، ولكن ياقوتة كانت مشتغلة القلب بحماد ورأت ضرغاما فوق ما ترجوه لنفسها. ولما سمعت قوله عن الخليفة توردت وجنتاها حياء ولم يمنعها الحياء عن الكلام؛ لأنها كانت عاقلة رابطة الجأش فقالت: «أشكر لمولاي الصاحب فضله؛ فقد أنقذني من العار والموت، ورفع منزلتي؛ إذ جعلني تحت حمايته.»
فمد ضرغام يده إلى جيبه وأخرج العقد وقدمه إليها وقال: «هذه هدية أمير المؤمنين إليك.»
فأصبحت ياقوتة لا تدري كيف تعبر عن إحساسها، فتناولت العقد ودفعته إلى آفتاب فأخذته وتلمست حباته وقالت: «يظهر أنه عقد جدير بك.» وتقدمت نحوها وقلدتها إياه.
كل ذلك لم يشغل ضرغاما عن قلقه وكل ما حدث في مساء الأمس وصباح اليوم يذكره بحبيبته وخاصة العقد لما لبسته ياقوتة فقال في نفسه: «لماذا لا تكون جهان هنا وتلبسه!» فلما تخيل ذلك اضطرب وترك الغرفة وخرج ليسأل الخدم عن وردان، فلقيه داخلا وفي وجهه ذعر. ولما رأى ضرغاما حياه، فقال ضرغام: «قد طال غيابك، فما الذي أعاقك؟» ثم مضى إلى حجرة منعزلة جلسا فيها، فقال وردان: «قد عاقني تأخر الأفشين عن الحضور؛ لأنه لم يصل إلى سامرا إلا منذ بضعة أيام، ولم أتمكن من إتمام مهمتي إلا اليوم.»
فقال: «وما الذي عرفته عن جهان؟»
فتوقف وردان لحظة ثم قال: «عرفت من صديق لي في حاشية الأفشين لا تخفى عليه من أحواله خافية أن جهان خرجت من فرغانة قبل خروجهم منها.»
قال ضرغام: «عرفت ذلك أثناء غيابك من سامان أخيها.»
فتغير وجه وردان عند سماع اسم سامان، وقال: «سامان هنا؟ أين هو؟ أين هو؟ لأقبض روحه ... لعنه الله من منافق.»
فاستغرب ضرغام غضبه وقال: «ولماذا تريد قتله، ماذا فعل؟»
قال: «سأقص عليك فعله وإنما أرجو أن تخبرني عما قصه هو عليك.»
قال: «أخبرني أنه خرج من فرغانة مع أخته فرارا من الأفشين، فلقيهم اللصوص في همذان فأسروا جهان وقهرمانتها ونجا هو ليخبرنا.»
قال: «فأنت عالم بما فعل اللصوص. بقي علي أن أخبرك عما فعله هذا اللعين اليوم: سرت أمس لأتمم مهمتي في البحث كما أمرتني، فلم أستطع إلا صباح اليوم؛ إذ لقيت صديقي فقص علي الخبر. وبينما هو يكلمني لمحت سامان مارا على فرسه يطلب عرض البر ولم أتحققه، فسألت صاحبي في شأنه فأخبرني بأنه هو بعينه وأنه جاء البارحة في أواخر الليل واجتمع بالأفشين، وقص عليه خبر اختطاف جهان، ولكنه جعل الذنب في ذلك لك، وأساء القول فيك، ولم أعلم ذلك إلا بعد أن غاب عن بصري ولم يبق سبيل إليه، ولولا فراره لضربت عنقه، أو قتلته خنقا، قبحه الله من أجرود لئيم.»
وكان ضرغام قد لمس من قبل نفاق سامان وسوء نيته؛ فأصبح لا يصدق شيئا من أقواله، ولكنه لم يستطع تكذيبه في اختطاف جهان فقال: «قد عرفت نفاق هذا الشاب من قبل، ولكن هل تظنه كاذبا فيما رواه عن اختطاف جهان؟»
وجاءت الأخبار أثناء ذلك بقيام بابك واستفحال أمره فأصدر الخليفة أمره إلى الأفشين بالسفر مع جنده إلى أردبيل، ولم يتسن لضرغام الاجتماع به.
الفصل الخامس عشر
فراق فرغانة
كانت جهان حين عزمت على الفرار من فرغانة مع أخيها وقهرمانتها قد أعدت كل ما تحتاج إليه مما خف وزنه وغلا ثمنه، وعولت على أخيها في تدبير قافلة يسيرون في ظلها تجنبا لخطر البوادي التي لا بد من قطعها قبل الوصول إلى العراق، فجاءها سامان وذكر أنه هيأ كل شيء. فأخذوا في نقل الأحمال محتجين بالسفر إلى مصيف قريب. ولما دنا وقت الرحيل وعلمت أنها لن تعود إلى بلدها بعد ذاك عظم عليها فراق مسقط رأسها وهجر قصر أبيها وقد ألفت هواءه وماءه وظلاله وعاشت بين أهله ومنازله وأسواقه، فقضت أيامها الأخيرة منقبضة الصدر. وقد ذهبت بشاشتها وأخوها يسهل عليها الخروج وقهرمانتها ترى في خروجها شططا. وأما هي فلم تتردد في الأمر لحظة واحدة رغم ما أحست به من الوحشة.
وفي الليلة التي قضوها على أهبة الرحيل استدعت قيم الدار إليها وأوصته بالقصر وأهله خيرا، وأسرت إليه أن قد يطول غيابها، فليكن أمينا قسيطا، فأسف لسفرها وإن لم يعرف حقيقة غرضها، ولو علم لبكى بكاء مرا على فراقها؛ لأنه كان يجلها حتى العبادة. وكذلك كان إحساس كل من عرفها أو عاشرها؛ لما فطرت عليه من اللطف والذكاء والهيبة والجمال.
وفي الصباح التالي خرجت على جوادها الأدهم كأنها ذاهبة إلى متنزه أو مصيف. وركب معها أخوها وقهرمانتها ولم تتمالك عند خروجها من باب المدينة أن التفتت ودمعت عيناها حزنا على ما خلفته هناك من ثمار شبابها وجني أبيها، لكنها تماسكت واسترجعت رشدها وعزت نفسها بما ستلقاه من أسباب السعادة بقرب حبيبها.
وكانت القافلة التي سافروا فيها قادمة من بلاد الهند بأحمال العطريات والبهارات والأنسجة قاصدة إلى خراسان، فضموا أحمالهم إلى أحمالها، وقد اعتمدت جهان في ذلك على أخيها ولبست ثياب السفر، وأقلعت القافلة في مساء ذلك اليوم وهي مؤلفة من قطارين مسلسلين من الجمال والبغال على بعضها الأحمال وعلى البعض الآخر الرجال، غير المشاة من المكارين والسياس على أقدامهم ومعهم الكلاب وأدوات الطبخ والنوم، فإن القافلة كالبلد يمشي بأهله ودوابه وأثاثه. تمشي ساعات من النهار وساعات من الليل تختلف مقاديرها باختلاف فصول السنة، حسب أوجه القمر، يحدق بها حراس من الرجال تعودوا الأسفار والأخطار، أشداء الأبدان يعرفون الطرق، ولهم صداقة ورهبة عند قبائل التركمان بدو الترك المتفرقين في البادية بين نهر جيحون ونهر الشاش. والمسافة بين النهرين تقطع في أسابيع وقد تستغرق الشهرين. ناهيك بما فيها من اللصوص وقطاع الطرق؛ ولذلك لا يجسر على السفر هناك غير القوافل الكبيرة. وتحتدي القافلة أثناء السير نظام الجند للحرب، وفي ساعات الراحة تضرب الخيام وتوقد النيران وتذبح الأغنام أو الأبقار وتنصب القدور على النار ويشتغل القوم بالأكل والنوم.
ولم تكن جهان جربت هذا السفر ولا ذاقت مثله ولا سمعت به في حياتها، فكانت تحمل ثقله متجملة بالصبر، وتعزي نفسها بلقاء الحبيب. كل ذلك من معجزات الحب وإن أمره لعجيب.
ولو أردنا تفصيل ما لقوه في سفرهم الطويل من حر النهار وبرد الليل وخوف قطاع السابلة وأهل الغزو وما أصابهم من عطش أو جوع لفراغ مئونتهم من الماء أو الطعام قبل بلوغ المكان الذي يتزودون منه؛ لضاق بنا المقام. فنقول موجزين إنه لما بلغت القافلة «الري» أشار سامان على أخته بالتخلي عنها ليسيرا وحدهما؛ لأن القافلة تمشي متثاقلة وليس طريقها طريقهم إلى العراق إذ تتوجه شمالا. فأذعنت جهان لرأي أخيها وانفردوا بأحمالهم ودوابهم عن القافلة. وفي مساء ذلك اليوم بغتهم جماعة من الرجال على الخيول في مكان بعيد عن همذان، وكانت جهان على فرسها فدافعت عن نفسها دفاع الرجال. وأظهر سامان دفاعا حاميا. ولكنهم غلبوا على أمرهم فقبضوا على جهان وقهرمانتها وشدوا وثاقهما وفر سامان بحجة إيصال الخبر إلى ضرغام.
فلما رأت جهان نفسها في الأسر صاحت بكبير القوم وهم جميعا ملثمون وقالت له: «ما الذي حملكم على هذا العمل؟ إذا كنتم تطلبون المال فهذه أحمالنا خذوها وأطلقوا سراحنا ولن نطالبكم بشيء منها.»
فأجابها الفارس وهي أول مرة سمعت كلامه وقال: «لسنا لصوصا يا سيدتي. ولا حاجة بنا إلى المال وإنما أمرنا أن نحمل عروس فرغانة إلى أعظم رجل في الأرض لم ترض به طوعا فعساها أن ترضى به كرها.»
فلما سمعت كلامه أدركت أن فخا نصب لها، وكانت تؤثر أن يكون القوم لصوصا يبغون المال على أن تكون هي بغيتهم. ليس لأنها تخاف أن تغلب على أمرها فإنها كانت من رباطة الجأش وثبات الجنان على ما علمت. ولكن شق عليها فراق حبيبها. فأرادت أن تزداد بينا فقالت: «ولكن ما تأتونه يا صاح لا يشبه أعمال العظماء.»
قال: «وماذا يعمل الرجل إذا اضطر ولم ير مركبا يركبه إلا هذه الوسيلة؟ ماذا يفعل إذا تقدم خاطبا فرد خائبا، وهو كبير القدر تأبى نفسه الفشل؟»
قالت: «يترك الخطبة والخطيبة.»
قال: «وإذا كان مفتونا قد غلب على أمره؟»
قالت: «دعنا من ذلك فإني لا أراكم إلا لصوصا تطلبون المال فهذه الأموال لديكم وأنا الكفيلة بأضعافها إذا أطلقتم سراحنا.»
قال: «أما إذا أعطيتنا المال فنشكرك كثيرا، ولكننا لا نستطيع أن نطلق سراحك. ولا ينبغي يا سيدتي أن تحزني على شيء أضعته بهذا الانتقال فأنت ذاهبة إلى أعظم رجل في العالم فإذا أحسنت معاملته ملكت الرقاب.»
فأشكل عليها فهم حقيقة ما يعنيه فقالت: «لم أفهم مرادك، من هو ذلك الذي تعنيه؟»
قال: «ستعلمين كل شيء بعد بضعة أيام. فاطمئني وستكونين معنا معززة مكرمة، ثم متى وصلنا إلى المكان المقصود كنت في أرغد عيش وأسعد حال.»
قضت عدة أيام مع قهرمانتها وأولئك القوم في أتم ما يرام من الإعزاز والإكرام. وكانوا قد حلوا وثاقهما في صباح اليوم التالي وقاموا بخدمتهما أحسن قيام من الطعام والشراب والمبيت.
وقد أتيح لجهان الفرار لو أطاعتها نفسها عليه. ولكنها أكبرته وخافت مغبته. وكبير النفس لا يطاوعه وجدانه على الفرار حتى من الموت.
مرت في أثناء هذه الرحلة بمدن وقرى وجبال وأودية وسهول وحرون، ورأت أقواما من أمم شتى، فعلمت من القرائن أنها مرت بأذربيجان، وجاء العريف ذات يوم وأخبرها أنها صارت في أرمينيا وأنها لا تلبث أن تدخل أردبيل. فعلمت أنهم سائرون بها إلى بابك الخرمي. فتذكرت أنه كان قد طلبها من أبيها ولم تقبله، فتحققت أنها محمولة إليه، فأخذت تتأهب لدفعه وعلمت أنها مكيدة من أخيها فندمت على الركون إليه.
وقد أصاب ظنها بسامان؛ فإنه طبع على اللؤم وزاده فعل أبيه نقمة عليه وعلى أخته. وكان صاحب أطماع لم يستطع تحقيقها بعلو الهمة والبسالة مثل كبار الرجال فالتمسها بالحيلة والخداع. وليس أشأم على الأمة من أن يعجز رجال المطامع فيها عن نيلها بأعمال تتفق ومصلحتها؛ لأنهم حينئذ يضحون بمصلحتها في سبيل مطامعهم. فانتظم سامان في سلك الخرمية. وهي جمعية سرية قامت على مقاومة أصحاب السيادة، وزعيمها في ذلك العصر بابك الخرمي صاحب أردبيل. وكان الخرمية يسعون في تأييد سلطته سرا. وكان شديد البطش يبالغ في اقتناء النساء لا يسمع بامرأة جميلة إلا سعي في استجلابها، فإذا لم يستطع ذلك بالجاه طلبها بالمال، فإذا أعجزه إحضارها بالمال حملها بالقوة. فشاع خبره في الآفاق، وسمع بجهان فبعث يخطبها على يد سامان فلم يرض أبوها؛ فدس إلى سامان أنه إذا أتاه بها رفع قدره وأغناه وقلده منصبا عاليا. ولم يكن سامان قادرا على شيء في حياة أبيه، فلما توفي أبوه وقد حرمه من الإرث ازداد رغبة في الانتقام، ولقي الأصبهبذ نائب بابك في فرغانة أيام النيروز في بعض جلسات الخرمية التي كان يحضرها سرا فيغيب عن البيت أياما وأبوه لا يعلم وإنما كان يقضيها في الكيد والتواطؤ. فتواطأ معه على أن يحتال في حمل جهان إلى أردبيل وهو لا يبالي عواطف المحبين لدناءة طبعه وهو ناقص الرجولة. وعزم على ذلك خاصة بعد مقابلته للأفشين واطلاعه على وصية أبيه، فأصبح همه الانتقام من الأفشين؛ فوجد في تنفيذ المؤامرة مع الأصبهبذ سبيلا لنيل ما يتمناه من الثروة والنفوذ والانتقام من عدوه. فاتفق مع الأصبهبذ على أن يهيئ رجالا يكمنون في الطريق بين الري وهمذان ليأسروا جهان أثناء سفرها إلى العراق ليظهر للملأ أنهم أخذوها منه قهرا. وبعد أن أخذوها لم يكن غرضه من الذهاب إلى العراق إلا إلقاء الفتنة بين ضرغام والأفشين. وهو يعلم بسالة ضرغام وتفانيه في سبيل جهان فإن علم أن الأفشين أسرها أسرع إلى قتله. وكان سامان ضعيف العزم قليل الدهاء. فلم يحسن سبك حيلته، فلم ينطل أمر اختفائها على ضرغام. فرجع من العراق وهو يعتقد أنه أتم مهمته وفاز بمرامه.
أما جهان فلما علمت أنه على مقربة من أردبيل قصبة أرمينيا في ذلك الحين أخذت تتهيأ لدفع ما يهددها. وكانت تسمع ببابك وتعرف انغماسه وتهتكه وتعلم أنه مقيم بأردبيل. وما عتم الركب أن وصلوا إلى غيضة كثيرة الأدغال والأشجار إذا دهم أهل أردبيل أمر لجئوا إليها فتمنعهم وتعصمهم ممن يريد أذاهم فهي معقلهم ومنها يقطعون الخشب الذي يصنعون منه الصواني والقصاع، واستغرقت جهان في تفكيرها وهي تنظر إلى تلك الغيضة فيما تخاطب به بابك لتدفع أذاه، وذكرت ضرغاما وقالت في نفسها: «ماذا هو فاعل إذا بلغه ما أنا فيه؟»
وفيما هي في ذلك رأت الركب يتحول عن الطريق المؤدي إلى أردبيل ويدخلون الغيضة. وأتاها رجل منهم أومأ إليها أن تحول شكيمة جوادها الأدهم نحو الغيضة ففعلت وهي لا تعرف السبب. وساروا في طريق وعر يخترقون الأشجار المشتبكة وجهان تلتفت يمينا وشمالا لعلها تعرف سبب هذا السير، وإذا بعريف الركب جاءها وزاملها بجواده وخاطبها قائلا: «أراك تستغربين اتجاهنا إلى هذا الطريق أو لعلك تخافين؟»
قالت: «إني لا أخاف شيئا، ولكنني أستغرب دخولكم هذا الطريق الوعر بعد أن كنا على مقربة من أردبيل.»
فأكبر العريف جرأتها وكبر نفسها وقال: «أظنك لم تشاهدي الراية المنصوبة على مقربة من الطريق.»
قالت: «كلا، وأين هي؟»
فأومأ إليها أن تنظر، وصعد بها إلى أكمة هناك، فلما صعدا قال لها: «ألا ترين هذه الراية؟»
فلما وقع نظرها عليها خفق قلبها؛ لأنها راية الأفشين فقالت: «إنها راية المسلمين.»
قال: «نعم، وقد جاءنا أحد الكوهبانية (وهم أصحاب الأخبار عند قدامى الفرس يشبهون قلم المخابرات في هذه الأيام) وأخبرنا أن مولانا قد غادر أردبيل واحتلها المسلمون بعده.»
قالت: «أظنك تعني بابك. وإلى أين ذهب؟»
قال: «أخبرنا الكوهباني أنه أوغل في أرمينيا وتحصن في بلد منيع يقال له «البذ» عند نهر «ارس» ونحن ذاهبون إليه.»
وآنست من الرجل لطفا وإكراما كثيرا فطمعت في أن يطلق سراحها بعد أن شغل القوم بالحرب فقالت: «فأنتم إذن ذاهبون بنا إلى البذ؟»
قال: «نعم يا سيدتي وهي على بعد أيام من هنا.»
قالت: «وهل حتم أن أذهب معكم؟»
فأدرك الرجل أنها تشير إلى إمكان تسريحها فقال: «إن أمر مولانا قضاء لا سبيل إلى نقضه، هذا ولو أننا أخلينا سبيلك هنا لكنت في خطر شديد، إن لم يكن من اللصوص فمن الوحوش.»
وكانت خيزران على فرس وراء فرس جهان، فالتفتت جهان إليها فابتدرتها خيزران قائلة: «وما الذي تخافينه عند «بابك» ومثلك لا يخشى عليه؟!»
فتشجعت جهان بكلام خيزران وأدركت أنها لم تقل ذلك اعتباطا. ثم عادوا إلى المسير صعدا وجهان تلتفت إلى ما حولها تتأمل وحشة ذلك المكان وسعة تلك الغيضة، فوقع بصرها من بعد على مدينة أردبيل، ورأت ساحتها الكبرى غاصة بالجند وبالرايات الإسلامية، وهي تعلم أن الأفشين نفسه ليس هناك؛ لأنها تركته في فرغانة، وأن النازلين بأردبيل فرقة من جنده.
وكان الوقت ظهرا فحث الركب خيولهم للخروج من الغيضة قبل دخول الليل خوفا من المبيت فيها. ولما اجتازوها وواصلوا السير بعدها مروا بمدن كثيرة منها أرشق وخش وبرزند. ورأت جهان رايات المسلمين على أسوار هذه المدن التي ليست إلا محطات لاختزان مئونة الجند أثناء انتقاله لمحاربة بابك. فكانت كلما تقدمت أحست ببرد الطقس حتى أشرفوا على البذ. فرأتها أشبه بالمعقل أو القلعة منها بالمدينة؛ لأنها مؤلفة من قصور عدة كالقلاع يحيط بها كلها سور هائل عليه الأبراج والأبواب وفوقها أعلام الخرمية، والأرض في تلك الجهات جبلية وعرة يصعب مرور الجند فيها بأثقاله وأحماله. فعلمت أن بابك التجأ إلى ذلك المعقل لمناعته حتى يكاد يستحيل على المسلمين أخذه.
وسبق واحد من الركب إلى البذ يستأذن في الدخول ويسأل أين ينزلون جهان، ثم عاد وأشار بالدخول من باب غير الذي كانوا عازمين على الدخول منه. ولما صارت جهان داخل السور شعرت كأنها في قفص فاستوحشت، وأحست خيزران بوحشتها فساقت فرسها إلى جانبها وسألت كبير القوم: «أين أنت ذاهبون؟» فقال: «إن مولانا الآن في خارج البذ، وقد أمر أن نأخذ عروسه الجميلة إلى قصر النساء هنا فتمكث فيه مكرمة معززة حتى يأتي.»
فأجفلت جهان عند سماعها قوله: «عروسه»، ولكنها تجلدت وظلت ساكتة حتى أقبلوا على القصر. وله سور خاص ورحبة وحديقة. وكأنه حصن قائم بنفسه، فوقف لهم الحراس ووسعوا. فدخلت جهان وقهرمانتها على فرسيهما من الباب الكبير. حتى إذا دنت من الباب الصغير المؤدي إلى المساكن ترجلت وترجلت خيزران معها. وأسرع بعض الخدم لتناول الفرسين وقد أدهشهم ما رأوه في تلك القادمة من الجمال والهيبة؛ لأنها لا تتحجب.
وأسرع عريف الركب إلى الوقوف بين يدي جهان باحترام وقال: «أرجو أن تكون سيدتي قد أغضت عن جرأتي في حملها على غير ما تريد فإني مكره على هذا بأمر سيدنا ومولانا، ولكنني بذلت جهدي في راحتها، وأرجو أن تذكرني بالخير لدى الأمير، فلا شك في أنها ستكون الآمرة الناهية!»
قالت: «ما اسمك؟» فقال: «بهزاد يا سيدتي.»
قالت: «وإلى أين نذهب الآن؟» قال: «إلى قهرمانة القصر وهي تقوم بما تحتاجين إليه من أسباب الراحة.»
وكانت خيزران واقفة تسمع ما دار بينهما فقالت للرجل: «ألا تعرف من أهل هذا القصر امرأة صديقة؟»
فقال: «أعرف أكثرهن، وهن من أمم شتى، ولكنني أظن مولاتنا ستأنس بالسيدة هيلانة؛ فإنها من بيت الأمراء، وقد عرفت بيت زوجها بأرمينيا قبل أن أمر مولانا بابك بضمها إلى أهله. وكنت ممن حملوها إليه وتعارفنا في أثناء الطريق، فرأيتها عاقلة لطيفة وأظن مولاتنا تستأنس بها. والآن استأذن في الانصراف فقد أقبلت القهرمانة. وأنا اسمي بهزاد يا سيدتي ...!» وانصرف.
ظلت جهان واقفة هادئة رزينة وقوف الملكة بباب قصرها، حتى وصلت القهرمانة إليها، وهي عجوز طويلة القامة، تدل ملامحها على ما كانت عليه من الجمال في شبابها. وقد لبست ثوبا يتلألأ بالوشي والتطريز، وحول جيدها العقود وفي يدها الأساور وفي أذنيها الأقراط .
فلما وقع نظرها على جهان أكبرت ما هي عليه من المهابة والجمال رغم آثار السفر الطويل، ورأت في عينيها معاني لم تعهد مثلها في واحدة من عشرات النساء اللاتي عندها. واستغربت رباطة جأشها مع أنها جاءت مكرهة، وكانت تعلم علو منزلتها وكيف طلبها بابك من أبيها فلم ترض به، فتوقعت أن تراها منكسرة القلب باكية حزينة. فلما رأتها رابطة الجأش هادئة ظنتها راضية بما قسم لها. ولما دنت منها رحبت بها وقالت: «مرحبا بعروس فرغانة. يشق علي أن تحملي إلينا قسرا وأرجو أن تكوني قد غيرت رأيك.»
فلم تجبها جهان، ولكنها ابتسمت ومشت معها في دهليز القصر مطرقة. ولو تلفتت لرأت نساء القصر يتشابقن ويتزاحمن للنظر إلى ضرتهن. فلما شاهدن جمالها وهيئتها حسدنها؛ لأنها سيكون لها المقام الأول عند بابك. أما هي فما زالت سائرة لا تبالي حتى أدخلتها القهرمانة إلى حجرة مفروشة بالطنافس فرشا حسنا وقالت لها: «هذه غرفتك يا حبيبتي فاستريحي فيها.»
قالت: «وأين ثيابي؟ فقد أخذوها في جملة الأحمال.»
قالت: «ستكون عندك بعد قليل.» وخرجت وأرسلت إليها صناديقها.
ولما خلت جهان إلى خيزران في تلك الغرفة، أيقنت أنها وقعت في الفخ فانقبضت نفسها ولم تتمالك عن البكاء برغم تجلدها، فوقفت خيزران بجانبها تواسيها متجلدة، ولكنها لما رأت دموعها تنحدر على خديها انفطر قلبها وترامت على قدميها وأخذت تقبل طرف ثوبها وتقول: «آه يا سيدتي ما الذي أصابنا؟! كيف جئنا وكيف أخذنا؟ وأين نحن؟ أين ضرغام الآن؟» واسترسلت في النحيب، وجهان تبكي ولا تتكلم. ثم شعرت خيزران بأنها أخطأت بإظهار ذلك الضعف بين يدي سيدتها، فتماسكت وقالت: «ولكنني واثقة بتعقلك وقوة جنانك، وأنا رهينة إشارتك.»
قالت: «سمعت بهزاد يثني على امرأة من نساء القصر اسمها هيلانة، فلعلها تؤنسنا إذا عرفناها. هل لك أن تبحثي عنها وتأتيني بها؟ وقبل ذهابك هيئي لي ثيابي.»
فأعدت لها ما تحتاج إليه ومضت، وكانت الشمس قد آذنت بالزوال، وأخذ الخدم في إنارة القصر بالشموع، فبدلت جهان ثيابها واستلقت والتفتت إلى ما حولها، فلما رأت نفسها في تلك الحيرة وبينها وبين فرغانة سير بضعة أشهر، وكذلك بينها وبين سامرا، فكرت في ضرغام وساءلت نفسها: ترى هل علم بما أصابها؟ أو هل من سبيل إلى إنبائه بمكانها وما هي فيه فلعله يستطيع إنقاذها. ثم تذكرت أخاها سامان وساءلت نفسها ما دهاه؟ وهل قتل في المعركة أم فر إلى مكان آخر؟
وفيما هي في ذلك قرع الباب ودخلت خيزران تقول: «قد جئتك بالسيدة هيلانة يا مولاتي.»
فهمت جهان بالوقوف لملاقاتها، فأسرعت هيلانة وأجلستها وجلست إلى جانبها وهي تهش لها وترحب بها كأنها تعرفها من قبل. واستأنست جهان بها وأحست كأنها في قصر أبيها بفرغانة بين أهلها؛ لأنها آنست في وجه تلك المرأة لطفا ومودة وإخلاصا، فضلا عن الجمال. وكانت هيلانة شقراء الشعر زرقاء العينين بيضاء البشرة لا يبارح الابتسام فمها، فابتسمت جهان لها وشكرت تلطفها، فقالت هيلانة وهي تبتسم تشجيعا وإيناسا: «مرحبا بعروس فرغانة، لقد طالما سمعت بجمالك وتعقلك، وقد مضى وقت ونحن في انتظارك.»
فقالت: «ما زلت أحسبني ذاهبة إلى الجحيم حتى رأيتك فخفت المصيبة عني.»
فأحست هيلانة عند سماع صوتها بلذة، وشعرت بجاذب نحوها وكأنها تذكرت بلواها هي، فانقبضت نفسها، وقالت: «هكذا أراد المولى يا حبيبتي، ولو أنك قست بليتك ببلية سواك لهان عليك أمرك. لو عرفت ما فعلوا بي لرأيت أنهم رحموك.»
فسألتها جهان أن تقص حديثها عليها عسى أن يخفف ما بها، فتنهدت هيلانة وقالت: «لا بد أنك عرفت من وجهي وضعف لغتي الفارسية أني غير فارسية، وما أنا تركية ولا أرمنية وإن كنت أخذت من أرمينيا، ولكنني يونانية نشأت في بيت أبي في عمورية، وخطبني بطريق من بطارقة أرمينيا وتزوجني وحملني إلى بلده. ولم أكد أقيم معه عامين حتى بلغ هذا الخرمي خبري (وخفضت صوتها) فبعث يطلبني من زوجي، فلما أباني عليه بعث قوة من رجاله اغتنموا غياب زوجي وحملوني إليه بالقوة فحبسني هنا منذ بضعة أعوام فلا أنا أعرف أين زوجي، ولا ما فعله بعدي. وهو يعرف مقري طبعا ولكنه لا يجد سبيلا إلي. هذا إذا كان لا يزال حيا.» قالت ذلك وشرقت بريقها ثم مسحت دموعها وابتسمت وقالت: «ما قصدت أن أكدرك بهذا الحديث، ولكنني أردت أن أخفف مصابك.»
أما جهان فأعظمت مصيبة هيلانة وهمت بأن تقص عليها حديثها فأرجعها الحياء. فتنهدت وأحبت تغيير الحديث فقالت: «أين هو بابك هذا، وكيف تعيشون هنا؟»
قالت: «إن الرجل يقيم بقصر غير هذا قريب من أسوار هذا البلد، وذلك ليراقب تحصيناته، وهو ينقل من يشاء من نساء هذا القصر إليه لتقيم عنده يوما أو بضعة أيام على ما يتراءى له.»
قالت: «بلغني أنه اليوم في شاغل عن هذا القصر وأهله بأمر ذي بال.»
قالت: «نعم، إنه يتأهب لحرب شديدة.»
قالت: «مع من؟» قالت: «جاء جواسيسه بالأمس، وكان قد أرسلهم ليتجسسوا أحوال المسلمين في العراق، فأخبروه أن المسلمين يتأهبون لإرسال حملة عظيمة عليه، يقودها الأفشين صاحب أشروسنة بنفسه.»
فلما سمعت اسم الأفشين ارتجفت وتذكرت أنه علة بلواها، ولو انتبهت هيلانة لرأت أثر ذلك التغير في عينيها، ولكنها لم تكن تعرف عن جهان إلا أنها بنت مرزبان في فرغانة طلبها بابك ولم ترض به فاختطفها قسرا. فقالت جهان: «وهل جاء الأفشين نفسه؟»
قالت: «لا أدري، ولكنه آت ولا شك في ذلك، وقد خرج بابك من البذ في جماعة من رجاله ليقيم العراقيل وينصب الأرصاد في الطريق. وقد لا يعود إلينا قبل بضعة أيام.»
ففرحت للخبر ونبهها ذكر الجواسيس الذين عادوا من العراق فسألت: «هل تعرفين أحدا من الجواسيس الذين عادوا من العراق؟»
قالت: «خادمتي تعرف واحدا منهم.»
وكانت خيزران قد ذهبت وعادت بالعشاء إلى سيدتها ووقفت تسمع الحديث، فلما سمعت هيلانة تقول إن خادمتها تعرف أحد الجواسيس ابتدرتها قائلة: «أي خادمة يا سيدتي؟»
قالت: «التي دلتك علي.»
قالت: «عرفتها، حقا إنها لطيفة كأنها اقتبست من سيدتها.»
فقالت هيلانة وهي تضحك: «لذا وقع الجاسوس في هواها ولا يزال يحمل إليها الهدايا ويأتمر بأمرها ويريد أن يتزوجها.»
فسري عن جهان عند سماعها ذلك، ونظرت إلى خيزران فرأتها تنظر إليها فتفاهمتا فقالت خيزران: «أريد أن أقترح عليها أمرا تكلف خطيبها به في طريقه إلى العراق. هل تساعدينني في ذلك؟»
قالت: «حبا وكرامة، أعدي ما تريدين إعداده.»
فتهلل وجه خيزران فرحا لعلمها أنها تستطيع إرسال خبر سيدتها إلى ضرغام. ثم وضعت المائدة فتناولن العشاء معا، وتذكرت هيلانة أن جهان في حاجة إلى الراحة من تعب السفر، فاستأذنت في الذهاب على أن تعود في الصباح فتأخذها إلى غرفتها.
الفصل السادس عشر
بين بابك وجهان
باتت جهان ليلتها تتقاذفها الهموم من كل جانب، فأرادت أن تكتب إلى ضرغام كتابا ولكنها خافت أن يقع الكتاب عمدا أو سهوا في يد غريبة فتكون العاقبة وخيمة. فصممت أخيرا أن تبعث الرسالة شفاها. فلما نهضت في الصباح أخبرت خيزران بما استقر عليه رأيها، فاستحسنته وقالت: «يكفي أن نخبر سيدي ضرغام بأن جهان في البذ عند بابك.» قالت: «هذا الذي أراه.»
فقالت: «ألا تزورين هيلانة؟ ومتى كنا عندها أقابل الخادمة وأفهمها ما تصنعه.»
قالت: «حسنا.» وأخذت في إصلاح شأنها وهمت بالخروج، وإذا بأحد الخصيان قد دخل وقال: «أين السيدة جهان؟»
فلما سمعت جهان اسمها أجفلت وظنت بابك أتى أو أنه بعث يطلبها. فسكتت وتصدت خيزران للرسول وسألته عما يريد فقال: «إن أخاها يريد مقابلتها!»
وما سمعت جهان ذكر أخيها حتى تنازعها عاملا الفرح والغضب؛ فرحت لعلها تسمع منه خبرا عن ضرغام، وغضبت لأنه خدعها، فقالت للرسول: «أين هو؟ فليدخل.»
فدخل سامان وعيناه تذرفان الدموع وقد احمرتا من البكاء، ولما أقبل عليها ترامى بين يديها وهو يبكي، فشغلها بذلك عن تعنيفه. ولم تفهم سبب بكائه فابتدرته قائلة: «ما بالك؟ ما الذي يبكيك؟»
قال وصوته مختنق من البكاء: «لا أدري ...»
قالت: «كيف لا تدري ... قل ... قل!»
فلم يجبها وسكت وجعل يمسح دموعه بكمه وهو مطرق، فقالت: «من أين أتيت؟» قال: «من سامرا.»
فقالت: «وكيف ضرغام؟ هل لقيته؟» فلما ذكرت ضرغاما عاد إلى البكاء فاختلج قلبها في صدرها ووقفت فجأة وصاحت فيه: «قل ما بالك؟ كيف ضرغام ... أين هو ؟»
فتراجع وأمسك بيدها كأنه يستمهلها حتى يسكن روعه ثم قال: «لا أعلم أين هو.»
قالت: «ألم تقل إنك كنت في سامرا؟»
قال: «نعم كنت فيها. ولكنه ليس هناك.»
فقالت: «ضرغام ليس في سامرا؟»
قال: «نعم يا أختي ليس هناك، وقد سألت الناس كافة فلم أجد بينهم من يعلم أين هو.»
فأخذتها الدهشة، وبقيت تنظر إليه متسائلة، فعاد إلى الكلام فقال: «ماذا أقول؟ إن ضرغاما ليس في سامرا، ولم يره أحد رجع إليها بعد ذهابه إلى فرغانة.»
فلما سمعت قوله غلى الدم في عروقها، وكاد الغضب يغلب على رشدها، لكنها تجلدت وأمسكت نفسها، فتقدمت خيزران وأخذته بيده نحوها وقالت: «صرح. ما الذي سمعته؟»
فقال وهو يخفض صوته محاذرا أن تسمعه أخته وهي واقفة تسمع: «لما سطا علينا اللصوص وقبضوا على حبيبتي جهان وعليك رأيت حتما علي أن أبلغ الأمر إلى البطل ضرغام، فأسرعت إلى سامرا وقصدت إلى بيته فيها فوجدته خاليا خاويا، فسألت عنه كثيرين فلم أقف له على خبر. وأخبرني أحدهم ...» قال ذلك وبلع ريقه وسكت مطرقا. فلما توقف عند هذا أصغت إليه جهان وتطاولت بعنقها وأشارت إليه خيزران أن يصرح بما سمعه فقال: «أخبرني أن عدونا الأكبر سبب مصائبنا جميعا قد بعث إليه جماعة من رجاله كمنوا له في منحنى الطريق وغدروا به.» قال ذلك وبكى.
فلما سمعت جهان قوله ورأته يبكي أمسكت نفسها حتى كف عن البكاء، ثم تفرست في وجهه تفرس ناقد وهو مطرق لا يستطيع النظر إليها كأن أشعة نارية تنبعث من عينيها فتبهر بصره - والمنافق لا يستطيع تثبيت بصره في عيني أحد ولا سيما إذا كان في غضون نفاقه - فلما لاحظت ذلك تنبه ذهنها إلى احتمال كذب سامان. وبدلا من أن يقيمها الخبر ويقعدها حتى يخرجها عن الصواب، كما توقع، أخذت تراجع أعمال أخيها السابقة، فرجحت أنه يكذب عليها لحاجة في نفسه فقالت: «هل تقول الحق يا سامان؟»
قال: «وهل أختلق الأخبار من عندي؟ لقد قصصت عليك ما رأيته وسمعته، وأتمنى من صميم فؤادي أن يكون كذبا.»
فأطرقت هنيهة ثم قالت: «من الذي أنبأك أني هنا، ومن أدخلك القصر؟»
فلما سمع سؤالها ارتج عليه وأخذ على غرة؛ لأن معرفته مكانها تدل على علاقة بينه وبين اللصوص، فتوقف حينا. ولكنها لم تمهله حتى يهيئ الجواب فقالت: «لا أطلب منك جوابا، ويكفي ما فهمته، فاذهب الآن إلى أصحابك الخرمية لعلهم يكافئونك على صنيعك. اذهب.» قالت ذلك وخرجت من الغرفة وكانت قد تهيأت للذهاب إلى هيلانة. فخرج سامان وهو يهز رأسه ويتظاهر بتعجبه من تصرف أخته وإنكارها ما يقول.
فلما خلت خيزران إلى جهان قالت: «أرى يا سيدتي ألا نستخف بما ذكره سامان وأن نرسل من يأتينا بحقيقة حال ضرغام.»
قالت: «لا ريب عندي في كذب سامان. ولكنني أرى أن تكلفي الجاسوس أن يذهب إلى سامرا ويسأل عن ضرغام رئيس حرس الخليفة.»
وذهبتا معا إلى زيارة هيلانة فرحبت بهما. وجلست السيدتان للحديث وأنست خيزران مهمتها مع الجاسوس. •••
كانت قهرمانة بابك سيدة قصره الآمرة الناهية فيه. وكان جميع من يضمهم من النساء والخصيان يخشون بأسها ويخفون لخدمها؛ لأنها الوسيلة بينهم وبين بابك. إلا جهان فإنها بقيت على سليقتها متلطفة متحفظة. ومع هذا كانت القهرمانة تجل قدرها وتبالغ في إكرامها. وبعد أيام جاءت إلى جهان ووجهها يتهلل بشرا فحيتها وقالت: «أبشري، إن العريس قد جاء!»
فأجفلت جهان ولم تجب، فحملت القهرمانة ذلك منها على محمل الحياء، فقالت: «جئتك من قبل مولانا بابك. فإنه رجع من سفره، ولما علم بمجيئك سر سرورا عظيما وأمرني أن أدعوك إليه.»
فأجابتها جهان بهدوء وسكينة: «إلى أين؟» قالت: «إلى قصره.»
قالت: «أليس هذا الذي نحن فيه قصره كذلك؟»
قالت: «بلى، ولكنه ألف أن تنتقل نساؤه للإقامة معه هناك.»
فهزت جهان رأسها إنكارا وإباءا وقالت: «لا»، ولم تزد.
فعجبت القهرمانة لجوابها وهي في الأسر بين مخالب الأسد، وقالت لها: «إن بين هذا القصر وقصر بابك دهليزا مسقوفا تسير فيه المرأة مكشوفة كأنها في غرفتها ولا يراها أحد، فهيا ولا تخشي شيئا.»
فظلت جهان جالسة لا تبدي حراكا، فغضبت القهرمانة لهذا الاستخفاف وقالت بصوت عال: «أنصح لك يا بنية بأن تنهضي ولا تستخفي بهذا الرجل فإنه فتاك لا يبالي أحدا إذا غضب.» ثم خفضت صوتها ودنت منها ووضعت يدها على كتفها تتحبب إليها وقالت: «إنني شديدة الحرص عليك؛ لأني أحببتك منذ رأيتك، قومي يا حبيبتي، قومي.» فرفعت جهان بصرها إليها وقالت: «أشكر لك شعورك، ولكنني لسن بخارجة من هذه الغرفة.»
فنفرت القهرمانة من الجواب وتحولت نحو الباب وخرجت، وكانت خيزران واقفة تسمع ما دار بينهما، وساءها ما أبدته سيدتها من الأنفة والشدة وهمت بلومها بعد خروج القهرمانة. فسبقتها جهان قائلة: «لا تقولي شيئا يا أماه. فإني لا أبالي ما يكون من هذا الجلف العاتي. إنه يريد أن أذهب إليه مختارة. ولكني لن أذهب وما قدر يكون. على أني رغم وحدتي وأسري هنا أشعر بأني لي قوة وسلطانا، كما لو كنت في قصر أبي بين أهلي وأعواني. ذريه يفعل ما يشاء فإن عروس فرغانة وخطيبة ضرغام لا تذل لإنسان!»
ونهضت فالتفت فوق ثوبها بمطرف من الخز، وتخمرت بشال مزركش التماسا للدفء؛ لأنها في إقليم بارد. ومشت في أرض الغرفة مطرقة تفكر فيما عسى أن يفعل بابك إذا بلغه إباؤها، وعزمت على الدفاع والثبات لآخر لحظة في حياتها.
وفيما هي في ذلك وخيزران واقفة لا تبدي حراكا، سمعت سعالا قويا لم تسمعه في القصر من قبل، فعلمت أنه سعال بابك. وآنست في القصر حركة وجلبة؛ لأن أهله لم يألفوا دخول بابك عليهم، ثم سمعت صوت القهرمانة تخاطب بابك ونظرت من نافذة صغيرة تطل على الرواق فرأت بابك قادما، والخدم على كل من الجانبين يخرون سجدا، والنساء يحنين رءوسهن احتراما، والجميع يحيونه كما يحيون معبودهم، وأكثرهم من المجوس، وهو يمشي مشية المختال الفخور.
فلما وقع نظرها عليه ارتجفت غضبا، وكانت قد ألفت منظر سجود الناس في قصر أبيها فلم تستغربه، ولكنها أبت أن تكون هي أيضا في جملة الساجدين، بل غالت في الترفع شأن الإنسان إذا كان في رفعة وانحطت منزلته بعض الشيء فإنه يصبح أكثر محافظة على مقامه.
وكان بابك ضخم الجثة، عظيم الهامة كبير الوجه، جاحظ العينين ضخم الشفتين، كبير الكتفين بارز الصدر، إذا مشى ترنح في مشيته ترنح الخيلاء والكبرياء. وقد اعتاد الصدارة في موقفه أو مجلسه حتى لو أراد الانثناء لتناول شيء وقع منه لم تطاوعه أعضاؤه. ولا غرابة في أن يكون هذا شأن من لا يفتح عينيه إلا على المسبحين باسمه، المتفانين في طاعته، مثل بابك رئيس الخرمية وقائدهم في حروبهم. فضلا عن أنه كان شجاعا شديد البطش قوي العضل أبي النفس. ولولا انغماسه في الملذات والشهوات لكن من أعاظم الرجال. ولكنه أدمن الخمر وأسرف في احتسائها ولا سيما في أيام السلم. وكان في هذا اليوم قد أعد مائدة الشراب في قصره، وبعث في طلب جهان، وجلس في انتظارها يشرب. فلما جاءته القهرمانة بخبر رفضها كانت الخمر قد لعبت برأسه فأكبر إباءها وجاء غاضبا ليعاقبها.
فلما دنا من غرفتها تقدمت القهرمانة وفتحت الباب وقالت: «هي هنا يا مولاي.» ورجعت وأشارت إلى خيزران أن تخرج معها فخرجت وتباعدت.
وكانت جهان واقفة، فلما رأته داخلا قعدت، فاستنكر استخفافها به، ولكنه لم يكد يرى جمالها الرائع ومهابتها وما ينجلي في عينيها من الذكاء والسحر حتى دهش. وعلى كثرة من رأى من جميلات النساء، الفارسيات منهن والكرجيات والشركسيات والروميات، وبعضهن أجمل من جهان تكوينا وأصفى لونا، شعر بأن عينيه لم تقع على فتاة في مثل جاذبيتها؛ فخف غضبه، وإن أخذته العزة بالإثم، لتعوده خضوع الناس له على طول الخط فقال: «وتقعدين أيضا في حضرتي؟!»
أما جهان فانتفضت كالعصفور بلله القطر؛ لفرط تأثرها رغم رباطة جأشها، ثم تشاغلت بإصلاح شعرها ورفعت بصرها إليه وحدقت وهو ينظر في عينيها، فأحس بسهم اخترق صدره وكأن الغضب تسرب من صدره حتى خرج من أطراف أنامله وسري عنه. وقالت: «هل ينفعك وقوفي إن لم تملك فؤادي؟»
فتوسم من جوابها فرجا، فقعد على وسادة بجانبها وقال: «أرجو أن يكون لي نصيب من ذلك الفؤاد ، فلا أظن أحدا أجدر به مني، وأنت تعلمين من هو بابك صاحب الحول والطول زعيم الخرمية قاهر جنود المسلمين. وإنه ليحزنني أن حملتك إلي قهرا، ولكني لم أقدم على ذلك إلا بعد أن فشلت في نيلك بالحسنى. فكيف ترينني؟»
فلما رأت تلطفه وتقربه قالت: «أراك بطلا باسلا قاهرا، وما أنت إلا أسير.»
فأجفل وقال: «أسير؟! ماذا تقولين؟»
قالت: «نعم إنك أسير شهواتك. فمن كان ملكا عظيما قاهرا لا يليق به أن يكون عبدا لشهواته ... إني أشتم رائحة الخمر منبعثة منك.»
قال: «يلوح لي أنك من أولئك اليهود الذين يسمون أنفسهم مسلمين فيحرمون الخمر. وهل في ملذات العالم أشهى منها، بل هي أم الملذات؛ لأنها تشحذ القوى وتستحث مطالب الجسد فتضرم الرغبة فيما تشتهيه النفوس من الطيبات.»
فقالت: «كيف تكون صاحب السلطان وقاهر المسلمين، ثم ترى هذه الشهوات زينة الحياة؟ إن هدف البطل هو أن يكون سيدا جليلا نافذ الكلمة يهابه البعيد ويحبه القريب.»
فقطع كلامها قائلا: «ألست كذلك؟»
قالت: «كلا. فقد يخافك البعيد ولكن القريب لا يحبك. والذين حولك يسبحون باسمك ويعظمونك تملقا، فإذا غبت قالوا فيك كل قبيح؛ لأنك لم تفعل ما يحببك إليهم.»
فمل بابك في أمر هو مغلوب فيه. ورأى من الجهة الأخرى أنه بالغ في التزلف لتلك الفتاة، وأكبر أن تكون منه بمنزلة الواعظ أو المرشد فقال: «ما لنا ولهذا الجدال الآن؟ هيا بنا يا جهان.» ووقف وهو يمد يده ليمسك بيدها ويعينها على النهوض. فجذبت يدها منه وظلت قاعدة.
فمد يده ثانية ليمسكها فوقفت ويدها وراء ظهرها وقالت: «قف عن حدك يا بابك، إنك بهذا العمل تؤيد قولا أنت تنكره على الناس. لا تدن مني.»
فقال: «ومن يدنو منك إذن غيري؟ أنت عروسي وقد بعثت فأتيت بك من أقصى بلاد الترك لأجعلك سعيدة، فلا تجعليني شقيا!»
قالت: «من كانت مطالبه جسدية وكان ذا سلطان فقد لا يشقى؛ لأن يده تنال ما يريده إن لم يكن بالمال فبالسيف، فكيف تشقى لأني لم أرضخ لك وفي قصورك مئات من النساء الجميلات، فافرض أني لست هنا واتركني وشأني.»
قال: «لو لم أكن أتوقع السعادة بقربك. أو لو كان لي غنى عنك ما تكبدت المشقة في استقدامك، ولم أكن لأنال ذلك لولا حبيبنا سامان.»
فتحققت عند ذلك أن أخاها هو الذي أسلمها. فتحولت نقمها إليه وأصبحت لا تدري ممن تنتقم ولا كيف تنتقم، فتجاهلت ما فهمته عن سامان وقالت: «تكبدت كل ذلك من أجلي لتجعلني مثل نساء قصرك؟»
قال: «بل أبالغ في إكرامك وأهدي إليك الجواهر وألبسك أحسن الملابس وأختصك بالتقرب والمحبة، وأجعلك سيدة هذه المدينة، ولا أمنعك شيئا تطلبينه.»
قالت: «تلبسني الجواهر؟! ما الجواهر عندي إلا حجارة لامعة لا ترفع نفسا ولا تعلي مقاما، وهذا صندوقي مملوء من الجواهر، وقد تركت قصري وعقاري في فرغانة. ولو بقيت هناك لكنت ملكة من الملكات، ولكني رأيت هذه الأموال من أسباب شقائي؛ فتركتها!»
فقطع كلامها قائلا: «بلغني أن أباك المرزبان أقام عليك الأفشين صاحب أشروسنة وصيا. ما لنا ولكل ذلك، تعالي نتناول الطعام معا.» ودنا منها، فتراجعت مغضبة، فنظر إليها شزرا وقال: «إذا كنت لا تأتين طوعا أخذتك كرها، وأنت تعلمين أني إذا قلت فعلت؛ فقد كنت في فرغانة وأتيت بك إلى أرمينيا. فهل يشق علي أن أنقلك من قصر إلى قصر وبينهما مائة خطوة؟!»
قالت: «أظنك تحسبني وأنا على مرأى منك أقرب إليك مني يوم كنت في فرغانة. اعلم أنني لا أزال بعيدة عنك كأني في فرغانة أو أبعد منها!»
قال: «تقولين ذلك وأنت بين يدي! ولو شئت لقبضت عليك بيد من حديد أو أمرت رجالي فحملوك إلي موثقة؟ ولكنني لا أزال أرجو رجوعك إلى رشدك.»
فنظرت إليه نظرة حادة ملؤها التوبيخ والترفع وقالت: «قد تقبض على عنقي، وربما استعنت برجالك فأوثقتني أو قتلتني. ولكنك تنال كل ذلك قبل أن تستطيع لمسة أو نظرة مما كنت ترجوه مني. اقتلني إذا شئت، وإذا جبنت عن قتلي فأنا لا أجبن عن قتل نفسي فلا تحتقرني أو تهددني، واعلم أنك تخاطب فتاة أكبر منك نفسا وأربط جأشا وأقوى جنانا، وإذا كنت تحسبها كسائر من في قصرك من اللقيطات أو المسبيات أو الرقيقات فقد أخطأت. إنك تكلم ابنة مرزبان فرغانة. وقد قادتها المقادير إليك فاكسب صداقتها ودع غير ذلك. أو فامض في سبيلك وأرحني وأرح نفسك.»
وكانت تتكلم كمن له سلطان، وبابك يشعر بأنه يكاد يغلب على أمره بين يديها وكلما أرسلت إليه نظرة حلت من عزائمه عقدة فقال: «والآن ... ماذا تريدين؟»
قالت: «أريد أن تتركني وشأني.»
قال: «أتركك أياما تفكرين في أمرك لعلك ترجعين إلى صوابك وتعلمين أنك إذا أطعتني نلت السعادة.» قال ذلك وتحول حتى خرج من الغرفة وقد امتقع لونه. وكانت القهرمانة وخيزران واقفتين تسمعان شيئا من الحديث وكلتاهما معجبة ببسالة جهان وأنفتها. وبعد أن كانت القهرمانة ضدها أصبحت معها ولم تتظاهر بذلك لكنها صارت تلاطفها وتراعيها من ذلك الحين.
أما جهان فلم تقل ما قالته لبابك تهديدا، ولكنها كانت قد أخذت عدتها للدفاع أو الانتحار عند اليأس. وقد فتحت باب الاستمهال قصدا ريثما يعود الجاسوس وتعلم ماذا جرى لضرغام ثم تنظر فيما يكون.
ولم ينقض ذلك اليوم حتى شاع حديث جهان في القصر ولم تبق واحدة من النساء إلا أعجبت بها. وأصبحن ينظرن إليها نظر الصغير إلى الكبير أو نظر الجاهل إلى العاقل، ولا سيما صديقتها هيلانة فإنها حينما علمت بخروج بابك من القصر هرولت إلى جهان وأخذت تسألها عما جرى وجهان تتواضع في التفسير وتتلمس الأعذار لبابك على جرأته. فلم يكن ذلك إلا ليزيد هيلانة احتراما لها وتقديرا.
وهكذا أصبحت جهان حديث أهل البذ ومضرب أمثالهم. وهي لا تعبأ بشيء من ذلك، وكل همها ضرغام وإبلاغ خبرها إليه، ولم تعد ترى سامان.
مكثت حينا في انتظار رجوع الجاسوس وكانت قد بادلت هيلانة ودا بود. فقصت عليها متاعبها، فشاركتها هذه آلامها وأصبحت شديدة الاهتمام بأمرها. ولم تكن أقل شوقا لرجوع الجاسوس من جهان نفسها. وعاد الجاسوس واتفق يوم رجوعه أن كانت جهان عند هيلانة في غرفتها وخادمتها قائمة على الخدمة وخيزران غائبة. فلاحظت جهان في وجه الخادمة تغيرا فقالت لهيلانة: «اسأليها ماذا قال لها خطيبها؟»
فدهشت هيلانة لتلك المفاجأة وقالت: «وهل تظنينه جاء؟»
قالت: «نعم جاء، ويظهر أنه لم يأتنا بخبر مفرح.»
فاستغربت تكهنها وأشارت إلى خادمتها فأتت فقالت لها: «هل عاد صاحبنا من سامرا؟ ومتى؟»
قالت: «نعم يا سيدتي، أتى منذ ساعتين.»
فقالت: «ولماذا لم تخبرينا؟»
وكانت جهان تسمع ذلك. فاضطربت فصعد الدم إلى وجنتيها وقالت: «ماذا قص عليك؟»
قالت: «قال لي إنه سأل عن الرجل الذي طلبت منه البحث عنه في سامرا كلها فلم يقف له على خبر.»
قالت: «هل يمكن أن نراه ونسأله.»
قالت: «لا أدري هل تأذن القهرمانة في ذلك أم لا؟»
فقالت هيلانة: «هي تأذن بكل ما تريد جهان عروس فرغانة لأنها سحرتها. فاذكري للقهرمانة أنها تطلب صاحبك لتسأله في أمر.»
فذهبت الخادمة وعادت به، فسألته جهان عما علمه فقال: «سألت عن ضرغام يا سيدتي فلم أجد أحدا يعرفه.»
قالت: «ألم تسأل عنه في قصر الخليفة؟»
قال: «سألت عنه فلم أقف على خبره.»
قالت: «أظنك لو سألت عن رئيس الحرس لوصلت إليه.»
قال: «سألت عن رئيس الحرس فقيل لي إن اسمه الصاحب.»
قالت: «هل أنت واثق مما تقول؟»
قال: «نعم يا سيدتي، وقد دققت البحث عن رئيس الحرس نظرا إلى ما رأيت من اهتمام الناس به، فقيل لي إنه رجل شجاع باسل وإن الخليفة يحبه حبا جما وقد زوجه فتاة جملية من بنات قصره وأهداه هدايا ثمينة.»
فثبت عندها أنه صادق فيما يقول، وقد كان من الجائز أن يتبادر إلى ذهنها أن الصاحب هو ضرغام نفسه لولا حديث زواجه وهي لا تتخيل أن ضرغاما يتزوج ويتركها، فتأكد عندها ما قصه عليها أخوها من أن الأفشين سعى في قتله، فازدادت ميلا للنقمة وغلب اليأس عليها ونسيت موقفها، ولم تنتبه إلا وخيزران تدعوها فخجلت ونهضت تقصد إلى غرفتها للاختلاء فيها. ونسيت أن خيزران نادتها، فلما خرجت من عند هيلانة لقيتها خيزران فقالت: «إلى أين يا سيدتي؟»
قالت : «أظنك دعوتني وقد نسيت. ماذا تريدين؟»
قالت: «كنت في حديقة القصر فرأيت بابك خارجا من قصره فظننته خارجا إلى الحصون والمعاقل، وإذا به دخل هذا القصر وذكر للقهرمانة أنه يريد أن يراك الآن، فأوعزت إلي أن أبلغك ذلك.»
فأجفلت وقالت: «بابك يطلب أن يراني؟!»
قالت: «نعم وهو في غرفتك.»
قالت: «وفي غرفتي أيضا؟! وما العمل؟ يا أورمزد ساعدني. إني أراني في ورطة يصعب التخلص منها. أعلمت الخبر الذي جاء به الجاسوس؟»
قالت: «نعم يا سيدتي علمته.»
قالت: «وما رأيك؟» قالت: «يظهر أن مولاي ضرغاما ليس في سامرا.»
قالت: «لا يخيفني غيابه عنها، وإنما يخيفني أن تصدق رواية أخي سامان، ألم تسمعيها؟!»
قالت: «سمعتها ولكن من يعلم الصحيح؟»
كانت جهان وخيزران تتكلمان وهما تمشيان على مهل، حتى أشرفتا على الغرفة فتراجعت جهان وقالت: «والآن لا بد من مقابلة بابك؟ ماذا أقول له؟ لعل عنده خبرا جديدا.»
وسمعت صوت بابك ينادي من داخل الغرفة: «جهان. جهان.» فأسرعت وركبتاها تصطكان ولكنها تتجلد، حتى أقبلت على باب الغرفة فأطلت على بابك، وكان جالسا فوقف لها واستقبلها وهو يبش ويبتسم، فلما رأت ابتسامه اطمأن قلبها ولا سيما عندما وقف لها ورحب بها. وابتدرها قائلا: «إني أقف لعروس فرغانة وإن كانت هي تحتقر بابك ولا تقف له.»
قالت: «إن جهان لم تحتقر بابك وإنما احتقرت خصالا فيه ذكرتها.»
قال وهو يجلس ويدعوها إلى الجلوس: «وإذا نزع تلك الخصال منه هل تحبينه؟»
ولاح لها من خلال كلامه أنه جاد فيما يقول، فأظهرت ارتيابها قائلة: «أراك تسخر من فتاة أغضبتك فأحببت التشفي منها، ولكنني أخلصت لك النصيحة وعرضت نفسي للخطر.»
وقال والاهتمام باد في محياه: «لا يا جهان، إني لا أسخر منك، ولكنني أعملت الفكرة فيما قلته لي فقضيت مدة غيابي وأنا أفكر في أقوالك وحقيقتها تتجلى لي رويدا رويدا. وكلما انجلت شعرت بالخجل من نفسي وندمت على ما فرط مني. كنت منغمسا في الملذات والإكثار من النساء؛ لأني لم أجد واحدة تملأ عيني وتملك قلبي. ولا أدري ما الذي غيرته أنت من وجداني ... أراني قد حدث لي انقلاب لم أعهد مثله من قبل، كأنك روح مرسلة إلي من عند أورمزد. وإنما أربي الآن أن تقولي لي إنك تحبينني ...» قال ذلك والعرق يتلألأ على جبينه.
فاستغربت انقلابه ولم تخف مداجاته أو خداعه لأنها قرأت الإخلاص في عينيه وأكبرت أن ترى ذلك الرجل الفظ يتقرب إليها بمثل هذا الكلام.
قالت: «هل تعني حقا ما تقول؟»
قال: «نعم. وأنت تفهمين أني لا أداجي. وقد عملت بنصيحتك بعد أن نزلت منزلة الدم من قلبي والسواد من عيني، فهجرت الخمر وسأترك النساء من أجلك. صدقت يا جهان، إن العيشة الهنيئة في الحب المتبادل. وها أنا ذا أحبك فهل تحبينني؟ لا عذر لك في الرفض الآن.»
فأطرقت، وفكرت فيما سمعته من أمر فقد ضرغام ويأسها من وجوده. ورأت هذا الجبار يخطب ودها ويعاهدها على الانقطاع لخدمتها وهجر الخمر والنساء لأجلها، فحدثتها نفسها بأن تجيبه بالإيجاب، فاعترضها خيال حبيبها فتصورت أنه كان ضالا فوجد فكيف تقابله وبأي عين تنظر إليه. فظلت حينا تتردد وبابك صابر ينظر إليها ويراقب حركة عينيها، فلما استبطأ جوابها قال: «أظنك تفكرين في الأفشين.»
فلما سمعته يذكر الأفشين ظنته يعلم شيئا عنه فقالت: «وكيف عرفت أني أفكر فيه وما علاقته بي؟»
قال: «أليس هو الوصي عليك؟» قالت: «وماذا في هذا؟»
قال: «لا أخفي عليك ما سمعته وإن كنت تحاولين إخفاءه. علمت أن الأفشين بعد أن جعله أبوك وصيا عليك طمع في زواجك فرفضت، أليس كذلك؟»
فأطرقت وبدا الحياء في محياها ولاح الغضب في عينيها ولم تجب، فقال بابك: «وإن فتاة ترفض الأفشين ملك أشروسنة، ثم ترفض بابك صاحب أرمينيا عفافا ورغبة في الفضيلة لجديرة بالعبادة. وقد بلغت أن الأفشين انتقم منك انتقاما جارحا. ولسوف أنتقم لك منه أشد الانتقام.»
فلما سمعته يلوح بالانتقام من الأفشين مالت إلى القبول، ولكنها بقيت في قلبها ترجو لقاء ضرغام فقالت: «إذا كنت تعني ما تقول وأنك تنتقم لي من الأفشين فاسمح لي أن أنبهك إلى أمر. أنت تعلم أني فارسية مثلك وأن أبي مرزبان كبير لم تكن تخفى عليه خافية من نوايا الفرس على العرب. فأنت متآمر مع الأفشين والمازيار صاحب طبرستان على قلب دولة المسلمين. أليس كذلك؟ أصدقني.»
قال: «صدقت هذا هو الواقع.»
قالت: «فما معنى أن يحاربك الأفشين بجيش من المسلمين؟»
قال: «إنه يتظاهر بنصرته للمسلمين ليجمع أموالهم ويرسلها إلى بلده، ومتى توافر المال اتحدنا جميعا وقلبنا هذه الدولة.»
فنظرت إليه نظرا نافذا والارتياب باد في عينيها وقالت: «أتكون قائد هذا الجند وزعيم العصبة الخرمية والناس يجلون قدرك ويسجدون لك، ثم تنطلي عليك هذه الحيلة؟»
قال: «ولماذا تعدينها حيلة؟ إني أعرف الأفشين من قبل. وقد أجمعنا وأقسمنا على هذا الأمر منذ بضع عشرة سنة ومعنا صاحب طبرستان، وما زلنا نجدد العهد كل عام، فأي نفع له في خداعنا؟»
فتفرست في عينيه وقالت: «إن الأفشين يخدعك ليكسب المال؛ لأنك إن لم تقم لحرب المسلمين لا يبقى له باب للارتزاق، أما المازيار صاحب طبرستان فقد يكون أخلص طوية ولكنه لا شأن له في عملك. فإذا شئت أن أجيبك إلى ما طلبته مني فلا أريد لك أن تكون مخدوعا تحارب برجالك فإذا فزت طالبك الأفشين بحق الشركة وإذا هزمت استفاد من هزيمتك.»
فانتبه بابك كأنه هب من رقاد، ورآها قد أزالت غشاوة عن عينيه، وشعر بسلطانها عليه فقال: «بورك فيك. نعم الرأي رأيك. لا شك أن الأفشين مداج.»
قالت: «فمثلك يجب أن يكون صاحب الأمر وإليه المرجع لا شريك له يقاسمه ولا منازع ينازعه. فإذا رأيت ذلك كنت أنا عونك في سراء السلم وضراء الحرب، على ألا يتم زواج بيننا إلا بعد الفراغ من هذه الحرب، وعند ذلك أفخر بأني حظيت بأكبر رجل في فارس.»
فتوقدت حماسة بابك وقال: «ولكن قولي قبل كل شيء. هل تحبينني منذ الآن؟»
وقالت وفي شفتيها ابتسامة الظفر: «ومتى كان الحب يهمك؟»
قال: «عندما وجدت المرأة التي تستحق محبتي، فأرجو أن أستحق محبتها. فهل تحبينني؟»
فأمسكت نفسها لحظة ثم قالت : «نعم ... لا ...». ولم يطاوعها لسانها فقالت: «أحبك محبة الأخ حتى تفرغ من هذه الحرب.»
قال: «يكفيني ذلك يا جهان.»
فاستدركت وقالت: «وأرجو ألا يعرفني الناس بهذا الاسم؛ لأني قد أخطب في الجند وربما شاع ذكري، فلا أحب أن يعرفني الأفشين أو غيره. فليكن اسمي منذ الآن جلنار.»
قال: «اتفقنا يا جلنار.» وشعر لساعته براحة ولذة فكأنه انتقل من زمرة الأشرار الفاسقين إلى صحبة الأبرار المحبين. وليس من حافز على هذا الانقلاب الخير إلا نعمة الحب الصادق، فإنه لم يكن يعرف من اللذة إلا الانغماس في شهوات الجسد، ولم يذق طعم الحب العذري المتبادل بينه وبين فتاة تملك قلبه وتملأ عينيه ... فتبدلت حاله وعادت إليه أريحيته وأصبح منقادا لجهان لا يقطع أمرا إلا برأيها ولم يعرفها أهل البذ إلا باسم «جلنار»؛ لأنهم لم يكونوا قد عرفوها من قبل.
وتحفز بابك للذهاب وهو يقول: «اليوم بدء أيام سعادتي يا جلنار، فإني لم أكن أسعد حالا مني في هذه الساعة.» ووقف وأتم حديثه فقال: «إنما لي رجاء لا أظنك تخالفينني فيه؛ ذلك أن خاصتي تعودوا مجلس الشراب، وفيهم المولعون بالخمر، ولم يوفقوا إلى من يهديهم الصراط المستقيم بعد، وأخشى إن فاجأتهم بإبطال هذه العادة أن يغضبوا، وأنا في حاجة إليهم في هذه الحرب؛ فأرى أن أسايرهم وأجالسهم وأوهمهم أني أشرب معهم حتى نرى ما يكون.»
قالت: «لا بأس، على أن تتلطف في جعلهم يقلعون عما ألفوا بالتدريج.»
فأشار مطيعا، وتمت المعجزة؛ إذ انقلب مثال الاستبداد والعنف إلى مثال لين العريكة. وفي هذا ما يدل على قوة سلطان المرأة العاقلة إذا هي أحسنت الأسلوب في رد الرجل عن النقائص. ولن تستطيع شيئا من ذلك إلا بأن تجعله يحبها فمتى ملكت قلبه ملكت زمامه. أما إذا أرادت إصلاحه بالانتقاد فقد تزيده تمسكا بزلاته.
ولا تسل عن فرح جهان بما حدث لبابك وقبوله ما اشترطته، لما فيه من صيانة نفسها حتى تتحقق أمر حبيبها والانتقام من الأفشين. وتذكرت في تلك اللحظة أخاها سامان فاستوقفت بابك وقالت : «لي طلبة أرجو أن تقضيها.»
قال: «لك ما تريدين.»
قالت: «سامان. أخي. أنت تعرفه وتعرف أنه خانني وغدر بي. لا أطلب الانتقام منه ولكنني أريد إبعاده عن هذه المدينة؛ لأن في وجوده خطرا على الجيش. لا أطلب قتله أو سجنه بل أكتفي بإبعاده لنأمن شره.»
قال: «هذا ما كنت عازما عليه، وإن كنت قد أفدت من خيانته ... إذ لولاه لم أحظ بعروس فرغانة، وقد يخونني كما خان أخته، وسأنفيه من هذه الديار، والآن ألا تريدين الإقامة معي بقصري؟»
قالت: «دعني في القصر كما أنا، فإني مستأنسة بأهله، وإن أردتني لمشورة أو تدبير فإنا نلتقي على موعد.»
فأذعن وهو يبتسم وينظر في وجهها نظر المحب المتهيب. فوقفت وهشت له فودعها وهو يقول: «نحن على وفاق منذ الآن. فهل أنت تحبينني؟»
قالت: «إننا أخوان. أنت أخي بابك أحبك محبة الأخ لأخيه وأرعاك رعاية الأخت لأخيها، وسترى أني أبذل نفسي في سبيل راحتك.»
الفصل السابع عشر
يأس ضرغام
كان ضرغام قد بث العيون والجواسيس يبحثون عن جهان في أنحاء المشرق، وفيهم من سافروا إلى فرغانة، فلبث حقبة من الدهر ينتظر رجوعهم فعادوا وما فيهم من سمع خبرا أو عرف شيئا يهديه إلى مكانها، فضاقت الدنيا في عينيه بما رحبت وغلب عليه اليأس وأخذ يفكر في المجرم الذي سبب فقدها، فلم يجد غير الأفشين، ثم تذكر ما عرفه عن سامان ونفاقه وغدره فارتاب في أمره. وكان يقضي أيامه وحيدا في منزله إلا إذا خرج المعتصم واصطحبه للصيد أو الرياضة أو الصلاة، وكان يستأنس بياقوتة استئناسا كثيرا لكمالها ومشابهتها لجهان، وكلما نظر إليها تذكر صاحبه حمادا وود من صميم فؤاده أن يجمعها به لعله يوفق إلى من يجمعه بحبيبته.
ولما طال انتظاره وانقطعت أخبار جهان عنه ويئس من وجودها، استولت عليه السويداء ولم يعد يرى للحياة معنى، وود لو أنه يشغل نفسه بحرب أو نكبة أو مرض، أو أن يموت ويتخلص من عذاب الشوق والقلق. وسبيل الموت الانتحار، وهو يعده جبنا لا يقدم عليه غير الضعفاء إذا غلبوا على أمرهم أو خولطوا في عقولهم. ومع هذا فإن في نفسه بقية أمل في العثور على جهان. وكبر عليه أن يموت ولا يثأر لها، فوقع في حيرة، وظهرت حيرته في وجهه فلم يكن يراه أحد إلا تبين في محياه القلق رغم ما يحاوله من التكتم، ولا سيما أمام أمه لئلا يحزنها، ولم تكن هي لتخفى حاله عليها. فكان إذا سألته عن جهان وأخبارها قال: «إنهم لم يقفوا لها على خبر وقد أرسلت آخرين لجهات أخرى، فلعلهم أن يعثروا عليها.» وكانت أمه توهمه أنها صدقت قوله وتزيده أملا بلقائها فأصبح ولا تعزية له غير وردان، وأصبح على طول العشرة أقرب الناس إليه. فكان إذا سئم أو قلق شكا إليه حاله واستشاره في أمره، فيخفف وردان عنه. فسمعه مرة يتذمر ويسأم الحياة وهو يتمشى في حديقة القصر معه فقال له: «مثلك لا يجوز أن يضعف إلى هذا الحد يا مولاي.»
قال: «لا تقل يا مولاي؛ لأنك صديقي يا وردان؛ ولذا تراني أشكو إليك همي وأكشف لك نفسي، إني لا أرى معنى للحياة مع اليأس من لقاء جهان.»
قال: «لكل نفس أجلها لا تؤخر ساعة ولا تقدم ساعة. فاصبر إن الله مع الصابرين.»
قال: «لقد مللت الصبر، ولا أرى راحة إلا في الموت. ولكني أحتقر المنتحرين.»
فأحب وردان أن يبدي رأيا يرتاح إليه ضرغام ويصادف هوى في نفسه هو منذ جاء العراق فقال: «أمثلك يكره الحياة ويعجزه السبيل إلى الموت وهو من خاصة المعتصم وكبار قواد المسلمين والحرب قائمة لا يخمد سعيرها بينهم وبين جيرانهم من الفرس أو الروم أو العرب؟»
فنبه كلامه ضرغاما. وكان ينبغي أن يتنبه من قبل فقال: «صدقت، إن الموت في ساحة الوغى ميسور لمثلي. ولكن أمير المؤمنين يلزمني صحبته؛ فقد جعلني صاحبه ومنعني من السفر.»
فقال: «لا أظنه يمنعك بعد الآن.» قال: «ولماذا؟»
قال: «لأن الأخبار تتوالى باستفحال أمر الخرمية في أرمينيا حتى ضاق الأفشين ذرعا ببابك وحصونه.»
قال: «من أنبأك بهذا؟ كنت أحسب الأمر على عكس ما تقول والخليفة لا يخفي علي شيئا.»
قال: «إن الخليفة لا يخفي عليك أمرا يعرفه، ولكنه لا يعرف ذلك!»
قال: «هل تعرف شيئا عن هذه الحرب لا يعرفه الخليفة؟»
قال: «نعم يا سيدي؛ لأن الوزراء ورجال الخاصة يرون من حسن السياسة كتمان بعض الأخبار عن الخليفة.»
قال: «صدقت، ولكنني من الخاصة ولم يبلغني شيء مما تشير إليه.»
قال: «ولا أظنه يبلغك من سواي؛ لأني سمعته من مصدر لا علاقة له برجال البريد الذين يحملون الأخبار إلى الخليفة.»
فاستغرب ضرغام ذلك وقال: «ماذا سمعت؟»
قال: «سمعت أن بابك الخرمي تضاعفت قوته بعد أن انتقل من أردبيل إلى البذ واتخذها حصنا له.»
فقطع ضرغام كلامه قائلا: «هذا سمعناه بالأمس.»
قال: «وهل عرفت سبب قوته بعد أن كاد يعمد إلى الفرار؟»
قال: «نعم. إنه استقوى بمن انضم إليه من الأقوام الناقمين على المسلمين.»
فابتسم وردان وقال: «هذا هو السبب الفرعي، ولعله يبلغ الخليفة اليوم على يد صاحب البريد. أما السبب الأصلي فهو غير ذلك.»
قال: «وما هو؟» قال: «أخبرني بعض القادمين من أرمينيا خبرا كدت أنكره لولا ثقتي بالناقل؛ ذلك أن بابك المشهور بالتهتك والانغماس بالمسكر والفحشاء قد تاب وأناب وأصبح إذا جالس رجاله لا يشرب معهم. وقد انقطع إلى تدبير أمور جنده واستجماع قواه واستنهاض الناس على المسلمين. أخبرني رجل يعرف دخائل البذ. وهم ينسبون هذا التغيير إلى امرأة من نسائه ذات عقل وتدبير اسمها جلنار ملكت قياده وتصرفت في أموره.»
فأطرق ضرغام لحظة وقد ساءه رجوع بابك عن رذائله؛ لأنه كان يرجو أن تكون عونا لهم عليه. وكان يفكر في ذلك وهو واقف بجانب شجرة من التفاح يتلقى بضرب ثمارها المتدانية بخيزرانة في يده ووردان واقف بجانبه. وإذا بغلام من غلمان الخليفة جاء مسرعا. فلما رآه ضرغام علم أنه قادم من عند الخليفة يدعوه، فالتفت إلى وردان وقال: «أظن الخليفة يدعوني لإطلاعي على أخبار الحرب.»
قال: «إذا رأى مولاي أن يكون في هذه الحرب فليأمر أن أكون في خدمته ؛ لأني أعلم أحوال تلك البلاد وطرقها وقد أنفعه.»
قال: «حسنا.» واتجه إلى المنزل ولبس قلنسوته وسواده، وقصد إلى دار الخاصة في قصر الخليفة، فوسع له الحاجب وأدخله بلا استئذان. فلم يجد عند الخليفة إلا القاضي أحمد، ولكنه قرأ في محياه القلق والغضب. فلما أقبل وحيا بش له الخليفة وأمره بالجلوس فجلس، فقال له الخليفة: «أرى الصاحب قد مل القعود في هذا القصر وشبعت نفسه ترفا فاشتاق إلى ميدان الوغى وخوض المعامع.»
فأدرك ضرغام أن الخليفة يمهد له طلب السفر إلى القتال، وأنه لم يفعل إلا وهو يرى الحاجة ماسة إلى نجدته فقال: «إن البقاء إلى جوار أمير المؤمنين نعمة وبركة، ولكن الضرب بسيفه فرض مقدس. وقد طالما حدثت نفسي أن ألتمس من أمير المؤمنين أن يرمي بي في هذه الحرب القائمة بأرمينيا، فإذا أذن لي في ذلك فإنه يغمرني بفضله وأنا في كل حال صنيعته وربيب نعمته.»
فاستحسن الخليفة ذكاءه ونظر إلى القاضي أحمد فالتفت القاضي إلى ضرغام وقال: «إن أمير المؤمنين ضنين بك حريص على قربك، ولكنني لحظت منك في هذه الأيام انقباضا حسبته ناتجا عن هذا الانحباس؛ فإن القائد الشجاع لا يسر إلا بخوض المعامع والظفر بالحرب. ونحن الآن في حرب بأرمينية، وقد صبرنا على ذلك المتمرد لاعتصامه في حصونه. فأشرت على أمير المؤمنين بأن يوجهك إليه فيأتي النصر على يدك.»
فقال: «إني على ما يريد أمير المؤمنين، وأنا على أهبة السفر هذه الساعة.»
فقال الخليفة: «أنت تعلم أن جند المسلمين في أرمينية بقيادة الأفشين، فهل يشق عليك أن تكون من قواده.»
قال: «إنما أنا سيف من سيوف أمير المؤمنين، فليستلني رئيسا أو مرءوسا.»
فهش له الخليفة وقال: «بورك فيك، وسأبعث إلى الأفشين أن يعرف قدر الصاحب قبل سائر القواد.»
فوقف ضرغام وقال: «يأذن لي مولاي في أن أسافر مصحوبا بدعائه وبركته، وأرجو ألا أعود إليه إلا وقد فتح البذ وقتل بابك الطاغية.»
فابتسم له الخليفة وأمر أن يخلع عليه، فخرج وقد زال قلقه.
وكان وردان في انتظاره بباب القصر. فأخبره بما تم، وقال له: «كنت أحب أن تبقى قريبا من أمي هنا.»
فقال: «لا بأس عليها فهي في قصر الخليفة وبين يديها الخدم والموالي.»
ومضى إلى أمه فأخبرها بأن الخليفة أشخصه إلى ميدان القتال، فاستحسنت الأمر وشجعته وقالت: «أطلب إلى الله أن يعيدك ظافرا.»
ثم تقدم إلى ياقوتة وحياها، فلما علمت بأنه يتأهب للسفر دمعت عيناها فقال: «ادعي لي بالتوفيق لعلي أرى حمادا في طريقي، لا تحسبيني غافلا عن أمره.» قال ذلك وتنهد خفيا وتذكر مصيبته بفقد حبيبته.
فأجابته ياقوتة بدمعتين أرسلتهما على خديها وهي مطرقة لا تتكلم، فتركها وخرج، فأمر وردان بالاستعداد للسفر، وبعد أيام ودع أمه وأوصاها بياقوتة خيرا، وسافر في فرقة من خاصة رجال الفراغنة الأشداء. •••
جرت بين جند المسلمين والخرمية مواقع عديدة في أردبيل وغيرها انتهت بتخلي الخرمية عن أردبيل، واستقروا في البذ مدينة بابك وهي مدينة حصينة أو قلعة كبيرة مؤلفة من قصور وقلاع حولها سور ضخم له الأبواب الكبيرة وعليه الأبراج الكثيرة، والطريق إليها وعر بين الجبال والأودية. واقتفى جند المسلمين أثر بابك عندما فر إلى البذ. وبين البذ وأردبيل محطات عدة جعلها المسلمون نقطا عسكرية تحفظ لهم خط الرجعة، وتضمن الاتصال مع سامرا مقر الخليفة. فكانت الميرة القادمة من العراق إذا دخلت أرمينية أنزلوها في أردبيل، ومن هناك ينقلونها إلى نقطة عسكرية أسسها «حصن النهر» ثم يعود حراسها إلى أردبيل ويتولى حراستها جند آخرون من «حصن النهر» إلى أرشف وهكذا إلى خش فبرزند إلى «روذ الروذ» وهي آخر محطة قبل البذ وبينهما بضعة فراسخ.
وكان الأفشين قد كلف جواسيسه أن يختاروا مكانا حصينا يعسكر فيه، فاختاروا في «روذ الروذ» ثلاثة جبال عليها أنقاض أبنية قديمة، فأقام عسكره عليها وسد الطريق الواصلة بينها وبين البذ بالأحجار الضخمة حتى صارت كالحصون، ثم حفر خندقا وراء الحجارة عند كل طريق ما عدا طريقا واحدا يخرج منه رجاله إذا أراد الهجوم، وقد بذل في هذا العمل جهدا شاقا فكان الرجال ينقلون الحجارة ويحفرون الخنادق ، والعساكر يحرسونها ليلا ونهارا.
وكان «روذ الروذ» واديا بين آكام وعرة. فعبأ رجاله وعهد إلى كل قائد من قواده، بفرقة منهم؛ وهم ثلاثة: جعفر الخياط، وأبو سعيد، وأحمد بن الخليل. أقامهم في محطات بينه وبين البذ قبل الوادي الفاصل بينهما، فأصبح معسكر الأفشين كبير جدا إذا أراد النهوض أو السير به جعل الإشارة ضرب الطبول لبعد المسافات واحتجاب الفرق بعضها عن بعض بالجبال والأودية. فإذا سار ضرب الطبول، وإذا وقف أمسك. فيقف الجند جميعا أو يسيرون جميعا في مصافهم وعلى ترتيبهم. وكان للأفشين معسكر أقامه على أكمة يشرف منه على «البذ» ويرى قصر بابك وغيره من قصور المدينة.
وكان بابك كثير الاعتماد في حروبه على طوائف من رجاله يرسلهم ليكمنوا في الأودية وراء التلال ليفاجئوا جند المسلمين ويغدروا بهم. وكان الأفشين يهتم كثيرا بقطع دابرهم فيرسل الجواسيس أو الكوهبانية للبحث عن الكمين.
قضى في ذلك الحصار مدة طويلة وهو يشاغل الخرمية فيأمر قواده فيقطع الواحد منهم الوادي إلى الجانب الآخر إزاء البذ في كردوس من رجاله فيقف بهم هناك فيخرج بابك فرقة من جنده تحمي باب السور وتمنع الأعداء منه، فإذا انقضى النهار أمر الأفشين رجاله بالعودة إلى معسكرهم وراء الخندق ويبيتوا هناك، فتضايق الخرمية من هذه المناورات فعزموا على الفتك بهم فراقبوا رجوع كراديس الأفشين من جانب الوادي ذات يوم كالعادة حتى لم يبق منهم إلا جعفر الخياط بكردوسه فخرجوا عليه وارتفعت الضجة فرجع جعفر ورد الخرمية بنفسه إلى باب البذ وتصايح الجند حتى بلغت الضجة الأفشين فرأى جعفرا وأصحابه يقاتلون فخاف أن يفسدوا عليه خططه.
أما جعفر فجاءته نجدة من المتطوعة وهي فرقة تنصر المحاربين رغبة في الغنائم والسبي، فاشتد أزره وهجموا على السور وتعلقوا به وكادوا يصعدونه ويدخلون المدينة فبعث إليه الأفشين يقول: «إنك أفسدت علي تدبيري فتخلص قليلا قليلا وخلص أصحابك وانصرف.» ثم تحركت كمناء بابك فاضطر جعفر إلى الرجوع أسفا لضياع الفرصة.
وبقي المتطوعة بعد ذلك أياما يقاتلون وحدهم حتى قلت علوفتهم ومئونتهم وهم يتذمرون ويقولون : «لو أنجدنا الأفشين لدخلنا البذ.» وضج سائر الجند وطلبوا أن يبادروا بالقتال فكان يماطل خشية الفشل. أو لعله كان يطاول رغبة منه في جمع المال؛ لأن المعتصم كان قد جعل له على كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وعن كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم، ما عدا العدة والمئونة. فجمع من ذلك مالا كثيرا كان يرسله إلى أشروسنة.
وكان الأفشين جالسا ذات يوم في فسطاطه المطل على البذ، فوقع نظره على جماعة من رجاله يقودون رجلا عليه لباس أهل تلك المنطقة، وما وصلوا به إليه حتى عرف أنه سامان أخو جهان. فأجفل ولكنه توقع أن ينتفع به فصاح بالرجال أن يتركوه، فتقدم سامان مطأطئ الرأس وجثا بين يدي الأفشين فأمره أن يقف وبش له وقال: «من أين أتيت؟»
قال: «من البذ يا سيدي.»
فأشار إليه أن يقعد فقعد متأدبا. ثم سأله: «ما الذي أدخلك هذه المدينة؟»
فهز رأسه وقال: «أتيت إليها في خدمة مولاي الأفشين.»
قال: «وكيف ذلك؟» قال: «ما زلت منذ تشرفت بلقيا مولاي في سامرا أبحث عن جهان عملا بأمره حتى علمت أنها عند بابك!»
فدهش الأفشين لقوله وصاح به: «جهان هنا الآن؟ هنا في البذ؟!» قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «وما الذي جاء بها إلى هذا البلد البعيد؟»
قال: «أخبرتك يا مولاي أن اللصوص خطفوها مني بقرب همذان، وما زلت أجد في البحث عنها حتى علمت أن بابك هو الذي بعث رجاله لاختطافها؛ لأنه سمع بجمالها، وكان قد خطبها من أبي فرده خائبا وكأنه أقام الكمناء يترقبون خروجها حتى تمكن من غرضه.»
فقال: «ثم ماذا؟ ألا تزال هنا؟»
قال: «إن أمر أختي يحيرني، فهي لا تستقر على حال، فبعد أن رفضت نعمة صاحب أشروسنة، رضيت ببعض رجاله. ثم عادت فرضيت ببابك وأصبحت أقرب نسائه إليه وتتفانى في نصرته. وكم نصحت لها أن ترجع عن غيها وحسنت إليها المجيء إلى الأفشين لأنه ولي نعمتها فأبت. فلما رأيتها مصرة على عنادها تركتها وجئت إليك.»
قال : «بورك فيك، لكني علمت من بعض الجواسيس أن أعز نساء بابك إليه امرأة اسمها جلنار يقولون إنها حازمة حسنة التدبير، وإنها أعانته وشدت أزره كثيرا.»
فقال: «هي جهان نفسها يا سيدي، وقد غيرت اسمها تمويها. ووعدت صديقها الجديد أن تنصره على جند المسلمين فهي تتفانى في نصرته، ولولاها لقضي عليه من زمن مديد.»
وكان الأفشين يعلم خبث طوية سامان ولكنه جاراه رغبة في الاستعانة به على أمر لا يصلح له غير الخبثاء، ولم يفته أن سامان يكرهه ولو استطاع قتله لقتله، فعمد إلى المداجاة وهز رأسه وحك ذقنه وأصلح قلنسوته وتحرك في مقعده وقال: «بئس ما كافأتنا به هذه الفتاة على إحساننا فقد أغضبناك لأجلها فعقتنا. وعسى يا سامان أن تكره شيئا وهو خير لك.»
ثم سكت عن الكلام قليلا وعاد فقال: «ألم يعلم ضرغام أن جهان هنا؟»
قال: «كلا. ولا هي تعلم بأنه على قيد الحياة.»
فلم يصدق قوله وسأله: «وكيف هذا وضرغام لا يدخر وسعا في البحث عنها!»
قال: «قد ساعدني على هذا تغيير الأسماء. كن على يقين أنها تؤمن بما قلته لها من أنه قتل، وهو ما يزال يعتقد أنها خطفت إلى مكان مجهول. وقد فعلت أنا ذلك حسبة لوجه مولاي الأفشين رغم ما قاسيته من إعراضه وحرماني.» قال ذلك ونظر إلى الأفشين وعيناه ترقصان حولا.
فقال الأفشين: «لقد وثقت الآن بإخلاصك. فإذا زدتني يقينا بإكمال سعيك كنت من الغانمين.»
قال: «إني طوع الإشارة، سل ما تشاء أبذل نفسي في خدمتك.»
قال: «ذكرت أنك كنت في البذ فما الذي تعرفه عن أهله وحصونه وجنده؟»
قال: «إن المدينة منيعة كما ترى وفيها الجند والأسلحة، والخرمية يتضامنون في أموالهم وأنفسهم، يتفانون في خدمة زعيمهم. ولكنني أرجو أن يغلبوا على أمرهم.»
قال: «بماذا ترجو ذلك؟»
قال: «أرجوه مما أعلمه من دخائل هذا البلد. فأنا أعرف أن فيها من الأسرى المسلمين وغيرهم عددا كبيرا، منهم سبعة آلاف وستمائة من النساء والأطفال، ويقدر عدد الذين قتلهم بابك بنحو 255 ألف نفس. وأعرف أن الناس قد ملوا سيادته حتى المقيمين ببلده، فإذا تمكن عشرون رجلا منكم أن يدخلوا المدينة ويراهم الناس فأهلها جميعا يستسلمون.»
قال: «ما رأيك في الجهة التي نهاجم البلد منها حتى نضمن الدخول إليها؟»
فوقف سامان وأشار بيده إلى جبل في طرف البذ وقال: «من هنا يا سيدي. أرأيت هذا الجبل؟ إن بابك يقيم الكمناء في سفحه لعلمه أن العدو إذا تجاوزه سهل عليه دخول المدينة، فإذا احتال مولاي في الإتيان من ورائه ظفر.»
فسر الأفشين من قدوم سامان، وهم بأن يستزيده إيضاحا، فإذا بالحاجب دخل يقول: «إن بريد أمير المؤمنين بالباب.» قال: «يدخل.»
فدخل البريدي وعلى وجهه أمارات السفر والتعب وعلى صدره صفيحة البريد النحاسية وعليها علامة خاصة. ووقف فناداه الأفشين: «تقدم. ما وراءك؟»
فتقدم البريدي ودفع إليه لفافة حريرية عليها خاتم الخلافة، فتناولها وقبلها ثم فض خاتمها فإذا داخلها أنبوبة من فضة مختومة ففتحها وأخرج منها كاغدا ملفوفا نشره وأخذ يقرأه وسامان يراعي حركاته وملامح وجهه فرآها تغيرت، حتى إذا فرغ من تلاوته أشار إلى البريدي فانصرف، والتفت إلى سامان وابتسم ليزيده استئناسا وترغيبا في خدمته، وكان سامان واقفا فأمره بالجلوس وقال: «أتعلم ما في هذا الكتاب؟»
قال: «من أين لي علم الغيب؟»
قال: «إنه كتاب المعتصم يحثني فيه على الثبات، ويبشرني بأنه أرسل إلي نجدة بقيادة صاحبه ضرغام.»
فقال سامان: «أترى صاحب أشروسنة في حاجة إلى النجدة وهو الملك والقائد، وجنده يملأ السهل والجبل؟»
قال: «كلا. وأمير المؤمنين يعلم ذلك. وأخشى أن يكون الرجل قادم لغير الحرب. أخشى أن يكون قد عرف أمر جهان ... وسواء أعلى علم أم لم يعلم فجهان لا يمسها أحد سواي، إن لم يكن حبا لها وافتتانا بها فانتقاما من كبريائها وقحتها. إني لا أنسى ذلك اليوم في فرغانة.»
فقال سامان: «أما ضرغام فلا شك أنه لم يعلم بأن أختي هنا، بل هو لا يعتقد أنها على قيد الحياة. وقد يكون كره الحياة بعدها لكلفه بها فأتى إلى ساحة القتال رغبة في الموت، فإني أرى في الناس جنونا لم أجربه؛ أراهم إذا أحب أحدهم فعل فعل المجانين حتى يجازف بحياته غراما بحبيبه وإذا توفى الله أحدهم أراد الآخر أن يتبعه.»
فضحك الأفشين حتى بانت نواجذه وقال: «إن كان قد جاء يطلب الموت فأهلا به ومرحبا. له علينا ذلك حبا وكرامة. أما ما تراه من جنون المحبين وهيامهم فأنت معذور لأنك أجرود لا تشعر شعورهم.» ثم أطرق هنيهة وقال: «إذا هجمنا غدا على البلد ودخلناه فأين تكون أختك؟»
فوقف سامان والتفت إلى البذ وأشار بيده وقال: «أرأيت هذا القصر الفخم عند الباب الشرقي؟ هذا قصر النساء وبه تقيم جهان. ومن أراد الوصول إليه حالا فليأته من ذلك الباب.» ثم أشار بيده إلى قصر في الغرب وقال: «وهذا القصر عند الباب الغربي قصر بابك نفسه، وهو أمنع القصور ولا يهاجمه أحد إلا قتل. فاختر لنفسك.»
وتحرك الأفشين في مقعده، فنهض سامان واستأذن. فقال له الأفشين: «تمكث عندنا لنستأنس بك ولا تخرج من هذا المعسكر إلا للضرورة.»
ففهم سامان قصده فقال: «أحب أن أكون أسيرا عندك حتى تتحقق من إخلاصي وأتقدم إليك أن تبقي خبري مكتوما عن ضرغام وغيره وإلا فسد تدبيرنا.»
فأشار الأفشين برأسه موافقا، ثم نادى غلامه وأمره أن يكرم سامان ويحتفظ به، فخرج سامان من حضرته وقد سره أن الأفشين أحسن لقياه ووعده بإرث أبيه انتقاما من أخته. واستبشر بقرب الانتقام من أخته متى جاء ضرغام فيكيد له ويسعى في هلاكه. ونسي أنه كان ناقما على الأفشين وقد استعان بضرغام عليه وأن أخته صاحبة الفضل الأكبر عليه. ولكنه يجري في أعماله على هوى منافعه فهو لا يغضب من الأفشين لأنه تعدى حدود الوصاية أو لأنه أراد السوء لأخته، وإنما أبغضه لأنه حرمه من الإرث. ولم يحب ضرغاما لشهامته وأريحيته أو نسبه وإنما أظهر حبه له ليستعين به في نيل مرامه. ثم إنه لم ينقلب هذا الانقلاب في الحالين إلا جريا وراء ما يفيده فلم يكن له قلب يحب ولا وجه يخجل. ولكنه ملتفت بكل جوارحه إلى حب المال، وزاده حبا فيه يأسه من احترام الناس له لسجاياه أو مناقبه فأراد أن يكسب احترامهم بالمال ظنا منه أنه متى صار غنيا احترموه وأجلوا قدره. وسيان عنده أحبوه أم أبغضوه!
الفصل الثامن عشر
سقوط البذ
لما خلا الأفشين إلى نفسه بعد خروج سامان فكر مليا فيما سمعه منه فصادف هوى في نفسه، وسيان عنده فعل سامان ذلك حبا له أو خوفا منه أو طمعا في تغيير الوصية، وأعاد ما سمعه عن جهان وتذكر جمالها وكبرياءها فسره أنه ظفر بها، وأنها متى وقعت في يده هذه المرة فلا مفر لها منه، ثم تذكر أن ضرغام هو العقبة الوحيدة في سبيله، وفكر فيما لمح إليه سامان من الاحتيال لإيقاعه، فاعتزم ذلك.
وقضى أياما في مثل هذا المنى حتى جاءه صاحب الخبر منبئا بقدوم الصاحب مع رجاله. وفي صباح اليوم التالي جاء ضرغام، فرحب به الأفشين وأثنى على رغبته في نصر الدولة. فأجابه الصاحب شاكرا، ولحظ الأفشين في وجهه تغيرا مما أحدثه يأسه من جهان، فلم يبال وجعل يبالغ في إطراء بسالته وعلو همته فقال ضرغام: «لا فضل لنا في خدمة الدولة ونصرة الدين الحنيف.»
قال: «صدقت، وقد جئتنا في إبان الحاجة إليك فإني لا أرى بين قوادي من يركن إليه في المهمات غيرك، وقد خبرتك وعلمت شجاعتك وصبرك.»
فقال ضرغام: «كنت قد استطلت الحرب واستبطأت الفتح فلما رأيت هذه الحصون ووعورة الأرض أيقنت أن الأفشين قد أتى بما لا يستطيعه إلا الأبطال، وما أنا من يزيد في إقدامه أو يسهل فتحه، ولكنني مللت القعود وأحببت أن يكون لي في هذه الحرب نصيب. فارم بي حيث تشاء.»
فتأكد الأفشين من يأس ضرغام، وأحب تغيير الحديث ليهيئ له مهلكا فقال: «بورك فيك. لا بد أن تستريح أولا من عناء السفر ... أخبرني عن أهل سامرا كيف هم وكيف أمير المؤمنين؟»
قال: «كلهم في قلق من أمر بابك هذا، ولكنهم يثنون على ثبات الأفشين وحسن تدبيره ... وقد آنست من الخليفة رغبة في إنهاء هذه الحرب، فجئت لألقي نفسي في أقرب السبل إلى ذلك عسى أن أتعجل الشهادة.» قال ذلك وأبرقت عيناه بريقا حادا قرأ الأفشين خلاله حديثا طويلا فقال: «غدا ننظر في ذلك. وأما الآن فاخرج بنا نطلعك على معسكرنا ومواقع القواد ونظام الخنادق والحصون والمكامن.» ونهض وأمر أن تهيأ الأفراس.
فنهض ضرغام وهو يقول: «قد رأيت بعض هذه المعاقل فعلمت أن مولانا الأفشين قد أتى في تنظيمها بالمعجزات.»
وقضى الرجلان بقية اليوم في التجول بين الحصون والاستحكامات. فرأى ضرغام جندا كبيرا وتدبيرا حسنا، وسره اهتمام الأفشين بإطلاعه على ذلك من تلقاء نفسه فقال له: «إن مثل هذا الجند لا ينبغي أن يصبر على فتح البلد طويلا.»
قال: «غدا أقص عليك سبب الإبطاء.» وافترقا.
فذهب ضرغام إلى فسطاطه وكان وردان في انتظاره وقد أصبحا صديقين حميمين. فلما اجتمعا قص ضرغام عليه ما لقيه عند الأفشين إلى أن قال: «وقد وعدني الأفشين أن يسرع في القتال، وألححت عليه أن يرمي بي في أخطر المواقع فإذا لم أرجع فإني أعهد إليك منذ الآن في العناية بأمي المسكينة.» قال ذلك واختنق صوته فتنحنح حتى يخفي اختناقه وعاد إلى إتمام كلامه فقال: «وأنت تعلم ما قاسته في محبتي. أما ياقوتة فاحتفظ بها ريثما يمن الله عليها برجوع خطيبها. وأظنك تعرفه. وأما جهان فإذا كانت على قيد الحياة ولقيتها بعد موتي فبلغها ما تعلمه من وجدي!»
فقطع وردان الحديث وقال: «لا توصني فإني لن أبقى بعدك، وما صحبتك إلا لأكون معك حيثما ذهبت.»
قال: «إني ألقي بنفسي إلى الهلاك فرارا من حياة لم يعد لي لذة فيها، فما خطبك أنت؟»
فتنهد وردان وأطرق وذرفت عيناه دمعتين تقطرتا من مآقيه، وكأنه خجل فرفع بصره، وقال: «إن نصيبي من اليأس كبير جدا، ولو علمته لطلبت لي أن أسير إلى الهلاك أمامك وإذا بقيت حيا قصصته عليك. ومهما يكن من شيء فمصيري رهن بمصيرك.»
فأعجب ضرغام بأريحيته، وكان قد شعر بشيء مما يجول بذهنه، ولم يشأ أن يستطلعه إلا إذا هم هو بنفسه بأن يكشف عما به، فقال: «لك ما تريد يا وردان، وغدا نرى ما أعده لنا الأفشين من المهام.»
أما الأفشين فقضى تلك الليلة مع سامان يكيدان لضرغام. وفي صباح اليوم التالي زار ضرغام الأفشين ومعه وردان، فوجداه وحده، وسأله ضرغام عما استقر عليه رأيه فقال: «لا أزال أرى التريث في الحصار برهة أخرى.»
فأجفل ضرغام لهذا التغيير وساءه تأجيل الهجوم فقال: «ولماذا؟»
قال: «إني أرى هجومنا اليوم مجازفة لا تحمد عقباها. فقد قضيت البارحة وأنا أقلب الأمر على وجوهه فلم أوفق إلى تعبئة تضمن لنا النصر.»
قال: «هل لك أن تطلعني على ما تخشاه؟»
فنهض الأفشين ومشى حتى وقف بباب الفسطاط وأطل على البدو حصونها ثم قال: «أرأيت هذه المدينة، إنها أمنع من عقاب الجو ولا سيما من جهة الغرب حيث هذا القصر الفخم فإنه قصر بابك الذي يقيم به، فإذا وصلنا إلى باب السور الذي يليه أخذنا المدينة.»
ثم قال: «ألا ترى هذا التل الشاهق المشرف على المدينة من غربيها؟ لا سبيل إلى القصر إلا من ورائه، والطريق وعر لا يسلكه الجند الكثير ولا يجسر الجند القليل على سلوكه؛ لما يلقاه من نبال الخرمية ومجانيقهم. وبابك كثير الاعتماد على الكمناء فنخاف أن يكون له كمين أو أكثر وراء ذلك التل أو في واديه.»
فقال ضرغام: «أنا ذاهب إلى ذلك التل مع رجالي الفراغنة.»
قال: «إذا فعلت ذلك فإني أعبئ الجند حول الأسوار من جميع جهاتها فتضمن الفتح بإذن الله.»
فقال ضرغام: «ومتى الهجوم؟»
قال: «متى شئت.»
قال: «الليلة. دعني أدهم القوم ليلا فإذا أصبح الصباح ودخلت البذ حيا، فاهجموا أنتم على سائر جهات البلدة فيكون فتحها أمرا مقضيا.»
قال الأفشين: «بل أرى أن نتهيأ جميعا للهجوم ليلا، على أن تذهب أنت برجالك من وراء التل وتمكث تجاه المدينة حتى ترى نارا أوقدها هنا بعد نصف الليل، وعلامتها أنها مثلثة؛ أي تكون ثلاث نيران متحاذية، فإذا رأيتها علمت أن الجند كله مهاجم المدينة من كل جهاتها فاهجم أنت برجالك من ناحيتك، ولا يخفى عليك يا ولدي أنك في أشد المواقع خطرا.»
قال: «لا أبالي بالخطر ... أنا ذاهب الآن لأعد رجالي وأرجو أن نلتقي جميعا في قصر بابك غدا.» قال ذلك وتضاحك مكشرا عن أسنانه كما يكشر الأسد إذا هم بالوثوب. وكان الغضب واليأس قد زادا وجهه هيبة وقوة فازداد شارباه وقوفا وحاجباه خشونة وعيناه بريقا وحدة حتى تهيب الأفشين النظر إليه والتفرس في عينيه فقال له: «لو كان لنا عشرة مثلك لفتحنا البذ من زمن بعيد.» أراد بذلك أن يثبته في عزمه وهو على يقين أنه لا يستطيع تجاوز التل إلى السور لما وضعه بابك هناك من آلات الدفاع الخطرة فضلا عن الكمناء. وأغرب من هذا أن ضرغاما ودع الأفشين ليذهب ويتهيأ للهجوم وهو لا يعرف شيئا عن الطريق ولم يسأل عنه. وقد فرح الأفشين لذلك؛ لأن جهله الطريق يؤكد فشله.
فخرج ضرغام وهو يقول للأفشين: «غدا نلتقي هناك.» وأشار بيده إلى قصر بابك، والأفشين يهش له حتى إذا توارى عن الخيمة لقيه وردان فماشاه وسأله: «ما الذي استقر الرأي عليه؟»
قال: «الليلة نهاجم البذ.» قال: «من أين؟»
قال: «نأتيه أنا والفراغنة من وراء ذلك التل حتى ندخل من الباب الغربي وبجانبه قصر بابك، فنكون أول من يدخله أو نموت تحت الأسوار.»
فوقف وردان والتفت إليه وقال: «هل تعرف الطريق إلى التل؟»
قال: «لا ... لا أعرفه ... ولكن ...»
قال: «ولكن ماذا؟ إنه طريق طويل يبغي لسالكه أن يسير من وراء التل مسافة تستغرق ساعات حتى يأتي إلى سفحه تجاه السور.» وكأنه نبه ضرغاما فقال له: «وهل تعرف الطريق أنت يا وردان؟» قال: «نعم أعرفه.»
قال: «إذن أنت دليلنا بل أنت قائدنا، هلم إلى رجالنا ليتأهبوا من الآن، ثم ننتقل بهم أصيل اليوم إلى الطريق الذي تعرفه حتى نصل في العشاء إلى تجاه المدينة.» قال: «حسنا.» ومشيا وكلاهما ساكت يفكر، يريان الخطر الذي يهددهما واليأس يعزيهما عنه حتى وصلا إلى معسكر الفراغنة، وكانوا قليلين لا يتجاوز عددهم بضع مئات لكنهم أشداء منتخبون يتفانون في طاعة ضرغام لو قال لهم ادخلوا النار لتسابقوا إليها.
أما الأفشين فجاءه سامان بعد خروج ضرغام فقص عليه ما فعله وقال: «والباقي عندك يا سامان.» فقال: «سمعا وطاعة.» وخرج. وعبأ الأفشين جنده للهجوم في ذلك الليل ليأخذوا القوم على غرة وجعل فرقته بحيث تهاجم المدينة من جهة الباب المؤدي إلى قصر النساء الذي تقيم فيه جهان أو جلنار، حتى إذا فتح البلد ودخل الناس للنهب استولى هو على قصر النساء وأعطى جهان إلى من يحتفظ بها وانصرف إلى قيادة الجند.
أما ضرغام فجهز رجاله ومشى بهم ووردان دليلهم، وداروا حول التل حتى وصلوا إلى مكان فيه يشرف على البذ من الغرب، فمكثوا هناك حتى أظلمت الدنيا فأمرهم ضرغام أن يتربصوا ويكونوا على أهبة الهجوم، وخلا إلى وردان على أكمة ونظر إلى البذ فرأيا فيه أنوارا متفرقة كما يطل القادم على بلد في الليل فإنه لا يرى إلا أنوارا ويندر أن يتبين شيئا من أبنيتها أو قلاعها. فقال وردان: «إن أقرب هذه الأنوار إلى السور وأكثرها إشعاعا أنوار قصر بابك، وهو الذي سنفتحه أو نموت دونه، وترى أنوارا بعيدة في الجانب الآخر من البلد فهناك قصر النساء، ولا أظنك تجهل استكثار هذا الرجل من النساء وانغماسه في الملذات.»
قال: «وقد رويت لي ما طرأ عليه من التغيير من عهد بعيد بفعل امرأة من نسائه ذات عقل وتدبير. ما أكبر عقل تلك المرأة!»
فقال: «إنها عاقلة؛ ولذلك تسلطت عليه، فأصبح لا يقطع بأمر إلا برأيها.»
فتنهد ضرغام وقال: «ما لنا ولهذا الآن! دعنا ننظر في الطريق الذي نسلكه في الهجوم. ما الذي يحول بيننا وبين المدينة الآن؟» قال: «بيننا وبينها واد.»
قال: «وكيف نقطعه؟» قال: «نقطعه من مكان فوقه قائم كالجسر، ومتى صرنا في الجانب الآخر أصبحنا قريبين من السور فنهجم ونتسلقه، ولا أظننا نجد عليه حامية؛ لأن الخرمية لا يخطر لهم أن عدوهم يأتيهم من هذا الطريق الوعر أو يجسر على النزول هنا.»
قال: «إذن هلم بنا ننزل.»
قال: «تمهل يا مولاي حتى تطمئن القلوب ويهجع الناس فلا يجدر بنا أن نزحف قبل نصف الليل وبعد أن نرى نيران الأفشين.»
قال: «حسنا.» وتحول إلى رجاله وأوصاهم بالسكون والتربص وبألا يوقدوا نارا ولا يسمعوا صوتا حتى يأمرهم بالتقدم، ثم تركهم وأشار إلى وردان فلحقه فقال له: «تعال نتجسس الممر الذي قلت عنه لنرى هل هو سالم أو لعل فيه عقبة.»
ومشيا مسافة طويلة في أرض صخرية كثيرة الحجارة يتلمس الماشي أرضها تلمسا، وكان الظلام مخيما لا يكاد الناظر يرى ما بين يديه. وقد ساد السكون فلم يكن يسمع هناك أي صوت سوى حفيف الثعابين والحيات المنسابة بين الصخور أو رفرفة طائر يحلق بجناحيه في الجو. فكان لوقع أقدامهما صوت بذلا الجهد في إخفائه لئلا ينم عن مكانهما. ولما اقتربا من الوادي رأيا فوقه شبه جسر من الصخور يمر عليه الاثنان والثلاثة معا. فقال ضرغام: «تحدثني نفسي أن أسير توا إلى السور فأصعد عليه والناس في غفلة ومتى صرت داخله يشتد أزر المسلمين بي فيكون هجومهم أدعى إلى الظفر.»
فقال: «أخاف عليك كمينا، وأرى أن تعود معي أو أعود أنا وحدي فأدعو الرجال ونتعاون على العمل.»
قال: «اذهب أنت واتركني هنا حتى تعود بهم.»
فقال: «احذر يا مولاي أن تبرح مكانك أو تظهر أي حركة.» ثم عاد وردان إلى الفراغنة، وظل ضرغام وحده. فلما خلا إلى نفسه نظر إلى السور فوجده على بعد مائتي خطوة منه فسولت له نفسه أن يمشي الهويناء حتى يصل إلى السور فينظر ما وراءه ثم يعود. فمشى وهو لا يعرف الطريق وإنما جعل وجهته السور. وكان ينقل قدمه محاذرا سماع وقعها. ويرفع السيف بيده حتى لا يقعقع. ولما دنا من السور وجده عاليا وعليه الأبراج، ولم يسمع هناك صوتا ولا رأى نورا إلا في برج كبير فوق الباب رأى فيه ضوءا ضعيفا. ولما ازداد قربا من السور سمع حركة فوقف ويداه على قبضة حسامه، وإذا بعشرات من الرجال خرجوا من وراء الصخور وأحدقوا به وسيوفهم مشرعة كأنهم كانوا ينتظرونه فأدرك أنه وقع في كمين، فاستل حسامه وصاح فيهم صيحة أجفلتهم ووثب وثوب الأسد يضرب ذات اليمين وذات اليسار ضرب رجل شديد البأس قوي القلب لا يهاب الموت، وكانوا يفرون أماه فرار الظباء من الأسد، وهو وراءهم لا يحترس، فما درى إلا وهو يهوي في حفرة، فانقلب وسقط السيف من يده، وشدت الحبال حول قدميه وكتفيه وأخذوا في إخراجه من الحفرة. وسمع جلبة وقرقعة ودبدبة وصوت وردان ينادي لبيك يا سيدي. فتحول الكمين نحو الصوت وتركوا عند ضرغام من يخفره. وفهم ضرغام أن رجاله أتوا لنجدته من بعيد فزأر زئير الأسد ونادى: «وردان اقطع هذه الحبال.»
فما كان إلا كلمح البصر حتى قفز وردان إليه وقطع الحبال. فلما أفلت ضرغام أخذ سيفه وهجم على الخرمية وأعمل فيهم سيفه فقتل من قتل وفر الباقون ولم تمض ساعة حتى خلت الساحة منهم فصاح ضرغام في رجاله: «هلم إلى السور.» وما أتم كلامه حتى سمع صوتا هائلا كأنه دبدبة جبل يتدحرج، ثم ناداه وردان: «تنح يا سيدي إنهم يرمون بعجلات من أعلى الجبل عليها صخور كبار لا تلبث أن تدحرج علينا ولا تغني الشجاعة في دفعها.»
فتنحى ضرغام وقد كلت ذراعه من الضرب والطعن، ولو لم ينبهه وردان لهرسته واحدة منها؛ إذ لم يمض إلا يسير من الوقت حتى وصلت كالسيل الجارف أو كالرجم المتساقطة أو هي كجلمود صخر حطه السيل من عل.
ولما استقرت العجلات في آخر انحدارها التصق بعضها بالسور بحيث يمكن التسلق عليها إلى سطحه. وشاهد ضرغام ذلك فصاح برجاله: «إلى السور.» وركض أمامهم وسيفه مشرع ولم يكد يفعل حتى رأى ظهر السور قد امتلأ بالرجال وفي أيديهم النبال فأخذوا يرمون الهاجمين بها وهؤلاء لا يبالون وفي مقدمتهم ضرغام وقد وقعت قلنسوته وتمزق قباؤه وتقطعت سراويله. ورآه وردان يصعد إحدى العجلات بقرب الباب ويهم بتسلق السور ففعل فعله، وإذا بباب السور انفتح وخرجت منه فرقة من الخرمية أحاطت بالعجلة ومن عليها وألقوا الحبال على ضرغام ووردان فتحولا وأعملا السيف في الحبال فتقطعت وصاح ضرغام: «ما بالكم تحاربوننا بالحبال أين سيوفكم أيها الأنذال؟»
فلم يجبه أحد وهو واقف على العجلة يعمل السيف فيهم فزلت قدمه فجأة عن خشب العجلة فوقع وارتطم رأسه بحجر ... فلما رآه ورادن شغل به عن نفسه فتكاثر عليهما الرجال فشدوا وثاقهما وحملوهما إلى داخل السور وصعدوا بهما إلى البرج فوق الباب وألقوهما بين يدي رئيس الحامية، فأمر بالماء فرش ضرغام، فلما صحا تحفز ليقبض على سيفه ويهم بالوثوب فإذا هو موثق بين يدي صاحب الحامية، والتفت فرأى وردان إلى جانبه في مثل حاله. فعظم عليه الأمر فصاح في القوم قائلا: «عار عليكم أن تلجئوا في قتالكم إلى الحبال فإن كنتم رجالا فحكموا السيف. اقتلوا ولا تأسروا.» والتفت فرأى قائد الحامية جالسا وعليه القلنسوة والسراويل من لباس الخرمية. وشاهد بين يديه جماعة من رجال الخرمية الذين نجوا من المعركة وعليهم آثار القتال وسمعهم يتكلمون الفارسية وهو يعرفها فخاطب الرئيس بمثل ما قال بالعربية فلم يجبه وأشار إلى رجاله فخرجوا وأغلق الباب وتقدم إلى ضرغام فحل وثاقه ثم وثاق وردان وقال بالعربية: «قم يا ضرغام. قم واجلس.»
فلما سمع ضرغام الصوت أجفل والتفت إلى الرجل وتفرس في وجهه فعرفه فصاح «حماد؟!» قال: «نعم حماد.» فنظر إليه والدهشة بادية في وجهه وقال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «جئت بعد أن تركتني قرب همذان لسبب لا تجهله، وقد جندت في جيش هذا المجوسي للانتقام من صاحبك الظالم، أما كان الأجدر به أن يدخر هذه السيوف للدفاع عنه بدلا من أن تكون عليه؟»
فابتسم ضرغام رغم ما هو فيه من القنوط وقال: «ليس صاحبي ظالما.» ثم تذكر ما وعده من البحث عن جهان فقال: «خفف عنك إني حامل إليك نبأ يسرك فعسى أن تكون حاملا مثله لي.»
فاضطرب حماد وبدت الدهشة في عينيه وقال: «ماذا؟ هل وجدت ياقوتة؟ وأين هي؟»
قال: «نعم وجدتها، وهي الآن بسامرا عند أمي معززة مكرمة.»
فظن حماد نفسه في حلم ، ولم يتمالك عن النهوض وقال: «ياقوتة في منزلك الآن؟» وأكب عليه وقبل رأسه ووجهه وهو يقول: «هل هي في خير وصحة؟ إني أشكر لك فضلك.» ثم تراجع وتغيرت سحنته كأنه تذكر أمرا أزعجه وقال: «ولكني لسوء الحظ لم أوفق إلى خدمتك مثل توفيقك في خدمتي. على أني لم أدخر وسعا في السعي والاستفهام، ماذا فعلت أنت هل وفقت على خبر جهان؟»
قال: «لم أجد وسيلة من الوسائل لم أتبعها وذهب سعيي عبثا.» ثم تنهد وقال: «ليتك تركت رجالك يجهزون علي، إذن لأحسنت إلي؛ لأني لم آت هذه البلاد التماسا للفخر بالفتح أو الكسب بالغزو وإنما أتيت لألقى حتفي وأتخلص من هذه الحياة.» قال ذلك وهو يحرق أسنانه ويتململ.
فشاركه حماد شعوره وأخذ يخفف عنه فقال: «لا تيأس يا صديقي من الفرج فإنه يأتيك وإن حسبته مستحيلا. فقد تعلم ما كان من أمري مع ياقوتة وكيف تركت وطني وأهلي يأسا من العثور عليها، وهذا أنت تحمل لي نبأ سلامتها، فأتاني الفرج من حيث لا أتوقع. ولا أخفي عليك أني صممت بأن أفعل مثلك وعرضت نفسي للقتل، ولكني وفقت إلى أمر هدأ روعي وساعدني على الصبر، فلو وفقت إلى مثله لصبرت صبري. لقد وفقت إلى فتاة تشبه ياقوتة فتعزيت برؤيتها وخفف ذلك كثيرا من لوعة البعد.»
فتذكر ضرغام مشابهة ياقوتة لجهان فقال: «لكني وفقت إلى من تشبه جهان ولكنني لم أشعر بما يخفف اللوعة، بل زاد ذلك في أشجاني!» فاستغرب حماد وقال: «أما أنا فإني أستأنس بشبه ياقوتة استئناسا يكاد يذهب بقنوطي، وإن لم يكن لي سبيل إليها. فقد رأيت لياقوتة شبها في هذه المدينة هي أعز نسائها جانبا وأسماهن حسنا وأمنعهن مقاما، وهي لا تحتجب فتخرج سافرة لا تبالي أن يراها الناس، وكنت كلما نظرتها تيمنت بطلعتها وارتويت برؤيتها.»
وكان وردان جالسا يسمع ولا يشترك في الحديث، فلما سمع حمادا يذكر فتاة تشبه ياقوتة تذكر شبه ياقوتة لجهان، وهم بأن يستوضح حمادا فرأى ضرغام قد سبقه إلى ذلك وقال بلهفة : «أين رأيت شبه ياقوتة؟»
قال: «رأيتها في هذه المدينة في قصر بابك نفسه. لا أظنكم تجهلون الفتاة التي قامت بنصرة بابك وقومت أخلاقه ودفعته من الرذيلة إلى الفضيلة.»
قال وردان: «أظنك تعني جلنار؟»
قال: «نعم إياها أعني، إنها تشبه ياقوتة شبها عجيبا، فكنت إذا رأيتها حسبت ياقوتة أمامي. وكانت تتردد على قصر بابك أو تخرج معه على فرسها سافرة، فلم أشاهد في حياتي أجمل منظرا ولا أكثر هيبة وجلالا منها.»
فأحس ضرغام باختلاج قلبه، ولولا الظلمة المخيمة لرأى حماد الدم يتصاعد إلى وجنتيه. فأطرق لحظة راجع فيها ما يذكره عن ياقوتة وشبهها لجهان فقال في نفسه: «لعلها جهان.» والتفت إلى حماد وقال: «ومن هي جلنار؟ ومن أين أتت؟»
قال: «هي من جملة نسائه، حملت إليه من بلد بعيد كما حمل عشرات من أمثالها، لكنها كانت أكثرهن سلطانا عليه فكأنها سحرته. فبينما ترى رفيقاتها مختبئات في قصر النساء إذا رأين بابك سجدن له تراها راكبة فرسها الأدهم تجول في المعسكر تأمر وتنهي وأمرها نافذ على الكبير والصغير.»
فلما سمع ضرغام قوله: «فرسها الأدهم» انتفض كالعصفور بلله القطر أو هي قشعريرة المفاجأة فهب ناهضا وقال: «فرسها أدهم؟! أين هي بربك أرنيها يا حماد. إنها جهان ولا شك.» فأخذ حماد بلهفته وقال: «ليتها كانت جهان يا صاحبي، ولكنها أخرى اسمها جلنار.»
قال: «قلبي يحدثني بأنها هي، وما دامت تشبه ياقوتة. فإني أعرف أنها هذه شديدة الشبه بجهان. ثم إنك ذكرت أن جوادها أدهم، وأنها حملت من بلد بعيد، وهذه الأوصاف كلها تنطبق على جهان، ولا عبرة بتغيير الاسم. فأنت تعرفني مثلا بضرغام وليس في سامرا أحد يناديني بهذا الاسم، فاسمي عندهم الصاحب. هذه جهان لا شك. لقد ذهب اليأس من قلبي. فقل أين هي الآن؟»
قال: «أظنها في قصر النساء، فإنها تبيت هناك وتخرج عند الحاجة إلى قصر بابك.»
فتنهد ضرغام تنهد الفرج بعد الضيق، وتحول يأسه إلى أمل، ونظر إلى ثيابه الممزقة وهو يهم بالخروج فاستوقفه حماد وقال: «اخلع ثيابك والبس ثياب الخرمية حتى لا ينكرك الناس. وكذلك يفعل وردان، وفي صباح الغد نخرج معا إلى قصر النساء.»
فقطع ضرغام كلامه قائلا: «أأصبر إلى الغد؟ كيف أصبر؟ وهب أني صبرت فهل تصبر المدينة وقد أحدق بها المسلمون من كل جانب ولا يلبثون أن يفتحوها. وهل يخفى ذلك عليك؟»
قال: «لا أستغرب ذلك؛ لأني من جملة قواد بابك، وقد ندبني الليلة لحراسة هذا الباب؛ لأن بعض الجواسيس أنبأه بعزمكم على الهجوم من هذه الناحية، فأتيت في المساء وأقمت الكمناء حتى رأيناكم قريبين، فأمرتهم بالهجوم عليكم وكان ما كان، فهيا بدل ثيابك.» ثم التفت إلى وردان ليقول له أن يبدل ثيابه هو الآخر، فوجده مطرقا غارقا في تأملاته، فقال له: «ما بالك يا صاحبي؟ أمصاب أنت بمثل مصابنا أيضا؟»
فتنهد وردان وقال: «نعم يا سيدي. وستعلم ذلك متى وصلنا إلى قصر النساء وأنا أرى رأي ضرغام؛ أن نسرع الآن بالخروج.»
فأطاعهما، وبعد أن ارتديا زي الخرمية خرج بهما، وأوصى رجاله أن يحرسوا الباب حتى يعود، موهما إياهم أن الأسيرين عنده في جملة الأسرى الذين أخذوا تلك الليلة. وأطل حماد من السور فرأى البذ مضاءة وسمع الضوضاء وسطها فصاح في رجاله فلم يجد منهم أحدا فنادى خادمه فأسرع إليه فقال: «أين الرجال؟»
قال: «ألم تسمع يا مولاي طبل الهجوم؟»
فقال: «كلا.» وكأنه شغل عنه بضرغام ووردان.
فقال الغلام: «ضربت الطبول وصدر الأمر بأن يجتمع الرجال للدفاع عن الباب الشرقي؛ لأن المسلمين هجموا عليه بقيادة قائدهم الأكبر على ما يقال.»
فقال: «الأفشين نفسه؟» قال: «لا أدري.»
فالتفت وردان وضرغام معا إلى معسكر الأفشين فرأيا النار المثلثة موقدة فتأكدا من الهجوم، فقال ضرغام: «هلم بنا إلى القصر.»
ركب كل من حماد وضرغام ووردان جوادا من جياد الخرمية، وأركضوها إلى قصر النساء، فلقوا أهل البلد في هرج وخوف وليس فيهم رجل لم يحمل سلاحه ليدافع عن نفسه، وقد ظنوا حمادا ورفاقه من المغيرين، ثم رأوا نفرا من المسلمين وسط المدينة ينهبون وأصبحوا كلما اقتربوا من الباب الشرقي رأوا المسلمين يتكاثرون فتحققوا أن البلد قد أخذ، فلم يبالوا. ولما وصلوا إلى القصر رأوا جنود المسلمين يخرجون منه حاملين الأمتعة والرياش، ورأوا بعضهم يقود نساء فاختلج قلب ضرغام خوفا على جهان أن تكون في الأسرى، فدخل القصر مع وردان، فقال لهما حماد: «تمهلا حتى أعرف الخبر اليقين من مصدره.» قال ذلك واتجه إلى غرفة بقرب الباب رآها موصدة، فقرعها فلم يسمع جوابا، فكلم الذين في داخلها بلسانهم ففتحت لهم امرأة كهلة أدخلتهم وأغلقت الباب خلفهم وهي ترتعد من الخوف، فقال لها حماد: «ما الذي جرى يا خالة؟»
قالت: «ألم تر ما جرى؟ فتحوا المدينة، وجاءوا إلى هذا القصر فدخلوه ونهبوه وسبوا نساءه ولو لم أختبئ هنا، أو لو كان لي بقية من جمال أو مال لأخذوني فاكتفوا بأخذ حليي وانصرفوا.»
فلما سمع ضرغام قولها: «سبوا نساءه»، ارتعدت فرائصه ولم يكن وردان أقل منه اضطرابا ولكنه كان أصبر منه على كتم شعوره، وأدرك حماد لهفتهما فسأل القهرمانة: «أخذوا كل النساء؟» قالت: «نعم.»
قال: «وجلنار أيضا؟» قالت: «لا ... جلنار لم يأخذوها.»
قال: «أين هي؟» فنظرت إلى رفيقيه وترددت في الجواب كأنها تكتم شيئا تخاف ظهوره، فقال لها: «قولي ولا تخافي.»
قالت: «إن مولاتنا جلنار ورفيقة لها رومية من نساء بابك خرجتا منذ بضعة أيام في مهمة إلى بابك.»
فتصدى لها ودران مستفهما فقال: «وما اسم تلك الرومية يا خالة؟ هل تعرفينها؟»
قالت: «كيف لا أعرفها وأنا قهرمانة هذا القصر أعرف تاريخ نسائه واحدة واحدة؟ فجلنار مثلا لا يعرف أهل البذ عنها شيئا وأما أنا فأعرف أصلها وفصلها منذ حملت إلينا من فرغانة واسمها يومئذ جهان بنت المرزبان، ثم تسمت بجلنار، وأحبت هذه الرومية وصادقتها وتوافق ذوقاهما حتى ذهبتا في هذه المهمة معا.»
فثبت لديهم، أن جلنار هي جهان نفسها، ولم يبق مكان للشك، أما وردان فلم يشف غليله فقال: «سألتك عن المرأة الرومية ما اسمها وهل كان لها اسم غيره؟»
قالت: «اسمها هيلانة ولم تغيره منذ سرقوها من زوجها البطريق في أرمينيا .»
فاضطرب وردان وارتجف وصاح: «هيلانة؟ هي ... هي ... زوجتي!»
وأدرك ضرغام أن وردان بطريق من بطارقة أرمينيا، وأن بابك سلبه امرأته فالتفت ضرغام إليه لفتة تهنئة وعتاب وقال: «أتكون بطريقا وتحملني على ظنك خادما؟ والله، إني رأيت في برديك نفس الرجل الكبير منذ عرفتك.»
فقال: «لجأت إليك ودخلت في خدمة المسلمين في انتظار هذه الساعة حتى أنتقم من ذلك الفاسق الظالم، فأرجو أن يكون قد أخذ ونال جزاء فعلته.»
فقال حماد: «إن لم يكن قد فر فإنه مأسور لا محالة؛ لأن المدينة سقطت وقضي الأمر.» ثم عاد حماد فقال للقهرمانة: «لم تخبرينا يا خالة عن الجهة التي سارت إليها جلنار وهيلانة.»
قالت: «سارتا معا إلى بلاد الروم يستنجدان أهلها على المسلمين. ارتأت جلنار هذا الرأي لنصرة بابك وصحبتها هيلانة؛ لأنها من تلك البلاد وتعرف لسانهم.»
قال حماد: «ومولانا بابك أين هو؟»
قالت: «ليس في البذ الآن ولا هو أسير.»
قال: «فأين هو؟ أخبرينا لا تخافي فإن البذ دخل في حوزة المسلمين، وهم أبقى لنا من سواهم. وأنا أعلم أنك أخبر الناس بما يعمله بابك.»
قالت: «بقي بابك في المعركة يناضل ويدافع حتى تحقق سقوط المدينة فأتاني واصطحب من شاء من نسائه مع أحمال من الطعام والشراب، وأظنه غادر المدينة وأوغل في أرمينيا.»
فنظر حماد إلى ضرغام كأنه يسأله عما يفعلون فقال: «ننصرف.» ثم خرجوا يلتمسون مكانا يتشاورون فيه، وقد لاح الصباح. فقادهم حماد إلى مكان يعرفه وشاهدوا في طريقهم جند المسلمين ينهبون المدينة ويهدمون بيوتها ويحرقون قصورها حتى لا يبقى فيها ملجأ لعدو أو صديق.
ولما وصلوا إلى المكان قال ضرغام: «ماذا يرى البطريق وردان فيما نحن فيه؟ لقد ذكرت القهرمانة أن جهان وهيلانة ذهبتا إلى بلاد الروم. وهي بلاد واسعة، فلو عرفنا البلد الذي تنزلانه لقصدنا إليه.» فضحك وردان لتسميته بالبطريق وقال: «لا حاجة بي إلى هذا اللقب، يكفيني أني صديق ضرغام. وأما جهان وهيلانة فأذن لي أن أضرب في البلاد طولا وعرضا أبحث عنهما ولا أعود حتى أعرف مقرهما .»
فقطع حماد كلامه وقال: «كلا ... لا يذهب أحد في هذه المهمة سواي، إن لضرغام يدا عندي؛ فقد أنقذ خطيبتي واحتفظ بها في بيته مكرمة معززة، فإذا لم أجازه على عمله كنت لئيما. دعني أذهب وحدي أبحث وأفتش ومتى وقفت على شيء بعثت إليكما.»
فقال ضرغام: «ليس من العدل أن تكون عالما بمكان ياقوتة وهي في لهفة للقياك وتذهب في مهمة أخرى.»
قال: «لا تجادلني. لست راجعا إلى أهلي قبل أن آتيك بأهلك وأهل هذا الصديق الأرمني. لقد سررت بمعرفته سرورا كثيرا. وأما ياقوتة فتبقى عندك في سامرا. ويكفي أن تبشرها باللقاء القريب.»
فقطع وردان كلامه وأخبره بما كان الخليفة قد أمر به ضرغاما من التزوج بها. وبأن ضرغاما أوهم الخليفة بأنه تزوجها. فصاح حماد وقد ثارت الأريحية في رأسه قائلا: «وهل بعد هذا يستعظم أن أبحث عن عروسه؟»
فقال: «إذن أسير معك؛ لأني أعرف البلاد ولغتها وطرقها.» فقال: «لا حاجة بي إلى أحد منكما، أستودعكما الله من هذه الساعة.» قال ذلك وخرج.
فلما خلا ضرغام إلى وردان قال: «أحسبني في منام يا وردان، إن الفرق بين اليوم والأمس كالفرق بين الرجاء واليأس، ولكن ...»
فقطع وردان كلامه وقال: «وأنا أحسبني انتقلت من الجحيم إلى النعيم؛ لأني كنت شديد الشغف بامرأتي، وبلغ من قحة ذلك الوحش الكاسر أن طلب مني أن أطلقها ليتزوجها، فلما أبيت بعث جندا حملها إليه بالقوة! قبحه الله من مجوسي فاسق. والها لو ظفرت به لأشربن دمه.»
فقال ضرغام: «لعل الأفشين ظفر به ونحن لا ندري فهلم بنا إلى المعسكر.»
الفصل التاسع عشر
مصرع بابك
كان الأفشين قد أحسن إعداد الهجوم حتى فتح البذ وقتل الخرمية على بكرة أبيهم وأخذ أولاد بابك وعياله، إلا جهان وهيلانة؛ لأنهما كانتا غائبتين وبعد أن أحرق المدينة وتحقق فرار بابك عاد إلى معسكره في «روذ الروذ» وقد ساءه أنه لم يظفر بجهان ولا علم مكانها. فارتاب في أقوال سامان، وخطر بباله أنه فر بها.
وكان بين الأسرى كثيرون من العرب والفرس وأبناء الدهاقين ، فأمر بهم فجعلوا في حظيرة كبيرة وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم فكان كل من جاء وعرف امرأة أو صبيا أو جارية وأشهد شاهدين أخذه. فأخذ الناس منهم خلقا كثيرا.
وكتب الأفشين إلى ملوك أرمينيا وبطارقتهم بأن بابك هرب، وأمرهم بحفظ نواحيهم ومراقبة طرقه، وندم على تفريطه في ضرغام وهو يظنه قتل لأن بعض الفراغنة الذين كانوا معه أخبروه أنه أخذ أسيرا أو مات؛ لأنهم رأوه محمولا بين حي وميت ولم يجدوه بين القتلى.
وفي اليوم التالي عاد ضرغام مع وردان إلى معسكر المسلمين فرحب به الأفشين وهنأه بالسلامة وأطرى ما سمعه عن بسالته ليلة الهجوم وبالغ في الإطراء حتى يبعد عنه مظنة السوء. اختصه بالشورى في الشئون الهامة وأهمها يومئذ فرار بابك. وأخبره بما فعله في سبيل القبض عليه.
فقال ضرغام: «إن خادمي وردان أرمني الأصل والوطن، وهو يعرف هذه البلاد فاستخدمه لهذا الغرض. وإذا شئت أتيتك به الساعة.»
قال: «افعل.» فنادى غلاما أمره أن يستقدم وردان، وكان خارج الفسطاط، فلما دخل حيا ووقف فقال له الأفشين: «أتعرف طرق أرمينيا ومسالكها يا وردان؟»
قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «أين تظن الخرمي يختبئ وإلى من يلتجئ؟»
قال: «لا أظنه يلتجئ إلى بلد؛ لأن أهل أرمينيا يكرهونه ويريدون قتله، ولكنني أحسبه يختبئ في بعض الغابات أو الأودية وأشهرها الوادي الأكبر المسمى الغيضة، وهو كثير العشب والشجر بين أذربيجان وأرمينيا لا يمكن الخيل نزوله، ولا يرى من يختفي فيه لكثرة شجره.»
فاستفاد الأفشين من هذه المعلومات، وبعث جواسيسه للبحث في تلك الغيضة فعادوا إليه وأكدوا له اختباء بابك هناك. وكان الأفشين قد بعث إلى المعتصم ليستكتبه كتاب أمان لبابك. فلما جاء كتاب الأمان دعا الأفشين بعض الذين أمنهم من أصحاب بابك وأعلمهم بذلك وأمرهم أن يسيروا إليه بالكتاب وفيهم ابنه، فلم يجسر أحد منهم خوفا منه، فقال: «إنه يفرح بهذا الأمان.» فقالوا: «نحن أعرف به منك.» فقام رجلان فقالا: «اضمن لنا رزق عيالنا إذا هلكنا ونحن نذهب إليه.» فضمن لهما ذلك، فسارا بالكتاب حتى أتياه وأعلماه بما قدما فيه، فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين. وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابا فقال لذلك الرجل: «أبلغ ابن الفاعلة أنه لو كان ابني للحق بي، ولكنه ليس ابني، ولأن تعيش يوما واحدا رئيسا خير من أن تعيش أربعين سنة عبدا ذليلا.» وقعد في موضعه. فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده وخرج من بعض تلك الطرق، ومعه بعض رجاله، فلم يجد أحدا من الجند الذين أرسلهم الأفشين لمحاصرته، وظن بابك أن القوم يئسوا من القبض عليه فرحلوا. فسار هو وعبد الله أخوه، وأمه وامرأة أخرى، يريدون أرمينيا، فرآهم بعض الحراس فأرسلوا إلى الجند المكلف بتعقبه. وكان أبو الساج هو المقدم عليهم، فلحق بهم وقد نزلوا على ماء يتغذون. فلما رأى بابك العساكر ركب هو ومن معه فنجا وأخذ أبو الساج أم بابك والمرأة الأخرى فأرسلهما إلى الأفشين، وسار بابك في جبال أرمينيا مستخفيا، وكان بطارقة أرمينيا يراقبون سبله فاحتال بعضهم حتى خدعه وأدخله حصنه، وأرسل إلى الأفشين يعلمه بذلك، فبعث الأفشين يعده ويمنيه وهو يأبى الاستسلام. ثم احتال صاحب الحصن عليه حتى أخرجه بحجة الصيد وأنبأ الأفشين بخروجه فتمكنوا من القبض عليه ومعه أخوه عبد الله وحملوهما إلى الأفشين.
فلما قرب بابك من المعسكر صعد الأفشين وجلس ينظر إليه، وصف عسكره صفين، وأمر بإنزال بابك من فوق دابته فنزل ومشى بين الصفين، فأدخله بيتا في برزند، ووكل به من يحفظه، وأنعم على الذين أسلموه، وكتب إلى المعتصم بذلك. فأمره بالقدوم إليه به وبأخيه، فانتقل بهما في جنده وحاشيته من بزرند إلى سامرا (سنة 623ه). وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم رسولا يحمل إليه خلعة وفرسا، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم. وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة، فأتاه أحمد بن دؤاد متنكرا، فنظر إلى بابك وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فأتاه أيضا متنكرا فرآه. فلما كان الغد قعد المعتصم واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، فشهره المعتصم وأمر أن يركب على الفيل فركب عليه واستشرفه الناس إلى باب العامة. فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعادته
يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه
إلا لذي شأن من الشان
ثم أدخل بابك دار المعتصم، فأمر بإحضار سياف بابك فحضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما، فسقط فأمره بذبحه ففعل. وشق بطنه وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا. وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمره أن يفعل به ما فعل هو بأخيه بابك ففعل وضرب عنقه وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين. وكان ذلك آخر عهد الخرمية.
وكان ضرغام ووردان في جملة الذين رجعوا مع حملة الأفشين وشاهدا قتل بابك فاشتفيا بقتله، وود ضرغام لو أنه قتله بيده في المعركة. وحال وصولهم إلى سامرا سار ضرغام إلى منزله وقبل يد أمه وسلم على ياقوتة وبشرها بلقاء حماد، فلم تعد تعرف كيف تشكره. ثم أخبر أمه بطرف من خبر جهان وبأنها ذهبت إلى بلاد الروم وأن حمادا أبى إلا أن يبحث عنها بنفسه. قال ذلك وياقوتة حاضرة، ونظر إليها وابتسم وقال: «أظن هذا الخبر يسوءك. ولكنه أبى إلا الذهاب.»
فتوردت وجنتاها خجلا وأطرقت وقالت: «مهما نفعل فإننا لا نفي ببعض فضلك، فقد أنقذتني من القتل والعار وكفلتني.»
فقطع كلامها قائلا: «لم أقم إلا ببعض ما وجب طبقا لإشارة أمير المؤمنين فنحن عبيده وعلينا طاعته.»
ورأى ضرغام في وجه ياقوتة تغيرا وفي عينيها ارتباكا كأنها تهم بشيء يمنعها الحياء من ذكره فسألها عما بها فقالت: «أذكرني تفانيك في نصرة أمير المؤمنين شيئا لحظته خلال إقامتي ببيت الحارث السمرقندي، وأخشى منه على حياة أمير المؤمنين. فقد فهمت أن هناك قوما يتآمرون على حياته.»
فلم يشأ ضرغام أن يعير الأمر اهتماما فقال: «إننا لا نحفل بما يكيده بعض الخونة لأمير المؤمنين فمعظم ما يأتمرون به لا يترك أثرا، وسببه على الغالب جهل بعض أهل الخليفة الأقربين فيزين لهم ذوو المطامع من الوزراء أو القواد أن يسعوا إلى الخلافة ليستفيدوا هم من انتقالها من يد إلى يد، وهذا العباس ابن المأمون قد حسن له بعضهم أن يطالب بالخلافة لنفسه ولا ينالها إلا إذا قتل المعتصم، فهم يتآمرون ويتواطئون على قتله ولكنهم لا يفلحون، وسيرد كيدهم إلى نحورهم.»
فلما سمعته أمه أشرق وجهها وابتسمت وقالت: «بورك فيك يا بني، هكذا الأمانة، وهكذا الرجال.»
ثم لبس سواده وذهب للسلام على المعتصم وعنده الأفشين وغيره من كبار القواد، فلما دخل عليه هش له وقال: «مرحبا بالصاحب البطل الهمام. بلغنا ما كان من بلائك في الأعداء وما أبديته من البسالة والهمة بورك فيك. ألا تزال ترى لقب الصاحب كثيرا عليك؟» وأشار إليه بالجلوس قريبا منه.
فأطرق خجلا وقال: «إن العبد لا يستأهل أجرا إذا قام بخدمة مولاه، ويكفيه رضاه عنه.»
فالتفت الخليفة إلى الأفشين فقال هذا: «يندر يا أمير المؤمنين أن نرى مثل الصاحب في الشجاعة وصدق الخدمة.» وأخذ يطري أعماله يريد أن يمحو ما يخشى أن يكون قد خامره من إساءة الظن به. وعاد الخليفة نفسه إلى الثناء عليه، وأمر له بالهدايا والخلع. ولما انفض المجلس عاد ضرغام إلى منزله وعادت إليه هواجسه في شأن جهان. ولبث في انتظار ما يأتيه من حماد، فكان يقضي أكثر أيامه مع وردان يتحادثان فيما عسى أن يكون من أمر جهان وهيلانة.
وشاع في هذه السنة في سامرا أن «تيوفيل» ملك الروم خرج إلى بلاد الإسلام. وسمع بذلك ضرغام. فأرسل إلى صديقه وردان فجاء، فأخذا في تقليب الرأي فيما هو حادث وما قد يحدث، فقال له وردان: «إني أرى فتح البذ سبب خروج الروم لقتال المسلمين، فقد أنبأني بعضهم أن بابك لما ضيق عليه الأفشين وأشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم بأن جنود المسلمين مشغولون به، فالفرصة سانحة أمامه لاكتساح مملكة الإسلام، وربما كان لجهان يد في هذا التوجيه.»
قال: «تحدثني نفسي أنها مع هيلانة هناك.»
قال: «لو كانتا هناك لجاءنا الخبر من حماد ، فإنه يبحث عنهما حيث يكون ملك الروم. ولا بد من الصبر.»
قضى ضرغام في ذلك أياما على مثل الجمر حتى جاءه وردان ذات يوم مهرولا، وأومأ إليه أن يتبعه، فتبعه حتى انفردا في بعض جوانب الحديقة، ثم دفع إليه أسطوانة ملفوفة بمنديل من الحرير فحل المنديل وفتح الأسطوانة، فرأى فيها كتابا من الكاغد قرأ في صدره اسم حماد فخفق قلبه، وأخذ يتلوه وهذا نصه.
من حماد في عمورية إلى الصاحب ضرغام في سامرا
لقد طال سكوتي عليك، وأظنك مللت الانتظار، ولكني مكره على هذا؛ فإني قضيت أشهرا أبحث على غير هدى إلى أن بلغني أن تيوفيل ملك الروم قادم على «زبطرا»، فهممت بأن ألقاه هناك لعلي أجد ضالتنا، فما كدت أبلغ البلد حتى علمت أن الروم اكتسحوه وخربوه وسبوا النساء والأطفال. ثم أغاروا على «ملطية» وغيرها من حصون المسلمين وسبوا المسلمات ومثلوا بمن أخذوا من المسلمين؛ فسملوا أعينهم وقطعوا أنوفهم وآذانهم، وقد شاهدت بعض أولئك المجدوعين ورأيت الناس قد خرجوا من بلادهم في الشام والجزيرة فرارا من وجه الروم إلا من لم يكن له سلاح أو دابة. فلما رأيت ذلك عدلت عن الذهاب إلى «زبطرا» وتذكرت أن «ناطس» بطريق عمورية كان قد زار البذ في عهد بابك وعرف جهان. ولعها ذهبت إليه. وقد صدق حدسي؛ لأني علمت عندما دخلت عمورية أن جهان وهيلانة جاءتا رأسا من البذ للسعي في حمل البطريق ناطس على أن يتوسط لدى ملك الروم في نجدة بابك، فأنزلهما ناطس في قصره ووعدهما خيرا، ثم جاء الخبر بسقوط البذ وقتل بابك، فلم يبق لهما مأرب في أرمينيا كلها فبقيتا في عمورية. وقد حرص عليهما هذا البطريق حرصا شديدا ولا سيما جهان، وضيق عليهما فلا يسمح لهما بالخروج. ولعل جهان رضيت بالأسر عن طيب خاطر؛ إذ يئست من لقائك. وقد حاولت الاتصال بها لأطلعها على حالك وأبشرها بقرب لقائك فلم يتيسر لي؛ لأن القوم هنا شديدو الحذر من المسلمين، وإذا أساءوا الظن بأحد منهم قتلوه ومثلوا به كما فعلوا بأهل «زبطرة». فجهان وهيلانة مسجونتان الآن في قصر «ناطس» بطريق عمورية، وسأبذل جهدي في إبلاغ خبرك إليهما وإن كنت لا أتوقع نجاحا عاجلا.
وقد علمت أن الروم ينوون اكتساح مملكة الإسلام، فالذي أراه أن يسبقهم المسلمون ويكتسحوا بلادهم، وهذه عمورية التي تعد أمنع حصونهم لا أراها تمتنع على المسلمين لعلمي بمواضع الضعف في أسوارها، ولا أخالك بعد كتابي هذا إلا محرضا صاحبك على فتحها، فإذا فعلت فاجعل رايتك قطعتين مستطيلتين حتى أعرفها إذا نزل معسكركم أمام عمورية وأعرف مكانك والسلام.
وما فرغ ضرغام من قراءة الكتاب حتى تصبب العرق من جبينه وهاجت أشجانه وثارت عواطفه، ودفع الكتاب إلى وردان فقرأه وقال: «أرى أن قد تحتم المبادرة إلى العمل، ولا بد من ذهابي إلى عمورية.»
قال: «لا فائدة من ذهابك؛ فإن المرأتين في إطار أضيق مما قرأته في هذا الكتاب، وقد أراد صديقنا حماد تخفيف الخبر. ألم تقرأ قوله: «إن ناطس حرص عليهما حرصا شديدا ولا سيما جهان»، إنه يعني أن هذا البطريق أحب جهان فاستبقاها لنفسه، فلا تجدي الحيلة في إنقاذها منه ولا بد من القوة. وقد أشار حماد إلى ذلك تلميحا في أواخر كتابه.»
فقال وردان: «إذا كان لا بد من الحرب فلا يثيرها سواك بما لك من المنزلة عند الخليفة.» فنهض ضرغام لساعته تاركا وردان في مكانه ومضى إلى داره فلبس سواده والقلنسوة وخرج يقصد دار الخليفة فاستأذن فقال له الحاجب: «إن أمير المؤمنين في خلوة مع القاضي أحمد.» فقال: «استأذن لي أيضا.»
فلما أذن له دخل وسلم، فرأى القاضي أحمد جالسا بجانب سرير المعتصم والاهتمام باد في وجهيهما. فلما دخل ضرغام رحب به الخليفة قائلا: «جاءنا الصاحب في إبان الحاجة إليه فقد كنت عازما على دعوتك.» وأشار إليه بالجلوس.
فجلس وقال: «إن نفسي حدثتني بأن هناك ما يدعو إلى مجيئي؛ لأني لا أفتأ أفكر في مولاي، أشاركه آماله فتتلاقى خواطرنا.»
فقال القاضي: «بلغني رضاء أمير المؤمنين بما أبديته من البسالة في فتح البذ، وقد سرني صدق توسمي فيك ، فأصبحت ذا منزلة لدى مولانا يعول على رأيك وسيفك.»
فأطرق ضرغام تأدبا ولم يجب. فأتم الخليفة الحديث قائلا: «جاءنا البريد من بلاد الروم بأن تيوفيل اللعين نزل «زبطرا» و«ملطية» وأساء إلى أهلهما وارتكب فيهما كل قبيح مما لم يألف المسلمون مثله.» فقال ضرغام: «هل يطلب أمير المؤمنين رأيي؟» قال: «نعم.»
قال: «لا أرى لي غير السيف كما عودهم الرشيد من قبل. فأحمل عليهم ودوخهم واكتسح بلادهم. إن الإسلام لا يصبر على ما فعله تيوفيل من سمل العيون وجدع الأنوف وسبي النساء. جرد يا أمير المؤمنين جندك فيعودون من ظفر إلى ظفر آخر وأنا عبدك أول المتطوعين في هذه الحرب. وإذا صبر أمير المؤمنين على سمل عيون المسلمين فلا أخاله يصبر على سبي المسلمات!» وكان ضرغام يتكلم وعيناه تقدحان شررا وشفتاه ترتجفان، وأحس أنه بالغ في الجرأة بين يدي الخليفة، ولكنه لم ينتبه إلا بعد أن فرغ من كلامه. ورفع بصره إلى المعتصم فرآه وقد تغير وأبرقت عيناه وخالطهما احمرار من الغضب. واضطرب في مجلسه وثبت بصره في ضرغام وهو يتكلم فهاجت حماسته وأصبح كالأسد في بطشه وسلطانه. فخاف ضرغام أن يكون قد أغضب المعتصم بجرأته، فأراد أن يستأنف الكلام للاعتذار فقطع القاضي أحمد كلامه قائلا: «لقد نبهت حمية أمير المؤمنين إلى مصلحة المسلمين وما هو بغافل عنها، وإنه ليسره أن يرى ذلك في رجاله وأبطاله.»
فقال المعتصم: «إن الصاحب تكلم بلساني وعبر عن جناني. وسآمر الأفشين والقواد الآخرين بالتأهب لحرب بعد أن أستخير الله فيها. إنها جهاد في سبيل الإسلام.» ثم قال: «موعدنا غدا إن شاء الله.» فانصرف القاضي وضرغام.
مشى ضرغام إلى منزله وقد هاجت عواطفه، وكان وردان في انتظاره فقص عليه ما جرى فسره الأمر ولكنه خاف أن تئول تلك الاستخارة إلى العدول عن القتال. وفي الصباح التالي جاء غلام الخليفة مبكرا في طلب الصاحب. فمضى حتى دخل على الخليفة، فرآه في بهو خاص لا يجلس فيه للناس وهو بثوب النوم وقد التف بمطرف. وآنس في وجهه انقباضا. فأوجس خيفة ولكن المعتصم أمره بالجلوس، فجلس فقال له الخليفة: «أتدري لماذا دعوتك وأدخلتك علي وأنا في هذه الحال؟» قال: «كلا يا مولاي.»
قال: «نهضت من فراشي منذ هنيهة بعد أن استيقظت منزعجا مضطربا.» قال: «خيرا إن شاء الله.»
قال: «صليت العشاء أمس وتوسلت إلى الله أن يلهمني ما فيه خير المسلمين من أمر الروم، ثم نمت فرأيت في رؤياي ما أطار صوابي وأذهب رشدي.»
فظل ضرغام مصغيا يتطاول بعنقه. فمسح المعتصم لحيته وشاربيه وأصلح عمامته الصغيرة على رأسه وقال: «قلت إني رأيت، والحقيقة أني لم أر شيئا، ولكني سمعت صوتا اخترق أعماق قلبي. سمعت امرأة هاشمية أسيرة في بلاد الروم تصيح: «وا معتصماه!» فأجبتها: «لبيك»، واستيقظت وقد علمت أن الله يأمرني بالجهاد وأن أكون على رأس المجاهدين، فخذ أهبتك للسفر وسآمر قوادي يتأهبوا. هل أثق بجندي؟»
فتذكر ضرغام ما كان يبديه من الارتياب في إخلاص الأفشين فقال: «لا سبيل إلى تحقق ذلك، وقد علم أمير المؤمنين أنهم إنما يحاربون في سبيل حطام الدنيا، وقد فتحوا البذ وقضوا على الخرمية وسيفعلون ذلك بالروم.»
فقال المعتصم: «يخيل إلي أنهم لولا ذهابك لم يفتحوه إلا بعد أعوام.»
فخجل من الإطراء وقال: «إذا كان لأمير المؤمنين ثقة بعبده فليجعلني في هذه الحملة ولا يخشى غدرا بإذن الله.»
قال: «وما رأيك في البلد الذي نقصده من بلاد الروم؟»
قال: «إن الصوت الذي سمعته يا أمير المؤمنين خرج من عمورية وهي من أكبر مدائن الروم وعين النصرانية، وفي فتحها نفع للمسلمين.»
قال: «أحسنت.» وتحفز للنهوض، فخرج ضرغام مسرعا إلى وردان يبشره وأخذ في الاستعداد.
الفصل العشرون
فتح عمورية
أعد المعتصم جنده للقتال، وجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد ومعه 328 رجلا هم أهل العدالة فأشهدهم على ما وقفه من الضياع، جاعلا ثلثه لله، وثلثه لولده، وثلثه لمواليه. ثم تجهز إلى عمورية بالسلاح والعدد والآلات وحياض الماء والروايا وغير ذلك، وجرد جيشا عظيما بلغ تسعمائة ألف مقاتل. عليه من القواد الأفشين وأشناس وغيرهما . وخرج المعتصم نفسه على دابته وخلفه حقيبة فيها زاد تشبها بالمجاهدين في صدر الإسلام.
وفرق جنوده في جهات مختلفة من بلاد الروم حتى التقوا قرب أنقرة وعزموا على المسير إلى عمورية. فأمر المعتصم بتعبئة الجند فجعله ثلاثة معسكرات أحدهما في الميسرة وعليه أشناس التركي، والثاني في الوسط وفيه المعتصم نفسه، والآخر في الميمنة وقائده الأفشين. وجعل بين كل معسكر ومعسكر فرسخين. وأمر بأن يكون كل معسكر ميمنة وميسرة، وبأن يحرقوا ما يصادفهم من القرى ويخربوها ويأخذوا من فيها. ثم ترجع كل طائفة إلى موضعها فيما بين أنقرة وعمورية وبينهما سبع مراحل. ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية وكان أول من أتاها أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين. فداروا حولها وقسمها المعتصم بين القواد وجعل لكل واحد منهم أبراجا منها على قدر أصحابه.
وكان ضرغام في معسكر المعتصم، والمعتصم يقربه ويكرمه، وكان في حاشيته أيضا الحارث السمرقندي وقد أخذ الحسد منه مأخذا عظيما لما شاهده من منزلة ضرغام عند الخليفة، وضرغام لا يكترث وإنما همه أن يوفق إلى إنقاذ جهان، وكذلك كان وردان يتوق إلى لقاء هيلانة.
وحينما حطا رحالهما هناك، صعدا إلى رابية أطلا منها على عمورية فرأياها مدينة كثيرة الأبنية واسعة الأرجاء حولها سور عال عليه الأبراج الضخمة وله الأبواب المتينة، ورأيا بين الأبنية قصرا تخفق عليه الرايات، فعلم ضرغام أنه قصر البطريق وأن جهان فيه، فتنهد ونظر إلى وردان فرآه مطرقا فسأله: «أليس هذا قصر البطريق؟» قال: «بلى، هذا هو بعينه.»
قال: «إذا صح قول حماد فإن جهان وهيلانة محبوستان فيه، وأرى المدينة حصينة، ولكنها لا تمتنع علينا بإذن الله. هل أعددت الراية المزدوجة التي أوصانا حماد بها؟»
قال: «نعم أعددتها ولكن كيف السبيل إلى نشرها ونحن في معسكر المعتصم تحت رايته.»
قال: «ننشرها في مكان منعزل عسى حماد أن يكون في انتظار رؤيتها كما ذكر في كتابه.»
قال: «غدا أقف لها على هذه الرابية نحو ساعة لنرى ما يكون.» وعاد إلى المعسكر.
وفي اليوم التالي عقد المعتصم مجلسا حضره القواد ورجال خاصته وفيهم الصاحب والحارث السمرقندي، وأخذوا في وضع خطة القتال. ولما أذن المؤذن لصلاة الظهر تفرقوا ودخل الخليفة فسطاطه وأشار إلى الصاحب أن يأتيه صباح الغد، فرجع إلى فسطاطه فرأى وردان في انتظاره وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما فسأله عن الراية فقال: «وضعتها على الرابية.»
فقال: «كيف تركتها وما لي أراك متجهما؟»
قال: «تركتها لأمر أهم منها.»
قال: «وما ذلك؟»
قال: «رأيت سامان اللعين في معسكر الأفشين مقربا منه ملحوظ المنزلة، فلم أستطع الصبر على رؤيته وحدثتني نفسي أن أبطش به.»
قال: «لا تفعل، إننا في موقف يقتضينا جمع الكلمة. فإذا رفعت يدك على سامان أغضبت الأفشين فتوقظ الفتنة في الجيش، فاترك سامان إلى وقت آخر، وامض إلى الرابية وراقب الأسوار وامكث هناك ليلا.»
فمضى وردان لشأنه، وما خلا ضرغام إلى نفسه حتى أخذ يفكر في حاله؛ متنقلا بخياله من جهان إلى أمه إلى حماد إلى الأفشين، حتى أخذه النعاس فنام واستيقظ على صوت وردان يناديه، ففتح عينيه فإذا هو في المساء وقد أظلمت الدنيا فظن أن وردان جاء يبشره بلقاء حماد فقال: «هل أتى حماد؟» قال: «كلا.»
قال: «وكيف عدت وتركت الراية؟!»
قال: «تركتها لأمر لم أستطع كتمانه إلى الغد، ولا بد من أن تعلمه قبل أن تذهب في الصباح إلى المعتصم.»
قال: «وما هو؟ قله بكلمتين وإلا فدعني أرافقك إلى الرابية أساهرك وتقصه علي هناك.»
قال: «ليس حديثي طويلا لكنك إذا صحبتني إلى الرابية كان هذا أجدى.»
فنهض ضرغام ولبس ثيابا لا تميزه عن سواه من الجند وخرج مع وردان، وكانت الرابية واقعة بين معسكر المعتصم وبين معسكر أشناس، فمرا بكثير من الفساطيط بين مضيء ومظلم، فقال ضرغام: «أراك تسير بي في غير الطريق المستقيم.»
فقال: «أريد أن أريك شيئا طريفا. هل تعرف هذا الفسطاط إلى يسارنا؟»
قال: «أعرفه، هو فسطاط العباس بن المأمون. ما لنا وله؟»
قال: «اكتشفت سرا لو عرفه المعتصم لقلب المعسكر رأسا على عقب!» قال: «ما هو؟»
قال: «لما عدت من عندك هذا النهار، مررت من هنا فرأيت الحارث السمرقندي خارجا من هذا الفسطاط وقد خف العباس لوداعه وبالغ في إكرامه، فقلت في نفسي: «لأمر ما هذا الإكرام؟» وأنا أعلم أن السمرقندي ناقم على المعتصم لأخذه ياقوتة منه، ولما رآه من تقديمه إياك. ولا يخفى عليك ما في نفس العباس بن المأمون على المعتصم؛ لأنه أخذ الخلافة منه، وكان بعض القواد يريدونها له، ولكنه جبن عن طلبة البيعة فنالها المعتصم. وقد سمعت وأنا في سامرا أن الحارث السمرقندي كان من الساعين في خلع المعتصم ومبايعة العباس، لكنهم تهيبوا الإقدام على هذا الأمر خوفا من الجند، فلما رأيت الحارث خارجا من فسطاط العباس اليوم حدثتني نفسي بأمر ذي بال بينهما.»
وكان وردان يقص حديثه همسا حتى وصلا إلى الخيمة المنصوبة على الرابية والليل مظلم، فرأى ضرغام رجلا نائما عند باب الخيمة وله شخير كخوار الثور وشم رائحة الخمر فقال: «من هذا؟ كأني أشم رائحة الخمر!»
قال: «هذا ناقل السر إلي، وهو من عبيد الحارث عرفته في سامرا فاحتلت في دعوته إلي وسقيته خمرا حتى سكر وقص علي الحديث الغريب الذي سأقصه عليك، فهل تدخل الخيمة أم أتم الحديث خارجها؟ إني والحق يقال لا أرى لحراسة الراية في هذه الظلمة فائدة؛ لأن الظلام يحول دون رؤيتها على عشر أذرع فكيف من عمورية؟»
قال: «صدقت ليس القصد أن يراها حماد من هناك ليلا، ولكنه قد يراها ساعة الغروب ويحتال في الخروج بعد قليل فلا يراها أو ربما وقع بصره عليها في صباح الغد فيأتي وأنت لا تزال عندها. اقصص علينا ما سمعته من العبد.»
فمشى وردان إلى صخرة على بضع أذرع من الرابية وضرغام يتبعه، فجلسا وأخذ يقص عليه فقال: «أخبرني العبد أن سيده الحارث اتفق مع العباس على أن يكون رسوله إلى القواد في هذا المعسكر، وبعضهم تحت قيادة الأفشين وبعضهم من رجال أشناس وآخرون من جند المعتصم؛ ليأخذ البيعة له منهم، فأخذ يدور بالمعسكرات الثلاثة حتى بايعه نفر من القواد وفيهم جماعة من خاصة المعتصم، وقال لكل من بايعه: «إذا أظهرنا من أمرنا فليثب كل منكم على الأمير الذي هو معه ويقتله»؛ فوكل من بايعه من خاصة المعتصم أن يثبوا في الأجل المضروب على المعتصم ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة الأفشين أن يثبوا على الأفشين ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة أشناس أن يقتلوه. وهكذا.»
وكان ضرغام يسمع كلام وردان مطرقا يهز رأسه استغرابا ويقول: «قبحهم الله من خونة مارقين.»
فقال وردان: «إني أرى العباس أعقلهم جميعا فقد فهمت من محدثي أنه لم يوافقهم على تنفيذ المكيدة الآن خوفا من تضييع الفتح، فأحببت أن أطلعك على ما سمعته وأنت ذاهب غدا إلى الخليفة فتنقله إليه إذا شئت.»
قال: «كلا يا وردان. لا ينبغي أن يعلم الخليفة ذلك وإلا فإننا نجر على المسلمين ما نتحاشاه من الفتنة، ولكننا نكتمه إلى حينه، ولا سيما أنهم أجلوا تنفيذه. ويكفي أن نسهر على حياة أمير المؤمنين.»
فأعجب وردان بأريحية ضرغام وقال: «بورك فيك يا بطل. هذا هو الرأي الصواب.»
قال ضرغام: «ولكنك أخطأت؛ إذ بقيت العبد هنا فإذا صحا عرف المكان وربما وشى بك، والأحسن ألا يعرفه، فانقله الآن وهو بين السكر والنوم وأنا أمكث هنا حتى تعود.»
قال: «أصبت.» ونهض وأخذ في إيقاظ العبد وهو لا يصحوا فجعل يوقفه أو يقوده أو يجره حتى بعد به عن فسطاطه واقترب من فسطاط العباس فألقاه هناك ورجع، وكان الليل قد انتصف ونام من في المعسكر.
فلما عاد إلى ضرغام قال له هذا: «أنا ذاهب إلى خيمتي فامكث هنا حتى الصباح.» قال: «سمعا وطاعة.»
اتجه ضرغام نحو فسطاطه وهو غارق في تفكيره، وقبل أن يصل إليه سمع لغطا بينه وبين السور، فالتفت فرأى جماعة من حراس المعسكر يقودون رجلا أمسكوا بخناقه وهو يقول: «خذوني إلى الصاحب.»
فلما سمع صوته أجفل؛ لأنه صوت حماد، فأسرع إلى فسطاطه ولبث في انتظار وصولهم، وبعد قليل دخل أحدهم وقال: «أخذنا جاسوسا دخل المعسكر من جهة المدينة وزعم أنه قادم إليك.» قال: «أدخلوه.»
فدخل فتبينه فإذا هو حماد بعينه فقال: «دعوه.» فتركوه ورجعوا. فلما خلا إليه حياه ورحب به وأجلسه بجانبه وسأله عن جهان فقال: «لا تزال عند البطريق.»
قال: «ألم تنقل خبرنا إليها؟»
قال: «كلا. لم أستطع الظهور قط، ولما رأيت جندكم بالأمس تطلعت إلى الأعلام فلم أر الراية المزدوجة إلا هذا المساء، ولم أستطع الخروج إلا الآن بحيلة شيطانية فتهت عنها، ولما أخذني الحراس طلبت إليهم أن يحملوني إليك كما ترى.»
قال: «أهلا وسهلا. فجهان لا تزال في قصر ناطس؟»
قال: «نعم وهيلانة معها، والرجل شديد الحرص عليهما، ولا تغضب، فإنك ظافر بما تريد عن قريب.»
قال: «وكيف ذلك؟ إني أرى الأسوار منيعة وسيطول الحصار على ما أرى.»
قال: «سأجعله قصرا بإذن الله.»
قال: «هل تعرف مدخلا سهلا؟»
فضحك وقال: «نعم، أعرف مدخلا يسهل الفتح، هل أدلك عليه الآن؟»
قال: «إني مبكر غدا إلى الخليفة، وسأطلعه على ما عندك من أخبار العدو ونجعل ذلك ذريعة لرضائه عنك فيغفر لك ما مضى.» قال: «حسنا.»
فقال ضرغام: «أظنك في حاجة إلى الراحة. هذا فراش نم عليه وأنا أنام هنا ونذهب في الصباح معا.»
وأصبحا في الغد وقصدا إلى فسطاط المعتصم فاستأذن ضرغام عليه فدخل واستبقى حمادا خارجا، فرحب به الخليفة وقربه ولحظ ضرغام في وجه المعتصم تجهما، فتهيب وسكت فقال المعتصم: «أتدري لماذا دعوتك يا صاحب؟»
قال: «ليس لي علم الغيب يا مولاي.»
فتنهد المعتصم وقال: «كنت وأنا في سامرا أستأنس بالقاضي أحمد وأطلعه على سري، أما الآن فأراني في حاجة إلى مشاورتك بعد أن خبرت صدق نيتك.»
قال: «إني عبد مخلص لمولاي.»
قال: «أتذكر أن شكوت إليك ارتيابي في الأفشين؟» قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «كنت أستعظم ما رأيته من جشعه، ولكنني أصبحت الآن لا أعد طمعه شيئا مذكورا بجانب ما أراه في هذا المعسكر من الدسائس، هل عرفت شيئا من ذلك؟»
قال: «لم أفهم مراد مولاي.» وقد فهمه لكنه تغابى.
قال: «بلغني أن قوما أجمعوا على نقل البيعة إلى العباس بن المأمون أخي ويريدون قتلي.» قال ذلك وعيناه تقدحان شررا من الغيظ.
فرأى ضرغام من الحكمة أن يخفف عنه فقال: «لا أعرف شيئا من ذلك وإن كنت لا أستبعده؛ لأن الخلافة ما برحت من عهد الراشدين مطمح أنظار الطامعين، وهب أن بعضهم تحدثه نفسه بذلك، فإنه صائر إلى الفشل المحقق، وإنما نحن الآن أحوج إلى جمع كلمتنا لنتمكن من أعدائنا المحدقين بنا. فهل أدل مولاي على ما يذهب عنه الغضب؟»
فانبسطت أسرة المعتصم وقال: «ما وراءك؟»
قال: «أتيت أمير المؤمنين برجل خرج إلينا في مساء الأمس من عمورية، وهو يعرف مداخلها ومخارجها. هل أدخله على مولاي؟» قال: «يدخل.»
فنهض ضرغام ونادى حمادا فدخل ووقف وألقى التحية، فلما رآه الخليفة عرفه، فعبس ولكنه أشار إليه بالجلوس، فجلس جاثيا فنظر المعتصم إلى ضرغام وقال: «كأني أرى حمادا العربي بين يدي؟»
قال: «نعم، هو عبد أمير المؤمنين، وقد يكون سبق منه ذنب فعفو مولانا أوسع.»
قال: «ما الذي جاءنا به؟»
فقال حماد: «قضي علي أن أدخل هذه المدينة منذ بضعة أسابيع فعرفت حصونها ومعاقلها، لما رأيت جند أمير المؤمنين بالأمس بذلك جهدي ففررت وأتيت.»
قال: «وماذا تستطيعه في خدمتنا؟»
قال: «أدل أمير المؤمنين على عورات البلد فيسهل عليه فتحها؛ إن لهذه المدينة سورا منيعا، وحدث أن سيلا جرف جزءا منه، فكتب الملك إلى عامله ليعيد بناءه فتوانى فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يأتي عمورية ويرى السور خرابا فبنى وجهه حجرا وعمل الشرف على جسر من خشب وإذا شاء مولاي دللته عليه من هنا.»
فنهض الخليفة وقال: «أرنيه.»
فدله على مكانه من بعيد، فلما رآه أثنى عليه وقال: «إذا صدقت فيما تقول فلك الجزاء الحسن.»
فقال ضرغام: «أنا أضمن صدقه يا مولاي، فهل يأمر أمير المؤمنين بتعجيل الجزاء.»
قال: «نعجله إكراما لك، ما جزاؤه؟»
قال: «إنه لا يطلب مالا وإنما تأذن له بجاريتك ياقوتة فيتزوجها.»
فقال: «ياقوتة زوجتك؟!»
فوجم ضرغام ثم قال: «نعم ياقوتة التي أمر أمير المؤمنين أن تكون زوجة لي فجرؤت على حلم مولاي ولم أتزوجها لعلمي أنها مخطوبة لصديقي هذا، فحفظتها عندي أمانة له، فإذا شاء أمير المؤمنين أن يغمرنا بنعمه عفا عنا وأذن أن تكون ياقوتة زوجة لحماد بعد رجوعنا من القتال ظافرين بإذن الله.»
فأعجب الخليفة بأريحية ضرغام وكرم أخلاقه وابتسم له وقال: «قد عفونا عنكما. وأحب أن يكون حماد من خاصتي وسأغدق عليه النعم.»
فشكر كلاهما فضله عليهما فقال: «هلم بنا إلى العمل.» وأمر أن ينقل فسطاطه أمام السور المتخرب ونصب المجانيق عليه فتخرب فجعل الروم بدلها أعوادا كل عود بجانب الآخر فكان المنجنيق يكسر الخشب فجعلوا عليه البرازخ، فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور وألح المعتصم بالحصار وكان حول السور خندق عميق لا يمكن تجاوزه ولولاه لأخذت المدينة. فأشار ضرغام على الخليفة أن يطمه بجلود الغنم المملوءة ترابا ففعل، وعمل دبابات كبيرة تسع الواحدة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور فدحرجوا واحدة منها فلما صارت في نصف الخندق تعلقت بتلك الجلود فما تخلص من فيها إلا بعد جهد، وعمل سلالم ومنجنيقات.
وكان ضرغام يلح على الخليفة أن يأذن للجند بالهجوم يريد سرعة الوصول إلى جهان والخليفة ضنين به. فلم يأذن له ولكنه أمر بالحرب، فكان أول من هجم أشناس بأصحابه. وكان المحل ضيقا فلم يمكنهم من الحرب فيه، فأمدهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور فجمع بعضها إلى بعض فوق الثلمة. وفي اليوم الثاني أمر المعتصم أن يهجم الأفشين وأصحابه وأجادوا الحرب. وفي اليوم الثالث هجم هو ورجاله وفيهم المغاربة والأتراك وهجم ضرغام وعمل أعمالا تعجز عنها الأبطال ووردان إلى جانبه وكان قد علم بأمر حماد. وجعل ضرغام وجهته قصر البطريق.
وظلت الوقعة إلى الليل واحتدم سعيرها. وكان البطارقة قد اقتسموا أبراج السور فاختصموا وجاء بعضهم في الصباح وألقوا سلاحهم نكاية في الآخرين وساروا أمامهم إلى المدينة، ففشل الروم ودخلها المسلمون دخول الفاتحين وأمعنوا فيها نهبا وقتلا وسلبا. •••
قصد ضرغام إلى قصر البطريق يطلب حبيبته ومعه وردان وحماد، ولم يصل إلى القصر إلا بعد التعب المضني لشدة ازدحام الأسواق بمن دخلها من المسلمين للنهب والسلب والسبي، ولما دخلوا القصر وجدوا أبوابه مفتحة ولم يبق فيه شيء من المال أو النساء، فطافوا غرفه يبحثون فيها فلم يقفوا لجهان ولا هيلانة على أثر، فارتاب ضرغام في قول حماد وأدرك هذا ارتيابه فأقسم له على صدق قوله وقال: «يلوح لي أن بعض الجند دخلوا القصر ونهبوه وأخذوا أهله.»
فوقف ضرغام ووردان وقد سقط في أيديهما فقال وردان: «نبحث عنهما بين السبايا بعد انتهاء المعركة.»
أمر الخليفة بعد أن تم النصر للمسلمين بوقف القتال وجمع الغنائم في ساحة المدينة لتباع، فأخذ الناس يتزايدون فلا ينادى على السبي الواحد أكثر من ثلاثة أصوات التماسا للسرعة فكانوا يبيعون الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة لكثرته، والمعتصم يستعجلهم، وأمر بهدم المدينة فهدموها وأحرقوها.
أما وردان فإنه طاف بين السبايا أثناء البيع فلم يقف لامرأته ولا لجهان على خبر، فانقبضت نفسه وعزم على الرجوع إلى ضرغام لينظرا في الأمر. فمر في طريقه على معسكر الأفشين فرأى فرس جهان الأدهم في جملة الغنائم وتحقق ذلك لما رأى سامان واقفا إلى جانبه فتميز غيظا لكرهه سامان وأمسك عن الفتك به إكراما لضرغام لعلمه أنه لا يريد ذلك. ثم أسرع إلى ضرغام وأخبره بما رأى فجاء ضرغام فرأى أدهم جهان وكان سامان قد ذهب. وما كاد ضرغام ينظر إلى وجه الأدهم ويرى صورة الأسد في جبهته حتى ثبت لديه أنه جواد جهان وغلب على اعتقاده أن جهان وهيلانة في جملة السبي الذي أخذه الأفشين، وهم بأن يدخل عليه لساعته ليطلب منه جهان وهيلانة ثم تراجع خوفا من إفساد نظام الجند وهو حريص على جمع كلمته، واعتزم أن يوسط الخليفة لإنقاذ جهان وهيلانة من يد الأفشين.
وسأل عن الخليفة فعلم أنه في دار العامة وقد تقاطر القواد والخاصة لتهنئته بالنصر، فمكث حتى خلا المجلس من الناس ومضى معظم النهار فاستأذن فأذن له، فرحب به الخليفة وأدناه منه وهش له متلطفا، فدعا ضرغام له وهنأه. ولحظ الخليفة انقباضا في وجهه فقال: «كأني أرى الصاحب مغضبا؟»
قال: «لا يغضب العبد بين يدي مولاه ولكنني قلق.»
قال: «وما الذي أقلقك يا صاحبي؟» قال: «أقلقني أن الأفشين تعدى علي.»
قال: «بماذا؟ وعهدي بك حكيم لا تدع مجالا لاختلاف.»
قال: «ليس الخلاف على منصب أو مغنم ولكن ساقت الأقدار فتاة خطبتها إلى عمورية، فوقعت سبية في يد الأفشين وهو يعلم أمرها فأخذها لنفسه.»
فاستغرب المعتصم كيف يكون له خطيبة في عمورية فقال: «زدني إيضاحا.»
قال: «يذكر مولاي، زاده الله نصرا، أنه أكرمني في سامرا بياقوتة وأمرني أن أتزوجها فخالفت أمره ولم أفعل، كما ذكرت له بالأمس، ولم يسألني أمير المؤمنين ساعتئذ عن السبب، وهو أني كنت علقت بفتاة أخرى من فرغانة خطبتها وتعاهدنا على الزواج يوم ندبتني للذهاب إلى فرغانة لجلب الجواري. وتوفي أبوها أثناء ذلك وأتاني أمر الخليفة أن أرجع فرجعت إلى سامرا وأجلت الزواج. وحدثت بعد ذلك أحداث يطول شرحها آلت إلى خطف الفتاة حتى وصلت إلى عمورية. وكانت سجينة في قصر ناطس بطريقها.
فلما فتحنا المدينة طلبتها في القصر فلم أجدها. وبعد البحث علمت أنها عند الأفشين، وحدثتني نفسي أن أدخل عليه وأطالبه بها فخفت أن نختصم وتتفرق كلمة الجند ونحن أحوج إلى الاتحاد. فرجعت إلى مولاي أعرض عليه أمري ليرى رأيه.»
فأطرق المعتصم لحظة ثم قال: «هذا أمر يسير، فلا أظن الأفشين يمسك عليك خطيبتك، والسبايا كثيرات وقد بيعت الواحدة بدراهم معدودة.» وصفق فجاء أحد الغلمان فأمره أن يستقدم الأفشين.
وبعد قليل جاء الأفشين فدخل وسلم فلما رأى ضرغاما هناك أدرك سبب الدعوة ولكنه تجاهل وسكت، فقال له الخليفة: «دعوتك لأمر يهم الصاحب وأنت تعلم منزلته عندي.»
فابتسم الأفشين وقال: «إن الصاحب عزيز علي وهو لا يجهل ذلك.» قال المعتصم: «إن بين السبايا اللائي وقعن في حوزتك فتاة يريدها منك.»
قال: «السبايا كثيرات وقد ابتعن بأثمان بخسة، وعندي منهم عشرات فإذا طلب خمسا أعطيته عشرا.»
فأدرك ضرغام تمويهه فقال: «أعني سبية معينة أنت تعرفها.»
قال: «أيهن؟» قال: «أعني جهان بنت المرزبان.»
فأظهر دهشته وقال: «وهل هي بين السبايا؟»
قال: «أظنها بينهن ومعها امرأة رومية اسمها هيلانة.»
فالتفت إلى الخليفة وقال: «إذا كانت جهان بين السبايا فإني أسأل أمير المؤمنين أن يعفيني من إعطائها.»
فقال المعتصم: «الصاحب يقول إنها خطيبته وهو صادق.»
قال: «نعم، ولكن هذه الفتاة بمنزلة ابنتي، وقد أقامني أبوها وصيا عليها، ولا أظن الصاحب ينكر ذلك.»
فنظر المعتصم إلى ضرغام فرآه قد امتقع لونه وبان الغضب في وجهه. ولما شعر ضرغام بأن الخليفة ينظر إليه أمسك نفسه عن الغضب وقال: «سمعت بالوصية ولكن خطبتنا حدثت قبل كتابها.»
قال الأفشين: «لو صح ذلك لذكرها صاحب الوصية في وصيته وهو لم يفعل فأنا أعد الفتاة غير مخطوبة ولا يجوز أن تخطبها إلا بأمري تنفيذا لوصية أبيها.» قال ذلك والتفت إلى المعتصم كأنه يستشيره فاحتار الخليفة؛ لأنه يحب أن ينال ضرغام طلبه ولا يحب أن يرى شقاقا في جيشه فقال: «هب أن أبا الفتاة لم يعلم بالخطبة أو لم يعترف بها وأنت ولي أمر الفتاة الآن فنحن نخطبها منك.»
فأفحم الأفشين ووقع في مأزق بين أن يغضب الخليفة وبين ذهاب جهان من يده، فأطرق لحظة ثم قال: «إن أمر مولاي نافذ لا مرد له. وليكن بعد رجوعنا إلى سامرا إن شاء الله.»
فالتفت المعتصم إلى ضرغام ولسان حاله يقول: «هذا هو الرأي الصواب.»
فعلم ضرغام أن الأفشين يماطل. وأنه ينوي ما يقول فقال محتدا: «إذا كان الأفشين قبل طلب أمير المؤمنين فليعقد الخطبة هنا.»
فابتسم الأفشين وأذعن وقال: «إذا أمر أمير المؤمنين فلا اعتراض. ولكني لا أدري أين السبايا الآن وأظنهن حملن إلى سامرا.» ففرح ضرغام لاعتقاده بأن جهان في المعسكر بعد أن رأى جوادها فيه. فقال: «إذا لم تكن الفتاة هنا أجلنا الخطبة إلى يوم عقدها في سامرا، فليأمر أمير المؤمنين بأن يأتوا بها إليه.»
فنادى الغلام وأمره أن يذهب إلى معسكر الأفشين ويأتي بالفتاة السبية جهان. فاستمهله ضرغام وقال: «إن اسمها جلنار فهي معروفة بذلك في هذه الديار.»
خرج الغلام ومكث ضرغام كأنه على نار وقد هاجت شجونه وخفق قلبه تطلعا لرؤية حبيبته بعد الفراق الطويل، وتخيل كم تكون دهشتها لما يقع نظرها عليه بغتة وهي تحسبه في عالم الأموات. وقضى في ذلك دقائق حسبها ساعات حتى عاد الرسول وقال: «إن السبايا أرسلن إلى سامرا هذا الصباح.»
فوقع الخبر وقوع الصاعقة على رأس ضرغام، فسكت وقد عزم في سره أن يكلف وردان بتدقيق البحث عن جهان فإذا كانت لا تزال في المعسكر أخذها عنوة.
فلما أذن المعتصم لهما بالانصراف، ذهب توا إلى فسطاطه ليرى وردان فلم يجده فسأل العبيد عنه فقالوا إنهم لم يروه منذ الصباح ولا يعرفون مكانه. فخرج للبحث عنه في فسطاطه فلم يجده ولم يجد حمادا، وكان يتوقع أن يراهما معا، فقلق وهو في أشد الحاجة إلى وردان. فخرج بنفسه لتفقد جواد جهان حيثما كان في الصباح فلم يجده فأيقن أن الأفشين صدق وأنه لا يجرؤ على الكذب على الخليفة، فرجع إلى فسطاطه وكظم ما في نفسه.
الفصل الحادي والعشرون
محاكمة الأفشين
كان الأفشين قد أمر بإخراج السبايا من المعسكر في صباح ذلك اليوم، وقد حسن له ذلك سامان، وهو الذي دله على مقر جهان في قصر البطريق وأشار عليه بسبيها، وكان يتتبع خطاها منذ كان في البذ فعرف بخروجها إلى بلاد الروم ونزولها عمورية، وكان يفعل ذلك طمعا بما وعده به الأفشين من أمر الوصية. فلما فتحت عمورية ذهب إلى أخته وأظهر لها أنه جاء لنجدتها وأن الأفشين جرد هذه الحملة لإنقاذها وأخذ يحسن لها الرضاء به وهي لا تجيبه فحملها رجال الأفشين إلى معسكره على فرسها قبل وصول ضرغام إلى القصر ومعها هيلانة، وكانت تعزية كبيرة لها وقد تحابتا وتآلفتا وكل منهما تحسب نفسها شريدة لا نصير لها. فلما صارتا في معسكر الأفشين شق على جهان أسرها وحدثتها نفسها أن تطلب مقابلة المعتصم وتستجير به من الأفشين، فأتاها أخوها وحبب إليها السكوت، وذكر لها أنه سيأخذها إلى سامرا فتكون هناك كما تشاء . فلما ذكر سامرا تذكرت ضرغاما وفي نفسها بقية أمل بوجوده أو معرفة حقيقة حاله من أمه إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، فوافقته واشترطت أن تكون هيلانة معها فقبل. وكان غرض سامان أن يفر بجهان قبل أن يعلم بها ضرغام، فلما رأى وردان في الصباح يبحث عنها أسرع إلى الأفشين وأشار عليه بأن يسرع بإرسالهما رأسا إلى أشروسنة للاحتفاظ بهما هناك ففعل، ثم أسرع سامان وأعد الأحمال وحامية تحرسهم في الطريق ورحل خلسة. ولما جاء رسول الخليفة بطلب جهان كان قد مضى على خروجهم بضع ساعات وهم على ظهور الخيل.
أما ضرغام فأصبح لا يدري ما يفعل وقد أدهشه غياب وردان وحماد، وخاف أن يكونا قد أصيبا بسوء، وظن أن الأفشين أوقعهما في تهلكة.
وبقي الجند في عمورية عدة أيام قضوا بعضها في بيع الغنائم والأسرى، وكانت كثيرة، ربح تجار اليهود منها ربحا جزيلا. وقضوا أياما بعد ذلك في هدم المدينة وإحراقها، وقتلوا من أهلها جمعا كبيرا وسلم ناطس نفسه.
فلما فرغوا من ذلك أمر المعتصم بالرجوع إلى سامرا، وضرغام في قلق لا مزيد عليه، ورجع مع الراجعين وهو يرجو أن يرى طلبته في سامرا. واتفق له أثناء الرجوع أنه رأى في عرض الأفق فرسانا لم يقع نظره على خيولهم حتى اختلج قلبه؛ لأنه رأى بينها جوادا عرف أنه جواد وردان، فهمز جواده لملاقاة الركب ولما اقترب منهم عرف اثنين هما وردان وحماد فصاح: «وردان؟»
فقال: «لبيك يا مولاي.» وفي صوته رنة السرور والظفر.
فقال: «أين كنتما فقد قلقت عليكما؟»
قال وردان: «كنا في سامرا.» قال: «لماذا؟»
قال وهو يضحك: «أوصلنا العروسين إليها ورجعنا.» قال ضرغام «أي عروسين؟»
قال: «جهان وهيلانة.»
قال: «كيف ذلك؟! قل، قل حالا.»
قال: «رأيتك تصانع الأفشين ولا تخاطبه إلا على يد الخليفة، ورأيته يخادعك ويبغي الفرار بهما إلى حيث لا تعلم. والعمر لا يتسع للتفتيش عليهما مرة ثانية. فخطر لي أن أعمد إلى القوة على غير علمك لئلا تشير علي بأن أتجنب أسباب الشقاق . وكنت قد علمت أن الأفشين يحاول الفرار بهما وقد أمر سامان بذلك، فاتفقت مع حماد على أن نأخذهما بالقوة ونأخذه معهما، وقد فعلنا وأصلنا العروسين إلى بيت الصاحب في سامرا، وزججنا سامان في السجن حتى نعود.»
ففرح ضرغام في قلبه ولكنه قال: «ألم يكن الأولى أن نبقي على عهد الأفشين، فقد وعدني بين يدي الخليفة أن يعقد لي على جهان حالما نرجع إلى سامرا.»
قال: «وهل صدقت أنه ينوي إرسالها إلى سامرا؟»
فالتفت إلى حماد وقال: «وأنت أيها الصديق أرجو أن تكون قد سعدت برؤية ياقوتة، ولكن لماذا رجعت؟»
قال: «رجعت لأكون في معيتك وأتم خدمتي لك.»
وكانت الحملة سائرة فرقا وضرغام في فرقة المعتصم ليكون قريبا منه. ولما أمسى المساء حطت الأحمال ونزل الناس للراحة والرقاد.
وقص وردان على ضرغام حديث مكايد جديدة يكيدها القوم للمعتصم من قبيل ما كان أطلعه عليه وأن حياة الخليفة في خطر ولا بد من إبلاغ الخليفة الأمر.
فقال حماد: «أنا أنقل الخبر إلى الخليفة وإنما أطلب من ضرغام أن يدخلني عليه في خلوة.»
قال: «قم بنا الآن.» وكان الوقت عشاء، فلما وصلا إلى فسطاط الخليفة استأذن ضرغام في خلوة فأذن له، فدخل ومعه حماد فقال الخليفة: «ما وراءك يا صاحب؟»
قال: «عند صديقي حماد عبد أمير المؤمنين مخبآت مهمة. إذا أذن له كشفها.»
قال: «قل واحذر الانحراف عن الصواب.»
فقص عليه تواطؤ القواد على قتلة ومبايعة العباس، وسمى المتآمرين، وفيهم الشاه ابن إسماعيل الخراساني، والحارث السمرقندي، وعجيف بن عبسه، وغيرهم، فاهتم المعتصم بالأمر واستقدم المتهمين واستجوبهم فاعترفوا، فقتلهم على أساليب مختلفة لا محل لذكرها. واحتفظ بالعباس حتى وصلوا إلى سامرا فساء اللعين وأخذ أولاد المأمون فحبسهم في داره حتى ماتوا، وعد المعتصم هذه الخدمة جميلا لضرغام وحماد معا وأنعم عليهما.
أما الأفشين فبلغه من بعض رجاله ما صنعه وردان وحماد. فصبر حتى وصل سامرا فيشكوهما ويشكو ضرغاما إلى الخليفة.
ولما دنت الحملة من سامرا أخذ قلب ضرغام في الخفقان لعلمه أنه سيلقى جهان بعد طول فراق. •••
كانت جهان بعد أن خطفها وردان وحماد قد عادت إليها آمالها. وكانت لما رأتهما هاجمين بمن معهما من الرجال لاختطافهما قد استعاذت بالله من توالي الإحن عليها وأرادت الدفاع، ثم سمعت صوت وردان وسمعته أيضا هيلانة زوجته فانحازتا إليه، ولا تسل عن حال هيلانة لما سمعت صوت زوجها وهي تحسبه بين الأموات؛ فترامت عليه وتبادلا آيات الشوق والحب. فأمر الذين معه بالقبض على سامان قبل أن يفر، فقبضوا عليه وشدوا وثاقه، وتقدم وردان إلى جهان فلما رأته قالت: «وردان؟» قال: «نعم يا سيدتي أبشري بالسلامة واللقاء.»
فصاحت: «اللقاء ... ضرغام ... ضرغام ... أين هو؟!»
قال: «في سلامة وخير، وسيأتي بعد أيام قليلة. وأنا ذاهب بك إلى منزله في سامرا تمكثين مع أمه حتى يصل.»
فظنت نفسها في حلم وتفرست ثانية في وردان وقالت: «وردان. أضرغام حي؟» وتذكرت أن سامان أول من أنبأها بموته فالتفتت إليه وقد شد وثاقه إلى ظهر الفرس فرأته ينظر إليها بذلة واستعطاف إذ سمع ما دار بينها وبين وردان، فحولت وجهها عنه ورأت صديقتها هيلانة ملتصقة بوردان يكادان أن يطيرا فرحا فقالت لها: «هل تعرفين وردان قبل الآن؟»
فقالت هيلانة: «هذا زوجي يا مولاتي!»
قالت: «زوجك البطريق الذي قصصت علي خبره؟!»
قالت: «نعم، هو هو ... الحمد لله على لقائه، ولك الهناء ببلوغك مقر خطيبك.»
وسألت جهان: «أين ضرغام؟» فقال وردان: «إنه في عمورية وإنهم سينتظرونه في سامرا.» ومشوا نحو سامرا وكل فرح بما لديه. وقضوا مسافة الطريق يتحدثون بما مر بهم من الغرائب. وقص وردان على جهان ما حظي به ضرغام عند المعتصم وكيف سماه الصاحب وأسباب ذلك، وأخبرها خبر حماد وخطيبته ياقوتة وما بينهما من الشبه العجيب.
ولما وصلوا إلى سامرا بعث وردان بسامان إلى صاحب السجن، وقال له: «إن الصاحب يأمر بسجن هذا الجاسوس.» وبعث كذلك إلى آفتاب ينبئها بقدوم جهان فكان لالتقائهما دهشة يندر مثلها، وآفتاب لا تمل لمس جهان وضمها وتقبيلها. أما ياقوتة فكان فرحها بحماد عظيما، وكانت عالمة ببقائه حيا ولكنها دهشت لما رأت جهان فظنت أنها ترى نفسها بمرآة لشدة المشابهة بينهما ولم تكن جهان أقل اندهاشا منها. فلما أتم وردان مهمته عزم على الرجوع إلى عمورية فرجع حماد معه.
ومكث أهل الجوسق على مثل الجمر في انتظار ضرغام.
وبعد بضعة عشر يوما جاءت البشائر برجوع المعتصم وجنده ظافرا، فزينت سامرا واصطفت المواكب والجنود ورفعت الأعلام وضربت الطبول وضجت المدينة فرحا، وخرج النساء والرجال للفرجة، واشتغل الناس بهذا الاحتفال عن كل شيء.
أما جهان فإنها لم تكن تسمع صوتا ولا ترى شبحا وإنما كانت عيناها شائعتين نحو باب الجوسق لعلها تشاهد ضرغاما داخلا في موكب الخليفة فلما دخل الخليفة لم تر أحدا.
وفيما هي في لهفتها سمعت سعالا في الدار فارتعدت فرائصها؛ لأنه كان سعال ضرغام، فأرادت أن تجري للقائه فلم تسعفها قدماه واحمر وجهها ثم علاه الاصفرار ولكنها تجلدت وتمالكت واستعادت رباطة جأشها ومشت. وكان ضرغام قد دخل الغرفة فرأى جهان تمشي مشية الجلال والوقار وعيناها تتكلمان كأنهما خطيب على منبر يدعو الناس إلى التعبد أو إلى التفاني في الحب. فانحنى مسلما وبوده أن يكون سلامه معانقة لولا العادة التي تحول دونه. ثم وقف ومد يده إليها فمدت يدها وابتسما ابتسامة أغنت عن حديث طويل ثم قال: «مرحبا بعروس فرغانة. لقد أطلت علينا الغياب وطال بنا الطريق، مع أن طريق المحبين قصير على ما يقولون!»
فضحكت وقالت: «طال الطريق لوعورته وكثرة عقباته. ولكن ماء السكر كلما زدته غليانا زادك حلاوة.»
قال: «لكني خشيت أن يجف ماؤه فيحترق.»
قالت: «أوشك أن يحترق لو لم أرطبه بدموعي!» قال ذلك وأبرقت عيناها وتلألأت فيهما دمعتان ونظرت إليه نظرة وقعت كالسهم في قلبه فقال لها وقد أخذ الهيام منه مأخذا عظيما: «أبمثل هذه الدموع كنت تنفين الاحتراق؟»
قالت: «نعم، ولكن شتان بين دموع الفرح، وأشكر الله على كل حال.»
وكانت يدها لا تزال في يده، فضغط عليها وقادها إلى مقعدها هناك وهو يحدق في عينيها ويقول: «أراك تشكرين الله وعهدي بك تشكرين أورمزد، فمتى حدث التغيير؟»
فقالت وهي تمشي معه حتى جلسا متحاذيين وقد نسيا الوجود: «حدث يوم تبدلت حالي وشغل فؤادي فأصبحت لا أملك شعوري ولا أرى هذا الوجود إلا كما يشاء ضرغام. ولا آسف إلا على زمن غلب فيه اليأس على قلبي، يوم بعثت أخي سامان وغيره للبحث عن ضرغام في سامرا فعادوا وقالوا: «غير موجود»، وزاد بعضهم أنه ليس على الأرض. تبا لتلك الساعة كم أحدثت وكم غيرت. ولكني نسيت كل ذلك الآن، لا أعلم إلا أني أسعد اليوم مما كنت بقربك في فرغانة. كنت يومئذ سعيدة عن جهل لأني لم أجرب الشقاء، وكنت أتلذذ بقربك مندفعة بتيار الحب وأنا لا أعرف اللقاء، وأما اليوم فقد عرفت أن السعادة يزيد مقدارها كلما زاد الشقاء في سبيل الحصول عليها. لو عرفت ذلك يوم اجتماعنا في فرغانة لفضلت أن أجاهد في سبيل حبك قبل الوصول إلى قربك.» قالت ذلك وقد غلب عليها الهيام ونسيت رباطة جأشها وكبر نفسها وهو ينظر إليها شغل بمعاني وجهها وسحر عينيها عن تفهم كلامها، ففرغت من حديثها وهو لا يزال يرنو إليها كأنها لا تزال تخاطبه.
ثم انتبه لنفسه وخجل من سهوه ونسي ما كانا فيه فقال: «كم أحب أن أسمع ما قاسيته أثناء هذه الغيبة وقد سمعت بعضه ولكني ألتذ أن أسمعه من فيك. ولا ريب عندي أنك تحبين الاطلاع على خبري والحديثان طويلان سنتبادلهما في فرصة أخرى. ولو بقيت بجانبك الدهر كله لا أرتوي من النظر إليك يا جنتي وحياتي، وصدقت، إن الحب تزداد لذته كلما زاد التعب في سبيله، ولم أكن أحسب حبنا يقبل الزيادة وحاشا أن يقبلها، ولكنه يزداد بالتعب حلاوة وصفاء.»
فوقفت وهي تقول: «صدقت، إن تلذذنا باللقاء لا نهاية له، فينبغي أن ننظر إلى الآخرين. هل رأيت أمك؟» قال: «لم أرها بعد.»
قالت: «هنيئا لك هذه الأم الحنون، وكم هي في شوق إلى لمسك وشمك.»
وخرجت معه إلى الدار وفيها أمه فشعرت بها، فقبل ضرغام يدها وهمت هي به ضما وتقبيلا. وكانت ياقوتة واقفة هناك فقالت جهان لضرغام: «ألم تكن تستأنس برؤية ياقوتة أثناء غيابي؟»
قال: «ربما استأنست حينا وغصصت بريقي أحيانا، وإن هذا الشبه بينكما دلني عليك، وسأقص عليك خبره.»
قضوا في أمثال هذه الأحاديث ساعات. وأعد الطعام فجلسوا إليه فقالت آفتاب لابنها: «قد آن يا ضرغام أن تعقد قرانك.»
فقالت: «صدقت يا أماه، غدا إن شاء الله.»
وفيما هم في ذلك جاء أحد غلمان القصر يدعو ضرغاما إلى مقابلة الخليفة، فلبس قلنسوته وسواده وخرج، فلما دنا من دار العامة رأى بالباب جماعة من الغلمان الأشروسنية فعلم أن الأفشين هناك، ثم دخل فرأى الخليفة جالسا على سريره في صدر الإيوان والأفشين على كرسي بين يديه، ورأى وردان وحمادا واقفين بجانب القاعة. فسلم، فأشار إليه المعتصم بأن يجلس فتباطأ وقال: «يأذن لي أمير المؤمنين بكلمة قبل أن أجلس؟» قال: «قل.»
قال وهو يشير إلى وردان: «أقدم لأمير المؤمنين البطريق وردان أحد كبار بطارقة أرمينيا، وقد أبلى في جيشنا بلاء حسنا في البذ وعمورية.»
فاستغرب المعتصم والأفشين كلامه وقال الخليفة: «أليس هذا خادمك وردان؟»
قال: «كنت أظنه خادما وأنا لا أعرف أصله، فلما بلوته عرفت فيه الرجل الكريم، وقد كانت له عندي أياد بيضاء عادت بالنفع على جند المسلمين، فإذا أمر أمير المؤمنين بجلوسه فعل وهو صاحب الأمر.»
فقال: «ولكنه في مجلس القضاء وقد دعوتك لتؤدي الشهادة.»
قال: «أفعل ذلك طوعا لأمير المؤمنين.» وجلس وأصغى.
فقال المعتصم: «يقول قائد جندنا الأفشين إن وردان وحمادا اعتديا على رجاله واختطفا منهم امرأتين من سبيه بعد أن كنا قد أرجأنا النظر في ذلك حتى رجوعنا إلى سامرا.»
قال ضرغام: «نعم فعلا يا أمير المؤمنين، وإذا رأى مولاي في هذا ذنبا فأنا صاحبه؛ لأنهما فعلاه لأجلي وعلي تبعته، ومهما يكن من أمر فإن حماد هذا (وأشار إليه) قد شمله عفو أمير المؤمنين وقد جاء سامرا لينال ما وعده به مولانا فلا يؤخذ بجريرة سواه.»
فحك المعتصم جبينه كأنه يسترجع إلى ذهنه شيئا نسيه وقال: «صدقت ، إن حمادا ذو فضل وسابقة وسنوليه ما هو أهل له فيخرج الآن إذا شاء.»
فسلم حماد وخرج، وبقي وردان وضرغام والأفشين، فقال الخليفة: «إنك قلت عن وردان ما هو أهله، ولكنه خالف أمرا أصدرناه بشأن السبيتين، فقد قلنا ونحن في عمورية أن يترك أمرهما حتى رجوعنا إلى سامرا، فكان ينبغي أن يراعي هذا الأمر. فليؤت بالسبيتين الآن إلى هنا.»
فقال ضرغام: «إن السبيتين هما خطيبتي وزوجته (وأشار إلى وردان). أما خطيبتي فقد سبق أمر الخليفة أن تكون زوجتي وهي في منزلي، وأما امرأة البطريق فهي عندي أيضا ولا أظن الأفشين يهمه أمرهما.»
فقال الأفشين وقد بدا الغضب في عينيه: «يهمني أولا أن يراعى أمر أمير المؤمنين في الاثنتين. وأما جهان التي تقول إنها خطيبتك فلها شأن خاص؛ لأني ولي أمرها بوصية أبيها.»
فعند ذلك تقدم وردان واستأذن في الكلام. ووجه خطابه إلى الخليفة وقال: «هل ثبت لأمير المؤمنين أنه وصي؟»
فانتبه المعتصم لهذا الاعتراض والتفت إلى الأفشين وقال: «أين كتاب الوصية؟»
فقال الأفشين: «هو عندي، وهل أنا كاذب؟»
فقال المعتصم: «الشرع يقضي بالاطلاع عليه قبل إصدار الحكم، وهل يهمك كتمانه؟»
فظهرت الحيرة في وجه الأفشين فعمد إلى المغالطة، وتغاضب وقال: «إذا كان الأفشين الملك والقائد يكذب في مثل هذا ويصدق العلج فعلى الدنيا السلام!»
فقال وردان «إني لا أنكر وصايته، ولكنني أرى أن يطلع عليها أمير المؤمنين على نصها ليعرف من هو صاحب أشروسنة.»
فاستشاط الأفشين غضبا وكأنه نسي موقفه فقال: «إن الأفشين قائد جند المسلمين لا يخاطب بمثل هذا الكلام في حضرة أمير المؤمنين، وهب أن الوصية ضاعت أو سرقت أو احترقت فهل يؤخذ ضياعها حجة علي فأعد كاذبا؟! والرجل يقول إنه لا ينكر الوصاية فما الفائدة من نصها؟»
فقال وردان: «لا تغضب أيها القائد، إننا في موقف القضاء بحضرة أمير المؤمنين، والقضاء يطلب إليك أن تتلو نص الوصية.»
فازداد الأفشين غيظا وقال: «قد ضاعت الوصية ولا أذكر نصها.»
قال وردان: «أنا أذكره، هل أتلو بعضها على مسامع أمير المؤمنين؟»
قال المعتصم: «اتل ما شئت.»
فقال: «يكفي أمير المؤمنين أن الوصية مصدرة باسم أورمزد معبود المجوس من دون الله، تعالى، وقد شهد فيها الموبذ كاهن المجوس بدل القاضي الشرعي، أليس كذلك يا قائد جند المسلمين؟»
فهاج غضب الأفشين وأدرك أن الرجل ينوي إذلاله وفضح أمره، وقدم على ما فرط من تعنته ولكنه تجلد وقال: «وأين هو وجه الطعن فيها؟ إن الموصي مجوسي فكتبها على ما يقتضيه دينه وعادات بلاده. كأنك تريد بذلك اتهامي بالمجوسية. إنها لوقاحة كبرى!»
فوجه وردان كلامه إلى المعتصم وقال: «هل يأذن أمير المؤمنين أن أقول ما أعرفه؟»
قال: «إنك في موقف الدفاع عن نفسه، قل ما بدا لك.»
فقال للأفشين: «لا أتهمك بالمجوسية اتهاما. ولكنني أقول إنك مجوسي تسجد لأورمزد حتى الآن. وأقول فوق ذلك إنك تتظاهر بالدفاع عن الإسلام وأنت إنما تفعل ذلك طمعا في المال. ولو استطعت سحق دولة المسلمين لسحقتها، وهذا بيت النار في فرغانة شاهد على ذلك.»
فلما قال وردان ذلك رأى الخليفة التهمة أوسع من أن يقضي فيها في تلك الجلسة فأحب إرجاء نظرها فقال: «إن هذه التهمة خارجة عن موضوع هذا المجلس فإنما نبحث الآن في اختطاف السبيتين.»
فقال ضرغام: «قلت لأمير المؤمنين إن الذنب في ذلك ذنبي أنا؛ لأن إحداهما خطيبتي وهي في منزلى الآن.»
فقطع الخليفة كلامه وقال: «نحن لا نعترض على زواجك بها وإنما نؤاخذ وردان على اختطافها.»
فقال وردان: «إنما اختطفتها لعلمي أن مولانا الأفشين أمر بإرسالها إلى بلده أشروسنة لتضاف إلى خزائن الأموال التي يرسلها إلى هناك كل سنة من أموال المسلمين ليستعين بها على إسقاط دولتهم عند الحاجة!»
فنظر المعتصم إلى الأفشين فرأى لحيته ترقص في صدره، ولو جس يده لرآها باردة كالثلج ترتعش فقال له: «إن هذه التهم كبيرة. وأراك لا تدفعها.»
فقال الأفشين: «كلها مفتريات كاذبة. وموعدنا غدا فيظهر الحق من الباطل.»
فقال وردان: «لا بأس من التأجيل إلى الغد أو بعده، ولكن من يضمن لمجلس القضاء أن المتهم يبقى في سامرا إلى الغد؟»
فقال المعتصم: «يبقى هنا في الجوسق.» وأشار على صاحب حرسه أن يأخذ سلاح الأفشين وسواده، ويتولى حراسته. فنهض الأفشين وقد سقط في يده ولكنه ما زال يكابر ويغالط ويمشي مرحا وهو يتوعد ويتهدد.
وبعد خروج الأفشين أشار المعتصم فخرج وردان واستبقى الصاحب، فلما خلا إليه، تنهد وقال: «تبا لهؤلاء المجوس، إنهم يشاركوننا في ملكنا ويخدعوننا في أمرنا. ولكن الله أعاننا على الانتفاع بسيوفهم ورد كيدهم في نحورهم. ماذا رأيت يا صاحب؟»
قال: «إن أمير المؤمنين يعرف ما انطوى عليه هؤلاء القوم، وكم شكا منهم ومن مكرهم السيئ.»
قال: «إن ما أشار إليه صاحبك وردان لم يخف علينا، فإن كتب عاملنا في خراسان كانت تأتينا وفيها الشكوى من كثرة الأموال التي يرسلها الأفشين إلى بلده ونحن صابرون. وقد رفعت إلينا الكتب من كثيرين يتهمونه بالمجوسية وعبادة الأصنام وبالتواطؤ مع المازيار صاحب طبرستان وبابك على حربنا. وقد علم بذلك القاضي أحمد ووزيرنا محمد بن عبد الملك الزيات وغيرهما. وقد بعثنا نستقدم المازيار صاحب طبرستان الذي تواطأ معه على الغدر بنا. والمرزبان أحد ملوك السعد، وموبذا مجوسيا، واثنين من المسلمين كان الأفشين قد عذبهما لأنهما بنيا مسجدا في أشروسنة. وسأعقد مجلسا يحضره هؤلاء نفتضح به ما استتر ونجزي كل فاعل بما فعل. أما أنت فلك عروسك تهنأ بها. ولا بأس على وردان فهو حر، وسنجعله من خاصتنا. وعلى الباغي تدور الدوائر.» فدعا له وخرج.
عقد المعتصم في اليوم التالي مجلسا حضره كل من القاضي أحمد بن دؤاد، والوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وغيرهما من الأعيان. ودعا الصاحب ووردان فحضرا. ثم أمر بالأفشين فأخرج من محبسه وجيء به إلى المجلس، وتولى ابن الزيات اتهامه بعد أن أحضر الشهود المشار إليهم. فجيء أولا بالرجلين المضرورين، وكشف عن ظهريهما وهما عاريان من اللحم وقال للأفشين: «أتعرف هذين؟»
قال: «نعم هذا مؤذن وهذا إمام بنيا مسجدا بأشروسنة، فضربت كل واحد منهما ألف سوط؛ لأن بيني وبين ملك السعد عهدا بأن أترك كل قوم على دينهم . فوثب هذان على بيت نار في أشروسنة كان فيه أصنام فأخرجاها وجعلا مكانها مسجدا فضربتهما.»
قال ابن الزيات: «ما كتاب عندك حليته بالذهب والجوهر وفيه الكفر؟»
قال: «هو كتاب ورثته عن أبي، فيه من آداب العجم وكفرهم، فكنت آخذ الأدب وأترك الكفر، ووجدته محلى فأبقيته، وما أظن هذا يخرج من الإسلام.»
ثم تقدم الموبذ وقال وهو يشير إلى الأفشين: «إن هذا يأكل لحم المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنها أرطب من المذبوحة. وقال لي يوما: «قد دخلت لهؤلاء القوم - المسلمين - في كل شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل غير أني إلى هذه الغاية لم أختتن».» فاعترض الأفشين على كلام الموبذ بأنه غير ثقة. فرد ابن الزيات عليه. ثم تقدم ابن الزيات وقال مخاطبا الأفشين: «كيف يكتب أهل بلدك إليه؟» قال: «لا أقول.»
قال: «ألا يكتبون إليك بلغتهم ما معناه إنك إله الآلهة؟» قال: «بلى.»
فقال ابن الزيات: «إن المسلمين لا يطيقون هذا فما أبقيت لفرعون؟»
قال: «هذه كانت عادتهم لأبي وجدي ولي أيضا قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد طاعتهم.»
ثم تقدم المازيار: فقال ابن الزيات للأفشين: «هل كاتبت هذا؟» قال: «لا.»
قال المازيار: «كتب أخوه لأخي باسمه أنه لم ينصر هذا الدين غير بابك، ولكن بابك قتل نفسه، وجهدت أن أصرف عنه الموت فأبى إلا أن أوقعه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب أطرح له كسرة وأضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك ما هي إلا ساعة حتى تنفذ سهامهم ثم تجول الخيول عليهم فتأتي على آخرهم ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم.»
فقال الأفشين: «إنه يدعي أن أخي كتب إلى أخيه. فما ذنبي أنا؟»
فتقدم وردان عند ذلك وقال: «تزعم أن أخاك كتب ولا تبعة عليك، فما قولك فيمن رآك رأي العين في بيت النار بفرغانة ومعك المازيار هذا ونائب عن بابك. وقد تواطأتم على محق دولة المسلمين وتعهدت أن تجمع المال الكافي لذلك العمل.»
فأعرض الأفشين بوجهه عنه وقال: «هذا خصم يكذب تأييدا لخصومته.»
قال: «وإن أتيتك بالموبذ نفسه الذي شهد على كتاب الوصية وسمعته يقول مثل قولي؟»
فقال المعتصم: «سنرسل في طلبه.»
فقال وردان: «وإذا بعث أمير المؤمنين الآن من يدخل بيت الأفشين في سامرا وجد أحد التماثيل المجوسية.»
فقال ابن الزيات: «قد أتينا بها بالأمس.» وأمر غلاما أحضرها وإذا هي تمثال من خشب عليه حلية كثيرة الجوهر وفي أذنه حجران مشبكان عليها ذهب وأصنام أخرى وكتاب من كتب المجوس وغيره. فارتج على الأفشين وسكت، فأمر المعتصم بإرجاعه إلى الحبس وأن يقطع عنه الطعام والشراب فقطعوهما حتى مات سنة 226ه.
وخلا ضرغام بالمعتصم بعد أيام وقص عليه حقيقة وصاية الأفشين على جهان فأمر بإلغائها ورد المال إلى صاحبته. وبعث إلى فرغانة فأمر بهدم بيت النار كارشان شاه، وأمر أن يكون حماد ووردان من خاصته وأن يقيما في قصرين داخل الجوسق مثل ضرغام، وأمر بعقد كتاب ضرغام على جهان، وأعطاهم عطاءات شتى.
الفصل الثاني والعشرون
نسب ضرغام
بقي سامان في السجن لا يكترث له أحد إلا وردان، فقد كان يتردد عليه من حين إلى آخر ويسأله عن حاله تهكما وتشفيا. وكان ضرغام في شاغل عنه حتى إذا فرغوا من أمر الأفشين أحب أن يطلق سراح سامان كرما وفضلا فقال وردان: «إذا أطلقته فكأنك سجنتني مكانه، ويهمني أن أسأله عن أشياء وأسمع جوابه عنها؛ لأني رأيت منه أمورا لا تصدر عن البشر.»
فقال: «نسأل جهان عن رأيها في ذلك.»
قال: «افعل.»
فذهب إلى جهان وسألها فقالت: «لا أدري. وليتك لم تسألني عنه؛ لأني أحب أن أنساه.»
قال: «هو في السجن الآن فما الذي تريدين أن نفعل به؟»
فأطرقت حينا ثم قالت: «أحب أن تطلق سراحه. ولكنني في شوق إلى سر لا يزال مكتوما عني. أريد أن أعرف سبب غضب أبي عليه.»
فتذكر سرا آخر قد طال اشتياقه إلى معرفته وهو حقيقة نسبه، فعزم أن يسأل أمه عنه بعد الفراغ من سر سامان.
وأمر باستقدام سامان من السجن إلى منزله في جلسة كان فيها هو وأمه وجهان وياقوتة وحماد ووردان وهيلانة.
ودخل سامان دخول غريب تنبحه الكلاب، ووقف وقوف مجرم يخاف العقاب، وقد شوهت خلقته كأنما طبعت على صحيفتها نقائصه. وكان رث السربال زاده الهزال ذلا، حتى إذا توسط الدار وقف محني العنق يجول ببصره في الجالسين فلما رأى ياقوتة دهش وأخذته البغتة. فالتفت إلى جهان وأجهش فسبقته إلى البكاء وقد عز عليها أن تراه واقفا هذا الموقف رغم ما ارتكبه معها من السيئات. ولم يبق أحد من الحاضرين إلا رق له، إلا وردان فإنه لم يأخذه به شفقة وكان هو أول المتكلمين فقال: «لا تخف يا سامان لم ندعك لنحاكمك على جريمة من جرائمك فإنها لا تفتقر إلى محاكمة ولا نعرف عقابا يفي بها، ولكنني رأيت في سيرتك ما أدهشني من تقلبك في الإيذاء؛ فبينما أنت ناقم على الأفشين لأنه حرمك من الميراث إذا بك تستعين عليه بالصاحب ثم تستعين على هذا بذاك ثم بذاك على هذا. وأغرب شيء أنك غدرت بأختك هذه وهي كالملائكة خلقا وخلقا وأغريت بها أفسق أهل الأرض وهي مخطوبة وقد وثقت بك واتكلت عليك في الفرار إلى خطيبها. فرضيت أن تؤخذ غدرا وتحمل قسرا على ذاك اللعين زعيم أهل الفحشاء. ولم تكن لتنال على عملك جزاء أفضل مما قد تناله لو جئت بها إلى سامرا. ومع ذلك لم تنل من بابك غير الخزي، وبعد أن كنت نصيره خنته وبحت بأسرار حصونه إلى عدوه، وواطأت الأفشين على أختك وعلى خطيبها. إني عرفت في الناس أشرارا كثيرين يرتكبون أفظع مما ارتكبته في سبيل غرض يعرفونه ويعرفه الناس فما عرفنا لك غرضا.»
وكان سامان يسمع قول وردان وهو يصطنع الإطراق وعيناه لا تتحولان عن ياقوتة وإن كان ذلك لم يظهر عليه لحوله. فلما أتم وردان كلامه أجابه سامان قائلا: «تسألني عن أسباب لست أعلم بها منك. ارتكبت فظائع لم يعرف الناس عنها إلا طرفا منها، ولو سئلت عن أسبابها، أو عن سبب إحداها، لم أستطع جوابا، وإنما أعرف أني كنت أرتكب الخطأ ثم أبادر إلى إصلاحه بخطأ أفظع منه، فكانت أعمالي سلسلة هفوات والعبرة بالهفوة الأولى.» قال ذلك وتغير وجهه وغص بريقه وتململ فابتدره وردان قائلا: «ما هي تلك الهفوة؟»
فحول بصره إلى ياقوتة وأطال النظر إليها وعيناه ترتعشان، ثم انتقلت الرعشة إلى أطرافه حتى اصطكت ركبتاه وكاد يسقط، فلحظ ضرغام ذلك فقال له: «أجلس يا سامان وتكلم.» وقد استغربوا تغيره وتحديقه في ياقوتة حتى تولاها الخجل وحولت بصرها عنه. فجلس سامان جاثيا وجعل رأسه بين كفيه وأخذ في البكاء بصوت عال يتخلله شهيق كثير حتى كاد يختنق، فأنكر القوم بكاءه لأول وهلة وظنوه يحتال، فصبروا عليه حتى فرغ من بكائه وهم ينظرون بعضهم إلى بعض. وإذا به ينهض بغتة وترامى عند قدمي ياقوتة وأجهش في البكاء فدهش القوم ولا سيما حماد ووثب إليه ليرجعه عن امرأته فلم يطعه فقال له: «ماذا اعتراك يا سامان؟ يسألونك عن جريمتك الأولى فلماذا لا تجيب؟»
فصرخ قائلا وهو يشير إلى ياقوتة: «هنا غلطتي الأولى. هذه هي!» وعاد إلى البكاء، فازداد الحاضرون دهشة وظنوه جن، ولا سيما جهان فقالت: «قل يا سامان فقد حيرتنا. ما خطبك؟ وما لك وياقوتة بك؟»
قال: «هذه هي غلطتي نفسها. وما هي ياقوتة وإنما هي شهرزاد.»
فلما قال ذلك صاحت آفتاب أم ضرغام: «شهرزاد؟! نعم هي شهرزاد.» وكانت جالسة بالقرب منها فضمتها إلى صدرها وقالت: «قد تنسمت ريحك منذ لمستك للمرة الأولى.» ثم صاحت: «جهان حبيبتي ألا تعرفين شهرزاد؟»
فبغتت جهان وأعملت فكرتها وقالت: «لا أعرف فتاة بهذا الاسم إلا أختا لي ماتت طفلة قبل أن أولد.»
فقالت آفتاب: «هذه هي أختك لم تمت بل كانت قد فقدت. وإنما قالوا ذلك تلطفا وتسترا، ولم يكن يعرف هذا السر إلا أنا وأبوك وسامان هذا. وكن ضياعها على يده، فإنه كان قد خرج بشهرزاد إلى البساتين وهي طفلة لا تكاد تستطيع المشي. فلما عاد سأله أبوك عنها فبكا وزعم أن فرسا من أفراس النخاسين اختطفها منه - لأن في تركستان جماعة يربون الخيل على النخاسة ويعودونها خطف الأطفال بأسنانها فيلتقط الفرس الطفل بأسنانه ويطير به إلى منزل صاحبه - ولم يصدق والدك ما قاله سامان وغضب عليه من ذلك الحين وأشاعوا أنها ماتت!»
وكانت آفتاب تتكلم والجميع سكوت كأن على رءوسهم الطير. فلما فرغت أكبت جهان على ياقوتة وضمتها وطفقت تقبلها وياقوتة أشد فرحا من الجميع؛ لأنها كانت تحسب نفسها جارية فإذا هي بنت المرزبان. فقبلت أختها والدهشة لا تزال سائدة والكل يقولون: «لم تكن هذه المشابهة بين الأختين عن عبث.» وأخذوا يتساءلون وهم يحسبون أنفسهم في حلم فقالت جهان: «يا سامان. قل كيف أخذت شهرزاد منك؟»
فأجابها وهو يمسح دموعه: «انتبهت لوجودي وأنا في نحو العاشرة من العمر، وأختك هذه في نحو الرابعة، ورأيت أبوينا يحبانها كثيرا ويدللانها ويهملانني فدب الحسد في قلبي فصرت أظهر الكره لأختي وهما يزيدانني حسدا بتمييزها عني بالهدايا والنقود. وكنت إذا طلبت نقودا من أبي لم يعطني وأنا أرى النقود مع أختي أو حاضنتها، وسمعت ذات يوم أناسا يطوفون البلاد يشترون الأطفال فغافلت الحاضنة وأخذت شهرزاد إلى البساتين فرأيتهم مارين فبعتها لهم بدينارين وعدت وساروا هم في طريقهم. ولما سئلت عنها قلت إنها خطفت مني فلم يصدق أبي. وعرف بعد ذلك أني بعتها وبعث من يفتش ويبحث بلا فائدة. فكرهني من ذلك الحين وهددني بالحرمان من ماله، فصرت أرى كل الناس أعدائي، وتوهمت أن كل حركة يأتونها إنما يريدون بها نكايتي أو أذيتي، فأصبحت ولا هم لي إلا كسب المال لأستعين به عليهم. وأول سعي بذلته في هذا السبيل أني حاولت منع أبي من كتابة الوصية ففشلت، فأردت إصلاح هذا الفشل فوقعت في فشل آخر. وهكذا كما تعلمون. ولم أدرك هذه الحقيقة إلا وأنا في السجن منذ يومين.» قال ذلك وتنفس الصعداء، ثم عاد إلى إتمام الحديث وقد زاد وجهه امتقاعا وبدت الرعدة في أطرافه والاضطراب في عينيه وقال: «وقد تأخذكم الشفقة علي بعد ما بسطته لكم، فاعلموا أني لا ألتمس عفوكم؛ لأن من كانت حياته سلسلة فظائع لا يجوز أن تنتهي بغير القتل.» قال ذلك واستل من جيبه خنجرا طعن به صدره فسقط يتخبط بدمه.
فضج الحضور وابتعد النساء عن هذا المنظر. وقد أسفوا على موت سامان بعد أن أيقنوا أنه تاب، فترحموا عليه وأمروا بدفنه وكانت جهان أكثرهم حزنا عليه.
أصبحت روابط القرابة والنسب الجديدة بين جهان وياقوتة حديث الناس، واقتسما ميراث أبيهما، وأصبح حماد وضرغام نسيبين وقد نالا حظوة في عيني المعتصم وتم لهما ما يريدان. على أن ضرغاما بقي في خاطره شيء يحب الاطلاع عليه فخلا إلى أمه يوما وقال لها: «ألم يئن الوقت لكشف حقيقة نسبي؟ ما الذي تنتظرينه بعد الذي رأيته من نعم المولى علي؟!»
قالت: «لا أنتظر شيئا ولكنك مع ذلك لم تنل ما أنت أهل له.»
فقال: «تعنين أن أبي كان أعز جانبا وأرفع مقاما مني؟»
قالت: «نعم.»
قال: «فهو إذن من كبار القواد أو الوزراء، وإذا صح ذلك فلا يعقل أن يكون خبره مكتوما عن الناس.»
قالت: «إنه فوق ما ذكرت.»
فبهت ثم قال: «لم يبق إلا أن يكون من أشراف قريش أو بني هاشم أو بني أبي طالب.»
قالت: «إنه أخص من ذلك كثيرا.»
فأطرق وفكر فيما تعنيه أمه فلم يبق إلا أن يكون أبوه الخليفة وهم بأن يسألها عن ذلك فخجل وأمسك وظل ساكتا وهي تنتظر سؤاله فلما استبطأته قالت: «لماذا لا تتم أسئلتك يا ضرغام؟»
قال: «يخجلني أن أقول ما في خاطري.»
قالت: «لا تخجل أن تسأل إذا كان أبوك خليفة، فإنه كذلك!»
فأجفل وقال: «أبي خليفة؟ كيف يمكن ذلك. إن المعتصم يضارعني سنا فلا يمكن أن يكون هو المراد، وكذلك المأمون والأمين.»
قالت: «إن هؤلاء إخوتك.»
فقال وقد أخذته الدهشة: «فأنا إذن ابن الرشيد؟!»
قالت: «نعم يا بني، وهذه أول مرة نطقت بهذه الحقيقة بعد مرور الأعوام الطويلة.»
قال : «أليس في الدنيا أحد سواك يعرفها؟»
قالت: «كلا.»
قال: «وما معنى كتمانها كل هذا الزمن والناس يفاخرون بالانتماء إلى أتباع الخلفاء فكيف بالخلفاء أنفسهم؟!»
قالت: «لذلك سبب معقول هو أني كنت من جواري الرشيد في قصره ببغداد وكان يحبني، حتى كانت الليلة التي فتك فيها بأخته العباسة وبجعفر البرمكي وابنيهما الحسن والحسين. وقد بالغ في التكتم حتى قتل كل من استخدمه لذلك الغرض، فلم يكن أحد من أهل القصر يجسر على الخروج من حجرته مع أنهم مطلعون على كل شيء من بعيد، إلا أنا فقد حدثتني نفسي لصغر سني يومئذ أن أخرج لأرى وأسمع، فوقفت موقفا ظننت نفسي مختبئة فيه لا يراني أحد، فسمعت حديث الرشيد، رحمه الله، مع زوجته زبيدة بشأن أخته وأشياء أخرى. وفيما أنا في ذلك رأيت زبيدة نفسها مقبلة نحوي وهي تقول: «يا هارون، إن جواريك يسمعن حديثنا!» فوقع الرعب في قلبي وأيقنت أني مقتولة لا محالة فلم تعد ركبتاي تحملانني من الرعشة ثم سمعت الرشيد يرعد بصوته من الغضب ويقول: «من هذا؟» وأمر مسرورا فحملني إليه، فلما رآني أظهر الأسف علي؛ لأن قتلي لا مناص منه. فلما رأى دموعي رفق بي، ولكنه كان شديدا فأطرق لحظة ثم قال: «يا حبيبة - وهذا اسمي عنده - قد سعيت إلى حتفك بظلفك».» «فتراميت عند قدميه وبكيت وغسلت رجليه بدموعي، وكنت يومئذ حاملا فقلت: «أشفق على صباي، بل أشفق على هذا الجنين».» «فوجم وتراجع ثم قال: «أعفو عن حياتك. ولكنني لا أقدر أن أراك ولا أسمع اسمك.» ونادى مسرورا فأتى فأمره أن يجهزني بالمال ويدبر نقلي إلى البلد الذي أختاره، فاخترت فرغانة؛ لأني كنت أعرفها من قبل.» «وصرفني فخرجت مع مسرور في الليل الدامس إلى خارج بغداد وقد أعد لي الأحمال وأوصى المكاري بي ودفع إلي مالا وجواهر تكفيني أعواما وودعني. فقضيت في الطريق مدة طويلة ولدتك في أثنائها. وأخيرا وصلت إلى فرغانة وعرفت المرزبان وعائلته، وطلبني أناس للزواج فأبيت وانقطعت لتربيتك وأنا كاتمة سرك، وأنت تطلب المجيء إلى العراق ، وأنا أخالفك، ولما مات الرشيد، وماتت زبيدة هان علي المجيء ورضيت بسفرك إلى العراق.»
فلما فرغت آفتاب من كلامها قال لها ضرغام: «فأنا إذن أخو المعتصم؟»
قالت: «نعم إنك أخوه، فإذا علم هو بذلك زادك تقريبا.»
فهز رأسه هزة الإنكار وقال: «كلا، إن هذا السر يجب أن يبقى مكتوما بيننا لئلا يطلع عليه المعتصم فتتحول محبته إلى حذر وكيد. يكفيني أني عرفت حقيقة نسبي. ولا أرى فائدة من كشفه؛ لأن الناس لا يصدقوننا. ونحمد الله أننا نلنا من النعم والرتب فوق ما كنا نتمناه.»
نامعلوم صفحہ