كانت أم ضرغام واسمها آفتاب قد كف بصرها في عنفوان شبابها قبل ذهابها إلى فرغانة، ولم يكن أهل ذلك البلد أكثر معرفة بسابق حياتها من أهل سامرا، حتى المرزبان وأهل قصره مع طول إقامتها بينهم؛ فقد كانت تكتم أصلها حتى عن ابنها ضرغام، فكان إذا سألها عن أبيه زعمت أنه كان من جند المسلمين وقتل في بعض الوقائع، وأنها نذرت لبس السواد عليه كل حياتها. ولم يصدق ضرغام قولها؛ لما لاحظه من التجائها إلى الإيجاز عند ذكره، فألح عليها ذات يوم واستحلفها أن تخبره الحقيقة، فوعدته أن تطلعه عليها فيما بعد، وكان كلما ذكرها بوعدها استمهلته إلى فرصة أخرى. وقضى شبابه في فرغانة وهو يطلب الشخوص إلى العراق لينخرط في الجندية أو يتعاطى عملا يرتزق منه كما فعل أمثاله من أهل النشاط والذكاء، فلم توافقه على ذلك إلا في الأعوام الأخيرة فجاء معها وأقام بسامرا، فظهرت مواهبه وارتقى في الجندية حتى صار رئيس الحرس، وكان يسألها عن أبيه فتؤجل الجواب.
ولما استأذنها في الذهاب إلى فرغانة في مهمته الأخيرة أذنت له وألحت عليه في أن يعجل بالرجوع، وبقيت في ذلك القصر ليس معها غير جاريتها مسعودة. وكانت تقضي نهارها في البيت لا تخرج إلى البستان إلا نادرا، والجارية تبذل جهدها في تسليتها، وقد قضت في خدمتها أعواما عديدة لم ترها ضاحكة قط، فلم تكن أقل استغرابا لحالها من الآخرين. على أنها كانت تحترمها وتحبها حبا جما لما خبرته من لطفها وطيب عنصرها، مع التزامها الصمت إلا نادرا.
وكانت آفتاب على كهولتها وابتلائها بفقد بصرها جميلة الخلقة خفيفة الروح، تدل ملامح وجهها على ما كانت عليه في شبابها من الجمال المفرط وكانت رشيقة القوام ممتلئة البدن محتفظة بآثار الجمال رغم ما مر بها من تكاليف الحياة، فكانت جاريتها مسعودة تبذل جهدها في تسليتها وتروي لها ما تسمعه من الأخبار، فتلحظ منها الإصغاء لسماع أخبار الخليفة المعتصم، ولا سيما بعد أن صار ابنها رئيسا لحراسه. ولم تكن تسمع منها جوابا غير قولها وهي تتنهد: «متى يعود ضرغام! لقد طال غيابه.»
حتى إذا جاء البشير بقدومه كان أول من علم به مسعودة، أخبرها به رسول أنفذه ضرغام قبل وصوله لعلمه أن أمه تتلهف لرجوعه. فدخلت مسعودة على سيدتها مهرولة، ولو تيسر لآفتاب أن ترى وجهها لقرأت فيه دلائل البشر. ولكنها حرمت نعمة النظر لا لذنب أو مرض وإنما قضت عليها بذلك مظالم ذلك العصر، كما قضت تلك المظالم أيضا بأن تكتم سبب عماها وتخفي حقيقة حالها على كل إنسان.
فلما دخلت مسعودة شعرت آفتاب بسرعة حركتها وحدثها قلبها بخير تحمله إليها فبدت على وجهها ملامح الاهتمام ولم تمهل خادمتها حتى تتكلم فابتدرتها قائلة: «ما وراءك يا مسعودة؟ هل أتى ضرغام؟»
فصاحت: «نعم يا سيدتي، من أنبأك بهذا؟»
قالت: «أنبأني قلبي! وهل لقلبي شغل سواه! أين هو؟»
قالت: «إنه على مقربة منا.»
فما تمالكت آفتاب عن النهوض فجأة وبدت في محياها علامات البشر وتقطر من بياض عينيها دمعتان سالتا على خديها فتلقتهما بطرف نقابها الأسود، وصاحت وهي تبتسم: «أتى ضرغام؟! الحمد لله. متى يصل إلينا؟»
قالت: «يصل هذا المساء، إن شاء الله.»
نامعلوم صفحہ