قالت: «أوشك أن يحترق لو لم أرطبه بدموعي!» قال ذلك وأبرقت عيناها وتلألأت فيهما دمعتان ونظرت إليه نظرة وقعت كالسهم في قلبه فقال لها وقد أخذ الهيام منه مأخذا عظيما: «أبمثل هذه الدموع كنت تنفين الاحتراق؟»
قالت: «نعم، ولكن شتان بين دموع الفرح، وأشكر الله على كل حال.»
وكانت يدها لا تزال في يده، فضغط عليها وقادها إلى مقعدها هناك وهو يحدق في عينيها ويقول: «أراك تشكرين الله وعهدي بك تشكرين أورمزد، فمتى حدث التغيير؟»
فقالت وهي تمشي معه حتى جلسا متحاذيين وقد نسيا الوجود: «حدث يوم تبدلت حالي وشغل فؤادي فأصبحت لا أملك شعوري ولا أرى هذا الوجود إلا كما يشاء ضرغام. ولا آسف إلا على زمن غلب فيه اليأس على قلبي، يوم بعثت أخي سامان وغيره للبحث عن ضرغام في سامرا فعادوا وقالوا: «غير موجود»، وزاد بعضهم أنه ليس على الأرض. تبا لتلك الساعة كم أحدثت وكم غيرت. ولكني نسيت كل ذلك الآن، لا أعلم إلا أني أسعد اليوم مما كنت بقربك في فرغانة. كنت يومئذ سعيدة عن جهل لأني لم أجرب الشقاء، وكنت أتلذذ بقربك مندفعة بتيار الحب وأنا لا أعرف اللقاء، وأما اليوم فقد عرفت أن السعادة يزيد مقدارها كلما زاد الشقاء في سبيل الحصول عليها. لو عرفت ذلك يوم اجتماعنا في فرغانة لفضلت أن أجاهد في سبيل حبك قبل الوصول إلى قربك.» قالت ذلك وقد غلب عليها الهيام ونسيت رباطة جأشها وكبر نفسها وهو ينظر إليها شغل بمعاني وجهها وسحر عينيها عن تفهم كلامها، ففرغت من حديثها وهو لا يزال يرنو إليها كأنها لا تزال تخاطبه.
ثم انتبه لنفسه وخجل من سهوه ونسي ما كانا فيه فقال: «كم أحب أن أسمع ما قاسيته أثناء هذه الغيبة وقد سمعت بعضه ولكني ألتذ أن أسمعه من فيك. ولا ريب عندي أنك تحبين الاطلاع على خبري والحديثان طويلان سنتبادلهما في فرصة أخرى. ولو بقيت بجانبك الدهر كله لا أرتوي من النظر إليك يا جنتي وحياتي، وصدقت، إن الحب تزداد لذته كلما زاد التعب في سبيله، ولم أكن أحسب حبنا يقبل الزيادة وحاشا أن يقبلها، ولكنه يزداد بالتعب حلاوة وصفاء.»
فوقفت وهي تقول: «صدقت، إن تلذذنا باللقاء لا نهاية له، فينبغي أن ننظر إلى الآخرين. هل رأيت أمك؟» قال: «لم أرها بعد.»
قالت: «هنيئا لك هذه الأم الحنون، وكم هي في شوق إلى لمسك وشمك.»
وخرجت معه إلى الدار وفيها أمه فشعرت بها، فقبل ضرغام يدها وهمت هي به ضما وتقبيلا. وكانت ياقوتة واقفة هناك فقالت جهان لضرغام: «ألم تكن تستأنس برؤية ياقوتة أثناء غيابي؟»
قال: «ربما استأنست حينا وغصصت بريقي أحيانا، وإن هذا الشبه بينكما دلني عليك، وسأقص عليك خبره.»
قضوا في أمثال هذه الأحاديث ساعات. وأعد الطعام فجلسوا إليه فقالت آفتاب لابنها: «قد آن يا ضرغام أن تعقد قرانك.»
نامعلوم صفحہ