فقال: «أريد أن أريك شيئا طريفا. هل تعرف هذا الفسطاط إلى يسارنا؟»
قال: «أعرفه، هو فسطاط العباس بن المأمون. ما لنا وله؟»
قال: «اكتشفت سرا لو عرفه المعتصم لقلب المعسكر رأسا على عقب!» قال: «ما هو؟»
قال: «لما عدت من عندك هذا النهار، مررت من هنا فرأيت الحارث السمرقندي خارجا من هذا الفسطاط وقد خف العباس لوداعه وبالغ في إكرامه، فقلت في نفسي: «لأمر ما هذا الإكرام؟» وأنا أعلم أن السمرقندي ناقم على المعتصم لأخذه ياقوتة منه، ولما رآه من تقديمه إياك. ولا يخفى عليك ما في نفس العباس بن المأمون على المعتصم؛ لأنه أخذ الخلافة منه، وكان بعض القواد يريدونها له، ولكنه جبن عن طلبة البيعة فنالها المعتصم. وقد سمعت وأنا في سامرا أن الحارث السمرقندي كان من الساعين في خلع المعتصم ومبايعة العباس، لكنهم تهيبوا الإقدام على هذا الأمر خوفا من الجند، فلما رأيت الحارث خارجا من فسطاط العباس اليوم حدثتني نفسي بأمر ذي بال بينهما.»
وكان وردان يقص حديثه همسا حتى وصلا إلى الخيمة المنصوبة على الرابية والليل مظلم، فرأى ضرغام رجلا نائما عند باب الخيمة وله شخير كخوار الثور وشم رائحة الخمر فقال: «من هذا؟ كأني أشم رائحة الخمر!»
قال: «هذا ناقل السر إلي، وهو من عبيد الحارث عرفته في سامرا فاحتلت في دعوته إلي وسقيته خمرا حتى سكر وقص علي الحديث الغريب الذي سأقصه عليك، فهل تدخل الخيمة أم أتم الحديث خارجها؟ إني والحق يقال لا أرى لحراسة الراية في هذه الظلمة فائدة؛ لأن الظلام يحول دون رؤيتها على عشر أذرع فكيف من عمورية؟»
قال: «صدقت ليس القصد أن يراها حماد من هناك ليلا، ولكنه قد يراها ساعة الغروب ويحتال في الخروج بعد قليل فلا يراها أو ربما وقع بصره عليها في صباح الغد فيأتي وأنت لا تزال عندها. اقصص علينا ما سمعته من العبد.»
فمشى وردان إلى صخرة على بضع أذرع من الرابية وضرغام يتبعه، فجلسا وأخذ يقص عليه فقال: «أخبرني العبد أن سيده الحارث اتفق مع العباس على أن يكون رسوله إلى القواد في هذا المعسكر، وبعضهم تحت قيادة الأفشين وبعضهم من رجال أشناس وآخرون من جند المعتصم؛ ليأخذ البيعة له منهم، فأخذ يدور بالمعسكرات الثلاثة حتى بايعه نفر من القواد وفيهم جماعة من خاصة المعتصم، وقال لكل من بايعه: «إذا أظهرنا من أمرنا فليثب كل منكم على الأمير الذي هو معه ويقتله»؛ فوكل من بايعه من خاصة المعتصم أن يثبوا في الأجل المضروب على المعتصم ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة الأفشين أن يثبوا على الأفشين ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة أشناس أن يقتلوه. وهكذا.»
وكان ضرغام يسمع كلام وردان مطرقا يهز رأسه استغرابا ويقول: «قبحهم الله من خونة مارقين.»
فقال وردان: «إني أرى العباس أعقلهم جميعا فقد فهمت من محدثي أنه لم يوافقهم على تنفيذ المكيدة الآن خوفا من تضييع الفتح، فأحببت أن أطلعك على ما سمعته وأنت ذاهب غدا إلى الخليفة فتنقله إليه إذا شئت.»
نامعلوم صفحہ