فضحك الأفشين حتى بانت نواجذه وقال: «إن كان قد جاء يطلب الموت فأهلا به ومرحبا. له علينا ذلك حبا وكرامة. أما ما تراه من جنون المحبين وهيامهم فأنت معذور لأنك أجرود لا تشعر شعورهم.» ثم أطرق هنيهة وقال: «إذا هجمنا غدا على البلد ودخلناه فأين تكون أختك؟»
فوقف سامان والتفت إلى البذ وأشار بيده وقال: «أرأيت هذا القصر الفخم عند الباب الشرقي؟ هذا قصر النساء وبه تقيم جهان. ومن أراد الوصول إليه حالا فليأته من ذلك الباب.» ثم أشار بيده إلى قصر في الغرب وقال: «وهذا القصر عند الباب الغربي قصر بابك نفسه، وهو أمنع القصور ولا يهاجمه أحد إلا قتل. فاختر لنفسك.»
وتحرك الأفشين في مقعده، فنهض سامان واستأذن. فقال له الأفشين: «تمكث عندنا لنستأنس بك ولا تخرج من هذا المعسكر إلا للضرورة.»
ففهم سامان قصده فقال: «أحب أن أكون أسيرا عندك حتى تتحقق من إخلاصي وأتقدم إليك أن تبقي خبري مكتوما عن ضرغام وغيره وإلا فسد تدبيرنا.»
فأشار الأفشين برأسه موافقا، ثم نادى غلامه وأمره أن يكرم سامان ويحتفظ به، فخرج سامان من حضرته وقد سره أن الأفشين أحسن لقياه ووعده بإرث أبيه انتقاما من أخته. واستبشر بقرب الانتقام من أخته متى جاء ضرغام فيكيد له ويسعى في هلاكه. ونسي أنه كان ناقما على الأفشين وقد استعان بضرغام عليه وأن أخته صاحبة الفضل الأكبر عليه. ولكنه يجري في أعماله على هوى منافعه فهو لا يغضب من الأفشين لأنه تعدى حدود الوصاية أو لأنه أراد السوء لأخته، وإنما أبغضه لأنه حرمه من الإرث. ولم يحب ضرغاما لشهامته وأريحيته أو نسبه وإنما أظهر حبه له ليستعين به في نيل مرامه. ثم إنه لم ينقلب هذا الانقلاب في الحالين إلا جريا وراء ما يفيده فلم يكن له قلب يحب ولا وجه يخجل. ولكنه ملتفت بكل جوارحه إلى حب المال، وزاده حبا فيه يأسه من احترام الناس له لسجاياه أو مناقبه فأراد أن يكسب احترامهم بالمال ظنا منه أنه متى صار غنيا احترموه وأجلوا قدره. وسيان عنده أحبوه أم أبغضوه!
الفصل الثامن عشر
سقوط البذ
لما خلا الأفشين إلى نفسه بعد خروج سامان فكر مليا فيما سمعه منه فصادف هوى في نفسه، وسيان عنده فعل سامان ذلك حبا له أو خوفا منه أو طمعا في تغيير الوصية، وأعاد ما سمعه عن جهان وتذكر جمالها وكبرياءها فسره أنه ظفر بها، وأنها متى وقعت في يده هذه المرة فلا مفر لها منه، ثم تذكر أن ضرغام هو العقبة الوحيدة في سبيله، وفكر فيما لمح إليه سامان من الاحتيال لإيقاعه، فاعتزم ذلك.
وقضى أياما في مثل هذا المنى حتى جاءه صاحب الخبر منبئا بقدوم الصاحب مع رجاله. وفي صباح اليوم التالي جاء ضرغام، فرحب به الأفشين وأثنى على رغبته في نصر الدولة. فأجابه الصاحب شاكرا، ولحظ الأفشين في وجهه تغيرا مما أحدثه يأسه من جهان، فلم يبال وجعل يبالغ في إطراء بسالته وعلو همته فقال ضرغام: «لا فضل لنا في خدمة الدولة ونصرة الدين الحنيف.»
قال: «صدقت، وقد جئتنا في إبان الحاجة إليك فإني لا أرى بين قوادي من يركن إليه في المهمات غيرك، وقد خبرتك وعلمت شجاعتك وصبرك.»
نامعلوم صفحہ