وبعد أن ترجلت القهرمانة مدت يدها لاستقبال سيدتها، فنزلت «جهان» حتى وقفت بجانب المركبة والأبصار شاخصة إليها للتمتع بجمالها الجاذب النادر. وكانت قد لبست ذلك اليوم ثوب الصيد، وهو يتألف من السراويل والقباء أو الدراعة، وتزملت بما يشبه العباءة من الحرير المزركش، ولفت رأسها بعمامة أشبه بالعصابة تغطي الجبين إلى الحاجبين، وأرسلت منها ذؤابتين خلف العنق اتقاء حر الشمس. وأدارت العباءة حول العنق حتى لا يبدو منها غير بعض وجهها.
وكانت طويلة القامة جليلة الطلعة، في وجهها هيبة وصحة وجمال، وعيناها كبيرتان فيهما نور وذكاء وجاذبية لا يعبر عنها بغير السحر؛ ولذلك يشعر من يبادلها النظر أو الحديث بسلطانها على قلبه وعقله فلا يقوى على التبسط معها في الحديث ، ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها في أمر كأنها ملكت عليه إرادته فيصبح آلة بيدها. وكان الناس ينتظرون خروجها من منزلها للصيد أو النزهة فيقفون في الطرق ليشاهدوا محياها فكانت تبتسم للناظرين فتزيدهم تعلقا بها.
أما في ذلك اليوم فخاب فألهم؛ لأنهم رأوا في وجهها قلقا وفي عينيها دمعتين تحاول إخفاءهما بالابتسام.
ولو أنك نظرت إلى جهان في بيتها وقد أزاحت اللثام حتى ظهر عنقها وأرخت شعرها، لرأيت قوة الجنان ورباطة الجأش ظاهرتين حول فمها وفي ذقنها، وتجلت لك قوتها في اندماج عنقها. وقد تعجب لأول وهلة من اختلاف ملامحها عن ملامح الفارسيين وأبوها منهم. فإذا علمت أن أمها جركسية زال تعجبك وعلمت أنها ورثت تلك الملامح عن أمها، كما ورثت عنها كثيرا من سجايا الجراكسة كالقوة والشجاعة والأنفة وتعود ركوب الخيل والسباق بها والخروج للصيد. على أنها أخذت عن أبيها ذكاء الفرس وتعقلهم ودقة إحساسهم؛ فكانت لهذا وذاك نادرة عصرها جمالا وجلالا، وشغف بها الفرغانيون وسموها «عروس فرغانة».
فلما نزلت من المركبة ورأت الناس وقوفا لانتظارها وهم شاخصون بأبصارهم إليها، حيتهم على عجل خوفا من ظهور اضطرابها وهي حريصة على كتمان ما بها؛ ثم التفتت إلى القهرمانة وقالت بصوت موسيقي جميل: «أين الجواد يا أماه؟» وكانت تناديها بذلك تلطفا وتحببا؛ لأنها ربتها من صغرها وكانت ضنينة بها شفيقة عليها؛ ولذلك كانت جهان تستودعها أسرارها وتكشف لها عن مكنونات قلبها. ولم تبطئ في الخروج من المركبة إلا لاشتغالها بالتحدث إليها في شيء أهمها.
فأشارت القهرمانة إلى السائس، فأتى بالجواد يختال تيها كأنه يرقص، فلما دنا من جهان نظرت إليه وابتسمت ثم داعبت جبينه بأناملها، وكان على جبينه شعرات بيضاء تمثل أسدا رابضا فسمته لذلك «شير» وهو اسم الأسد بالفارسية. فلما شعر الجواد بأناملها استأنس وأخذ يضرب الأرض برجله. ثم التفتت القهرمانة إلى الواقفين وقالت: «إن مولاتنا ذاهبة إلى الصيد فامكثوا مع المركبة هنا لإعداد الطعام، وليتبعنا منكم رجلان يحسنان الركض حتى إذا وقع لنا صيد أتيا به.» ثم امتطت جهان جوادها الأدهم بأسرع من البرق، وقدم «فيروز» السائس للقهرمانة خيزران جوادها، وأعانها على الركوب، فركبت وأشارت إلى السائس أن يتقهقر ويمشي مع الرجلين الآخرين وأحدهما مرجان، وساقت جوادها إلى جانب جواد سيدتها وسارتا متلازمتين، وقد تنكبت جهان القوس وأما جعبة النبال فكانت معلقة بالقربوس، والتمست عرض البر والجوادان يسيران معا على مهل، والأرض سهلة وأكثرها مزروع، وتبدو في أقصاها الجبال المحيطة بالمدينة.
كانت جهان قد تعودت الذهاب في الشعاب والأودية مع الفهادين وأصحاب الكلاب لاصطياد الغزلان أو حمر الوحوش أو الوعول. ولكنها في هذا اليوم لم تصطحب أحدا من أولئك؛ لرغبتها في الانفراد، وإنما اتخذت الصيد حيلة للخروج.
فلما أمعنتا في الخلاء التفتت القهرمانة إلى جهان لفتة حنو وانعطاف وقالت: «والآن يا سيدتي ألا تكشفين لي عن سبب انقباضك، وأنت تعلمين أني مستودع أسرارك وأسرار أمك من قبلك؟»
فتنهدت جهان وقالت: «دعيني يا أماه من هذا الحديث، إنما جئت لأروح عن النفس بالصيد.»
فضحكت القهرمانة وقالت: «وهل تريدين مني أن أصدق أنك خرجت للصيد وأنا التي اخترعت هذه الحيلة لنخرج معا؟ أم تحسبين سرك خافيا علي؟!»
نامعلوم صفحہ