الفصل السابع عشر
يأس ضرغام
كان ضرغام قد بث العيون والجواسيس يبحثون عن جهان في أنحاء المشرق، وفيهم من سافروا إلى فرغانة، فلبث حقبة من الدهر ينتظر رجوعهم فعادوا وما فيهم من سمع خبرا أو عرف شيئا يهديه إلى مكانها، فضاقت الدنيا في عينيه بما رحبت وغلب عليه اليأس وأخذ يفكر في المجرم الذي سبب فقدها، فلم يجد غير الأفشين، ثم تذكر ما عرفه عن سامان ونفاقه وغدره فارتاب في أمره. وكان يقضي أيامه وحيدا في منزله إلا إذا خرج المعتصم واصطحبه للصيد أو الرياضة أو الصلاة، وكان يستأنس بياقوتة استئناسا كثيرا لكمالها ومشابهتها لجهان، وكلما نظر إليها تذكر صاحبه حمادا وود من صميم فؤاده أن يجمعها به لعله يوفق إلى من يجمعه بحبيبته.
ولما طال انتظاره وانقطعت أخبار جهان عنه ويئس من وجودها، استولت عليه السويداء ولم يعد يرى للحياة معنى، وود لو أنه يشغل نفسه بحرب أو نكبة أو مرض، أو أن يموت ويتخلص من عذاب الشوق والقلق. وسبيل الموت الانتحار، وهو يعده جبنا لا يقدم عليه غير الضعفاء إذا غلبوا على أمرهم أو خولطوا في عقولهم. ومع هذا فإن في نفسه بقية أمل في العثور على جهان. وكبر عليه أن يموت ولا يثأر لها، فوقع في حيرة، وظهرت حيرته في وجهه فلم يكن يراه أحد إلا تبين في محياه القلق رغم ما يحاوله من التكتم، ولا سيما أمام أمه لئلا يحزنها، ولم تكن هي لتخفى حاله عليها. فكان إذا سألته عن جهان وأخبارها قال: «إنهم لم يقفوا لها على خبر وقد أرسلت آخرين لجهات أخرى، فلعلهم أن يعثروا عليها.» وكانت أمه توهمه أنها صدقت قوله وتزيده أملا بلقائها فأصبح ولا تعزية له غير وردان، وأصبح على طول العشرة أقرب الناس إليه. فكان إذا سئم أو قلق شكا إليه حاله واستشاره في أمره، فيخفف وردان عنه. فسمعه مرة يتذمر ويسأم الحياة وهو يتمشى في حديقة القصر معه فقال له: «مثلك لا يجوز أن يضعف إلى هذا الحد يا مولاي.»
قال: «لا تقل يا مولاي؛ لأنك صديقي يا وردان؛ ولذا تراني أشكو إليك همي وأكشف لك نفسي، إني لا أرى معنى للحياة مع اليأس من لقاء جهان.»
قال: «لكل نفس أجلها لا تؤخر ساعة ولا تقدم ساعة. فاصبر إن الله مع الصابرين.»
قال: «لقد مللت الصبر، ولا أرى راحة إلا في الموت. ولكني أحتقر المنتحرين.»
فأحب وردان أن يبدي رأيا يرتاح إليه ضرغام ويصادف هوى في نفسه هو منذ جاء العراق فقال: «أمثلك يكره الحياة ويعجزه السبيل إلى الموت وهو من خاصة المعتصم وكبار قواد المسلمين والحرب قائمة لا يخمد سعيرها بينهم وبين جيرانهم من الفرس أو الروم أو العرب؟»
فنبه كلامه ضرغاما. وكان ينبغي أن يتنبه من قبل فقال: «صدقت، إن الموت في ساحة الوغى ميسور لمثلي. ولكن أمير المؤمنين يلزمني صحبته؛ فقد جعلني صاحبه ومنعني من السفر.»
فقال: «لا أظنه يمنعك بعد الآن.» قال: «ولماذا؟»
نامعلوم صفحہ