إن سياسة الانفتاح أساسها الفكر والاقتصاد وحتى السياسة، إننا أخذنا بها لتقوية الاقتصاد المصري بحيث نغري المستثمر الأجنبي بأرباح من عندنا أكثر مما يجده في أي بلد آخر أو مشابه، بمعنى أنها سياسة لتدعيم الاقتصاد وليست سياسة «التعليم» (أقصد جعله عالميا). الاقتصاد المصري بعدما مصرناه، ومعنى أننا مصرناه أننا امتلكنا أصوله، والانفتاح جئنا به ليجعل هذه الأصول تعمل بأقصى طاقتها ويربح منها الأجنبي بأكثر مما يربح من أي بلد آخر. ولكن أبدا ليس على حساب «بيع» الأصول، كما كان الخديوي إسماعيل يفعل، يبيع سندات قناة السويس وغيرها ليسدد ديون مصر، وكانت النتيجة صندوق الدين واحتلال مصر نفسها بعد هذا. وأعتقد أن القائمين على سياسة الانفتاح والقائمين على أمر هيئة الاستثمار يعرفون هذا جيدا، ولديهم بالفعل مشروعات جاهزة ووافرة الأرباح لمن يشاء أن يربح، ولكن لا أعتقد أبدا أن مشروعا كهذا توافق عليه هيئة الاستثمار؛ لسبب بسيط هو أنه لا استثمار فيه بالمرة. فنحن كأفراد مصريين نستطيع أن نقوم بمشاريع كهذه بمنتهى البساطة. ولنأخذ مثلا بسيطا، أن سينما ميامي والمسرح المجاور لها مساحتها أربعة آلاف متر مربع في قلب القاهرة التجارية، لو بعناها حتى كأرض فضاء للمواطنين المصريين العاديين وتواضعنا جدا وجعلنا المتر هناك بخمسمائة جنيه، لكان ثمنها اثنين مليون جنيه ثمن أرض فضاء فقط، ولو أنشأنا شركة مساهمة مصرية لبناء عمارة فوق هذه الأرض نجعل من بدرومها ودورها الأول أربع دور عرض فوقها عشرون دورا كل دور يحتوي على الأقل على عشر شقق أو ربما عشرين، لوجدنا في أيدينا في ظرف لا يزيد عن عامين المائة والستين مليون جنيه رأس مال الشركة المفروض أنها ستنتج وتطور وتبني صناعة السينما في مصر. إن لدينا في مصر مكاتب وشركات وأشخاصا يستطيعون أن يدفعوا فورا ما يزيد على المائة مليون جنيه ليحظى كل منهم بشقة في شارع طلعت حرب في قلب العاصمة، فلماذا نشرك الغريب في شيء نستطيعه نحن بكل بساطة ويعود علينا ربحه كله، ونمول بهذا الربح دور عرض تدر ربحا رهيبا علينا، ونمصر بها صناعة السينما فعلا؛ تلك التي سيتحكم فيها الموزع اللبناني الذي يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، وهو بحق إمبراطور الصناعة، وعلى بابه يقف جميع نجومنا ومنتجينا وغرفة سينمتنا بجلالة قدرها؟ إن 600 دار عرض كفيلة بتمويل الصناعة السينمائية المصرية تمويلا ذاتيا، بحث لا تخضع لذوق، أو يفرض عليها مواصفات تجعل المصريين في الخارج والداخل يلعنون أنفسهم من أجلها.
وكل هذا من بناء دار سينما واحدة.
فما بالك بديانا وفريال في الإسكندرية، وأربعة أفدنة في قلب شارع الهرم اسمها ستوديو الهرم، وكل هذا لأن «المستثمر» سيدفع مقدما اثنين مليون جنيه؟ إن المثل العربي يقول: «ما يحتاجه المنزل يحرم على الجامع.» معناه بالعربي الفصيح أن ما تستطيع أن تفعله أنت وحدك وبمنتهى البساطة وتعود فائدته لك يصبح من الجريمة أن تعهد به إلى آخر.
إذا كانت هيئة السينما في حاجة لتطوير نفسها لتصل إلى ما لم تصل إليه هوليود، فعليها فقط أن تطرح عملية بناء ميامي على المواطنين في مصر، السهم ذو العشرة جنيهات يصبح بعد خمس سنوات ثمنه مائة جنيه. فلتطرح الهيئة الفكرة والأسهم ولتر كيف ستمطر عليها السماء ذهبا وبدون حاجة إلى مستثمر وبدون حاجة إلى مليم واحد من الخارج.
أما الانفتاح، فلنتركه لمشاريع تحتاج إلى الخبرة والتكنولوجيا، تحتاج إلى ما ينقصنا وما لا نستطيعه، ولتربح من ورائه ما تشاء، فحلال عليها ما دامت في النهاية ستئول إلينا. •••
إنها مجرد فكرة، ولكني متأكد - رغم أني لست اقتصاديا - من صحتها، فالاقتصاد أولا تفكير معقول، أما غير المعقول فهو ما يحدث الآن تحت شعار الانفتاح وباسمه. إن الانفتاح هو من أشد حاجاتنا القومية ومن ضرورات حياتنا، وقد تجاوب معه شعبنا ومع واضعه ومخططه الرئيس السادات تجاوبا فاق كل تقدير؛ ذلك أن الشعب فهمه كما فهم القائد على هذا النحو القومي الوطني العظيم. وليس بالضرورة أن يكون الانفتاح بالخارج فقط وإلى الخارج، فهناك انفتاح قد يكون أكبر، ذلك هو الانفتاح إلى الداخل، واستخراج المدخرات القومية وتوظيفها؛ إذ لو فعلنا هذا، ولو بدأنا بأن نعرف كيف نستغل نحن بلادنا ومصادرنا لانهالت علينا المشاريع من الخارج. ذلك أن رأس المال لا يستخدم نفسه لتقديم الصدقات، إنما هو يلهث وراء من يعرف كيف يفكر ويربح، وكيف بذكائه يستطيع أن ينتج ويدر معه وعليه الأرباح. إن رأس المال الأجنبي لا يقدم نفسه إلا للناجح، أما إذا قدمه للغبي أو الفاشل فلا بد أن يفعل هذا ليسرقه.
وأنا لا أعتقد أبدا أننا أغبياء أو فاشلون.
الخطة الجهنمية الجديدة1
من جولة في شرقنا العربي عدت ... من عشرة أيام عدت، وقد كان مفروضا أن أكتب انطباعاتي فور عودتي، ولكني لم أشأ هذا، فقد كانت تشغلني مشكلة أهم من الكتابة بكثير؛ مشكلة أننا رغم كوننا أمة عربية واحدة تكون لها - مع اختلافات غير أساسية - نفس الشخصية، بل والملامح الجسدية في أحيان. رغم هذا إلا أننا منذ وعينا حتى بكياننا هذا الواحد لا نفهم بعضنا، واحتراسا أقول إلا فيما ندر. أما قانوننا العام السائد فهو أننا أبدا لا نفهم! لغتنا عربية ومشتركة ولساننا واحد، والأفكار الشائعة في عالمنا العربي تكاد تكون نفس الأفكار، إلا أن اللغة واللسان وأدياننا الواحدة وأفكارنا العامة المطروحة كلها معلقة هناك في سمائنا الواحدة كالسحابة، بعيدة دائما عن أرض الواقع، بعيدة عن الإنسان.
ومن أعسر بلادنا العربية قدرا على عدم الفهم، هي قلب هذه الأمة، مصر، يحبونها ويحبون شعبها، والقاهرة حلم المسافر إذا أراد السفر، ولكننا بالمرة غير مفهومين.
نامعلوم صفحہ