عالم السدود والقيود
عالم السدود والقيود
اصناف
نعم، ويعرف نقيب تماما في اليوم التالي أو اليوم الذي بعده أن ممدوحه هذا بعينه صعلوك ابن صعلوك، لا يملك سيارة وإنما هو «حمار سبخ» لا يساوي شلنين! ولا يملك قصرا باذخا وإنما هو كوخ في عرب المحمدي ينبني وينهدم في يوم! ولا يلبس الحرير وإنما هي ملاءة الفراش القديمة يرقعها ويفصلها جلابيب، والظريف أن يكون جلباب الممدوح أو المهجو ذلك اليوم من نسيج منقوش بالمربعات التي تنقش بها ملاءات السرير، فالشاعر على هذا لا ينسى بعض الحقائق وبعض المناسبات! •••
ذاك هو المجنون الأول.
أما المجنون الثاني فقد كنا نعجب له كيف اتسع وقته لزيارة البيمارستان وهو لا يفارق السجن إلا ليعود إليه؟ وكيف يفارق البيمارستان إذا دخله مرة وهو أقرب إلى أهله من أهل السجون.
قال لي إنه قضى في السجن أكثر من عشر سنين، وقال لي أحد الحراس: إنه قضى فيه ثلاث عشرة سنة كلها أحكام مقطعة بين ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة، وهو يعيد نفسه إلى السجن كلما أخرجوه عند انتهاء أمده على الرغم منه، وما عليه إلا أن يخطف ما يخطف، أو يضرب كل من صادفه أمامه صالحا «للانضراب» ثم يدع للمحكمة والشهود والمجني عليه أن يحلوا اللغز ويكشفوا عن سر الجريمة بين مضروب لا يعرف الضارب، وضارب لا يعرف المضروب.
وقد سرى إلى قرارة خلده شعور صادق بضرب من «الملكية» للسجن بحق المكث الطويل فيه، فسمعته يوما يتحدث مستخفا غاية الاستخفاف عن مأمور السجن الذي مضت عليه في الوظيفة سنوات، ويذكره باسمه وهو يناجي بعض أصحابه قائلا: من هو «فلان» المأمور هذا؟! إننا لا نسمع به إلا هذه الأيام!
وهذا - المخلوق - وليكن اسمه عساسا على طريقتنا في تسمية نقيب - هو النشوز بعينه لمن يراه، ولمن يسمعه، ولمن يراقب أحواله، ويستقصي أخباره.
وجهه ناشز، وصوته ناشز، وأخلاقه وأعماله نشوز في نشوز، ولكن المدهش في نشوزه أنه على استواء واحد، كأنما ينشز بقاعدة مرسومة، فإذا غنى اليوم وأعاد الأغنية بعد عشرة أيام فوقع النغمة في الأذن واحد، وهي مع ذلك ناشزة في كل مرة على نحو مختلف من النشوز، فليس التشابه في أغانيه كتشابه الأسطوانة التي تعاد، والدور الذي يضبط ويدار على لحن واحد، ولكنه مع ذلك تشابه لا يحكيه أحد سواه.
ولا ريب عندنا في أن عساسا هذا على حظ من مزاج الشاعرية يناسبه ويماثله في الهبوط والتفاهة، فهو إذا احتواه الليل بين أركان حجرته، رفع عقيرته وخاطب تلك الحجرة الجافية معددا لها شواهد حبه ودلائل غرامه، وإنها هي التي تعلق بها وتعلقت به ففيها مشتاه ومصيفه ، وإليها منقلبه ومآله، ولديها معتصمه وملاذه، من المأمور وغير المأمور، وعليه نظافتها وجلاؤها، وبينه وبينها ما ليس بين الزوج وزوجه من رحم ومودة.
ومن أجل هذه الأغاني سماه السجناء والحراس «عساس الأوضة»؛ لأنه يسمي الحجرة «أوضة» ولا يسميها زنزانة، كما تعرف في قاموس السجون.
وللجراية عنده أنشودة أخرى تجاري حركة التوزيع ساعة تفريق العدس والخبز عليه وعلى الزملاء: قرب يا شاويش وهات الجراية! واغرف يا شاويش وفرق الجراية، وانصفنا يا شاويش واشبعنا من الجراية ... وهكذا من قافية الشاويش إلى قافية الجراية حتى ينتهي التوزيع وينصرف السجناء، وهم يرددون ما لقنهم إياه شاعرهم عساس.
نامعلوم صفحہ