عالم السدود والقيود
عالم السدود والقيود
اصناف
هو يهذر ويحكي عن أهله، وينسى بعد ساعة واحدة كل ما قال.
وإنه لفي صمته العنيد ذات ليلة إذا بصائح يناديه: كيف حال بهية؟!
وإذا بصوت ينفجر من ناحية الحجرة التي فيها نقيب: بهية من يا ولد؟!
فيجيب التاجي الخبيث: بهية أختك! بهية ذات الشعر الأصفر! بهية ذات العينين النجلاوين! بهية ذات الردفين الثقيلين! بهية التي تلبس الرداء الأخضر! بهية التي تسكن في باب الشعرية! بهية يا حسرتي على بهية!
وكل هذه أوصاف سمعها التاجر، وسمعها «العنبر» كل ليلة من الليالي الغابرة من فم نقيب دون غيره، ونسيها نقيب.
ويصدق صاحبنا ما سمع، ويثوب إلى نفسه وكأنه يناجيها: «صدق من قال لا أمان للنساء!» ... والعجيب أن «بنت الكلب» أوشكت أن تدفعني إلى الموت؛ لأنها شكت إلي رجلا يغازلها ويسد المنافذ عليها، فبطشت به ولم ينقذه من يدي إلا عمره، لك حق يا فلان، اذهب فاصنع بها ما تشاء!
ثم يرجع ثائرا ويندم على هذا «التفويض» وينادي التاجر: إياك يا هذا أن تصنع بها شيئا، والله بعمرك! والله الحكاية كلها مشوار من هذه الحجرة التي أنا فيها إلى بيتك، ومن بيتك إلى هذه الحجرة التي أنا فيها، وعوض الله عليك في عمرك: أسمعت؟
نعم سمع، وسمع العنبر كله، وهذا هو المقصود. •••
وأعترف أنني قد عرفت من نقيبنا هذا شيئا كثيرا من طبيعة الشاعر القديم، أو الشاعر المداح الهجاء: عرفت أن كل ما يتوخاه ذلك الشاعر في فنه هو أن يقول لممدوحه: إنني أريد أن أرضيك بالثناء وترضيني بالعطاء، وهي صفقة معقودة علانية بعلم المادح والممدوح والسامعين، لا حاجة فيها إلى الصدق، ولا إلى المعاشرة، ولا إلى الإخلاص، ولا إلى شيء غير البضاعة والثمن، والبضاعة هي المدح الظاهر، والثمن هو العطاء الظاهر، وكان الله يحب المحسنين.
نقيب لم يكن يعرف أحدا من سجناء المحاكم المختلطة الذين كانوا يبرونه بالحلوى والجبن والإدام، ولكنه يعرف دائما أن الذي يعطيه قطعة من الحلاوة الطحينية أو شريحة من الجبن، رجل ثري يملك سيارة فاخرة تخطف الهواء، ويركبها الراكب وهو حذر على طربوشه أن يطير، وأنه يملك قصرا باذخا في بعض الضواحي دخله هو وأكل فيه، ولم ينفذ إلى حجرة استقباله إلا بعد أن عبر خمسة بوابين، ويعرف أن الحرير أبخس ما يلبسه الخدم في ذلك القصر الباذخ، فضلا عن السادة والسيدات! وهو يجهر بهذه المعرفة ليلة العطاء العلني المشهور المذكور بين سائر السجناء، وينادي أحد الزملاء ليحدثه جهرة بهذا كأنه يعني أن يكشف له سرا في غياب الممدوح، لأنه لا يخاطب الممدوح وإنما يخاطب سواه، فالكلام إذن؛ لا تمليق فيه ولا تزوير ولا محاولة إرضاء أو جزاء.
نامعلوم صفحہ