ولكن لا بأس؛ فإنه يسعى راجلا، وقد كانت تخب به الركاب أمس. وأكبر الظن أنه إذا مضى في طريقه وباعد بين خطاه، واحتفظ بهذا النشاط الذي لم يفارقه طول النهار فسيبلغ الدير حين يتقدم الليل. وأكبر الظن أنه لن تمضي ساعات حتى يرى هذه المعالم، ويتبين هذه الأضواء الضئيلة المضطربة التي تخفق في ظلمة الليل وتمضي إلى بعيد كأنها تدعو إلى الدير أمثاله هؤلاء الذين أضنتهم الصحراء وأعياهم السفر البعيد.
والفتى يمضي وظلمات الليل تتكاثف ويركب بعضها بعضا، وهذه الأشعة الضئيلة التي تنحدر من السماء تحاول أن تشق هذه الظلمات فلا تكاد تبلغ من ذلك شيئا. ومع أن كل شيء قد كان صامتا من حول الفتى في تلك الصحراء الموحشة أثناء النهار، فقد يخيل إليه أن اللغط من حوله قد أخذ يظهر شيئا فشيئا، قد أخذ يظهر قليلا ضئيلا كأنه قطع متفرقة تحملها الريح، ثم يشتد ويتدانى قليلا قليلا، ثم يتلاصق وينعقد ويأخذه من كل مكان، وإذا هو يسمع أصواتا مشتبكة تأتيه من كل وجه: تأتيه من أمام إذا مضى إلى أمام، وتأتيه من وراء إذا وقف متفكرا مستخبرا، وتأتيه من يمين وشمال، ولو صدق نفسه وآمن لخياله لاعتقد أن هذه الأصوات تنجم له من الأرض، وتهبط عليه من السماء، وهي على كل حال تغمره من جميع أقطاره وتكاد تغرقه. ولكنه لم يفقد رشده، ولم يضل صوابه؛ فهو يشهد هذا كله شاعرا به، محققا له، مفكرا فيه. ثم لا يلبث أن يرده إلى أصله ويضيفه إلى مصدره. فهو قد سافر يوما كاملا لم يذق فيه من الراحة إلا ما لا يغني، ثم هو قد استأنف السفر يوما كاملا لم يذق فيه طعاما ولا شرابا، ولم يأخذ فيه من الراحة بقليل ولا كثير. وهذا الليل قد تقدم وهو ما زال ماضيا أمامه، ولعله يحس تقارب الخطى وشيئا من الكلال قد أخذ يتمشى في أطرافه. فهذا الإعياء من غير شك هو أصل هذا اللغط ومصدر هذه الأصوات التي تأخذه من كل وجه. وويل للنفوس القوية من الأجسام الضعيفة! إن نفسه لكاملة القوة، مجتمعة النشاط، قادرة كل القدرة، وحريصة أشد الحرص على أن تمضي حتى تبلغ الدير. ولكن هذا الجسم الضعيف قد أخذ يفتر ويتهالك، ويعجز عن مجاراة هذه النفس القارحة. فليت الله لم يبتل النفوس بالأجسام! وليته أتاح لهذه النفوس حياة مجردة من المادة، مطهرة من هذه الأدناس والأوضار! ولكن الأصوات تلغط ويتكاثف لغطها في سمع الفتى كما تتكاثف ظلمة الليل أمام عينيه. ولكن جسم الفتى يفتر ويفتر، ويثقل ويشتد ثقله حتى تعجز نفس الفتى عن حمله، وتود لو تخرج منه فتلم بالدير ثم تطير إلى الحجاز حيث الصبي العربي اليتيم.
ولكن خطى الفتى تقرب وتقرب، وإذا هو يحس أنه يتحرك دون أن يتقدم، وينظر فإذا هو قائم مكانه قد فارقته قوته وفارقه نشاطه، وأحس حاجة إلى الراحة لا يستطيع لها مقاومة، ولا يجد منها بدا!
الراحة! ولكن كيف السبيل إليها؟! وأين يبتغيها وهو في هذا المكان الموحش الذي لا يعرف له أولا ولا آخرا! أما أمس فقد استطاع أن يطلب الراحة مع أصحابه في ظل ذلك الحصن الضخم الشاهق في السماء. وقد كان يظن أنه سيطلب الراحة من ليلته في ذلك الدير الذي لا ينبغي أن يكون بعيدا، لولا ضعف هذا الجسم النحيف الذي يقعد به وليس بينه وبين الغاية إلا أمد قريب.
ومع ذلك فويل للذين يريدون ولا يفعلون! وويل للذين يزعمون ولا يتممون! وهو قد أراد ولا بد من أن يفعل. وقد عزم ولا بد من أن يتمم ما عزم عليه. ومن الحق أن جسمه لا يعينه، وأن خطواته لا تطاوعه. ولكن لا بأس! فليرفه عن هذا الجسم شيئا، وليمنحه من الراحة نصيبا، وليجلس هنا في هذا المكان الموحش الذي لا يعرف له حدا. ولكن ليحتفظ بقوته ويقظته، وليدفع النوم عن نفسه دفعا، حتى إذا استراح الجسم ساعة أو بعض ساعة، أنهضه وكلفه السعي حتى يبلغ المأمن، وينتهي إلى الغاية، ويصل إلى الدير.
وخيل إلى الفتى أنه جلس، وإن كان الحق أنه خر من أقطاره صريعا. وظن الفتى أنه محتفظ بقوة نفسه، ويقظة ضميره وذكاء قلبه، ونشاطه كله، وأنه سينهض بعد حين فيمضي إلى غايته. وقد هم أن ينهض بعد حين. ولكن ماذا! إنه ليحاول النهوض فلا يجد إليه سبيلا. وإنه ليحاول أن يحرك بعض أطرافه فلا يجد إلى ذلك سبيلا. وإنه ليسمع ذلك اللغط الذي كان يسمعه منذ لحظة ولكنه يتميزه الآن بعض الشيء؛ فهو ليس صوتا منعقدا كثيفا، ولكنه أصوات متفرقة، تتنادى وتتجاوب كأنها أصوات قوم يتحدثون. ثم يحاول أن يفتح عينيه فلا يجد إلى ذلك سبيلا. أين هو؟ ما خطبه؟ ماذا ألم به؟ إنه ليجد ثقلا في أطرافه، وعجزا عن الحركة، وعجزا حتى عن أن يفتح عينيه. وإن عقله مع ذلك لحاضر يقظ، ولكنه يحس كأنه يتحرك على غير إرادة، أو كأنه محمول على شيء يمضي به دون أن يتحققه أو يعرف ما هو.
ثم تنجلي عن الفتى ظلمات نفسه شيئا فشيئا، وتثوب إليه خواطره قليلا قليلا، ويحضره عقله ورشده حقا، ويمتلئ قلبه بالحقيقة الواقعة التي تملؤه رعبا وجزعا، وإذا هو يصيح صيحة منكرة، صيحة المستغيث الواله، فلا يجد لصيحته صدى، ولا يسمع لها جوابا، ولكنه يحس كأنه محمول على شيء يمضي به مسرعا ، وهذه الأصوات تدفعه دفعا وتحثه حثا عنيفا. ليس من شك في أنه أسير، قد أسره بعض الناس، أو أسره بعض الجن التي كانت تلغط في الصحراء. لشد ما ود لو استطاع أن يفتح عينيه وينظر من حوله. فليس من شك في أن الذين أسروه قد عصبوه. وهو يستغيث ويلح في الاستغاثة، ويئن ويلح في الأنين، فلا يسمع إلا أصواتا تتضاحك، وقوما يتنادون، وحثا لهذه المطية التي تحمله.
ثم تمضي ساعة وساعة، وإذا هو يحمل فيحط على مطيته، ثم تحل العصابة عن عينيه فينظر فيرى. ويا هول ما يرى! يرى نفسه طريحا على الأرض في ظل خيمة غليظة خشنة، وقد أحاط به نفر نحاف الأجسام، سمر الوجوه، يتطاير من عيونهم الشرر، ولكنهم مع ذلك يرفقون به، ويعطفون عليه، ويحطون عنه الأغلال، ويردون إلى يديه حريتهما، ولكنهم يحتفظون برجليه في القيد، ثم يقدمون إليه في سخرية رفيقة شيئا غليظا من طعام وشراب.
13
وقد أحس الفتى بعد هذه الساعة الأليمة أن هزيمة العقل وفلسفته قد كانت منكرة حقا أمام طبيعة الجسم وغرائزه. فلم يكد يرى ما قدم إليه من طعام وشراب حتى أقبل عليه في نهم لم يألفه، فازدرده ازدرادا، لم يصده عنه غلظه وجفوته، ولم يصرفه عنه بعد ما بينه وبين ما كان قد ألف من لين الطعام ورقيق الشراب. بل لم يصرفه عنه ما كان يجد من ذل الإسار بعد عز الحرية، ومن خيبة الأمل بعد تلك الأماني العراض التي ملأت حياته حين كان في المدينة يلهو ويعبث مع صديقيه، وحين كان في الدير ينتظر ما سيتكشف عنه الغيب له ولصديقه الشيخ من الآيات الكبار، وحين تحول عن رفيقه «بحيرى» ومضى عائدا أدراجه مذعنا لذلك الصوت الغليظ الخشن الذي سخر منه في هدوء. كل ذلك لم يخطر له، ولم يثر في نفسه غيظا ولا حنقا، ولم يغره بامتناع ولا إباء حين قدم إليه الطعام والشراب، وإنما استعرضه وفكر فيه، وذاق مرارته واحترق بلوعته بعد أن شفى ألم الجوع والظمأ، وبعد أن استرد جسمه قوته ونشاطه. ولو أننا اطلعنا على دخيلة نفسه حينئذ لرأيناه خجلا مستخذيا، ووجلا محزونا، ويائسا من هذا العقل الذي كان يؤمن به ويذعن له، ويرى أنه أقوى ما ركب في الإنسان من غريزة، وأعز ما منح للإنسان من سلطان. وها هو ذا الآن يراه ذليلا منكسرا، لا يقدر على مقاومة، ولا يثبت لمناضلة، ولا يمتنع على غرائز هذا الجسم الضعيف الذي كان يحقره ويزدريه. على أن الفرصة قد أتيحت ل «كلكراتيس» ففكر على مهل، وروى في أناة، وقلب أمره على وجوهه كلها، وتذوق مرارة حاله الجديدة حتى استقصى أدق ما فيها من ألم، وأخص ما فيها من ندم؛ فهو لم يكد يفرغ من طعامه وشرابه ويشعر أن جسمه قد استرد شيئا من طعام وشراب، واستردوا حظا من قوة ونشاط، وإذا هم يتنادون ويتناجون وتختلف بينهم الألفاظ والألحان والإشارات، وهو يرى ويسمع ولا يفهم شيئا. ثم يقبلون إليه فيردون يديه إلى الغل وعينيه إلى الظلمة، ويحملونه حيث يشدونه على مطيته تلك التي كان يحسها منذ حين تسرع به في السير إسراعا رفيقا.
نامعلوم صفحہ