مقدمة
الكتاب الأول
1 - حفر زمزم
2 - التحكيم
3 - الفداء
4 - الإغراء
5 - البين
6 - القضاء
7 - الردة
8 - الطاغية
9 - البشير
10 - راهب الإسكندرية
11 - اليتيم
12 - الحاضنة
13 - المراضع
14 - البر
الكتاب الثاني
1 - الفيلسوف الحائر
2 - راعي الغنم
3 - حديث باخوم
4 - صاحب الحان
5 - نادي الشياطين
الكتاب الثالث
1 - صريع الحسد
2 - سيد الشهداء
3 - ذو الجناحين
4 - حديث عداس
5 - مصعب بن عمير
6 - طريد اليأس
7 - نزيل حمص
8 - الوفاء المر
9 - طبيب النفوس
10 - شوق الحبيب إلى الحبيب
11 - القلب الرحيم
مقدمة
الكتاب الأول
1 - حفر زمزم
2 - التحكيم
3 - الفداء
4 - الإغراء
5 - البين
6 - القضاء
7 - الردة
8 - الطاغية
9 - البشير
10 - راهب الإسكندرية
11 - اليتيم
12 - الحاضنة
13 - المراضع
14 - البر
الكتاب الثاني
1 - الفيلسوف الحائر
2 - راعي الغنم
3 - حديث باخوم
4 - صاحب الحان
5 - نادي الشياطين
الكتاب الثالث
1 - صريع الحسد
2 - سيد الشهداء
3 - ذو الجناحين
4 - حديث عداس
5 - مصعب بن عمير
6 - طريد اليأس
7 - نزيل حمص
8 - الوفاء المر
9 - طبيب النفوس
10 - شوق الحبيب إلى الحبيب
11 - القلب الرحيم
على هامش السيرة
على هامش السيرة
تأليف
طه حسين
مقدمة
هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتها مسرعا، ثم لم أر بنشرها بأسا. ولعلي رأيت في نشرها شيئا من الخير؛ فهي ترد على الناس أطرافا من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرءون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم.
إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق، يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرا. وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة، والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل والذوق الهين الذي لا يكلف مشقة ولا عناء!
ذلك إلى أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتا مستقرا، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا في نصوصه يقرءونها ويعيدون قراءتها، ويستظهرونها ويمعنون في استظهارها. إنما الأدب الخصب حقا، هو الذي يلذك حين تقرؤه؛ لأنه يقدم إليك ما يرضي عقلك وشعورك، ولأنه يوحي إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويعيرك من خصبه خصبا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة؛ وينطقك كما أنطق القدماء، ولا يستقر في قلبك حتى يتصور في صورة قلبك، أو يصور قلبك في صورته؛ وإذا أنت تعيده على الناس فتلقيه إليهم في شكل جديد يلائم حياتهم التي يحيونها، وعواطفهم التي تثور في قلوبهم، وخواطرهم التي تضطرب في عقولهم.
هذا هو الأدب الحي. هذا هو الأدب القادر على البقاء ومناهضة الأيام. فأما ذلك الأدب الذي ينتهي أثره عند قراءته، فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه. ولو أنك نظرت في آداب القدماء والمحدثين لرأيت منها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال، وإنما هي آداب العصور كلها، والبيئات كلها، والأجيال كلها؛ لا لأنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحي إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتاب والمتصرفين في ألوان الفن على اختلافها.
وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تقرأ فتحدث اللذة وتثير الإعجاب في كل وقت وفي كل قطر؛ بل هو يأتيها من هذا، ومن أنها قد ألهمت وما زالت تلهم الكتاب والشعراء، وتوحي إليهم أروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان «إيسكولوس» أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة «هوميروس». وما زال القصاص وشعراء التمثيل والغناء في الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله «إيسكولوس» منذ خمسة وعشرين قرنا. ولم تكن قصص «إيسكولوس» وغيره من شعراء التمثيل اليوناني أقل خصبا من الإلياذة؛ بل هي قد ألهمت من الكتاب والشعراء قديما وحديثا، وما زالت قادرة على أن تلهمهم إلى اليوم وإلى الغد.
وإني لأذكر أني قرأت منذ أعوام قصة تمثيلية هي الثامنة والثلاثون من نوعها، وقد سماها صاحبها «جيرودو» بهذا الرقم؛ فوضع لها هذا العنوان «أنفيتريون رقم 38». كانت أسطورة تتصل بمولد هرقل فصورها سوفوكل قصة تمثيلية في القرن الخامس قبل المسيح. وما زال الشعراء والكتاب من اليونان والرومان والأوربيين المحدثين يتأثرون ويذهبون مذهبه أو غير مذهبه، في تصوير هذا الموضوع، حتى انتهت القصص التي كتبت فيه شعرا ونثرا إلى هذا العدد الضخم.
ولم يحجم فحول التمثيل عن طرق هذا الموضوع لأنهم سبقوا إليه، بل زادهم ذلك حرصا عليه ورغبة فيه. وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتيني «بلوت» والشاعر الفرنسي «موليير». ثم لم يشفق جيرودو من أن يطرق موضوعا سبق إليه الفحول من شعراء التمثيل في العصور القديمة والحديثة، فصور قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظارة في باريس سنة 1929 فكان فوزها عظيما، وإعجاب النظارة والقراء بها لا حد له.
وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإلهام. فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تكتب مرة واحدة، ولم تحفظ في صورة بعينها، وإنما قصها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف. وقل مثل ذلك في السيرة نفسها؛ فقد ألهمت الكتاب والشعراء في أكثر العصور الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية أيضا؛ فصوروها صورا مختلفة تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفني. وقل مثل هذا في الغزوات والفتوح، وقل مثل هذا في الفتن والمحن التي أصابت العرب في العصور المختلفة. ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبي العظيم عند الكتاب والشعراء الذين ينمقون النثر ويقرضون الشعر، في اللغة العربية الفصحى، بل جاوزهم إلى جماعة من القصاص الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس في صور مختلفة وأشكال متباينة، بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، وبما أصاب آباءهم من محن مظلمة وفتن مدلهمة، عرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كراما ظافرين. ولا خير في حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم توح إليهم رائع البيان شعرا ونثرا. وليس القدماء خالدين حقا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأشعار. إنما يحيا القدماء حقا، ويخلدون إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال مهما يبعد بها الزمن، وكانوا حديثا للناس إذا لقي بعضهم بعضا، وكنوزا يستثمرها الكتاب والشعراء لإحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام.
إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين، قصدت حين أمليت فصول هذا الكتاب. ولست أريد أن أخدع القراء عن نفسي ولا عن هذا الكتاب؛ فإني لم أفكر فيه تفكيرا، ولا قدرته تقديرا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه كما يتعمد المؤلفون؛ إنما دفعت إلى ذلك دفعا، وأكرهت عليه إكراها، ورأيتني أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسي، ويفيض بها قلبي، وينطلق بها لساني، وإذا أنا أملي هذه الفصول وفصولا أخرى أرجو أن تنشر بعد حين.
فليس في هذا الكتاب إذا تكلف ولا تصنع، ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتبا أخرى مهما تكن، والتي لا أمل قراءتها والأنس إليها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها، وحرصي على أن يقرأها الناس. ولكن الناس مع الأسف لا يقرءونها؛ لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يستطيعون. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربي القديم عامة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخصبة، فأنا سعيد حقا، موفق حقا لأحب الأشياء إلي، وآثرها عندي.
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن في سذاجتها ويسرها جمالا ليس أقل روعة ولا نفاذا إلى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى، واتخاذها موضوعا قيما خصبا لا للإنتاج العلمي في التاريخ والأدب الوصفي وحدهما، بل كذلك للإنتاج في الأدب الإنشائي الخالص، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
ثم إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب أن القديم لا ينبغي أن يهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغي أن يطلب لأنه جديد، وإنما يهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة، فإن كان نافعا مفيدا فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
وأنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها. وهم يشكون ويلحون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجده في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها. وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول. هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء؛ لأنهم سيقرءون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس. وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة. وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش.
وأحب أن يعلم الناس أيضا أني وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين؛ فإني لم أبح لنفسي في ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين.
ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فصول هذا الكتاب القديم في جوهره وأصله، الجديد في صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التي أخذ منها. فهذه المصادر قليلة جدا؛ لا تكاد تتجاوز «سيرة ابن هشام»، و«طبقات ابن سعد»، و«تاريخ الطبري». وليس في هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد في كتاب من هذه الكتب. فإذا اتصل الخبر بشخص النبي فإني أرده إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل في ذلك تبعة خاصة؛ لأني لا أذهب فيه مذهبا خاصا، إلا أن يكون تبسطا في الشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول بها إلى قلوب الناس.
فلييسر الله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليحسن الله موقعه في القلوب.
طه حسين
ديسمبر سنة 1933
الكتاب الأول
الفصل الأول
حفر زمزم
كان عبد المطلب سمح الطبع رضي النفس، سخي اليد، حلو العشرة عذب الحديث. وكان عبد المطلب أيضا قوي الإيمان، تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهما ولا تفسيرا. وأبوه من مكة، حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التي لا تحرج فيها ولا مشقة. وأمه من يثرب، حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاوز الوثنية فتضعفها، وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة، وحيث الظرف ونعومة الحياة.
ولد في يثرب، ومات عنه أبوه فلم ينقله إلى مكة، فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم، حتى بلغ الشباب أو كاد. ثم أقبل عمه فانتزعه من إقليمه السهل الهين، إلى إقليم آخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض، ولا تبتسم له السماء إلا قليلا، ويرحل أهله إلى الآفاق ويفد على أهله الناس من جميع الآفاق، فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة. ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت في نفس هذا الغلام. ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر، ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شيء من الاعتدال آخر الأمر. فلم يكتمل للفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش؛ فيه ذكاؤهم وفطنتهم، وفيه إباؤهم وعزتهم، ولكن فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة في الدين قلما كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشد التمييز؛ فلم يكن يصدر في حياته، كما كانوا يصدرون، عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه إلى العمل والاضطراب في الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو في الإباء، ولكنه يضطر إلى أن يذعن لها ويأتمر أمرها. وكانت هذه القوة تصدر إليه أمرها في أشكال مختلفة: تدفعه إلى العمل حينا وكأنها إرادته الخاصة، قد ملكت عليه حسه وشعوره، فهو لا يستطيع عنها انصرافا، ولا يملك لها خلافا. وتتمثل له حينا آخر شخصا واضح المخايل، بين الصورة، يلم به إذا اشتمله النوم، فيأمره أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وتنتهي إليه مرة ثالثة صوتا رفيقا، ولكنه ملح يملأ أذنيه يقظان، ويملأ أذنيه نائما، يحثه على أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وكان في هذا الصوت غموض، وكان في هذا الصوت إبهام، وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام. وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، ويلم به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظا خاصة غريبة الجرس غريبة المعنى.
كانت إليه رفادة الحاج وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء في أحواض من الأدم. وكان يجد في جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهدا وعسرا. فبينا هو نائم ذات يوم أو ذات ليلة أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له سمة ولا شكلا، وقال له في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر طيبة.» قال: «وما طيبة؟» فانصرف الشخص، وانقطع الصوت. وأفاق الفتى وفي نفسه ذعر وعجب وأمل، وحاول أن يعود إلى النوم، لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت، أو يتبين هذا الحديث، ولكن كان النوم قد خاصم عينيه، وانصرف عنه مع هذا الشخص الغريب. ففكر وأطال التفكير، وقدر وأطال التقدير، وتقلب في مضجعه فأكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه، فجلس يرقى ببصره الحائر إلى السماء، لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا. ويخفض بصره إلى الأرض لعله يجد في إطراقه تفسير هذه الرؤيا. ويمد بصره نحو الكعبة، لعل صنما من هذه الأصنام المنصوبة يوحي إليه تعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة، وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد إلى الفتى بصره متعبا مكدودا. وتهوي نفسه إلى قرارة ضميره، لعلها تجد لهذا الرمز تأويلا فلا تجد شيئا؛ فيشتد بها الذعر، ويزداد فيها العجب. ويبقى الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.
ثم يقبل الليل ويأوي الفتى إلى مضجعه، وقد أنسي كل شيء، إلا أنه قد مشى كثيرا، وأجهد نفسه كثيرا، وأنه أشد ما يكون حاجة إلى أن يبسط عليه النوم جناحيه. ها هو ذا مغرق في نوم هادئ مطمئن، وقد هدأ من حوله كل شيء، واطمأن في نفسه وجسمه كل شيء. ولكن ما هذا الشخص الغريب يقبل ساعيا إليه في أناة، حتى إذا دنا منه قال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة: «احفر برة!» وجسم الفتى هادئ مطمئن، ولكن نفسه ثائرة مضطربة، ولسانه يتحرك في ثقل وصوته ينبعث من بين شفتيه خفيفا رقيقا بهذه الكلمة: «وما برة؟» فينصرف الشخص، وينقطع الصوت، ويفيق النائم وجلا مذعورا، معجبا آملا، ويفكر ويقدر ويتقلب. ثم ينهض فيسأل السماء ولكنها صامتة، ويسأل الأرض ولكنها ساكنة، ويسأل أصنام الكعبة ولكنها مغرقة في البله والوجوم. ويضيق الفتى بنفسه وبالسماء والأرض والأصنام؛ فيهيم على وجهه يلتمس في الحركة والاضطراب نسيان هذا الطائف الذي يفزعه ويغريه.
ثم يعمل الناس في أمور الحياة، وينقضي النهار بخيره وشره، وحلوه ومره؛ ويقبل الليل شيئا فشيئا، فيبسط أرديته السود على ما يحيط بمكة من جبال وآكام، وما يزال يمد في هذه الأردية حتى يغمر كل شيء ويستر كل شيء، لولا هذه المصابيح الضئيلة التي تشب في الأرض، وهذه النجوم القليلة التي تضطرب في السماء. وقد سمر الفتى مع السامرين، فسمع أحاديث التجار عن غرائب الأقطار: هذا يحدث عن صور بصرى وعظمتها، وهذا عن الخورنق والسدير، وهذا يذكر غمدان، وهذا يصف أخلاق اليمانيين ومكرهم بالتجار، وهذا يتحدث عن سذاجة أهل الشام وانخداعهم لغربان العرب، وهذا يذكر ما أفاد من ربح حين باع الأدم في الحبشة، وهذا يذكر للقوم ما حمل لهم من خمر بيسان. وهم في أثناء هذا كله يتندرون على العجم والأعراب، ويتفكهون بأحاديث أولئك وهؤلاء، ويسخرون من أولئك وهؤلاء. حتى إذا تقدم الليل واطمأن كل شيء تفرقوا، ونهض الفتى ثقيلا، فمشى إلى بيته متباطئا يود لو فر من النوم، ويود مع ذلك لو نام فألم به هذا الطائف. انظر إليه! إنه ليتردد: أيقذف بنفسه في أمواج النوم هذه التي تتمثل أمام عينيه؟ أم يبقى على الشاطئ يقظان يداعبه النوم ولا ينام؟ ليتردد ما استطاع، ليمتنع على النوم ما وسعه الامتناع؛ فإن هذه الأمواج المصطخبة أمامه تستطيع أن تطغى على الشاطئ فتغمره، وتغمر معه كل شيء. وكيف يستطيع هذا الفتى أن يمتنع عليها، وما استطاعت أن تمتنع عليها جبال مكة هذه التي تحيط بها من كل ناحية! انظر! أترى حركة؟ اسمع! أتحس نبأة؟ كل شيء هادئ، كل شيء مطمئن؛ فما نبوك وما امتناعك! هلم إلى النوم لا تخف شيئا؛ إن هذه الأمواج تريح ولا تغرق. أقبل إلى هاتين الذراعين اللتين تمتدان إليك، فستنسى بينهما كل شيء. ومن يدري! لعلك تجد بينهما شفاء لنفسك الحائرة. وأطبق الفتى جفنيه واندفع أمامه، فاشتملت عليه أمواج النوم كما اشتملت على غيره من الناس والأشياء. ولكن ماذا؟ هذا شخص يتقدم ساعيا هادئا كأنه يمشي على الهواء، حتى إذا دنا من الفتى، قال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر المضنونة.» جسم الفتى هادئ ولكن صورة من الحيرة قد ارتسمت على جبهته، وهذا صوت خفيف رقيق ينبعث بين شفتيه وهو يقول: «ما المضنونة؟» فينصرف الشخص. ويفيق الفتى مذعورا مأخوذا، قد أظلم في نفسه كل شيء، وأحاط اليأس بعقله وقلبه وضميره، لا يرتفع بصره إلى السماء، ولا ينخفض إلى الأرض. ولا يمتد إلى أصنام الكعبة، ولكنه يدور حائرا. وينهض الفتى وهو يقول: ما أرى إلا أني سأجن؛ لئن أصبحت لآتين الكاهن، فلعلي أجد عنده من هذا العارض شفاء.
أقبل أيها الصبح! أسرع في الخطو، ارفق بهذه النفس الحائرة؛ هلم إلى سوطك المشرق المضيء، فبدد به هذه الأشخاص الماثلة، فرق به هذه الظلال المضطربة من حولي. ويقضي الفتى ليلا طويلا ثقيلا، حتى إذا كست الشمس بضوئها النقي ظواهر مكة وبطاحها، أسرع الفتى إلى المسجد يريد أن يقص أمره على الكاهن. ولكنه لا يكاد يبلغ مجالس قريش في فناء المسجد، حتى تذهب عنه حيرته، ويفارقه وجومه، ويمتلئ قلبه اطمئنانا وثباتا. ماذا؟ أأزعم للكاهن أني مجنون، وتشيع في هذه المقالة. ويضحك مني حرب بن أمية ولداته، ويتندر علي فتيان مخزوم! كلا! ما أكثر هذه الخيالات التي تسكن إلى نفسها في قبور الموتى، وتختبئ في الكهوف والأغوار ما أضاءت الشمس واستيقظت الطبيعة، فإذا أظلم الليل ونام الكون، انتشرت هذه الخيالات في الجو، فمنها ما يصعد في السماء يرعى النجوم، ومنها ما يهبط الأرض يروع الناس. وما أرى أن هذا الطائف الذي يؤرقني منذ ثلاث إلا خيالا من هذه الخيالات، لعله ظل ميت من موتى قريش قد أنسيه قومه، فهم لا يزورونه ولا يقربونه إليه. لعله شيطان من هذه الشياطين التي تلح على الإنس فتتقاضاهم الطاعة وتخضعهم لسلطانها كرها. لعله نذير من أحد الآلهة يطالب بالتضحية والقربان. لقد مضت أيام ولم تقدم إلى الآلهة شاة ولم ينحر لهم جزور، ولم تصطبغ أرض المسجد بهذا الدم الحار القانئ الذي تحب الآلهة لونه ورائحته. إيه يا عبد المطلب؛ تقرب إلى الآلهة بضحية ترضيهم لعلهم يرضون، ولعلهم يكفون عنك هذا الشر. وأقبل الفتى على مجلس من مجالس قريش، فتحدث وسمع، ولكنه كان شارد النفس، فلم يطل الحديث ولا الاستماع ونهض موليا. فلما انصرف عن القوم قال حرب بن أمية لمن حوله: أرأيتم إلى سري بني هاشم! إني لأراه محزونا، وإني لأعرف في وجهه الهم، لم يحدثنا اليوم عن مآثر أبيه ومفاخر عمه.
ومضى الفتى إلى أهله. فلما دخل على امرأته أنكرت عودته إليها من الضحى، فاستقبلته دهشة وهي تقول: إيه يا شيبة! ما خطبك؟ إني لأنكرك منذ أيام، أراك مؤرق الليل، قلق النهار، قليل الحديث، طويل التفكير. ولقد هممت أن أسألك مرات، ولكني خشيت ردك علي وانتهارك لي؛ فإني لأعلم فيكم معشر قريش رقة للنساء، ودعابة معهن، ولكني لا أجد عندك ما أجد عند قومك؛ فأنت صامت إذا خلوت إلى أهلك، وأنت مقطب الجبين إن ظلك معهم سقف. تحدث! ما يحزنك؟ اخرج عن هذا الصمت الذي لزمته، كن رجلا من قريش، أشرك أهلك فيما يعنيك. لقد أذكر يوم أنبأني أبي أنك خطبتني إليه. لقد فرحت بهذا النبأ، لقد كنت أتحدث إلى أترابي في البادية بأني سأصبح امرأة من قريش، أجد من نعمة الحياة ولينها، ومن ظرف الزوج ورقته ما لا يجدن تحت خيام بني عامر بن صعصعة. ولكني وجدت نعمة ولينا، ووجدت حبا وعطفا، ووجدت عناية لا تعدلها عناية، ولم أجد أحب ما كنت أطمح إليه: لم أجد منك ابتسام الثغر، ولا انبساط الجبين، ولا انطلاق اللسان.
قالت ذلك وانتظرت هنيهة. فأجابها زوجها بصوت هادئ حزين: عزيز علي يا سمراء ما تجدين من حزن، وما تحسين من خيبة أمل! إني لأحبك كما يحب الظمآن ما ينقع غلته من الماء العذب، إني لآنس إليك أنسا يزيل عن نفسي كل هم، ويحبب إلي الحياة ويرغبني فيها. إني لأشتاق إلى التحدث إليك والاستماع لك والأنس بك. ولو خيرت لما عدلت بمجلسك مجلس قريش، ولا ببيتك فناء المسجد ودار الندوة. ولكن قوة خفية عاتية طاغية تملك علي نفسي، وتأخذ علي كل سبيل وتدفعني إلى حيث لا أدري ولا أريد. إيه يا سمراء! إني لمؤرق الليل، قلق النهار، مفرق النفس منذ ليال، وإني لأخشى على نفسي شرا. هذا طائف يلم بي إذا أغرقت في النوم، فيأمرني بصوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة، أن أحفر شيئا يسميه طيبة، ويسميه برة، ويسميه المضنونة. فإذا سألته عما يريد، انصرف شخصه، وانقطع صوته، وأفقت حائرا مذعورا لقد هممت يا سمراء أن أقص رؤياي هذه على الكاهن، وأن أصف له ما أرى وما أجد، ولكني أشفقت أن يتحدث الناس عني أني مجنون، أو أن يتندر بي فتيان قريش فيقولون: إن له رئيا من الجن. أشيري ماذا ترين؟ قالت سمراء: هون عليك ولا تغل في الخوف ولا تسرف في الإشفاق. ما أكثر ما يلم أمثال هذا الطيف بالناس عندنا في البادية، فلا يحفلون ولا يأبهون. ومع ذلك فما يمنعك أن تتقرب أنت إلى الآلهة في غير توسط للكاهن ولا توسل به؛ قم فضح لهم، وقرب إليهم، فسيرضون وسيرضى الفقراء والجائعون، وسيغيظ ذلك قوما من قريش.
وما هي إلا ساعات حتى كان فناء المسجد يموج بالناس، فيهم الفقراء قد أقبلوا من البطاح والظواهر، وفيهم الأغنياء قد أقبلوا يقدمون الضحايا بين أيديهم. هؤلاء يتنافسون أيهم يغلي الضحايا ويكثر منها، وأولئك ينتظرون ويمنون أنفسهم بغريض اللحم وجيده. لقد سمعوا أن عبد المطلب يريد أن يضحي، وأن بني هاشم قد حفلت لذلك؛ فكرهت أمية ألا تفعل فعلهم، وكرهت مخزوم أن تسبقها عبد مناف، فأقبل أشراف قريش يستبقون في التضحية ويتنافسون في القربان. تنافسوا! تنافسوا أيها الأشراف! استبقوا أيها الأغنياء! فإن في ذلك شبع الفقراء وسعادة الأشقياء.
وقضت مكة يوما داميا سمينا ، كثر فيه الطعام، وكثر فيه الشراب، ورضيت فيه الأصنام. وسعد الفتى بما رأى، ونسي الفتى ما كان يهمه وينغصه، وقدر الفتى أن قد صرف عنه الشر، ورد عنه المكروه. ورضيت سمراء، فتحدثت كثيرا وسمعت كثيرا، وأضحكت زوجها وابنها الحارث بملح الأعراب ونوادر البادية، وقالت لزوجها وهي تمسح رأسه: أحبب إلي بهذا الطائف الذي أرقك وأضناك؛ فقد حقق أملي وأراني ما كنت أطمح إليه، ورسم في قلبي صورتك جميلة خلابة، فلن أراك منذ اليوم - مهما تكن الخطوب - إلا باسم الثغر، منبسط الجبين، منطلق اللسان. وهل السعادة إلا لحظات قصار، تصيبنا ولم ننتظرها ولم نقدر لها حسابا؛ فما أسعد القلب الذي يحتفظ بهذه اللحظات حين تمر، ويتخذها ذخرا للأيام وما يعرض فيها من الخطوب!
قال عبد المطلب: إذا فأنت راضية يا سمراء. إن رضاك ليقع من نفسي المخزونة موقع الماء من الأرض المجدبة. انعمي بما أنت فيه، وانتظري أن يقدر الله لك خيرا منه. فلو قد صرفت عني هذه القوة العاتية الطاغية، لأريتك يا سمراء كيف تطيب الحياة، وكيف ترق حواشي العيش!
وأوى الفتى إلى مضجعه راضيا مسرورا، واستقبل النوم مبتهجا له راغبا فيه. ولكن هذا الشخص يقدم عليه ساعيا في هدوء، كأنما يمشي في الهواء، حتى إذا دنا منه انحنى عليه، ووضع على جبهته يدا باردة خفيفة وقال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر زمزم.» واضطرب جسم الفتى كله، واضطربت نفس الفتي كلها، وانفتحت شفتاه عن هذه الكلمة: «وما زمزم؟» قال الطيف بصوت رفيق مؤنس، قد فارقته الغرابة والوحشة، ومازجته سخرية ورحمة: «لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم.» قال الفتى: «الآن قد وعيت.» فتولى عنه الطيف باسما وهو يقول: «لله أنتم أيها الناس؛ لا يكفيكم الوحي، ولا تفقهون إلا سجع الكهان! رويدا! عما قريب سيضيء الصبح!» ونهض الفتى مبتهجا مسرورا. فلما أصبح دخل على سمراء مشرق الوجه مضيء الأسارير.
قالت وهي تسعى إليه: أيهما أحب إلى نفسي إشراق وجهك أم إشراق الشمس؟! ما أرى إلا أنك قضيت ليلا هادئا.
قال: انعمي صباحا يا سمراء! لقد طابت الحياة منذ اليوم. إن هذا الطائف الذي يلم بي منذ ليالي، طائف خير يأتي بالنعمة والغيث. إنه يأمرني أن أحتفر في فناء المسجد بئرا، فلأفعلن منذ اليوم. ولئن ظفرت بها ليشربن الحجيج في غير جهد ولا عسر. هلم يا حارث خذ معولا
1
ومكتلا
2
ومسحاة
3
واتبع أباك.
الفصل الثاني
التحكيم
لاهم قد لبيت من دعاني
وجئت سعي المسرع العجلان
ثبت اليقين صادق الإيمان
يتبعني الحارث غير وان
جذلان لم يحفل بما يعاني
لاهم فلتصدق لنا الأماني
ما لي بما لم ترضه يدان
كان صوت عبد المطلب يندفع بهذا الرجز عريضا يملأ الفضاء من حوله، نقيا يكاد يبعث الحنان فيما يحيط به من الأشياء. وكان كل شيء مستقرا لا يضطرب فيه إلا هذا الصوت العريض النقي، وإلا هذه الذراع التي ترتفع بالمعول قوية، ثم تهوي به محتفرة، ثم تدعه إلى المسحاة فتغرف بها التراب في المكتل، وإلا هذا الغلام الناشئ يرقب حركة أبيه، ويسمع صوته ويرد عليه رجع هذا الصوت كلما وصل في الدعاء إلى هذا البيت:
لاهم فلتصدق لنا الأماني!
حتى إذا امتلأ المكتل حمله بذراعيه الضعيفتين، وأسرع في شيء من الجهد إلى خارج المسجد، فألقى ما فيه ثم عاد، وأبوه يرفع المعول في الجو ويهبط به إلى الأرض، ويملأ فضاء البيت بصوته العريض، والعرق يتصبب على جبينه، ولكنه لا يحس جهدا ولا يجد إعياء. وكانت الشمس قد ألقت على الأرض رداء من النور نقيا، ولكنه ثقيل همد له كل شيء، وأوى له الناس إلى بيوتهم يقيلون، وانقطعت له الحركة، وخفتت الأصوات، إلا هذه الجنادب التي يروقها وهج الشمس، ويسكرها لهب القيظ، فتصدح بالغناء إذا سكت كل شيء. وقد أخذ الغلام يحس لذع الجوع وحر الظمأ، ولكنه لا يقول شيئا، بل لا يكاد يفكر في شيء، إنما سمعه وقلبه لصوت أبيه، وعيناه للمكتل والتراب، ونشاطه لإفراغ المكتل إذا امتلأت. وهما في ذلك، إذا غلام يسعى قد أرسلته سمراء، يحمل إلى الرجل والغلام شيئا من طعام وشراب، حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي، هذا غذاؤك وغذاء الصبي، قد أعدته سيدتي العامرية، هيأته بيدها، وهي تعزم عليك لتصيبن منه، ولترفقن بنفسك ولترفهن على هذا الصبي الحدث! لقد قال الناس جميعا، وهدأ كل شيء لهذا الوهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود، وأنت فيما أنت فيه من جد يضني، وجهد يهلك، لا تقيل ولا تستريح، ولا تريح هذا الطفل الذي لم يتعود الجهد والعناء، بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مشيح، إنما هو ماض في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعا في الجو وهبوطا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السلة وما فيها، وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه. وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدده ويحصيه ويتمثله: إن فيها لشواء غريضا وإن فيها للبنا يمازجه عسل هذيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام، وإن فيها لماء عذبا. ومن يدري! لعل سمراء قد نقعت فيه شيئا من زبيب الطائف؛ فإنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماض في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة، وقد امتلأ المكتل، فيهم الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه. ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك، ولكن عبد المطلب ينهره نهرا عنيفا: «إليك يا غلام! فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وابنه.»
ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد انقطع، وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودا وهبوطا، وإنما هو مطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر، ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه، ثم يدير عينيه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئا أو أن يلتمس أحدا، ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضا والإشفاق: هلم يا حارث انظر! أترى ماء؟ - كلا يا أبت! وإنما أرى ذهبا وسلاحا. - ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج. إن وراء هذا الأمر لسرا! ولكن هلم يا بني، فما أرى إلا أن الظمأ والجوع قد أجهداك.
وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهلين واجمين، ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعما أو حسا له ذوقا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة، وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة فيستخرج ما فيها، فإذا غزالان من ذهب نقي ثقيل، وإذا سيوف ودروع فيكبر، ويرفع صوته بالتكبير ويسرع إليه أفراد قليلون كانوا قد بدءوا يفدون إلى المسجد، كدأب قريش حين كانت تخف وطأة القيظ، فإذا رأوا هذا الكنز دهشوا ثم تصايحوا، ثم يفيض الخبر فيتجاوز المسجد، وإذا شباب قريش وشيوخها يقبلون سراعا مزدحمين، يسرع ببعضهم حب الاستطلاع، ويسرع ببعضهم الآخر الطمع في الغنيمة، ويسرع بفريق منهم باعث ديني غامض، فيه خوف وفيه رجاء وفيه إكبار للآلهة، وتوقع للمعجزة الخارقة. حتى إذا توافوا جميعا، واستوثقوا من أن عبد المطلب قد وجد كنزا، وعرفوا حقيقة هذا الكنز، وقوموا ذهبه الخالص، وصناعته البارعة، وما فيه من سيوف ودروع، أداروا أمرهم بينهم: لمن يكون الكنز؟ قال هشام بن المغيرة: إنما هو لقريش! فقد وجد في المسجد، وكل ما وجد داخل الحرم في أرض عامة فهو لقريش. وقال حرب بن أمية: إنما هو لبني عبد مناف خاصة؛ فهم الذين احتفروا وهم الذين ظفروا، وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة.
وتنازع القوم وطال النزاع، واختصم القوم واشتدت الخصومة، وعبد المطلب صامت مطرق، لا ينطق بكلمة ولا يأتي بحركة. هنالك صاح به حرب: ما لك لا تقول وأنت الذي وجد الكنز، وأنت أحقنا بأن ترى رأيك فيه؟! قال عبد المطلب في هدوء وأناة: ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد حتى نستشير الآلهة؛ فما حفرت ولا ظفرت إلا بأمر خفي، وما أرى إلا أن للآلهة في ذلك إرادة وقدرا لا نبلغهما حتى نسأل الكهان. هنالك وجمت قريش وغضب بنو عبد مناف، وأنكروا جميعا في أنفسهم أن يشرك عبد المطلب معهم الآلهة في هذا الكنز الدفين. ولكنهم لم يقولوا شيئا، وما كان لهم أن يقولوا شيئا. ومن الذي يستطيع أن يرد قضاء الآلهة؟ حمل الكنز إذا إلى الكعبة. وأقبل القوم إلى الكاهن يسألونه أن يضرب بالقداح. وها هو ذا يضرب بقداحه، ثم يضرب، ثم يضرب بين قريش والكعبة، فتخرج القداح للكعبة ثلاثا، فيصيح عبد المطلب: لقد ظهر قضاء الله، فليكن ما أراد! تفرقوا يا معشر قريش؛ تفرقوا يا بني عبد مناف! فليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب! أما هذا الذهب فسيضرب صفائح على باب الكعبة. وأما هذه السيوف فستعلق عليها. وأما هذه الدروع فستدخر في خزائنها. ثم التفت إلى ابنه وقال: هلم يا حارث، اتبعني لنمضي فيما كنا فيه. وتفرقت قريش وفي صدورها غل وحنق. ولكن ثلاثة نفر من أهل الظواهر انتحوا ناحية، وأقاموا يرددون الطرف بين الكنز والكعبة وعبد المطلب، ثم انصرفوا وقد فهم بعضهم بعضا. وأصبح الناس ذات يوم وإذا بالكعبة قد جردت مما علق عليها من ذهب وسلاح.
وراح عبد المطلب مع المساء إلى أهله محزونا مكدودا، راضيا مع ذلك، لم يفارق قلبه الأمل. فاستقبلته سمراء فاترة لم تسع إليه ولم تبتسم له، ولكنها لم تعرض عنه ولم تتجهم له. فلما سألها عن هذا الفتور أطالت الصمت. ولما ألح في السؤال، قالت: وبم تريد أن أبتهج؟ ولم تريد أن أبتسم؟ لقد علمت منذ زفني أبي إليك أني قد تزوجت رجلا لا كالرجال. لقد أحببتك ولكني أنكرتك. لقد أملت فيك ويئست منك، ثم عاد إلي الأمل أول أمس، ثم ها أنت ذا ترد إلي اليأس مظلما حالكا قبيح الوجه، بشع المنظر كأنه الغول. ماذا؟! يلم بك الطائف أربع ليال، يهيب بك ويلح عليك، رمزا حينا ومصرحا حينا ومصرا دائما، حتى إذا أذعنت لأمره وانتهيت إلى ما سيق إليك من خير وادخر لك في الأرض من غنى زهدت فيه وانصرفت عنه، وأشفقت أن تسلمه إلى قريش أو إلى بني عبد مناف، فيقال: ألقى بيده ونزل عن غنيمته؛ فصرفت ذلك عنك وعنهم إلى هذه البنية
1
تحليها بالذهب وتعزها بالسلاح! وماذا تصنع الأحجار القائمة بذهبك وسلاحك! لله أنتم يا معشر قريش! إنكم لتكبرون من هذا البناء المنصوب ما لا نكبر نحن في البادية. ولولا حاجاتنا ومنافعنا لما هبطنا بطاحكم حاجين ولا معتمرين، ولكنكم قوم ضعاف تكبرون ما لا يكبر، ويغركم أن أفئدة الناس تهوي إليكم، تحسبونهم يقبلون إليكم بالدين وينصرفون عنكم بالطاعة. وإنما يقبلون عليكم بما عندهم من عروض، وينصرفون عنكم بما تحملون لهم من الآفاق.
هلا طاولت قريشا وانتظرت بهذا الكنز حتى تروح إلي! لقد كان فيه غنى لك ولهذا الصبي الذي تعنيه وتضنيه منذ ألم بك ذلك الطائف. هلا تريثت أو اصطنعت الأناة! إذا لاحتويت الكنز ولأصبحت أغنى قريش وأكثرهم مالا، ولما استطاع بنو عبد شمس أن يكاثروك بما يملأ خزائنها من الدراهم والدنانير. إذا لأقبلت إليك بنو عامر بقوتها وبأسها فأعزتك ومنعتك من قريش ولكنك أشفقت وملأ قلبك الفرق، وعبثت بنفسك بقية من كبرياء، فأفقرت نفسك، وقضيت على ابنك هذا أن يكون دون بني حرب ثروة ومالا. قال عبد المطلب محزونا: هوني عليك يا سمراء، وأقلي اللوم، فما أرى أنك تفقهين مما ترين شيئا. لا أحب لوجهك هذا النضر أن تعلوه غبرة الحرص على المال. وما أحب لصوتك هذا العذب أن تشوبه مرارة الحديث عن المال. وما أرضى وإن نسلتك أشراف بني عامر أن تغضي من أمر قريش. إن فيكم - أهل البادية - لطباعا غلاظا ونفوسا يملؤها الطمع. أنتم لا تحسبون الدين ولا تقدرون الغيب، ولا تؤمنون إلا بما ترون، ولا تخافون إلا القوة الظاهرة. لقد كنت أحسب أن مقامك الطويل بمكة قد غير نفسك بعض الشيء، فإذا أنت اليوم كما كنت يوم انحدرت من بادية نجد إلى هذه البطحاء. هوني عليك ولا تشغلي نفسك بما لست منه في قليل ولا كثير. لقد أمرني الطائف أن أحتفر، ووعدني أن أجد الماء لأسقي الحجيج لا أن أجد الذهب لأغنيك وأدخل الخصب على بني عامر؛ فليس هذا الذهب لي ولا لقريش وإنما هو مخبوء لأمر يراد. وإني لمن قوم لا يحبون الغضب ولا يستأثرون بما ليس لهم، ولا يمنعون الحقوق. فإن تكن غلظة الأعراب وجفوة البادية وجحودها قد شاقتك فزمي رحالك غدا وألمي بأهلك! فهم أحق بك وأدنى إليك. قال ذلك ونهض غاضبا، وتركها واجمة بهذا الحديث العنيف تقاوم غيظا لم يلبث أن استحال إلى دموع غلاظ تحدرت على خديها كأنها لؤلؤ العقد قد خانه النظام.
وارتفع صوت عبد المطلب بالتكبير حتى امتلأ به المسجد وفاض من حوله، وحتى اضطربت له مجالس قريش في فناء البيت، فخف الناس إليه وهم يقولون: ما نرى ابن هاشم هذا إلا مطروقا يلقى من الجن شططا، ويريد أن نلقي منه شططا. أقبلوا إليه سراعا يزدحمون وقد آلى أشرافهم لئن وجدوه قد ظفر بكنز وعثر على غنيمة، ليغبننه عليها، وليعطنه منها نصيب رجل من قريش. وانتهوا إليه وهو يكبر ويصيح: هذا طوي إسماعيل! هذه بئر زمزم! هذه سقاية الحاج! لقد صدق الوعد وتحقق الأمل.
فنظروا فإذا عبد المطلب قد وجد الماء، وإذا هو يستقي فيشرب ويسقي ابنه، ويرسل الماء بيديه من حوله كأنه يريد أن يسقي الأرض والهواء والناس. هنالك ابتسموا له ورفقوا به، وقالوا: لقد بررت بقومك يا شيبة، وأنبطت لهم هذا الماء يستقون منه، إذا ضنت عليهم الينابيع، فوصلتك رحم! لتعرفن لك قريش هذه اليد. قال: ما أنتم وذاك! هذه بئري قد حفرتها، وكشفت طيها بأمر هبط إلي من السماء. وهذا شرب ساقه الله إلي سأسقيكم منه إن أردت، ولكني أسقي الحجيج منه قبل أن أسقيكم، فبذلك أمرت وأنا على ذلك قائم. قالوا: يابن هاشم! إنك لتسرف على نفسك، وتشط على قومك، وتختلق على السماء! إن هذه الأرض ليست لك، وإنما هي لله ثم لقريش، وإن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تنزل إليك. ومتى تنزل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان! فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم! خلوا بيني وبين الماء، فوالله لن تبلغوا مني شيئا. إنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم، ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حري أن يرد عني كيدكم ويحميني من ظلمكم. إنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد، ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد من أكاثركم به. وإني أقسم لئن منحني من الولد عشرة ذكورا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد! وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردون عنه عدوان قريش. وكاد الشر يقع بين القوم، ولكن عبد المطلب قال يا قوم فيم قطع الأرحام، وخفر الذمام، وإراقة الدماء! إني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء. فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلم إلى حكم فليقض بيننا. قال الملأ من قريش: لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه، فليكف بعضكم عن بعض، ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هذيم، فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.
وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام؛ فأجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في معان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف، وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة، ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر، ونفد ما كان معهم من ماء، واشتد بهم الظمأ وأحرق أكبادهم الصدى، وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار فيها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد، ليس فيها عين ولا بئر، ولا شجرة ولا عشب، وإنما هي أرض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام. وقد يئس القوم من كل روح، وقنطوا من كل وجهة، فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم: يا قوم؛ إنما هو الموت فأنتم بين اثنتين: إما أن تموتوا ضيعة وتصبح أجسامكم نهبا لسباع الأرض والجو، لا تواريكم يد في التراب، ولا تأوي نفوسكم إلى جدث تطمئن فيه؛ وإما أن يقوم بعضكم على بعض، ويواري بعضكم بعضا، فيكون لكل منكم حفرته، وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع، وألمت بأهلها في بطاح مكة وظواهرها، كيف تهتدي إلى أجسادها فتلم بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كل منكم حفرته، وأن تقيموا، فأيكم ذهب الصدى بنفسه وأراه أصحابه وبكوا عليه، فلا يذهب منكم ضيعة إلا رجل واحد تمتد به الحياة إلى أقصى أجل.
قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته؛ وتثاقل القوم بعض الشيء، يفكرون في أولادهم وآخرتهم، ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال، ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة، ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتقدم رسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم، فيعمد كل منهم إلى سنان يخط به حفرته في الأرض.
كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ، ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: «يا معشر قريش، ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت، وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وإن فيكم لبقية من قوة، وإن في إبلكم لقدرة على الحركة وفضلا من النشاط! لا والله ما أنا بمسلم نفسي للموت حتى يكرهني عليها. هلم فاضربوا في هذه الأرض! فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجا.»
ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث، وإذا الآمال تحيا، وإذا النشاط يتجدد، وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم، وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه. وينهض عبد المطلب إلى راحلته، حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت وهمت لتندفع. ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مكبرا وهم يلتفتون، فإذا عين غزيرة قد انفجرت تحت خف الراحلة، وإذا هي تفور، وإذا بالماء ينبسط من حولها فينقع غلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!
هلم يا معشر قريش إلى الماء الرواء ! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد هلم فاشربوا واسقوا إبلكم واملئوا مزادكم. هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القائمة المحرقة. والقوم يضجون بالرضا والغبطة، وإن للإبل من حولهم لأطيطا ملؤه الرضا والغبطة أيضا. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم، وتشعر بالسرور والحزن! روي الناس، ورويت الإبل، ورويت الأرض. وقالت رسل قريش لعبد المطلب: عد بنا يا شيبة إلى مكة فقد قضي علينا، وإن الذي أسقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك، هو الذي أسقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.
وأقبل البشير على سمراء ينبئها بأن زوجها قد عاد إليها سالما موفورا مظفرا! فقالت وعلى ثغرها ابتسامة الكئيب المحزون: «حبذا شيبة مسافرا! وحبذا شيبة مقيما! ولكن شيبة لن يخلص لي منذ اليوم؛ إنه ليريد كثرة الولد! وأي نساء قريش تستطيع أن تمتنع عليه؟!»
ثم أشرقت شمس الغد على عبد المطلب وهو يسعى إلى عمرو بن عائذ المخزومي ليخطب إليه فاطمة، وهي أم جماعة من ولده بينهم عبد الله.
الفصل الثالث
الفداء
أصبحت سمراء محزونة كاسفة البال، تبدو على وجهها المتجعد وجبينها المقطب كآبة مظلمة، لم تحاول في هذا اليوم أن تخفيها أو تخفف من حدتها كما تعودت أن تفعل منذ أعوام وأعوام. فقد عرفت سمراء ألم الحزن منذ احتفرت زمزم، ومنذ ظهر حرص زوجها على الولد، ورغبته في كثرة العدد، ومنذ خطب فاطمة المخزومية فأحبها وكلف بها، وانصرف إليها عن كل شيء وعن كل إنسان، ومنذ كثر ولد فاطمة من البنين والبنات، واشتد لذلك حب عبد المطلب لها وكلفه بها وانصرافه إليها، وتجافيه عن زوجه الأولى، تلك التي أضاءت له سبيل الشباب، وأعانته على احتمال أثقال الحياة الأولى.
نعم! عرفت سمراء ألم الحزن في هذه الأعوام الطوال من حياتها، ولكنها كانت على بداوتها امرأة لبقة بارعة الجمال، ذكية القلب، تعرف كيف تخفي على زوجها ما يكره، وكيف تلقاه بما يحب.
وكانت توفق بفضل هذه اللباقة وهذا الذكاء؛ لأن تستميل إليها زوجها وربما اضطرته إلى أن ينقطع إليها وقتا ما، وينسى زوجه الأخرى إلى حين.
ولكن يوما أقبل يحمل إلى سمراء شرا ليس فوقه شر، وألما ليس بعده ألم؛ أصبح هذا اليوم مظلما، فما أمسى حتى أظلمت له حياة سمراء كلها. ذلك أنه مضى بموت ابنها الوحيد، فأذاقها مرارة الثكل واليتم والترمل جميعا. فقد كان الحارث لها ابنا تجد عنده قرة العين، وأبا تحس منه العطف وحنو الآباء: وكان هو يحس ألمها ويعرف أسراره، ويجد في الطب لهذا الألم؛ فكان يبالغ في رعاية أمه وحمايتها. وكان شديد الحرص على أن يلقاها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وعلى أن يطيل المكث معها والتحدث إليها، يشركها في جد أمره ولعبه، يستشيرها ويظهر قبول مشورتها والاستماع لنصحها. فكان يقوم منها في أكثر الأحيان مقام أبيه؛ وكان يعزيها بحبه وبره عما كانت تجد من الوحشة حين يصد عنها زوجها فيطيل الصدود. فلما مات الحارث مات معه أمل سمراء، ولم تلق الحياة إلا بوجه محزون كئيب يصور قلبا مكلوما مظلما. وقد جزعت سمراء لهذا الخطب واشتد جزعها وطال. ولكن أي شيء يبقى على الأيام! ولقد ذهبت الأيام الطوال بحدة هذا الجزع وشدته كما ذهبت بنضرة شباب سمراء، وكما ذهبت بحياة ابنها الحارث، وكما ذهبت بحب زوجها عبد المطلب وأصبحت وقد تقدمت بها السن وامتحنتها حوادث الدهر، امرأة مذعنة لحكم القضاء، لا تنكر شيئا، ولا يسرها شيء، محزونة ولكن في دعة، ملتاعة ولكن في هدوء!
وقد أحست إنكار الناس من حولها لما يرون من حزنها وكآبتها، وما يجدون من انقباضها عنهم، فجدت ما استطاعت في إخفاء ما تجد وكتمان ما تحس؛ واحتفظت لنفسها بهذا الكنز الحزين، كنز الذكرى وما تثيره من العواطف، وما تهيجه من اليأس. وتركت للناس من نفسها شخصا عاديا يبتسم حين يبتسمون، ويرضى حين يرضون، ويشاركهم في أكثر ما يجدون من عاطفة أو شعور. على أنها كانت تجد شيئا من الرضا وراحة النفس حين تجد من زوجها عطفا عليها وأنسا إليها.
وكان زوجها منذ أصابها هذا الخطب شديد الرفق بها، كثير الزيارة لها، يصفيها مودة خالصة قوية، ولكنها خالية أو كالخالية من هذا الحب الذي يحيي قلوب النساء. أصبحت سمراء في هذا اليوم محزونة ظاهرة الحزن، كئيبة بادية الكآبة، أقبل عليها إماؤها الثلاث يحيينها تحية الصباح، فردت عليهن تحيتهن ردا فاترا؛ ثم جلست وجلسن، وأخذت مغزلها وأخذن مغازلهن، وعملت أيديهن في الغزل، وسكتت ألسنتهن عن الكلام. وكانت سمراء تدع مغزلها من حين إلى حين وتظل ساكنة واجمة، وربما انحدرت من إحدى عينيها دمعة حارة فأسرعت إليها تزيلها بيدها دون أن تقول شيئا. والإماء صامتات ينظرن في حزن عميق إلى مولاتهن الحزينة، ولا تستطيع واحدة منهن أن تبدأها بالكلام. فلما طال عليهن هذا الصمت وهذا الحزن، وثقل عليهن ما كن يجدن من ألم، وما كان يملأ قلوبهن من حب للاستطلاع، ورغبة في الكلام، وميل إلى تعزية مولاتهن، اجترأت «ناصعة» وكانت أشجعهن قلبا، وأطولهن لسانا - لأنها كانت تعرف مكانتها عند سمراء - فقالت: لقد أصبحت يا سيدتي على حال ما رأيناك عليها منذ زمن بعيد. فقد كنا نراك محزونة كئيبة، ولكنك كنت تجاهدين الحزن وتدافعين الكآبة وتتكلفين الرضا، وكنا نجد من ذلك ما يشجعنا على تسليتك وتلهيتك بالحديث حينا، وبالغناء حينا آخر؛ تقص عليك كل واحدة منا ما حفظت من أخبار بلادها، وتغنيك كل واحدة منا بما تعلمت من الغناء في رطانتها الأعجمية؛ وكذلك كنت تسمعين أقاصيص سورية، وأخرى حبشية وأخرى يونانية، وكنت تسمعين أغاني في لغات أجنبية قليلا ما تعجبك، ولكنها كانت ترسم على ثغرك الابتسام في أكثر الأحيان. أما اليوم فلم نر منك حزنا قاتما، ولم نسمع صوتك العذب، ولم يرعنا إلا هذه الدموع التي تسفحينها في صمت أليم! تكلمي يا مولاتي! أبيني! ماذا تجدين! ماذا أحزنك اليوم؟ تكلمي وأحسني ظنك بنا؛ فقد نستطيع أن نعينك على الحزن كما كنا نستطيع أن نبعث في قلبك السرور. نحن إماء، ولكننا نساء نجد الحزن كما تجدينه، ونحس اللوعة كما تحسينها! ولعل حبنا للبكاء أشد من حبنا للضحك! ولعل حرصنا على الحزن أشد من رغبتنا في السرور! ولعلنا إن شاركناك في الحزن والألم جارينا طبائعنا، وأرسلنا نفوسنا على سجاياها. فليس في حياتنا وإن كنت لنا مكرمة ما يسر أو يرضي. وأي شيء يسر أو يرضي في حياة الأمة الغريبة التي لا تملك نفسها، ولا تحس إلا ذل الرق، ولا تستطيع أن ترضى حقا، أو أن تسخط حقا، إلا إذا خلت إلى نفسها. وأنى لها أن تخلو إلى نفسها؛ تكلمي يا سيدتي! ماذا يسوءك؟ وماذا يغشي وجهك بهذا الغشاء الحزين؟
قالت «ناصعة» ذلك وانتظرت أن تجيبها سمراء، ولكنها لم تظفر بجواب، وإنما رأت دموعا تنحدر ثم تنهمر، ثم تستحيل إلى زفرات حارة ونحيب غير منقطع.
وهنا محا الحزن ما بين السيدة وإمائها من فروق، فأسرعن إليها يهدئنها ويرفقن بها: هذه تقبلها، وهذه تسمح دموعها، وهذه تمر يدها على رأسها، وهن جميعا يبكين لها ويبكين لأنفسهن. وقد هدأت سمراء بعض الشيء، وسكنت نفسها الثائرة إلى هؤلاء الإماء الرفيقات، فابتسمت لهن في حزن، وشكرت لهن ما أظهرن لها من مودة وعطف؛ وطلبت إليهن العودة إلى ما كن فيه من عمل، وأخذت هي مغزلها وجعلت تديره في يدها. ولكن «ناصعة» لم تلبث أن عادت إلى الكلام، فقالت وهي تتكلف الابتسام وتتصنع الضحك: ليس يغني عنك الصمت يا مولاتي؛ فإنا نعلم ما تسرين كما نعلم ما تعلنين. ولولا خوفنا منك وإكبارنا إياك لقصصنا عليك القصة التي تحزنك وتجري دموعك الحارة على خدك النقي؛ ولكن أنى لنا أن نبلغ منك هذه المكانة، وإنما أنت سيدة ونحن إماء!
قالت سمراء: كفي عن هذا الحديث يا ناصعة! فقد أنسيت اليوم أن بيني وبينكن فرق ما بين السيدة وإمائها، ولست أرى منكن الآن إلا نساء تعسات مثلي؛ إنما نحن أخوات في الشقاء والبؤس؛ وما ينفعني أنني حرة وأنا مثلكن مقيمة على الضيم، محتملة للذل، مذعنة لصروف القضاء، لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، ولا أستطيع أن أبرح هذه الدار وإلى أين أبرحها ! لقد ذهبت غارة بني أسد بأبي وأخي، وأصبحت أمي وأخواتي إماء مثلكن، لا أعرف من أمرهن شيئا، ولم ينهض فتيان بني عامر وكماتهم للثأر! ليت شعري ماذا يصنع أبو براء بأسنته! ما له لا يلاعبها! لقد ذهب الموت بابني، وأصبحت أسيرة في يد عبد المطلب، أسيرة لا كالأسرى؛ يجفوني ولا أستطيع له بغضا ولا قلى كما يفعل الأسرى، وإنما أحبه ولا أجد عن داره منصرفا. ها هو ذا قد عاد من رحلته إلى اليمن منذ ثلاث. فلما بلغ مكة أسرع إلى هالة بنت وهيب، فقضى عندها أول لياليه وأول أيامه؛ لأنها أحدث زوجاته به عهدا. ثم أصبح فانتقل إلى نتيلة فأقام عندها يوما وليلة. ثم أصبح فانتقل إلى فاطمة فأقام عندها يوما وليلة. وما أرى إلا أنه سيقبل بعد حين فيلم بهذه الدار إلمامة قصيرة، ثم يسرع إلى هالة، فما أشد شوقه إليها! وقد حدثت أنه أقبل من اليمن كأحسن ما يكون الرجال سمة، وأبرع ما يكونون جمالا. وحدثت أن هالة أنكرته حين رأته؛ فقد ودعنا أبيض الرأس وعاد فاحم الشعر كأنه لم يتجاوز الثلاثين.
1
وقد أنكرته من الغد قريش كلها لما رأت من سواد لمته. ولكنه أزال عجب قريش حين أظهر لها هذا الخضاب الذي حمله من اليمن، والذي يرد الشيب شبابا، والذي أسرعت قريش إليه فاشترت منه، واختضب به شيبها فإذا أهل مكة كلهم شباب. كل ذلك ولم أر عبد المطلب، ولم أحس منه ذكرا لي وحنينا إلي. وماذا يصنع بي؟ ليس لي شباب هالة، ولا جمال نتيلة، ولا ولد فاطمة! وإنما أنا عجوز فانية، يتيمة وحيدة، ليس لها أب ولا أم ولا ولد. أنا هذا الحمل الثقيل الذي يضيق به صاحبه، ولكنه يأبى أن يلقيه ويتخفف منه مخافة أن يصفه الناس بالضعف أو القصور.
قالت ذلك وأغرقت في بكاء طويل شاركها فيه إماؤها الثلاث. ولكن «ناصعة» لم تلبث أن قالت: أهذا كل ما تعلمين من أمر زوجك يا سيدتي! إنك إذا لتجهلين كل شيء، ولا تعلمين إلا أقل أمره خطرا. وإن عندي من أمر سيدنا ما لو قصصته عليك لأرضاك، ولخفف لوعة الحزن هذه التي تحرق فؤادك الكئيب. لن ترى زوجك اليوم يا مولاتي فهو عنك في شغل. لقد كان راضيا مسرورا حين كان يرى نساءه ينكرن سواد لمته ويعجبن بشبابه الجديد، وحين كانت قريش تستبق إليه تشتري منه هذا الخضاب بما أحب من مال. ولكنه محزون منذ أمس، مغرق في حزن لا قرارة له، فهو خليق بالرثاء. إنك تحبينه يا سيدتي وستنسين إعراضه عنك وسترثين له، وإني أخشى أن تخفي إليه حين تعرفين نبأه. قالت سمراء في شيء من الجزع بدأ هادئا، ولكنه لم يلبث أن اشتد قليلا قليلا حتى بلغ أقصاه: ماذا تقولين؟ وبم تتحدثين؟ هو محزون؟ هو خليق بالرثاء! لماذا؟ أبيني متى علمت بذلك؟ كيف أخفيته علي؟ ما الذي يحزنه؟ ما الذي يسوءه؟ ما الذي يجعله أهلا للرثاء؟ ما الذي يضطرني إلى أن أخف إليه لأعزيه وأواسيه؟ قولي، أسرعي، لا تخفي علي شيئا.
قالت ناصعة: مهلا يا سيدتي! ارفقي بنفسك ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب! لا بأس عليه في نفسه ولا في ماله، ولكنه يمتحن منذ أمس في بنيه. هوني عليك! إن في هذه المحنة لعزاء لك عن فقد حارثك العزيز. أتذكرين يوم احتفر زمزم فنذر لئن أوتي من الولد عشرة ذكورا ... قالت سمراء: يراهم ليضحين بواحد. يا بؤس هذا اليوم! فقد عرفت هذا النذر فكان مصدر شقائي كله، عرفت أنه سيستكثر من النساء، ورأيت مدية التضحية ممدودة إلى عنق قد يكون عنق ابني العزيز. منذ ذلك اليوم كرهت النساء جميعا؛ لأني رأيت في كل واحدة منهن ضرة لي. ومنذ ذلك اليوم رأيت شبح الموت مقيما بهذا البيت ما أقام فيه ابني، مفارقا لهذا البيت ما فارقه ابني. ومنذ ذلك اليوم لم أر ابني في يقظة ولا في نوم إلا رأيت الموت ظلا. أتمي حديثك يا ناصعة.
قالت الفتاة: لقد ذكر زوجك أمس وهو يتحدث إلى فاطمة نذره هذا، وذكر أن أبناءه الذكور قد بلغوا عشرة أحياء يراهم بمولد طفله حمزة، فأقسم ليوفين نذره، وليضحين بأحد أبنائه، وليجعلنهم تسعة منذ اليوم، حتى تتمهم له هالة أو نتيلة أو غيرها عشرة أو تزيد بهم على العشرة، ولم يكد يعقد هذه اليمين حتى جزعت فاطمة وشاركها بناتها في الجزع. أشفقت على الزبير وأبي طالب وعبد الله وغيرهم من بنيها. وبلغ الخبر نتيلة فخافت على العباس. وبلغ الخبر هالة فجزعت على حمزة. وثارت لكل امرأة قبيلتها، وألح الناس على الشيخ: تأبى كل قبيلة أن تكون التضحية منها. ومضى الشيخ في يمينه، فجمع إليه بنيه وأنبأهم بنذره، فكلهم أقره، وكلهم أطاعه، وكلهم ألح عليه ليوفين بالنذر، وليقدمن التضحية. وليس لقريش منذ أمس حديث إلا هذا النبأ، هم يتناقلونه ويكبرونه وينكرونه، وقليل منهم من يقر الشيخ على هذا العزم الفظيع.
ثم قالت الفتاة: ثم أقبل الشيخ ببنيه إلى الكعبة مع الصبح، فأجال فيهم قداحه، فخرج القدح على أحب بنيه إليه وآثرهم عنده. قالت سمراء وهي مضطربة، وقد سالت من عينها دمعتان محرقتان: خرج القدح على عبد الله؟ قالت الفتاة: نعم! فأخذ الشيخ بيد ابنه يقوده إلى المذبح وفي يده المدية. ولكن بناته جميعا وأمهن قمن دون الفتى صائحات يستصرخن بني مخزوم، ويستصرخن قريشا كلها، ويمنعن الفتى بحياتهن. وأقبلت إحداهن إلى الشيخ ضارعة ثائرة معا فقالت: إذا كان قلبك قد استحال إلى صخر، فلا ترق لابنك الشاب، ولا لأمه الشيخة، ولا لأخواته البائسات، وإذا كانت شريعة قريش قد قست وجفت وغلظت، حتى جعلت للآباء على أبنائهم حق الحياة والموت كأنهم الرقيق أو الحيوان، فدعنا نحتكم في هذا الفتى إلى رب هذا البيت؛ فهو أوسع منك رحمة وأجدر منك أن يضن بهذا الشاب على الضياع، وأن يربأ بهذا الدم الزكي أن يراق. لنحتكم إلى رب هذا البيت في أمر هذا الفتى. لنقرع بينه وبين هذه الإبل الكثيرة التي تسميها في الحرم، ولنبلغن من ذلك ما يرضي رب هذا البيت.
وكانت قلوب قريش قد تفطرت حزنا، وتصدعت أسى لقول هذه الفتاة وهي تبكي، وقد التزمت أخاها تعانقه وتقبله وتغسل وجهه الناصع بدمعها الغزير وهي تصيح: لأموتن قبل أن تموت! فما زالت قريش بالشيخ تلاينه حينا وتخاشنه حينا، حتى اضطرته أن يقبل تحكيم الآلهة.
قالت سمراء وقد بلغ بها الهلع أقصاه: ثم ماذا؟ قالت الفتاة: ثم لا أدري! تركتهم يتأهبون لإجالة القداح بين الفتى والإبل، وأقبلت أقص عليك النبأ فرأيتك فيما كنت فيه من حزن عميق.
قالت سمراء: يا بؤسا لهذه الحياة! لا يسعد فيها الناس بخير - مهما يكثر - كل السعادة، ولا يشقى فيها الناس بشر - مهما يعظم - كل الشقاء. أسعيدة أنا بموت الحارث أم شقية؟ لو قد عاش لذقت الآن ما تذوقه فاطمة من هذا الحزن اللاذع والخوف المهلك. ولكني كنت أوثر مع ذلك أن يعيش؛ فقد كان يمكن أن تخطئه القداح، وقد كان يمكن إن لم تخطئه في المرة الأولى أن تخرج على الإبل من دونه، وقد كنت أستمتع به أعواما. ولكن هلم لا مقام لنا الآن، لنسرع إلى حيث هم لنشاركهم فيما يجدون. وا حسرتاه! إني لصادقة الحزن! إني لصادقة الخوف! إني لشديدة الإشفاق! إني لشديدة الرجاء! ولكن فاطمة ستظن بي سوءا، وستقدر أني أقبلت غير بريئة النفس من الشماتة. قالت ذلك ونهضت يدفعها حزنها الخالص ويردها خوفها من سوء الظن. ولكنها أسرعت مع ذلك، وأسرع معها إماؤها. ولم تكد تتقدم في الطريق نحو المسجد حتى سمعت أصواتا ورأت اضطرابا، ثم تبينت في الأصوات فرحا، ورأت على الوجوه بشرا، وعرفت أن القدح قد خرج بعد لأي على مائة من الإبل، وأن عبد المطلب يؤذن في الناس أنه سينحر هذه الإبل بين الصفا والمروة، وأنها حرام عليه وعلى بني هاشم، مباحة لغيرهم من الناس والحيوان والطير.
فأسرعت سمراء حتى اختلطت بفاطمة وبناتها، وهن سائرات يحطن بالفتى، ويحلن بينه وبين غيره من الناس، حتى إذا بلغن البيت ألفين فيه امرأتين تبكيان، إحداهما هالة بنت وهيب أم حمزة وزوج عبد المطلب، والأخرى بنت عمها اليتيمة آمنة بنت وهب.
هنالك أقبلت سمراء هادئة باسمة إلى الفتاة، فكفكفت من دموعها، ضمتها إليها وقبلت جبينها الطلق. ثم التفتت إلى عبد الله وهي تقول: «هلم يا فتى فقبل أهلك، فمهما تغل لها في المهر فلن تبلغ هذه الدموع التي ذرفتها حزنا عليك.» ثم نظرت إلى فاطمة وهي تقول: «ألا ترين أنها أحق فتيات قريش أن تكون له زوجة!»
الفصل الرابع
الإغراء
أقبل أبناء عبد المطلب فهيئوا لأبيهم مجلسه في المسجد غير بعيد من بئره التي كشفت له. وأقبل الشيخ بعد قليل مشرق الوجه باسم الثغر، فأسرع إليه أبناؤه يلقونه بالتحية ويقرءون عليه السلام. وأقبل عليهم يحييهم ويدعو لهم، حتى إذا أخذ مكانه أشار إليهم فجلسوا من حوله، قال قائل منهم وعلى ثغره ابتسامة فيها حب وفيها دعابة، وفيها غيرة لا تكاد تبين: لم يأت بعد، وما علمناه منذ حين إلا نئوم الضحى. قال الشيخ وابتسم كالمغضب: حسبك! فكلكم قد أدركه الضحى ولما يرفع رأسه عن الوساد. ثم أخذوا في حديث القافلة التي كانت تتهيأ للرحلة إلى الشام، وأخذ أبناء الشيخ يتحدثون إلى أبيهم بما أعد أغنياء قريش من عروض التجارة لتحمل إلى بصرى وما يليها من بلاد الروم.
وهم في الحديث وإذا الفتى يقبل وسيما قسيما مستقيم القد معتدل القامة، قريب الخطى شاخصا بصره إلى السماء، حتى إذا دنا من أبيه أقبل عليه فحياه، وتلقاه الشيخ رفيقا به عطوفا عليه، ثم أذن له بالجلوس وأدنى مكانه منه، وأعرض عنه حينا كأنه يسمع لحديث أبنائه عن القافلة كيف تهيأ، وممن تكون، ومتى تفصل. ثم التفت إلى ابنه الشاب وقال له وهو يبتسم: ما أرى يا بني إلا أنك قد أحببت النعمة وآثرت لين العيش! وكلنا قد أحب النعمة كما تحبها، وكلنا آثر اللين كما تؤثره، وكلنا قد لزم أهله حتى كاد ينسى كل شيء، ولكن الأيام تنبه الغافل، وتوقظ النائم، وتذكر الناسي. وإني لأحب أن أنبهك قبل أن تنبهك الأيام، وأن أوقظك قبل أن توقظك الأحداث، وأن أذود عنك النسيان قبل أن تذوده عنك الخطوب. وخير لك يا بني أن تترك النعمة الآن لتعود إليها بعد حين من أن تظل فيها مغرقا وعليها حريصا ولها لازما، حتى تضيق بك وتنفر منك، وتنصرف عنك إلى غير رجعة. وفي الرحلة يا بني مع عمك الأدنيين رياضة لك يسيرة على احتمال الصعاب واقتحام العقاب، وتسلية لك هينة عن هذه اللذة المتصلة والنعيم المقيم. وما أشك في أنك ستترك أهلك كارها لذلك ضيقا به، ولكنك ستستعذب الفراق وتستلذ النوى، وتجد من ذكر أهلك على نزوح الدار وبعد المزار، مثل ما تجد من حب أهلك والدار قريبة والمزار يسير. فهيئ نفسك للرحيل مع العير، واحرص على ألا تعود أقل ثراء من أمثالك الذين سيرحلون إلى الشام من شباب قريش. وقد أجمعت وأجمع إخوتك أن نكل إليك ما عندنا من هذه العروض التي تجمعت لنا منذ أشهر لتحملها لنا إلى بلاد الروم، فتتاجر لنا فيها، وتقاسمنا ما تغل علينا من ربح. والرأي أن تسعى في أصهارك بني زهرة بمثل ذلك، فتحمل عنهم عروضهم وتقضي لهم حاجاتهم. وما أظن أنك صفر اليد؛ فقد تستطيع أن تتخذ لك حظا من تجارة تقصرها على نفسك، حتى إذا رجعت إلينا كنت موفور الحظ من المال بما يجتمع لك من ربح هذه التجارة كلها. كلنا يا بني قد رحل إلى الشام حينا وإلى اليمن حينا وإلى العراق حينا آخر، ومنا من أمعن في الرحلة حتى بلغ مصر. ومنا من أغذ
1
السير حتى عبر البحر إلى بلاد الحبشة. ومنا من أبعد السفر حتى انتهى إلى أعماق فارس. ولكني أرى أن تمعن في غير إسراف، وأن تبعد دون أن تنقطع عن جماعة من قومك. والأيام خليقة أن تغريك بالأسفار البعيدة والرحلة المتصلة. فقم يا بني فأصلح من شأنك، وهيئ أهلك لهذا الفراق، فما أظن أن آمنة سترضاه أو تستريح إليه.
قال ذلك في لهجة ملؤها الحنان المقنع، والجد الذي لا يحتمل الجدال ولا يبيح رجع الجواب. وكان الفتى يسمع له راضيا، تظهر على وجهه آثار الطاعة والثقة. حتى إذا فرغ من حديثه أطرق الفتى غير طويل، ثم رفع رأسه وهم أن يتكلم فلم يجد ما يقول، فنهض مسرعا حتى خرج من المسجد ومضى أمامه لا يلوي على شيء. وكانت شمس الضحى قد ارتفعت حتى قاربت أن تستوي في كبد السماء، وكانت أشعتها الحارة المحرقة قد أخذت تلح على الأرض والناس، حتى قهرتها وقهرتهم أو كادت. والفتى ماض في طريقه كأنه السهم لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يكاد ينظر إلى أبعد من مواقع قدميه. وإنه لفي ذلك وإذا صوت عذب يأتيه من قريب بهذا البيت:
يا مسرعا والناس من حوله
يسعون لم يأن لغاد رواح
فيهم أن يقف، ولا يكاد يفعل حتى يأخذه صوت آخر ليس أقل عذوبة ولا حسن وقع في النفس من ذلك الصوت الأول:
يا مطرقا والأرض من حوله
يزينها حسن الوجوه الصباح
هنالك يقف الفتى ويلتفت صوب الصوت، ولكنه لا يكاد يفعل حتى يمسه صوت آخر فيه نعومة الحرير، وعذوبة الماء النمير:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
هنالك وقف الفتى والتفت وهو يقول: ما رأيت كاليوم دعاء ولا إغراء! وقد اتصل طرفه بوجوه ثلاثة حسان، تشرق بها كوى ثلاث في دار فاطمة بنت مر الخثعمية. قال الفتى: ما خطبكن: قالت إحدى الفتيات: ما خطبك أنت؟ فيم إرقالك على هذا النحو ولم يئن لشباب قريش أن يروحوا إلى أهلهم؟ وفيم تركت أباك وإخوانك وأترابك في المسجد؟ هلا بقيت كما بقوا وانتظرت كما ينتظرون! قال الفتى في صوت فيه دعابة الطامع ويأس المضطر إلى الإسراع: ما أنت وذاك؟ إن أدعهم فلأمر ما. قالت فتاة أخرى؛ إن تدعهم فلتخل إلينا فتحدثنا وتسمع منا ساعة من نهار. قالت ثالثة: هلم يا فتى أقبل، فما هذه ساعة حديث يلقى من الكوى! إن الشمس لمحرقة وإن القيظ لشديد، وإني لأوثر ما كنت فيه من الإرقال آنفا على ما أنت فيه من الوقوف الآن. قالت إحداهن وكأنها تتغنى:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
وهم الفتى أن يأبى، ولكنهن ألححن عليه، ومضين يدعونه ويغرينه حتى استجاب لهن.
وما هي إلا أن دخل الدار وأغلق من دونه بابها، وأقبل الفتيات عليه مبتهجات له رفيقات به: هذه تمسح رأسه، وهذه تمس وجهه، وهذه تأخذ بطرف ردائه، وهو يحاول أن يتقيهن وأن يمتنع عليهن، فلا يجد إلى شيء من هذا سبيلا. وكانت فاطمة الخثعمية أطول هؤلاء الفتيات قامة، وأوسمهن وجها، وأعذبهن حديثا، وكانت على جمالها الرائع وحسنها البارع ذكية القلب، نافذة البصيرة، ضخمة الثروة، تعيش في مكة مترفة ناعمة، من حولها عدد غير قليل من الموالي والأحلاف والرقيق على اختلاف أجناسه وتباين حظوظه من المهارة في الفنون المختلفة التي كان يحسنها الرقيق بمكة في تلك الأيام.
وكانت فاطمة الخثعمية برزة
2
متبدية في مكة بعض الشيء، لا تكره أن تظهر للرجال وتأخذ معهم في ألوان الحديث. وكان شباب قريش يحبون منها ذلك ويكلفون به، ويختلفون إليها إذا كان المساء، فيقولون لها ويسمعون منها حتى يتقدم الليل، وربما أديرت عليهم في الشتاء أقداح من خمر بيسان، وفي الصيف أقداح من زبيب الطائف. ولم يكن عبد الله من هؤلاء الفتيان الذين يألفونها ويختلفون إلى مجلسها. وأين هو من ذلك وإنه لمن قوم حظهم من اللهو ونصيبهم من الاستمتاع بالحياة الفارغة الناعمة ضئيل! وكان عبد الله حديث مكة في هذه الأيام منذ هم أبوه أن يتقرب به إلى الآلهة وفاء بنذره القديم، فأنقذه الفداء من هذا الموت المنكر، كان حديث مكة وحديث نسائها خاصة، يذكرون شبابه الغض الذي كاد يذويه الموت، ويذكرون جماله الفاتن الذي كاد يحتويه القبر، ويذكرون هذا الخفر الجاد الصارم الذي لم يكن يعرف في فتيان قريش، ويذكرون هذه الفتاة السعيدة التي قدر لها أن تكون له زوجا. وكانت فاطمة الخثعمية أكثرهن حديثا عنه، وأعظمهن إعجابا به، وأشدهن شوقا إلى لقائه. رأته يوم الفداء جلدا صبورا مبتسما للموت، لا يظهر على وجهه أثر من آثار الجزع حين كان أبوه يقرع من دونه بالإبل؛ فكانت القداح تأبى أن تخرج إلا عليه. ورأته بعد أن تم الفداء ورفع عنه نذير الموت، فعاد بين أمه وإخوته مبتسما للحياة كما كان يبتسم للموت في هدوء واطمئنان، لا يزدهيه فرح ولا يستخفه طرب، ولا يخرجه عن طوره أمل في الحياة السعيدة والنعيم المقيم.
من ذلك اليوم وقع الفتى من نفس فاطمة موقع قطرة الندى من الزهرة الغضة عند إشراق الصبح، فأحبته وتمنته، وكلفت به وحرصت عليه. وقضت أياما لا تتحدث إلا عنه، وليالي لا تفكر إلا فيه. وقد تحدث إليها الناس من مساء ذلك اليوم بأن آمنة بنت وهب قد خطبت له وستزف إليه عما قريب، فرأى الناس على وجهها جزعا باديا وحزنا عميقا؛ وكانت كثيرا ما تتحدث إلى أترابها بما تجد من حب وما تحتمل من ألم. ولست أنا الذي شبه موقع الفتى من نفسها موقع قطرة الندى من الزهرة، إنما هي صاحبة هذا التشبيه. فقد كانت تقول لصاحبتها عاتكة بنت سهم: أتعرفين كيف تنعم الزهرة حين يمسها الندى إذا أسفر الصبح؟! فكذلك نعمت حين مسني حب هذا الفتى يوم الفداء. وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تشتاق الزهرة إلى قطرة الندى إذا ارتفع الضحى واشتد عليها حر الشمس كلما تقدم النهار؟! فكذلك أشتاق أنا إلى هذا الفتى كلما بعد العهد بيني وبينه، وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تهيم الزهرة بقطرة الندى إذا أظلها المساء وأقبل الليل، وأحست برد السحر وعرفت أن سقوط الندى قريب؟! فكذلك أنا أهيم بهذا الفتى إذا أشرق الصبح وقرب غدو قريش إلى مجالسها في المسجد، أو إذا اعتدل النهار وآن لقريش أن يروحوا إلى أهلهم. وكانت عاتكة بنت سهم ترثي لها وتشفق عليها، وربما بلغ منها الرثاء والإشفاق أن تسخر منها بعض الشيء، فكانت تقول؛ ويحك يا فاطمة! إنك لمن قوم بداة جفاة فيهم خشونة وغلظة، وما أعرف أن تجار قريش يخافون على أنفسهم وأموالهم في رحلة الشتاء أحدا كما يخافون هذا الحي من خثعم. ولولا خوفهم من هذا الحي، وإكبارهم لبأسه وبطشه، لما أيسر أبوك، ولما كان له هذا المال الضخم، وهذا العدد الكثير من الرقيق والأحلاف، ولما اتخذ لك هذه الدار الأنيقة الواسعة في مكة تقيمين فيها كما يقيم أغنى بنات قريش فكيف نبتت هذه الزهرة الرقيقة الأنيقة في تلك القبيلة التي لا تشتاق إلا إلى الدماء! وكانت فاطمة إذا سمعت هذا الحديث ابتسمت عن نفس حزينة وقالت: ما أشد جهلكم يا أهل المدر بما يظل الوبر من نفوس حية وقلوب رقيقة وأكباد يعبث بها الحب ويعصف بها الغرام.
فلما طال على الفتاة أمر هذا الحب وثقل عليها، رقت لها عاتكة بنت سهم، ورقت لها سلمى بنت خزيم، وقالت لها: أقلي عليك الخطب وهوني عليك الأمر، فليس هذا الفتى إلا غلاما من قريش له رقة قلوبهم وفيه حبهم للحياة وكلفهم بلين العيش. وقد أصهر اليوم إلى بني زهرة، وما أيسر أن يصهر غدا إلى خثعم. وما نحسبك أنك تكرهين أن تكوني زوجه الثانية. وما نحسب أنك تخافين أن تغلبك آمنة على قلبه؛ فقد يكون لآمنة جمالها ومكانها من قريش، ولكن لك جمالك، ومالك، ومكانتك من خثعم. فالرأي أن نجمع بينك وبين الفتى، وأن يحس منك حبا له وميلا إليه، فلعل ذلك أن يغريه بالخطبة. وأي شيء أحب إلى أبيه وإخوته من أن يصهروا إلى عظيم خثعم فيأمنوا شياطينها وشياطين مراد، وهذه الأحياء التي تأخذ عليهم طريقهم إلى بلاد اليمن! وكذلك دبر الفتيات أمرهن وجعلن يرصدن للفتى إذا غدا ويرصدن له إذا راح، حتى ظفرن به في هذا اليوم.
فلما أغلق من دونه ومن دونهن الباب لم يلبثن إلا قليلا حتى نظر الفتى فإذا فاطمة وحدها قائمة أمامه، ترسل إليه من عينيها الحادتين نارا محرقة عذبة، فيها حب لا حد له، ورغبة لا حد لها، وحنان لا حد له أيضا قال: يا هذه غضي جفونك عني، فإني أجد للحظك مسا لاذعا. قالت وأنت، فامدد إلي عينيك؛ فإني أجد فيهما شفاء لما يعذبني من سقم، وريا لما يحرق فؤادي من صدى، قال: ما لهذا أقبلت، فأين صاحبتاك؟ قالت: ما أنت وصاحبتاي! إنما كانتا صديقتين أعانتا على أمر، ثم مضت كل واحدة منهما إلى وجهها. أقم معي ساعة أو بعض ساعة، فقد طالما تمنيت هذا اللقاء، واشتقت إلى هذه الخلوة، وسمت نفسي إلى أن يتصل بينك وبيني الحديث. قال يا هذه، ما أحب هذا إلي وآثره عندي! إن في وجهك لإشراقا حلوا، وإن في طرفك لسحرا فاتنا، وإن في صوتك لعذوبة تخلب العقول وتستهوي الألباب؛ ولكني عن هذا كله عجل. قالت: فما يعجلك عنه، وإلى أين كنت تريد؟ قال: يعجلني عنه شغل شاغل وهم طارئ. ولقد كنت أريد إلى أبي قبيس حيث يقيم أهلي. قالت: أقم يا زين قريش! إن أبا قبيس لن يريم،
3
وإن أهلك لن يبرحوه، وإن خير ما في الأمكنة والدور أنها ثابتة باقية لا تتحول ولا تزول إلا في بطء، وإن شر ما في الزمان أنه لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار ولا يحب السكون والاطمئنان، إنما هو انتقال دائم وحركة متصلة لا تستطيع الجمع بين أطرافه بل لا تستطيع الجمع بين أجزائه. أقم! فستبلغ أبا قبيس في أي وقت شئت، وستلقى أهلك في أي لحظة أحببت، ولكن هذه الساعة إن تفلت منك فلن تعود إليك، ولعلك لا تحرص عليها ولا تحفل باستدراكها، فاعلم أني عليها حريصة ولها محبة.
واعلم أني مشفقة أن تضيع، فقد تعلقت نفسي بها منذ يوم الفداء. لقد رأيتك مقبلا إلى المسجد، ورأيتك منصرفا عنه، ورأيت على وجهك ابتسامة واحدة للموت وللحياة جميعا. لم يكن وجهك مظلما حين كنت تنتظر الموت، ولم يزدد وجهك إشراقا حين ردت إليك الحياة. ولقد ارتسمت في نفسي ابتسامتك هذه فلم تفارقها، ولم أرك منذ ذلك اليوم ولن أراك إلا مبتسما. أقم يا فتى! إن وجهك لوضيء وإن جبينك لمضيء، وإن عينيك لتسرعان إلى القلب، وإن صوتك ليسبغ علي حنانا حلوا يدنيني منك ويدفعني إليك. أقم! وليكن بيني وبينك طرف من حديث. فمن يدري! لعل هذا الحديث أن ينتهي بك وبي إلى شيء. قال: وما عسى أن يكون هذا الشيء؟ إن شخصك ليثبتني في هذا المكان، وإني لأجد في قلبي شيئا يدفعني عنه، وإن نفسي لمضطربة بين هذين الداعيين الملحين: يهيب بي أحدهما أن أقم، ويهيب الآخر أن أنصرف قالت: أقم يا فتى، وخلاك ذم، فما ينبغي وقد دخلت دارنا أن تخرج منها ولما تصب عندنا شيئا من القرى. قال: لست ضيفا ولا طارقا، وليست الساعة ساعة قرى، دعيني أنصرف الآن كارها، وما أظن إلا أني عائد إليك إذا كان المساء. ثم هم أن ينصرف ولكنها أقبلت عليه ورنت إليه بطرف ساحر فاتر أثبته في مكانه، فمسته بيدها مسا رفيقا وقالت: وكذلك يذهب عبثا ما أنفقت من جهد، ويمضي سدى ما بذلت من حيلة، وتنصرف ولما يتصل بينك وبيني الحديث، ولما تتصل بين قلبي وقلبك الأسباب! أقم فلا بد من أن أسألك، ولا بد من أن تجيب. انظر إلى هذه الوسائد، لقد هيئت لك منذ اليوم فاجلس. وانظر إلى هذه الجارية! لقد أقبلت تحمل شيئا من شراب.
فجلس الفتى وجلست منه غير بعيد. وأقبلت جارية سوداء تحمل إبريقا وأقداحا فوضعت ما في يدها وملأت قدحين وقدمت إليه أحدهما وهي تقول: دونك شيئا من زبيب الطائف يا زين قريش، ثم قدمت إلى مولاتها قدحا آخر وانصرفت قالت فاطمة: أنبئت منذ حين أنك قد خطبت آمنة بنت وهب وأنها قد زفت إليك. أسعيد أنت منذ أعرست؟ أناعم البال أنت منذ استأنفت حياتك الجديدة؟ قال: وما يمنعني أن أكون سعيدا ناعم البال، وإني لأجد عند آمنة أكثر مما كنت أريد؟! قالت: ولكنك لا تجد عندها المال والثراء ولين العيش. قال: فإن ذلك شيء يكسبه الرجال وينفقون حياتهم في السعي إليه، وإني لآخذ في أسباب ذلك، فقد كنت حين رأيتني رائحا قبل أن يأتي لي أن أروح، ذاهبا إلى حيث أهيئ للرحلة. قالت وقد ظهر عليها الخوف: أمرتحل أنت؟ وإلى أين؟ قال: إلى حيث ترتحل قريش. قالت: فإن مثلك لم يخلق لهذا العناء. أقم يا فتى: فإن المال كثير، والثراء موفور، وإن لك من ذلك ما أحببت، وأن لك من ذلك لفوق ما تحب. إنك لتعرف لمر الخثعمي إبلا ترعى خارج مكة لا يكاد يحصيها العد. وإنك لتعلم أن لمر الخثعمي عند تجار قريش وصيارفهم من الذهب والفضة والعروض شيئا كثيرا. وإنك لتعلم أن يد فاطمة بنت مر في هذا كله مطلقة، فليس لي أخ وليست لي أخت، فثروة أبي خالصة لي لا يشاركني فيها أحد، وهي لمن سأختاره بعلا. أفترضى أن تكون هذا البعل؟ قال: هذا شيء تتحدث به إلي النفس منذ رأيتك وقبل أن تذكري لي مالك الضخم وثراءك الموفور. وإن فيما أرى من جمالك وعقلك وكمال خلقك وحسن منزلك من خثعم، لما يحببك إلي ويغريني بما تعرضين علي، فهل لك في أن تمنحيني سعة من وقت وشيئا من مهلة، لا لأفكر ولا لأروي فقد فكرت ورويت، ولكن لأتحدث في ذلك إلى أبي، ولأنظر كيف يقع ذلك من آمنة، فإن عهدها بالعرس حديث، وعزيز علي أن أسوأها ولما يمض على زواجنا إلا أمد قليل. قالت: لك ما شئت من سعة، ولك ما شئت من مهلة. وعزيز علي أن أروع آمنة أو أن أسوءها، فما جنت علي شرا، ولا قدمت إلي سوءا. ولكني أحببتك وآثرتك وكرهت لك ما يذهب بنضرة كثير من فتيان قريش من هذا الرحيل المتصل الذي يضيع عليهم الصيف والشتاء. ولتعلمن آمنة أني لا أريد لكما إلا خيرا، ولا أوثركما إلا بأحسن ما تحبان، ولن أكون لآمنة علة،
4
ولأكونن أقرب إليها وأعطف عليها من هالة بنت وهيب. فكر إذا ما وسعك التفكير، ورو إذا ما وسعتك التروية، وتحدث إلى أهلك وإلى أبيك، وانتظر بالخطبة والزفاف ما شئت أن تنتظر. ولكن أقم عندي هذا اليوم؛ فإني أجد في جوارك لذة وفي حديثك متاعا، وإني أحس أنك تجد مثل ما أجد وتحب مثل ما أحب.
ثم دنت منه وأقبلت عليه بوجهها المشرق الجميل، وهي تقول في صوت هادئ عذب أدنى إلى الهمس منه إلى الجهر: هلم، فقد خلت لنا الدار ونأى عنا الرقيب، وقد وهبت لك نفسي فهب لي نفسك، ولنقضه يوما حلوا سعيدا. هنالك ارتد الفتى عنها وقد أخذه خوف رفيق وإشفاق هادئ وهو يقول:
أما الحرام فالممات دونه
والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تنوينه
قالت: ما أشد ما ترتاع لما لا يروع! إني لأعرف فيك نسك أبيك. قال: لا روع ولا نسك، ولكن دعيني أنصرف، ولأعودن إليك مع المساء بما ترضين وبما أنا عليه حريص. قالت: أصادق هذا الوعد، أم تحلة تخرج بها مما نحن فيه؟ قال: بل وعد صادق أنا على صدقه أحرص منك.
نهض ونهضت، ومضى متثاقلا، وتبعته وهي تقول: لقد صبرت أياما وأياما، فما يمنعني أن أصبر بعض يوم! اذهب سالما وعد موفورا! فلن أبرح مجلسي هذا حتى تعود!
وما كاد يتجاوز باب الدار حتى مضى في سرعة تشبه العدو، لا يحس وهج الشمس الذي كان يلفح الوجوه، ولا يكاد يرى من حوله شيئا، قد امتلأت نفسه بما رأى، وامتلأت بما سمع، وجاشت في قلبه الآمال العراض. لقد كان يقيس ما كان يعده أبوه من ثراء بعد طول الرحلة وثقل الجهد وكثرة الاحتمال وفراق الأهل، إلى ما رتبت له فاطمة في غير نأي ولا مشقة، ولا اغتراب ولا فرقة، فكان يأخذه شيء يشبه الدوار حين يرى هذا الفتى وقد أنضاه سفر غير قاصد، ثم عاد مجهودا مكدودا ولم يفد إلا دراهم ودنانير؛ وهذا الفتى الذي يسعى في مكة رخي البال موفور النعمة، لم يلق جهدا ولم يتعرض لأذى، وإنما قال كلمة ليس غير، فإذا هو أكثر قريش مالا، وأعظمها ثراء، وأعزها جانبا، إليه حماية قريش حين تأخذ طريقها إلى اليمن.
وأنساه هذا التفكير نفسه حتى مر بدور بني هاشم فلم يلو على أحد ولم يقف عند شيء، لولا أن صوتا ناداه إلى أين يا عبد الله؟ وما هذا المضي إلى غير غاية؟ ولكنه سمع لهذا الصوت فالتفت، فرأى سمراء تسعى قريبة الخطى، كئيبة الوجه، كاسفة البال، فوقف لها حتى دنت منه وهي تقول : لشد ما تسرع في العدو، ولشد ما تذكرني بأخيك! قال: ما أرى أنك تريدين هالة أو فاطمة بنت عمرو؟ قالت: بل إلى فاطمة أريد، فقد مسها منذ حين ما مسني منذ دهر فانصرف عنها أبوك بعض الشيء إلى عرسه الجديدة. ولولا أن لفاطمة فيك وفي إخوتك عزاء عما تجد من هجر عبد المطلب لكان الخطب عليها أثقل ولها أفجع. فأنا أختلف إليها في مثل هذا الوقت من كل يوم لأسليها وأسري عنها، فقد أخذ عبد المطلب لا يروح إلى هالة. وأنت فما أعجلك عن أبيك وعن إخوتك؟ أمشوق أنت إلى آمنة ولما يعتدل النهار؟ قال: إنك لتعلمين ضعف سلطان الشوق علينا آل عبد المطلب، وإن أحدنا ليتحرق شوقا ويتفطر جوى فلا يبلغ منه ذلك أن يتحول عن مجلسه أو ينصرف عن وجه قصد إليه. ولكن عبد المطلب قد لقيني منذ اليوم بحديث أعجلني عنه وعن إخوتي، ودفعني إلى أن أسرع إلى الرواح. إنه يريد أن أفصل مع القافلة إلى الشام، فلا بد من أن أتهيأ لذلك وأهيئ له آمنة، وإني لأخشى أن يكون موقع ذلك منها شديدا. قالت: لا بأس عليك، إن تكن فتى من قريش فآمنة فتاة من قريش، وما أظنها إلا هيأت نفسها لحياتنا جميعا، وأخذت نفسها بالصبر على فراق البعل أكثر العام. اذهب مصاحبا، فلن ترى من آمنة إلا ما يحب أبوك وما ستحب أنت بعد حين وإن كرهته الآن. وكانا قد بلغا بيت فاطمة، فدخلت هي، ومضى الفتى أمامه لم يعرج على أمه ليحييها أو ليقدم إليها بعض العزاء. فلما انتهى إلى آمنة في بيتها قامت إليه طلقة الوجه مشرقة الجبين، وتلقته مبتهجة بلقائه، ولم تسأله عما أعجله عن قومه. وهل كانت تشك في ذلك أو ترتاب! إنما هو الحب الذي كان يخرجه من البيت وقد خلت دور بني هاشم من الكهول والشباب، ويرده إلى البيت ولما ينهض كهول بني هاشم وشبابهم من أنديتهم ومجالسهم. ولكن آمنة رأت على وجه زوجها شيئا غير ما كانت قد تعودت أن تراه: رأت حيرة لا تكاد تظهر، وهما لا يكاد يبين. فهمت أن تسأله، ولكنه سبقها إلى الجواب فقال: عزيز علي يا ابنة وهب أن ألقاك بغير ما تعودت أن ألقاك به من البشاشة والبشر، ولكن حياة قريش لا تعرف البشاشة الدائمة ولا البشر المتصل. قالت: فأنت مرتحل إذا مع القافلة؟ كذلك يريد أبوك، وكذلك يريد إخوتك، وكذلك يريد مكانك من قريش.
ثم كفكفت عبرة كانت تريد أن تنهمر، وردت إلى صوتها ما كان قد فارقه من الثبات والهدوء، وقالت وهي تبتسم في كثير من التجلد والصبر: وهل عزت قريش وأثرت إلا بالرحيل! إنما عز قريش وثراؤها ثمرة لجهد الرجال وصبر النساء: أولئك يشقون بالرحلة المتصلة، وهؤلاء يشقين بالصبر الطويل. وماذا أعددت لهذه الرحلة؟ قال: سنتحدث في ذلك بعد حين، ولكني أريد أن تستقبلي هذا الفراق بصبر لا يشوبه التصبر، وجلد لا يشوبه التجلد، وقلب لا يفسد عليه الحزن أمره. انتظري عودتي فلعلي أعود موفورا موسرا، ولعل ذلك أن يهيئ لنا حياة أيسر وعيشا أدنى إلى اللين مما نحن فيه، فلو تعلمين ما ألقى من الأذى وما أرد نفسي إليه من الاحتمال حين أرى جيدك عاطلا لا تزينه هذه العقود التي تزين أجياد أترابك من نساء قريش، ولو تعلمين ما ألقى من الأذى وما أرد نفسي إليه من الاحتمال حين أرى أنك لا تستمتعين من طيبات الحياة بمثل ما يستمتع به غيرك من نساء بني هاشم! قالت: وما ذاك، وأين يكون الحلى وأين يكون النعيم من هذه الساعات الحلوة التي نقضيها إذا كانت القائلة أو إذا جن الليل! وأخذ الحديث يصفو ويعذب ويرق ويلين بين الزوجين، حتى أنسي عبد الله أمر الرحلة، وأنسى حديث فاطمة وما وعدته وما صورت له من أماني وآمال، ولم يذكر عبد الله إلا هذا الوجه الجميل، وهذه النفس السمحة، وهذا الخلق الرضي، وهذا الحديث العذب يقع من قلبه مواقع الماء من ذي الغلة الصادي. هنالك عاد إلى وجه الفتى إشراقه وبهجته، وعاد إلى قلب الفتى غرامه وحبه. وهنالك انتصر الشباب على الحزن والسرور معا. ثم أقبل الأصيل فأسبغ على مكة وما حولها رداء خفيفا من الحزن. وخرج الفتى من عند آمنة راضيا ناعم البال، ولكن صوتا بعيدا يبلغ قلبه فيمسه مسا خفيفا. خرج الفتى ليسعى في تهيئة رحلته، ولكن هذا الصوت البعيد أخذ يدنو من قلبه قليلا قليلا:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
ومع أن الفتى قد ولى وجهه شطر بني زهرة ومضى في طريقه إليهم، فقد شغله هذا الصوت عن بني زهرة وعن عروضهم وتجارتهم، وشغله عن القافلة ورحلتها من غد، وشغله عن نصح أبيه وتشجيع إخوته، وشغله عن كل شيء. ولم لا! لقد كان يدنو منه شيئا فشيئا، وكان كلما دنا منه ارتفع واتسع وأخذ عليه كل سبيل، حتى لكأنه كان يسمعه من كل ناحية، وينظر فإذا هو في طريقه لا إلى دور بني زهرة، بل إلى دار فاطمة بنت مر. وينظر الفتى فإذا هو أمام الدار، وإذا هو يدخل من الباب، وإذا هو يرى الجارية السوداء تلقاه باسمة وتحييه قائلة: أسرع يا زين قريش، فقد أبطأت وطال انتظار مولاتي لك وينظر الفتى فإذا هو في ذلك المجلس الذي ترك فاطمة فيه آخر الضحى، وإذا فاطمة قد قامت له وأقبلت عليه، ولكنه لم يفطن لشيء ما كان ليفوته لو أن أمره كله قد كان إليه حقا. لم يفطن لهذا الفتور السريع الذي ظهر على فاطمة حين وقع بصرها عليه. على أنه لم يلبث غير قليل حتى أحس هذا الفتور وأنكره؛ فقد تلتقه الفتاة فرحة بلقائه أول الأمر، ولكنها لم تكد تثبت بصرها فيه حتى هدأ هذا الفرح، ودعته في رفق إلى أن يجلس. وما كاد يستقر في مكانه حتى أقبل عليها جذلان مسرورا وهو يقول: رأيت أني لم أكذبك ولم أخلفك، وإنما أقبلت مع المساء! لئن كانت الدار قد خلت لنا في الضحى لهي الآن أدنى إلى الخلو. ولئن كان الرقيب قد نأى عنا في الضحى لهو الآن أمعن في النأي. ولئن كان النعيم قد عن لنا في الضحى لهو الآن أدنى منالا. قالت وقد أطالت النظر إليه والتحديق: ليتك لم تعد، وليتك إذ وعدت أخلفت موعدك! فحدثني ماذا صنعت منذ فارقتني؛ فإني لا أرى في وجهك ما كنت أراه في الضحى من الإشراق، ولا أرى في جبينك ما كنت أراه في الضحى من الضوء، ولا أسمع في صوتك ما كنت أسمع في الضحى من هذه النغمات الحلوة التي كان يملؤها الحنان! إنما أنت الآن فتى من فتيان قريش يبتغي لذة ومالا. إن في أحداث الزمان لعجبا! ما أسرع ما يتغير الرجال! قال: وأين ترين هذا التغير؟ وماذا تنكرين مني؟ لقد كنت بك مشغوفا في الضحى، وكنت أدافع هذا الشغف، ولقد كنت مقبلا عليك في الضحى، وكنت أخفي هذا الإقبال. فالآن وقد أرسلت نفسي على سجيتها، وتركت قلبي يعرب عما يجد، ويصور ما يحس تلقينني هذا اللقاء؟! هلم! لقد خلت لنا الدار، ونأى عنا الرقيب وأمكنت لنا الفرصة.
قالت: لقد كنت تفكر في الضحى أو تريد التفكير، وكنت تروى في الضحى أو تريد التروية، فالآن دعني أفكر، وهب لي سعة من وقت؛ فإني لا أري ما الذي يصرفني عنك ويخيفني منك. ولو أنصفت نفسك وأنصفتني لانصرفت عني الآن ومضيت فيما كنت فيه من تهيئة رحلتك إلى الشام!
قالت ذلك ونهضت متثاقلة، فمضت حتى اختفت. ولبث الفتى حائرا لا يدري ماذا يأتي من الأمر، وكأن حجابا قد أزيل عنه، وأمرا قد كشف له، فوثب ومضى مسرعا حتى جاوز الباب وأخذ طريقه إلى بني زهرة. وقضت فاطمة ليلا ثقيلا، حتى إذا كان الصبح أقبلت عاتكة تسعى تريد أن تعلم علمها، فرأت فتاة محزونة كئيبة؛ فلما سألتها عن خطبها قالت:
إني رأيت مخيلة عرضت
فتلألأت بحناتم
5
القطر
فلمأتها
6
نورا يضيء له
ما حوله كإضاءة الفجر
ورأيته شرفا أبوء به
ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت
ثوبيك ما استلبت وما تدري!
قالت عاتكة: لقد ظننت أن حبكن في البادية كحبنا في الحاضرة، وما كنت أحسب أنه يتجاوز الشباب، ويرقى إلى السحاب!
قالت فاطمة: لا تهزئي، فقد ذهبت آمنة بخير ما كنت أحب!
الفصل الخامس
البين
لم تظهر آمنة ارتياعا للوداع، ولا التياعا للفراق، ولم تصعد من صدر آمنة زفرة، ولا انحدرت من عين آمنة عبرة، وإنما كان وجهها هادئا منبسط الأسارير، وكان صوتها مطمئنا لم تفارقه عذوبته الحازمة حين أقبل زوجها عليها يودعها آخر السحر، وقد أخذ الفجر يتنفس في دعة، ويمس بأصابعه الرقيقة ما حول مكة من الربا. وكان عبد الله يدافع حزنا عميقا كان يريد أن يظهر على وجهه وينطلق على لسانه، وكان يتكلف من التجلد والتصبر ما لا بد منه ليكون فتى من فتيان قريش، ليس للجزع على نفسه سلطان، ولا للضعف إلى قلبه سبيل. ومع ذلك فقد اتصلت عيناه الحادتان بوجه امرأته الجميل اتصالا طويلا، كأنما كانتا تريدان أن تطبعا صورته الحلوة الهادئة في نفس الفتى لتكون له رفيقا مؤنسا في سفره الشاق الطويل.
ولم تجرؤ آمنة على أن تطيل النظر في وجه زوجها كما كان هو يطيل النظر في وجهها، إنما كانت عيناها ترتفعان إلى وجه الفتى، ثم لا تلبثان أن تنخفضا حياء واحتشاما وصبرا. حتى إذا خرج الفتى ليلحق بإخوته الذين كانوا ينتظرونه غير بعيد ليصحبوه إلى حيث يودع أباه وأمه، ثم إلى حيث عسكرت القافلة تنتظر الإيذان بالرحيل، نظرت آمنة فإذا عيناها لا تبكيان، وإذا قلبها لا يخفق، وإذا شخصها كله هادئ مطمئن، لا تظهر عليه آيات الجزع ولا أمارات الذهول. ومع ذلك فقد كانت نفسها تبكي بكاء مرا، وكان قلبها يشكو شكاة الطائر المهيض، ولكن أصداء هذا البكاء وهذه الشكاة لم تكن تتردد إلا في أعماق الضمير. كانت آمنة ثابتة للخطب مطمئنة له، كأنما أذعنت للحوادث إذعانا، وكأنما أخذت تروض نفسها على صبر لم تعرفه نساء قريش، وتهيئ نفسها لحزن طويل لم تألفه أترابها اللاتي لم يكدن يذقن لذة الحياة.
وما أشرقت الشمس وما ارتفع الضحى حتى كانت القافلة قد بدأت طريقها الطويلة إلى غايتها البعيدة، وحتى كان كثير من شباب مكة وأحداثها يشرفون من كل مرتفع، ويمدون أبصارهم إلى حيث مضت العير؛ ليروا منها ما يستطيعون أن يروه قبل أن تتقطع بينهم وبينها الأسباب.
وكان بيت آمنة في هذا الوقت قد امتلأ بنساء بني هاشم وبني زهرة، أقبلن عليها يعزينها ويسلينها ويعاونها على احتمال هذا الحزن الجديد. ولكنها لقيتهن كما تعودت أن تلقاهن من قبل: باسمة في حزن، نشيطة في هدوء ولم تعنهن على أن يطلن الحديث في الوداع والرحيل، وفي القافلة وما يتصل بها من الأمر، فأخذن فيما كن يأخذن فيه من أحاديثهن المألوفة في كل يوم.
وكان عبد المطلب قد ذهب إلى مجلسه من المسجد كدأبه في كل يوم، فتلقاه أبناؤه بالتحية وتلقاهم هو بالدعاء، وجلس وجلسوا من حوله يتحدثون عن القافلة كما كانوا يتحدثون عنها من قبل. وكان الشيخ يسمع لهم ويرد عليهم، ولكنه كان يجد في نفسه حزنا عميقا لاذعا لم يكن تعود أن يجده حين كان يرحل أبناؤه غير عبد الله مع القوافل إلى اليمن أو إلى الشام، ولا حين كان يرحل هو تاركا أبناءه وأهله.
وكان الشيخ يحس كأن له شخصين مختلفين: أحدهما حاضر بمكة يأخذ مع أبنائه وغيرهم من قريش بأطراف الحديث، والآخر غائب عن مكة قد فصل مع العير، وأخذ قصد الشام يصاحب هذا الفتى الذي ارتحل ولم يكن من الحق أن يرتحل لو أن عبد المطلب طاوع نفسه واستمع لصوت الضمير. وكان هذا الشخص الغائب يرسل إلى الشيخ صورا قوية متلاحقة تمثل الطريق التي تسلكها العير، والأحياء التي تمر بها، واستقبال هذه الأحياء للعير، واحتفاءها بها ومتابعتها لها. وتمثل له ابنه آخذا في الحديث مع رفاقه كاتما ما يجد من حزن لفراق أهله وإخوته وبلده، وكثيرا ما كان هذا الشخص الغائب يسبق العير في طريقها إلى الشام، ويعود إلى عبد المطلب يصور هذه الطريق، فيثير في نفسه ذكرى، ويثير في نفسه أملا، ويثير في نفسه إشفاقا؛ لأنه كان يستحضر ما كان يلقى في سفره إلى الشام من خير وشر، ومن راحة وجهد. وكان يرى أن ابنه سيلقى مثل ما لقي، وسيحس مثل ما أحس، فيبتهج حينا ويبتئس حينا آخر.
وكان على هذا كله لا يستطيع أن يدافع خاطرا يلم به من حين إلى حين، فيصور له يوم الفداء، ويصور له هذا الصراع العنيف الذي كان بينه وبين الموت في ذلك اليوم، والذي كان موضوعه هذا الفتى الذي ترقل به مطيته الآن نحو بلاد الروم. وكان كلما فكر في ذلك أحس خوفا مرا تظهر آثاره على وجهه المشرق الموقور، كأنما كان يسأل نفسه: أفي الحق أن قد انتهى هذا الصراع بيني وبين الموت؟ أفي الحق أني قد استخلصت هذا الفتى ووهبته للحياة المتصلة والبقاء الطويل؟ إن الدهر لكثير الغدر مشغوف بالخداع، وإن من حولنا لقوى خفية إن يكن منها الخير المسعف فإن منها الشرير الخاتل. وإن هذه القوى الشريرة لتجد لذة سيئة في تضليلنا والعبث بنا ودفعنا إلى الشيء كأنه الخير كل الخير، حتى إذا اندفعنا إليه وتورطنا فيه، انصرفت عنا ساخرة منا، وتكشفت لنا الأحداث عن الشر والنكر والبلاء، ومن يدري! لعل قوة خفية من هذه القوى الخاتلة قد خدعتني ومكرت بي، وخيلت إلي أن في حمل هذا الفتى على الرحلة مع شباب قومه وكهولهم نفعا له وإصلاحا، على حين لم تكن تريد به إلا الشر، ولم تكن تريد به إلا النكر، ولعلها أن تكون قد أرصدت له في الطريق رصدا وكادت له في السفر كيدا. وكان الشيخ إذا ألم به الخاطر وانتهى به التفكير إلى هذه الصورة امتلأ قلبه بهم شاغل عنيف، يكاد يقطع عليه حديثه مع من كان حوله من قومه، ويكاد ينهضه قائما ويسعى به إلى حيث يركب أسرع نجائبه ليلحق بابنه ويرده إلى مكة، فكان الوقار وحده يكفه عن ذلك، ويرده إلى أن يأخذ نفسه بالصبر والاحتمال، ويحتفظ بما في قلبه من الهم سرا مكتوما لا يظهر عليه أحد غيره، ولا يناجي به إلا ضميره.
وكذلك اتصلت حياة الشيخ منذ ارتحل ابنه مضاعفة؛ يحيا مع أهل مكة ويضطرب فيما يضطربون فيه، ويمضي مع القافلة ويشاركها فيما تجد من مشقة الرحيل وراحة المقام، وربما شاركها في أحاديثها وآمالها، وربما شاركها في خوفها وثقتها. ثم ربما فكر في آمنة فأطال التفكير. وماله لا يفكر فيها وقد كانت في حجر عمها وهيب، فلما زفت إلى عبد الله أصبحت في كنفه هو، ولا سيما بعد أن سافر زوجها وبقيت هي وحيدة محزونة ليس لها مسل عن الوحدة ولا معين على الحزن! لذلك كان الشيخ شديد العطف على هذه الفتاة، يزورها فيكثر زيارتها ويطيل المقام عندها، ويلح على هالة في أن تفعل فعله فتزور آمنة وتستزيرها، ولا تخلي بينها وبين الوحدة ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
وفي الحق أن الأسابيع الأولى التي تبعت رحلة عبد الله قد مرت على آمنة مرا سريعا يسيرا. فما أكثر ما كان يزورها نساء بني هاشم ويستزرنها! وما أكثر ما كانت تجد عزاء وراحة فيما كان ينالها من بر الشيخ وأزواجه، ومن ود سمراء خاصة؛ على أن حياتها كانت كحياة عبد المطلب مقسمة بين مكة وبين الطريق التي كانت تسلكها القافلة. فكانت تحيا حياة النساء من حولها في قليل من العمل وشيء من الحديث وكثير من الصمت، وكانت تتبع عبد الله في طريق تتخيلها ولا تحققها. وأنى يكون لها تحقيق الطريق وهي لم ترتحل ولم تجب أقطار الأرض! إنما كانت تسمع أحاديث الناس عما يجدونه في طريقهم إلى الشام وإلى اليمن، فتصوره لنفسها كما استطاعت، وترى زوجها في أطوار المسافرين
1
فتبتهج لذلك قليلا وتشقى به كثيرا.
وأصبحت آمنة ذات يوم تجد في نفسها شعورا غريبا لا تدري أألم هو أم لذة؟ أحزن هو أم سرور؟ رأت فيما يرى النائم كأن آتيا قد جاءها فوقف منها غير بعيد، وحاولت أن تتبين شخصه فلم تستطع، وحاولت أن تحقق صوته فلم تستطع. وما كانت تدري أكان رجلا أم امرأة، وما كانت تدري أكان شيخا أم شابا، وإنما كانت تعلم أنه كان شبحا مؤنسا عذب الصوت. دنا منها حتى إذا كاد يمسها تحدث إليها في رفق كأنه يناجيها ويسر إليها سرا، فقال: أتعلمين أنك ستصبحين أما؟ قالت: ماذا تقول؟ لم أفهم عنك. قال: أتعلمين أنك حامل؟ قالت لا! قال: فاعلمي إذا أنك ستكونين أما لخير من حملت الأرض من الناس. ثم نظرت فلم تر شيئا. ثم استيقظت ونظرت من حولها فإذا الصبح قد يشرق ويضيء كل شيء. هنالك فكرت آمنة فيما رأت وفيما سمعت، وأنكرت آمنة ما رأت وما سمعت. وسألت نفسها، فإذا هي لا تعلم أنها قد أنكرت من أمرها شيئا، إنما هو اضطراب يسير كان يلم بها من حين إلى حين قبل العرس، فلا غرابة في أن يلم بها بعده. وما كانت تقدر أن الحمل يسير إلى هذا الحد، لا تشعر المرأة به ولا تجد له عرضا من الأعراض غير مألوف. على أنها لم تصدق ما سمعت، ولم تستطع مع ذلك أن تكذبه، فظلت منه في شك مريب، واستشعرت له خوفا مقلقا وأملا لذيذا. وظلت في حيرتها هذه الحلوة المرة حتى ارتفع الضحى. وأقبلت إليها نساء بني هاشم وفيهن سمراء وفاطمة بنت عمرو وهالة بنت وهيب. فقصت عليهن في استحياء ما رأت وما سمعت؛ وسألنها عن بعض الشيء، ثم رجحن لها صدق الرؤيا. ووصفت لها سمراء تمائم تقدمت إليها في أن تحملها لترد عنها الشر، وتذود عنها مزعجات الأحلام.
من ذلك اليوم ازدادت نفس آمنة رضا واطمئنانا، واحتملت بعد زوجها عنها في شجاعة لا مرارة فيها ولا حرمان. وأخذت تفكر في زوجها مبتسمة له، وتنتظر عودته القريبة في شيء من الغبطة والسرور عظيم، وأخذت تقدر ابتهاجه حين يعود فيعلم من أمرها ما لو علمه الآن لهون عليه السفر ومشقة النوى. وعلقت آمنة ما وصف لها من تمائم، ولكنها لاحظت أنها ما كانت تفيق من نوم إلا وجدت تمائمها وقد انقطعت أسبابها وسقطت عنها. فلما تكرر ذلك أعرضت عن التمائم ولم تحفل بها. وأخذت تنتظر أعراض الحمل، وتهيئ نفسها لمثل ما احتملت هالة من ألم حين كانت تنتظر حمزة. ولكنها انتظرت وأطالت الانتظار، فلم تجد شيئا ولم تشك ألما ولم تضق بالحياة، ولم ترغب عما كان يتاح لها من لذاتها اليسيرة.
ومع ذلك فقد مضت الأيام والأسابيع، ولم تشك آمنة في أن الأحلام لم تكذبها. وإذا فممتازة هي من النساء! يألمن ويشكون ويضقن بكل شيء، ويزهدن في كل شيء. وهي لا تألم ولا تشكو، وهي لا تضيق ولا تزهد ولا تجد ثقلا. وهي تتحدث بذلك إلى هالة وإلى سمراء وإلى فاطمة فينكرنه، ويعجبن له ويستبشرن به. على أنها لم تكن تتحدث إليهن بكل شيء. وأكبر الظن أنها كانت تشفق أشد الإشفاق - إن وصفت لهن كل ما تجد أو بعض ما تجد - أن يسخرن منها ويتهمن عقلها ويظنن بها الظنون. فقد كانت آمنة في حياة سعيدة لم تعرف مثلها: ما أحست من رضا النفس واطمئنان القلب وراحة الضمير مثل ما كانت تحس في تلك الأيام، وما ذاقت من عذوبة النوم ولا استمتعت من جمال الأحلام مثل ما كانت تذوق وتستمتع به في تلك الليالي. إن كانت لتأوي
2
إلى فراشها فيأخذها نوم هادئ رفيق، ثم تتمثل لعينيها مناظر فيها جمال وروعة وتلقى في أذنيها أصوات حلوة كأنها غناء الملائكة، وتقضي الليل كله في لذة غريبة نادرة، حتى إذا انجلى جبين الصبح أفاقت موفورة القوة شديدة النشاط، لا تجد كسلا ولا فتورا. وما هي إلا أن تستعذب آمنة أحلام الليل، فتود لو قضت وقتها كله نائمة مغرقة في هذه الأحلام. ثم تود لو لم يزرها أحد ولم يتحدث إليها أحد لتستحضر في اليقظة ما كانت تبتهج به أثناء النوم. ولكنها قرشية تعرف كيف تملك نفسها، وتضبط أهواءها، وتلقى الناس بمثل ما كانت تلقاهم به من البشر الهادئ البريء من الإسراف في الابتئاس أو الابتهاج.
وأخذت قريش تنتظر قفول العير وتستعد له، وأخذت الأسر تهيئ لاستقبال العائدين. وكانت آمنة كغيرها من نساء قريش تنتظر رجوع زوجها، وتتهيأ له سعيدة مرتين: سعيدة بمقدمه، وسعيدة بهذا النبأ الذي ستلقاه به إذا خلا إليها. ولم يكن عبد المطلب أقل قريش انتظارا للقافلة، وتحدثا عنها، وتحرقا إلى لقاء بعض من كان فيها. وأقبل البشير فأذن في مكة أن مقدم العير قريب. وخف شباب قريش يلقون العير قبل أن تبلغ الحرم. واستعد كهول قريش للقاء العير متى دخلت مكة. وازينت نساء قريش للقاء الأزواج والإخوة والأبناء. وخرج إخوة عبد الله فيمن خرج، وانتظر عبد المطلب فيمن انتظر، وازينت آمنة فيمن ازين، وأعدت فاطمة بنت عمرو طعاما غير مألوف. ولكن إخوة عبد الله كانوا أسرع من عاد من استقبال العير، ولم يعودوا مبتهجين ولا مغتبطين ولم يكد يراهم عبد المطلب حتى وقع في نفسه حزن ثقيل. ولم يكد يسألهم عبد المطلب حتى عرف أن ابنه قد مرض في الطريق، فتخلف في يثرب ليمرض عند أخواله من بني النجار. واضطرب الشيخ وبنوه بين حزنهم للمريض وحزنهم لأنفسهم. وخاف الشيخ على آمنة، وخاف أبناؤه على أمهم فاطمة. وقضى الشيخ وبنوه ساعة كانت فيها حيرة سوداء مظلمة ثقيلة الحمل. ثم ثاب إلى الشيخ حلمه، وعاد إليه بصره بالأمور وحزمه في تصريفها، فلم يفكر في نفسه، ولم يفكر في آمنة ولا فاطمة وإنما فكر في المريض، فندب أكبر بنيه ليرحل من فوره إلى يثرب، ويشهد من قرب تمريض أخيه. وأبى الشيخ أن يهم بشيء أو يفكر في شيء حتى يفصل ابنه من مكة. وما هي إلا ساعة من نهار حتى كان أكبر أبناء عبد المطلب في طريقه إلى يثرب لا يلوى على شيء. هنالك رجع الشيخ إلى نفسه، فذكر يوم الفداء، وذكر ضحوة ذلك اليوم الذي أغرى ابنه فيها بالسفر وحضه عليه، وذكر يوم الرحيل، وذكر خوفه وإشفاقه، وذكر القوى الخفية الماكرة التي كان يخافها ويشفق منها. وحاول الشيخ أن يرد إلى نفسه طمأنينتها ودعتها فلم يوفق. فينهض متثاقلا كالمأخوذ حتى دخل على سمراء. فلما رأته سمراء لم تشك في أن حادثا قد حدث، على أنها تلقته مبتهجة بلقائه في شيء من العتب والمرارة . ولكنه لم يلبث أن أنبأها بما علم وما فعل، وبأنه مشفق على الفتى، وبأنه لا يدري كيف يلقى بهذا النبأ أم الفتى وزوجه.
قالت سمراء وهي تبكي وقد ذكرت ابنها: فابدأ بنفسك فالقها بهذا النبأ كما ينبغي أن يلقاها به الشيخ الوقور، فما أحب لك هذا الجزع، وما أعرف أنه يليق بك أو يجمل منك. وما أرى أن على الفتى بأسا، وما أظن إلا أن الفتى قد اتخذ هذه العلة اليسيرة سببا إلى زيارة أخواله في يثرب والمقام عندهم قليلا. ومضت سمراء تعزي الشيخ وتهون عليه الخطب، والله يعلم ما كان الخطب عليه هينا ولا يسيرا. ومضت سمراء تعزي أم الفتى وزوجه وتهون عليهما الخطب. وقد سبقت إليهما به الأنباء.
وكانت طوالا ثقالا تلك الأيام وتلك الليالي التي قضاها آل عبد المطلب ينتظرون أنباء المريض، وكان مرا ذلك الحزن الذي كان يتجرعه الشيخ إذا أمسى، ويتجرعه إذا أصبح، ويتجرعه كلما تقدم النهار. وكانت غزارا حارة تلك الدموع التي كانت تسفحها فاطمة في غير هدوء ولا انقطاع. وكانت لاذعة محرقة تلك اللوعة التي كانت تجدها آمنة كلما خلت إلى نفسها وفكرت في زوجها. ولكن! أكانت تخلو إلى نفسها حقا؟! أكان يتاح لها أن تفكر في زوجها حقا؟! يا له من جنين هذا الذي تحمله بين أحشائها! إنه ليصرفها عن الحزن، وإنه ليوقع في قلبها عزاء حلوا، وإنه ليملأ نفسها صبرا جميلا! ومع ذلك فهذا الجنين أحق الناس بالرثاء إن حدث لمريض يثرب حدث. أليس قد يولد يتيما؟ بلى! لم يبق في ذلك شك. ولا بد من أن تؤخذ النفوس باحتماله والصبر عليه؛ فقد عاد رسول عبد المطلب ينبئ قومه بأنه قد بلغ يثرب فلم ير فيها أخاه المريض، وإنما رأى قبره في ناحية من دور بني النجار!
وجلس شباب من قريش ذات ليلة عند فاطمة بنت مر الخثعمية يسمرون، فانتهى حديثهم إلى مرض عبد الله وموته في يثرب. فلما سمعت فاطمة هذا الحديث غشيت جبينها المشرق سحابة رقيقة من حزن، وتحيرت في عينها دمعة لم تلبث فاطمة أن كفكفتها وهي تقول في صوت كأنه يأتي من بعيد: نذر وفداء، ورحلة ومرض، وموت في يثرب؛ إن للقدر في هذا الفتى من قريش لسرا!
ثم مضى القوم فيما كانوا فيه من لهو الحديث.
الفصل السادس
القضاء
خرج تبع من اليمن غازيا في جيش لم تعرف الأرض مثله عددا وعدة وبأسا وحدة، وغنى وثروة! فلم يدع تبع في طريقه شيئا أتى عليه إلا احتواه، ولا بلدا مر به إلا أذله. وقد دان له النجد والغور، وأذعن له الحجاز والشام، وعنت لسلطانه مصر وإفريقية، وأمعن في المغرب حتى مر بعمود هرقل، ووطئ ساحل البحر المحيط، ذلك الذي كانت تقيم عليه ظلمات دائمة لا تفرقها نجوم الليل ولا شمس النهار. فلما رأى تبع أن قد ملك مغرب الأرض عاد أدراجه قاصدا الشرق، فأمعن فيه غزوا وفتحا، وثل العروش وهزم الجيوش، وأسر الملوك واسترق السادة العظماء، وملأ يديه من السبي والمال. وما زال ماضيا أمامه يخرج من نصر إلى نصر، وينتقل من فوز إلى فوز، وجيشه المظفر يتبعه فرحا مرحا، تغريه الحرب بالحرب، ويطمعه الظفر في الظفر، ويواتيه الحظ، حتى انتهى إلى أقصى الشرق، ووطئ ساحل البحر المحيط، ذلك الذي تخرج منه نجوم الليل إذا كان المساء، وشمس النهار إذا كان الصباح.
هنالك انقلب تبع راجعا إلى اليمن، وفي نفسه حزن ألا يتاح له من الظفر أكثر مما أتيح له، وألا تهيأ له الوسائل ليغزو هذا البحر الذي انتهى إليه من ساحل إلى ساحل، ويرى هذه الطريق التي تقطعها الشمس وتقطعها النجوم حين تأوي إلى أحد ساحليه لتنام، فتنام ولكن في غير سكون، وتهجع ولكن في غير استقرار؛ إنما تعبر بها زوارق من ذهب وفضة، وأخرى من لؤلؤ وياقوت. وما تزال هذه الزوارق تعبر في دعة وهدوء حتى تبلغ الساحل الآخر، فتصعد في السماء لتبعث الضوء والحياة إلى الناس والأشياء. ونفس الإنسان واسعة الأمل بعيدة أمد الرجاء، ولا سيما حين يواتيها الحظ ويقدر لها الفوز ببعض ما تريد، وكانت نفس تبع في أكبر الظن تؤمل فتبعد في الأمل، كما عملت فأبعدت في العمل، وكانت تتمنى لو أتيح لها أن تطأ أمواج هذا البحر بهذا الجيش الذي وطئت به أكناف الأرض. ومن يدري! لعلها أن تظفر بزورق أو غير زورق من هذه الزوارق التي تعبر عليها النجوم. ومن يدري! لعلها أن تقطع طريق النجوم في السماء بعد أن قطعت طريقها في البحر، وبعد أن قطعت طريق ضوئها على الأرض. على أن نفس تبع لم تكن تعرف اليأس وإن كانت تعرف الإرجاء! فلم ييأس تبع من غزو النجوم في عقر دارها، وإنما أرجأ ذلك إلى أن يتخذ له العدة، ويهيئ له الوسيلة، ويمد له الأسباب.
عاد إذا تبع سعيدا يرافقه الظفر والأمل. حتى إذا كان قريبا من اليمن وقف عند هذه المدينة الصغيرة التي كانت تسمى «يثرب»، والتي ملكها لأول عهده بالخروج، والتي ترك فيها أحد أبنائه يشرف منها على بلاد العرب. أنكر شيئا لم يكن يقدره ولا يفكر فيه: لم يخرج ابنه للقائه من بعيد، ولم يخرج للقائه من قريب، ولم ير من حوله استبشارا بمقدمه ولا إكبارا لمنزله، وإنما رأى حصونا مغلقة وآطاما قام عليها الجند كأنهم يتأهبون للقتال. لم يحتج تبع إلى بحث واستقصاء ليعلم أن القوم قد غدروا ومكروا، وقتلوا ابنه غيلة، وأبوا أن يتسلط عليهم أحد غيره، أو أن يسود فيهم من ليس منهم. وهم الآن يستعدون للحرب، ويتأهبون للدفاع عن أنفسهم مستميتين في ذلك، مزدرين ما سيلقون من جهد، وما سينزل بهم من بلاء.
ولم يكن من اليسير على تبع أن يتبين العواطف التي كانت تثور في نفسه، والخواطر التي كانت تزدحم في قلبه، فقد كان محزونا أشد الحزن، ملتاعا أشد اللوعة لفقد ابنه العزيز الذي كان يراه زينة لملكه وذخرا لدولته، وقرة لعينه قبل كل شيء. وقد كان مغضبا أشد الغضب محفظا أشد الحفيظة أن يثور به هؤلاء النفر من الأوس والخزرج فيخرجوا عن طاعته ويجهروا بمعصيته، ويقتلوا ابنه، ويضربوا للأحياء من حولهم مثل التمرد والثورة. وكان على هذا كله معجبا بهذا النفر من الأوس والخزرج الذين لم يخافوه ولم يخشوا بأسه، ولم يمنعهم بطشه العظيم وسلطانه العريض أن يثوروا به ويخرجوا عليه، ولم يدفعهم مقدمه ومعه الظفر والأمل، ومن ورائه هذا الجيش الضخم المنتصر، إلى أن يسرعوا فيقدموا له الطاعة والمعذرة، ويلتمسوا عنده العفو والمغفرة؛ وإنما ثبتوا له كراما، وتلقوه أباة للضيم، حماة للحرم، مستعدين لاحتمال المكروه.
على أنه لم يطل الوقوف عند هذا الإعجاب بالأوس والخزرج، والإكبار لحفاظهم وذودهم عن الذمار، وإنما مضى يتبعه حزنه وغضبه، فأقسم ليدمرن يثرب تدميرا، وليسوين حصونها وآطامها بالأرض هدما وتحريقا، وليجعلن ما كان يحيط بها من الحدائق والرياحين، ومن الشجر والنخيل، صحراء جرداء كأن لم تعرف من قبل خضرة ولا ظلا.
ولم يرد أن يستأني بذلك أو يبطئ فيه، فما هي إلا أن يأمر كتائبه بالزحف، مقدرا أن الأمر لن يحتاج إلى وقت ولا إلى جهد، ولن يكلف جيشه الظافر مشقة ولا عناء. وأين يقع هؤلاء النفر من الأوس والخزرج من دول عظيمة أفناها، وبلاد عريضة احتواها! وأين يقع قادتهم وسادتهم من هؤلاء الملوك الذين يرسفون في السلاسل والأغلال، وقد جاء بهم أسرى من أقصى الشرق ومن أقصى الغرب، ليجعلهم ملهى لأهل صنعاء حين يعود إلى صنعاء!
ولكن كتائبه لم تكد تتقدم حتى تأخرت، ولم تكد تهجم حتى ارتدت، وإذا هؤلاء النفر من الأوس والخزرج أشد مضاء وأحسن بلاء مما كان يظن، ومن كل من لقي في فتحه البعيد من الجيوش والأجيال. لقد كان استهان بأمرهم واستصغره؛ لأنهم لم ينصبوا له الحرب حين مر بهم غازيا، وإنما تلقوه مذعنين له مؤمنين لسلطانه. رأوا فيه رجلا منهم فلم يمكروا به ولم يكيدوا له، حتى إذا رأوا من بغي ابنه وتجبره ما أحفظهم ثاروا للعزة، وغضبوا للكرامة، وقتلوا الطاغية وتأهبوا لحرب أبيه.
رأى تبع هذا فازداد بالقوم إعجابا ولهم إكبارا، ونصب لهم حربا تلائم هذا الإعجاب والإكبار. ولكنه لم يلبث أن اشتد إعجابه وعظم إكباره حين أقبل الليل، فإذا هو لم يبلغ من القوم شيئا، وإذا هم يعلنون إليه أن قد أقبل الليل، وأن حرب الليل ويل كل الويل، وأنهم يضيفون عدوهم في الليل، ويقاتلون عدوهم في النهار. هنالك لم يتمالك تبع أن عطفته الرحم على قومه، وأخذته الكبرياء بما فيهم من عزة وكرم، وصاح: «إن قومنا لكرام.» ثم أمر من أذن في الجيش بالموادعة حتى يشرق الصبح.
واتصلت الحرب طويلة مضنية بينه وبين هذا الحي من أهل يثرب: يقتتلون أشد القتال ما أضاءت الشمس، ويتوادعون أحسن الموادعة ما أظلم الليل، حتى أخذ السأم يسعى إلى هذه النفس التي لا تعرف السأم وحتى هم أن يستقبل الصباح بغارة مطبقة لا تبقي ولا تذر، فإما قهر القوم وإما قهره القوم.
وهو في هذا النحو من التفكير والتقدير، وإذا حاجب من حجابه يدخل عليه فيلثم الأرض بين يديه، وينبئه أن شيخين من هذا الحي المحالف للأوس والخزرج من يهود يستأذنان على الملك، ويلحان في لقائه، ويتقدمان بما يتقدم به السفراء من حق الأمن والعافية والتكرمة، فيأمر الملك بإدخالهما. فإذا كانا بين يديه لم يركعا، ولم يسجدا، ولم يلثما أرضا، ولم يعفرا خدا بالتراب، وإنما هي تحية فيها الإكبار والإجلال، وفيها عزة وأنفة، وفيها شيء من التواضع والخشوع لم يألفهما الملك من أهل هذه البلاد. فإذا أذن لهما بالجلوس وسألهما عما أقبلا به، قال أحدهما: أيها الملك! لم نأتك سفيرين، ولم نحمل إليك رسالة من عدوك، ولو قد عرفوا أنا نسعى إليك لحالوا بيننا وبين ذلك، وللقينا منهم شرا. قال: فأنتما إذا لاجئان إلي، كارهان للقوم؟ وحدث نفسه بأنه سيجد عندهما ما يعينه على ما يريد بالقوم ومدينتهم. قالا: كلا أيها الملك! ما لجأنا إليك ولا كرهنا من قومنا شيئا، وإنما أقبلنا ناصحين لك رفيقين بك، نريد، لو سمعت لنا، أن ننهاك عن هذه الحرب التي لن تجدي عليك شيئا، ولن تبلغك من هؤلاء الناس شيئا. لقد أدركت وترك بمن سقط في ميدان القتال من هؤلاء الناس، فحسبك ما بلغت، وانصرف راشدا، فإنك إن نصبت الحرب لهذا الحي ما بقي من عمرك، وهو طويل ممدود لك فيه، لم تجد إلى قهرهم سبيلا. ولقد أبليت فأحسنت البلاء، ولقد غزوت فأمعنت في الغزو، ولقد أزلت الممالك وأسرت الملوك، ولقد نصبت لأقوى دول الأرض وأعظمها بأسا، فلم تثبت لك ولم تمتنع عليك. ثم ها أنت ذا أمام هذه المدينة الصغيرة، وهؤلاء النفر القليلين من قومك، لا يتاح لك الظفر ولا يتأتى لك الانتصار. ألم يكن لك في هذا عبرة تدعوك إلى التفكير وتحملك على أن تسأل نفسك كيف دانت لك الأرض كلها وامتنعت عليك منها هذه الرقعة الضيقة؟! قال: لقد سألت نفسي وأطلت السؤال، ولكني لم أجد له جوابا. ولقد فرحت بكما حين علمت أنكما لا تحملان إلي سفارة ولا رسالة، وقدرت أنكما ستدلاني على مكان يؤتى منه هؤلاء الناس.
قالا: لو شاء الله لأتى هؤلاء الناس من كل مكان، فليست حصونهم ولا آطامهم بالمنيعة المؤشبة، وليست السبيل إليهم بالعسيرة ولا الملتوية، ولكن الله لا يشاء؛ لأمر قضاه. قال الملك: أفصحا؛ فإني لا أفهم عنكما منذ اليوم. فما الله؟ وأين يكون؟ وكيف له أن يشاء ولا يشاء؟ هل لكما في أن تدلاني عليه لعلي أتخذ إليه من الأسباب ما يرضيه أو يسلطني عليه؟ فتضاحك الحبران وقالا: حقا أيها الملك إنك لا تفهم عنا منذ اليوم، فليس الله ملكا كالملوك، ولا قائدا كالقادة ولا عظيما كالعظماء. وما ينبغي لك ولغيرك من الناس أن تسأله عما يشاء أو عما لا يشاء، إنما ينبغي لك ولغيرك من الناس أن تعرف سلطانه وعظمته، ثم تذعن له وتؤمن به، وترضى بما يريد لا مجادلا ولا ممانعا. قال: فمن هو؟ أين هو؟ قالا: هو رب السموات والأرض، وهو الذي يتسلط على كل شيء ولا يتسلط عليه شيء، وهو الذي يخلق كل شيء، وهو الذي منحك هذا الملك الواسع السلطان العريض، وهو الذي إن شاء ردك كواحد من رعيتك، وهو الذي إن شاء سلبك ما أنت فيه وسلبك الحياة أيضا. أرأيت إلى ما حولك كيف كان ومن أحدثه؟ قال: هذا شيء قلما فكرت فيه أو سألت عنه، وإنه مع ذلك لخليق بالتفكير حري بالسؤال، فمن يكون قد خلق الأشياء؟ وقدر لها نظامها؟ قالا: فاسمع أيها الملك! فإنا سنقرأ عليك نبأ الخلق كيف كان، وأمر الخلق إلام يصير ثم قرآ عليه صحفا من التوراة لم يكد يسمعها ويفقه بعض ما فيها، حتى لان قلبه وانبسطت نفسه، وكشف عنه الغطاء، فقال: يا هذان إن ما تقولان لحق، فعلماني علمكما ومراني قبل ذلك بما أصنع مع قومكما. قالا: أما قومنا فالرأي أن تدعهم؛ فإن الله لم يقدر لك أن تقهرهم، ولا أن تملك أرضهم، إنما ادخرهم وادخر أرضهم لشيء سيكون في آخر الزمان نجده عندنا مكتوبا في هذه الأسفار التي نتلوها عليك. قال: وما ذاك؟ قالا: نبي يخرج من هذا الصوب - وأشارا نحو مكة - فيمكر به قومه ويأبون عليه، ويكيدون له، ويخرجونه من الأرض، فيأوى إلى هذا البلد، فيجد النصر والمنع، ويجد العزة والقوة، وينشر دينه من هذه الآطام فيملأ به الأرض كلها، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور. وما كان الله ليمكنك من أرض أعدها دارا لنبيه، ومهبطا لوحيه. ومصدرا لنوره المبين. قال: أوتجدان هذا عندكما مكتوبا؟ قالا: نعم، ونجد عندنا مكتوبا أنك ستسمع لنا، وتقبل نصحنا لك، وتنصرف عن هذا الحي، وأن قوما من هذيل سيلقونك إذا قربت من مخرج هذا النبي، فيغرونك به وببيت لله فيه، وسيزعمون لك أن في هذا البيت كنوزا من الذهب والفضة ومن الدر والجوهر. فاحذر أن تسمع لهم أو تأتي ما يدعونك إليه. ولكن اذهب إلى هذا البيت فأكرمه وعظمه، وطف به سبعا، وامنح أهله من العطف والبر والرعاية ما تقدر عليه. قال: يا هذان إني مصدق لكما، مؤمن بما تقولان، سامع لما تأمران به. ولكني لا أستطيع أن أنصرف إذا لم تصحباني، فمالي من صحبتكما بد. ولا بد من أن أعلم علمكما كله، ولا بد من أن أتخذكما لي وزيرين أستنصحكما، وأستعين برأيكما وفقهكما على ما يعرض لي من الأمر. قالا: لك ما تحب من ذلك أيها الملك، فسر راشدا فنحن معك.
وأمر الملك من أذن في الجيش بأنه مرتحل مع الفجر. وارتحل الجند غير آسفين ولا محزونين. وأيهم لم تكن تضيق نفسه بهذا الحصار الطويل العقيم، والدار قريبة وهو إلى أهله مشوق! فلما قارب الملك مكة أقبل جماعة من هذيل يستأذنون. فلما أذن لهم قالوا: أيها الملك، إنما سعى بنا إليك نصحنا لك، وإيثارنا لرضاك. قال الملك في نفسه: فهذه نبوة الحبرين قد صدقت. ثم أصغى إلى الهذليين، فقالوا: وستمر بمكة وفيها بيت يعظمه أهلها، يعبدون ما ادخروا فيه من مال، وما كنزوا فيه من ذهب وفضة ومن در وجوهر، يطوفون حوله وينحرون له، وقد نصبوا عليه الأوثان. قال الملك: فماذا تأمرون؟ قالوا: ما نحب أن يفلت منك هذا الكنز، فلو قد هدمته واحتويت ما فيه وأخذت أهله عبيدا لك ولأهل صنعاء! قال الملك في نفسه: الآن قد تمت نبوة الحبرين. ثم قال للهذليين: لقد قبلت نصحكم وسمعت أمركم، وإني ماض فيما تريدون، وسأعرف لكم حقكم علي، ولكني أريد أن تقدموا معي على أهل مكة فتكونوا أول من يعمل في هدم هذا البيت. فلم يكد الهذليون يسمعون منه هذا القول حتى أخذوا، وظهر على وجوههم الفزع والروع. فلما ألح الملك أظهروا من التلكؤ والتردد ما لم يدع للريب في أمرهم سبيلا، فأمر الملك بتعذيبهم حتى يعترفوا بالحق. فلما ألح عليهم العذاب قالوا: أيها الملك ما أردنا بك إلا شرا، إنا لنكبر هذا البيت ونعظمه، ونرى له علينا حرمة، ونعلم أنه لم يحاول أحد أن يمسه بسوء إلا أهلكه الله. وقد وترتنا في مخرجك الأول، فقتلت الرجال، وسقت المال، وسبيت الحرائر، وأذللت هذيلا، ولم تكن قد عرفت الذل. فلما أعجزنا أن نثأر لأنفسنا بأيدينا أردنا أن نكل ثأرنا إلى من هو أقوى منك ومنا، فأغريناك بهذا البيت واثقين بأن صاحبه لن يخلي بينك وبينه، ولن يمهلك إن حاولت الاعتداء عليه. قال الملك : إنما جزاؤكم على هذا الكيد أن تقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولكني قد قسوت عليكم في خرجتي الأولى، وأسرفت فيكم قتلا وسبيا، فسأهبكم الآن لأنفسكم ولأهلكم، ولعل الله أن يجعل عفوي عنكم كفارة لما قدمت فيكم من سوء، فاذهبوا فأنتم أحرار!
قال الحبران للملك: لقد أحسنت أيها الملك حين وضعت العفو عند القدرة موضع اليأس والانتقام. وما نشك في أنك تجد لهذا العفو لذة وراحة، ولكن لذتك وراحتك لن تعدل ما نجد من غبطة وسرور، وقد أخذ دين الله سبيله إلى نفسك، وبسط سلطانه على قلبك، فأنزل فيه اللين منزل القسوة، والرحمة مكان العنف والشدة، وكنا نحن وسيلته إلى ذلك. وإنا لنرجو أن يغفر الله لنا بهذا السعي بعض ما قدمنا من سيئة في حياتنا. قال الملك: أومثلكما يقدم السيئات أو يقترف الآثام، وما رأيت خيرا منكما ولا أهدى إلى الحق؟! قال الحبران: أمعن أيها الملك في قراءة كتب الله وتدبرها، وأنعم أيها الملك النظر فيما حولك من خلق الله وفيمن حولك من الناس، فسترى أن الإنسان صغير مهما يكبر، ضئيل مهما يعظم، ضعيف مهما يقو، معرض للخطيئة مهما ينصح لنفسه ومهما يأخذها بالمعروف ويجنبها المنكر. قال الملك وقد كبر الحبران في نفسه: ليتني عرفتكما في أول العمر ومبتدأ الحياة! إذا لاجتنبت كثيرا من الشر، ولتنكبت كثيرا من الذنب. ولكن سأكون عند ما تحبان، ولن تريا مني منذ اليوم إلا ما يرضيكما.
وأقبل الملك على مكة فدخلها خاشعا منيبا، وطاف بالبيت وأعظم أمره، ونحر للناس وأطعمهم، وأذاع فيهم الخير والمعروف. فلما كان من الغد قال للحبرين: إني أريت أن أكسو هذا البيت. قالا: فافعل ما أمرت. فكساه خصفا.
1
ومضى يعظم البيت ويكرم أهله بياض يومه. فلما أصبح قال للحبرين: إني أريت كأن هذه الكسوة لا تليق بهذا البيت. قالا: فاكسه خيرا منها. فكساه وشيا، ومضى نهاره يعظم البيت ويجزل المعروف لأهله. فلما أصبح قال للحبرين: إني أريت كأن هذه الكسوة لا ترضي الله. قالا: فاجتهد في إرضائه ما وسعك الاجتهاد . فكساه حريرا وديباجا، وزينه بالذهب والفضة والجوهر، وفرق العطايا بين الناس. ثم أصبح فقال للحبرين: لم أر الليلة شيئا. قالا: فقد رضي إذا رب البيت.
وارتحل الملك بعد ذلك إلى اليمن وقد سبقته إليها الأنباء بأنه قد ظفر ظفرا لم يظفره ملك من قبله، وسبقته إليها الأنباء بأنه قد صبأ عن دينه وترك عبادة الآلهة التي كان يعظمها ويسعى لها. وكان أهل اليمن قد تأهبوا للقائه في حفل حافل وزينة بارعة بالغة. فلما انتهت إليهم الأنباء بأنه قد صبأ
2
تنكروا له، وأبوا إلا أن ينصبوا له الحرب، وأن يصدوا عن بلادهم ويردوا عن حمير شر هذا الدين الجديد الذي جاءهم به من يثرب.
فلما بلغ الملك أطراف اليمن لقيته طلائع الأقيال
3
والأذواء منكرة له مزورة عنه. وقال قادتهم: لقد فارقتنا وأنت أبر أهل اليمن باليمن، وأحب حمير لآلهة حمير، وها أنت ذا تعود إلينا وقد آمنت لإله لا نعرفه وجحدت آلهتنا، وقد استوزرت غريبين من عدونا تسمع لهما وتطيع، وأعرضت عن رأي الأشراف والقادة من الأقيال والأذواء؛ فلن نخلي بينك وبين هذه البلاد التي أنكرت أهلها وجحدت آلهتها. فارجع أدراجك فاتخذ لك ملكا حول هذا البيت الذي لم يرضك أن تكسوه الوشي، حتى كسوته الحرير والديباج، أو اتخذ لك ملكا في يثرب حيث دم ابنك ينتظر من يثأر له، وحيث صدى
4
ابنك يدعو من يسقيه. قال الملك: يا قوم! لا تعجلوا ولا تسرفوا على أنفسكم، ولكن اسمعوا لي واسمعوا لهذين الحبرين، فلو قد علمتم ما نعلم ورأيتم ما نرى، لسلكتم سبيلنا، ولقبلتم ديننا، ولآمنتم بإلهنا الذي خلق السموات والأرض، وآمن له من فيها من الإنس والجن، ومن الحيوان والطير، ومن الماء والهواء، ومن الزهر والشجر. قالوا: ما نريد أن نسمع لك ولا لهما، فانصرفوا عنا. قال الحبران للملك: فما يمنعك أن تدعوهم إلى ما يتداعون إليه إذا شجر بينهم خلاف أوكانت بينهم فرقة؟ قال الملك: أوتعلمان هذا أيضا؟ قالا: نعم! أليسوا يختصمون إلى النار إذا اختلفوا؛ فخاصمهم إليها. قال الملك : يا قوم! هذا الحبران يدعوانكم إلى الإنصاف ويأخذانكم بالعدل. إنكم لتختصمون فيما بينكم فتحتكمون إلى ناركم تلك المقدسة، التي تخرج من أعماق الغار لها زفير وشهيق، وقد ارتفع لهبها في السماء، فلا يكاد يراها الظالم حتى يصعق، ولا يكاد يراها المظلوم حتى يحس المنعة والقوة. هلم فلنحتكم إليها، فأينا استطاع أن يثبت لها ويصبر على حرها فهو صاحب الأمر، وأينا فزع منها وفر من أوارها فهو الظالم المعتدي. فأدار القوم أمرهم بينهم ساعة، وقال بعضهم لبعض: لقد دعاكم الملك إلى الإنصاف، وما ينبغي أن نأبى على ملكنا ما لا يأباه أحد منا على صاحبه، وما لا تأباه ملوك اليمن على سوقها، فتعالوا نجبه إلى ما يدعونا إليه، وتعالوا نخاصمه إلى النار. ثم أجمعوا أمرهم ليختصمن إلى النار إذا كان الغد، وليقبلن كل فريق معه حجته وسلطانه.
وما أشرقت شمس الغد حتى كان أقيال حمير وأذواؤها قد أقبلوا في عددهم وعدتهم، وفي حفلهم وزينتهم يحملون أوثانهم وأصنامهم، وأقبل الملك ومعه الحبران قد تقلدا مصاحف التوراة. وكانت نارهم المقدسة لا ترى ولا تحس من بعيد، وإنها تجيب إذا دعيت، وتخرج إذا نوديت. فلما دنوا من الغار الذي كانت تقيم فيه، دعوا وأطالوا الدعاء، ونادوا وألحوا في النداء. وإنهم لفي دعائهم وندائهم، وإذا دخان كثيف ضيق يخرج من الغار كأنه السهم، فلا يبلغ الهواء حتى يمتد طولا ويتسع عرضا، وحتى يملأ الجو كثيفا ثقيلا، قد حجب الشمس، وكاد يأخذ أنفاس الناس، وما يزال الدخان يخرج من الغار. ثم يمتد في الجو وينتشر، وحمير تتقهقر كلما ألح عليها، والملك والحبران قد ثبتوا في مكانهم لا يجدون ألما ولا يلقون ضرا، حتى أخذ صوت يسمع كأنه فحيح الحيات، ثم أخذ هذا الصوت يعظم كلما دنا من فوهة الغار؛ وإذا زفير وشهيق، ثم لهب يندلع من الغار ولا يلبث أن يحيط بكل شيء، ويلتهم كل شيء؛ وحمير جادة في الهرب قد تركت أوثانها وأصنامها، وتخففت من زينتها وسلاحها، والنار تتبعهم ملحة في اتباعهم ساعة من نهار ؛ ثم أخذت النار تتراجع شيئا فشيئا حتى دنت من فم الغار، وإذا هي تقصر وتضيق وتتضاءل حتى كأنها لسان الغار، ثم لا تلبث أن تختفي كأن الغار قد أطبق عليها شفتيه، وإذا الشمس مشرقة والجو صفو، والملك والحبران قائمون في مكانهم لم يصبهم أذى، ولم يمسسهم ضر، ولم تتغير نضرة وجوههم، ولم يفارق ثغورهم الابتسام. وتثوب حمير إلى ملكها مسرعة مذعنة، وقد افتقدت آلهتها وسلاحها وزينتها فلم تجد شيئا ما؛ لأن النار التهمت كل شيء.
هنالك هادت حمير وآمنت للملك والحبرين. ومنذ ذلك اليوم استقر في بلاد اليمن كتاب من كتب السماء.
الفصل السابع
الردة
عاش تبع ما شاء له الله أن يعيش، ومات تبع حين قضى الله عليه الموت. وكان قد أنفق حياته منذ عاد إلى اليمن في صلاح ونسك، وتفقه للتوراة ونشر للدين. فلما فارق هذه الدنيا نهض بملك حمير من بعده أكبر أبنائه حسان، وكان تقيا، وكان ورعا، وكان دبانا، وكان قد ورث عن أبيه وعن أجداده حبا للغزو وكلفا بالفتوح. وكان الناس يتنبئون قبل تهود أبيه بأنه سيكون أبعد ملوك اليمن أثرا في الغزو والفتح، وأعظمهم بسطة في الملك والسلطان. فلما هاد تبع اقتفى حسان أثره، فظهر عليه حب للنسك وانقطاع للعبادة، ورغبة في الفقه بالدين، خدع الناس عنه، وغير رغبتهم فيه. حتى إذا نهض بأمور الملك لم يشك أصحابه في أن اليمن ستنفق أياما هادئة وادعة، تنعم فيها بالأمن والسلم واللين. ولكن الميل القديم الذي كان يجده حسان إلى الحرب والتسلط، والميل الجديد الذي كان يجده إلى الفقه والدين، لم يلبثا أن التقيا وامتزجا، وأصبحا ميلا واحدا يوفق بين هاتين النزعتين المختلفتين أشد الاختلاف.
وأصبح حسان ذات يوم ماضي العزم، شديد البأس، عظيم النشاط، فلم يكد يخرج للناس حتى دعا إليه الحبرين، وكان لهما معظما يستشيرهما في كل ما يأتي من الأمر. فلما أدخلا عليه قام لهما وأدنى مكانهما، ثم قال: قد علمتما أني أعظم من أمركما ما كان يعظم أبي، وأشاوركما في كل ما أنشط له من هم قريب أو بعيد. وقد جعلت منذ أيام أسمع داعيا قويا ملحا لا يفارقني يقظان، ولا يفصل عني دائما، وهو يهيب بي في كل لحظة أن جرد نفسك وجيشك لجهاد الكافرين ونشر الدعوة إلى الدين، حتى يؤمن بكتاب الله أهل الشرق والغرب، وحتى يذعن لسلطان الله كل جيل في الأرض، وحتى يصبح حكم التوراة حكم الناس جميعا.
وقد أنكرت دعوة هذا الداعي أول الأمر، فلم يزده الإنكار إلا إلحاحا في الدعاء. وأبيت عليه بعد ذلك فلم يزده الإباء إلا إصرارا على ما كان يدعوني إليه. وإني لأتحدث إليكما الآن وصوته الملح الحازم يملأ سمعي وقلبي وعقلي، ويكاد يلهيني عنكما ويصرفني عما أريد أن أقول لكما. وقد عزمت بعد طول التفكير أن أستجيب لهذا الداعي، وأن أخرج بالجيش غازيا في سبيل الله ما يليني من الأرض؛ فإن قضى الله لي بالنصر مضيت أمامي حتى يأذن الله لي بالوقوف. ثم سكت ينتظر جواب الحبرين وهو يقدر أن كلامه قد وقع منهما موقع الرضا. ولكن عظم دهشه حين سمعهما ينصحان له بالقعود ويلحان عليه في ألا يسمع لهذا الصوت ولا يستجيب لهذا الدعاء، وهما يقولان له: أيها الملك؛ إياك والغرور الذي يصيب الملوك إذا عظم بأسهم، واشتدت قوتهم، ودانت لهم الأرض بمن فيها وما عليها، فيغريهم بالحرب، ويدفعهم إلى الفتح، ويحبب إليهم العدوان. قال: أعدوان أن أنشر دين الله وآخذ الناس بالإذعان له والإيمان به، وأذود عنهم شر الأوثان وأطهرهم من رجس الشيطان؟! قد دعوتكما وما أنتظر منكما إلا حثا لي على أن أمضي فيما عزمت عليه، فإذا أنتما تصدانني وتخذلانني، وتؤثران لي حياة الخمول والخمود والتقصير. قالا: فإنا نخشى أن يكون هذا الصوت الذي يدعوك ويلح عليك صوت الغرور والكبرياء، لا صوت الطاعة والتقوى، وأن يكون هذا الحديث الذي يلقيه في روعك تزيينا لما ورثت عن آبائك من حب الغلب وبسط السلطان، يدفعك إلى الحرب باسم الدين، ويصور لك الفتح في صورة الدعوة إلى الله. ونحن نجد فيما عندنا من العلم أن هذا الدين لا ينشر ولا يذاع على هذا النحو الذي تريد أن تنحوه. ونجد مكتوبا عندنا في الكتب أن الدين الذي سيبسط سلطانه على الأرض فيملؤها عدلا بعد ما ملئت جورا، ويملؤها عزا بعد أن ملئت ذلا، ويرد إلى الإنسان حريته وكرامته، ويرقى بنفسه إلى أسمى ما تطمح إليه من الكمال، ويحقق الأخوة بين الناس ويلغي ما بينهم من الفروق، لن يخرج من صنعاء، وإنما سيهبط به الوحي في آخر الزمان على رجل بمكة من قريش، ثم يخرج من يثرب فيطبق أقطار الأرض. فإذا شئت أيها الملك، فاسمع لنا وأعرض عن داعيك؛ فإنه لا يدعوك إلى خير.
قال الملك: ما رأيت كاليوم صدا عن الحق، ولا صرفا عن الواجب، ولا تثبيطا للهمم! وهم أن يعرض عن الحبرين، ولكنهما قالا له: فكر أيها الملك فيما أنت مقدم عليه؛ فقد أدخل أبوك دين الله في هذه البلاد وأذاعه فيها، ومضيت أنت على سنته دهرا، ولكنك لم تبلغ من ذلك ما ينبغي؛ فما زالت في حمير قلوب لم تخلص لهذا الدين، وما زالت في أعماق اليمن أوثان منصوبة تهفو إليها قلوب قوم لم تبلغهم دعوة الله بعد؛ فثبت هذا الدين في بلادك قبل أن تخرج به إلى غيرها من البلاد؛ فذلك آمن لك، وأحرى ألا تؤخذ على غرة، وألا ينتقض عليك قوم ليس لهم من الإيمان واليقين مثل ما لك، أو يغدر بك قوم ما تزال في نفوسهم بقية من حنين إلى دين آبائهم الأولين. قال الملك معرضا عنهما: قد سمعت قولكما وسأنظر فيه. ثم لم ينظر بعد ذلك إلا في التهيؤ للحرب والاستعداد للرحيل. وانقطع الحبران عن الملك ولم يدعهما الملك إليه. وأذن مؤذن الملك في الجيش بالرحيل. وفصل الملك عن صنعاء لم يلق الحبرين ولم يودعهما. ومضى الملك أمامه في طريق سهلة وشعوب سلم لا يلقى خوفا ولا يتعرض لكيد حتى بلغ البحرين.
فلما أحس قادة الجيش من الأقيال والأذواء أن الأمد يبعد بينهم وبين اليمن من يوم إلى يوم، وأنهم مشرفون على بلاد لم يألفوها، وأنهم يدفعون إلى حرب لا يفقهون غايتها كما كانوا يفقهون غايات الحرب من قبل، وأنهم سيضيق عليهم حين يظفرون فيما تحتوي أيديهم من سبي ومال، ضاقوا بهذه الرحلة، وثقلت عليهم هذه الحرب. وطال عليهم عمر الملك، فسعى بعضهم إلى بعض وتحدث بعضهم إلى بعض، وما هي إلا أن تجتمع كلمتهم على الكيد لحسان والبغي عليه، فيلقون أخاه عمرا، وكان خفيف الحلم سريعا إلى اللهو متعجلا الملك، لم تخلص نفسه لهذا الدين الجديد، ولم تطب عما كان لحمير من سنة موروثة وعادة مألوفة وتراث قديم. فلما أظهروه على ما في أنفسهم، وعاهدوه على أن يملكوه إن قتل أخاه، ولا يقتضوه على ذلك أجرا إلا أن يردهم إلى بلادهم ويرفع عنهم ثقل هذه الحرب. نشط لذلك وجد فيه. ولم يجد من خاصته وأصفيائه من يرده عن ذلك أو يخوفه من شره إلا رجلا واحدا من الأذواء يقال له ذو رعين؛ فإن هذا الرجل خوف عمرا عاقبة البغي وحذره من العدوان على الإخوان، وجد في صرفه عن سفك دم أخيه: يذكره بالرحم حينا، وبشرف الملوك حينا آخر، وبحرمة الدين مرة ثالثة، ولكنه لا يجد منه إلا إعراضا يكاد يبلغ الغضب ويثير الريبة وسوء الظن. فلما يئس منه دفع إليه كتابا مختوما وقال له: احفظ لي هذا الكتاب. ثم أتم عمرو كيده، فأغمد النصل في صدر أخيه، وارتقى على جثته إلى العرش، وأسرع بالجيش قافلا إلى صنعاء، معلنا إبطال ما كان أبوه وأخوه قد أقاما من معالم الدين الجديد، مزمعا قتل الحبرين، ولكنه لم يجدهما؛ فقد هلكا بعد أن فصل الجيش من صنعاء.
ولم يستمتع عمرو بالملك ولا ذاق لذة السلطان؛ فقد أخذ الحزن يلزمه منذ بلغ صنعاء، لا يفارقه ما ابيض النهار، ولا يفارقه ما اسود الليل. وأخذ هذا الحزن يشتد ويقسو، وأخذ هذا الحزن يعظم ويطغى، حتى ذاد عن نفس الملك كل راحة، ورد عن عين الملك كل نوم، وأحاط شخص الملك بصور مروعة مزعجة: فكان تارة يرى حيات عظاما ذوات رءوس عدة يخرج من أفواهها اللهب وهي تسرع إليه فاغرة أفواهها، كأنما تريد أن تزدرده ازدرادا. وكان يرى تارة أخرى أنهارا من الدم قوية عنيفة، تنحدر ولها هدير وزئير، كأنما تريد أن تأخذ عليه كل مكان وأن تلتهمه التهاما. وكان يرى تارة أخرى أشباحا تدنو منه لتبعد عنه، ثم ترتد إليه فتطيف به وتدور حوله وقد كشرت عن أنياب حادة، ومدت أظافر دامية، كأنما تريد أن تنهسه
1
نهسا وتمزقه تمزيقا. وكان في أثناء هذا كله يسمع أنين أخيه، ويرى الدم يتفجر من صدره كما يتفجر الينبوع الضئيل القوي من الصخرة الصلبة الملساء.
وأخذ الملك يستشير الأطباء فلا يجد عندهم دواء، ويستعين الكهان فلا يلقى عندهم عونا، ويسأل العرافين فلا يظفر منهم بجواب مريح. وما زال فيما هو فيه من استشارة واستعانة وسؤال حتى أدخل عليه رجل حكيم من أقاصي اليمن. وقص عليه ما يأتي من الأمر، وصور له الملك ما يلقى من الشر، وألح عليه الملك في أن يجد له من هذا الضيق مخرجا ومن هذا الأذى شفاء. وأطرق الرجل الحكيم غير قليل، ثم قال في صوت حازم وقد ظهرت على وجهه صرامة الجد والبأس: أيها الملك، لأنبئنك بالحق وإن كان من دونه الموت، فما تعودت كذبا ولا مينا. إنه والله ما قتل رجل أخاه، ولا غمس رجل يده في دم ذي رحم إلا سلط عليه الحزن والغم، ووكل به الفرق والأرق حتى يقضي. قال الملك: انصرف راشدا فلا بأس عليك! إنما السبيل على هؤلاء الذين كادوا الكيد، ومكروا مكرهم السيئ بي وبحسان، ثم أمعن في خاصته ومشيريه قتلا وتمثيلا حتى انتهى إلى آخرهم ذي رعين. فلما قدم هذا القتيل للقتل قال للملك: إن لي عندك براءة. قال الملك: وما ذاك؟ قال ذو رعين: ذلك الكتاب المختوم الذي دفعته إليك. وأخرج الملك الكتاب وقرأ فيه هذين البيتين:
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين
قال الملك: لا بأس عليك، فقد نصحت وبررت وبرئت ذمتك. فليتني قبلت نصحك واستمعت لدعائك! قال ذو رعين: وليت أخاك قبل نصح الحبرين. وأصبح القصر ذات يوم فإذا عمرو ملقى على الأرض مضرجا بدمائه، قد أغمد في صدره ذلك النصل الذي أغمده في صدر أخيه، هناك تفرق أمر حمير وانتقض سلطانها، وعادت إلى شر ما عرفت في قديم الزمان من الفساد والاضطراب.
الفصل الثامن
الطاغية
وكان عمرو قد أصهر إلى قيل من أقيال اليمن يقال له ذو الشناتر، فظ غليظ القلب، جافي الطبع، سيئ الخلق مدخول الضمير. على أن خصاله هذه لم تكد تبدو منه للناس حين كان قيلا من الأقيال لا ينبسط سلطانه إلا على المخلاف الذي كان يعيش فيه، فقد كان ماهرا عظيم المهارة، مداورا شديد المداورة، يلقى الرجل فيخدعه ويخيل إليه أنه أكرم الناس وأصدق الناس، وأرحم الناس، وأوفاهم وأشدهم استقامة واعتدال مزاج. لذلك انخدع فيه أقرانه من الأقيال والأذواء، وحسن فيه رأي تبع حتى قدمه وعظمه واختار ابنته تماضر زوجا لابنه عمرو. وكانت تماضر بارعة الجمال، ذكية القلب، رضية النفس، شديدة الحنان أنكرت في زوجها الغدر، ولكنها لم تجرؤ على أن تباديه بهذا الإنكار، ولو قد فعلت لأصابها شر عظيم. فلما خضب زوجها يده بدم أخيه نفرت منه وازورت عنه، ولكنها على ذلك أظهرت طاعة وإذعانا. حتى إذا سلطت على عمرو شياطين الانتقام فأخذ منه الفزع والجزع وألح عليه البؤس واليأس، ثابت إلى تماضر رقة قلبها ورضا نفسها وميلها إلى الحنان، فلزمت زوجها ورفقت به، وآست زوجها وعطفت عليه. حتى إذا حل به الموت كانت وحدها التي سكبت عليه الدمع وذاقت لموته الحزن والغم.
وكان لها صبي لم يبلغ الرابعة، وكان لزوجها أخ لم يبلغ السابعة، فجمعت أخا زوجها إلى ابنها، وقامت على تربية الطفلين، فمنحتهما من الحب والحنان ما كان يملأ قلبها الرحب الرقيق، ووقفت عليهما من البر والرفق والعطف ما تمنحه الأم أبناءها، وما تقدمه الزوج إلى زوجها. ولو قد خيرت في ذلك الوقت لما تمنت إلا أن تترك في ناحية من نواحي القصر أو تنحاز إلى مخلاف من مخاليف اليمن بعيد عن صنعاء، ومعها هذان الصبيان، تسعد بهما ويسعدان بعطفها وبرها. ولم تكن تفكر لنفسها ولا لأحد الصبيين في ملك ولا وراثة، إنما كان همها أن تنفق نشاطها كله في العناية بهذين الطفلين، وأن تجد جزاءها على ذلك في هذه النظرات الحلوة التي كانت ترتفع إليها من أعين هذين الصبيين فتملأ قلبها غبطة وحبورا، وفي هذه الأصوات العذبة التي كانت تقع في أذنها موقع الموسيقى وتصيب من قلبها مواقع الرضا والابتهاج. ولكن أباها فكر في الملك لها ولابنها في ظاهر الأمر، وفكر فيه لنفسه في أقصى ضميره ودخيلة قلبه. وما هي إلا أن أعلن أن حماية الأسرة المالكة قد صارت إليه، وأنه ناهض بها على أحسن ما ينهض الأوصياء بأمر الذين يقومون عليهم من القاصرين. وأظهر ذو الشناتر أول أمره سيرة حسنة ونهجا صالحا في الملك. ولكن تفرق حمير، وانفصال أطراف اليمن عن صنعاء، واستبداد الأقيال والأذواء بما كان في أيديهم من المخاليف والقصور، وطموح العظماء بين هؤلاء الأقيال والأذواء إلى سعة الملك وبسط السلطان، كل ذلك أغراه بالشدة ودفعه إلى البأس.
فما أسرع ما قبل الإغراء واندفع إلى الطغيان، وإذا هو يصطفي لنفسه من الجند والقادة قوما يؤثرهم بالمودة، ويختصهم بالمعروف، ويسبغ عليهم النعمة ويجزل لهم العطاء، ثم يستعينهم على غيرهم من الجند والقادة. وما يزال يغري ويغوي، ويمكر ويكيد، حتى تخلص له صنعاء وما حولها من الأرض، ثم إذا هو يضرب بمن أطاعه من عصاه، ويبعث الهيبة والخوف كما يبعث الرغبة والرجاء، حتى يعظم أمره، ويظهر أشراف حمير له الطاعة إشفاقا منه أو أملا فيه. وأنفق ذو الشناتر أعواما على هذا النحو رفيقا شديد الرفق بمن رجا منه الخير وانتظر منه النفع، عنيفا شديد العنف على من يئس من نصحه ولم يتوسم فيه خيرا ولا نفعا. حتى إذا دانت له اليمن كلها، وآمن له العظماء والأشراف، ولم يبق له بينهم منازع أو مدافع، أظهر ما كان قد أخفى من أمره، وأعلن ما كان قد كتم من سره، فاغتصب الملك لنفسه خالصا من دون ابنته وسبطه، ومن دون أهل البيت من أبناء تبع وذويه. وألقى بتماضر والصبيين في قصر بعيد هو بالسجن أشبه منه بالقصر، وأقام عليهم الحراس والرقباء يعدون عليهم ما يقولون وما يعملون، ويضيقون عليهم فيما كان ينبغي أن يتسع لهم من سبل الحياة.
وفرغ ذو الشناتر بعد ذلك للأشراف والعظماء، فأعمل فيهم مكره وكيده، ثم سلط عليهم بطشه وبأسه، وأخذ يطغى عليهم ويسيء السيرة فيهم؛ فإن أذعنوا لطغيانه واستكانوا لسوء سيرته أمعن في الطغيان وأسرف في سوء السيرة، وإن أظهروا نبوا أو هموا بإباء الضيم، بطش بهم بطشا عنيفا لا يبقي ولا يذر. وما هو إلا عام وبعض عام حتى كان ذو الشناتر قد أراح نفسه من سادة حمير وذوي المكانة والسن فيها. ثم نظر فلم ير لنفسه قرينا ولا ضريبا، فازداد لنفسه إكبارا وبها إعجابا، وازداد لحمير إذلالا وعليها تسلطا وتجبرا. وأقبل على اللذات بمقدار ما كان يعرض عنها، وتهالك عليها بمقدار ما كان يظهر النفور منها. وما أسرع ما تجاوز في ذلك كل حد، وخرج على كل سنة؛ وأسرف في الأعراض يعتدي عليها، وفي الحرمات ينتهكها، وفي الأموال يستصفيها ويؤثر نفسه بخيارها حتى خافت حمير أشد الخوف، وضاقت به أشد الضيق، وتمنت له أشد النكر، وأظهرت له أشد الحب.
فلما طال ذلك على حمير لم تزدد له إلا خوفا، ولم تضمر منه إلا إشفاقا وذعرا. ولكن الشباب من أبناء السادة والقادة عجزوا عن ضبط العواطف والأهواء، وكرهوا عيشة الذل والخضوع، فجمجموا وغمغموا أول الأمر ثم انطلقت ألسنتهم بعد ذلك بالنكير واللوم، ثم سعى بعضهم إلى بعض وأخذوا يمكرون ويدبرون. ولكن الطاغية كان أشد منهم مكرا، وأنفذ منهم أمرا، وأحسن منهم تدبيرا؛ فما هي إلا أن يستهوي فريقا منهم بالمال، ويغوي فريقا آخرين بالوعد وإظهار المودة، حتى إذا ظفر من بعضهم بالطاعة والهوى استعانهم على من لم يظفر به، حتى استقام له أمره، وإذا هو ينتقم لنفسه من هؤلاء الشباب بما يستطيع أن ينتقم به من ضروب الكيد وألوان الإذلال.
وكان كلما تقدمت به السن واستوثق له الأمر وأسرع الفساد في خلقه وطبعه ومزاجه، فذاق من اللذات ما يباح، وذاق منها ما يحظر، وجرب من اللذات ما يعرف وجرب منها ما ينكر، وأصبح قصره بيئة للشر والإثم لم تعرف مثلها صنعاء فيما مضى من الدهر. وأفاق ذو الشناتر من سكره ذات يوم، فخطر له على غير انتظار ولا تفكير ذكر ابنته تماضر وابنها عمير وأخى زوجها زرعة، وكان قد فارقهم منذ أعوام طوال حتى نسي أمرهم أو كاد ينساه. فلما خطر له ذكرهم في هذا اليوم أنكرهم، ثم هابهم، ثم اشتد خوفه منهم فاشتد مكره بهم وكيده لهم. ولم يحتج إلى تدبير طويل، حتى استقر رأيه على أن يخلص منهم ويزيلهم من طريقه. فأقدم، ويا شر ما أقدم! وعزم، ويا سوء ما عزم! ثم أنفذ ويا نكر ما أنفذ! أمر أن تقتل ابنته وسبطه خنقا حيث هما في القصر، وأن يحمل إليه ابن تبع الشاب. وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى أنفذ أمر الملك فرأت تماضر ابنها يصرع بين يديها، ورأى زرعة ابن أخيه وأمه الثانية يقتلان بمرأى منه، وانتظر أن يسعى إليه الموت، ولكن الموت أعرض عنه، ولم يسع إليه إلا القيد والغل!
فلما انتهى الفتى إلى القصر وأدخل على الملك، فهش له الملك وبش وتلقاه بالعطف والبر، وأمر فحطمت عنه الأغلال والقيود، وأمر فأصلح من زيه ورفه عليه، ثم دعاه فما زال يلاطفه ويؤنسه ويؤكد له أنه لا يريد به إلا خيرا، ولا يعد له إلا نعيما وملكا عظيما وأنه لم يفعل ما فعل ولم يجن ما جنى إلا ليخلص ملك تبع لابن تبع هذا الذي لم يقترف إثما ولم يقطع رحما ولم يغمس يده في دم بريء، وأنه لم يستطع ولن يستطيع أن يغفر لعمرو قتل أخيه، ولا لتماضر ابنته رضاها بهذا الإثم وصمتها عليه. ولم يستطع - وما كان ينبغي له - أن ينقل الملك عن عمرو الآثم إلى عمير الذي ولد في الإثم ونشئ عليه. لقد قتل عمرو حسانا، ثم قتل نفسه، وقتل هو ابنه عميرا، وخلصت بذلك حمير واليمن من هذا الإثم المنكر الذي كان يوشك أن يجر عليها شرا لا ينقضي!
والآن وقد طهرت اليمن من هذا الرجس، وخلصت صنعاء من هذا الشر، فقد آن لملك تبع أن يئول إلى ابنه البريء. وإنما هي أعوام أهيئك فيها للنهوض بأمر الملك، وأعلمك فيها ما لم تعلم في أعماق ذلك القصر، وأقربك فيها إلى الجند والعظماء، وأقرب فيها الجند والعظماء إليك، حتى إذا تم لك من هذا كله ما ينبغي، أصبحت - بعد - قيلا من أقيالك، وقدمت إليك عرش أبيك وتاجه وصولجانه. وما زال يقول ذلك للفتى وكثيرا مثله، وما زال يزين له من الوعود والأماني، والفتى يظهر أمنا بعد خوف، وثقة بعد شك، ورضا بعد إنكار، حتى استيقن الشيخ الآثم أن قد استأثر بالفتى البريء.
هنالك أخذ يغريه ويغويه ويحبب إليه اللذة ويزين له الفجور، والفتى يظهر إقداما حينا وإحجاما حينا آخر، ويطمعه مرة ويؤيسه مرات، ولا يضمر له في نفسه إلا أقبح المكر والكيد. وأصبح ذو الشناتر ذات يوم وقد هم بأمر عظيم. وأصبح الفتى ذلك اليوم وقد تهيأ لأمر عظيم. وما ارتفع الضحى حتى أقبل رسول الملك يدعو الفتى إلى منادمته. فأظهر الفتى طاعة سريعة واستجابة ليس فيها تردد ولا التواء. ومضى الفتى إلى تلك الشرفة التي كان يجلس فيها الملك للهوه ويخلو فيها إلى نديمه. وما كان يخلو قط إلى غير نديم. وصعد الفتى إلى تلك الشرفة وإن الموت لكامن بين قدميه ونعليه. حتى إذا بلغ مجلس الملك حيا فأحسن التحية، ولقيه الملك فأحسن اللقاء. وكان بين الشيخ الآثم والفتى البريء حديث لم يطل. ومعاقرة لم تتصل.
ثم هم الشيخ بأمر، وأقدم الفتى على الأمر، وانصرف الفتى بعد ساعة فلما رآه الجند خارجا من عند الملك نظروا إليه مشفقين ساخرين، وتندروا به وإن قلوبهم لتنفطر حزنا وحسرة أن ينتهي ابن تبع إلى هذا الذل والهوان! ولكنهم نظروا فإذا الفتى لا يخفض رأسا ولا يغض طرفا ولا يسرع في طريقه. هنالك تقدم إليه أحد الجند مزدريا مكبرا في وقت واحد. وسأله: كيف تركت الملك؟ قال الفتى في صوت حازم لا عوج فيه: دونك الملك فسله كيف تركته. فمضى الفتى في طريقه هادئا مطمئنا. وأنكر الجند هذا الحزم وهذا الهدوء، فصعد بعضهم إلى الشرفة، وما كاد يبلغها حتى صاح صيحة اضطربت لها أرجاء القصر: ألا إن ابن تبع قد قتل الطاغية واسترد ملك أبيه!
فلما كان من غد كان زرعة قد جلس على عرش تبع، وتسمى يوسف، وتلقب ذا نواس. واتخذ اليهودية له دينا، وأخذ يرد حمير إليها.
الفصل التاسع
البشير
أقبلن مع ضوء النهار يسعين سعي النسيم يسبقهن عرف المسك ونشر القرنفل، ويحملن من ندى الأزهار وشهي الثمار، ومن رطب الأغصان وجنى الريحان، ما يصور الطبيعة وقد أيقظها برد السحر ومس الندى وغناء الطير، فجرت فيها رعدة الحياة، ثم استقبلت ضوء الصبح باسمة له مقدمة عليه، ثم منغمسة فيه تريد أن تعبر ما بين ساحليه من مطلع الشمس إلى مغيبها. وكن قاصرات الطرف فاترات اللحظ ساحرات العيون وكن واضحات الجباه قاتمات الشعور، وكن مشرقات الوجوه باسمات الثغور، وكن أسيلات الخدود جميلات القدود نحيلات الخصور. وكن عذاب الأصوات ملاح الألفاظ فاتنات الألحان. وكن يتغنين في يونانيتهن الحلوة أغنية الصباح، تلك التي تعودن أن يحملن بها تحية النهار إلى سيدهن الشاب الفتى المترف «كيمون بن أركيتاس».
وكن يقلن له في أغنيتهن الرقيقة الظريفة: «أفق أيها الفتى المترف! تنبه أيها الفتى السعيد! قم أيها الفتى المجدود، أفق «كيمون»! فقد وفت لك آلهة الليل بعهدها فرعتك وحفظتك، ويسرت لك نوما هادئا وأحلاما حسانا، ثم انصرفت عنك وقد أسلمتك إلى آلهة النهار لتفي لك بعهدها كما تعودت أن تفي لك به منذ ذقت الحياة! أفق فلن ترى من هذا اليوم إلا ابتساما أجمل وأعذب من ذلك الابتسام الذي رأيته أمس والذي رأيته أول من أمس والذي تعودته منذ عرفت الحياة! أفق فستلقى مودة وحبا، وستلقى توفيقا ونجحا، وسيزورك الأصدقاء مسرعين إليك، مقبلين عليك وقد اتخذوا على رءوسهم أكاليل من الزهر، وسيتخذ رأسك إكليلا كأكاليلهم، وستفرحون وتمرحون، وستجدون وتمزحون. أفق أيها الفتى السعيد! تنبه أيها الفتى المترف! قم أيها الفتى المجدود!»
ولكنهن بلغن الغرفة التي كان يأوى إليها «كيمون» إذا جنه الليل وانصرف عنه الرفاق، فلم يرين سيدهن كما تعودن أن يرينه كل صباح مغرقا في النوم أو متعلقا بأسباب اليقظة يريد أن ينجو بها من بحر الرقاد، إنما رأينه قائما يذهب في غرفته ويجيء متعبا مكدودا، مظلم الوجه كأنه قد أنفق ليله مسهدا لم يذق النعاس. فلما رأينه هممن أن يسألنه. ولما رآهن أنكرهن، ولكنه منحهن ابتسامة فيها عطف عليهن حزين، ورفق بهن لا يخلو من ألم، وانصراف عنهن يشوبه شيء من التبرم وإحساس الشقاء. ثم أشار إليهن فلم يسعهن إلا أن يعدن من حيث أتين، صامتات كئيبات قد سقط في أيديهن كأنما أتين من الأمر شيئا عظيما.
وكان الفتى في حقيقة الأمر ينكر نفسه أشد الإنكار، ويضيق بما حوله كل الضيق بعد تلك الليلة الطويلة الثقيلة التي أنفقها وحيدا محزونا يفكر في تلك الدماء التي كانت تجري قريبا من داره كأنها السيل، وفي تلك الأشلاء التي كانت منتثرة من حول داره آخر النهار، وفي تلك الأصوات التي كانت ترتفع بالصلاة والدعاء قوية رائعة مبتهجة بالموت، حتى يسعى الموت إلى أصحابها فيخرون صرعى، وتستحيل تلك الأصوات القوية الرائعة المبتهجة إلى حشرجة فظيعة مروعة. ويرى تلك الوجوه التي كانت تستقبل الموت وعليها ابتسامة حلوة فيها جلد وثقة، وفيها يقين وأمن وفيها أمل وإيمان، فما تزال هذه الوجوه تدنو من الموت باسمة له، وما يزال الموت يدنو منها عابسا لها، حتى يكون اللقاء المنكر الشنيع، فإذا عبوس الموت قد استحال إلى ابتسام حين مس هذه الوجوه الباسمة. وكانت المدينة قد شهدت يوما من أعظم أيامها شرا وأشد أيامها نكرا: يوما من أيام الاضطهاد، جمع فيه النصارى من كل وجه وأخذوا من كل مكان، فيهم الرجال والنساء، وفيهم الشباب والشيب، وكلهم من ضعفاء الناس وذوي المنازل الخاملة فيهم: أخذوا من الدور حيث كانوا آمنين، وأخذوا من الحقول حيث كانوا يعملون، وأخذوا من البيع التي أقاموها في الأنفاق حيث كانوا يجتمعون للصلاة والدعاء. فلما حشد منهم المئات امتحنوا في دينهم امتحانا يسيرا قصيرا، فلم يكن منهم من أجاب إلى وثنية الإمبراطورية الرومانية، ولم يكن منهم من أظهر العبادة لقيصر أو الخضوع لدين روما. هناك أمر بهم الحاكم فقتلوا تقتيلا، ونكل بهم أشد التنكيل، وعبثت بهم السيوف والخناجر، ولعبت فيهم السهام والحراب، وأشراف المدينة المقيمون على دين الدولة، وعامة المدينة المتعصبون لدين الدولة ينظرون إلى ذلك فرحين به، مستمتعين بجماله البشع الفظيع. وكان «كيمون» بين الأشراف في الصف الأول من النظارة سمع ورأى، فأنكرت نفسه ما سمع وما رأى، ولكن صوته لم يستطع إلا أن يصيح صيحات الرضا، ولكن يديه لم يستطيعا إلا أن تصفقا تصفيق الإعجاب. حتى إذا انتهت المجزرة وتفرق الناس سكارى لكثرة ما رأوا وشموا من منظر الدم وريحه، عاد الفتى إلى قصره ذاهلا واجما كئيبا حزينا. ثم خلا إلى نفسه فقضى في غرفته بقية النهار وسواد الليل، ورأى في هذه العزلة الطويلة أهوالا وأوجالا لم يكن تعود أن يراها. وأنى له ذلك ولم يشهد قط ما شهد أمس من الاضطهاد! وأنى له ذلك ولم يشترك قط في حرب ولم ير قط نزالا ولا قتالا على أنه لم يستطع البقاء في غرفته بعد أن انصرف عنه الإماء، فخرج من داره لا يدري إلى أين يقصد، ولا يعرف إلى أين يريد. ومضى أمامه لا يلوي على شيء ولا ينظر إلى شيء، ولم ينتبه إلا وهو يستأذن على صديقه «نكياس».
فلما أذن له دخل على صاحبه، فلم ير في وجهه إشراقا ولا ابتساما، ولم يحس منه ابتهاجا ولا نشاطا، وإنما رأى وجها عابسا مظلما، وشخصا كئيبا فاترا! فابتدر صديقه قائلا: إن أمرك لعجيب! أفتراني قد حملت إليك حزني وبؤسي، ونقلت إليك كآبتي وشقائي؟! قال «نكياس»: أمحزون أنت؟ أما أنا فلم أذق النوم! قال «كيمون»: ولم أذقه أنا أيضا وكيف يذوق النوم من رأى مثل ما رأينا، أو سمع مثل ما سمعنا، أو شهد مثل ما شاهدنا من كيد الناس للناس، ومكر الناس بالناس وقسوة الناس على الناس! قال «نكياس»: هون عليك! لقد نام أهل المدينة ملء جفونهم آمنين مطمئنين. وما يمنعهم أن يناموا وأن يأمنوا وأن يطمئنوا وقد كانوا يخافون هؤلاء النصارى على أمن الدولة ودينها، وعلى نظام الدولة وسلطانها، فقد أراحتهم سيوف الجند ورماح الشرطة وسهام الرماة من هؤلاء النصارى، فأخلت منهم الدار وعفت منهم الآثار، وقدمتهم ضحايا دامية إلى «جوبيتير» إله روما العظيم! قال «كيمون»: إن عجبي من هؤلاء النصارى لا ينقضي! كلهم كان ضعيفا ذليلا، وكلهم كان فقيرا معدما، وكلهم كان بائسا محروما، وكلهم كان قد تعود الطاعة وألف الخضوع، فكيف قويت قلوبهم بعد ضعف، وكيف عزت نفوسهم بعد ذلة، وكيف اجترءوا على أن يعصوا سادتهم وقادتهم ويخالفوا عن أمر الحاكم والإمبراطور؟! ما هذا السحر الذي غيرهم هذا التغيير، وبدلهم هذا التبديل، ومنحهم هذه الشجاعة والعزة، وهذا الصبر والبأس. وكل هذه الخصال التي لم تكن تعرف إلا للأشراف؟! قال «نكياس»: وما يدهشك من هذا؟ إنما هو الإيمان خليق أن يحول الأشياء إلى أضدادها، والنفوس إلى نقيضها. أو تظن أن أمر هؤلاء الناس هو وحده الذي يثير هذا الدهش ويدعو إلى العجب! أليس كل شيء الآن يتغير ويتبدل؟! ألست تحس من حولك إنكارا لكل شيء، وضيقا بكل شيء وسخطا على كل شيء، واستعدادا لثورة عنيفة توشك أن تشب فتقلب الأشياء كلها رأسا على عقب؟! إنك تعجب من الناس، فماذا تقول إن أنبأتك بأني أعجب من الآلهة؟!
قال «كيمون»: وأنت أيضا تعجب من الآلهة؛ أفرأيت إذا ما رأيت، وسمعت إذا ما سمعت؟! لقد كنت أحسبه حلما من هذه الأحلام التي تروع الناس في النوم إذا روعتهم الحوادث وهم أيقاظ، وكنت أجادل نفسي في هذا الحلم المخيف، فما أذكر أني ذقت النوم منذ أمس.
قال «نكياس»: فاقصص علي ما رأيت أحدثك بحديثي وإنه لعجيب. قال «كيمون»: طال علي الليل؛ وثقل علي الهم، وضاقت بي الغرفة بما فيها من الجدران القائمة، والسقف المطبق، والباب المغلق، فخرجت كأنما كنت ألتمس في الحركة فرجا من خرج، وفي الفضاء الواسع فسحة من ضيق، وأشرفت أرفع طرفي إلى السماء كأنما كنت أسأل نجومها عن سر ما لا أفهم من أمر الحياة والأحياء، وأمد عيني إلى البحر كأنما كنت أدعوه ملحا عليه إلى أن يطغى بعض الشيء على المدينة، فيغسل ما علق بأرضها من دماء القتلى، ويحمل ما انتثر على أرضها من أشلائهم. وإني لفي ذلك حائر الطرف مفرق النفس، كاسف البال محزون الضمير، وإذا شيء يعرض لي لا أتبينه أول الأمر لأنه كان بعيدا عني، ولكنه يروعني وتقف عيني عليه، ويدنو مني شيئا فشيئا حتى أتبين - وما أعجب ما أتبين - جماعة من الفرسان كأجمل وأروع وأجهر ما رأيت، قد علوا صهوات جياد عربية، ما رأيت قط مثلها ولا سمعت قط عن مثلها إلا فيما أقرأ من شعر الشعراء ومن قصائد «بندار» حين كان يتغنى تلك الخيل التي كانت تسبق ألعاب أولمبيا. جياد مجنحة كانت تعبر إلى البحر بمن عليها من الفرسان! لا أدري أكانت تركض على الماء أم كانت تطير في الهواء. حتى إذا بلغ الجماعة شاطئ البحر وكادت حوافر جيادهم تطأ الأرض وقفوا. وقد تبينت أشخاصهم فإذا هم أربعة، فيهم رجلان وامرأتان. وما أقرب الشبه بين هؤلاء الأشخاص وبين هذه التماثيل التي نراها في المعابد ل «أبلون» و«أرتميس»، ول «أتنا» و«آريس»!
أكنت يقظان حين رأيت! أكنت يقظان حين سمعت! ولكن أشخاصهم ما زالت ماثلة أمام عيني، ولكن حديثهم ما زال مستقرا في صدري كأنما نقش على قلبي نقشا. سمعت أشبههم ب «أبلون» يقول: ما أبشع هذه المدينة التي نحبها ونصبو إليها! وما أقبح هذه الريح التي تصعد إلينا منها! قالت أشبه هؤلاء الأشخاص ب «أتنا»: لقد كنا نحب أن نلم بهذه المدينة فنطيل فيها المقام، وكنا نستعذب حديث أهلها ونستحب أخلاقهم، ونستلذ ما كانوا يقدمون إلينا من الضحايا والقرابين. قالت شبيهة أرتميس: وكم كنت أحب أن أتجول في غاباتها وأستمتع فيها بلذة الصيد! قال شبيه آريس: أما أنا فكانت تعجبني حصونها المحصنة، وقلاعها المؤشبة، وهذا الجيش الباسل المرابط فيها والمستعد في كل لحظة للدفاع والهجوم. قال شبيه أبلون: فقد آن لنا أن ننصرف عنها على ألا نرجع إليها، وأن نلقي عليها نظرة وداع لا لقاء بعده. قالت شبيهة أرتميس: لم أستطع بعد أن أفقه ما ألم بأهل هذه المدينة: أفتنة أتت على عقولهم فحالت بينها وبين الفهم والتفكير، أم قسوة غلبت على قلوبهم فحرمتها الحس والشعور؟ إنهم يظنون أنه الدين وما يدفعهم إليه من حبنا والتعصب لنا، وحماية معابدنا وأوثاننا وسلطاننا أن يطغى عليها هذا الدين الجديد الذي أقبل من الشرق، ولكنهم يكذبون، فما أكثر من وفد علينا من آلهة الشرق قديما! وما أكثر من يفد علينا منهم في هذه الأيام! وما أحسن ما تلقيناهم! وما أحسن ما نتلقاهم الآن! لم نضق بهم ولم يضق بهم الناس! فما ضيقهم بهذا الدين الجديد وبهذا الإله الشرقي الجديد؟!
قال شبيه أبلون: إنهم يخدعون أنفسهم ويريدون أن يخدعونا ولكنهم يعلمون، لو فكروا، أنهم لا يثورون لنا، ولا يغارون علينا، ولا يغضبون للدين؛ إنما يورون لقيصر، ويغارون على روما، ويغضبون للسياسة. ولولا أن قيصر قد أله نفسه وأخذ الناس بعبادته، ولولا أن روما قد ألهت نفسها وفرضت ما لم تفرض مدن اليونان حين كان إليها الأمر من هذا الدين الغريب الذي تقام له المعابد بها، ويؤمر الناس فيها أن يقدموا إليه الطاعة، ولولا أن هؤلاء الرومان قد اتخذوا الدين وسيلة من وسائل السيادة وأداة من أدوات الحكم وبسط السلطان، يكذبون به على أنفسهم ويكذبون به على الناس، لولا هذا كله لما أريقت الدماء ولا انتثرت الأشلاء، ولا أزهقت النفوس، ولا قتل الناس بعضهم بعضا على هذا النحو.
قال شبيه آريس: إنكم لتعلمون حبي للدماء، ونشوتي بالقتال والحرب، ولكني شديد البغض لما أرى، شديد النفور مما أجد. وكم ضقت بما رأيت أمس من هذا التقتيل والتنكيل والتمثيل! ومع ذلك فكم شهدت من حرب وكم اشتركت فيها! وكم أغريت بها؛ وكم دفعت إليها! وكم أبليت فأحسنت البلاء! قالت شبيهة «أتنا»: وأي غرابة في ذلك؛ أنا أيضا أحببت الحرب وما زلت أحبها، ولكن الحرب شيء وهذا النكر شيء آخر. وأين الحرب التي تصدر عن الشجاعة والبأس من هذا الإجرام الذي لا يصدر إلا عن الجبن والبغي والعدوان! وأي فرق بين تقتيل العزل والأبرياء، وبين ما فعله أياس حين جن جنونه، فأعمل سيفه في قطعان البقر والغنم التي لا تملك عن نفسها دفاعا؛ قال شبيه أبلون: وما بقاؤنا في هذه الأرض التي ليست لنا بدار بعد ما أزمع الآلهة أن يدعوا هذا الإقليم لدين قيصر ولهذا الدين الجديد؟! لقد وقفنا فأطلنا الوقوف، وودعنا فأطلنا الوداع، وآن لنا أن نلحق بمن سبقنا من الآلهة إلى تلك الأرض الموعودة التي لم تفسد عقول أهلها حيلة برومثيوس، ولا فلسفة سقراط، ولا سياسة قيصر، هلم. ثم ترتفع بهم أفراسهم في الجو، وما هي إلا لحظة حتى أرى سحابا رقيقا يمضي أمامي مسرعا، ثم أنظر فلا أرى شيئا. أكنت نائما أرى ما يرى النائم، أم كنت يقظان أرى ما يرى الأيقاظ؟
قال «نكياس»: لم تكن نائما ولا حالما: فقد كنت أسمع حديثك الآن وما أشك في أنك قد كنت تقرأ ما كان قد نقش على قلبي ورسخ في قرارة نفسي. الصورة هي الصورة، واللفظ هو اللفظ، ومقدم الفرسان ورحيلهم ووقوفهم بين ذلك كما وصفته، لم تزد فيه ولم تنقص منه؛ ولكني لم يطل علي الليل ولم يثقل علي الهم، ولم يضق بي المكان. لقد أنفقت بقية النهار وأكثر الليل في قصر الحاكم مع أغنياء المدينة وأشرافها نستمتع بلذات هذا الحفل الذي دعانا إليه، ولم تنشط أنت له. وأشهد لقد أسرفت في الطعام، وأسرفت في الشرب خاصة؛ لأني كنت أريد أن تفرق الخمر بيني وبين نفسي، وأن تسل الخمر ما كان يملأ صدري من الهم والحزن. ولكن الليل عجز عن أن يسلمك إلى النوم، وعجزت الخمر عن أن تسلمني إلى السكر. فلما انقضى الحفل وانصرف الناس لم أستطع أن أعود إلى داري، فمضيت أمشي على ساحل البحر أتنسم الهواء وأنظر في السماء، حتى رأيت مثل ما رأيت، وسمعت مثل ما سمعت. وعدت وإني لأسأل نفسي منذ ذلك الوقت: أكان حقا ما رأيت وسمعت، أم كان لونا من ألوان السكر وخيالا من هذه الخيالات التي تسلطها الخمر على النفوس؟ قال «كيمون»: وإذا ...؟ قال «نكياس»: وإذا ...! ثم سكت الصديقان وقتا طويلا. ثم استأنف «نكياس» حديثه وهو يقول: وإذا فنحن بين اثنتين: إما أن نرحل كما رحل الآلهة، وإما أن نقيم كما أقام الناس. وفي السياحة لذة، وفي الخمر واللهو عزاء. قال «كيمون»: أما أنا فمرتحل. قال «نكياس»: أما أنا فمقيم. قال «كيمون»: فكن إذا خليفتي في مالي حتى يأتيك أمري فيه. قال «نكياس»: أجاد أنت؟ وما يمنع أن يكون ما رأينا وسمعنا عبثا من عبث الآلهة؛ فقد علمت أنهم يحبون العبث بنا والسخر منا! وما يمنع أن يكون ما رأينا وسمعنا أثرا من آثار هذه الصدمة التي دهمتنا أمس حين رأينا ما سفك من دماء وما أزهق من نفوس! أقم فإن في اللهو واللذة وفي الخمر والغناء، وفي جمال هؤلاء الإماء اللاتي يملأن قصورنا نعيما وبهجة، وفي هذه الثروة التي تتيح لنا من ألوان الشرف والمجد ما لا يتاح إلا لقليل من الناس، ما هو خليق أن ينسينا ما شهدنا منذ أمس. أقم! ولنضاعف ما نحن فيه من عبث ولهو؛ فما أرى حياة الناس تستقيم إلا على العبث واللهو: شرب في النهار، ونوم في الليل، حتى إذا سئمنا الحياة خرجنا منها مزدرين لها. قال «كيمون»: أنت وما تحب من هذا، أما أنا فمرتحل عن هذه الأرض ولو إلى حين.
ثم افترق الصديقان بعد ذلك، فلم يلتقيا ولم يعرف أحدهما من أمر صاحبه شيئا. أما التاريخ فقد عرف من أمر «كيمون» شيئا كثيرا.
على أن الذي حدثني بحديث «كيمون» لم ينس أن يصطنع الصدق والأمانة في الحديث، ولم يرض أن يتكلف ما يتكلفه القصاص وكثير من المؤرخين من التزيد في الرواية، والتحدث بما لا علم لهم به؛ فقد أنبأني بأن جزءا غير قليل من حياة «كيمون» لم يصل عنه إلى الرواة والمؤرخين إلا أطراف قصيرة من الحديث، وأن التاريخ لم يعرف تفصيل حياته إلا في آخرها حين تقضى شبابه، وأقبلت عليه الشيخوخة بما تحمل إلى الناس من هذه الهدايا البغيضة التي تتألف من الضعف والمرض وأعراض الفناء والانحلال. ولو قد عرف التفصيل من أمر «كيمون» لوجد الناس في قراءته لذة لا يجدون مثلها كثيرا حين يقرءون حياة الشهداء والقديسين. فقد انصرف «كيمون» عن صاحبه محزونا موزعا بين اليأس البين إن أقام، والرجاء الغامض المبهم إن ارتحل. وكان قد كره المدينة والحياة فيها كرها شديدا. وكان قد سئم قصره وما فيه سأما ساء له خلقه حتى أنكر نفسه، وحتى كره ما كان يسمع من صوته وألفاظه حين كان يتحدث إلى أهل القصر من الأحرار والأرقاء.
ولم يكد يتم يومه في القصر حتى عرف أن بقاءه في المدينة أمر لا سبيل إليه، وأن الموت آثر عنده وأحب إليه من هذه الحياة الحمراء اللاغطة الممزقة التي لا يرى فيها إلا دماء وأشلاء، ولا يسمع فيها إلا صلاة ودعاء وحشرجة ونداء. فلما جنه الليل وهدأ من حوله كل شيء وكل إنسان، خرج من القصر ينساب كأنه الحية، وينسل كأنه اللص، وأخذ يمضي في طرق المدينة متنقلا من طريق إلى طريق حتى جاوز أسوارها وأرباضها،
1
ودفع
2
إلى الفضاء الواسع، وإلى هذا الريف الذي تسكن فيه الطبيعة إذا تقدم الليل سكونا رهيبا، ولا يكاد يحس الإنسان فيه إلا هذه الأصوات الضئيلة التي تنبعث من حين إلى حين، عن بعض الحشرات المنبثة في ثنايا العشب والزرع، وعن بعض الطير المستقرة على الأغصان، حين يمر بها طائف الحلم فتهم بالغناء والتغريد، ثم يقطع عليها النوم غناءها وتغريدها، وإلا هذه الأصوات الخفية التي لا تسمعها الأذن وإنما تسمعها النفس؛ لأنها أدق من السمع، وألطف من الحس، وهي نجوى الهواء حين تتحدث أجزاؤه وطبقاته بعضها إلى بعض إذا سكن الليل وأطبق الظلام، كأنما يقص بعضها على بعض أحاديث الطبيعة في حياتها وحركتها قبل أن تنام، وقبل أن يضطرها الليل إلى السكون. ومع أن هذا الهدوء الرهيب، وهذا الصمت المهيب، يروعان أهل المدن إذا دفعوا إليها دفعا على غير تعود لهما، فإنهما لم يبعثا في نفس الفتى روعا، ولم يدخلا في قلبه رعبا؛ لأن نفسه كانت مشغولة حتى عن هذا الرعب وذلك الروع بما كان يزدحم فيها من الخواطر والأحاديث.
وكان الفتى يمضي أمامه لا يعنيه أمهتد هو قصد السبيل أم جائر هو عن هذا القصد؛ لأنه لم يكن في حقيقة الأمر يعرف إلى أين يريد، ولم يكن قد رسم لنفسه طريقا يسلكها أو غاية ينتهي إليها، إنما كان همه أن يفر من هذه المدينة التي جرت فيها الدماء أنهارا، وانتثرت فيها الأشلاء انتثارا، وجنى فيها بعض الناس على بعض هذه الجرائم والآثام. وكان حديث الآلهة قد ملأ نفسه دهشا وعجبا، واضطر إلى أن يسأل نفسه من حين إلى حين: إلى أين ذهب الآلهة. وأي طريق سلكوا، وفي أي مكان من الأرض أو من السماء أقاموا قصورهم الخالدة؟ وكيف هان على زوس أن يدع «أولمب» وما كان فيه من حياة فيها الجد الرائع والعبث اللذيذ؟! وكيف هان على أبلون أن يترك معبده الخالد في «دلف»؟ وكيف استطاعت «أتنا» أن تتعزى عن «الأكروبول»؟ وأين يجد «آريس» مدنا تقتتل وتحترب كما كانت مدن اليونان تقتتل وتحترب؟ وكان يسأل نفسه عن سلطان هؤلاء الآلهة الذين لم يستطيعوا أن يثبتوا لعدوان الإنسان على الإنسان، فضلا عن أن يمحوا هذا العدوان ويبطشوا بالمعتدين. وكان يسأل نفسه عن هذا الدين الجديد الذي يؤثره أصحابه على الحياة ولذاتها وآلامها، وعن هذا الإله الجديد الذي أخذ يغزو العالم اليوناني الروماني، فيحبب إلى أهله الألم والصبر والتضحية، ويزهد أهله في الثروة والغنى، ويزين في قلوبهم حب الفقر والإعدام، وينشئهم تنشيئا جديدا لا صلة بينه وبين ما ألف الناس منذ أنشدوا شعر «هوميروس»، وتغنوا شعر «سافو» و«بندار»، واستمتعوا بشعر سوفوكل وأرستوفان، وتفكروا في فلسفة سقراط وأرسطاطاليس، وكان يسأل نفسه وهو يمضي في طريقه لا يلوي على شيء، والليل من حوله مطبق قد غمر بظلمته المخيفة كل شيء: أماض هو في أثر الآلهة الذين ارتحلوا ليلحق بهم ويقيم معهم؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش من دونهم، أم ساع هو إلى دار هذا الإله الجديد لعله يلقى من كهانه وقساوسته من يعلمه أسرار دينه؛ فقد سئم حياة اليونان، وتمنى لو ظفر بلون من الحياة جديد؟! وكان الفتى يمضي، وكانت هذه الخواطر تزدحم على نفسه وتضطرب فيها، وكان الليل يمضي هو أيضا في طريقه دون أن يتبين الفتى أكان سريعا في سيره أم بطيئا. وإنه لكذلك يسير ويسير، ويفكر ويفكر، قد نسي نفسه ونسي الليل، وإذا هو يثوب إلى نفسه لحظة فيقف ويرفع رأسه، وإذا الضوء قد غمره وغمر الأرض من حوله، وإذا هو ينظر أمامه فلا يرى إلا سهلا مشرقا، وينظر وراءه فلا يرى إلا سهلا مشرقا، وينظر من يمين وشمال فلا يرى إلا سهلا مشرقا، وإذا هو لا يدري من أين جاء ولا إلى أين يريد.
ينظر وراءه فلا يرى للعمران أثرا، وينظر من كل ناحية فلا يرى للعمران أثرا، قد انقطعت الصلات والأسباب بينه وبين مدينته التي خرج منها أمس حين أظلم الليل، فكأنه لم يعرف هذه المدينة ولم يعش فيها ولم يقاسم أهلها ما نعموا به من لذات وما ابتأسوا به من آلام، وكأنه لم يشهد فيها ما شهد، ولم ينكر من أهلها ما أنكر، وكأنه شيء فذ لا صلة بينه وبين شيء، وكأنه شيء ضائع بين هذه الأرض التي لا حد لها، وهذه السماء التي لا حد لها، وهذا الضوء الذي يضطرب بينهما إلى غير حد. هنالك أحس الفتى راحة لم يحسسها قط كأنه قد ألقى عن نفسه أعباء الحياة كلها، هذه الأعباء التي لا تختصر حياة الفرد وما لقي فيها من شر وخير فحسب، وإنما تختصر معها أيضا حياة هذه الأجيال التي سبقته وأورثته الحضارة أثقالها. أحس الفتى راحة قلما نستطيع نحن أن نتصورها، وأحس هدوءا ونشاطا قلما نستطيع نحن أن نذوقهما. ووقف يستمتع بهذه الراحة ويستلذ هذا النشاط وحاول أن يدعو إليه تلك الخواطر التي كانت تزدحم على نفسه في ظلمة الليل، فلم يستجب له منها خاطر واحد، كأنما طردها هذا الضوء المشرق مع ذلك الليل المظلم الكثيف.
ما أجمل هذا الشعور الذي امتلأت به نفس «كيمون» حين أحس أنه قد خلق خلقا جديدا! لقد امتزجت نفسه الجديدة بهذا النور الجديد، ولقد نسي الآلهة الذين كان يمضي في أثرهم، ونسي الإله الذي كان يسعى ليعلم علمه. وماله ولهذا الإله الجديد ولأولئك الآلهة القدماء، وقد استيقن أنه قد وجد في هذه الطبيعة المطلقة الحرة، التي لا تحصر ولا تحد آية أرشدته إلى إله ليس كما تعود أن يرى الآلهة؛ لا سبيل إلى أن يحصر ولا إلى أن يحد، ولا مطمع في أن يرقى إليه العقل، أو يتناوله الفكر بالدرس والبحث والتحليل. إنما هو قوة يكبرها ولا يفهمها، يجلها ولا يحيط بها، يشعر أنها تأخذه من كل مكان وتأخذ كل ما حوله، وأنه إن يمض أمامه فهو مقبل عليها، وإن يرجع أدراجه فهو خاضع لها، وأنى يذهب يمينا أو شمالا فهو في ظلها الظليل وفي كنفها الرحب. سبحانك اللهم! إن لم أجدك فقد وجدت آيتك، وإن لم أرك فقد رأيت خلقك! لك علي ألا أومن إلا لك، ولا أخاف إلا إياك!
ثم يمضي الفتى أمامه في شيء من الذهول ليس إلى تصويره من سبيل، حتى يشتد حر الشمس ويبلغ منه الإعياء، وهو على ذلك جلد صبور لا يحس كلالا ولا فتورا. وما يزال يمضي ويمضي، حتى يرفع له بناء يراه فيأنس ويتنكر له في وقت واحد: تأنس به طبيعته الفانية التي قد أحست الجهد والكد، وذاقت ألم الظمأ والجوع. وتتنكر له نفسه الخالدة التي تشفق أن يخرجها من هذه الحياة الروحية الراقية الحلوة التي لم تألفها من قبل. ويهم الفتى أن يقف، ولكن هذا البناء الذي يرفع له يدعوه إليه في إلحاح أن أقبل أيها الفتى ولا تخف؛ فليس عليك من بأس فيمضي الفتى صوب هذا البناء؛ حتى إذا دنا منه سمع أصواتا عذبة ترتل ترتيلا عذبا فيسرع إليها، وما هي إلا أن يلحق بجماعة من الرهبان يصلون ويرتلون، وإذا هو يصلي معهم ويرتل، لم ينكروه ولم ينكرهم، كأنه واحد منهم، وكأن العشرة بينه وبينهم متصلة منذ عهد بعيد. ذلك أنه قد وقع إلى دير من هذه الأديار التي كانت تقام في تلك الصحراء، حين كان النصارى يفرون إلى الصحراء بدينهم من تلك المدن التي كانت تسيطر عليها آلهة اليونان والرومان، وديانات روما والإمبراطور.
ثم سكت محدثي ساعة كأنه يفكر أو كأنه يستريح. فلما طال علي صمته قلت له في لهجة المشوق إلى ما عنده من الأنباء: هلم أنبئني كم لبث الفتى في الدير؟ وكيف كانت حياته فيه؟ قال محدثي: لو علمت ذلك ما بخلت به عليك، وقد سألت عنه أشياخنا كما سألتني، فكلهم أجابني بما أجبتك به، وكلهم قالوا هذه الجملة التي يقولها الرواة والمؤرخون إذا اضطرهم النسيان، وضياع الحوادث إلى الإجمال والإبهام: أقام «كيمون» في هذا الدير ما شاء الله أن يقيم. قلت لمحدثي: فإنك علمت من أشياخك في غير شك أطرافا من حياة هذا الفتى بين هؤلاء الرهبان، وعلمت منهم في غير شك أيضا إلى أي الأحوال صار أمره بعد أن عاشر أهل الدير وتعلم منهم دين المسيح؟ قال محدثي: لم أكد أعلم منهم شيئا؛ لأنهم كانوا لا يكادون يعلمون شيئا، وكانوا إذا انتهوا من حديث «كيمون» إلى حيث انتهيت، قالوا هذه الجملة التي تشبه ما تقوله العامة حين تنسى أو حين يعييها التفصيل: وما أسرع ما تقدم السن بأبناء الأحاديث.
فقد تقدمت السن بكيمون بعد أن قضى في الدير ما شاء الله من الدهر، مجتهدا في طاعة الله والفقه في الدين، والانصراف عن غير ذلك من شئون الحياة. قال أشياخنا: والناس يتحدثون أن «كيمون» ضاق آخر الأمر بحياته في الدير لأنه رأى نفسه قد أصبح فتنة لرفاقه وخلطائه من الرهبان، ورأى ديره قد أصبح فتنة لأديار كثيرة كانت تقع على آماد بعيدة منه في الصحراء، وأصبح فتنة لأهل الريف الذين كانوا يقيمون على أطراف الصحراء، وفي داخل الأرض الخضراء، فقد تسامع هؤلاء جميعا بما كان الله عز وجل قد اختص به «كيمون» من الكرامة وآثره به من الفضل، وبما أجرى على يده من العجائب والأمور الخارقة؛ فقد كان لا يدعو لمريض أو ذي ضر بالشفاء إلا شفاه الله من فوره. وكانت بركته قد عمت أهل الدير ومست ما حوله من أرض الصحراء إلى أمد بعيد، فإذا أهله لا يشكون جوعا ولا ظمأ، ولا يلقون جهدا ولا عناء، وإذا ديرهم قائم في وسط جنة خضراء قد أنبت الله فيها من ألوان الشجر والزهر، ومن فنون الحب ما فيه غنى عن كل جهد ودفع لكل مشقة، وإذا الناس يحجون إلى هذا الدير في كل عام مرة أو مرات فيتبركون ويلتمسون الدعاء، ويلحون في لقاء «كيمون»: هذا يريد أن يمسه، وهذا يريد أن يلثمه، وهذا يريد أن يسمع صوته، وهذا يريد أن يملأ عينه من منظره الجميل؛ حتى ضاق الشيخ بذلك وأشفق منه على نفسه وعلى دينه. وقد أصبح «كيمون» شيخا. وما أسرع ما تتقدم السن بأبناء الأحاديث! فلما شق عليه ذلك أزمع أن يخلص منه، ويفر بدينه من إكرام المكرمين وإيثار المؤثرين، كما فر قبل ذلك من تلك المدينة التي كان الناس يفتنون فيها عن دينهم بالتقتيل والتنكيل والتمثيل.
وأصبح أهل الدير ذات يوم يفتقدون وليهم المبارك فلم يجدوه حيث تعودوا أن يروه في كل صباح، والتمسوه في كل مكان: في الدير وفي جنة الدير، وفي الصحراء من حول الدير، فلم يظفروا به ولم يجدوا له أثرا. فذهبت ظنونهم وظنون غيرهم من الناس في هذه الغيبة كل مذهب، وأولوها كل تأويل. ولكن «كيمون» نفسه لم يظن ولم يؤول، وإنما استعان الله على أن يخلص من هذا الضيق، ودعا الله أن يخفيه عن الناس حتى يبلغ مأمنه، فاستجاب الله له. ومضى في طريقه هاربا من الدير، كما مضى في طريقه هاربا من المدينة، لا يلوى على شيء حتى خرج من الصحراء المجدبة، وأمعن في أرض خصبة فيها خير وثراء كثير، فمضى فيها لا يغريه ما كان يرى من حياة الناس ونعيمهم ولم يمس قلبه ولا حسه ما كان يرى من تلك المدن العامرة التي كانت تذكره بمدينته؛ لأنها كانت تشبهها بما كان يقوم فيها من القصور الفخمة، والملاعب الواسعة الضخمة، وبما كان ينصب فيها من الأسواق التي تحمل إليها ألوان التجارة من أطراف الأرض، وبمن كان يضطرب فيها من هؤلاء الشبان المترفين، ومن هؤلاء النساء المتهالكات الداعيات باللحظ واللفظ إلى الإثم والفتون.
وكان الشيخ يمضي بين هذا كله لا منكرا له ولا راغبا في شيء منه؛ لأنه كان مشغولا بنفسه ودينه عن هذا كله. حتى إذا قطع هذه الأرض من حد إلى حد، وقف عند قرية فقيرة في طرف من أطرافها تمس الخصب من ناحية، وتمس الصحراء من ناحية أخرى. أقام «كيمون» في هذه القرية وقد أعجبه فقرها وشظف أهلها وأعجبته هذه الصحراء التي كانت تمتد أمامه إلى غير حد. وكان «كيمون» كلفا بالصحراء لا يستطيع أن يسلوها؛ لأنه لا يستطيع أن ينسى أنه وجد فيها الهدى، وتبين فيها وجه الصواب. فكان ينفق أيام الأسبوع أجيرا لأهل القرية يعمل فيما يحتاجون إلى إقامته من البناء. حتى إذا كان يوم الأحد خرج مع الصبح فأبعد في الصحراء حتى تنقطع الصلة بينه وبين الناس، ثم ينفق نهاره كله في ذكر الله ويعود إلى القرية مع الليل. وكان «كيمون» رحيما للبائسين رفيقا بأهل الضر، فكان إذا مر به البائس أو المحروب أو المريض رق له قلبه ودعا له في نفسه، فما أسرع ما يزول البؤس ويكشف الضر ويرفع المرض؛ وكان الناس ينكرون ذلك ويعجبون له. فلما كثر ذلك واتصل وعرفه الناس أحبوا هذا البناء وكلفوا به، ثم استحال حبهم وكلفهم إلى شيء يشبه الفتنة. وأحس «كيمون» أنه صائر إلى مثل ما صار إليه في الدير، فارتحل عن هذه القرية تحت الليل، وافتقده الناس من الغد فلم يجدوه. وكذلك أخذ الشيخ ينتقل من قرية إلى قرية، ويرحل من مكان إلى مكان، حريصا على أن يلازم الصحراء ليقضي فيها الأحد من كل أسبوع، يقيم في القرية ما يجهله الناس، ويفر من القرية حين يحس أنهم قد عرفوه. حتى إذا كان في قرية من قرى الشام في آخر العمران وأول البادية عرفه رجل من أهلها كأنه عربي كان يسمى صالحا: عرفه وعرف تستره وتنكره للناس، فلزمه عن بعد. وخرج «كيمون» في يوم من أيام الأحد فأمعن في الصحراء كعادته وصالح يتبعه عن بعد. حتى إذا انتهى إلى مكان من الفلاة، قام يصلي وصالح يلحظه. وإنه لفي صلاته وإذا حية عظيمة ذات رءوس سبعة قد أقبلت تسعى إليه، فاغرة أفواهها ولها فحيح مزعج مخيف. فلم يحفل بها كيمون، ولكنه دعا الله عليها فأماتها الله في مكانها. وجزع صالح حين رآها تسعى إليه فصاح: إياك والحية؛ ومضى الشيخ في صلاته حتى أتمها. ثم أقبل على صالح يسأله عن أمره. قال صالح: شهد الله ما أحببت أحدا ولا شيئا حبي لك، وما أردت إلا أن ألزمك وأتعلم منك، فأذن لي في ذلك.
قال «كيمون»: لست أرى بذلك بأسا، ولكني أشفق أن تشق عشرتي عليك، فدونك ما أحببت إن قدرت على صحبتي. وعادوا إلى القرية في المساء. فلم يقم فيها «كيمون» أياما حتى عرف أهلها منه ما عرف أهل القرى التي أقام بها من قبل. وجاءه رجل من أهل القرية فقال: إني أريد أن أصلح بعض البناء في بيتي، فهل لك في أن تنظر في هذا البيت لأشارطك على ما أريد؟ فلما انتهى معه إلى الدار أدخله في حجرة وأخذ يتحدث إليه عما يريد تغييره. ثم نظر «كيمون» فإذا الرجل يهوي إلى الأرض فيرفع ثوبا كان مبسوطا وإذا صبي ضرير سيئ الحال. فلما رآه «كيمون» رق له ودعا الله، فنهض الصبي وليس به بأس. واستيقن البناء أن أمره قد افتضح، فقال لصاحبه صالح: لا مقام لي بعد اليوم في هذه القرية، إني ماض في الصحراء، فإن شئت فاتبعني وإن شئت فأقم. ولم يدركهما صبح غد إلا وقد انقطعت الصلة بينهما وبين الحواضر. ولكن وحدتهما لم تطل، فما أكثر القوافل التي تتردد بين الشام وبلاد العرب آخذة في الصحراء كل طريق! مرت بهما قافلة من هذه القوافل، فعدت عليهما واتخذتهما بضاعة، حتى إذا عادت إلى نجران من أرض اليمن باعتهما لرجلين من أشراف المدينة. فأما صالح فقد نسيه التاريخ، وأكبر الظن أنه ذهب مع الذاهبين في تلك الفتنة المنكرة، التي أظلت أهل نجران بعد ذلك بأعوام. وأما «كيمون» فقد أكرم سيده مثواه، وأفرد له حجرة في داره. فكان يعمل لمولاه بياض النهار، ويقوم للصلاة أكثر الليل. ولاحظ سيده مرة ومرة أن حجرة هذا العبد مضيئة في الليل من غير مصباح. فأنكر ذلك أول الأمر، ولكنه استيقنه بعد طول الملاحظة. فلما أصبح دعا إليه «كيمون» وسأله عن ذلك، فلم يجبه بشيء. فسأله عما يصنع في حجرته. قال: لا أصنع شيئا إنما أصلي وأذكر الله.
قال: فحدثني عن دينك وعن إلهك هذا الذي تعبده؛ فإني لا أراك تعكف على نخلتنا هذه الطويلة التي نعكف عليها، ولا أراك تتقدم إليها كم نفعل بالعبادة والتكريم. قال: وما نخلتكم هذه الطويلة؟ وأين تقع من العبادة والتكريم؟! وإنما هي نخلة كغيرها من النخل، تختلف عليها الأحداث والخطوب، ولا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعا ولا ضرا، ولو دعوت الله عليها لأراكم فيها ما تكرهون. قال: فافعل! فإنك إن تبلغ ما تريد، دخلنا جميعا في دينك. هنالك دعا كيمون، وإذا ريح عاصفة تقبل فتقتلع النخلة اقتلاعا، وتجتثها من أصلها اجتثاثا. هنالك آمن السيد بدين العبد، وأقبل أهل نجران على الشيخ يسألونه ويتعلمون منه. ولم ينقض النهار حتى كان «كيمون» قد هدى المدينة كلها إلى دين المسيح. وكذلك استقرت النصرانية في بلاد العرب.
وهم أهل المدينة أن يكرموا «كيمون» ويكبروه، ويتخذوه لهم سيدا وإماما، ولكنه كره ذلك ونفر منه، وفر بدينه من المدينة كما فر به من الدير، وكما فر به من القرى. فخرج مهاجرا حتى بعد عن العمران وابتنى لنفسه في الصحراء خيمة أقام فيها ما شاء الله أن يقيم، منقطعا للعبادة والطاعة، عاكفا على الدين والنظر في الإنجيل. والناس يقدمون عليه من نجران ومن حولها، فيعلمهم ويبصرهم في دينهم ثم يصرفهم عنه في رفق حازم، لا يرضى منهم لزوما له، ولا يقبل ما كانوا يحملون إليه من ضروب الهدايا.
وعظم أمر المسيحية في نجران، حتى لم يبق من أهلها الوثنيين رجل ولا امرأة ولا غلام ولا فتاة إلا دخل في الدين الجديد، واجتهد فيما كان يأخذه به من عبادة وتقرب إلى الله، وحتى ضاق بذلك عدد يسير من اليهود كان مستقرا في هذه المدينة، يعمل فريق منه في التجارة وفريق آخر في الصناعة. فأخذ هؤلاء اليهود يجادلون نصارى نجران في دينهم ويشددون عليهم النكير، وينالون شيخهم ومعلمهم بألسنة حداد، حتى اغتاظ لذلك النصارى فغضبوا لدينهم. وكان بين فريق منهم وبين اليهود خصام عظم شره بعض الشيء، وارتفع أمره إلى ملك اليمن في صنعاء، وهو الذي كان يعرف بذي نواس.
وكان ذو نواس هذا قد نهض بملك آبائه من حمير، بعد فتنة طويلة ملحة، فجد في جمع الكلمة وتوحيد الرأي، وكان قد ورث يهودية أبيه تبع، فحمل الناس عليها حملا، وأحيا سنتها، وأنفق في ذلك نشاطا عظيما، وأقام حكم التوراة بين أهل المدن وبين القبائل في السهل والجبل. ثم عاوده حلم أخيه حسان، فأخذ يفكر في أن يتهيأ للخروج من اليمن بيهوديته لينشرها في الآفاق، ويفرضها على أهل الشرق والغرب ولم يكن في قصره حبران كاللذين كانا في قصر أخيه، فلم يرده أحد عما كان قد هم به وتهيأ له. وإنه لفي ذلك، وإذا يهودي من أهل نجران أقبل مسرعا مروعا حتى دخل صنعاء، وانتهى إلى القصر، واستأذن على الملك شاكيا باكيا مستغيثا لليهود، مستنجدا للتوراة. فلما أذن له ومثل بين يدي ذي نواس، زعم له أن رجلا من الروم أقبل في قافلة من القوافل فأفسد نجران وما حولها، وحمل المشركين من العرب والأعراب على دين المسيح، وأن هؤلاء النصارى قد اعتزوا على اليهود وعلوا عليهم، ثم بغوا وطغوا، وأسرفوا في البغي والطغيان، حتى أهانوا التوراة ونالوا من ذاد عنها بالسوء، وحتى قتلوا من اليهود نفرا، وأخافوا من بقي منهم في المدينة.
وقد قدمت عليك أيها الملك فزعا مستصرخا، فإما نصرتنا، وإما حولتنا عن هذه المدينة، التي لم يبق لنا فيها مقام.
قال الملك وقد أخذ منه الغضب وملكه الغيظ: أفتراني آذن لغير اليهودية من الدين في أن يستقر ببلاد العرب وأنا عظيم حمير، ووارث تبع، وذو صنعاء؟! ثم أذن في الجيش بالرحيل. وما هي إلا أيام حتى كانت نجران قد أحيط بها. ودعا الملك إليه جماعة من قواده وعظماء جنده، فأمرهم أن يجمعوا له أشراف المدينة وأهل الرأي والمكانة فيها. فلما حشدوا له حشدا خيرهم بين اليهودية والموت، ولم يدع لهم مخرجا من هذين الأمرين، ولم يمهلهم ليفكروا أو ليدبروا أمرهم بينهم. وما كانوا في حاجة إلى التفكير، وما كانوا في حاجة إلى التروية؛ فقد ملكت النصرانية عليهم قلوبهم وعقولهم واختلطت بدمائهم. فما أسرع ما أجابوا: أيها الملك، إذا لم يكن بد من الاختيار فإنا نختار الموت. فلما رأى الملك منهم ذلك أمر منادين أن يؤذنوا في المدينة: ألا إن الملك قد خير أشرافكم بين اليهودية والموت، فآثروا أن يموتوا، فأيكم اختار اليهودية وأشفق من الموت فله أن ينحاز إلى الجيش. وطال نداء المنادين وتأذين المؤذنين فلم ينحز إلى الجيش أحد. هنالك أمر ذو نواس فاحتفرت الأخاديد،
3
وجمع فيها الحطب والخشب، وألقى فيها الزيت، وأضرمت فيها النار، ودفع أهل نجران إليها دفعا . وهنالك أطلق ذو نواس أيدي حمير في أهل نجران، ينالونهم بالقتل والمثلة،
4
ويحتازون من أموالهم ونسائهم ما يشاءون. وهنالك جرت الدماء أنهارا، وانتثرت الأشلاء انتثارا، وارتفع اللهب إلى السماء، بنفوس الشهداء.
وفي أثناء هذا كله كان شيخ فان ضعيف قد خرج من خيمته وأشرف من مكان مرتفع، فأخذ ينظر إلى النار ترتفع في السماء، وإلى الدماء تجري على الأرض، وأخذ يسمع أصوات المصلين وهم يقبلون إلى الموت، وأصوات المعتدين وهم يدفعونهم إليه، وأخذ يذكر عهدا بعيدا، بعيدا جدا، ويستحضر صورة منكرة جدا، رآها أثناء الشباب في مدينة من مدن البحر، جرت فيها الدماء، وانتثرت فيها الأشلاء، واضطرمت فيها النار، وصلى فيها الشهداء، وسخر فيها المعتدون. وأخذ الشيخ ينظر إلى هذه الصورة البشعة أمامه، ويرى تلك الصورة البشعة وراءه، ويقارن صورة إلى صورة، ثم تحدث إلى نفسه في صوت هادئ رقيق: لقد ضاقت نفسي الشابة بتلك الصورة ففررت من المدينة وخرجت إلى الله عن أهلي ومالي، وما كانت الحياة قد هيأت لي من لذة وأعدت لي من نعيم، وإني لأنظر إلى هذه الصورة فأحبها وأشتهيها وأفتن بها وأدفع إليها ... ماذا! لقد انحسرت عني الشيخوخة انحسارا، وارتفع عني الضعف ارتفاعا، وأصبحت شابا قويا شديد النشاط كما كنت منذ أكثر من خمسين عاما ... ماذا! إن هذه النار المضطرمة لتعجبني، وإن هؤلاء الذين يقبلون إليها ليدعونني ... ماذا! أرى هذه النار ولا أسرع إليها، وأرى هؤلاء الناس ولا أدخل فيهم. إني لأجيل طرفي في السماء من أمام ومن وراء ... ماذا ألتمس! لن أرى آلهة اليونان كما رأيتهم من قبل ينظرون ثم ينكرون ثم يرتحلون. إنما كان آلهة اليونان باطلا كلهم، وقد مات الباطل وما ينبغي له أن يبعث من جديد. ثم يسعى «كيمون» هادئا متئدا، حتى إذا دنا من النار استحال سعيه عدوا واتئاده حركة عنيفة، وإذا هو ينضم إلى الناس، وإذا صوته يمتزج بأصواتهم، وإذا هو يدخل معهم في هذا الموت، ليصل معهم بعد ذلك إلى دار الخلود.
قلت لمحدثي: وكم كان عدد الشهداء من أهل نجران؟ قال: تحدث الناس أن ذا نواس أفنى منهم قريبا من عشرين ألفا، وأن رجلا واحدا جد في الهرب حتى أعجز الطالبين، فنجا ومعه إنجيل قد مسته النار، فانطلق به إلى النجاشي يستعينه على الثأر. وكانت هذه القصة آخرة الملك الحميري، بل آخرة الملك العربي في بلاد اليمن.
الفصل العاشر
راهب الإسكندرية
أقبل أهل الدير على راهبهم الجديد يحدثونه ويسمعون منه، وكان شيخا قد تقدمت به السن، ولكنه احتفظ بقوة ونضرة قلما يحتفظ بهما الشيوخ إذا قاربوا السبعين. وكان وضيء الوجه، مشرق الجبين، منطلق اللسان، عذب الحديث في يونانيته الإسكندرية. وكانت تظهر على وجهه وفي حديثه آثار النعمة والغنى، وحياة الرجل الذي لم يذق بؤسا ولا فقرا ولا هوانا. وكان قد أقبل على هذا الدير الصغير الذي كان يقوم في طرف من أطراف الصحراء مما يلي الشام، حيث تمر القوافل الآتية من بلاد العرب والذاهبة إليها. وكان مقدمه على الدير حديثا لم تمض عليه إلا أيام قليلة.
وكان قد أقبل يحمل مالا كثيرا فيه ذهب وفضة، وفيه جوهر وعروض فلما بلغ الدير استأذن على رئيسه فأذن له. وهنالك قدم إليه ما كان يحمل من المال وقال: اتخذ من هذا المال ما تصلح به أمر الدير وأهله، فإن بقي منه فضل فأنفقه في وجوه الخير والمعروف؛ فإني قد خرجت لك عنه كما خرجت لله عن لذات الحياة كلها، ووقفت ما بقي لي من العمر على الطاعة والعبادة والتفكير في الدير، ولست أسألك إلا أن تئويني في هذا الدير؛ لأنقطع إلى عبادة الله وانتظار أمره. قال رئيس الدير: أما أنت فقد قبلناك على الرحب والسعة، وما ينبغي لنا أن نرد طارقا يريد أن يشاركنا فيما نحن فيه من ذكر الله والإحسان إلى الناس. وأما مالك فإنا نقبله شاكرين لله أن ساقه إلينا؛ فإن حاجتنا إلى المال في هذا المكان المنقطع الذي نحن فيه لا تنقضي. وسترى أن أيامنا وليالينا لا تخلو من هؤلاء الطارقين الذين تنقطع بهم سبل الصحراء فنئويهم ، ونعينهم ونحملهم، ونبذل ما نملك من الجهد لنبلغهم مأمنهم. والناس يعينوننا على هذا المعروف بالقليل والكثير، فنقبل منهم ما يبذلون وننفقه فيما ترى. ثم أوصى به أهل الدير من علمه ما للجماعة من نظام. فلم يكد يمضي بينهم أياما حتى ألفوه وكلفوا بحديثه، وعلموا أن عنده شيئا، وأنه ليس كغيره من هؤلاء الذين تدفعهم قوة إيمانهم أو يدفعهم يأسهم مما كانوا يبتغون من المنافع والآمال أو اللذات إلى الدير. إنما كان رجلا فذا تدل مظاهره وأحاديثه على أن له نبأ لا كالأنباء وأملا لا كالآمال. فأخذوا كلما فرغوا من أعمالهم وطعامهم وصلاتهم حين يقبل الليل، يطيفون به، ويسمرون معه، فيتحدثون إليه ويستمعون له. وهم في هذه الليلة يسألونه عن أمره: كيف انتهت به الحياة إلى الدير، وكيف طابت نفسه عن هذا المال العريض والثراء الضخم فنزل عنه كما ينزل عن أيسر الأشياء؟ قال: إن قصتي لا تخلو من عجب، وقد تسمعونها فتنكرون منها الشيء الكثير، ولكني مع ذلك سأحدثكم بها لا رغبة في أن أثير العجب في نفوسكم، ولا في أن أعينكم على إنفاق الوقت، ولكن نصحا لكم وإشفاقا عليكم؛ فقد أرى أن أمري يثير في نفوسكم حبا للاستطلاع قويا متصلا، يوشك أن يصرفكم عن بعض ما ينبغي أن تفرغوا له. وما أريد أن أكون مصدر خطيئة مهما يكن أمرها يسيرا.
ثم أطرق غير طويل كأنه يفكر ويستحضر أول قصته، ثم قال: كنا ثلاثة شركاء نصرف بين أرجاء الأرض العريضة تجارة واسعة. وكنا قد اقتسمنا الأرض بيننا أثلاثا، فرغ كل واحد منا لواحد منها يدبر شأنه، ويصرف التجارة فيه إيرادا وإصدارا. وكنا نلتقي من حين إلى حين ليلقي بعضنا إلى بعض ما انتهت إليه تجارته من ربح، ولننظم فيما بيننا أمر هذه الثروة التي كانت تنمو فتسرع في النمو، وتطرد زيادتها الغريبة من عام إلى عام. وكان أحدنا قد اتخذ مستقره في روما يدير منها تجارة القسم الغربي من الأرض. وكان الآخر قد اتخذ مقامه في قسطنطينية يدير تجارة هذا القسم من أقسام الدولة في بلاد اليونان وتراقيا وما إليها حتى يصل إلى بلاد السيتيين. وكنت أنا قد اتخذت الإسكندرية لي دارا، وكنت من أهلها.
وكانت إلي تجارة الهند وهذه البلاد التي يسكنها البدو، والتي تسير منها القوافل فتخترق الصحراء على ظهور الإبل والتي يسمونها بلاد العرب. وكانت تجارتنا الواسعة تضطرنا إلى علم دقيق بأمور الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وبأمور الأقاليم والأقطار، وما تستطيع أن تعطي وما تستطيع أن تأخذ. وكان هذا العلم يدفعنا إلى نشاط شديد عند رجال المال والزراع، وإلى اتصال شديد برجال الدين والسياسة والحكم. فإما صاحبي في قسطنطينية فقد كان واسع الحيلة حسن المدخل إلى نفوس الناس، حتى استطاع أن يجعل لنفسه في بلاط قيصر مكانا ممتازا. وأستطيع أن أقول: إني جهدت ووفقت في الجهد حتى كان حكام مصر وبطارقتها وقادتها أصدقاء لي، لا يكاد أحدهم يصل إلى الإسكندرية حتى تنشأ بينه وبيني أسباب المودة والألفة، وما هي إلا أن أصبح من خاصته وأصفيائه المقربين. ولم يكن صاحبنا الغربي أقل منا مهارة، ولا أضيق منا حيلة في التعرف إلى من في الغرب من العظماء، والسادة ومن الأشراف والملوك.
وكانت أمورنا تجري على خير ما نحب، إلا من ناحية واحدة كانت تكلفنا عناء وجهدا لا آخر لهما ولا غناء فيهما. وكانت هذه الناحية هي ناحيتي أنا؛ فقد كنا نلقى مشقة وعناء في تدبير تجارة الهند والشرق، لا نستطيع أن نصل إلى مصادرها ولا أن نأخذها من أهلها، لبعد الشقة وضعف الأداة وانقطاع سلطان الدولة عند الصحراء. فكنا نتلقى هذه التجارة كما يتلقاها الناس الآن من هذه القوافل التي تحملها إلينا، فتقطع بها الصحراء وتنفق في ذلك من الجهد، وتحتمل في ذلك من المشقة، وتبذل في ذلك من النفقات، ما يدفعها إلى أن تغالي في البيع، وتشتط فيما تطلب من الربح. وكنا نذعن لشططها كما يذعن الناس الآن؛ لأننا لم نكن نجد كما لا يجد الناس الآن بدا من هذا الإذعان. وكنا نسعى في بلاط قيصر وعند حكام الإسكندرية ونلح في السعي، نريد أن نحمل الدولة على أن تبذل شيئا من الجهد لتبسط سلطاننا على الصحراء أو على البحر، فلم يكن سعينا ينتهي إلى شيء. وإنا لفي ذلك، وإذا فرصة تسنح وظروف تتهيأ، ما كنا لنحسب لها حسابا، وما كان ينبغي لنا أن نهملها وقد سنحت وأمكنتنا من العمل.
أقبلت سفينة البريد ذات يوم من قسطنطينية وفيها رسول أرسله صاحبي إلي ينبئني بأن كتابا ذا خطر قد أرسل إلى الحاكم، ويتقدم إلي
1
في أن أتلطف حتى أعرف من أمر هذا الكتاب ما يعني تجارتنا، وألا أقصر إذا عرفت ذلك فيما ينبغي أن أتخذ من الوسيلة لتستفيد تجارتنا أعظم الفائدة.
فلما قرأت هذا الكتاب عنيت بما فيه، ولم ألبث أن زرت الحاكم، ولم أنصرف عن مجلسه، حتى علمت جلية الأمر، وحتى قدرت لتجارتنا نموا لا حد له. ذلك أن السفينة كانت تحمل إلى الحاكم كتابا من ديوان قيصر، يأمره فيه أن يهيئ أسطولا لا يقل عن مائة من السفن ليبحر إلى بلاد النجاشي، وعرفت أن مصدر هذا الأمر إنما هو اعتداء اليهود في أقصى البلاد العربية على إخواننا في الدين، وتحريقهم بالنار، وأخذهم بألوان العذاب، حتى بلغ الذين قتلوا منهم عشرين ألفا أو يزيدون. وقد لقيت عند الحاكم أخا لنا في الدين من أهل تلك البلاد، قد استطاع أن يفلت من اليهود ومعه مصحف من مصاحف الإنجيل قد مسته النار، فلجأ إلى النجاشي يطلب منه الغوث، وأظهر النجاشي حفيظة وغضبا للدين، ولكنه عجز أن يغيثه؛ لأن جنده على قوته وكثرته لم يكن يستطيع أن يعبر البحر إلا على السفن، ولم يكن عند النجاشي من السفن قليل ولا كثير.
هنالك أرسل النجاشي هذا العربي النصراني إلى قيصر يستنجده ويستعينه، ويطلب إليه السفن لتجيز جيشه إلى عدوة
2
اليمن. ولم يكد قيصر يرى مصحف الإنجيل وقد مسته النار، ولم يكد قيصر يسمع قصة النصارى وقد خددت لهم الأخاديد وحرقوا فيها تحريقا، ولم يكد قيصر يسمع قصة ذلك القديس اليوناني الذي حمل إلى العرب دين المسيح، فذاق في سبيل ذلك الموت محرقا بتلك النار التي حرقت غيره من المؤمنين، حتى ثارت حفيظته وموجدته، وأمر من فوره أن يكتب لحاكم الإسكندرية في تسيير هذا الأسطول مهما يكلفه ذلك من النفقات.
فلما عرفت من الحاكم ومن هذا العربي جلية الأمر لم أطل التفكير، وإنما عدت إلى الحاكم بعد ساعات وقلت له: لا عليك! إني أريد أن أنهض بهذا الأمر، وأن أجد فيه وحدي، وأن أريح الدولة مما قد تتكلف في سبيله من الجند والمال والمشقة. فهذا النجاشي لا يريد إلا سفنا تجيز جنده إلى اليمن، فدعني أهيئ هذه السفن. قال الحاكم وهو يبتسم: لا أرى بذلك بأسا؛ فهو يريح الدولة، وهو ينفعك وينفع صاحبيك؛ فما أرى أن هذه السفن ستعود فارغة، وما أرى إلا أن قوافل الصحراء ستتعب في عبورها إلى الشام في العام المقبل، وما أرى إلا أن أهل البادية سيحسون لذع الجوع. قلت: وإن أهل مصر والإسكندرية سيجدون الثروة والغنى إن وفقنا في هذه الرحلة، وإن أصحاب هذه السفن إن عادت سالمة موفورة. سيعرفون للدولة ورجالها ما ينبغي من الحق قال الحاكم: فهو ذاك.
ولست أستطيع أن أصور لكم تلك الخواطر التي لم تكن تحصى والتي كانت تضطرب في نفسي اضطرابا كاد يذهلها عن كل شيء. فقد كنت أرى نفسي قائدا عظيما على رأس أسطول ضخم، يبعد في البحر ليرفع أعلام قيصر على أرض لم تبلغها جنودنا من قبل. وكنت أرى نفسي سائحا عظيما يسجل في كل يوم ما شهد وما رأى من غرائب البر والبحر، ومن أطوار الناس وضروب الحيوان والنبات. وكنت أقارن بين نفسي وبين إكسينوفون، وأرى أن الكتاب الذي سأكتبه عن هذه الرحلة لن يكون أقل جمالا ولا روعة ولا خطرا من كتاب إكسينوفون بعد أن عاد من رحلته المشئومة. وكنت أرى نفسي ثائرا للدين، منتقما للنصرانية، مؤيدا للمسيح، ظافرا بإكبار القسس والرهبان والبطارقة في جميع أقطار الأرض. ثم كنت أرى نفسي بعد هذا كله مثريا عظيما قد ملك البحر، وقاد مائة سفينة فارغة، ثم عاد بها مثقلة بخير ما تنتج الهند وبلاد العرب السعيدة وبلاد الإثيوبيين من ضروب التجارة والعروض، حتى إذا انتهى إلى مصر نشر تجارته هذه في الشرق والغرب، وغمر الأرض كلها بهذه البضاعة فيسر على الناس من أمرهم كل عسير، وأتاح للأغنياء المترفين والفقراء والبائسين من وسائل الترف واللذة ما لم يكونوا يحلمون به، وربح من هذا كله مالا لم أفكر في إحصائه وتقديره؛ لأن ذلك كان يسلط على رأسي شيئا من الدوار لم أكن أستطيع أن أثبت له.
ومنذ ذلك اليوم أعرضت عن كل شيء إلا تدبير هذه السفن وتهيئتها للرحيل. فما أكثر ما اشتريت من سفن، وما أكثر ما ابتنيت منها، وما أسرع ما بثثت أعواني في أقطار مصر يجمعون لي من أنواع التجارة والعروض ما كنت أريد أن أحمله! فلم تطب نفسي عن ذهاب السفن فارغة إلى بلاد النجاشي. ولم تمض ستة أشهر حتى أقلع الأسطول العظيم بعد أن بارك عليه رجال الدين، وبمشهد حافل من رجال السياسة والأعمال، ومن جماعات الشعب الذين كانوا ينظرون إلينا مبتهجين مستبشرين، والذين لم يملكوا أنفسهم أن دفعوا في الجو صيحة هائلة ملؤها البشر والإعجاب حين اندفعت سفننا تشق عباب الموج. وقضينا في البحر أياما طوالا تطيب لنا الريح أحيانا، وتتنكر لنا فيها أحيانا أخرى. ونحن على كل حال مبتهجون مستبشرون، نستمتع بما نرى من جمال الطبيعة في هذا البحر الذي لم يألفه اليونان، ولم يذلوه لسفنهم بعد.
لست أريد أن أسوأكم بأن أصور لكم حياتي في تلك الأيام التي قضيتها قائدا عظيما للأسطول العظيم، والتي كنت أراها أسعد ما كان ينتظر الإنسان من دهره، فأصبحت أراها الآن أيام شقوة ونقمة وتعس، وأستغفر الله جاهدا مما حملت فيها من أوزار وأثقال. وأعتقد أني مهما أتكلف من مشقة في العبادة، ومن حرمان في ذات الله، فلن أكفر عن بعض ما جنيت فيها من إثم وذنب. وحسبي أن تعلموا أني كنت كغيري من أهل طبقتي ومنزلتي في الإسكندرية وغيرها من المدن التي كانت تزهر فيها الحضارة، ويسود فيها سلطان الفلسفة والعلم، رقيق الدين، قد اتخذت من المسيحية ستارا لا يكاد يخفي ما بقي لي من عادات آبائي الوثنيين. فقد كنت أحب اللذة وأتهالك عليها، وقد كنت أبسط سلطان عقلي على كل شيء، فينتهي بي إلى الشك في كل شيء. وكنت أحب وثنية اليونان القدماء، ولكني لا أؤمن بها، وأتكلف مسيحية اليونان المحدثين، ولكني لا أطمئن إليها. وكنت قد اتخذت لنفسي دينا قد اتخذه أشرافنا وسادتنا لأنفسهم في هذه الأيام. وقوام هذا الدين الشك في كل شيء، والإيمان بإلهين اثنين، هما اللذة والغنى. وعلى اللذة والغنى وقفت حياتي في الإسكندرية، وعلى اللذة والغنى وقفت حياتي حين كنت قائدا عظيما لأسطول عظيم. فكم استصحبت من القيان والمغنين والشعراء والمضحكين؛ وكم حملت من الكتب والنبيذ! وكم أنفقت من الحيلة لأتخذ من ألوان الزهر والشجر ما يستطيع الاحتفاظ بجماله ونضرته على بعد العهد واختلاف الجو والإقليم! وتستطيعون بعد ذلك أن تصوروا لأنفسكم كيف قضيت تلك الأيام الطوال منذ أبحرت من مصر إلى أن بلغت بلاد الإثيوبيين.
هنالك استقبلنا الناس استقبال الفاتحين الظافرين؛ فقد كانوا يتحرقون غيظا على هذا الملك العربي اليهودي ومن حوله من اليهود. وكانت قلوبهم تدمى حزنا على إخوانهم المسيحيين الذين فتنوا عن دينهم، واستشهدوا في سبيل هذا المسيح. ولم تكن النار التي كان يثيرها الغيظ والحزن في صدورهم أقل من النار التي أذكاها ذلك الملك العربي اليهودي وحرق فيها إخوانهم في الدين. وما أظن أن أحدا كره البحر وضاق به، وتمنى لو غار ماؤه والتقى ساحلاه، كما كره أولئك الناس بحرهم ذلك الذي كان يحول بينهم وبين عدوهم من اليهود. على أننا أنفقنا أياما قبل أن نجيز بالجند إلى بلاد العرب؛ فلم يكن بد من أن ألقى الملك وأقدم إليه تحية قيصر وهديته. ولم يكن بد من أن أصرف تجاربي واستوثق لما حملت من العروض.
وما هي إلا أيام حتى كانت السفن قد شحنت بالجند وما يحتاج إليه من عدة وسلاح وفيلة. ولم يكن عبور البحر عسيرا، ولم يكن النزول إلى أرض اليمن شاقا، ولم يحتج الجند إلى كبير قتال؛ فإن الملك العربي لم يكد يرى هذا الجيش الضخم مجهزا بما كان قد جهز به من العدة والسلاح، ولم يكد يرى هذه الفيلة المروعة المخيفة حتى خاف وارتاع، ووجه فرسه نحو البحر فاقتحمه ولم يعرف الناس له خبرا. وتفرق من كان حوله من الجند وعلى رءوسهم أقيال اليمن وأذواؤها. وخلصت الطريق لنا إلى صنعاء، فدخلناها ظافرين ولم نلق كيدا. ولم نستقر في صنعاء حتى وجهنا الجند إلى تلك المدينة الشهيدة فنبلغها بعد أيام ونرى من آثارها وأطلالها ما يمزق الأفئدة ويذيب النفوس.
فما أسرع ما يعمل الجند! وما أسرع ما يسخر اليهود! وما أسرع ما تقام المدينة! وما أسرع ما تقام فيها البيع والكنائس! وما أسرع ما ينادي في الناس أن مدينة المسيح قد ردت إليه وأن أهلها الذين فرقهم الخوف آمنون! وما أسرع ما حمل كثيرون من أهل اليمن على النصرانية حملا! وما أسرع ما دخل كثير من أهل اليمن في النصرانية راغبين أو راهبين! ونعود إلى صنعاء وقد ثأرنا للدين، وأقمنا نجران على خير ما كان ينبغي أن تقام عليه مدينة من المدن.
وأخذت بعد ذلك أفكر فيما ستشحن به السفن من التجارة والعروض وجعلت أتهيأ لذلك وأهيئ له. وتحدثت فيه إلى قائد الجيش فلم يمانعني ولم يأب علي، بل تقدم في ذلك بخير ما أحب. ولكنه طلب إلي ألا أعود بالسفن كلها إلى مصر؛ فقد تطرأ الطوارئ وتعرض الأحداث ويحتاج جند اليمن إلى العبور إلى بلادهم، أو يحتاج أهل الحبشة إلى العبور إلى إقليمهم الجديد؛ فلا بد لهم من سفن وإن تكن قليلة يستعينون بها على مثل هذه الشئون. فدع لنا بعض أسطولك ونحن نعوضك عنه بما شئت من المال والعروض.
وكذلك تم الاتفاق بينه وبيني على أن أنزل له عن ثلث الأسطول وأعود بثلثيه وقد حملتها ما استطاعت حمله من تجارة تلكم الأقطار. ويتم كل شيء، وتقلع سفن الأسطول كلها إلا سفينة القائد العظيم؛ فإنها تنتظر أن أصل إليها لتأخذ طريقها إلى مصر. ولكن حدثا يحدث فيغير كل شيء، ويقطع بيني وبين الأسطول كل سبب، ويصرفني عن التجارة كارها أعواما طوالا. ماذا أقول! بل يصرفني عن نفسي أعواما طوالا. فقد كان قادة الجند منذ استقر لهم الأمر في هذا الإقليم الجديد يختلفون بينهم اختلافا شديدا: أيكتفون بهذا الفتح الذي وفقوا له، وهذا الثأر الذي ظفروا به، فقد أرضوا الملك حين بسطوا سلطانه من وراء البحر، وأرضوا الله حين انتقموا لعباده الشهداء، أم يحملون الناس على دين الملك حملا، ويمحون اليهودية والوثنية من هذه الأرض محوا؟ فأما قائد الجيش أرياط، فقد كان صاحب سياسة وكيد، وكان يرى الرأي الأول، وينظر إلى هذا الإقليم على أنه مستعمرة قد ضمت إلى أملاك النجاشي، فيجب أن تستغل أرضها وأن يستذل أهلها، ويسخروا لخدمة سادتهم الفاتحين. وأما غيره من زعماء الجيش، ولا سيما عظيمهم أبرهة، فقد كانوا أصحاب نسك وطاعة ودين، وكانوا يضعون النصرانية في المكان الأول، ولا يكادون يحفلون بالسياسة واستعمار الأرض. وكانوا يريدون أن يفرضوا النصرانية على اليمن فرضا، وتقدموا في ذلك إلى قائدهم أرياط، فأعرض عنهم وأبى عليهم. وما هي إلا أن ينقضوا عليه الجيش، وما هي إلا أن ينظر الرجل فإذا هو مضطر إلى أن يضرب بعض الحبشة ببعض. ويعجبني أنا ما أرى، فأبقى لأشهد عاقبة هذا الخلاف. ولست أدري كيف استحالت مسيحيتي الدقيقة إلى إيمان قوي متين. والحق أني سألت نفسي فأطلت السؤال عن مصدر هذا التبديل الذي أخذت أحسه منذ وطئت قدماي أرض اليمن. وأكبر الظن أن منظر تلكم المدينة البائسة التعسة، وما كان قد أصابها من الخراب والدمار؛ لأن أهلها ثبتوا على دينهم، ثم ما نالها في وقت قصير من التجديد والعمران؛ لأن قوما آخرين قد أرادوا أن يثأروا لدينهم، أكبر الظن أن هذا كله قد أثار في ضميري على غير شعور مني إعجابا بقوة هذا الإيمان الغريب الذي يحمل ألوفا من الناس أن يستقبلوا الموت ويتهافتوا في النار فرحين مبتهجين كأنهم الفراش، والذي يمحوا مدينة من الأرض محوا، ثم يقيمها رفيعة العماد، شاهقة البنيان، معمورة بالناس. كأن الدهر لم ينلها بمكروه. فانصرفت نفسي شيئا فشيئا عن هذه الحياة التي كنت أكبرها والتي أصغرها هؤلاء المؤمنون. ومهما يكن من شيء فقد أخذت أحس حبا لهذه الأرض الجديدة، وميلا إلى البقاء فيها، عطفا على هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يعلوا كلمة الحق، ويأخذوا الناس بدين المسيح راضين أو كارهين.
وإني لفي هذا كله وقد اشتد الأمر بين الجيشين المختصمين، وإذا رسول أبرهة يقبل على أرياط ليبلغه أن صاحبه يكره أن يقتتل الجيشان وأن تسفك دماء الأبرياء. ويقترح عليه المبارزة، فأيهما ظفر بصاحبه كان الأمر إليه. فيرى أرياط في هذا الاقتراح قصدا ورفقا وإنصافا، فيقبله ويجيب إليه. ويزداد في نفسي الحرص على البقاء لأشهد عاقبة الأمر. وقد شهدتها فأكبرتها: التقى الخصمان وبطش أرياط بعدوه، ولكن الحربة لم تقتله وإنما شقت جبهته وأنفه وشفته. ويسرع عبد لأبرهة فيضرب أرياط فيرديه. وتجتمع الحبشة على هذا الزعيم الذي كان يريد أن يكسب أهل اليمن لدين المسيح.
هنالك وقع في نفسي أن هذه العاقبة ليست من عمل الإنسان ولا من المصادفة، وإنما هي شيء قضاه الله لأمر يراد، فتشتد في نفسي الرغبة في أن أطيل البقاء بهذه الأرض لأشهد الصراع المحتوم بين المسيحية من ناحية، واليهودية والوثنية من ناحية أخرى.
وكنت مع ذلك أنازع نفسي نزاعا شديدا، ولكني لم أكد أتحدث إلى أبرهة حتى استقر رأيي على البقاء، فأرسلت رفيقا لي إلى سفينة القائد ليقدم بالأسطول على مصر، وقد أوصيته، وأحكمت أمري له إحكاما. ثم أبقى لأرى ما كان الله قد قدر لي أن أراه.
وهنا أذن مؤذن أن قد آن لأهل الدير أن يأووا إلى حجراتهم، فتفرقوا، وكم كانوا يودون لو مدت لهم أسباب السمر والحديث.
وأنفق أهل الدير بقية ليلهم بين جاهد في العبادة، ومغرق في النوم وأنفق أهل الدير بياض نهارهم بين مصل لله، ومحسن إلى الناس. فلما جنهم الليل وهدأت من حولهم الأشياء واتخذت الصحراء جلالها الرهيب، عادوا إلى مجلسهم يسمرون، وسألوا صاحبهم أن يتم عليهم ما بدأه أمس من الحديث. فقال: تمت عزيمتي بعد طول التردد والتفكير على الأوبة إلى مصر، وانتصر في نفسي حب الوطن على حب هذه الأرض الجديدة، وظهر في نفسي حب اللذة والغنى على هذا الميل الجديد إلى النسك والجهاد في سبيل المسيح. فأقبلت على أبرهة من الغد أودعه قبل الرحيل. ولكني لم أر قائدا ظافرا، ولا ملكا منتصرا، ولا رجلا يزدهيه الفوز ويحيي نفسه الأمل، وإنما رأيت رجلا متهدما محزونا كئيبا، قد فكر حتى عجز عن التفكير، وقدر حتى أعياه التقدير، فأسلم نفسه لقضاء الله فيه، كأنه الغريق أعيته مكافحة الموج، فاستسلم له وانتظر الموت. ولم أكد أتحدث إليه حتى عرفت مصدر ما هو فيه من هم وغم، ومن كآبة وبؤس فقد كان مستيقنا أنه أغضب الله، وأحفظ الملك، وأساء إلى الناس. ألم يكن قد بغى على قائده واعتدى عليه في غير حق ولا إذعان لما تقدم به الملك إلى الجند من الطاعة لقائده والنصح لخليفته فيه؟ فكيف استباح لنفسه أن ينتصف لرأيه بيده، وأن يفرض هذا الرأي على الجند فرضا، لا يرجع في ذلك إلى أمر من الملك، ولا ينتظر في ذلك رأي الملك بعد أن يرفعه إليه! وكيف استباح لنفسه أن يقتل رجلا من النصارى ويسفك دمه ظلما وبغيا، لا لشيء إلا لأنه لم يوافقه في الرأي، ولم يشاركه في الهوى! وقد كان هذا الرجل مع ذلك نصرانيا مثله يؤمن بالمسيح ويصلي لله، وقد ثأر للدين من عدوه، ورد المطرودين من النصارى إلى وطنهم، فآمنهم وأظلهم بسلطان واسع رفيق من الرحمة والعدل والإنصاف!
ثم هو لم يقف من العدوان والإثم عند هذا الحد، ولكنه ابتهج بما أتيح له من الانتصار والظفر، فلم يكد يرى خصمه صريعا تحت قدميه حتى التفت إلى عبده الذي قتل أرياط شاكرا له، مغرقا في الثناء عليه، قائلا له: احتكم فأنا زعيم لك بكل ما تريد. وقد احتكم العبد، فأسرف على نفسه وعلى مولاه، وطلب إلى سيده أمرا عظيما: طلب إليه أن يحكمه في أبكار اليمن كافة، فلا تزف واحدة منهن إلى عروسها حتى تمر به قبل الزفاف. ولم يشعر أبرهة بعظم هذا الأمر الذي طلبه إليه العبد؛ لأن نفسه كانت ثملة بهذا الفوز، معرضة عن كل شيء غيره، فأجاب العبد إلى ما أراد، ولم يقدر أنه عصى الله بهذا الإثم الذي اقترفه، وأقدم على إذلال أمة لم تعرف الذل، وما كان لها أن تعرفه. ولكن أمر هذا العبد لم يكد يعرف في الناس حتى انتهى إلى نتيجته المحتومة، فلم يحي العبد بعده يوما كاملا: لم يكد يلقاه أول من عرف هذا النبأ من حمير حتى عدا عليه فقتله. فكان أبرهة إذا حين لقيته متعبا مكدودا، مضطرب النفس، حائرا غارقا في ندم عميق. وجعلت أرده إلى نفسه قليلا قليلا، أجد لا في تهوين الأمر عليه فلم يكن أمره هينا ولا يسيرا، بل في التقريب بينه وبين الرشد والصواب، لعله يعود إلى التفكير والتقدير، ولعلي أستطيع أن أعينه على أن يجد لنفسه مخرجا من هذا المأزق الذي اضطر إليه.
فقد كان عظيما حقا أن تذهب كل تلك الآمال والأماني التي ملأت نفس هذا الرجل وأصحابه من قواد الجند، ودفعتهم إلى ما دفعتهم إليه لينشروا كلمة الله، وليديلوا
3
للنصرانية من وثنية الوثنيين، ويهودية اليهود. وما زلت به ألاينه حينا وأخاشنه حينا آخر، حتى هدأت نفسه بعض الشيء، واستطعنا أن ننظر إلى الأمر في روية وتبصر، وأقنعته بأن يبدأ بما لا بد من الابتداء به، فيرضي هؤلاء الناس الذين أحفظهم وأثار في نفوسهم الحمية حين حكم عبدا من عبيده في أعراضهم وكرامتهم. وما هي إلا أن يسمع لي ويقبل رأيي، وإذا هو يدعو إليه من حضره من أشراف حمير، فيعتذر إليهم ويثني عليهم، ويهنئهم بما أظهروا من عزة وإباء للضيم، ويقسم لو قد عرف نية العبد لما حكمه، بل لاكتفى بما يكتفي به الناس في مثل هذه الحال، فأعتق العبد وأغناه ورده إلى بلاد الحبشة راضيا مسرورا. فأما وقد قتل هذا العبد نفسه فلا عليكم ولا علي؛ فقد ظهر لي أنكم أحرار كرام، وسيظهر لكم أني حر كريم، وأن المودة بينكم وبيني لن تسوء، ولكنها ستسركم وتقر أعينكم، وستشعرون بأني لا أملك بلادكم لنفسي ولا للنجاشي مولاي، وإنما أملكها لكم قبل كل شيء، أصلح من أمرها وأمركم مستعينا بكم على هذا الإصلاح، فمن رأى منكم أن يشير علي بشيء فليفعل مشكورا واثقا بأني سأقدر نصحه، وأسمع لمشورته ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
وكان لهذا الكلام اللين الرفيق موقعه في نفوس هؤلاء الأشراف من حمير، الذين كانوا ينتظرون غضب أبرهة عليهم وانتقامه منهم. فلما رأوه ملاينا محاسنا، لاينوه وحاسنوه، وأظهروا ثقة ورضا واطمئنانا، ووعدوا بالنصح له والطاعة لأمره، كما كانوا يفعلون مع ملوكهم من أبناء تبع. وبالغ أبرهة في استرضائهم، فأجزل لهم العطاء، ونظم الصلة بينهم وبينه على خير ما يحبون، ثم خلا إلي فقال: لقد جئتني مودعا فيما أذكر؛ لأنك تريد العودة إلى بلادك؟ قلت: نعم، فقد طالت غيبتي عن الوطن والأهل والمال قال: فإني مع ذلك لن آذن لك في الرحيل. قلت: وما ذاك؟ قال: ذلك أنك رددتني إلى نفسي وأشرت علي فأحسنت المشورة، وما أرى أني أستطيع فراقك منذ اليوم؛ فأنا في حاجة إلى رأيك وتدبيرك ومعونتك لي على ما سيعرض من الخطوب والأحداث، وقد رفعت عني بعض الثقل، وفرجت عني بعض الحرج، وأصلحت ما بيني وبين أهل هذه الأرض. ولكن الملك واجد علي وناقم مني، ليس في ذلك شك ولا ريب ولا بد من أن يصلح ما بيني وبينه على أي نحو من الأنحاء، وليس لي غنى عن نصيحتك قبل أن تستقيم بينه وبيني الأمور. وهبها استقامت على ما أحب وأهوى، فإن بيني وبين نفسي خصومة عنيفة لا أقوى على حملها وحدي؛ فأعفي على نفسي ببقائك معي، فلعلك إن فعلت، أن تعينني على أن أنفق حياتي في إصلاح ما بيني وبين الله، بعد أن أثمت فأسرفت في الإثم، وعدوت فأسرفت في العدوان.
وكنت كلما هممت أن أجيبه مضى في حديثه ملحا فيه، ولم يمكني من الكلام. وكان يقول: لقد أقدمت على ما أقدمت عليه من الأمر وإن في نفسي لآمالا كبارا؛ فلم أكن أريد أن أكسب هذه الأرض وحدها لدين المسيح، وإنما كنت أريد أن أنشر هذا الدين في جميع هذه الأقطار التي لا تصل إليها أيدي الملوك، ولا ينبسط عليها سلطان قيصر وكسرى والنجاشي. فما يمنعك أن تعينني على ذلك، وتشاركني فيما سأبذل فيه من جهد، وما سأحتمل فيه من عناء، وما سألقى عليه من أجر وجزاء؟! وكان يقول: ولست أرى على تجارتك بأسا، وإنما أرى لها الربح كل الربح والنمو كل النمو؛ فما يمنعك أن تقيم هنا حتى تنظم الصلة بين بلادنا وبلادك، فتكسب أنت، ونكسب نحن، ويستفيد الناس جميعا!
كل هذا الحديث المختلف أثر في نفسي وغير رأيي وعزيمتي، وأغراني بالبقاء، وفتح لي أبوابا من الأمل والنشاط لم أقدر قط أني سألجها في يوم من الأيام. فقد رأيتني محتكرا لتجارة الهند وبلاد العرب. ورأيتني وزيرا لملك إلا يكن عظيما الآن، فسيكون عظيما من غير شك بعد وقت قصير. ورأيتني سفيرا مقيما لقيصر عند هذا الملك وعند النجاشي، أستطيع أن أسير سياستهما فيما يرضي مصالح الروم ومرافقهم وتفوقهم السياسي على عدوهم من الفرس. وما هي إلا أن أقبل الإقامة مع أبرهة، ولو إلى حين.
وتمضي أيام، وإذا أنباء النجاشي تصل إلينا مخيفة مروعة. فلم يكد يعلم بما كان من اضطراب الجند وقتل قائده أرياط، حتى أقسم لا يستقر قبل أن يسفك دم أبرهة ويطأ أرضه. ويخلو إلي أبرهة للتشاور والتدبير! فيتفق رأينا على أن نحل الملك من قسمه بحيلة من الحيل، وفن من فنون المكر؛ فإن أفلحنا فذاك، وإلا نصبنا له الحرب وقطعنا ما بينه وبيننا من صلة. وأنى ليده أن تمتد إلينا والبحر بيننا وبينه، والسفن خالصة لنا من دونه؟ ثم يفتصد أبرهة ويضع دمه في قارورة، ويملأ جرابا من تراب اليمن، ويرسل دمه وتراب اليمن إلى الملك معتذرا إليه ما وسعه العذر، مجددا طاعته، مؤكدا وفاءه قائلا: «هذا دمي فليسفكه الملك، وهذه أرضي فليطأها الملك، تحلة من قسمه، وله علي بعد ذلك ألا أورد ولا أصدر إلا عن أمره ورأيه ورضاه!»
وقد أعجبت الملك حيلتنا هذه، فيرضى عن قائده ويقره على عمله، ونفرغ نحن لما كنا ندبر من الشئون. وكانت عظيمة حقا تلك الشئون التي كنا ندبرها. فلم نكن نطمع في أقل من أن ترد إلى بلاد اليمن يمنها القديم، وثراءها الذي بعد صوته في الآفاق، وفي أن نجعلها خالصة للنصرانية، وفي أن تبسط سلطانها على بلاد العرب كافة. وكنت أداعب في نفسي حلما لذيذا، لم يلبث أن أصبح أملا تدفعنا إليه ظروف الحياة دفعا. فقد كنت أفكر في أن أنشر سياسة قيصر وسلطانه مع دين المسيح، وفي أن أصل بين ملك قيصر في الشام وحلفاء قيصر في اليمن، وفي أن أخضع ما بين هذين القطرين من الأرض لسلطان إن لم يكن خالصا لقيصر. فهو شركة بينه وبين حليفه النجاشي؛ وهو على كل حال معين لقيصر على عدوه كسرى. ولم أكن أصارح أبرهة بهذه الأحلام والآمال، حتى اضطرتني الظروف إلى أن أصارحه بها ذات يوم، حين أقبل السفراء من عند كسرى فأنبئوا بأن الحرب قد شبت بين الفرس والروم وطلبوا إلى أبرهة أن يعين على الروم بما يملك من قوة وتأييد. هنالك صارحت صاحبي، ولم أجد مشقة في إقناعه برأيي وحمله على ما كنت أريد. ألم يكن يجمع بيننا وبينه الدين!
على أننا فرغنا قبل كل شيء لأمور اليمن، فجددنا من عماراتها المتداعية، وأقمنا سدودها المتهدمة، ونظمنا مجاري الماء فيها تنظيما حسنا، واجتهدنا في نشر الدين ما وسعنا ذلك، لا نشق على الناس ولكن نأخذهم باللين والرفق، وأقمنا كنيسة في صنعاء لم يعرف أهل هذه البلاد مثلها ضخامة وفخامة، وجلالا وجمالا وزخرفا: جلبنا لها المرمر من أطراف الأرض، ودعونا لها العمال من قسطنطينية، وحليناها بالذهب والفضة والجوهر، وحرقنا فيها من الطيب والبخور ما كان ينتشر عرفه إلى أماكن بعيدة حول صنعاء، ورتبنا لها القسس والأحبار، ورغبنا الناس في أن يختلفوا إليها ويصلوا فيها. وقدرنا أن نقيم أمثالها في أماكن مختلفة من هذه البلاد. ولكن العرب أهل وثنية ولجاج في الوثنية، كانوا يكبرون من أمر أبرهة ويعظمون سلطانه ويبتغون عنده المعروف، ولكنهم كانوا يكرهون دينه وتأبى نفوسهم الاستجابة له. وكان الذين يختلفون إلى كنيستنا قليلين مهما يكثروا، وكانوا جميعا من ضعفاء الناس وفقرائهم وأصحاب الحاجة منهم. على أننا لم نستيئس وأخذنا نهيئ أمورنا ونرغب الوفود في طاعتنا؛ حتى لقد دعا أبرهة إليه عظيما من عظماء العرب في هذا الإقليم الذي يسمونه تهامة، فأكرم مثواه وأعظم أمره، وتوجه ملكا على قومه، ورده عزيزا مكرما.
وفي ذات يوم رفع إلى أبرهة أمران ضاق بهما أشد الضيق، وخرج لهما عما قد ألف من الحلم والأناة. أصبح سدنة الكنيسة فرأوا أنفسهم أمام أمر عظيم: رأوا كنيستهم قد لطخت بالقاذورات، وألقيت فيها الجيف، وانتهكت حرمتها، فثاروا بذلك ورفعوه إلى أبرهة، وزعموا له أن هذا الإثم لا يمكن أن يجنيه إلا رجل من هؤلاء العرب الذين يأتون من تهامة، حيث يقوم لهم بيت هناك يقدسونه ويحجون إليه يسمونه الكعبة، والعرب كلها تحج إليه وتعظم أمره، وتعظم الذين يعيشون حوله من هذا الحي الذي يسمى قريشا، والذي يتجر بين بلادنا وبلاد الشام.
فلما سمع الملك ذلك غضب أشد الغضب، وأقسم ليهدمن هذا البيت وليحملن العرب على أن يحجوا إلى كنيسته بالسيف، بعد أن أعياه حملهم على ذلك بالرفق واللين. ولم يكد النهار يتقدم حتى رفعت الأنباء إلى أبرهة بأن أهل تهامة قد قتلوا ذلك الرجل الذي أرسله إليهم ملكا، فطار طائره، وثار ثائره، وأذن من فوره بالتجهز للحرب والاستعداد للرحيل، وأرسل إلى النجاشي ينبئه بذلك، ويسأله أن يمده بالجنود والفيلة. وما هي إلا أيام حتى تهيأ له جيش ضخم قوي، وحتى فصلنا عن صنعاء يملؤنا الأمل وتزدهينا الكبرياء. وكنت أتحدث إلى أبرهة بأننا سنقطع هذه الطريق على طولها في غير مشقة ولا جهد، وبأننا سنصل بين الشام واليمن، وبأني سأستقبله ضيفا في بلاد القيصر، كما استقبلني ضيفا في بلاد النجاشي. وكان جيشنا يعظم ويضخم كلما تقدمنا في الطريق بمن كان ينضم إلينا من أذواء اليمن وأقيالها.
ولكن طريقنا لم تخل مع ذلك من العقاب،
4
ولم تكن أمنا كلها، فقد نصب لنا الحرب جماعة من أقيال اليمن على رأسهم رجل يقال له ذو نفر، غيرة على وثنيتهم، وحفيظة لبيتهم ذلك، ودفاعا عن حلفائهم من قريش، ولكنا هزمناهم في غير مشقة، وأخذنا رئيسهم أسيرا. وهم الملك أن يقتله، ثم رق له وعفا عنه، واستبقاه في أسره. ومضينا أمامنا لا نلقى كيدا حتى كدنا نبلغ تهامة اليمن، وإذا حي من أحيائها قوي عظيم البأس مسلط على الأرض، متحكم في الطريق وفي القوافل التي تقطعها، يقال له خثعم، قد جمع لحربنا، وغره عدده فخيل إليه أنه سيقهرنا كما تعود أن يقهر الناس من قبل. ولكنا قهرناه في أقصر وقت وأيسر جهد؛ وأخذنا رئيسه رجلا يقال له نفيل بن حبيب أسيرا. وهم الملك أن يقتله ولكنه استعطف وغلا في الاستعطاف حتى ظفر بعفو الملك، وتقدم مع الأدلاء ليسلكوا بنا طريق هذا البيت الذي كنا نقصد إليه. ونمضي في طريقنا لا نلقى كيدا، وقد هابتنا العرب وخلت لنا الطريق، وأعظمت أمرنا إعظاما. حتى إذا دنونا من مكة، وبلغنا مدينة عظيمة هناك يقال لها الطائف؛ تقوم على مرتفع من الأرض عظيم، ومن حولها النخيل والكروم والحدائق فيها أنواع الفاكهة والثمر، كأنها مدينة من مدن الساحل الشامي قد نقلت إلى تلك الأرض المقفرة المجدبة فأقامت فيها مشرقة زاهية كأنها الابتسامة الجميلة في الوجه المظلم الكئيب، خرج إلينا هنالك أهل هذه المدينة فقدموا الطاعة وأظهروا الخضوع، وبعثوا معنا رجلا منهم يسلك بنا إلى مكة أقرب طريق. ونمضي أمامنا حتى نبلغ مكة، فينيخ الجيش ليستريح قبل أن يأخذ في الهجوم.
ويأتي سفراء القبائل إلى الملك من كل مكان يقدمون إليه طاعتهم ويعرضون عليه ثلث أموالهم، ويطلبون إليه أن يدع بيتهم هذا لا يمسه بسوء، فلا يسمع الملك منهم ولا يحفل بهم. ثم يرسل الملك طلائعه فتغير على ما حول مكة من الأرض وتستاق كل ما تجد فيه من مال. حتى إذا كان الغد أرسل الملك جماعة من أصحابه إلى مكة وكلفهم أن يسألوا عن سيدها وعظيمها؛ فإذا لقوه أنبأوه بأن الملك لا يريد قتالهم ولا حربهم، وإنما يريد أن يهدم هذا البيت، فإن خلوا بينه وبين البيت فهم آمنون، وإلا فليأذنوا بحرب تسحقهم سحقا. وأمر الملك سفراءه أن يأتوا بعظيم قريش إن أظهر الموادعة والميل إلى السلم. ويمضي السفراء ثم يعودون ومعهم رجل عظيم، وسيم وجسيم، لم أر قط أجمل منه، ولا أملأ للعين، ولا أوقع في القلب، ولا أشد مهابة وجلالا. حتى إذا بلغوا سرادق الملك دخلوا يستأذنون له. ويسأل الملك عنه فيقال له: هذا عبد المطلب سيد قريش وصاحب عيرها، أعظمها شرفا، وأعلاها مكانة وأكرمها نفسا، وأسخاها يدا، يطعم الناس في السهل ويطعم الوحوش في رءوس الجبال. وكنت عند الملك حين أدخل عليه هذا الرجل، ورأيت الملك ينظر إليه فيكبره ويعظمه، ويلقاه بالتجلة والكرامة، ويهم أن يجلسه معه على السرير، ولكنه يشفق أن تنكر الحبشة ذلك، فينزل عن سريره ويجلس مع هذا الرجل على البساط. ثم يكلف الترجمان أن يسأله حاجته. فما أشد ما عجب الملك حين فسر الترجمان له جواب سيد قريش. قال: حاجتي أن ترد إلى مائتين من الإبل أخذتها طلائعك فيما أخذت أمس من المال. قال الملك مستهزئا: لقد أعظمتك حين رأيتك، فإني لأصغر من شأنك الآن. لقد كنت أظن أنك ستحدثني في بيتك هذا الذي أريد أن أهدمه، والذي هو دينك ودين آبائك، وشرفك وشرف آبائك، فإذا أنت تحدثني في مائتين من الإبل! قال سيد قريش في صوت الهادئ الواثق المطمئن: أنا رب الإبل، فلأحدثك فيها، فأما البيت فإن له ربا سيمنعه. قال الملك: لن يمنعه مني. قال سيد قريش: فأنت وذاك. وأمر الملك أن ترد إلى الشيخ إبله، فردت إليه .
ولكني تبعته لأرى ما يكون من شأنه، فإذا هو لا يقبض هذه الأبل إلا ليرسلها هديا إلى هذا البيت، الذي لم يرد أن يتحدث إلى الملك فيه. ويمضي هذا الشيخ إلى قومه من قريش، فيأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب وعلى رءوس الجبال هربا من الملك، وإشفاقا من معرة الجيش، ويقوم أمام بيته هذا الذي يعظمه وقد أخذ بحلقة بابه، ومن حوله نفر من قومه ويقول كلاما حسن الانسجام شديد الوقع في النفس، سمعته فأحببته ولكني لم أفهمه، على أني كنت قد أخذت أحسن هذه اللغة. ثم يرسل حلقة الباب، ويمضي مع من كان يصحبه من قومه فيحتضن في شعب من الشعاب. وأنظر أنا إلى هذه المدينة فإذا هي قد خلت من أهلها، وقامت بيوتها هادئة ساكنة، يظلها حزن عميق فيه هيبة وجلال. قامت يظلها هذا الحزن، ولكني لم أكن أرى في هذا الحزن خوفا ولا إشفاقا من معاول الهادمين. وأصبحنا وقد أمر الملك بدخول المدينة، فيهم الجيش أن يتحرك وفي مقدمته فيل عظيم، ولكني أرى دليلنا نفيل بن حبيب الخثعمي يدنو من الفيل فيأخذ أذنه ويسر فيها كلاما، ثم يرسلها ويشتد هاربا في الجبل.
وتثير حركة هذا الرجل في نفسي شيئا من العجب، فما علمت أنه يعرف منطق الفيلة، وما علمت أن الفيلة تعرف منطق العرب. عجبت، وليت عجبي لم يتجاوز هذه القصة، ولكني رأيت بعد ذلك ما يقضي على كل عجب: رأيت بعد ذلك أشياء ما قدرت قط أنني سأرى بعضها. رأيت بعد ذلك أشياء وددت لو لم أرها قط.
وإني على ذلك لسعيد أشد السعادة، مغتبط أشد الغبطة لأني رأيتها، فهي التي هدتني إلى الحق، وهي التي كشفت عن نفسي الغطاء. رأيت الفيل قد برك، حتى إذا دنا منه ساسته لينهضوه نهض معهم، حتى إذا وجهوه إلى مكة برك من جديد. ويجد ساسته بعد ذلك في إنهاضه فلا يبلغون منه شيئا، يحثونه ويؤذونه ويضربونه، ويبلغون به أقصى ما يهيج الفيل فلا ينهض ولا يهم بالنهوض. حتى إذا أداروا رأسه نحو الشام أو نحو اليمن أو نحو الشرق نهض ومضى مهرولا، فإذا أداروا رأسه نحو مكة برك ولم يتقدم أمامه إصبعا. ونحن ننظر إلى هذا وقد ملأنا العجب وأخذ الدهش من نفوسنا كل مأخذ، وبدأ الخوف يلعب بقلوبنا، وبدأ الذعر يطلق بعض الألسنة بالرغبة عن دخول المدينة والانصراف عن هذا البيت. وإنا لفي ذلك ننظر إلى الساسة وهم يعالجون الفيل، وإذا الجو يظلم شيئا فشيئا، وإذا سحاب كثيف يبدو لنا من بعيد، قد أقبل إلينا مسرعا من ناحية البحر، فلا نكاد نطيل النظر إليه حتى نتبين، ويا هول ما نتبين! لسنا نرى سحابا كالسحاب، ولا غماما كالغمام، وإنما نرى سحابا حيا يخفق بأجنحته خفقا، ويبعث منظره في نفوسنا روعا يخرجنا عن أطوارنا وينتهي بنا إلى شيء يشبه الذهول. إني لأرى الآن السحاب حين كان يقبل علينا أسرابا من طير صغار، لها مناقير الطير وأكف الكلاب؛ حتى إذا دنت منا أخذت تحصب الجيش بحجارة دقاق كانت تحملها في مناقيرها وأرجلها. ولم تكن هذه الحجارة تبلغ دقة العدسة ولا عظم الحمصة، وإنما كانت شيئا بين بين، وكانت على دقتها لا تمس شيئا إلا هشمته تهشيما، ولا تمس رجلا إلا ألقته صريعا. وسلوا ما شئتم عن خوف الخائفين وذعر المذعورين، وانصراف أصحاب الفيل عن الفيل، وتحول الجيش عن مكة إلى غيرها من الوجوه جادا في الهرب، وهذه الأسراب من الطير تتبعه، تحصبه بهذه الحجارة، وتملأ الجو من حوله بصياح مخيف.
ولست أدري كيف انتهى أمرنا، ولا كيف نجونا من هذه الطير. ولكني أراني مجدا في الهرب، ومن حولي قوم يجدون مثلي في الهرب وقد حملوا رجلا مريضا سيئ الحال. حتى إذا انقطعت أصوات الطير، ونظرنا فلم نر في السماء شيئا، أخذت أسأل عن نفسي وعمن حولي وعن الجيش، وأخذت أسأل عن هذا المريض الذي أراه محمولا يتأذى، فإذا هو أبرهة، قد مسه حجر من تلك الحجارة فصرع، وظهر على جسمه بلاء عظيم، وأخذت أجزاء جسمه تتساقط قليلا قليلا، لا يسقط جزء منها إلا تبعه صديد منكر قبيح. كم تأذى هذا الرجل! وكم احتمل من ألم في نفسه وجسمه! وكم ذاق من مرارة الندم ولذع الحسرة واللوعة! إني لأراه حين بلغنا صنعاء، وأدخل إلى قصره ليمرض فيه وقد هزل ومسه الضر، حتى لكأنه فرخ من فراخ الطير. على أن حياته لم تمتد في قصره، وإنما ألح الألم عليه إلحاحا شديدا. وأقبل أحد بنيه صباح يوم فنعاه إلي فلما سألت كيف مات، علمت أن صدره انفجر عن قلبه انفجارا.
وكان حديث الشيخ قد ملك على هؤلاء السمار نفوسهم وقلوبهم، فأغرقوا في شيء من الوجوم لم يحسوا معه أن صاحبهم قد قطع الحديث واندفع في تفكير عميق بعيد. ولست أدري كم أنفقوا من الوقت في هذا الوجوم الصامت، ولكني أعلم أن رجلا منهم شابا لم تكن قد تقدمت به السن بعد، خرج من هذا الصمت وأخرجهم منه حين قال بصوت متهدج تقطعه العبرات تقطيعا: إن لهذا البيت في مكة شأنا! قال الشيخ: نعم! إن لهذا البيت في مكة لشأنا، وإن هذا الشأن هو الذي اضطرني إلى أن أعود من اليمن مسرعا ما وسعتني السرعة، حتى أبلغ مصر وأنتهي إلى الإسكندرية. وأقسم ما حفلت بأهلي ولا بوطني ولا بشركائي في التجارة، ولا أتحت
5
لأحد منهم أن يسألني من أمري عن قليل أو كثير، وإنما فرقت فيهم مالي تفريقا، وحملت منه ما استطعت حمله، ومضيت إلى الشام يحسبني الناس تاجرا يبتغي الربح، وإنما كنت سائحا أبتغي هذا الدير لأدخله، فأخرج من الحياة ولذاتها، ومالها وغرورها، وأفرغ للعبادة وطاعة الله.
وإني لأرجو لو امتدت بي الحياة أن أعود إلى هذا البيت في مكة، لا غازيا ولا باغيا ولا قاصدا إلى شر، بل تائبا ثائبا منيبا مستغفرا من هذا الإثم الذي شاركت فيه. وإلى أن يتيح الله لي هذه الأوبة إلى مكة، إن كان قد قدر لي أن أراها مرة أخرى، فسأقيم معكم ألقى من تلقون من هؤلاء الذين يأتون من مكة ويعودون إليها، فأتحدث إليهم وأسمع منهم، وأنالهم بما أستطيع أن أنالهم به من إحسان.
وأذن مؤذن أن قد آن لأهل الدير أن يأووا إلى حجراتهم؛ فتفرقوا وما في نفوسهم رغبة في سمر ولا ميل إلى حديث، وما منهم إلا من يفكر في هذا البيت الذي أحجم عنه الفيل، ورجمته طير أبابيل، ترمي عدوه بحجارة من سجيل، فإذا هم كعصف مأكول.
الفصل الحادي عشر
اليتيم
قضى أهل مكة أيامهم فرحين مبتهجين، يملؤهم الفخر، ويزدهيهم النصر، ويتحدثون بحديث الفيل إذا أضحوا، ويتذاكرون انهزام الحبشة إذا أمسوا، حتى كاد يشغلهم ذلك عن تجارتهم ويصرفهم عن مرافقهم. وتسامعت العرب بهذه الآية الكبرى التي أظهر الله بها كرامة هذا البيت، ورفع الله بها مكانة الذين يقومون حوله من قريش! فازداد العرب لقريش حبا وإكراما، وأخذت تستوثق الأمور لأهل مكة على من دنا منهم أو نأى عنهم في تهامة ونجد والحجاز. ولكن شيخا من قريش لم يشغله فخر، ولم يزدهه نصر، ولم تصرفه أحاديث الناس من حوله عن حديث نفسه المتصل وحزنها المقيم! وهو عبد المطلب بن هاشم.
ولكن امرأة من قريش لم يأخذها عجب ولم يملكها تيه، ولم تشارك نساء قريش فيما كن يتخذن من زينة، وينصرفن إليه من لذات الحياة، إنما كانت تؤثر العزلة وترغب في الخلوة إلى نفسها، تتحدث إليها وتسمع منها، لا تجد في هذا الحديث حزنا صريحا ولا سرورا صريحا، وإنما هو شيء بين بين: فيه راحة من لذع اليأس، وفيه صارف عن نشوة الأمل! وهي آمنة بنت وهب.
كان الشيخ يذكر ابنه فيشغله الحزن الممض العميق عما كانت فيه قريش من بهجة وسرور، ومن غبطة وحبور. وكان الشيخ يفكر في قصة الفيل وانصراف المغيرين عن مكة، ثم يرى فخر قريش وتمدحها واستعلاءها على العرب، فيبتسم في نفسه ساخرا منها عاطفا عليها. فلم تصنع قريش شيئا إلا أنها لاذت بشعاف
1
الجبال، وفرت إلى حيث كانت تهيم الوحوش، وخلت بين طاغية الحبشة وبين البيت. فلم تردده إذا، ولكن الله رده، ولم تحطمه إذا ولكن الله حطمه. وهي على ذلك تفاخر وتكاثر، وهي على ذلك تستكبر وتستعلي. وكذلك الإنسان يغره بنفسه الغرور، فيضيف إليها ما لم تفعل، ويحمل عليها ما لم تأت من الأمر.
كان الشيخ يسخر في نفسه من قريش، ويعطف في نفسه على قريش، يلتمس لها المعاذير في هذا الضعف الذي يصيب الناس فيخدعهم عن أنفسهم ويكبرهم في أعينهم، ويخيل إليهم أنهم شيء، وما هم بشيء أمام هذه القوة القاهرة التي تغلب ولا تغلب، والتي تقهر ولا تقهر، والتي لا تريد إلا بلغت ما تريد. هذه القوة التي أخرجت من البحر طيرا لم يرها الناس من قبل، فسلطتها على جيش لم ير الناس مثله من قبل، فما هي إلا أن حلقت فوقه ساعة من نهار حتى انهزم وانحطم، وأصبح كعصف مأكول، وسلم البيت من عادية المعتدي، وأمن البيت من طغيان الطاغية.
هذه القوة التي ظن هو أنه قد استنقذ منها ابنه فحماه من الموت، وضمن له حياة كحياة الرجال: فيها ما في حياة الرجال من سعادة وشقاء، ومن راحة وتعب، ومن جد وسعي، ومن اضطراب بين اليمن والشام، ومن استقرار في الظواهر والبطحاء. ألم يصارع الموت عن ابنه صراعا! ألم يشتر ابنه من القضاء شراء! فما هذا الجهاد بالقداح بينه وبين القضاء المسلط! يفادي ابنه بالإبل فيشتط عليه القضاء ولا يرضى حتى يبلغ المائة. وفيم كان انتصاره؟ وفيم كان ابتهاج بني هاشم؟ وفيم كان ابتهاج قريش بانتصار الحياة على الموت، وإفلات الشباب من مدية المضحي؟
وكان الشيخ يضحك في نفسه ضحكا حزينا يوشك أن يكون يأسا مهلكا وثورة جامحة، لولا أنه كان ذا قلب تعلم كيف يطمئن للأحداث ويذعن للخطوب، ويصبر على النائبات. كان الشيخ يضحك في نفسه ضحكا حزينا حين كان يفكر في غرور قريش، وتقديرها أن الله قد رد طاغية الحبشة، وأرسل عليه وعلى جيشه ما أرسل من الطير الأبابيل، تكريما لها وإيثارا؛ وحين كان يفكر في غروره هو حين كان يقدر أن الله قد أنقذ ابنه من مديته وفداه بمائة من الإبل إيثارا له بالعافية ، واختصاصا له بالكرامة. كلا! كلا! لم يهزم الفيل وأصحاب الفيل إكراما لقريش، وإنما هي آية أجراها الله لأمر يعلمه هو، ولا يعلم الناس منه شيئا. ولم ينقذ الله عبد الله من الموت ويفاده بمائة من الإبل إكراما له أو إكراما لأبيه، وإنما أنقذه من الموت وفاداه بالإبل لأمر يريده هو، ولا يعلم الناس منه شيئا. وإلا ففيم نجا هذا الفتى من الموت ليموت بعد ذلك بقليل! أليس غريبا أن ينجو من الموت فيتخذ له زوجا لا يقيم معها إلا وقتا قصيرا، ثم يفارقها كما يفارق الناس أزواجهم ليعود إليها كما يعود الناس إلى أزواجهم، ولكن رفاقه يعودون وهو لا يعود، إنما يتخلف في يثرب ليموت عند أخواله من بني النجار؛ وقد عرفت زوجه بعد أن ارتحل عنها أنه قد حملها أمانة ما زالت تحملها في جوانحها، حتى إذا جاء أمر الله أدت هذه الأمانة. ومن يدري! لعل عبد الله لم يوجد إلا ليودع هذه الأمانة عند زوجه! ومن يدري! لعل آمنة لم توجد إلا لتؤدي هذه الأمانة إلى الناس!
وكان الشيخ إذا فكر في هذا كله، لم يملك نفسه أن يرى ابنه شديد النشاط، عظيم القوة، رائع الشباب، بارع الجمال، يستقبل السفر بأمل لا حد له؛ ثم يراه نحيلا، هزيلا، شاحبا، متهالكا، محزونا، يمرض على فراشه عند بني النجار؛ ثم يراه وقد دنا منه الموت مكابرا مكاثرا، فاستله من الحياة أو استل الحياة منه، كأنما يثأر لنفسه من تلك الهزيمة التي أصابته يوم الفداء. فكان الشيخ يستسلم لحزن عميق لا يخرجه منه إلا اضطراب الناس من حوله، وإلحاح الناس عليه، وفيهم أبناؤه وبناته، فيما كان يشغلهم من الأمور.
وكانت آمنة ترى نساء قريش ونساء بني هاشم من حولها، يبسمن للأيام ويبتهجن للحياة، فيعجبها ذلك منهن، ولا يداخلها حسد لهن أو ميل إلى مشاركتهن. كانت تحس إحساسا قويا، ولكنه غامض، بأن الأيام قد وفتها حظها من الغبطة وقسطها من النعيم في ذلك الوقت القصير، الذي قضته مع زوجها منذ لقيته بعد الفداء إلى الرحيل. وكانت تريد أن تسعد بالتفكير في هذا الجنين الذي تحسه يضطرب في أحشائها، ولكنها لا تلبث أن تذكر زوجها، وأنه قد حرم السعادة بهذه النعمة، فتكره أن تستأثر من دونه بالخير، وتتحدث إلى نفسها بأن الاستمتاع بالأبناء والبنات لذة لا يستبد بها الفرد، وإنما هي مشتركة بين اثنين، فإذا ذهب أحدهما ثقلت على الآخر وشق احتمالها عليه وكانت له مصدر ألم وحزن. ولكنها مع ذلك لم تكن تجد هذا الألم الممض الذي كانت تقدره وتنتظره، كأنما خلقت نفسها مذعنة، وكأنما فطر قلبها على الرضا، وكأنما استيقنت أن حياة الأحياء عبء يجب أن يحمل، رضي الناس أو سخطوا، وأن احتماله مع الرضا والاطمئنان خير من السخط الذي لا يجدي، والثورة التي لا تفيد.
على أن الأيام لم تكن تتقدم بآمنة نحو ذلك اليوم المشهود، حتى يغمرها شيء يشبه نسيان النفس والانصراف عن الشعور الواضح بالحياة والتفكير الجلي فيها. وكانت تنفق نهارها ذاهلة أو كالذاهلة، وتنفق ليلها في نوم هادئ حلو الأحلام. وما أكثر ما كان يزورها من حلم؛ وما أكثر ما كان يلم بها من طيف! وما أكثر ما كان يلقي إليها من حديث! حتى إذا كانت ذات ليلة تتهيأ للخروج من ذهول النهار والدخول في هدوء الليل، أحست بعض ما يحس النساء حين يدنو منهن المخاض.
هنالك دعت إليها من حضرها من نساء بني هاشم، فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالي، أنكرن فيها كل شيء وأعجبن فيها بكل شيء. أنكرن حتى أنفسهن؛ فقد رأين ما لم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد. ولم تكن آمنة أقلهن إنكارا وإكبارا وإعجابا؛ فقد كانت ترى، وهي يقظة غير نائمة، أن نورا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها ويزيل الحجب عن عينها. وكانت تنظر فترى قصور بصرى في أطراف الشام. وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى
2
في أقصى الصحراء. وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون. وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شيء حتى تراه نورا كله لا ظلمة فيه، وإنما هو مشرق مضيء، أو هو الإشراق الخالص. وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليها.
وكانت هذه الأخرى من صاحباتها ترى ظلمة مظلمة قاتمة، وتأخذها رعدة قوية ناهكة، ويلم بها شيء كأنه النوم، تسمع أثناءه صوتا مهيبا رهيبا يسأل: إلى أين ذهبت به؟ فيجيبه صوت مهيب رهيب: إلى المشرق. ثم ينجلي عنها ما ألم بها فتفيق. ثم يعاودها ما كانت فيه، فإذا ظلمة قاتمة، وإذا رعدة قوية ناهكة، وإذا غاش يغشاها كأنه النوم، وإذا هي تسمع الصوت المهيب الرهيب يسأل: أين ذهبت به فيجيبه صوت مهيب رهيب: إلى المغرب. ثم ينجلي عنها ما هي فيه فتفيق.
وكذلك لم تدن السماء من الأرض كما دنت في هذه الليلة. وكذلك لم ير الناس من الأعاجيب كما رأى هؤلاء النساء في هذه الليلة. ولم تكن آمنة على هذا كله تجد ألما قليلا أو كثيرا، إنما كشف عنها كل حجاب، ورفع عنها كل غشاء، وخلي بينها وبين عالم من الجمال الذي يرى ومن الجمال الذي يسمع لا عهد للناس بمثله. ثم ترى ويرى صاحباتها كأن شهابا انبعثت منها فملأ الأرض من حولها نورا يبهر الأبصار، ثم ترى فإذا ابنها قد مس الأرض يتقيها بيديه رافعا رأسه إلى السماء محدقا ببصره إليها كأنما يلتمس عندها شيئا. ثم تسرع صاحباتها إليه وإليها ليؤدين له ولها ما تحتاج إليه الأم حين تمنح الحياة، وما يحتاج إليه الابن حين يستقبل الحياة، فإذا هي لا تحتاج إلى شيء، وإذا هو لا يحتاج إلى شيء، وإذا هن يتناولن أجمل صبي، وأروع صبي، وأبرع صبي، وإذا قلوبهن قد امتلأت بأن الأرض قد استقبلت وليدا لا كالولدان.
ثم يشرق الفجر وتبسط الشمس رداءها النقي على بطحاء مكة وما يحيط بها من الجبال، ويرتفع الضحى، ويضطرب الناس في أمورهم وقد قضوا ليلا جاهلا غافلا، لم يشعروا فيه بشيء، كأن لم يكن فيه شيء. ولو قد كشف عنهم الغطاء، ولو قد أزيلت عن قلوبهم الحجب لرأوا وسمعوا. ولكن الله قد جعل لكل شيء قدرا؛ فهو يظهر آياته لمن يشاء، ويخفي آياته على من يشاء. وعبد المطلب جالس في الحجر وحوله أبناؤه وجماعة من قريش، قد أخذوا فيما كانوا يأخذون فيه من حديث. وهو يسمع إليهم بأذنيه ويعرض عنهم بنفسه، يفكر في فقيده الذي لا يستطيع أن ينساه. وإنه لفي ذلك وإذا البشير يقبل عليه مسرعا، حتى إذا انتهى إليه حياه وقال: لقد ولد لك غلام، فهلم فانظر إليه؛ فلا يسمع هذه البشرى حتى يحس أن الله قد أخلفه من فقيده ورفق به في مصابه، وادخر له عزاء عن محنته. فيسأل: أهو ابن عبد الله؟ فيجيبه البشير نعم. فينهض مسرعا وينهض معه بنوه، ويمضون لا يلوون على شيء حتى يبلغوا بيت آمنة. فإذا دخل الشيخ ورأى الغلام أحس كأن الله قد أنزل على قلبه السكينة وجلا عن قلبه الحزن، ورده إلى غبطة وسرور بعد عهده بهما.
ثم يسمع حديث النساء فلا ينكر منه شيئا، كأنما كان ينتظره، وكأنما كان منه على ميعاد. ثم يرفع الصبي إليه فيقبله ويقول: لأسمينه محمدا. قالت آمنة: لقد أتاني في النوم فأمرني أن أسميه أحمد. قال عبد المطلب: فهو محمد وهو أحمد، وما أرى إلا أنهما بعض أسمائه.
قلت لمحدثي: فقد زعموا أن عبد المطلب خرج بعد ذلك فنحر الإبل لأهل مكة، ونحر الإبل لأهل الشعاب، ونحر الإبل على رءوس الجبال، ليطعم الناس وليطعم الوحش. قال: وهل كان عبد المطلب إلا نعمة للناس ونقمة على الإبل!
ولكن عبد المطلب لم يفرغ من شأنه ذاك، ولم يعد إلى المسجد مع العصر، حتى رأى أندية قريش متجمعة فيه، تلهج كلها بحديث غريب ونبأ طريف! أذاعه في مكة رجل من أهل الظواهر، فشغل به الناس وتناقلوه. وكان هذا الرجل طلبة أهل المسجد، ينتقل بحديثه من ندي إلى ندي، فلا يكاد يتم حديثه إلى قوم حتى يدعوه إليهم قوم آخرون ليسمعوا منه ويسألوه. وكان يستجيب لمن يدعوه، ولا يزهد في أن يعيد قصته مرة ومرة، وكأنه قد أحس لنفسه خطرا، وكأنه قد رأى نفسه مطلوبا بعد أن لم يكن من قبل إلا طالبا، وكأنه قد كبر في نفسه، فكان يقول ويطيل في القول، وكان يفصل ويغرق في التفصيل. وكانت أفناء قريش تسمع له، فمنها من يعجب، ومنها من يرتاع، ومنها من يلقى الحديث بالإغراق في الضحك، ومنها من يلقى الحديث بهز الرءوس.
وكان هذا الرجل يقص قصصه فيقول: ما كنت أعلم أن لليل أسرارا ليست للنهار. وما كنت أعلم أن للصحراء أنباء ليست للمدن والأرض العامرة. وما كنت أحسب أن في هذا الهواء الذي نتنسمه وفي هذا الفضاء الذي يحيط بنا أرواحا تتناجى، وأحياء تتجاذب الحديث، حتى رأيت ما رأيت، وسمعت ما سمعت، فتبينت أن حياتنا غرور، وأن علمنا جهل، وأن أحاديثنا لهو وهراء. والناس يتعجلونه فيقولون له: هات ما عندك من النبأ، حتى إذا فرغت من قصته فقل ما شئت، وهو يقول: لقد جنني الليل، وإني لفي طريقي من الطائف إلى مكة فلا أحفل بذلك ولا آبه له، ولا أفكر في أن آوي إلى حي من هذه الأحياء التي تنتشر بيوتها في الطريق لأنتظر مشرق الشمس، ولكنني أمضي أمامي لا ألوي على شيء ولا أرهب شيئا، وماذا أرهب والطريق آمنة واضحة يسلكها الناس إذا أصبحوا، ويسلكونها إذا أمسوا، يسيرون فيها مع ضوء النهار، ويسيرون فيها مع ظلمة الليل؛ قد عرفوها فهم لا يحتاجون إلى مرشد ولا دليل. فأمضى أمامي مجدا في السرى، أريد أن أفجأ أهلي مع الصبح. وإني لفي بعض الطريق وقد سكن من حولي كل شيء حتى لا أسمع إلا أخفاف مطيتي تمس الأرض مسا رفيقا، وإلا هذه الأنات التي ترسلها المطايا إذا جهدها السير وحنت إلى الراحة، وإلا ما كنت أناجي نفسي به من حديث أهلي إذ طلعت عليهم مع ضوء الشمس. وكان ضوء القمر قد انبسط على الفلاة هادئا نقيا، فملأ نفسي أمنا ودعة وهدوءا.
وإني لفي ذلك، وإذا غمغمة تصل إلي من بعيد، فلا أحفل بها ولا ألقي إليها بالا، وإنما أمضي فيما أنا فيه من الاستمتاع بلذة هذا السرى، ومس أخفاف مطيتي للأرض، وحنينها إلى ما بعد عهدها به من الراحة، وأحاديث نفسي عمن فارقت، في الطائف وعمن سألقى في مكة. ولكن الغمغمة تدنو مني أو أنا أدنو منها، وإذا هي تشتد شيئا فشيئا، وإذا أصواتها تمتاز وتستبين، وإذا أنا أسمع أحاديث قوم يتهامسون، وإذا أنا أنظر فلا أرى أحدا. والقمر مع ذلك مشرق مضيء، والفلاة مع ذلك مبسوطة لا عوج فيها ولا ارتفاع، والحديث مع ذلك من حولي واضح يملأ الهواء، وقلبي مع ذلك يضطرب ويمشي في صدري رعبا. وأنا أذهب بمطيتي إلى أمام وأرجع بها إلى وراء، وأذهب بها عن يمين وأذهب بها عن شمال، وأرفع بصري إلى السماء وأخفض بصري إلى الأرض، فلا أرى شيئا ولا أتبين شيئا إلا جمال هذا الضوء الرائع يغشي الأرض برداء نقي رقيق. وهذه النجوم التي لا تحصى وقد تألقت في السماء كأنها المصابيح، وانطلقت في طريقها مسرعة كأنها تستبق، وهذه الأحاديث الواضحة تتحدث بها جماعات لا أراها، ولكنها لا تستقر، إنما يمضي بعضها إثر بعض. وإني لأسمع قائلا يقول: «انظروا إلى السماء، فما أرى أنها كعهدنا بها من قبل. إن نجومها لتتألق في قوة لم نرها قط. إنها لتستبق في سرعة لم نرها قط. إنها لتدنو من الأرض حتى إن نارها لتوشك أن تحرقنا. إن التصعيد في السماء لعسير. وفيم نصعد إلى السماء وإن السماء لتهبط إلينا! إن البقاء على الأرض لعسير. وأنى لنا الثبات بهذا الضوء الذي لا يخفى عليه شيء، حتى أشباحنا الخفية التي لا تراها العيون! النجاء النجاء! إن للغيب لعجبا، وإن في الأرض لحدثا، وإن الزمان ليستدير، وإنا لا ندري أشر أريد بالناس أم خير!»
وإني لأسمع ما أسمع وأرى ما أرى، فيبهرني ما أسمع ويسحرني ما أرى، وأشغل به حتى عن أن أسائل نفسي، أين أكون وما تكون هذه الأصوات. ولكني أحس أصواتا أخرى كأنها تهيب بأهل تلك الأصوات التي كنت أسمعها قائلة: النجاء النجاء! ولكن إلى أين؟! إنكم لتفرون من مكة كأن شيئا أزعجكم عنها وقد كنت فيها آمنين، وقد كنا نفر إليكم لأن شيئا أزعجنا عن دورنا، وأخرجنا من مأمننا، واضطرنا إلى أن نهيم في الأرض، لا ندري ما هو، ولا ندري من أين جاء، إنا لنتسامع من أطراف الأرض بأن حدثا قد حدث، وبأن كائنا قد كان. إنا لنتسامع بأن إيوان كسرى قد اضطرب ومادت به الأرض، فسقطت شرفاته وتهدم بنيانه. وإذا أصوات أخرى تصيح منتشرة في الفضاء: وإنا لنتسامع بأن نار الفرس قد خبت فجأة لأول مرة منذ ألف سنة. وإذا أصوات أخرى تصيح: إنا لنتسامع بأن بحيرة ساوة قد جفت، وما عهدناها إلا غريزة جمة الماء. وإذا هذه الأصوات كلها تملأ الأرض، رقيقة خفيفة، خائفة قلقة: النجاء! النجاء! إن للسماء لخبرا، وإن الأرض لتستقبل يوما لم تستقبله من قبل، وإن لهذا اليوم في حياة الأرض لشأنا لا ندري أخير هو أم شر! النجاء النجاء!
وقد فقدت صوابي وأضللت عقلي، فلا أحس شيئا، ولا أرى شيئا، ولا أسمع شيئا، كأنما انتزعت من الحياة انتزاعا، ثم يمسني برد السحر فأفيق وكأنما ثبت إلى نفسي من سفر بعيد. وأنظر حولي فأرى أصابع الفجر تمتد إلى الأشياء كأنما تريد أن تلمسها، وأرى الليل ينحسر عن الأشياء كأنما يودعها محزونا، وأرى النجوم تنهزم في السماء كأنما تخاف جيشا منتصرا، وأرى ناقتي مذعنة لحكم السرى تمضي أمامها كأن شيئا لم يكن من حولها. وأبلغ أهلي مع الصبح، فيستقبلونني دهشين كما كنت أقدر، ولكني لا أستمتع بهذا الدهش كما كنت أريد.
ويتفرق الناس عن هذا الرجل وقد سمعوا منه، وإن بعضهم ليسأل بعضا: ماذا يقول وماذا رأى؟ وإن بعضهم ليقول لبعض: لقد أخذه النوم فعبثت به الأحلام، وإن بعضهم ليقول لبعض: لقد مر بجماعة من جن الصحراء كانوا يسمرون.
ويسمع عبد المطلب هذا كله فتثور في نفسه خواطر لا ينكرها ولا يعرفها، ولكنه لا يطيل الوقوف عندها؛ لأنه مشغول عنها بمقدم حفيده اليتيم.
الفصل الثاني عشر
الحاضنة
وعطف الله على هذا اليتيم قلوبا ملئت حبا، وفاضت حنانا ورحمة، قلما يظفر بمثلها المنعمون المترفون من أبناء الأغنياء، وأصحاب الثراء الواسع والجاه العريض. هذه الأمة الحبشية قد ورثها اليتيم عن أبيه الفقيد مع خمسة أجمال أوارك
1
وقطعة من الغنم، كانت حين أقبل اليتيم إلى هذه الأرض فتاة في ريعان الشباب ومبتدأ الحياة، لم تنس وطنها القديم ولم تألف وطنها الجديد، ولم تسل عن حريتها، ولم تأنس إلى رقها. نفسها معلقة بين لونين من ألوان الحياة: كان أحدهما صفوا كله، وهو لون الحياة العزيزة في بلد عزيز وبين قوم أعزة كرام. وكان الآخر يوشك أن يكون كدرا كله، لا تنظر إلا رأته مظلما حالكا، لا يبسم فيه أمل، ولا ينبعث منه ضوء، وهو لون الحياة الذليلة في بلد نازح وبين قوم غرباء لا تعرفهم ولا تألفهم؛ إنما دفعتها إليهم خطوب الحياة دفعا وألقتها إليهم صروف النوى إلقاء. فهذا شبابها يذبل، وقد كان يريد أن يزهر ويتألق. وهذه آمالها تبتر بترا، وقد كانت تريد أن تمتد وتنبسط.
وهي ترى هذا كله خاشعة خاضعة، مؤمنة مذعنة، لم تختر منه شيئا، ولا تستطيع أن تغير منه شيئا. وهي قد وطنت نفسها أو وطنتها الأحداث على أن تكون أمة طيعة تخدم سادتها في نصح أو في غش، ولكنها تظهر لهم الطاعة والخضوع على كل حال. وهي محزونة النفس كاسفة البال، لا تبتسم إلا متكلفة ولا ترضى إلا متصنعة، ولا تطمئن إلى هؤلاء الذين من حولها ينظرون إليها نظرات مهما يملأها العطف والرفق، فهي نظرات السادة الذين يملكون ويستعلون، ويستطيعون أن يتصرفوا فيها كما يحبون، كما يتصرفون في الأشياء: لهم أن يبيعوها وإن لم تؤثر أن تباع، ولهم أن يهبوها وإن لم تحب أن توهب، ولهم أن ينقلوها من يد إلى يد، ومن مكان إلى مكان، ولعلها أن تكون مؤثرة لهذه اليد التي بسطت عليها، منكرة لهذه اليد التي يراد أن تنقل إليها. ولعلها أن تكون قد ألفت هذا المكان الذي استقرت فيه وكرهت غيره من الأمكنة. ولكنها لا تستطيع أن تريد أو لا تستطيع أن تنفذ ما تريد. وأي قيمة للإرادة إذا عجز صاحبها العجز كله عن أن ينفذها ويجري أحكامها! إنما الإرادة العاجزة أقبح صور الذل، وأشنع ألوان الرق، وأبغض ما يلقى الإنسان في الحياة.
انظر إلى هذه الأمة الناشئة لم تتعود الرق بعد ولم تطمئن إليه، نفسها ثائرة مظلمة، وقلبها جامح مكظوم، وهي مبغضة لكل إنسان، ضيقة بكل شيء. انظر إليها تشهد ما شهد غيرها من النساء في تلك الليلة الفذة، فتضطرب نفسها الناشئة لما رأت، ويبتهج قلبها الحزين لما شهد، ثم لا تكاد ترى هذا الوليد اليتيم حتى يلقي الله حبه في قلبها، وحتى يعطفها الله عليه، وحتى يجعله لها قرة عين، وحتى يصبح وجهه الصغير المضيء ابتسامة في حياتها المظلمة، ويصبح شخصه الضئيل العظيم منقذا لها من هذا اليأس القائم، وعزاء لها عن هذا الشقاء العظيم. وإذا هي تألف الطفل وتكلف به، وإذا هي تحضن الطفل وتحنو عليه، وإذا هي تؤثره من المحبة والبر، ومن المودة والعطف ومن الحنان والرفق، بكل هذه الكنوز التي لا تفنى، والتي تحتويها قلوب النساء، والتي كانت تريد أن تغيض لأن خطوب الحياة قد فرضت عليها الرق والذل فرضا. إن هذا اليتيم لينزل من قلبها الحزين منزل السرور، ومن نفسها الكئيبة منزل الابتهاج. إنها لتجد فيه كل ما فقدت من أمل وكرامة وعزة وحرية. إنها لتريد أن تختص به من دون الناس جميعا. إنها لتريد أن تخصه بنفسها من دون الناس جميعا. إن الله ليحقق لها من هذا كله أكثر ما تريد. إنها لتقف نفسها على الطفل أياما، حتى إذا قبلت الظئر
2
فانتزعته منها ومن أمه انتزاعا ورحلت به إلى البادية، ضاقت هي بالظئر وكرهت هذا الرحيل. ولو قد أتيح لها أن تنفذ ما كانت تريد لاستبقت الظئر معها في مكة، أو لرحلت هي مع الظئر إلى البادية. ولكن متى أتيح لأمة أن تنفذ ما تريد! ولها على ذلك أسوة بهذه الأم الحرة الكريمة التي تسلم ابنها إلى الظئر، لا تستبقيها معها في مكة، ولا ترحل هي مع الظئر إلى البادية.
فلتفارق صفيها دهرا طويلا أو قصيرا، كما تفارق الأم طفلها دهرا طويلا أو قصيرا. ولتصبر على هذا الفراق. وهل خلق الرقيق إلا للصبر والاحتمال!
وينفق الصبي عند الظئر ما شاء الله أن ينفق من وقت، لا يزور أمه ولا حاضنته إلا لماما. وكلتاهما تسعد بهذه الزيارة القصيرة، وكلتاهما تشقى باستئناف الفراق، وكلتاهما تذعن لما لا بد من الإذعان له.
ثم يعود الصبي الناشئ من البادية إلى مكة، فيقيم إقامة ملؤها الرحمة والعطف بين هذه القلوب الكريمة التي تحبه وتحنو عليه: قلب أمه الحرة المحزونة، وقلب حاضنته الأمة الفتاة، وقلب جده الشيخ الوقور. كلهم سعيد بالعطف على هذا الطفل والرعاية له، والطفل ناعم بعطفهم عليه ورعايتهم له.
ثم ترحل أم الطفل به إلى يثرب لتزيره أخواله من بني النجار، فترحل الحاضنة معهما، وينعم الطفل بحنان هذين القلبين الكريمين. حتى إذا بلغ يثرب رأى أرضا لم يكن قد رآها، وقد قدر له مع ذلك أن يقيم فيها حيا وأن يقيم فيها ميتا، وقد سبقه أبوه إلى زيارتها، وقد سبقه أبوه إلى أن يؤثرها له دارا تئويه.
هنالك رأى الطفل قبر أبيه. وهنالك لعب الطفل مع أطفال مثله سيكونون له أصدقاء وأنصارا حين يجد الجد، وحين يبلغ الكتاب أجله، وحين يتم في الأرض ما قدر في السماء. حتى إذا قضى الطفل وأمه وطرا من زيارة الأرض الموعودة، عاد بين أميه الكريمتين إلى موطنه بمكة. ولكن قضاء الله يجب أن ينفذ، وحكمة الله يجب أن تبلغ، وإرادة الله يجب أن تكون.
فلا يكاد الطفل يبعد عن يثرب حتى تلم العلة بأمه كما ألمت بأبيه قبل أن يصل إلى الدنيا. ولا يكاد الطفل ينتهي إلى الأبواء
3
حتى ينزع الموت منه أمه أو ينزعه من أمه، كما نزع الموت منه أباه أو كما نزعه من أبيه.
وكذلك أديت الأمانة إلى الأرض، وذهب عبد الله وذهبت آمنة بعد أن أدياها. وأصبح الطفل كما أراد الله له أن يكون يتيما قد فقد أمه وفقد أباه، وليس له من يئويه إلا الله الذي قد وعد بإيوائه وكفالته، وحفظه وحمايته من العاديات.
لقد خلص الطفل لحاضنته من دون الناس. فلتقف عليه نفسها كلها، لتقف عليه حبها كله، ولتخلص له كما خلص لها. وانظر إليها تعود بالطفل إلى جده وأعمامه وحيدا فريدا، ليس له من يرعاه أو يكلؤه إلا قلبها العظيم الكريم.
من ذلك الوقت أصبحت للطفل أما، رعته صبيا وشابا، فرغت له ولم تشغل عنه بأحد ولا بشيء. حتى إذا بلغ سن الرجال واتخذ له أسرة، وأوى زوجه خديجة بنت خويلد، نظر إلى هذه الأمة التي نشأته ونعمته بحبها وحنانها، فأعتقها ورد لها حقها الكامل في الحياة الحرة الكريمة. هنالك اتخذت لها زوجا من أهل يثرب كان مقيما بمكة، فعاشت معه ما شاء الله أن تعيش، ورحلت معه إلى يثرب، حتى إذا مات عادت إلى ابنها الأول ومعها ابنها الثاني أيمن بن عبيد، فعاشت في كنف هذا اليتيم وعاش معها ابنها سعيدين ناعمين.
ثم يتم الله نعمته على هذا اليتيم، ويختاره لما قدر له من الكرامة واحتمال الأعباء الثقال، فلا تشغله نعمة ولا محنة ولا راحة ولا جهاد عن أمه هذه. وانظر إليه يتحدث عنها إلى أصحابه فيقول هذه الكلمة التي ملؤها البر والحنان والوفاء: «إنها بقية أهل بيتي!» وانظر إليه حريصا على أن تحيا وتنعم بالحياة، حريصا على أن ألا يكون حظها من السعادة في هذه الدنيا أقل من حظ غيرها من الحرائر، انظر كيف يلتمس لها الزوج فيقول لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن.»
هنالك أسرع مولاه زيد فاتخذها له زوجا.
إيه أيتها الأم الكريمة الرحيمة! لقد منحت ابنك صبيا وشابا كل ما كنت تستطيعين أن تمنحيه من الحب والود، ومن العطف والحنان. وها هو ذا الآن قد بلغ ما قدر الله أن يبلغ من ارتفاع المكانة وعلو المنزلة وجلال الخطر! انظري! إنه ليؤذي في سبيل الله. إنه ليمتحن في نفسه وفي عشيرته وفي أصحابه. إنه ليلقى في ذلك أشد الجهد، ويحتمل في ذلك أعظم الثقل، ويستقبل ذلك بأحسن الصبر. انظري إليه وانظري إلى نفسك! إنك لتحبينه وتكبرينه وترحمينه! لقد استجبت له حين دعا، وآمنت به حين أنذر وبشر. انظري! إن قومه ليأتمرون به ليقتلوه أو يخرجوه أو يثبتوه.
4
وإن الله ليأذن له في الهجرة، وإنه ليترك مكة طريدا ليعود إليها منتصرا مظفرا. انظري! إنه ليقيم الآن في يثرب بين أنصاره الذين آووه، وبين رفاقه الذين لعب معهم صبيا، وأنت ترمقينه وترعينه من قريب حينا، ومن بعيد حينا آخر. انظري! أتستطيعين فراقه؟ لقد ضقت بالظئر حين نقلته إلى البادية. كلا! كلا! إن أصحابه ليهاجرون ليلحقوا به ويعيشوا معه، فكيف لا تهاجر أمه! ومتى صبرت أم مثلها على فراق ابن مثله! ها هي ذي قد تركت مكة مهاجرة إلى الله ورسوله، وابنها وصفيها. إنها لتقطع الطريق بين مكة والمدينة يؤنسها ما يملأ قلبها من الإيمان، وما يعمره من الحب. إنها لتحمل مشقة الطريق وجهد السفر صابرة عليهما. وما كان أصبرها على المشقة والجهد! إنها لتستلذ المشقة والجهد، وتستعذب الألم والضراء. إنها لتسافر صائمة. إنها لتستأنس في رحلتها بهذين الصديقين اللذين يحبهما المؤمنون: الظمأ والجوع، وأنعم بهما رفيقين! وأنعم بهما معينين على الهجرة في سبيل الله! إنها لتقطع أكثر الطريق وتصبح من المدينة غير بعيد. إن النهار ليتقدم بطيئا مسرفا في البطء، وإن الشمس لترسل على الأرض أشعة من اللهب، وإن الأرض لتضطرم من شدة القيظ، وإن الجو ليتوهج من اللهب الذي يضطرم فيه، وإن هذه المرأة الضعيفة لتسعى في هذه النار المحرقة إلى حيث تنعم بالحياة في ظل ابنها وصفيها ومخرجها من الرق إلى الحرية، ومخرجها من الظلمة إلى النور! إنها لتسعى ما وسعها السعي. ولكن الأمد بعيد، والجهد شديد، والماء منقطع والظمأ محرق، وجسمها ضعيف لا يثبت لهذه العاديات التي لا تثبت لها أجسام الناس! ولكنها تسعى لا يائسة ولا بائسة ولا مستسلمة، حتى يبلغ الجهد بها أقصاه، وحتى يتراءى لها هذا الشبح المنكر المخيف الذي يتراءى لمن تنقطع بهم أسباب الحياة في الصحراء: شبح الموت. ولكنها مع ذلك لا تيأس ولا تستسلم، ولا تفارق ما ألفت من الرضا. انظري أمامك ماذا ترين؟ إنه رشاء أبيض ناصع البياض ينزل إليك من السماء، وقد علقت فيه دلو قد ملئت ماء. من أرسل إليك هذه الدلو؟ من قدم إليك هذا الماء؟ لما أرسلت إليك هذه الدلو؟ لم قدم إليك هذا الماء؟ هلم اشربي! فإنما تذوقين اليوم هذا الماء العذب ماء الخلود الذي ستشربينه بعد حين طويل أو قصير حتى يسكنك الله دارك من الجنة! أرأيت أن ابنك لم يكن متكلفا ولا مغررا حين قال لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن»! اشربي من هذا الماء، فلن تظمئي بعد هذه الشربة أبدا!
وتشرب أم أيمن من هذا الماء، وتنفق أم أيمن بعد هذه الشربة أعواما طوالا، فيها الشدة واللين، وفيها البؤس والنعيم، وفيها الجهد والعناء، ولكنها لا تعرف الظمأ ولا تحسه ولا تشكوه، وكيف يظمأ من شرب ماء الخلود!
أسرعي الآن يا أم أيمن إلى يثرب؛ فإن ابنك ينتظرك فيها، قد أمن بعد خوف، واطمأن بعد قلق.
وتبلغ أم أيمن المدينة، فيلقاها ابنها حفيا بها عطوفا عليها، وتلقاه هي بما عودته أن تلقاه به من هذا الحب السمح والعطف الباسم.
وتقضي معه أيامها في المدينة، لا تكاد تفارقه إلا حين لا تستطيع أن ترافقه. انظر إليها يوم أحد وقد شهدت الحرب مع المسلمين، وإنها لتطوف بالماء تسقي الجرحى ومن مسهم الجهد. ولم لا وقد عرفت حر الظمأ وبرد الري! ومن يدري! لعل هذه القطرات التي كانت تصبها في أفواه الجرحى قطرات قد مستها رحمة الله ففقدت جوهرها الفاني، واستحالت إلى هذا الجوهر الخالد الذي شربت منه أم أيمن حين تدلت إليها الدلو من السماء! وانظر إليها وقد شهدت خيبر مع ابنها تواسي المسلمين وتمنحهم من عطفها ورعايتها ورحمتها فضل ما يمتلئ به قلبها الساذج الكريم! وانظر إليها في أيام السلم تغدو على ابنها وتروح إليه، فيلقاها مبتسما دائما، مبتهجا دائما، مداعبا لها من حين إلى حين. تسأله مرة أن يحملها، فيقول لها: «أحملك على ولد الناقة» فلا تفهم منه، فتقول: يا رسول الله، إنه لا يطيقني ولا أريده. فيقول متضاحكا: «لا أحملك إلا على ولد الناقة!»
وكان ابنها يمزح ولكنه لم يكن يقول إلا حقا. وكان يحب أن يداعبها ويعبث بها في رفق؛ فهو يقول ذات يوم: «غطي قناعك يا أم أيمن.» وتلقاه يوم حنين قبل الموقعة، فتريد أن تدعو للمسلمين بخير فتقول: «ثبت الله أقدامكم.» فيقول ابنها: «اسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان!»
وقد سمع لها الله فثبت أقدام المسلمين. وقد امتحنها الله فاختار ابنها أيمن وآثره بالشهادة يوم حنين.
إيه أيتها الأم الرءوم؛ إنك لتمنحين ابنك وصفيك اليوم شيئا جديدا لم تمنحيه من قبل، إنك لتبذلين في سبيل الله وفي سبيله دم ابنك العزيز. ولكنك تلقين الثكل صابرة آملة راضية، كما لقيت الظمأ من قبل صابرة محتملة واثقة. ولئن فقدت أيمن يوم حنين، إن لك لخلفا منه في ابنك أسامة بن زيد، أثير النبي وحبيبه، وقائد جيش المسلمين بأمر النبي وإن كان بعد لحدثا ناشئا. هذا جيش ابنك أسامة مرابطا يتأهب للرحيل. وهذا ابنك وصفيك في بيته قد ثقل عليه المرض، وفتحت له أبواب السماء وأقبلت عليه الملائكة أفواجا تحمل إليه روح الله ورحمته وتبشره بجوار الله. انظري! لقد اختار الله لنبيه جواره الأعلى، وصعدت نفسه الكريمة إلى حيث أريد لها أن تكون مع الصدقين والشهداء والصالحين وأصفياء الله وأنبيائه. ماذا؟! إنك لتبكين! وما يبكيك يا أم أيمن؟ قالت لمن ألقى عليها هذا السؤال: أي والله! لقد علمت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سيموت ، ولكني إنما أبكي على الوحي إذا انقطع عنا من السماء.
نعم، لقد قبض ابنك وانقطع الوحي، وستحملين ذلك دهرا.
ستشهدين خلافة أبي بكر، وستشهدين خلافة عمر، وستبكين مرة أخرى حين يموت عمر، وستسألين عن هذا البكاء فتقولين: «الآن وهي الإسلام.» وستستقبلين خلافة عثمان وقد طال صبرك على انقطاع الوحي، وشوقك إلى أخبار السماء، وسيسعى إليك الملك رفيقا بك عطوفا عليك، وسيقبض نفسك الكريمة إلى حيث تسعد بجوار ابنك الكريم!
تحدث ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: خاصم ابن أبي الفرات مولى أسامة بن زيد، الحسن بن أسامة بن زيد ونازعه. فقال له ابن أبي الفرات في كلامه: يابن بركة - ريد أم أيمن - فقال الحسن: اشهدوا. ورفعه إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم، وهو يومئذ قاضي المدينة أو وال لعمر بن عبد العزيز، وقص عليه قصته. فقال أبو بكر لابن أبي الفرات: ما أردت إلى قولك يابن بركة؟ قال: سميتها باسمها، قال أبو بكر: إنما أردت بهذا التصغير بها، وحالها من الإسلام حالها، ورسول الله يقول لها يا أمه ويا أم أيمن! لا أقالني الله إن أقلتك! فضربه سبعين سوطا.
5
الفصل الثالث عشر
المراضع
أقبل المراضع إلى مكة عجافا نحافا، تحملهن حمر عجاف نحاف، ويصحبهن أزواجهن قد مسهم الضر، وأعياهم الكسب، واشتدت عليهم السنة، وأجدبت بهم الأرض، فما يجدون إلى أمن ولا دعة ولا حياة سبيلا. وقد أقبلوا كدأب أهل البادية إلى مكة، يلتمسون الرضعاء أبناء السادة والمترفين في قريش، ويبتغون بذلك فضلا من مال، ونافلة من نعيم، وحظا من هذا البر الذي تطمع فيه المراضع عند أهل الرضعاء. فلما ألقوا رحالهم، انحدر المراضع إلى مكة يعرضن أنفسهن على دور الأغنياء وأهل الثراء، ومنازل السادة وأصحاب الشرف من أهل البطحاء. وأسرع أزواجهن إلى المسجد يطوفون ويلقون سراة الناس من قريش، فيسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويستعينون بهم على احتمال أثقال الحياة في تلك البادية النائية، بادية بني سعد بن بكر. وما هي إلا طوفة في الضحى على بعض المنازل والدور حتى آب المراضع موفورات محبورات، قد وجدت كل واحدة منهن رضيعا من أسرة كريمة موسرة، فامتلأت يدها بالمال، ونفسها بالأمل، وقلبها بالغبطة والأمن على قوت العيال، إلا حليمة بنت أبي ذؤيب؛ فإنها عادت إلى زوجها كئيبة محزونة لا تحمل إلا ابنها الهزيل النحيل الذي يصيح في غير انقطاع، ويبكي في غير هدوء، لشدة ما مسه من ألم الظمأ والجوع.
ولقي الإعرابي امرأته الشابة محزونا مثلها، كئيبا مثلها، ولا يؤذيه ما يحس من الجوع والظمأ كما يؤذيه ما يسمع ويرى من بكاء الطفل وتوجع أمه البائسة. قال: إني لأرى أترابك من المراضع يرجعن موفورات محبورات يحملن الرضعاء، فما بالك تعودين لا تحملين رضيعا إلا هذا الطفل؟ ألعلك قد دللت الناس على مكاننا من البؤس وحظنا من الفاقة حين احتملت هذا الطفل الذي لا ينقطع له صياح! ألعلك قد أيأست الأمهات وأخفت الآباء ألا يلقى أبناؤهم عندك ما يرويهم من ظمأ أو يشبعهم من جوع! ليتني لم أنحدر مع الناس إلى المسجد، وليتني بقيت هنا أحفظ عليك هذا الطفل حتى لا يسمع الأمهات والآباء له بكاء ولا شكاة، وحتى لا يرى الآباء والأمهات عليه بؤسا ولا ضرا! قالت: والله ما صد عني الآباء والأمهات، ولقد أسكت هذا الطفل فما بكى ولا شكا، وما أحس أحد علي ولا عليه ضرا أو شرا، وإنما صددت أنا عن رضيع صد عنه الأتراب من قبلي. قال الأعرابي: وفيم صدكن عنه واجتنابكن له؟ قالت: يتيم ليس له أب يرعاه أو يكلؤه، إنما هو إلى أمه وجده. وما تصنع أمه وما يصنع جده؛ وماذا تنتظر من بر الأمهات بالمراضع، ومن بر الجدود بالحفدة وإنهم لكثير! قال صدقت، وما لإرضاع اليتامى والمساكين أقبلنا من ديار بني سعد! وإني لأجد في نفسي إشفاقا على هذا اليتيم ورحمة له، ولكن ماذا نصنع به في تلك الأرض النائية إذا لم يصل إليه وإلينا من بر أهله ما يقيمه ويقيمنا ويصلح من حاله ومن حالنا! قالت: لقد رأيته فأحببته، ونظرت إليه فرققت له. ولقد آنست من أمه دعة ولينا. ولقد نازعتني نفسي إلى أن أحمله لولا أني أشفقت مما تقول، ولولا أني ذكرت الجدب وشدة السنة وانقطاع المادة، وأشفقت عليه مما نحن فيه. قال الأعرابي: فسنقفل إذا كما أقبلنا ويقفل القوم راضين! وإني والله يا ابنة أبي ذؤيب ما أدري أتبلغنا أتاننا وشارفنا
1
ديار بني سعد، وإنك لتعلمين أن أتاننا منهوكة مكدودة، وأن شارفنا ما تبض قطرة من لبن. قالت؛ فلنقم فإن الأطفال يولدون، ولعل الله أن يرزقنا بين اليوم وغد رضيعا نجد عند أهله ما يرضينا.
وهم المراضع بالقفول، وأخذت بنت أبي ذؤيب تنظر إليهن محزونة مكلومة، يؤذيها ما ترى من إنجاحهن وإخفاقها، ومن قفولهن وتخلفها. وأخذ الأعرابي ينظر إلى رفاقه يشدون الرحال على المطايا، ويحملون النساء على الأتن، فيؤذيه ذلك ويغيظه، ولكنه يخفي ما يجد من الغيظ ويظهر التجلد والصبر. حتى إذا مضى اليوم وأمعنوا في الطريق وبعدوا عن مرمي العين، نظر الرجل إلى امرأته، ونظرت المرأة إلى زوجها، ونظر الزوجان إلى ابنهما واستمعا لبكائه، وإذا هي تقول لزوجها: ما أدري! لعلي لم أحسن حين جاريت أترابي وأعرضت عن هذا اليتيم، وإن نفسي لتنازعني إليه، وإن قلبي ليعطفني عليه، وإني لأحس كأنه يدعوني، وأني لأشعر كأني لا أستطيع عنه صبرا، وإني لأرجو إن استجبت لهذا الدعاء الخفي أن يكون الله قد قدر لنا خيرا وآثرنا ببعض ما نحب! قال: فلا عليك يا ابنة أبي ذؤيب! اذهبي إلى يتيمك فخذيه؛ فإني أكره أن يرحل القوم ونبقى، وأن يصلوا إلى ديار بني سعد، فيتحدث المراضع أنهن قد ظفرن بالرضعاء، وأن نفوس الآباء والأمهات قد انصرفت عنك وزهدت فيك.
وتنهض بنت أبي ذؤيب فتعود إلى آمنة فتعرض عليها إرضاع الطفل، وإذا آمنة تأبى وقد آذاها ما رأت من إعراض المراضع وانصرافهن، وعلى وجهها آيات حزن عميق، وفي صوتها بقية من بكاء، وأمتها بركة تعينها على الإباء وتحرضها على الامتناع. ولكن ابنة أبي ذؤيب تنظر إلى الطفل فإذا قلبها يمتلئ حبا له، وإذا هي تحس أنها مدفوعة إليه دفعا، وإذا هي تسرع إلى الطفل فترفعه بين يديها وتدنيه من صدرها، وإذا الطفل يلتمس الثدي كأنما كان منه على ميعاد، وإذا هو يشرب حتى يروى، وإذا بنت أبي ذؤيب تجد من اللبن ما لم تكن تجد من قبل، وإذا آمنة تستجيب لها، وكيف تأبى عليها وقد رأت من حبها للطفل ومن إقبال الطفل عليها ومن إرضاعها له ما رأت! لقد أصبحت هذه الظئر له أما. قالت آمنة: خذيه ولا تراعي؛ فإني لأرجو ألا تجدي منه إلا خيرا؛ فلقد حملته فما وجدت له ثقلا، ولقد انتظرته تسعة أشهر فما أحسست مما يحس النساء قليلا ولا كثيرا. ولولا غاشية الحزن التي غشيتنا بفقد أبيه لكانت هذه الأشهر أسعد ما تظفر به امرأة من دهرها. ولكن الحوادث تحدث والخطوب تلم والآمال تقطع وقد كان يرجى أن تتصل، والسحب تتراكم فتحجب ضوء الشمس! ولقد وضعت هذا الصبي فما عرف صاحباتي علي وعليه شيئا مما تعودن أن يعرفن على الأمهات والولدان. وإنك لتنكرين يا ظئر لو تسمعين. قالت حليمة: وماذا أسمع؟ وماذا أنكر؟ قالت آمنة: لم أكن تلك الليلة في دار من دور قريش، وإنما كنت في مكان لم يألفه الناس: كنت في بحر من النور كله رحمة وبر ورضوان. وما لك لا تنكرين هذا يا ظئر وقد أنكرته أنا وأنكرته صواحبي! ومالك لا تعجبين يا ظئر وقد عجبت وعجبت صواحبي وعجب جده الشيخ! سلي حاضنته هذه تنبئك بما رأت وما سمعت. سلي من شئت من نساء بني هاشم ورجالهم تعلمي أن لابني هذا اليتيم شأنا ليس لغيره من أبناء الأغنياء وأهل اليسار. لا تراعي يا ظئر؛ فإنك تحملين وليدا كريما لأب كريم، وجد كريم. ثم انهلت من عينها دموع غزار، وقالت في صوت يقطعه البكاء: لا تيأسي يا ظئر؛ فإن معروفنا على قلته سيصل إليك، ورب قليل خير من كثير. قالت حليمة: وقد رق قلبها، وجادت عينها ببعض الدمع على غير عادة الأعرابيات: لا بأس عليك يا ابنة وهب! فإني والله ما استطعت صبرا على هذا الصبي منذ رأيته. وإني والله ما أدري ما الذي عطفني عليه حتى رجعت إليك آخذه منك. وقد كنت أستطيع القفول، وقد كنت أستطيع المكث في بلدكم هذا يوما أو أياما؛ فالأطفال يولدون، وسراة قريش في حاجة إلى المراضع كل يوم، ولكنه والله أمر يراد. وانصرفت حليمة بابنها الجديد راضية مسرورة، قانعة بما زودتها به آمنة من البر والمعروف. حتى إذا انتهت إلى زوجها الأعرابي لقيها باسم الثغر، مشرق الوجه، سعيدا أن لم تعد إليه صفر اليدين. ولم يكد ينظر إلى الطفل حتى انطق لسانه، وإذا هو يقول لامرأته: إيه يا ابنة أبي ذؤيب! ما رأيت كاليوم وجها مشرقا يفيض منه البشر؛ إني والله لأرجو أن يكون لنا من هذا الغلام خير.
وينهض الأعرابي إلى شارفه يلتمس في ضرعها الجاف قطرات من لبن يبل بها ظمأ امرأته، وينقع بها بعض غلته. فما أسرع ما يأخذه عجب لا ينقضي حين يرى شارفه حافلة تمنحه من اللبن ما يريد وما تريد امرأته، وفوق ما يريد وما تريد امرأته. وينظر الأعرابي فإذا ابنه الأول يجد عند أمه ما يرويه ويرضيه، وإذا وجهه الكالح المظلم قد أخذ يشرق ويضيء، وإذا ابتسامة حلوة طاهرة قد ارتسمت على ثغره البريء، وإذا هو يقول لامرأته: تعلمي يا ابنة أبي ذؤيب أنك قد حملت نسمة مباركة!
وتنهض الظئر إلى أتانها فتركبها وتضع الرضيع بين يديها، وينهض الأعرابي إلى شارفه فيمتطيها، ويرميان بنفسيهما في الطريق يلتمسان الركب من بني سعد، والركب بعيد قد دفع به في الطريق طويلة نائية. ولكن الأعرابية تجد من أتانها نشاطا وحدة، ولكن الأعرابي يجد من شارفه قوة ومرحا، وهما يمضيان وكأنهما تطوى لهما الأرض طيا. ثم يقول الأعرابي لامرأته: مدي عينيك يا ابنة ذؤيب. أترين شيئا؟ قالت: أي والله أني لأراهم، وإنهم لأدنى من مرمى العين. وما هي إلا أن يبلغ الأعرابي جماعة بني سعد، فيعجب الناس بأمر حليمة وقد أدركتهم في غير جهد ولا كد. والأمد بعيد والطريق شاقة. ويسأل النساء حليمة عن هذا الرضيع الذي تحمله، فإذا أنبأتهن بنبئه أظهرن لها الرقة والرثاء، وأضمرن التيه والكبرياء. ويمضي الركب آخذا بأطراف الحديث، وإن حليمة لتسبق أترابها حتى تعييهن، وإن أترابها ليقلن لها: أهذه أتانك يا ابنة أبي ذؤيب التي أقبلت بك إلى مكة؟ فتقول: هي والله أتاني ما غيرتها. فيقلن: اربعي علينا
2
يا ابنة أبي ذؤيب؛ فما رأينا كاليوم مرحا ولا عدوا.
ويبلغ الركب ديار بني سعد، ويثوب المراضع إلى بيوتهن، ويستأنفن حياة أهل البادية في أرض مجدبة قل فيها الرعي والماء، وكثر فيها البؤس والشقاء. وغنم حليمة ترعى كما ترعى الغنم، ولكنها تروح ملاء حفلا لا يظمأ أصحابها ولا يجوعون، وتروح غنم السعديين مهزولة نحيلة ناضبة، لا تكاد تبض بما يبل الريق. وهم يقولون لرعاتهم: ويلكم! ارعو حيث ترعى غنم ابنة ذؤيب. فيقول الرعاة: والله إنا لنرعى حيث ترعى، وإنها والله لا تجد أكثر مما نجد، ولكنها تروح ملاء ونروح بغنمنا كما ترون، لا تغني من ظمأ ولا جوع. فيقولون: إن لابنة أبي ذؤيب لشأنا. وتنعم حليمة وينعم أبناؤها بحياة راضية هادئة، وينمو رضيعها ويزكو. وتقضي هذه الأسرة عامين راضيين لا تعرف فيهما مشقة ولا جهدا، ولا تجد فيهما ألما ولا سقما، وإنما هي أيام وليال تطرد ويمضي بعضها في أثر بعض لا كدر فيها ولا تنغيص حتى إذا آن للرضيع أن يثوب إلى أمه نظرت حليمة وزوجها فإذا الطفل قد نما وزكا كأحسن ما ينمو الأطفال ويزكون، لم يكد يتم الثانية وكأنه ابن أربع، والقوم عليه حراص، ولكنهم يؤدونه على ذلك إلى أمه كارهين.
ثم تهم حليمة أن ترجع وقد أرضت آمنة وعبد المطلب، وأرضتها آمنة وعبد المطلب، ولكنها لا تستطيع فراق الطفل حبا له وحدبا عليه، ورغبة في استبقاء ما وجدت في استصحابه من خير؛ فتلح على آمنة أن ترده معها إلى البادية، هناك حيث الهواء النقي، والسماء الصافية، والحياة الهادئة البريئة، هناك حيث لا مرض ولا وباء ولا فساد. وتجيبها آمنة إلى ما أرادت وقد آثرت الطفل على نفسها، وضحت بلذة الأمومة في سبيل تنشئ ابنها تنشيئا صالحا. وهل عرفت آمنة إلا التضحية! وتمضي حليمة بالصبي راضية، وتبقى آمنة في مكة محزونة. وتنظر بركة إلى حليمة نظرات فيهن الحسد. وتنظر بركة إلى آمنة نظرات فيهن اللوم.
قلت لمحدثي: فكيف قضى الصبي أيامه بعد ذلك في البادية؟ وكم أقام عند ظئره في ديار بني سعد؟ قال: إن لهذا لحديثا عجيبا، مهما أبلغ من البراعة وقوة البيان فلن أقصه عليك في تلك السذاجة الحلوة الأخاذة التي كان يقصها مكحول على أهل الشام. فاسمع حديث مكحول فإنك واجد فيه مثل ما وجدت من اللذة والعظة والعبرة والمتاع.
قال مكحول: حدثني سداد بن أوس قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا أقبل شيخ من بني عامر، وهو مدره قومه وسيدهم، شيخ كبير يتوكأ على عصا، فمثل بين يدي النبي
صلى الله عليه وسلم
قائما، ونسبه إلى جده فقال: يابن عبد المطلب، إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء. ألا وإنك فوهت بعظيم! وإنما كانت الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني إسرائيل، وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فمالك وللنبوة؟ ولكن لكل قول حقيقة؛ فأنبئني بحقيقة قولك وبدء شأنك. قال: فأعجب النبي
صلى الله عليه وسلم
بمسألته، ثم قال: «يا أخا بني عامر! إن لهذا الحديث الذي تسألني عنه نبأ ومجلسا، فاجلس.» فثنى رجليه ثم برك كما يبرك البعير. فاستقبله النبي
صلى الله عليه وسلم
بالحديث فقال: «يا أخا بني عامر! إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى بن مريم، وأني كنت بكر أمي، وأنها حملت بي كأثقل ما تحمل، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد. ثم إن أمي رأت في المنام أن الذي في بطنها نور. قالت: فجعلت أتبع بصري النور، والنور يسبق بصري، حتى أضاءت مشارق الأرض ومغاربها. ثم إنها ولدتني فنشأت . فلما أن نشأت بغضت إلى أوثان قريش وبغض إلي الشعر. وكنت مسترضعا في بني ليث بن بكر. فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بيننا بالجلة
3
إذا أتانا رهط ثلاثة معهم طست من ذهب مليء ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم
4
إلى هذا الغلام فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش وهو مسترضع فينا من غلام يتيم ليس له أب؟ فماذا يرد عليكم قلته؟ وماذا تصيبون من ذلك؟ ولكن إن كنتم لا بد قاتليه فاختاروا منا أينا شئتم فليأتكم مكانه فاقتلوه، ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم.
فلما رأى الصبيان القوم لا يحيرون إليهم جوابا، انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم. فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسا، ثم أخرج أحشاء بطني، ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها. ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه: تنح فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي، وأنا أنظر إليه، فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها، ثم قال بيده
5
يمنة منه كأنه يتناول شيئا، فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي فامتلأ نورا، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا. ثم قال الثالث لصاحبه: تنح. فتنحى عني، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشره من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه، فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم. قال: ثم ضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني. ثم قالوا: يا حبيب! لا ترع! إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك.
قال فبينا نحن كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم، وإذا أمي - وهي ظئر - أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: يا ضعيفاه! فانكبوا علي فقبلوا رأسي وما بين عيني، فقالوا: حبذا أنت من ضعيف! ثم قالت ظئري: يا وحيداه! فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: حبذا أنت من وحيد! وما أنت بوحيد! إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض. ثم قالت ظئري: يا يتيماه! استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك! فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتم! ما أكرمك على الله! لو تعلم ماذا يراد بك من الخير! فوصلوا بي إلى شفير الوادي. فلما بصرت بي أمي، وهي ظئري، قالت: يا بني ألا أراك حيا بعد! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها. فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن يدي في يعد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم، وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم. يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم
6
أو طائف من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر؛ إن إرادتي سليمة وفؤادي صحيح ليس بي قلبة.
7
فقال أبي - وهو زوج ظئري: ألا ترون كلامه كلام صحيح! إني لأرجو ألا يكون بابني بأس. فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه. فلما قصوا عليه قصتي قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم. فسألني فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره. فلما سمع قولي وثب إلي وضمني إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب! يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه! فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك ليذلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله قط. فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن من ابني هذا! فلو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك فإنا غير قاتلي هذا الغلام. ثم احتملوني فأدوني إلى أهلي، فأصبحت مفزعا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك.
8
فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر.»
فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله غيره إن أمرك حق. فأنبئني بأشياء أسألك عنها. قال سل عنك - وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل ذلك يقول للسائل: سل عما شئت وعما بدا لك، فقال للعامري يومئذ: «سل عنك» لأنها لغة بني عامر، فكلمه بما علم - فقال له العامري: أخبرني يابن عبد المطلب ما يزيد في العلم؟ قال: التعلم. قال: فأخبرني ما يدل على العلم؟ قال النبي
صلى الله عليه وسلم : السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشر؟ قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر بعد الفجور؟ قال: «نعم: التوبة تغسل الحوبة،
9
والحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد ربه عند الرخاء أغاثه عند البلاء.» قال العامري: وكيف ذلك يابن عبد المطلب؟ قال: «ذلك بأن الله يقول: لا وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع له أبدا خوفين: إن هو خافني في الدنيا أمنني يوم أجمع فيه عبادي عندي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه، ولا أمحقه فيمن أمحق. وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي لميقات يوم معلوم فيدوم له خوفه.»
قال: يابن عبد المطلب، أخبرني إلام تدعو؟ قال: «أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تخلع الأنداد وتكفر باللات والعزى، وتقر بما جاء من الله من كتاب أو رسول، وتصلي الصلوات الخمس بحقائقهن، وتصوم شهرا من السنة، وتؤدي زكاة مالك يطهرك الله بها ويطيب لك ما لك، وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلا، وتغتسل من الجنابة، وتؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار.» قال: يابن عبد المطلب، فإذا فعلت ذلك فما لي؟ قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى.» قال: يابن عبد المطلب، هل مع هذا من الدنيا شيء فإنه يعجبني الوطاءة من العيش؟ قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «نعم النصر والتمكن في البلاد.» قال: فأجاب وأناب
10
قلت لمحدثي: إن هذا النبأ لعجيب! فمن لهذا الشيخ العامري بما كان يعلم من أمر إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء؟ قال: كان كثير من هؤلاء العرب يلقون اليهود ويلقون النصارى، فيعلمون منهم علم الأنبياء، وينتهون إلى نفور من دينهم القديم في غير اطمئنان إلى يهودية اليهود ونصرانية النصارى، فأخرجهم الله بالإسلام من حيرتهم تلك.
قلت لمحدثي: فكيف انتهى حديث مكحول إلى أهل الشام؟ قال أما علمت أن شداد بن أوس سكن فلسطين وأنفق شطرا طويلا من حياته في بيت المقدس يعلم الناس ويحدثهم، وعده بذلك النبي نفسه؟ فقد تحدثوا أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجود بنفسه فقال: ما لك يا شداد؟ قال: ضاقت بي الدنيا. فقال: «ليس عليك، إن الشام سيفتح، وبيت المقدس سيفتح، وتكون أنت وولدك من بعد أئمة فيهم إن شاء الله تعالى.»
11
الفصل الرابع عشر
البر
ضاقت الدار باليتيم وحاضنته بعد أن أقفرت من أمه آمنة؛ فضمه جده الشيخ إليه وكان به حفيا
1
وعليه حريصا، يكرمه ويؤثره بالخير ويمنحه من الحنان والود ما كان يفيض به قلبه الكريم، وكأنه كان قد جمع في قلبه نصيب ابنه عبد الله من حبه أكثر من ست سنين يزيده وينميه، حتى إذا ضم الصبي إليه أخذ يمنحه هذا الحب ويختصه بهذا الحنان. وأخذ الطفل يحس ذلك وينعم به، ويألف جده ويطمئن إليه بل يطمع فيه، ويبلغ من الجرأة عليه ما لم يكن يبلغه صغار بنيه وكبارهم. كانوا لا يدنون منه إلا أن يدنيهم، ولا يجلسون منه إلا مجلس الإكبار والإجلال، وكان الطفل يدنو منه متى شاء، وينصرف عنه متى أحب. وتبلغ الجراءة به أن يسبقه إلى مجلسه فيجلس فيه ويستأثر من دونه بالفراش. وكان أعمامه وعماته يرون منه هذا فيحاولون رده عنه وتأديبه بآداب الأسرة، ولكن الشيخ كان يكفهم عنه ويقول: دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا.
ولم يكن هذا الشيخ يسميه إلا بهذا الاسم الحلو، كان إذا تحدث عنه قلما يذكر محمدا أو أحمد، إنما كان يقول جاء ابني وذهب ابني. وكان يقول لبركة: استوصي بابني. وكان يقول لأبي طالب: احتفظ بابني. فليس غريبا أن يلم المرض بالشيخ ويثقل عليه فيكتئب اليتيم ويمتلئ قلبه حزنا وألما. وما يمنعه أن يكتئب وما يمنعه أن يحزن ويألم، وقد كان يعيش في ظل جده عيشا إن لم يكن يسرا كله ودعة كله، فقد كان حبا كله وحنانا كله! ويصبح الشيخ ذات يوم مثقلا مكدودا يحس كأن الحياة تفارقه، وكأن الموت يسعى إليه، فلا يشك في أن هذا اليوم آخر عهده بالدنيا. هنالك فكر الشيخ في هذا الدهر الطويل الذي أنفقه بين الناس جاهدا في الخير ما استطاع، باذلا معروفه ما وسعه البذل، مطوفا في أقطار الأرض بتجارته وتجارة قريش، ومقيما في مكة بين نسائه وبنيه، يذهب من داره إلى المسجد ويعود من المسجد إلى داره، لا يغدو إلا مفكرا في خير، ولا يروح إلا مفكرا في معروف. والناس من حوله ينعمون ببره بهم وعطفه عليهم، فيحبونه ويؤثرونه ويصفونه المودة ويصدقونه الولاء. وفكر الشيخ في هذه المحن والخطوب التي ألمت به وألحت عليه، فلم تلن قناته ولم تفلل حده، وإنما تركته كما لقيته صلبا جلدا حازما ماضي العزم، كأنه الشجرة العظيمة قد ثبت أصلها في الأرض وامتدت أغصانها القوية في الجو، فهي مستقرة في مكانها تختلف عليها العواصف فلا تضطرب ولا تميل. وفكر الشيخ في ابنه عبد الله كيف كان يحبه ويألفه ويضن به على المكروه، وكيف لم يمنعه هذا الحب من أن يقدمه ليوفي به ما كان قد فرض على نفسه من النذر، وكيف جد في ذلك، وجد الفتى في الطاعة والإذعان، حتى اقترح عليه الفداء، وكيف فادى ابنه فغالى في الفداء، وكيف اغتبط وابتهج حين قبل الآلهة فداءه وتركوا له ابنه، ثم كيف أرسله إلى الشام ليموت في يثرب بعد أن اتجر فأفاد ربحا كثيرا.
نعم! وفكر الشيخ في آمنة كيف خطبت للفتى، وكيف احتملت فقده كريمة أبية. ثم فكر في هذا الطفل اليتيم وفي هذه الأطوار الغريبة التي أحاطت بمقدمه إلى الأرض ودخوله في الحياة، فكر في هذا كله فرضي عن نفسه كما رضي عنه الناس، وحزن على نفسه كما حزن عليه الناس، وكان واثقا بأن ما رأى من الأحداث التي لم ير الناس مثلها لم يرسل إليه عبثا ولم يسلط عليه إلا لأمر يراد. وكان يقدر أن هذا الأمر الذي يراد إنما يراد بابنه اليتم. وكان يود لو مدت له الحياة فرأى من أمر ابنه ما لم يكن يشك في أنه واقع محتوم. ولكن الحياة لا تنال بالرغبة والموت لا يدفع بالكره، والأيام لم تعط الناس عهدا بأن تكون عند ما يريدون. وهل مدت أسباب الحياة لعبد الله حتى يرى ابنه وليدا! بل هل مدت أسباب الحياة لعبد الله حتى يعلم أنه قد ترك وارثا! لقد مات وهو يعلم حق العلم أنه لم يعقب، ولو قد كشف عنه الحجاب لعلم أنه أعقب لا كما يعقب الناس. وهل مدت أسباب الحياة لآمنة حتى تسعد بابنها اليتيم! لقد ولدته فاختطفته منها المرضع واحتفظت به زمنا طويلا. ولم تكد الأم تنعم بابنها حتى أقبل الموت فقطع ما بينهما من سبب، وأبى إلا أن ينقلها إلى جوار زوجها الذي طالما كانت تذكره وتفكر فيه. فلم تمد أسباب الحياة للشيخ وقد أنفق في الأرض أكثر من مائة سنة ذاق فيها خير الحياة وشرها، وبلا فيها حلو الحياة ومرها! لم تمد له أسباب الحياة وكل شيء من حوله ومن حول الطفل يدل على أن حياة هذا الصبي لن تكون كحياة غيره من الصبيان، يسيرة لا عوج فيها ولا التواء، وإنما ستكون حياة فيها امتحان وبلاء، وفيها تصفية وتطهير! لقد فقد أباه وفقد أمه، وهو الآن سيفقد جده، وسيصبح بعد ساعات يتيما حقا، ووحيدا حقا، ليس له من يعطف عليه أو يرق له إلا هذه الأمة التي تحضنه، وعمه الذي سيكلفه كما يكفل الأعمام أبناء الإخوة!
وكان الشيخ يفكر في هذا ويحس أنه يزداد ثقلا على ثقل، ويشعر كأنه يفارق ما حوله ومن حوله قليلا قليلا، لا يتقدم في الزمان لحظة حتى يخطو إليه الموت خطوات. وكان الشيخ يحب أن يسمع من أصوات الناس أكثر ما يستطيع أن يسمع قبل أن يغمره الموت فلا تصل إليه الأصوات. وكان أحب الأحاديث إلى الشيخ في هذه اللحظات القليلة الباقية حديث نفسه، فيدعو بناته ويطلب إليهن أن يبكينه كما يبكي النساء الموتى، ويلح عليهن في ذلك؛ لأنه يريد أن يسمعهن أو لأنه يريد أن يسمع رثاء نفسه. ولعله لو استطاع أن يرثي نفسه بنفسه لفعل. وهؤلاء بناته من حوله يرفعن أصواتهن نادبات نائحات، معددات مآثره ومفاخره، مصورات هذا الحزن العميق الذي يسعى حثيثا إلى قلوبهن، كما كان الموت يسعى حثيثا إلى الشيخ. والصبي قائم من وراء السرير يرى ويسمع ويمتلئ قلبه بما يرى وما يسمع وتنهل من عينيه دموع صامتة لعلها لو رآها الشيخ لأرضته!
ولكن الشيخ يسرع إلى الموت أو يسرع إليه الموت، فهو يسمع بناته ولا يستطيع أن يرد عليهن أو يتحدث إليهن، فيكتفي بما لا بد له من أن يكتفي به من الإيماء. ثم يسرع إلى الموت ويسرع الموت إليه حتى يلتقيا فلا إيماء ولا حراك، قد سكت الشيخ وسكت بناته لحظة. ثم تمضي حياة الناس في طريقها، فيشغل أهل الشيخ بالشيخ ليقطعوا هذه الأسباب الواهية التي بقيت بينه وبين الأحياء والأشياء، ليغيبوه في قبره، وليفرغوا لشئونهم، وليحتفظوا منه بهذه الذكرى التي تملأ القلب كله، ثم تتضاءل شيئا فشيئا حتى تتخذ لها مكانا ضيقا خفيا تستقر فيه، يحسها الرجل حينا ويجهلها أحيانا.
والصبي محزون كئيب، يذكر أمه، ويذكر جده، وينظر إلى حاضنته وينظر إلى عمه، ويفوض أمره بعد هذا إلى الله.
وقد شمله الله برعاية لا تفتر، وكلأه بعناية لا تغفل؛ فلم يلق من الناس في طفولته وشبابه شرا ولا نكرا، ولا احتمل منهم ألما ولا مكروها. عطف عليه عمه كما كان يعطف عليه جده، حتى آثره بالمودة واختصه بالبر. ولقي منه عمه مثل ما كان يلقى جده حبا بحب وودا بود. وكان أبو طالب رجل مروءة وصدق وحسن بلاء، ولكنه كان فقيرا كثير العيال، وكان يجد جهدا عظيما في إقامة عياله الكثيرين وسد خلاتهم. فلما ضم إليه هذا اليتيم صلح أمره وحسنت حاله، ووجد البركة والسعة فيما كان يتاح له من القليل. كان يكسب لعياله ما يستطيع، ثم يجمعهم حوله فلا يستطيعون إلا أن يمسوه مسا رفيقا، ثم ينصرفون وقد استنفدوه وما زالوا جياعا. فلما ضم الرجل إليه ابن أخيه اليتيم لم يزد ما كان يكسب، ولكن الله بارك فيه وزكاه. فكان الرجل يجمع عياله، ومعهم يتيمه هذا، حول هذا القليل، فلا يقومون إلا وقد أدركوا ما يدفع عنهم ألم الجوع ويبلغهم الرضا والاطمئنان.
وكذلك أنفق اليتيم طفولته وصباه بين هذين القلبين الرحيمين: قلب عمه وقلب حاضنته.
ولست أعرف صبيا تأثر بحياة الصبا واحتفظ بحوادثه وذكرياته ما أقام في هذه الدنيا، ووفى للذين بروا به وأحسنوا إليه كهذا الصبي. لم يكد يقدر على البر وإسداء المعروف وإظهار شكره للنعمة، واعترافه بالجميل، حتى ضرب للناس في ذلك أروع الأمثال وأبلغها تأثيرا في القلوب.
أرضعته أمة لأبي لهب يقال لها ثويبة أياما قبل أن تأخذه حليمة. فلما علم ذلك من أمرها حفظ لها هذه النعمة وعرف لها هذا الجميل! فلم يكد يقدر على شكرها والبر بها حتى جهد في ذلك، وإذا هو يحمل زوجه خديجة على أن تسعى عند أبي لهب في أن تشتري منه هذه الأمة لتعتقها، فيأبي أبو لهب، فيتصل معروف الرضيع بأمه هذه ما أقام بمكة، حتى إذا هاجر إلى المدينة لم ينس أمه ولم يهملها، وإنما أرسل إليها الصلات والكسوة من حين إلى حين. حتى إذا عاد من خيبر وقيل له: إن ثويبة قد ماتت سأل عن قرابتها لينالهم بما كان ينالها به من المعروف، فأنبئ بأنها لم تترك أحدا.
وحياة أهل البادية مملوءة بالضنك حافلة بالشقاء. فانظر إلى حليمة تهبط مكة تستعين بابنها على أثقال الحياة، فيكلم لها خديجة فتمنحها بعيرا وأربعين شاة. وانظر إليها تستأذن عليه مرة أخرى، فإذا أدخلت عليه ورآها قال: أمي! أمي! ثم بسط رداءه فأجلسها عليه! ثم أدخل يده من دون ثيابها فمس صدرها مسا، ثم قضى حاجتها. ثم انظر إليه بعد أن عظم وارتفع شأنه ودانت له العرب كلها، وقد نصره الله يوم حنين على هوزان، فهزم الجند واحتوى المال وسبى الذرية والنساء، وقسم الغنائم بين المسلمين. وإنه بالجعرانة
2
صباح يوم وإذا وفد من هوزان يقبل عليه مسلما منبئا بإسلام من وراءه من الناس، وفي هذا الوفد عمه من الرضاعة، وإذا عمه يتحدث إليه فيقول: يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عماتك وخالاتك وحواضنك، وقد حضناك في حجورنا وأرضعناك بثدينا. لقد رأيتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك، ثم رأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك، وقد تكاملت فيك خلال الخير. ونحن مع ذلك أصلك وعشيرتك، فامنن علينا من الله عليك. فيجيبه: لقد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي وجرت فيه السهمان
3
فما كان منه لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس. فإذا صليت بالناس الظهر فقولوا: نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس. فلما صلى الظهر قام الوفد، فأتم ما أمر به، ووفى لهم بوعده، وشفع لهم عند الناس،
4
فردت عليهم نساؤهم وأبناؤهم، لم يأب ذلك إلا نفر من الأعراب اشترى منهم ما كان في أيديهم من السبي ورد على أهله.
قلت لمحدثي: فإن هذا الوفاء بليغ التأثير في النفوس، وأبلغ منه هذه الحيلة الطاهرة البريئة في استخلاص السبي من الذين ملكوه؛ فيها وفاء، وفيها رد للحرية على آلاف من الناس، وفيها إقرار للأمن والسلم في قبيلة ضخمة قوية من العرب، وفيها تخليص القلوب من الضغينة والموجدة والحقد، وتهيئتها لقبول الإسلام والنصح للمسلمين في صدق وإخلاص، قال محدثي: نعم! ولكن له وفاء آخر يملأ القلوب رحمة ويمزقها لوعة وأسى؛ لأنه وفاء المحب الصادق في الحب، والعاجز عن النفع الذي لا يملك لمن يحب خيرا. قلت: وكيف يجد العجز إلى هذا القلب العظيم سبيلا؟ قال: إن لله قدرا مهما تعظم القلوب فلن تغيره ولن تبدله. لقد كان أشد الناس برا بأمه ووفاء لعمه: مر بقبر أمه عام الحديبية فاستأذن ربه في أن يزور القبر. فأذن له، فزاره وأصلحه ومكث عنده حينا. ثم استأذن ربه في أن يستغفر لأمه فأبى عليه، فانصرف عن القبر باكيا كئيبا، وبكى المسلمون لبكائه، واكتأب المسلمون لاكتئابه، ودخل مكة عام الفتح ظافرا منتصرا. وبينا هو في بعض مواضعها رأى أصل قبر فعطف عليه وأقام عنده، واستأذن في الاستغفار لصاحب القبر فلم يؤذن له، فانصرف محزونا كئيبا، وبكى فبكى الناس. وما رأى الناس يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم!
5
واختلط أمر هذا القبر على الرواة، فظنوه قبر أمه، وقبر أمه في الأبواء. ومن يدري! لعله قبر جده الشيخ. وعرض الإسلام على عمه وألح عليه، وكاد الرجل أن يقبل لولا حمية الجاهلية، فلما مات قال ابن أخيه: لأستغفرن لك، فلامه القرآن في ذلك لوما عنيفا.
تبارك الله! رجل يخرج الله به أمة كاملة من الظلمات إلى النور، ويفتح لها به أبواب الخير على مصاريعها إلى آخر الدهر، ثم يأبى الله عليه أن يستغفر لأمه وعمه، وأن ينقذ أهله الأقربين الذين أدوه إلى الناس وحموه حتى أدى الأمانة وبلغ الرسالة.
6
قلت لمحدثي: وماذا تنكر من ذلك وعدل الله محتوم لا يقبل أخذا ولا ردا، ولا تجوز عليه المصانعة ولا المحاباة؟ قال: لا أنكر شيئا، وأعوذ بالله أن أنكر شيئا وأنا أعلم أن الله قد تأذن أنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. إنما أرثى للناس الذين يرون الخير فيجتنبونه، ويرون الشر فيتهالكون عليه. أرثى لهؤلاء الذين يبلغ بهم الضعف وخور النفوس أن يظلموا الأبرياء ويعتدوا على الوادعين ليؤثروا أهلهم وقرابتهم بما ليس لهم بحق. ولو قد حاول الناس أن يتأثروا بالمثل العليا ويتأسوا بالأسوة الحسنة لكان لهم في مثل هذه القصة صارف عما يجترحون من السيئات، ورادع عما يقترفون من الآثام. هل ترى أبلغ في تصوير العدل الصارم الحازم الذي لا يقبل هوادة ولا يحتمل رفقا؛ لأنه ليس موضع هوادة ولا رفق، من هذه الآية الكريمة التي يلام فيها النبي والمسلمون حين استغفروا لمن لا مطمع له في المغفرة:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم .
7
الكتاب الثاني
الفصل الأول
الفيلسوف الحائر
1
قال حاكم المدينة لصاحبيه حين سكت الغناء: ما أجمل هذا الصوت! ما أذكر أني سمعت قط شيئا يقاربه عذوبة وسحرا.
قال «كلكراتيس»: إنه ليأتي من بعيد.
قال «أندروكليس» في شيء يشبه الذهول: ويدعو إلى بعيد.
والتفت الحاكم إلى المغنية وهو يقول: من علمك هذا الصوت يا ابنتي؟ فقد ملأت به أسماعنا وقلوبنا وعقولنا منذ الليلة!
قالت الفتاة في تحفظ شديد، مصدره حياء شديد: لقد أخذته عن أمي يا مولاي، وأخذته أمي عن جدتي، وهو صوت شائع متوارث في مدينتنا منذ الزمان القديم، يتغنى به الفتيات الحسان إذا خرجن مع الصبح يستقبلن الفجر المضيء الرطب بوجوههن المشرقة الوضاءة، ويملأن جرارهن من ماء النيل. يتغنين به فرحات مرحات، كأنما يترجمن به عن فرح الطبيعة المستيقظة، ومرح الصبح النشيط. ومع ذلك فما سمعت أمي تتغنى هذا الصوت مرة إلا رأيت على وجهها كآبة وشحوبا، وأحسست في غنائها حزنا تنفطر له القلوب. وقد سألتها عن ذلك فأعرضت عني مرات، ولكنها كانت تعاود الغناء فتعاودها الكآبة التي تغشي وجهها، ويعاودها الحزن الذي يشيع في صوتها ويفيض على الجو من حولها حسرة وألما، فأعود أنا إلى السؤال وألح فيه. فلما طال عليها ذلك مني أنبأتني نبأ هذا الصوت، وعرفت منها أن جدتي لم تكن تتغناه إلا ثار في نفسها حزن عميق وتحدر من عينيها دمع غزير.
وما أكثر ما تخرج الأشياء عن أطوارها وتجري الأمور في أجيال المحدثين على غير ما كانت تجري عليه في أجيال القدماء! كان هذا الصوت صورة الحسرة واللوعة، وترجمان الجزع واليأس عند جداتنا في الزمان الأول، فإذا هو الآن عند أترابنا من أهل هذا الجيل صورة الفرح والمرح، وترجمان اللذة والغبطة والسرور.
ولقد تغنيت هذا الصوت في كثير من المجالس، وتردد به صوتي في كثير من قصور الحكام والسادة، فما رأيت أحدا سمعه، ثم ذاقه، ثم فهمه على وجهه، ثم شاركني فيما أجد من عاطفة وما يملأ نفسي أثناء غنائه من شعور، قبل أن أراكم الليلة، وقبل أن أسمع سؤالكم عنه وقدركم له وحكمكم عليه.
ثم أمسكت الفتاة عن الحديث، أو انقطع صوتها انقطاعا، حبسته في حلقها عبرة أمسكتها الفتاة إمساكا، ولكنها تفجرت من عينيها دموعا متحدرة على خديها الجميلين.
هنالك أسرع «أندروكليس» في شيء من الدعابة الخفيفة إلى الفتاة فقبل بين عينيها، ومسح هذا الدمع المتحدر وهو يقول: مهلا يا ابنتي! ما ينبغي لهاتين العينين أن تبكيا، ولهذا الوجه الجميل أن يغسله الدمع، ونحن بعد لم نجتمع للبكاء والحزن، وإنما اجتمعنا للغناء واللهو. فانتقلي بنا من هذا الصوت الحزين المحزن إلى لون آخر من ألوان الغناء. خذي في بعض هذه الأغاني التي تملأ جو الساحل بهجة وسرورا، والتي يتنقل بها أولئك الفتيات على مجالس السمار وأصحاب العبث مع ما يتنقلن به من طاقات الورد والياسمين.
قال «كلكراتيس» في صوت هادئ كأنما يملكه صاحبه في شيء من العنف والشدة على نفسه: دعنا من دعابتك ومجونك، وأرحنا من فرحك ومرحك، فما أهون الدعابة والمجون، وما أيسر الفرح والمرح! وإننا لفي ذلك منذ نصبح إلى أن نمسي، وإننا لفي ذلك منذ نمسي إلى أن يتقدم بنا الليل. يا عجبا للذين لا يسأمون اللذة، ولا يضيقون باللهو، ولا يحتاجون بين حين وحين إلى شيء من الحزن يرد نفوسهم إلى بعض أطوار الجد ويصور لهم الحياة على أنها شيء غير هذا الباطل الذي لا ينقضي، والعبث الذي لا يزول. إن لصوتك هذا يا ابنتي لنبأ، فحدثينا به وقصيه علينا! فقد شاركناك في ذوقه وفهمه، فما أجدرنا أن نشاركك في العلم بما له من تاريخ!
قالت الفتاة مترددة متحفظة وقد نظرت إلى حاكم المدينة نظر المستأذنة المستأمنة، فأشار إليها برأسه ويده أن امضي فليس عليك بأس.
قالت الفتاة: إن لهذا الصوت تاريخا لو عرفه أصحاب السلطان لحظروا غناءه على فتيات الريف.
قال الحاكم: سأعرفه ولك علي ألا أحدث في أمره شيئا.
قالت: فإنه صيحة من تلكم الصيحات التي انبعثت من نفوس الشعب حين فرض عليها دين المسيح وصدت في قوة وعنف عن دين الآباء والأجداد. ألم تسمعوا إلى ألفاظه؟ ألم تفهموا معانيه؟ إنها تسأل عن نجم كان يشرق في السماء إذا تقدم الليل، وكان يبعث مع أشعته إلى نفوس الناس لذة وحبا وأملا، وكان الناس ينتظرون مطلعه ليتلقوا أشعته التي كانت تحمل إليهم الحياة، وتجدد في نفوسهم الأمل، وتمس قلوبهم بأجنحة الحب المحرقة. فلما فرض عليهم الدين الجديد فرضا وأخذوا بالإعراض عن حياة آبائهم وأجدادهم أخذا عنيفا، أعرضوا كارهين عن هذا النجم، فأخذوا لا ينتظرون مطلعه، ولا يستقبلون أشعته، ولا يرسلون نفوسهم إليه إذا جنهم الليل إلا أقلهم؛ فقد كانوا يترقبونه خفية ويستقبلون أشعته سرا، ويرسلون إليه نفوسهم من وراء الحجب. وكأن هذا النجم قد أنكر إعراض عباده عنه، وضاق بجحودهم لما كان يسدي إليهم من يد، ويصنع فيهم من معروف، أو كأنه أشفق من هذا الإله الجديد الذي ملأ عليه أرجاء الأرض وآفاق السماء، فترقبه عباده الليلة بعد الليلة، والليالي بعد الليالي ولكنهم لم يجدوه، وأرسلوا إليه نفوسهم ولكنها عادت إليهم باليأس والإخفاق، وبالحسرة واللوعة، وبالجزع والقنوط.
فهذا الصوت سؤال ساذج، توجهه النفوس الساذجة إلى السماء الصامتة وإلى النجوم الخرساء، تسألها عن نجمها الذي أضلته ما خطبه؟ وأين يمكن أن يكون؟ وهل لها إليه من سبيل؟ فلا ترجع عليها السماء جوابا، ولا ترد عليها النجوم صدى، كأنما أدركها الصمم، وكأنما عقدت ألسنتها عن الكلام. ومع ذلك فما كان أكثر ما تسمع السماء والنجوم لأهل الأرض! وما كان أكثر ما يسمع أهل الأرض لحديث السماء والنجوم!
قال «كلكراتيس»: فهو ذاك يا ابنتي! وإنك لتتحدثين إلينا بحديث أنفسنا، وتعرضين علينا صورة قلوبنا، فما أكثر الذين يلتمسون هذا النجم أو نجما يشبهه في السماء فلا يجدونه! وما أكثر الذين يسألون عن هذا النجم أترابه التي تبدو إذا جن الليل فلا يظفرون منها بشيء!
قال «أندروكليس»: إن النجوم صماء قد آذاها صوت هذه النواقيس التي تقرع من كل بيعة في كل قرية، وفي كل وجه من وجوه المدن، فتملأ الجو بهذا الرنين والطنين، وتبسط بين أصوات الناس وأسماع النجوم حجابا صفيقا لا يخترقه السؤال ولا ينفذ منه الجواب.
قال حاكم المدينة وهو يتكلف الوقار ويتصنع الهيبة: مهلا! إنكم تلحدون في دين قيصر! وإنكم تعلمون أن قيصر قد أعد للملحدين في دينه عذابا شديدا، وإني أنا الموكل بهذا العذاب. لقد آمنتك يا ابنتي على نفسك وعلى صوتك هذا الجميل، فلا بأس عليك! ولكن خذي إن شئت في غير هذا الغناء، أو أريحي نفسك لنأخذ نحن في غير هذا الحديث.
وخلا الحاكم بعد ساعة إلى صاحبيه، ولكنه لم يخض معهما في لون آخر من ألوان الحديث، وإنما حذرهما وحذر نفسه أيضا من هذا التهاون والتفريط، وذكرهما وذكر نفسه أيضا بأن قيصر لا يعرف هوادة في الإلحاد، ولا لينا مع الملحدين، وبأن الوثنية إثم يعاقب عليه القانون أشد العقاب: تصادر فيه الثروة، وتستصفى فيه الأموال، وتسفك فيه الدماء.
قال الحاكم: وقد أقامني قيصر كما تعلمان حفيظا على دينه، كما أقامني حفيظا على سياسته ومدبرا لأمره في هذا الإقليم، فكيف به لو ارتفع إليه بعض ما نحن فيه! وكيف به لو علم أنه قد آمنني على الدين فأنا أخونه في الدين، وأعين اثنين من صديقي على مثل ما أمعن فيه من خيانة!
قال «أندروكليس»: هون عليك فإنا لم نزد منذ الليلة على ما تعودنا أن نفعل وأن نقول منذ أعوام، قبل أن تلي الحكم وبعد أن وليته، ولم يرتفع إلى قيصر من أمرنا شيء، فماذا يخيفك؟ وماذا يدعوك إلى هذا الغلو في التحفظ والإغراق في الاحتياط؟ أمشفق أنت من هذه المغنية المصرية التي لا يبلغ صوتها ما وراء غرفتك وحجراتك، ولا تتصل الأسباب بينها وبين أحد غيرك من الناس؟
قال حاكم المدينة: بل أنا مشفق من جواسيس قيصر الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، والذين يندسون في كل بيئة وينسلون إلى كل مكان، ويتلطفون حتى يعرفوا أسرار البيوت ويظهروا على دخائل النفوس، ثم يرفعون ذلك إلى قسطنطينية فتصدر فيه الأوامر بما تعلمون. وما صرفت الحاشية والندماء حين انتصف الليل، وما صرفت هذه المغنية آنفا، وما تعجلت الخلوة إليكما قبل إبانها لنفرغ لما تعودنا أن نفرغ له من عبادة آلهتنا الذين نحبهم ونؤثرهم على النحو الذين يحبون أن يعبدوا عليه، وإنما أردت بما تعجلت من هذه الخلوة أن أحذركما وأحذر نفسي، وأن أذكركما وأذكر نفسي، وأن أستشيركما في حدث طارئ وخطب ملم. فقد ارتفعت الأنباء إلى قسطنطينية بأن شيئا من التهاون في الدين قد أخذ يشيع في هذا الوجه الذي يلينا من وجوه الدولة، وبأن جماعة من المعلمين والفلاسفة قد أخذوا يظهرون إنكارهم؛ لما كان من اضطهاد المعلمين والفلاسفة الوثنيين في بلاد اليونان، وقد أخذوا يجهرون بشيء من الدعوة للدين القديم، يظهر الآن يسيرا لا يكاد يحس، ولكنه يوشك أن يقوى ويشيع وينبث في أطراف الأرض، فيعظم الشر، ويكثر الفساد، وينقبض دين المسيح عن أرض قد استقر فيها سلطان المسيح.
وقد انتهى إلي، اليوم، أمر قسطنطينية أن أتنبه لذلك، وأنهض لمراقبته ومقاومته، وآخذ الذين يظهر في سيرتهم إلحاد أو شيء يشبه الإلحاد بأقصى ما أملك من الشدة والعنف.
قال «أندروكليس»: فهذا سعي القسيسين وكيد الرهبان.
قال الحاكم: أو سعي المنافسين وكيد الخصوم. ومهما يكن من شيء فالحذر أيسر ما يجب علينا، والاحتياط أولى ما يجمل بنا.
قال «كلكراتيس»: إني قد ضقت بحياتكم هذه البغيضة التي لا سماحة فيها ولا يسر، ولا راحة فيها ولا لين. تضييق على الناس في حياتهم حين يغدون وحين يروحون، وفي سيرتهم حين يجتمعون وحين يتفرقون، وفي أحاديثهم حين يلقى بعضهم بعضا، وفي نجوى ضمائرهم حين يخلو أحدهم إلى نفسه أو يدير في رأسه بعض ما يدير من الرأي.
من الذي فرض لكم على الناس هذا السلطان؟! ومن ذا الذي أباح لكم أن تنفذوا إلى نفوس الناس وضمائرهم، ولا تسألوهم عما يعملون حتى تسألوهم عما يرون؟! وما ينبغي لكم مع ذلك أن تسيطروا من أعمال الناس على شيء ما لم يبدوا لكم صفحتهم أو يظهروا لكم مقاومة وعصيانا.
فكيف بسؤالهم عن رأي العقل وحديث الضمير؟! أليس قد قال المسيح الذي يفرض قيصر على الناس طاعته ودينه: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»؟ فما بال قيصر يتجاوز حدوده، ويغير على ما ليس له، ويدخل بيننا وبين نفوسنا، ويندس بيننا وبين آلهتنا! أليس يكفيه أن هدم المعابد، ودمر الهياكل، وألغى الديانات ومزق أصحابها كل ممزق، وثأر للذين استشهدوا في سبيل المسيح، فجعل للأوثان شهداء امتحنوا في أنفسهم وأهلهم وأموالهم حتى محوا من الأرض محوا؟! أليس يكفيه أن يبلغ هذا كله حتى يدخل بين المرء وضميره، ويندس بين المرء ونفسه؟! أليس يكفيه أن يبسط سلطانه على الأجسام حتى يحاول أن يبسط سلطانه على القلوب والعقول؟! وكيف السبيل له إلى استذلال القلوب والعقول؟! إني لألقى أعوانه وعماله بما يرضيهم ويرضيه، فأكف عن نفسي أذاهم وأذاه، ولكني أكتم فيما بيني وبين نفسي ما أشاء من الأمر، وأدير في رأسي ما أحب من الرأي، وأتقدم بالدين والطاعة والحب في قلبي لمن أوثر من الآلهة. والأمر يستطيع أن يستقيم بين قيصر وبيني على هذا النحو من النفاق الذي تستقيم عليه أمور الناس كلهم فيما بينهم من علاقة أو صلة. فما بال قيصر يكلف نفسه ما لا يطيق، ويحمل الناس من الأمر ما لا يحبون ويريد أن تخلص له قلوبهم وسرائرهم، كما تذعن له أجسامهم وظواهرهم!
إنه لا يبلغ من ذلك شيئا، ولكنه يضيع قوته عبثا ويفني جهده في غير طائل، ويحرج الناس ويرهقهم من أمرهم عسرا، وينتهي آخر الأمر إلى أن يصرفهم عن حبه، ويزهدهم في طاعته، ويملأ قلوبهم بغضا له وإنكارا عليه؛ وقد يدفعهم إلى أن يعصوه ويثوروا بسلطانه حين يجدون إلى العصيان والثورة سبيلا.
قال حاكم المدينة: على رسلك! هدئ من هذه الحدة، وهون من هذه الشدة، واخفض من هذا الصوت! فإني قد صرفت الحاشية والخدم والحجاب، ولكني لا آمن أن يكون قد تخلف منهم وراء الأستار أو دون الأبواب من يتسمع علينا. وما أرى بعد ذلك إلا أنك تريد قيصر على ما لا يلائم أخلاق القياصرة. فمتى رأيت صاحب السلطان الواسع العريض يرضى من الناس بأيسر الطاعة، ويقبل منهم ظاهرا من الخضوع، ولا يكلفهم أن يخلصوا له الحب ويصفوه مودة قلوبهم وخاصة نفوسهم، فإن ظفر منهم بما يريد فذاك وإلا حملهم عليه كرها، وخيل إلى نفسه بل أقنع نفسه بأنه يستطيع أن يصل إلى القلوب من نفس الطريق وبنفس الوسائل التي يصل بها إلى الأجسام؟! والسلطان بطبعه طاغية، لا يقره في حدوده، ولا يرده عن الظلم والجور إلا سلطان مثله يعدله ويوازنه ويحول بينه وبين الجموح.
فهل تعرف سلطانا يعدل سلطان قيصر؟ وهل تعرف قوة توازن قوة قيصر؟ وهل تعرف في الأرض فردا أو جماعة أو مظهرا من مظاهر الطبيعة يستطيع أن يرد قيصر إلى الحد إن هم قيصر أن يتجاوز الحد؟!
قال «كلكراتيس»: فإن أصحاب هذا الدين الذي يفرضه علينا قيصر يزعمون أن هذه القوة ليست في الأرض ولكنها في السماء، وأنها أضخم ملكا وأعظم بطشا وأوسع سلطانا من كل ما يملك قيصر، وأنها خليقة أن تكبحه إذا جمح، وترده إذا طغى.
قال «أندروكليس»: هذا كلام يقال، وما أستطيع أن أومن لهذه القوة حتى أراها، وما أستطيع أن أذعن لها حتى أرى أثرا من آثارها أو مظهرا من مظاهرها. فما أكثر ما يطغى قيصر ويبغى! وما أكثر ما يجور عماله ويظلمون، فلا تردهم هذه القوة ولا تصدهم، وكأنها تدفعهم إلى البغي دفعا، وتمد لهم أسباب الظلم والجور!
قال حاكم المدينة وعلى ثغره ابتسامة لا تخلو من سخرية: فإنكما تجهلان من هذا الأمر أكثر مما تعلمان.
تجهلان أن بين الأرض والسماء حلفا منذ فرض الدين الجديد على الناس، وأن قيصر يمثل هذا الحلف وينطق عنه، فإذا أجاز قيصر أجازت السماء، وإذا منع قيصر منعت السماء، وإذا حل قيصر أو عقد فإنما يحل ويعقد بأمر السماء. وما ينبغي أن تنكرا من ذلك شيئا. وقد كان أمر قيصر في ظل الدين القديم على مثل ما هو عليه في ظل الدين الجديد: كان ينطق بلسان «جوبتير»، ويبطش بيده، ويمزق بسلاحه، ويحرق بناره أولئك المستضعفين من النصارى، فهو الآن ينطق بلسان المسيح، ويبطش بيده، ويصب بأسه على الأثينيين.
قال «كلكراتيس»: إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن قيصر إنما ينطق بلسان نفسه، ويبطش بيد نفسه، ويصب على الناس ظلم نفسه وجورها! وما كان «جوبيتير» ليكلف القياصرة ما تكلفوا من شطط. ولست أعرف المسيح، ولكني ما أظنه أقل رحمة للناس ورفقا بهم من «جوبيتير» وما أرى إلا أن قيصر يبغي علينا ويبغي على آلهتنا كما يبغي على إلهه هو.
قال «أندروكليس»: فالأمر كما تقول. ولكن ما الذي تستطيع أن تفعل؟ وما الذي تريد أن تفعل؟ إنك لا تستطيع أن ترد على قيصر أمره، ولا أن تلقى بغيه وعدوانه بما يشبهما من البغي والعدوان. فليس لك إلا أن تذعن فتحيا، أو تأبى فتموت.
قال حاكم المدينة: والخير في الإذعان! لأن الحياة خير من الموت، فنحن نعرف الحياة، ونبلو لذاتها، ونذوق آلامها، ولا نعرف من أمر الموت وما وراءه شيئا. ويجب أن تكون للآلهة أسرار لا تستطيع عقولنا أن تبلغها أو ترقى إليها. فما لإله قيصر لا يصد قيصر عن ظلمه! وما لآلهتنا لا تحمينا من هذا الظلم؟! كأنما انصرف إله قيصر وانصرفت آلهتنا عن الأرض وما يقع فيها من بغي وعدوان، وعن الناس وما يجني بعضهم على بعض من ظلم وجور.
قال «أندروكليس»: وما يدريك؟! لعل ما يحدث في السماء ونجومها ليس خيرا مما يحدث في الأرض، ولعل وراء هذا الكون من عظيم الأمر ما يشغل الآلهة عما يحدث فيه من الأحداث.
قال «كلكراتيس»: وإذا؟!
قال حاكم المدينة: وإذا فلنلق الحياة كما نستطيع، ولنحتمل منها ما نطيق، ولنأخذ من لذاتها ما يتاح لنا، ولنؤد إلى قيصر ثمن هذه اللذات طاعة وإذعانا نخلص فيهما ما وسعنا الإخلاص، وننافق فيهما إن اضطررنا إلى النفاق.
قال «كلكراتيس»: فنحن في ذلك منذ عرفنا أنفسنا لا نعصي لقيصر أمرا، ولا نخرج عما رسم لنا من الحدود.
قال الحاكم: بل أنتما تعصيان له بعض الأمر، وتخرجان عن بعض ما رسم لكما من الحد. فأنتما لا تشهدان الصلاة، ولا تختلفان إلى الكنائس، ولا تظهران تعظيم المسيح، ولا تقدمان إلى القسيسين والبطارقة ما يصلح رأيهم فيكما. وقد كنت مثلكما حينا من الدهر، وما أظنني خالفتكما فيما أخالفكما فيه من ذلك إلا لأن المنصب يفرض علي أن أشهد الصلاة وأختلف إلى البيع، وأظهر للدين ورجاله ما أظهر من التعظيم. وقد نفعني ذلك كما تريان ولم يضرني شيئا.
ثم أطرق صامتا فأطال الإطراق، ثم رفع رأسه وقال مبتسما: وأحسبه نفعكما أيضا. فما يمنعكما أن تذهبا مذهبي، وتسيرا سيرتي، وتعلنا لقيصر ما يريد إعلانه، وتضمرا لأنفسكما وآلهتكما ما تحبان! إنكما لا تنكران ذلك من أمري، فما لكما لا تعرفان منه مثل ما أعرف، ولا تأتيان منه مثل ما آتى؟!
قال «أندروكليس»: لأنا لا نريد أن نرقى إلى مثل ما رقيت إليه من منصب، ولا أن نظفر بمثل ما ظفرت به من قوة وسلطان، ولأن ما لنا يغنينا، وجاهك يحمينا، وهذه الحياة ترضينا.
قال حاكم المدينة: فإن عجز جاهي منذ الآن عن حمايتك؟
قال «كلكراتيس»: فإنه النذير بالقطيعة إذا.
قال حاكم المدينة: لا تتعجل القضاء على صديقك، ولا تسرع إلى سوء الظن به! فإني لا أريد قطيعتكما ولا أقدر عليها، وإنما هو خطب ألم، فأنا أستعينكما عليه، وأستشيركما فيه، فأعيناني وأشيرا علي. وإنكما لتعلمان أني ما أملك لكما ولا لنفسي من غضب قيصر شيئا. فلنجمع أمرنا، فإما طاعة لقيصر من ثلاثتنا ووراءها ما وراءها من الحظوة والنعيم، وإما معصية لقيصر من ثلاثتنا ووراءها ما وراءها من البؤس والضر ومن عذاب قد ينتهي إلى الموت.
قال «أندروكليس» ضاحكا وهو ينظر إلى زجاجات وأقداح قد وضعت من القوم غير بعيد: ما أرى إلا أنك قد بدأت تذيقنا هذا العذاب. فهذه الزجاجات القائمة تدعونا، وهذه الأقداح المصفوفة تغرينا، وأنت تشغلنا عنها بما تخوفنا من أمر قيصر وبأسه بعد أن حرقت أجوافنا بما قدمت إلينا من طعام، وجففت حلوقنا بما صببت علينا من نذير. فلنسق هذه الأقداح الظامئة، ولنطفئ هذه الأجواف المحترقة، ولنرطب هذه الحلوق الجافة، ولنقدم الطاعة إلى «دينوزوس» في ظلمة الليل، والإذعان إلى قيصر في وضح النهار.
ثم نهض فخيل شيئا من رقص «دينوزوس»، وأسرع إلى المائدة فملأ قدحا قدم منه قطرات إلى «دينوزوس»، ثم صبه في فمه صبا، ثم ملأ الأقداح الثلاثة فقدم إلى صاحبيه، وعاد إلى مجلسه وفي يده قدحه يحسو منه حسو الطير ويقول: لست أرى بهذه القسمة بأسا: الليل ل «دينوزوس»، والنهار لقيصر. وإن شئتما فليكن النهار قسمة بين قيصر والمسيح: لقيصر شطر النهار، وللمسيح شطره الآخر. ولكنكما كنتما تقولان إن بين قيصر والمسيح حلفا فلا حاجة إذا إلى أن نقسم النهار بينهما، فلنقدم النهار كله إلى قيصر فسيرضى المسيح، كما كان عامة الناس يقدمون عمرهم كله لقيصر فيرضى «جوبتير»، أما أنا فهذا الرأي يرضيني كل الرضا، يحقق آمالي ومآربي، ويرضي حاجاتي ومنافعي، ويرضي بنوع خاص رأيي وفلسفتي. فما يمنعني أن أكون من عامة الناس حين تغمرنا الشمس بضوئها هذا الفظيع الذي لا يخفى عليه شيء ولا يستتر من دونه أحد، وأن أكون من خاصتهم حين يغمرنا الليل العطوف الأمين بظلمته الحصينة المتينة التي لا تظهرنا إلا على نفوسنا، والتي تتيح لشخصياتنا أن تسترد ما فقدت من حرياتها في ضوء النهار، والتي لا يلمع فيها إلا هذه الأشعة الضئيلة التي ترسلها إلينا النجوم كأنها التحية الخفية يرسلها الحبيب إلى عاشقه بمأمن من الرقباء. قال ذلك ثم أفرغ قدحه في جوفه، ونظر إلى صاحبيه في شيء من الإشفاق والازدراء وهو يقول: ما أقل نشاطكما للشراب! وما أشد فتوركما عن «دينوزوس»! ما كنت أحسب أن خوف قيصر يغنيكما عن نبيذ ساموس. أفرغا قدحيكما فإن جوفي يحرقه الصدى. وما أدري فيم هذا القصر الضخم، والمنصب الفخم، والثراء العريض؟ هلم يا سيدي فادع لنا بعض إمائك يغنين ويرقصن ويطفن علينا بالأقداح والأكواب، فما عبد «دينوزوس» بخير من الغناء والرقص والشراب.
قال «كلكراتيس» في هدوء يملؤه الجد وقد غشى وجهه العبوس: ليس الأمر من اليسر بحيث تظن. وما أرى إلا أن خوف قيصر هو الذي يدفعك إلى الشراب ثم إلى السكر.
قال «أندروكليس»: أخطأت يا صديقي! سأخاف قيصر طول النهار، فلآمنه أثناء الليل. وإنما أدعوكما إلى «دينوزوس» لأننا قد عدونا عليه، وجرنا عن طريقه! فنحن مدينون له بالليل كله، وقد صرفنا عنه بعض هذا الليل إلى قيصر، فلنحذر أن ينكر ذلك من أمرنا، فيسخط علينا إله الليل «دينوزوس»، وإله النهار قيصر.
وكان الصديقان قد أفرغا قدحيهما، فنهض «أندروكليس» نشيطا مرحا فملأ الأقداح الثلاثة، وقال لحاكم المدينة: أتريد أن تدعو إماءك أم تأذن لي في أن آتي هذه الحركة التي تأتيها فيستجيب لك الخدم؟ إنما هي يد تضرب يدا فيصل الصوت إلى من ندعو.
قال «كلكراتيس»: مهلا! فإني في حاجة إلى لحظات أخلو إليكما فيها، فما أحب أن نفترق وأنا أطوي عنكما بعض الأمر.
قال حاكم المدينة: وما ذاك؟
قال «كلكراتيس»: ذاك أني لا أرى رأيكما، ولا أعرف لقيصر سلطانا على قلبي، ولا أحب أن أعبد إلها لا أعرفه، ولا أريد أن أضيف إلى آلهتي إلها جديدا! لأنهم يكفونني ويغنونني من كل إله. والآن فادع إماءك إن شئت، ولنعبد «دينوزوس» على ما بيننا من اختلاف الرأي: أخلص له ولأصحابه من أهل الأولمب، وتشركون معهم إلها جديدا أو إلهين جديدين.
قال حاكم المدينة: فإن هذا لا يحل المشكلة، ولا ينتهي بنا إلى غاية نرضاها.
قال «كلكراتيس»: سنستأنف الحديث في ذلك إذا كان الغد، فدعني أفكر، وادع إماءك وندماءك! فقد جرنا وأسرفنا في الجور على «دينوزوس».
ودق حاكم المدينة يدا بيد، فما هي إلا لحظات حتى فتحت الأبواب، وانفرجت الأستار، وأقبل الجواري حسانا صباحا يحملن فنون الزهر، وألوان الفاكهة، ويتهيأن للرقص والغناء.
2
ولم يجلس «كلكراتيس» لأصدقائه من الغد كما تعود أن يفعل وجه النهار من كل يوم، ولم يفرغ لذلك العبد الذي جعله على ثروته وخزائن ماله، ولا لهذا العبد الذي وكل إليه تدبير القصر وأمر الخدم والرقيق، كما تعود أن يفعل آخر النهار من كل يوم! بل لم يستطع عماله وأصحاب تجارته الواسعة أن يرفعوا إليه شيئا من أمرهم كما تعودوا أن يفعلوا كلما تولى النهار؛ لأنه احتجب ذلك اليوم منذ رجع من قصر الحاكم قبل أن يسفر الصبح بقليل. أوى إلى مضجعه فاستوفى حظه من راحة هادئة ونوم مطمئن، ثم نهض مع الظهر فأدى لجسمه الذي تعود أن يؤديه له من العناية والرياضة، ثم خلا إلى نفسه يفكر فيما كان بينه وبين صديقيه من حديث، ويدير رأيه فيما عسى أن يتخذ من سيرة ويسلك من طريق. وكان صادقا كل الصدق مصمما كل التصميم حين أعلن إلى صديقيه في لهجة الحازم العازم أنه يأبى أن يقسم حياته بين قيصر وبين ضميره، وأن يظهر لقيصر ما يرضيه من الإيمان بالدين القائم، ويخفي في نفسه ما يرضيها من الإخلاص للدين الوثني القديم. وكان يعلم حق العلم، أن صديقه الحاكم لا يتقدم إليه في مصانعة قيصر وموادعة السلطان إلا مؤثرا له بالخير، مشفقا عليه من الشر. ولعل صديقه الحاكم كان يحتاط لنفسه بعض الشيء حين كان ينصح بالمصانعة والموادعة. ولكن أي غرابة في هذا وصديقه إنسان فيه ضعف الناس وقوتهم، وفيه أثرة الناس وإيثارهم؟!
والشيء الذي ليس فيه شك ولا ريب، هو أن صديقه كان مخلصا صادق النية حين أعلن إليه وإلى صاحبه أنه يستعينهما على خطب ألم، ويستشيرهما في حادث طرأ، ويريد أن يكون معهما على طاعة قيصر إن أزمعا الطاعة، وعلى عصيان قيصر إن أرادا العصيان.
ولو أن «أندروكليس» كان صلب الرأي جريء القلب مستمسكا بتراث آبائه حريصا على حقه في حرية الضمير، لاستطاع الصديقان أن يحملا صديقهما أن يحكموا أمرهم بينهم، وأن يلتمسوا لأنفسهم مخرجا من هذا الضيق، يلتمسون هذا المخرج بالحيلة أو بالضعف.
ولكن «أندروكليس» رجل لين النفس، فاتر الرأي، لا يحفل بدين قديم أو جديد، ولا يقدر تراث الآباء ولا كسب الأبناء! بل هو لا يفكر في أمس ولا في غد، وإنما يفكر في يومه الذي يعيش فيه، يعرض عما مضى، ولا ينتظر ما سيأتي، ولا يؤمن إلا بما يرى، وبما يرى في الساعة التي هو فيها. فإلهه الذي يعبده ويخلص له هو نفسه، يبتغي لها اللذة والنعيم، ويدفع عنها الألم والشقاء ما وجد إلى ذلك سبيلا. وهو من أجل ذلك مضطرب الرأي، أو لا رأي له، ينكر اليوم ما عرف بالأمس، وقد يعرف الآن ما كان ينكر منذ حين.
وقد آثر «أندروكليس» العافية، وأشار بالطاعة والإذعان، فوافق رأيه ومشورته هوى الحاكم، وإيثاره للراحة والهدوء، وحرصه على الاستمتاع بلذة الأمن والقوة والسلطان والجاه، والاندفاع مع الأمل القوي البعيد الذي لا يعرف حدا يقف عنده ولا غاية ينتهي إليها.
فلم يبق بعد اتفاق هذين الصديقين ل «كلكراتيس» إلا أن يختار بين اثنتين: فإما أن يشايع صديقيه على ما أحبا، وليس إلى ذلك من سبيل؛ لأنه لا يريده، ولو أراده لما استطاعه ولا قدر عليه. وإما أن يخالف صديقيه، ولكن على ألا يؤذيهما ولا يسوءهما ولا يعرضهما لشر يأتيهما من قبل السلطان، ولا يلقى في روعهما أنه مقاطع لهما أو ساخط عليهما ! فهما لا يستحقان مقاطعة ولا سخطا، وقد نصحا له جهدهما، وآثراه بما يؤثران به نفسيهما. وهذه الخطة هي التي آثرها «كلكراتيس»، ولكنه يلتمس إليها السبيل، ويبتغي إليها الوسيلة؛ فيفكر ويطيل التفكير دون أن يهتدي إلى المذهب الذي يربح منه صديقيه من غير أن يشق عليهما أو يسوق إليهما بعض ما يكرهان.
وقد فكر في الموت. وأي شيء كان أيسر من التفكير في الموت بالقياس إلى أولئك المثقفين المفلسفين من اليونان في ذلك العصر، ولا سيما حين كانوا يحتفظون بالوثنية أو بظل منها! فقد علمهم شيوخهم وأساتذتهم من أتباع «أبيقور» وأصحاب الرواق أن حياة الفرد ليست شيئا، وأن موت الفرد ليس شيئا، وقد ضربت لهم الأمثال مرات ومرات، فما أكثر أولئك الذين كانوا يكرهون الحياة فيخرجون منها مزدرين لها أشد الازدراء، مكبرين لأنفسهم أشد الإكبار! يرون شيئا من العزة في أنهم دخلوا الحياة غير مريدين ولا مختارين، فأتيحت لهم لذاتها، وفرضت عليهم آلامها وهم يستطيعون أن يعرضوا عن هذه اللذات الحلوة، وأن يتمسكوا بهذه الآلام المرة، كما يستطيعون أن يجتثوا حياتهم من أصلها اجتثاثا فيلغوا اللذات والآلام جميعا، ويثبتوا لكل إنسان ولكل إله ولأنفسهم قبل كل إنسان وكل إله أنهم أكبر من اللذة، وأكبر من الألم، وأكبر من الحياة نفسها.
نعم! فكر صاحبنا في الموت واستحضره، وكاد يطيل الوقوف عنده، وكاد يأخذ في تدبيره أمره وأمر الذين سيتركهم من ورائه وما سيورثهم من ثروة ضخمة وغنى عريض. ولكنه أحس أن نفسه لا ترغب في الموت، ولا تطيب عن الحياة، لا إشفاقا من الموت، ولا تهالكا على الحياة، بل رغبة في المعرفة، واستزادة من لذة العلم. فالموت ليس شيئا، والحياة ليست بذات خطر، ولكن بين هذا الموت وهذه الحياة شعوره هو بأنه موجود، وعلمه هو الذي يتزايد بين حين وحين، فيظهره على ما كان، وعلى ما هو كائن، وعلى ما سيكون. ولو أنه استيقن أن وراء الموت علما، أو أن وراء الموت شيئا خليقا أن يعلم، لما تردد في الإسراع إليه! ولكنه لا يعرف ما وراء الموت، بل هو يقطع بأن ليس وراء الموت علم ولا عالم ولا معلوم والموت آت لا محالة، فما له يتعجله! والموت يسعى إلى الإنسان، والإنسان مدفوع إلى الموت دفعا، فما باله لا ينتظر هذه الساعة التي لا بد من أن تلم به! وما باله لا يستمتع بهذه اللذة الغالية النادرة التي لا تقدر ولا تقوم: لذة العلم والمعرفة! وهو يفكر في هذا كله متعمقا له، مستغرقا فيه، يسأل نفسه: أي الأمور أهون لقاء وأيسر احتمالا: إرضاء صديقيه بطاعة قيصر، وتكلف ما يقتضيه ذلك من النفاق، أم إسخاط صديقيه وإسخاط قيصر والتعرض لما يستتبعه ذلك من آلام النفس وأحزان القلب وألوان الأذى، أم إراحة نفسه وإراحة صديقيه وإراحة قيصر من هذا كله باستقبال الموت والإسراع إليه؟ ثم يخطر له أن أكثر الناس مستيقنون بأن الموت لا يختم وجود الإنسان، وإنما ينقله من طور إلى طور، ويخرجه من حياة ليدخله في حياة أخرى. وهو يستعرض في هذا أحاديث الناس من اليونان وغير اليونان على اختلاف أزمانهم، وعلى اختلاف هذه الأحاديث فلا تطمئن نفسه إلى شيء منها، ولا يرى فيها إلا ألوانا من الأحلام، وفنونا من التماس العزاء. ثم يذكر «سقراط» ومصرعه وأحاديثه، وما كان بينه وبين أصحابه من حوار في خلود النفس، وإذا هو قد نسي قيصر ونسي المسيح ونسى صديقيه، ولم يذكر إلا شيئا واحدا هو لذة هذا الحوار، وعذوبة هذا الحديث الذي قرأه مرات لا يحصيها، فلم يؤمن به ولم يطمئن إليه، ولكنه مع ذلك لا يزداد إلا كلفا بقراءته، وحرصا على الاستمتاع بما تثير هذه القراءة في نفسه من لذة خالصة لا يفنيها الاستمتاع بها وإنما يزيدها ويضاعفها، كأنها الكنز لا يفنيه استغلاله، وإنما يغنيه وينميه، وإذا هو يعمد إلى «فيدون» وينقطع إلى قراءته عن كل خاطر، وعن كل شيء، وعن كل إنسان.
3
ولكن عبدا يدخل مترفقا، وينبه سيده متلطفا، وينبئه أن «أندروكليس» يستأذن عليه. ولست أدري أرضى صاحبنا عن مقدم صاحبه الذي كان يحبه ويؤثره، أم سخط على هذه الزيارة لأنها ستصرفه عن صحبة أفلاطون الذي لم يكن يعدل بصحبته شيئا. ولكنه أذن لصديقه من طرف اللسان بالدخول، ثم مشى في قراءته لم ينتظر صديقه، ولم يخف للقائه، ولا تهيأ لاستقباله. ويدخل الصديق فيراه عاكفا على كتابه، ماضيا في قراءته، فيمهله حينا، ثم يمهله حينا، ثم يسعى إليه فيمسه مسا رفيقا ويقول له في صوت عذب: ما أرى إلا أنا نتهيأ للموت! فقد سن لنا القدماء قراءة «فيدون» قبل أن نغمد الخناجر في صدورنا.
ويسمع «كلكراتيس» حديث صاحبه، فينهض إليه مذعورا كأنما أقبل من نوم عميق تضطرب فيه أجمل الأحلام وألذها. نهض إليه مذعورا وهو يقول: ها أنت ذا؟! لقد أذكر أني أنبئت بمقدمك، وكنت أريد أن أفرغ من بعض الحديث قبل أن أخف إليك، ولكنك تعلم سحر أفلاطون.
قال «أندروكليس»: أعلمه حق العلم، وأجتنب النظر فيه كلما احتجت إلى نفسي ورأيي وبصيرتي، ولا أقبل عليه إلا حين أريد أن أستريح من هذا كله. ثم أنا على كل حال لا أقرأ «فيدون»، وما أعرف أني نظرت فيه منذ تركت مجالس الدرس. ذلك لأني لم أفكر في الموت بعد، وما أحب أن أفكر فيه، وما أريد أن ألقاه إلا فجاءة وعلى غير موعد أو انتظار. وإنك لتعلم أني لا أعدل بالفجاءة شيئا، وأني لا أكره شيئا كما أكره التدبر والتوقع وتقدير العواقب. وإذا أردتني على أن أنبئك بذنب الناس والآلهة والكون عندي، فهو أنهم جميعا قد تواطئوا على أن يلقوا في صدورنا، ويطبعوا في قلوبنا ونفوسنا، أن الموت ضربة لازب ليس لنا عنه منصرف. فهذا هو الشيء الوحيد الذي أعلمه علم يقين، وأنتظره على شدة كرهي للانتظار. وما أشد ما كنت أحب أن نخدع عن الموت، ونغر عن مقدمه، ونجهله الجهل كله، حتى نختطف اختطافا على غير علم به ولا توقع له!
أليس من أجمل الأشياء وأحسنها في نفوسنا أنا لا نعرف ما يضمر الغد، وما تخبئ لنا الساعة المقبلة التي لم نبلغها بعد؟! صدقني إن حظ الإنسان من هذا الوجود رديء حقا! فقد كان يجب أن يعلم كل شيء كما يعلم الآلهة أو أن يجهل كل شيء كما يجهل الحيوان، فأما أن يضطرب بين هاتين الطبقتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فشيء لا يطاق.
قال «كلكراتيس»: ما تزال مشغوفا بالمزاح، كلفا بالدعابة والعبث.
قال «أندروكليس»: برئت إليك الآن من المزاح، وبرئت إليك من الدعابة والعبث، إنما أعرض عليك دخيلة نفسي، ولو استطعت أن أخرج قلبي من بين جنبي لتنظر فيه لما رأيت في صفحة من صفحاته مزاحا ولا عبثا، إنما هو الجد كل الجد، والحزن كل الحزن؛ لأني لم أكن إلها ولا حيوانا. وهذا وحده هو الذي يحبب إلي دين «دينوزوس»! لأنه بما يشيع فينا من النشوة بهذا الشراب الذي علمنا اعتصاره من الكرم يرضيني كل الرضا؛ لأنه يرفعني إلى طبقة الآلهة حينا، ويخفضني إلى طبقة الحيوان أحيانا، ويخرجني دائما عن هذا الطور السخيف، طور الإنسان الذي فطر منافقا بطبعه، له عقل يقربه من الآلهة ولكنه قاصر ضعيف، وله جسم يقربه من الحيوان، ولكن العقل يفسد عليه غرائزه فيحول بينه وبين راحة الحيوان.
ومن هنا لا أدري ما الذي يغضبك على صديقنا وعلي. وينأى بك عن أن ترى رأينا، وتذهب مذهبنا، وتقبل مشورتنا، فتجعل النهار لقيصر والمسيح، وتجعل الليل لنفسك ول «دينوزوس». إنا لم نشر عليك ببدع من الرأي، ولم نكلفك كما لم نكلف أنفسنا ما يخالف الطبيعة التي فطرنا عليها. وما أشك في أن «جوبيتير» وأصحابه من آلهتنا الأعزاء لا ينكرون علينا ذلك ولا يلوموننا فيه. وهبهم فعلوا، فإن جوابي لهم حاضر، فهم المسئولون لأنهم خلقونا منافقين، وجعلوا لنا جسم الحيوان القوي، ونفس الإله الضعيف. ولو قد أرادوا لجعلونا أمثالهم آلهة لا ندين بالطاعة لأحد إلا لكبيرنا «جوبتير.» ولو قد أرادوا لجعلونا فصائل من الحيوان، لا يتقدم إليها قيصر ولا كسرى ولا فرعون بعبادة هذا الإله أو ذاك. ومن يدري؟! لعلهم لو جعلونا فصائل من الحيوان؛ لأحسنوا إلينا أكثر مما تظن! فمن الحيوان ما يتقدم له الناس بأنواع العبادات، وفنون الطاعة، وضروب القربان، ومن يدري؟! لعلنا لو كنا حيوانا أن نعبد في طرف من أطراف الأرض، وأن يقتتل الناس حول ديننا وعبادتنا، كما يقتتلون حول دين المسيح وعبادة «أبلون». وأنا بالطبع لا أتحدث إلا عن اليونان ولا آسي إلا لليونان؛ فاليونان وحدهم هم الناس، وما يعبأ الآلهة بغيرهم من الشعوب.
قال «كلكراتيس»: ألم يتعبك هذا الحديث الذي لا ينقطع، وهذا الهراء الذي لا ينقضي؟! أتراك تقدمت إلى «دينوزوس» بشيء من العبادة فأفرغت في جوفك بعض الأقداح التي تطلق لسانك بهذا الهذيان؟! ولكنك قد جعلت النهار لقيصر، أفتراك جرت عليه وسرقت منه بعض النهار؟!
قال «أندروكليس»: ثم تزعم بعد ذلك أني أمزح وألهو وأنت المغرق في المزاح واللهو! فأنا قبل كل شيء لا ألغي ولا أهذي، وإنما أتحدث إليك بالجد كل الجد، وأنا بعد ذلك لم أجر على قيصر ولم أسرق منه بعض النهار! لأن قيصر لم يحرم الخمر، ولا ينهي عن التهام الأقداح. وأنا أستطيع أن أعرف لقيصر حقه، وأن أرضي مع ذلك «دينوزوس» أعلن حب قيصر، وأسر طاعة «دينوزوس» في الليل والنهار جميعا. ثم أنا بعد هذا وذاك لا أتحرج من الجور على قيصر إذا أمنت شره ومكره. ولعلي أجد في خداعه والعبث به بعض اللذة. فقد علمنا خداع الآلهة والعبث بهم، فكيف برجل مثلنا لا يمتاز منا إلا بهذه الحماقة التي تخيل إليه أنه رجل ممتاز، وأنه ليس كغيره من الناس.
صدقني أيها الحبيب، أرح نفسك من اليقين! فإن اليقين لا يليق بالناس، وإنما يليق بالآلهة. والحياة كلها لا تستحق اليقين، ولا تعدل ما يكلف أصحابه من الألم والحسرة.
إن اليقين ثبات واستقرار، وإن الحياة مضي وزوال. فاستقبل الحياة المتنقلة بما يلائمها من هذا الشك الذي ينقل نفسك معها من طور إلى طور. وما لي أكشف لك عن خبيئة نفسي، وما أظنك إلا عرفتها منذ اتصلت بيننا العشرة، وطالت بيننا المخالطة! فأنا أشير عليك وعلى صديقنا بأن نجعل جهر أمرنا لقيصر وإلهه الجديد، وسره ل «دينوزوس» وأصحابه القدماء. وما أظن أنك ترى هذه المشورة تصدر عن رجل يؤمن بالدين القديم أو بالدين الجديد. فطبيعة الدين لا تحتمل شركة ولا اقتساما. ومن أباح الشركة في الدين فقد ألحد فيه. وأنا أبيح هذه الشركة، وأكثر المعاصرين لنا يبيحونها ويتخذونها لأنفسهم مذهبا.
فالدين عندي، كما هو عند هؤلاء المعاصرين، وسيلة لا غاية، وطريق لا غرض. طاعة قيصر وإلهه تكفل لنا الأمن على الحياة والثروة والأمل في المجد والجاه والسلطان. وطاعة «دينوزوس» وأصحابه تكفل لنا لذة الحياة ونعيمها وإمتاع نفوسنا وأجسامنا بما تثيره اللذة والنعيم من ضروب الإحساس والشعور. وما أظنك تصدق أن أمثالنا من الفلاسفة المثقفين يستطيعون أن يطمئنوا إلى «جوبتير» وأصدقائه، إلا أن يلغوا عقولهم إلغاء، أو يردوا إلى سذاجة القدماء ردا، ويعودوا كأولئك الذين كانوا يعيشون بغرائزهم قبل أن ينشأ العقل وقبل أن يحدث الفلسفة للناس.
فالوثنية الآن سبيل اللذة وراحة النفس. والمسيحية الآن سبيل المجد والثروة والاستعلاء في الأرض. فكن كغيرك من الناس، وكن شجاعا كصاحبيك؛ فهما قد عرفا طبيعة الأشياء والناس، ويريدان أن يلائما بين حياتهما وهذه الطبيعة. وهما يصارحان أنفسهما بهذه الملاءمة، ولا يريدان أن ينافقا مع أنفسهما! لأنهما يريان في النفاق مع قيصر وإلهه ورعيته الكفاية كل الكفاية.
قال «كلكراتيس» وقد جعل الغيظ يسري في نفسه ويظهر في صوته قليلا قليلا: لست أدري إلام تريد بكل هذه البراعة التي تصطنعها من حديثك كأنك أحد السفسطائيين. وما أظن أن «جورجياس» كان يستطيع أن يزين الرياء والنفاق والمداراة والمجاراة، والتهالك على اللذة، وإيثار العافية، وموادعة الناس، ومصانعة السلطان بخير مما زينتها. ولكن ما رأيك في أني أكره هذه الخصال كلها أشد الكره، وأمقت الأخذ بها فضلا عن الاندفاع إليها أشد المقت، ولا أرى أن أكون منافقا مع نفسي، ولا أرى كذلك أن أكون منافقا مع الناس، لا أوادع غيري، وإنما أريد أن أكون حرا طلقا، لا أطمئن إلى السجن، ولا أذعن للقيد. وأنا أعرف أن هذه خطة تملؤها الأخطار ، ولكني لا أكره الأخطار ولا أهابها، وإنما أحتقرها وأزدريها. أليس أقصاها وأقساها، وأشدها ثقلا، وأمرها مذاقا، هو الموت. فإذا كنت لا أحفل بالموت فإني خليق ألا أحفل بما هو أيسر منه شأنا وأهون منه أمرا.
وأنا مثلك، لم أطمئن قط فيما بيني وبين نفسي إلى آلهتنا القدماء، ولا إلى وثنتينا الموروثة. وإنما اتخذتهم واتخذتها رمزا لهذا اللون من الحياة الذي أرضاه وآلفه، ولم يخطر لي بعد أن أتحول عنه، ولا أريد أن أتحول عنه! لأن في هذا التحول رضا قيصر والأمن من معرة الناس.
فأنا إذا لا أثور حفاظا للآلهة ولا دفاعا عن الدين، وإنما أثور حفاظا لنفسي ودفاعا عن حريتي. وقد يكون من الحق أننا ظلمنا حين لم ننشأ آلهة ولم نخلق من طبقة الحيوان، وإنما جعلنا شيئا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ولكن ما رأيك في أني لا أكره هذه الطبيعة المذبذبة ولا أضيق بها، وإنما أحبها وآلفها، وأريد أن أستغلها إلى أقصى حدود الاستغلال، فأمنح عقلي كل حظه من الحرية، وأمنح جسمي كل حظه من اللذة، وأحتمل نتائج هذه اللذة وتلك الحرية مهما تكن قاسية، ومهما تستتبع من آلام.
ما لقيصر ومالي! إني لم أنازعه في عرشه، ولم أمانعه في ملكه، ولم أشاركه في قصره، ولم أبتغ إليه وسيلة، ولم ألتمس عنده حظوة، ولم أسأله منصبا من مناصب الحكم، ولا منزلا من منازل الشرف. بل لم أقم دون ظلمه وجوره حين صبهما علي، فأخذ من مالي غير حقه، وكلفني ألوانا من العمل ليس له أن يكلفني منها شيئا.
أفلا يرضيه مني هذا كله؟! أفلا يقنعه مني أن أعطيه كل ما أعطيته في غير مقاومة ظاهرة ولا كراهة بادية، حتى يأبى إلا أن يدخل بيني وبين نفسي، ويفرض علي شعورا لا أجده، ودينا لا أحبه؟!
ماذا أقول؟! إنه يفرض علي شعورا لا يجده هو، وإنما يتكلفه تكلفا، ودينا لا يؤمن به هو، وإنما يتصنعه تصنعا. وما آبي عليه كما لا آبي عليك وعلى صديقنا أن تنافقوا في الدين وفي غير الدين إيثارا للعافية، أو استزادة من لذات الحياة ونعيمها. وإنما آبي عليه وعليكما أشد الإباء، أن تحملوني على ما تحبون أن تحملوا أنفسكم عليه من هذا النفاق الذي يستتبع إلغاء العقل، وابتذال القلب، وبيع الضمير.
قال «أندروكليس»: إنك إذا لثائر يا صاحبي لا على قيصر وحده، بل على الناس جميعا.
قال «كلكراتيس»: فإن أعجبتني هذه الثورة، فمن يستطيع أن يمنعني منها أو يردني عنها، دون أن يكون ظالما لي جائرا علي! ثم إن أعجبني أن أمتنع على الظلم والجور، وأوثر الموت على حياة لا تطيب إلا بهما، فمن يستطيع أن يمنعني من الموت أو يردني عنه!
قال «أندروكليس»: لا أحد! ومن أجل ذلك كنت تفكر في الموت. ومن أجل ذلك كنت تقرأ في هذا الكتاب، تريد أن تزين لنفسك ما زينه سقراط من الخلود، قبل أن تتجاوز هذا الباب الذي يقوم بين الحياة والموت.
قال «كلكراتيس»: أما أني فكرت في الموت فهذا حق، ولست بدعا من الذين فكروا فيه قبلي. ولئن تعجلته فلن أكون بدعا من الذين تعجلوه. وأما أني التمست العزاء في جوار «فيدون»، فهذا خطأ! لأني لم ألتمس عزاء، ولم أطلب خلودا، ولم أفكر فيه، وإنما تحدثت إلى نفسي بالموت، ثم أعرضت عن هذا الحديث! لأن خطب قيصر أهون من ذلك، ولأني ما يزال لي في الحياة أرب. ثم ذكرت هذه الآية من آيات أفلاطون، فأقبلت عليها أستمتع بما فيها من سحر البيان، وما أكثر ما قرأتها، وما أكثر ما سأقرؤها! إني لا أخاف الموت ولا أكره حديثه، كما تخافه أنت وتكره حديثه.
قال «أندروكليس»: فقد أرضيتني، ورددت إلى نفسي طمأنينتها، أنبأتني بأنك لن تتعجل الموت؛ لأن لك في الحياة أربا. وخطب قيصر، وخطب الناس جميعا، وخطب الآلهة أيضا، أيسر وأهون من أن نتعجل في سبيله الموت وما يزال لنا أرب في الحياة. ولكن المشكلة ما زالت قائمة! فإن قيصر يأمر عماله، ومنهم صديقنا، أن يشتدوا في حمل الناس على دين المسيح، وأخذهم بالجد في ذلك أخذا حازما عنيفا، إن احتاجوا إلى الحزم والعنف.
فماذا ترى لنفسك؟ وماذا ترى لصديقنا؟ وماذا ترى لي؟
قال «كلكراتيس»: وما أرى لصديقنا ولا لك إلا ما رأيته أنت وقبله صديقنا. فإني لا أريد ولا أستطيع أن أحملكما على ما أريد، وأستطيع أن أحمل عليه نفسي.
قال «أندروكليس»: وعلام تريد أن تحمل نفسك؟
قال «كلكراتيس»: على معصية قيصر.
قال «أندروكليس»: أو تفعل؟
قال «كلكراتيس»: نعم.
قال «أندروكليس»: فإن عاقبة هذا العصيان لن تمسك وحدك، ولكنها ستمسنا جميعا. ولست أخفي عليك أني لا أريد أن أتعرض للأذى؛ لأن لي في الحياة ولذتها أربا. فإذا تحدثت إليك الآن ناصحا بالتؤدة والأناة، فإني مخلص في النصيحة غير متهم؛ لأني سأخالفك وآمن كيد قيصر وأذاه. إنما أنصح لك بالأناة إشفاقا عليك أنت. وأنا أعلم أني لن أستطيع إكراهك على الحياة إن آثرت الموت، ولا على الدعة إن آثرت العذاب، وإن كان موتك يشقيني، وعذابك يؤذيني. ولكني أشفق على صديقنا، وما أراك إلا مشفقا عليه مثلي. فإن عصيانك لقيصر سيضطره إلى إحدى اثنتين كلتاهما شر: فإما أن يجاريك فيشاركك في الشقاء، وإما أن يجاري قيصر فيدفع إلى البطش بك، وما أراه يفعل. أفكرت في هذا كله؟ أقدرت هذا كله؟
قال «كلكراتيس»: فإني ما زلت في التفكير والتقدير منذ اليوم.
قال «أندروكليس»: وإذا؟
قال «كلكراتيس»: وإذا فلست أدري. لقد دعاني الموت فأبيت أن أستجيب له، وأنا حريص أشد الحرص على ألا أوذيكما. وما أرى إلا أن الأرض واسعة، والفضاء عريض، وأن في الهجرة عنكما والزوال عن هذا الإقليم ما يرضيني وإن شق علي، وما يؤمنكما وإن كان فراقي عليكما عسيرا.
قال «أندروكليس»: تريد أن تزول عن هذا الإقليم، وتهاجر من هذه الأرض! ولكنك تعلم أن أمر قيصر ليس مقصورا على هذا الإقليم، ولا موقوفا على هذه الأرض. فأنت إذا تريد أن تتعرض للأذى أو للموت على ألا يأتيك الأذى والموت من يد صديقك.
قال «كلكراتيس»: فإني لا أريد الموت، ولا أرغب في الأذى، ولا أهاجر من أرض قيصر إلى أرض قيصر، إنما أزول عن ملك قيصر كله.
قال «أندروكليس»، وقد أخذه الدهش والحزن: تزول عن ملك قيصر، وتلجأ إلى أرض البرابرة، وتدع حضارتنا وعاداتنا وتراثنا وما في حياتنا من نعيم وخفض، إلى حياة مجهولة، وقوم مجهولين، وغربة ما ندري ماذا تضمر لك من الأخطار! فأنت تريد إذا أن تسلك سبيل أولئك الفلاسفة من اليونان الذين لجئوا إلى عدونا من الفرس، وأتاحوا لكسرى ما كنا نحتكره من العلم والفلسفة والمعرفة، وأتاحوا له قوة لم يكن يملكها، وقدرة على حربنا والكيد لنا والظهور علينا لم يكن له منها حظ.
قال «كلكراتيس»: ما ألوم أولئك الفلاسفة الذين فروا بعقولهم إلى أرض عدونا من الفرس، فربما كان العقل آثر من الوطن، وآثر من الصديق، وآثر من الناس والأشياء جميعا.
ولكن هون عليك! فلن أسلك طريق أولئك الفلاسفة إلى بلاد الفرس؛ لأني لا أريد أن أخرج من رق قيصر لأدخل في رق كسرى، وما أريد أن أفر من دين المسيح لأكره على دين المجوس! إنما أريد أن أهاجر إلى أرض لا سلطان فيها، وليس لأحد عليها ملك. إلى أرض لا يكره الناس فيها على ما لا يحبون. إلى أرض لا أكون فيها رعية ولا سوقة، وإنما أكون فيها ملكا.
ثم رفع إلى صديقه نظرة حزينة وقال: لا يعجلك الدهش عن الاستماع لي والفهم عني! فإني لا أهرب من ملك قيصر لأفرض ملكي على الناس. ومن لي بالملك وأسبابه! إنما أريد أن أكون ملكا لنفسي، لا أملك أحدا، ولا يملكني أحد.
قال «أندروكليس» وقد رد إلى هدوئه فأغرق في الضحك: فأنت تريد أن تهاجر إلى الصحراء، وأن تكون راهبا فيها من رهبان «دينوزوس»! رأي طريف لا أرى به بأسا. إن للنصرانية رهبانها الذين يقيمون في الأديار والصوامع، في المدن وفي أطراف الصحراء. فأنت تريد أن تجعل للوثنية رهبانها وأديارها وصوامعها.
رأي طريف لا أرى به بأسا. لقد أخذ النصارى عن الوثنية علمها وفلسفتها. فما للوثنية لا تأخذ عن النصرانية نسكها ورهبانيتها!
ما أرى إلا أننا سنلهو بهذا الرأي لهوا متصلا، حين نخلو إلى صديقنا وإلى «دينوزوس» إذا جن الليل.
قال «كلكراتيس»: لا تسخر ولا تمزح! فما فكرت في رهبانية ولا نسك. وقد قلت لك إن لي في الحياة أربا، وما أريد أن أتخذ لي في طرف من أطراف الصحراء صومعة ولا ديرا. وماذا أصنع في الصومعة والدير، وأنا لم أرض حاجتي بعد من لذات الحياة ونعيمها! لا أريد أن أعتزل الناس، وإنما أريد أن أعتزل السلطان.
لن نلهو الليلة بهذا الرأي كما تظن، ولكننا سنتدبره ونطيل الحديث فيه. فما زلت أعتمد عليكما، وعلى ما تضمران لي من مودة، وما تخلصان لي من حب. وما زلت أعتقد أنكما ستهونان علي من هذا الأمر ما أراه عسيرا.
قال «أندروكليس»: لقد كان خيل إلي أني فهمت عنك، ولكنك تردني إلى الغموض والحيرة. فلعلي أفهم عنك حين نخلو إلى صديقنا. وما أظن إلا أنه قد آن لنا أن نسعى إليه.
4
وأقبل الصديقان من ليلتهما على قصر الحاكم، فحاد بهما الحجاب عن طريق الحجرات الخاصة التي كانت تشهد ما يأخذان فيه مع صديقهما من سمر ولهو ومجون، وسلكوا بهما طريق بهو من أبهاء الاستقبال. فلما سألا عن ذلك قال الحجاب إن سيدهم لم يفرغ للسمر بعد، وما يظنون أنه سيفرغ له الليلة.
قال «أندروكليس»: فإنا ننتظره كما تعودنا أن نفعل حتى يفرغ لنا.
قال أحد الحجاب: بل هو ينتظركما. وقد تقدم إلينا في إدخالكما عليه إذ أقبلتما، وفي تعجلكما إن تأخر قدومكما على القصر.
قال «كلكراتيس»: وما ذاك؟
قال الحاجب: ما ندري! ولكن مولانا قد خلا منذ ساعة غير قصيرة إلى راهب شيخ من الرهبان ما أرى إلا أنكما تعرفانه! فقد رأيت مولانا يتلقاه مكبرا له، حفيا به في كل شيء من التبسط والإسماح، كأن له به عهدا قديما.
قال «أندروكليس»: راهب شيخ يلقاه الحاكم حفيا به، مكبرا له، متبسطا معه. من عسى أن يكون؟!
قال «كلكراتيس»: وهو يريد أن نلقاه، ويتعجل مقدمنا إن أبطأنا ! أفتراه قد دعا هذا الراهب ليعظنا ويفقهنا في الدين؟ إنه ليحرق السفن من ورائه، ولا يكفيه أن يسمع لمشورتك، بل يسرع إلى العمل بها إسراعا. ما أشد حرصه على رضا.
ولم يمكنه «أندروكليس» من إتمام مقالته، وإنما غمزه مسرعا وقال للحاجب: أفلا تريد أن تستأذن لنا؟
قال الحاجب: نحن لسنا في حاجة إلى ذلك! فقد أمرنا أن ندخلكما عليه فورا.
ثم مضى أمامهما وتبعاه، ثم انفرجت لهما الأستار واجتمعت من دونهما. ولم يكادا ينظران إلى هذا الراهب الشيخ الذي كان يتحدث إلى صديقهما في أناة وهدوء، حتى أخذهما الدهش، ودفعا إلى الشيخ دفعا وهم يصيحان بصوت واحد: كلينيكوس!
ونهض الشيخ لهما في رزانة ووقار، فضمهما إليه، وقبلهما تقبيل الوامق المشوق، وبارك عليهما في غير تكلف ولا تصنع، وهو يقول: فقد أذن الله لي أن أراكم جميعا قبل أن أترك هذه الأرض.
قال «كلكراتيس»: فإنك قد تركت هذه الأرض عن رضا وتعمد. وما أدري ماذا أزعجك عنها! وما علمت قط ماذا صرفت عما كنت فيه من حياة ناعمة وعيش لين. وما كنت أحسب أن فراق الأصدقاء يهون عليك إلى هذا الحد، وأن نفوس الناس تتجافى عن أوطانها على هذا النحو.
وهم الشيخ أن يجيب، ولكن «أندروكليس» قال متعجلا: عجبا للذين ينكرون على الناس، ولا ينكرون على أنفسهم. فإني أشاركك فيما تقول لكلينيكوس، ولكني أحب أن تقوله لنفسك. ثم التفت إلى حاكم المدينة قائلا: ولكنك تجهل من أمره كل شيء. فاعلم أنه قد أزمع الهجرة عن هذه الأرض، وهو الآن يفكر في مهاجره الذي يقصد إليه ويستقر فيه.
وأظهر الحاكم دهشه وإنكاره. ولكن الراهب الشيخ نظر إلى «كلكراتيس» نظرة حب وحنان، وقال: فقد مسك إذن جناح من رحمة الله وأنت تريد الفراغ له، والخروج لطاعته عن حياتك الناعمة، وعيشك اللين، وأيامك المقبلة التي قد تكون حافلة، إن انتظرتها، بالسلطان والجاه. فلا تلتمس مهاجرا ولا تفكر فيه، ولكن ارتحل معي من الغد، أو ارتحل في أثري إن احتجت إلى أيام تصلح فيها أمر من تترك وراءك من الأهل والصديق: فما أراك تجد ديرا أرفق بك من ديرنا، وما أراني أهدي إلى ديرنا خيرا منك.
قال «أندروكليس»: فإنك لم تأت للقائنا إذا، وإنما أتيت للتفريق بيننا. وما كفاك أن انتزعت نفسك من وطنك وصديقك انتزاعا حتى تريد أن تنتزع «كلكراتيس»!
قال الراهب مبتسما: لو استطعت أن أنتزعكم جميعا، وأخرجكم عما أنتم فيه، وأهديكم إلى هذا الدير، أو أهدي إليكم الحياة في هذا الدير، لكنت أسعد الناس وأخلقهم بالغبطة والابتهاج. فإن الله لم يتح لأحد منا نعمة تعدل القدرة على استنقاذ الناس من أنفسهم، واستخلاصهم له من آثام الحياة وسيئاتها. وأي شيء آثر عند الرجل الكريم من أن يستنقذ صديقه من الشر، ويهديه سبيل الخير! وإني ما أقبلت عليكم لأنتزع منكم أحدا، ولا لأنتزعكم من أنفسكم وأوطانكم، وإنما دعيت فأجبت، ثم سنحت الفرصة فأنا أنتهزها.
قال «كلكراتيس» ضاحكا: فإن نفسي لم تنضج بعد لحياة الدير، وما أرى أنها قريبة النضج.
قال حاكم المدينة باسما وهو يلتفت إلى الراهب: فإني قد دعوتك لأيسر من هذا. وإني أستطيع الآن، وقد حضر هذان الصديقان أن أظهرك وأظهرهما على جلية الأمر؛ فإنك لا تعلم منها شيئا، وهما لا يعلمان منها إلا قليلا.
قال الراهب: وما ذاك؟
قال حاكم المدينة: فإن مكانك منا بحيث تعلم، وقد كنت لآبائنا صديقا، وكنت بنا رفيقا. وكثيرا ما عقدت بنا الآمال، ونطت بنا الأماني. وكثيرا ما تحدثت إلينا وإلى آبائنا بأنك تدخرنا لتجارتك الواسعة، في أقطار الأرض العريضة. ثم كانت رحلتك تلك إلى بلاد العرب، ثم كانت عودتك منها، ثم كان اعتزالك للحياة والأحياء، وانقطاعك لله في ذلك الدير البعيد القائم في طرف من أطراف الصحراء.
أعرضت عنا ولم تفكر فينا، ولم تحفل بما ألم أو ما كان يمكن أن يلم بنا من الأحداث والخطوب. وما ندري ماذا صنعت بتجارتك الضخمة، وثروتك الواسعة. وما أتحدث إليك في ذلك عاتبا ولا لائما! فإنك لم تسئ إلينا، ولم تقصر في ذاتنا، وإنما ألهاك عنا ما ألهاك من أهلك ومالك ونفسك. إنما أذكرك بهذا كله لتعلم أنك إن نسيتنا فإننا لم ننسك، وإن شغلت عنا فإنا لم نشغل عنك. ثم لتعلم أني لم أدعك ولم ألجأ إليك، إلا لأنا تعرضنا لما نحتاج معه إلى رأيك ومشورتك، وإلى سلطانك العظيم على نفوسنا، وتأثيرك العميق في قلوبنا، فاعلم الآن أن قد ارتفعت الأنباء إلى قسطنطينية بأن هذين الصديقين يرتابان في دينهما، ولا يتحرجان من الإعراض عنه، وقد يستبيحان في بعض خلوتهما العبث به والإلحاد فيه. وجاء إلي الأمر من قسطنطينية أن أمتحنهما وأكشف جلية أمرهما، فإن ظهرت منهما على ريبة، أخذتهما بالتوبة أخذا شديدا، فإما قبلاها، وإما أخذتهما بالعذاب الشديد. وما أخفي عليك، وما أظنني أستطيع أن أخفي عليك أن ما ارتفع من أمر الصديقين إلى قسطنطينية حق كله، بل هو بعض الحق؛ فإنهما لا يرتابان وحدهما في الدين ولا يعبثان وحدهما بالدين، وإنما يشاركهما في الريبة والعبث ثالث لهما، هو الذي يتقدم إليه قيصر في تخييرهما بين التوبة والعذاب. وما أحسب إلا أن الأنباء ارتفعت إلى قيصر بأمري، كما ارتفعت إليه بأمرهما. وما أحسبه إلا يمتحنني بهذا الأمر الذي أصدره إلي. وقد أشرت، بعد أن دعوتك، إلى صديقي بهذا الخطب في شيء من التلطف والتلميح. فأما أحدهما، وهو «أندروكليس»، فقد أظهر مرونة ولينا وحسن استعداد لاتقاء الفتنة. وأما الآخر فتستطيع أن تنظر إليه، فإن ما يظهر على وجهه من العبوس والثورة خليق أن ينبئك ببعض أمره إن لم ينبئك به كله.
وهم «كلكراتيس» أن يتكلم، ولكن الراهب قال في صوت رقيق رفيق: إني لأرحمكم يا بني وأرثي لكم، لا من شك قيصر فيكم وارتيابه بكم، وتعريضه إياكم للفتنة والبلاء! فذلكم أيسر الخطب وأهونه، بل من شككم في الدين وارتيابكم به، وإعراضكم عنه وإلحادكم فيه. ولكني على ذلكم لا ألومكم ولا أنكر عليكم، وإنما أفهم موقفكم حق الفهم؛ فإن هذه الحياة التي تحيونها، وهذه البيئة التي تضطربون فيها، وما يختلف بين أيديكم كل يوم من الحوادث، وما يعرض من الأمر، وما ترون من سيرة القادة والسادة والوعاظ والهداة، كل ذلك خليق أن يشككم فيما تشكون فيه، ويريبكم بما ترتابون به، ويدفعكم إلى ما تندفعون إليه من هذه الحياة العابثة الماجنة التي لا ترجو لأحد ولا لشيء وقارا.
وكيف ألومكم أو أنكر عليكم وقد أنفقت أكثر عمري فيما تنفقون فيه شبيبتكم! ولولا هذه الرحلة وما رأيت وما سمعت وما بلوت فيها وما تبينت، لما كنت إلا واحدا منكم، يشارككم في العبث واللهو إن قدر على مشاركتكم فيهما، أو ينعم باستمتاعكم بالعبث واللهو إن ردته السن عن أن يأخذ بحظه منهما.
ولو تعرفون يا بني هذه اللوعة التي تحرق قلبي تحريقا، وهذه الحسرة التي تفرق نفسي تفريقا، وهذا الندم اللاذع الذي لا يفارقني يقظان ولا نائما، لو تعرفون هذا أو بعض هذا، لرحمتم أنفسكم مما أرحمكم منه، ولعدلتم بأنفسكم عن هذه الطريق التي عدلت بنفسي عنها، ولكني لا أدري كيف أنقل إلى قلوبكم ما أجد في قلبي، وكيف أشيع في نفوسكم بعض ما يشيع في نفسي، كيف أبين لكم بعض ما تبين لي من أن هذه الحياة باطل كلها، ومن أننا ننشأ آثمين، ولا نخطو في حياتنا خطوة ولا نتقدم في عمرنا لحظة، إلا علقت بنا أدران الإثم، ولصقت بنا أوضار الخطيئة، ومن أننا لو خلونا إلى أنفسنا، وانقطعنا عن الناس جميعا، وعن الأشياء جميعا، وفرغنا للندم على ما قدمنا وقدم آباؤنا الآثمون الخاطئون، والاستغفار مما جنينا وجنى آباؤنا المذنبون المسيئون، لما أزلنا عن أنفسنا بعض ما علق بها من إثم، ولما غسلنا عن قلوبنا بعض ما لصق بها من وضر. وما أعرف مع هذا كله أن إظهاركم على بعض ذلك يتأتى بالحوار والخطاب، أو يتاح بالحجة والدليل، وإنما هي رحمة من الله تمس العقول، فتكشف لها عن الحق، وتهديها سواء السبيل.
قال «كلكراتيس»: فإن هذه الرحمة لم تمس عقولنا بعد، وما أدري أتمس عقولنا في يوم من الأيام. وإذا كنا لم نرحل رحلتك إلى بلاد العرب ولم نر فيها ما رأيت ولم نبل فيها ما بلوت، فنحن معذورون إن لم نضق بحياتنا هذه ذرعا، ولم نخرج عنها ونسلك طريقك تلك التي سلكتها إلى الدير.
وصدقني أني لا أكره أن تمسني هذه الرحمة التي مستك، بل لا أتمنى إلا أن تمسني فتهديني إلى مثل ما اهتديت إليه، أو إلى غير ما اهتديت إليه، ولكنها تخرجني على كل حال من هذه الحياة التي أخذت أمقتها أشد المقت، وأضيق بها أعظم الضيق.
قال «أندروكليس»: ولكني لا أمقت هذه الحياة ولا أضيق بها، ولا أريد أن تمسني هذه الرحمة، ولا أبتغي إلا أن أترك وما أنا فيه من خفض العيش ولينه، وأنا زعيم بإرضاء قيصر وبإرضاء المسيح أيضا.
قال الراهب: أما إرضاء قيصر فيسير، والناس جميعا أو أكثرهم يبلغون من رضا قيصر ما يريدون، وإنما هي الطاعة والإذعان، والاختلاف إلى الكنائس، وشهود الصلوات، وإظهار التكريم للقسيسين والرهبان. وأما إرضاء المسيح فشيء آخر بعيد كل البعد عن أن يكون من اليسر والسهولة بحيث تظن.
قال «أندروكليس»: فحسبي أن أرضي قيصر! لأني أعرفه وأومن به، وأرجو نعمته وأخشى نقمته. فأما المسيح فما أرى أن له علي حقا قبل أن يظهر نفسه لي ويمسني بهذه الرحمة التي مسك بها. وأنا أرجو ألا يفعل؛ فإنه إن فعل كلفني مثل ما كلفك من اطراح الحياة ولذاتها، وما يملؤها من هذا النعيم ذي الألوان المختلفة الذي لم أقض منه حاجتي، وما أحسب أني سأقضيها في يوم من الأيام.
قال الراهب ملتفتا إلى الحاكم: وأنت ماذا تقول؟
قال الحاكم مبتسما مستخذيا: يشق علي أني لا أستطيع أن أقول إلا ما قاله «أندروكليس».
قال الراهب: فإني لا أملك لكما من الله شيئا، وما أنا من الذين يحبون الحوار في الدين، وما هيأت نفسي لذلك وما مرنتها عليه، وما أقدر لكما إلا على الصلاة والدعاء. فأما أنت يا «كلكراتيس»، فإني أرى، من اضطراب نفسك وثورة ضميرك وترددك بين ما ترى وما لا ترى، أن لك شأنا.
قال «أندروكليس» ملتفتا إلى الراهب ضاحكا له : أتعلم أي صورة يثيرها موقفك هنا الآن في نفسي؟
قال الراهب: نعم! تتحدث إليك نفسك بأني ذئب قد وقع في القطيع، فهو يتخير بين شائه الشاة التي تلائمه ويسهل عليه اختطافها، وتخيل إليك نفسك أن «كلكراتيس» هو هذه الشاة، وأني سأحاول انتزاعه من أهله وصديقه ووطنه. ثم تتحدث إليك نفسك هازئة بي وساخرة مني بأن «كلكراتيس» بعيد كل البعد على أن يكون شاة، وبأني سأرتد عنه خاسئا حسيرا. ولكن نفسك تكذبك يا بني، فما أنتم بالقطيع، وما أنا بالذئب، وإنكم لألسن مني، وإنكم لأقدر مني على الحوار والانتصار على الخصم. وما أنا بطامع في «كلكراتيس»، وما هو في حاجة إلى أن يقاومني ويدفعني عن نفسه، وقد أنبأني آنفا بأن رحمة الله لم تمسسه بعد، وأنه لا يكره أن تمسه، بل لا يتمنى إلا أن تمسه، وأنا أعلم أن رحمة الله قريب من الذين يطمعون فيها ويطمحون إليها. فلست أرجو أن يرحل معي «كلكراتيس»، ولعلي لا أرجو أن يلحق بي إلى الدير. ولكني لست أيأس أن يمسه الله بروح منه، فيخرجه من تردده، وينقذه من اضطرابه الذي يشقيه.
قال «كلكراتيس»: فإني لست مترددا ولا مضطربا، ولكني مطمئن كل الاطمئنان إلى أن هذه الحياة التي يأخذ قيصر بها الناس ويريد أن يأخذنا بها. ويواطئه صديقاي على أن يأخذا بها نفسيهما، شر كلها لا تليق بالرجل الكريم، ولا يستطيع ذو العقل أن يطمئن إليها. فأنا أريد عازما أشد العزم أن أفر بعقلي منها إلى مكان بعيد لا تستطيع أن تبلغه، ولا يستطيع سلطان قيصر أن يصل إليه.
قال الراهب: إني يا بني لم أختلف إلى مجالس الفلاسفة كما اختلفت إليها، ولم أقرأ من كتبهم مثل ما قرأت أو بعض ما قرأت، وإنما أنفقت حياتي في التجارة ومعالجة المنافع العاجلة، ومع ذلك فقد يخيل إلي أنك تريد أن تحمل نفسك شططا! فإنا لم نمنح العقل لنفر به من الشر، بل لنواجه به الشر ونقهره ونظهر عليه. وما أظن أنا منحنا العقل لنتخذه وسيلة إلى الأثرة، وطريقا إلى الراحة والنعيم. كذلك يفكر كثير من الناس! ولكنهم، فيما أعتقد، يخدعون أنفسهم ويضللون عقولهم، ويخفون ما يملأ قلوبهم من الضعف وحب النفس والعجز عن احتمال تبعات العقل. إن العقل يا بني فيما أرى نور؛ ومن طبيعة النور أن يهزم الظلمة لا أن ينهزم لها. وإن العقل يا بني فيما أرى سلاح ماض حديد! ومن طبيعة السلاح أن يهزم العدو ويظهر صاحبه عليه، ويحمله على المقاومة والجهاد في أقل تقدير، لا على الهرب والفرار لأول بادرة تبدر أو شر يخاف.
قال «كلكراتيس»: فإن استيقنت أن هذه الظلمة التي تحيط بي أشد كثافة وصفاقة، وأكثر تراكما وتلاحقا من أن يبددها هذا النور الضئيل الذي يضطرب في رأسي، وإن استيقنت بأن العدو الذي يهاجمني ويأخذني من كل وجه أضخم قوة وأعظم بأسا وأكثر عددا من أن أهزمه بهذا السلاح الذي في يدي.
قال الراهب: فإن الواجب عليك مع هذا أن تثبت لهذه الظلمات الكثيفة الصفيقة المتراكمة المتلاحقة؛ فإنها مهما تبلغ من الكثافة والصفاقة فلن تمحق هذا النور الضئيل الذي يضطرب في رأسك. وإن الواجب عليك أن تثبت لهذا العدو الذي يسعى إليك من كل وجه، ويريد أن يأخذك من كل نحو، فإنه مهما تضخم قوته ويعظم بأسه، فلن يستطيع أن يفل سلاحك هذا الماضي الحديد، ولا أن ينتزعه من يدك انتزاعا.
وقد ضربت لك الأمثال من قبل: ضربها لك أبو الفلاسفة إن كنت فيلسوفا، وضربها لك صاحب الدين إن كنت ديانا. فإن سقراط لم يفر بعقله من الأثينيين فيما أعلم، ولكنه قبل منهم السجن، وتلقى منهم الموت، ثم لم يلبث أن ظهر عليهم آخر الأمر. وإن المسيح لم يفر بدينه من اليهود ولا من الرومان، وإنما قبل منهم ما صبوا عليه من عذاب، وتلقى منهم ما أعدوا له من شر، ثم انتصر عليهم آخر الأمر.
كلا! إنك لا تريد أن تفر بعقلك يا بني! فالعقل أشجع وأرفع وأمضى من أن ينهزم للسلطان أو يتقيه بالفرار؛ وإنما تريد أن تفر براحتك ولذاتك وبما لك في الحياة من أرب. إنما تريد أن تفر لأنك تستشعر الضعف عن المقاومة، وتحس العجز عن الثبات لهذه المحنة التي تدبر لك وتسلط عليك. إن العقل خير كله فيما أرى، ولست أعتقد أنه يغري بالأثرة أو يحرض على الفرار. إن الدوافع التي تدفعنا إلى الشر لا تأتينا من عقولنا، لأن عنصر العقل خير كله، وإنما تأتينا من شهواتنا وغرائزنا. فانظر بأي شهوة أو بأي غريزة تريد أن تفر. ولكن إياك أن تظن أنك تؤثر عقلك بالعافية أو تحسن إليه بالهرب!
قال «كلكراتيس»: فأنت إذا تغريني بانتظار الموت؟!
قال الراهب: فإنك منتظر للموت في كل لحظة، وفي كل مكان، وفي كل طور من أطوار حياتك.
قال «كلكراتيس»: أرى أنك تريد لي أن أتعرض للفتنة وما يتبعها من الشر والنكر وألوان المكروه.
قال الراهب: لا أريد شيئا، وإنما أستنبط النتائج من مقدماتها. فإن كنت حريصا على عقلك مؤثرا له مؤمنا به، فإن العقل لا يعرف الهزيمة ولا يحبها، ولن تكون أول من تعرض للفتنة وألوان المكروه في سبيل الرأي والعقل، ولن تكون آخرهم. وإن كنت حريصا على الراحة والعافية مؤثرا لهما فسواء علي وسواء على الرأي والعقل، أسلكت إلى هذه الراحة والعافية سبيل صديقيك فخادعت الناس ونافقت معهم، أم سبيل الفرار والهجرة فخادعت نفسك وآثرت مخادعتها على مخادعة الناس؛ لأن ذلك أيسر لك وأهون عليك.
قال «كلكراتيس»: لم أكن مترددا ولا مضطربا قبل لقائك، فأما الآن فإنك قد أفسدت علي أمري كله.
قال الراهب: لم أفسد عليك شيئا يا بني؛ لأن أمرك كان كله فاسدا، ولأنك كنت تخدع نفسك بالآمال والأماني، وتخيل إليها أنها أكرم من نفس صديقك ومن نفوس الناس جميعا. أليست تفر برأيها وتهرب بحريتها؟! فأين هي من النفوس التي تقبل الضيم وتحتمل الذل؟! وكانت هذه الكبرياء تغريك وتطغيك، وتحملك على أن تؤله نفسك بالعبادة من دون الآلهة جميعا. فأما الآن فقد أظن أن الأمر تبين لك، وأنك ستطيل التفكير قبل أن تنحاز إلى دين قيصر مع صديقيك، أو إلى دين نفسك في ذلك المهاجر البعيد. ولكن أحب أن تعلم أن كلا الدينين باطل مهين عند العقل الذي يخيل إليك أنك تكبره كل الإكبار.
قال «أندروكليس»: كلا الدينين باطل مهين! فأنت إذا تنكر دين قيصر والمسيح؟!
قال الراهب: أنكر دين قيصر، ما في ذلك شك، ولكن دين المسيح شيء ودين قيصر شيء آخر. وما لجأت إلى الدير إلا لأفرغ من قيصر وأشباه قيصر للمسيح.
ثم سكت قليلا ثم قال: بل للمسيح ولانتظار ما سينكشف عنه الدهر بعد قليل.
قال حاكم المدينة: فسينكشف الدهر عن شيء بعد قليل إذا؟
قال الراهب: ما أشك في ذلك يا بني! فقد تحدثت به الكتب، وكان الناس يضمرون انتظاره فيما بينهم وبين أنفسهم، ثم أخذت بوادره الآن تبتدر، وجعلت الآيات تتحدث إلى من يفهم عنها بأن مقدمه قريب.
5
وارتفع الضحى من الغد، فإذا الراهب الشيخ والفيلسوف الشاب ماضيان في حديثهما الذي كانا فيه من الليل، فقد انتقلا به إلى بيت «كلكراتيس» حين همت أستار الليل أن تنجاب عن وجه النهار.
انتقلا بحديثهما دون أن يقطعاه أو ينصرفا عنه، ودون أن يشغلهما عنه انهزام الليل المظلم وانتصار الصبح المشرق، وهذا السهر المتصل الذي كان خليقا أن يعييهما ويضنيهما. ولأمر ما شغلهما هذا الحديث عن هذا كله، وعن أكثر من هذا كله: فلم يشعرا بحاجة إلى الراحة ولا بنبو عن العادة، ولا برغبة في طعام أو شراب، وإنما مضيا أمامهما في الحديث نشيطين له، مستمتعين به، كما يمضي المسافر في طريق جميلة سهلة، يملؤه النشاط وينأى به كل النأي عن الكلام والملال، وعن التقصير والقصور.
وكان الراهب الشيخ يقول لصديقه الشاب في هدوء ودعة، وفي ابتسام يوشك أن يكون ساخرا لولا أن الشيخ كان أشد وقارا وأعظم إيمانا من السخرية، كان الراهب الشيخ يقول لصديقه الشاب وادعا باسما: إنك يا بني تسرف في أمر العقل، وتحمله أكثر مما يطيق أن يحتمل، وتدفعه حيث لا ينبغي أن يدفع، فإنك لا تصدر عن العقل حين تحب وتبغض، ولا تصدر عن العقل حين تجوع وتظمأ، وإنما تصدر في ذلك كله عن غرائز قد ركبت في طبعك، وسيطرت على مزاجك. وقد يستطيع عقلك أن يفهم هذه الغرائز، وقد يستطيع أن يمسها ببعض التنظيم، وقد يعجز في كثير من الأحيان عن فهمها وتنظيمها.
وما أدري يا بني لم تؤمن بسلطان الغرائز على جسمك، ولا تؤمن بسلطانها على نفسك؟ بل ما أدري لم تؤمن بأن للغرائز على نفسك سلطانا في بعض الأمر، وتجحد أن يكون لها سلطان في بعضه الآخر؟
قال «كلكراتيس»: فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم.
قال الراهب الشيخ: فقد فهمت عني كل ما قلته منذ التقينا، أفتراك قد نال منك الجهد وأدركك التعب؟
قال «كلكراتيس»: كلا! ما رأيتني قط كما أراني الآن نشيطا إلى الحديث راغبا فيه، مستزيدا منه، مشغوفا به. ولكن أوضح مقالتك فإن فيها بعض الغموض.
قال الراهب: فإن جسمك يا بني يألم إذا مسه الجوع أو الظمأ دون أن يكون لعقلك في ذلك تأثير قليل أو كثير، وإن جسمك يا بني يبرأ من الألم حين ترد عنه الجوع بالطعام، وحين ترد عنه الظمأ بالشراب. ولو أوتيت عقل الناس جميعا لما استطعت أن ترد عن جسمك ألم الجوع والظمأ حين يحتاج إلى الطعام والشراب، ولما استطعت أن ترد على جسمك ألم الجوع والظمأ حين يدركه الشبع والري. فإني أرى يا بني أن لنفسك غرائزها كما أن لجسمك غرائزه، وأن غرائز النفس كغرائز الجسم لا تصدر عن العقل ولا تنشأ عنه، وإنما تصدر عن الطبع وتنشأ عن المزاج، وحاجة النفس يا بني إلى الإيمان كحاجة الجسم إلى الطعام والشراب، تألم إن فقدت الإيمان، وتستريح إن ظفرت به، ليس للعقل في ذلك أثر. فكن أعقل الناس، وكن أحزمهم وأصرمهم وأمضاهم عزما، فلن يغير ذلك من نفسك شيئا إن كانت طبيعتها طبيعة النفس الإنسانية التي فطرت كما فطرت نفوس الناس على الإيمان.
قال «كلكراتيس»: فإني لا أنكر من ذلك شيئا، وما أنكر حاجة نفسي إلى أن تؤمن، وعجزها عن حياة الكفر والجحود، وإنما أحاورك في موضوع هذا الإيمان، وفي السبيل التي تؤدي إليه.
قال الراهب الشيخ: فإني يا بني أرى أن في العقل تمردا وغرورا. قد خضعت له طائفة من الأشياء، وذلت له بعض صور الطبيعة، فظن أن كل شيء يجب أن يخضع له، وأن كل صورة من صور الطبيعة يجب أن تذعن لسلطانه. والحوادث مع ذلك تثبت له من يوم إلى يوم، بل من لحظة إلى لحظة، أنه لم يعلم من الأمر إلا أقله، ولم يستذل من صور الطبيعة إلا أيسرها وأهونها شأنا. وإن غرور العقل يا بني قد زين له أن يجعل للطبيعة قوانين، ويفرض عليها قيودا وأغلالا، وألا يؤمن بها ولا يرضى عنها إلا أن خضعت لقوانينه، ورسفت في قيوده وأغلاله. ولكن قوانينه لم تحط بكل شيء، ولكن قيوده وأغلاله لم تبلغ كل شيء. وما زالت الطبيعة حرة طلقة، وما زالت أكبر من العقل وأوسع من سلطانه وأبعد من مرماه. وما زالت أحداث تحدث لا يستطيع العقل إنكارها، ولا يستطيع تفسيرها، ولا يستطيع إخضاعها لقوانينه ولا لقيوده وأغلاله.
هي متمردة على العقل لأنها أقوى منه. وهو متمرد عليها لأن الغرور قد أفسد عليه أمره، وأنساه أنه حديث السن، قليل الحول والطول، وأن الطبيعة أقدم منه عهدا، وأبعد منه مدى. ما أجدر العقل يا بني أن يصلح نفسه، وأن يصلح ما حوله، لو أنه عرف قدر نفسه، فلم يخرج عن طوره ولم يسرف في التمرد والغرور.
إنك يا بني لا تستطيع أن تفسر بعقلك كيف يحيا الميت بعد أن مات وشبع موتا: ومع ذلك فقد نهض الميت من قبره، وقد قرأت عليك ذلك في الإنجيل، وما أنكرت منه شيئا! لأن الناس جميعا قد عرفوه واطمأنوا إليه. وإنك يا بني لا تستطيع أن تفسر بعقلك كيف يبرأ الأكمه والأبرص؛ لأن قائلا يقول له ابرأ! ومع ذلك فقد برئ الأكمه والأبرص حين أمر أن يبرأ، وقد قرأت عليك ذلك في الإنجيل فلم تنكره؛ لأن الناس جميعا قد عرفوه. وإنك يا بني لا تستطيع أن تفسر بعقلك كيف يمشي الرجل على الماء، ولا كيف تشبع الجماعة الضخمة مما يقوم بأود الرجل الفذ! ومع ذلك فقد كان هذا كله، قرأته عليك في الإنجيل فلم تنكر منه شيئا! لأن الناس جميعا قد عرفوه. فكن في إحدى هاتين المنزلتين، ولا تتذبذب بينهما: فإما أن تعرف ما عرف الناس، وإذا فلتؤمن بما آمن به الناس! وإما أن تنكر ما عرف الناس، وإذا فما أدري لم تطمئن إلى آلهتك القدماء، وإن أمرهم لأدنى إلى المحال وأشد إغراقا في السخف، وأبعد مما يستطيع عقلك أن يسيغ!
قال «كلكراتيس»: فإني أستطيع أن أنكر ما عرف الناس إلا أن يعرفه عقلي. وإني لا أرى على نفسي بأسا من أن أنكر الآلهة القدماء كما أنكر الإله الجديد الذي يحدثني عنه الإنجيل ما دام عقلي لا يستطيع أن يسيغ من أمره ولا من أمرهم شيئا.
قال الراهب: بل أنت لا تستطيع هذا يا بني! لأن نفسك عاجزة عن أن تحيا بغير إيمان، كما أن جسمك عاجز عن أن يحيا بغير الطعام والشراب.
إن جسمك لا يستطيع أن يقيم على الجوع، وإن نفسك لا تستطيع أن تقيم على الجحود، وإنك مضطر إلى أن تؤمن بآلهتك القدماء، أو بإلهنا هذا الجديد القديم الأبدي الخالد. فاختر لنفسك بينه وبينهم، وانظر أي الدينين أقرب إلى ما تحتاج إليه نفسك من الحب والرحمة، ومن العطف والحنان، ومن البر والتقوى. وأي الدينين أولى إلى ما يحتاج إليه عقلك من الارتفاع عن الصغائر، والتنزه عن الآثام، والتطهر من الرجس.
قال «كلكراتيس»: ما أشد ما أفسدت علي أمري! وما أشد ما سلطت علي من الاضطراب.
قال الراهب الشيخ: قلت لك يا بني إني لم أفسد عليك شيئا؛ لأن أمرك كان كله فاسدا؛ إنما رأيت الأمور قد اختلطت عليك، فاجتهدت في أن أهون عليك التمييز بين المختلط منها. وما أظن أن ذلك يستقيم لك في هذه اللحظة التي أنت فيها! ولكنك في حاجة إلى الأناة والروية ، وإلى التلبث وطول التفكير. فأمهل نفسك ورضها على عبادة «دينوزوس» وأصحابه، فما أراها تستجيب لك. ثم رضها على الكفر المطلق والجحود الخالص، فما أراها تقيم على ذلك أو تطمئن إليه. ثم رضها على حب هذا الإله الجديد الذي يبشر به الإنجيل، وانظر فلعل رحمة الله أن تمسها، ولعل قلبك أن يذوق حلاوة هذا الإيمان الذي أنعم به منذ انتهيت إلى ذلك الدير.
وإني، يا بني، راحل عنك وعن صديقيك منذ اليوم، وكاره أن يظن بي صاحبك ما ظنه حين كان يزعم أني قد أتيت أخطفك من بينهما. فاستقبل أمرك هادئا مطمئنا، وانظر إلى أي شيء ينتهي بك النظر والتفكير.
قال «كلكراتيس»: فما أرى أني سأدعك ترتحل عني، وما أرى أني أستطيع في هذه الأرض مقاما.
قال الراهب: فما أستطيع يا بني أن أقيم.
قال «كلكراتيس»: لن ترحل وحدك.
قال الراهب مشرق الوجه: فأنت إذا تريد أن تتبعني؟
قال «كلكراتيس»: نعم! لا لأني آمنت بما تؤمن به، واطمأننت إلى ما تطمئن إليه، ولكن لأني أجد في حديثك أنسا لم أجده في حديث إنسان قط، وأرى في قربك رحمة وحنانا لم أجدهما في قرب إنسان قط، وأرى أن هذه الدار تنبو بي، وأن الناس من حولي عدو لي، وأنك وحدك الصديق، وأن دارك وحدها هي دار الخفض والدعة والهدوء.
ثم صمت الفتى صمتا طويلا، ولكن دموعه الغزيرة المنحدرة تحدثت عن نفسه الحائرة المضطربة أصدق الحديث.
هنالك نهض الراهب الشيخ فضمه وقبله وبارك عليه.
6
وبلغ الراهب الشيخ ديره بعد أيام، فإذا الفيلسوف الفتى يستقبله مع المستقبلين حفيا به مشوقا إليه، يسأله في لهفة وحنان، وفي محبة وبر عما احتمل من مشقة، وما صادف من عقبة، وما لقي من عناء في سفره البعيد. والراهب يجيبه هادئا مطمئنا وادع النفس مستريح القلب، لا يظهر دهشا لمكانه في الدير، كأنه كان مستيقنا أنه سيلقاه حيث يلقاه الآن. حتى إذا استقر به مكانه، وخف إلحاح أصحابه عليه بالتحية والسؤال، وفرغ لصديقه الفتى شيئا، سأله: كيف انتهيت إلى هذا الدير؟ وكيف نجدك فيه؟
قال الفتى: لقد أحسست منك يا أبت ترددا في اصطحابي، وإحجاما عن مرافقتي، وإشفاقا من أن يظن بك صاحباي أنك قد خطفتني من بينهما خطفا، كما كنت تقول، فلم ألح عليك، بل لم أعد عليك طلب الإذن في صحبتك. وإنما تلقيت ضمك لي وتقبيلك إياي، وهذه البركة التي مستني بها، تلقيت هذا كله منك على أنه قبول لما طلبت إليك، قبول صدر من قلبك إلى قلبي، وانتقل من نفسك إلى نفسي، وإن لم يبلغه لسانك إلى أذني. ومن هنا أظهرت المضي فيما كنت ماضيا فيه من سخط على قيصر، ورغبة في الهجرة، وبحث عن الأرض التي أهاجر إليها. وذهبت من مساء ذلك اليوم إلى قصر الحاكم، فلقيته ولقيت «أندروكليس» ولقيتك معهما وسمرنا فيما سمرنا فيه، وافترقنا حين تقدم الليل، لم يحس صاحباي أني تقدمت خطوة فيما كنت أفكر، أو تأخرت خطوة عن الموقف الذي كنت قد انتهيت إليه. ولكن أمري كله كان قد دبر بين أول النهار وآخره. ولما فارقتكم لم أعد إلى بيتي إلا لألم به إلمامة قصيرة. ولما تلقيت الصبح من غد تلك الليلة كنت قد فصلت عن المدينة منذ ساعات. ثم لم يرتفع الضحى، ولم تزل الشمس، حتى كنت بعيدا عن إقليم صاحبي. وما أدري بعد ماذا كان من أمره وأمر «أندروكليس»، حيث علما أني قد فارقت المدينة فراق من لا يريد أن يعود إليها. وما أدري إلا أنهما قد ضاقا بهجرتي هذه ضيقا شديدا، فإنهما يحبانني ويأنسان إلي، ويحرصان الحرص كله على صحبتي.
وقد كنت أريد أن أجزيهما برا ببر وإحسانا بإحسان، ولكن ماذا أصنع وقد فرقت بيننا طبائعنا وأمزجتنا على هذا النحو الذي رأيت! على أني قد تركت ورائي من الأمر ما ينبئهما بأني كنت لهما صديقا، وعلى مودتهما حريصا فقد جعلت إلى حاكم المدينة تدبير ثروتي وإنها لعريضة، والإشراف على أموالي وإنها لضخمة، وتقدمت إليه في أن يقوم في ذلك مقامي ثلاثة أعوام! فإن رجعت إلى المدينة فذاك، وأنا زعيم أن أعرف له حسن خلافته لي فيما تركت ورائي، وإن لم أرجع، وما أراني راجعا، فإن مالي يقسم أثلاثا: له الثلث، ول «أندروكليس» الثلث، والثلث الأخير لهذا الدير.
وقد حملت معي ما استطعت حمله من مال وجوهر، ومن عرض ورقيق، فقدمته إلى رئيس الدير ليبر به من تعود أن يبرهم من الضعفاء والبائسين والمحتاجين إلى المواساة والعون.
وأقمت في هذا الدير أنتظر عودتك لأستشيرك وأستخبرك، وأسألك عما أصنع وعما أريد؛ فإني لا أدري ماذا أصنع، ولا أعرف ماذا أريد.
قال الراهب الشيخ في صوت يملؤه الحنان والحب: لقد تعجلت نفسك يا بني، وكنت خليقا أن تستأني وتصطنع الريث! فإنك صائر آخر الأمر إلى قرار ترضاه وتطمئن إليه. ولو قد أقمت بين أهلك ومالك وصديقك لما أخر ذلك ما قدر لك من الانتهاء إلى ما يطمئن إليه قلبك الذي لا بد له من أن يطمئن، وإلى ما تستريح إليك نفسك الحائرة، ويخرج به عقلك من الشك إلى اليقين.
إنك يا بني لست من هؤلاء الناس الذين تفرض عليهم الحيرة ضربة لازب، وينفقون أعمارهم في الشك الذي يهلك النفوس، أو الذي يقلقها ويعنيها، أو الذي يضطرها إلى التهاون والاستمتاع باللذات. لست من هؤلاء في شيء؛ ولكنك من الذين فطروا على الحزم والعزم، الذين لا يشكون إلا ليستيقنوا، ولا يقلقون إلا ليطمئنوا. فأقل عليك للوم، واطمئن إلى الراحة في هذا المكان الهادئ البعيد، وأرسل نفسك على سجيتها، ودعها تفكر ما وسعها التفكير، ودعها تشك ما امتدت لها أسباب الشك؛ فلست أخشى عليها من هذا كله شيئا.
قال الفتى: ما سمعت كاليوم كلاما أحسن موقعا في النفس، ولا أيسر مسلكا إلى القلب، ولا أقدر على تهدئة الضمير. لقد كنت أريد أن أفر بعقلي من قيصر وطغيانه، فإني الآن قد فررت إليك من عقلي وجموحه. فأشعر نفسي هذا الهدوء الذي تعرف كيف تذيعه في النفوس، وأزل عني هذا الاضطراب الذي لا أستطيع عليه صبرا، ولا أملك له احتمالا. أرحني من عقلي فقد سئمته وبرمت به، وأصبحت له مبغضا، وعليه مضغنا.
قال الراهب الشيخ: رفقا بنفسك يا بني، وإنصافا لعقلك هذا المسكين الذي تعبث به كما يعبث الطفل بلعبته. لقد كنت منذ أيام تحكمه في أمرك كله، وتسلطه على نفسك وعلى كل شيء، وتراه وحده الحكم الذي ترضى حكومته، والقاضي الذي لا يرد قضاؤه. فها أنت ذا قد أصبحت ترفض عقلك رفضا، وتنبذه نبذا، وتأبى صحبته. لقد كان عقلك يتمرد عليك، فأصبحت أنت تتمرد على عقلك. أليس من الممكن أن تجد لنفسك طريقا وسطا، وأن تصاحب عقلك مصاحبة الصديق للصديق لا مصاحبة العبد للسيد؟
قال الفتى: وهل إلى ذلك من سبيل؟ لقد كلفني عقلي ما لا أطيق. ما عرضت عليه شيئا إلا شك فيه، ولا دعوته إلى شيء إلا ارتاب به، ولا رغبته في شيء إلا رغب عنه، حتى بغض إلي كل شيء وزين في قلبي حب الموت. ولقد رأيتني يوم أقبلت أنت إلى المدينة أقرأ «فيدون» تهيؤا للموت. ولولا أن بيان أفلاطون شغلني عن نفسي وعن الموت، لما حمدت عاقبة ذلك الشك الذي كنت فيه.
قال الراهب وهو يضحك: فإن أمرك يا بني لا يخلو من فكاهة. ما أسرع ما فرقت بين نفسك وعقلك! وما أسرع ما أنشأت بينهما هذه الخصومة، كأنهما شخصان مختلفان قد أصبح كل منهما لصاحبه عدوا! ومع ذلك فأين الحدود التي تفرق بين هذين الشخصين؟! إن عقلك يا بني هو الذي يتحدث الآن، وهو الذي كان يتحدث أمس. قد كان عقلك مسرفا في الإيمان بنفسه فكان طاغية متمردا، ثم هو الآن مسرف في الارتياب بنفسه فهو ذليل مستكين. وكلتا الحالتين مرض يجب أن تبرأ منه لتنتهي إلى هذه المنزلة الوسطى، فتؤمن بعقلك إلى حد، وتجحد سلطانه إلى حد، وتأخذه بما ينبغي من التواضع الذي يتيح له الفهم والتفكير وإصلاح أمرك في الحياة، ويتيح لنفسك الإيمان واليقين وهذا النحو من الغذاء الروحي الذي لا تستطيع أن تحيا بدونه.
والأمر بينك وبين عقلك، يا بني، أيسر جدا مما تظن. لم تفكر قط في المعجزات ولم تقف عندها. فلما أظهرتك على أطراف منها اطمأن إليها ضميرك، ولم يسترح لها عقلك، فهذا مصدر ما أنت فيه من الاضطراب. ولو قد استطعت أن تلقي في روعك أن هذه المعجزات التي تخرق العادة وتخالف مألوف العقل من قوانين الطبيعة ليست في نفسها إلا مظاهر طبيعية كغيرها من المظاهر، إلا أن سلطان العقل لم ينبسط عليها، لعرفت أن سلطان العقل لم ينبسط ولا يمكن أن ينبسط على كل شيء. والله يجري هذه المعجزات على أيدي رسله وأنبيائه ليظهر العقل على أنه ما زال ضعيفا قاصرا، وعلى أن علمه ما زال بعيدا، وسيظل بعيدا عن أن يحيط بكل شيء. فخليق أن يذكر هذا ولا ينساه، وأن يسلك طريقا مستقيمة متواضعة إلى ما يريد من الحق، فإنه هالك إن لم يسلك هذه الطريق. وما أرى يا بني أن أمر هذا العقل سيصلح إلا حين يجري الله المعجزة الكبرى.
قال الفتى: المعجزة الكبرى! وما عسى أن تكون؟
قال الراهب الشيخ: هي هذه التي يفهمها العقل حق الفهم، ويكبرها كل الإكبار. يفهمها فلا يستطيع لها إنكارا، ويكبرها فلا يستطيع عليها تمردا ولا طغيانا.
قال الفتى: وتظن أن هذه المعجزة واقعة يوما ما؟
قال الشيخ: بل هي واقعة، وما أرى إلا أن وقتها قد أظلنا! فإن الله أحب لعباده وأرأف بهم وأعطف عليهم، من أن يخلي بينهم وبين هذا الطغيان العقلي الذي هم فيه.
ولقد تعهد الله عقل الإنسان، ينشئه وينميه، ويمده بالقوة شيئا فشيئا، ويظهر له المعجزات بين حين وحين، يعصمه بذلك من الغرور، ويحفظه من الطغيان، ويعدل به عن السبيل الجائرة، وهو يقدر أن هذا الطفل سيبلغ أشده يوما ما، وسيستطيع أن يضع نفسه موضعها وألا يتجاوز بها حدها، ولا يخرج بها عن طورها المقسوم لها. فإذا بلغ العقل أشده وانتهى إلى هذه المنزلة من النضج، أنزل الله عليه السكينة، وأظهر له المعجزة الكبرى التي تتجه إليه، وتنفذ إلى أعماقه، وتضطره إلى الإيمان بها عن فهم وروية ويقين، لا عن خوف وفزع وإذعان.
قال الفتى، وقد أخذ منه الشغف والكلف والشوق مأخذا عظيما كاد يخرجه عن صوابه: وترانا نبلغ هذا الوقت الذي ينضج فيه العقل لفهم هذه الآية الكبرى وحمل هذه الأمانة العظمى؟
قال الشيخ: فقد نضج العقل يا بني، وإنه ليدعو هذه الآية بكل ما فيه من قوة، وإنه ليتجه إلى السماء اتجاه المتلهف المشوق، يستنزل منها هذه الآية. ولو استطاع لطار إلى السماء، ولكنه قد فقد جناحيه منذ أهبط إلى هذه الأرض، كما يقول أصحاب أفلاطون؛ فهو مضطر إلى أن ينتظر رسالة الله، وإلى أن يصبر حتى يأتيه اليقين.
قال الفتى: وكيف عرفت نضج العقل وقربه من هذا الوقت الذي يخرج فيه من الظلمة إلى النور، ومن القلق إلى الاطمئنان؟
قال الشيخ: لقد حدثتك ببعض ما رأيت في رحلتي تلك إلى بلاد العرب. وما أرى إلا أن حديثي ذاك قد أدخل على نفسك بعض القلق الذي أنت فيه، كما أدخلت رحلتي على نفسي هذا القلق الذي انتهى بي إلى هذا الدير.
فانظر يا بني، كما أنظر، إلى الناس من حولك! ألست ترى يأسا من كل شيء، وضيقا بكل شيء، وانتظارا لشيء لا يعرفون ما هو، وطموحا إلى مثل أعلى يلمحونه ولا يستطيعون تصويره ولا تصوره؟ ثم انظر إليهم وفكر في أمرهم، أرأيتهم قد اضطربوا وساءت أحوالهم وفسدت الصلات بينهم كما تراهم الآن؟! إن هذا لشيء يراد يا بني، وما كان الله ليدفع الناس إلى هذا اليأس المهلك إلا وهو يقدر لهم رحمة تخرجهم منه، ويهيئ لهم نورا يمحو عنهم ظلمته القاتمة.
أقم يا بني معي؛ فإني لا اقيم في هذا الدير عبثا، وإني لم أختره دون غيره من الأديار التي تنبث غير بعيد من مدينتا إلا ولي في اختياره أرب.
قال الفتى: وما ذاك؟
قال الشيخ: هو هذا النبأ الذي أنتظره، وما أشك في أنه سيبلغني أو في أن بشائره ستبلغني عما قليل. أقم يا بني! لقد رأيت بشائر هذا النبأ يتبع بعضها بعضا في تلك البلاد التي أقمت فيها أعواما. وما أشك في أن هذه البشائر ستتجاوز هذا الوجه من أقطار الأرض وستبلغنا. ولو استطعت أن أقيم في البلاد التي ظهرت فيها تلك الآيات لما زلت عنها، ولكنها ليس لي بوطن! فأنا أقيم منها غير بعيد، وأنتظر أنباءها من يوم إلى يوم. ولقد حدثت بأحاديثها إلى رهبان هذا الدير، فاضطربوا لها كما تضطرب لها أنت الآن، وكما اضطربت لها أنا من قبل. ومنهم شاب آرامي من أهل الجزيرة استخفته هذه الأحاديث؛ فلم يملك نفسه ولم يستطع أن ينتظر كما ننتظر في هذا الدير المطمئن، ولكنه ارتحل عنا، وأمعن في الصحراء إلى أقرب موضع ممكن من هذه البلاد! واتخذ لنفسه هناك صومعة يقيم فيها، قريبا من الجادة حيث تمر القوافل التي تحمل إلينا تجارة تلك الأرض، يريد أن يسبقنا إلى العلم بهذا النبأ العظيم. وقد عودنا إذا مرت عليه القوافل فسألها واستقصى أخبارها، أن يزورنا فيحدثنا بما سمع وبما نقلت إليه القوافل. وإنه ليحدثنا بالأعاجيب يا بني، وإن موعد زيارته قد أظلنا! فهذا أوان مرور القوافل في تجارتها إلى أرض الشام. وما أراك ستطيل المقام هنا قبل أن ترى «بحيرى» مقبلا علينا بأخبارها ينثرها بيننا فرحا، مرحا، مبتهجا، كأنه الفتى الكريم، يجد اللذة كلها في أن يهب للناس ما جمع من ماله.
أقم يا بني! لقد كان عقلك ينكر المعجزات، ويزعم أنه لن يؤمن حتى يرى. فسيرى عقلك يا بني. سيعيش في عصر المعجزات. وسيكون حظك خيرا من حظي ومن حظ أمثالي الذين تقدمت بهم السن. سنرى نحن البشائر وقد لا ندرك جلية الأمر. أما أنت فسترى البشائر كما نراها، وقد تبلغ من صريح الأمر ما لا نبلغ، وتنال من الفوز ما لم يقدر لنا أن ننال.
قال ذلك وانهلت من عينيه عبرات غزار احتبس لها صوته في صدره. فنهض الفتى إليه وقبله وفداه، وما زال به حتى عاد إلى ما كان عليه من الهدوء والوقار. فقال في صوت مطمئن: انتظر يا بني! فليأتينك النبأ غدا أو بعد غد. وإذا بلغت ما لم نبلغ وانتهيت إلى ما لم ننته نحن إليه، فاذكرنا من حين إلى حين، وقل لنفسك إنا كنا نتحرق شوقا إلى بعض ما تجد من راحة أو نعيم.
7
وقد أقام الفتى في هذا الدير أياما طوالا، مضطربا بين شك يقسو عليه حتى يكاد يهلكه، واطمئنان يشيع في نفسه حتى يفتح له إلى الأمل أبوابا عراضا. يخلو إلى نفسه ويعرض أمره، فيظهر له مظلما قاتما وبشعا منكرا! يوئسه، أو يكاد يوئسه من كل شيء، ويسلط عليه من شياطين الحيرة ما ينغص عليه يقظته، ويذود عنه نومه، أو يفسد عليه أحلامه إن غلبه النوم.
وكان يفزع من هذا الشك أحيانا إلى كتب الفلاسفة، يطيل النظر فيها والوقوف عندها، فلا يبلغ من مصاحبتها ومعاشرة أصحابها شيئا. ومع ذلك فقد كانت هذه الكتب، فيما مضى من حياته، غذاء لنفسه وقلبه وعقله، يجد فيها من اللذة ونعمة البال ما لا يشبهه إلا ما كان يجده صاحباه من اللذة في عبادة أولئك الآلهة القدماء بما كانوا يحبون أن يعبدوا به من ألوان اللهو والعبث والمجون. وكان يفزع من هذا الشك أحيانا إلى الكتب المقدسة، يطيل النظر فيها، والوقوف عندها، فيفهم أحيانا، ويعجز عن الفهم أحيانا أخرى، ولا يطمئن قلبه في حال من الأحوال.
كانت نفسه تحدثه بأن وراء هذه المعجزات التي تمتلئ بها التوراة والإنجيل وقلوب الناس وأحاديثهم، حقا لا ينبغي أن يكون فيه شك. ولكن عقله كان عاجزا عن أن يسيغ هذه المعجزات، أو يحسن الإذعان لها والرضا عنها، فكان الفتى مقسما، إذا نظر في الكتب المقدسة، بين إيمان يشيع في قلبه ويدعوه إلى الرضا والاطمئنان، وشك يشيع في عقله ويدعوه إلى التمرد والجموح. وكان يجد في هذا التناقض بين قلبه وعقله ألما لاذعا عميقا عنيفا، زهده في كل شيء، ويكاد ينتهي به إلى الجنون أو ما يشبه الجنون.
هنالك كان يفزع من قلبه وعقله، ومن كتب الفلاسفة وأسفار الدين، إلى حنان ذلك الراهب الشيخ، فيجد عنده بعض ما كان يحتاج إليه من الراحة وهدوء البال، ويجد عنده هذا الحب الذي يشعره الشجاعة والصبر، ويذكي في نفسه جذوة الشوق إلى هذه البشائر التي كان يسمع عنها ولا يراها، ويتحرق شوقا إليها ولا يجد ما يخفف لوعته أو ينقع غلته.
وإنه لمع أستاذه الشيخ ذات يوم، وقد اصفر وجه النهار، وشاعت الكآبة فيما يحيط بهما من الحياة والأحياء، وهدأت لذلك نفوسهما، كأن هذا الحزن الشائع الهادئ قد مسهما بجناحه فأشاع فيهما شيئا من الكآبة والهدوء انخفضت له أصواتهما شيئا، فهما يتحدثان حديثا يشبه الهمس، ولو استطاعا لآثرا الصمت، ولبلغ كل منهما قلب صاحبه من طريق هذا الصمت العميق! ولكنهما كانا يتحاملان ويتكلفان الحديث، وقد كاد السأم يبلغ نفس الراهب الشيخ الذي كان لا يعرف سأما ولا مللا، والذي كان يذود عن صديقه الشاب كل سأم وكل ملل. ولكن انتظارهما قد طال وأسرف في الطول، ولم يأتهما النبأ الذي كانا ينتظرانه، ولم يزرهما بحيرى الذي كان خليقا أن يزورهما منذ عهد بعيد! فقد مرت القوافل إلى الشام، وليس من شك في أنها قد أمعنت في بلاد الروم، فباعت واشترت وعادت إلى أوطانها، ولم يأت «بحيرى» ولم يأت من نبئه قليل ولا كثير، أقول: إنهما ذات يوم لفي هذا الحديث الشاحب الكئيب، وقد كاد السأم وطول الانتظار ينتهيان بهما إلى اليأس، وإذا ضجيج يدنو منهما، وإذا هما ينصتان كأنما يريدان أن يتعرفا مصدره. ولكن الضجيج يدنو حتى يبلغ الدير! وينهض الشيخ وصاحبه الفتى ليعرفها من أمره ما يجهلانه! فما أسرع ما يمتلئ قلب الشيخ إيمانا ورضا! وما أسرع ما يضطرب قلب الفتى إشفاقا وخوفا!
هذا «بحيرى» قد أقبل، ولم يقبل وحده، وإنما أقبل معه عدد غير قليل من الناس، وقد أهمهم أمر ذو بال! فهم يلغطون في كثير من الدهش والحيرة، منهم من ينكر، ومنهم من يعرف، منهم من يرضى، ومنهم من يسخط، وأهل الدير يسألون ويستنبطون فلا يظفرون من الجواب إلا بهذا اللغط الذي تختلط فيه المعرفة والإنكار، والتصديق والتكذيب، والشك القاتم واليقين المشرق. فأما «بحيرى» نفسه فقد كان خارجا عن طوره، يأتي من الحركات بيده ووجهه وجسمه كله ما لم يتعود أهل الدير الإتيان به.
وكان كلما دنا من الراهب الشيخ ازداد هيامه وتولهه، حتى إذا رآه عدا إليه عدوا، ولم يكد يبلغه حتى ألقى نفسه بين ذراعيه، وجعل يضمه ويقبله ويقول في صوت يقطعه البكاء ويبلله الدمع الغزير: لقد رأيت! أقسم لقد رأيت! أشهد بالمسيح والصليب لقد رأيت! لقد رأيت واقتنعت. لن يبلغ نفسي الشك بعد اليوم. لقد رأيت! أقسم لقد رأيت!
والراهب الشيخ، يهدئه ويبارك عليه، ويسأله عما رأى، ويدعوه إلى أن يقلل من هذه الأيمان، ويخفف من هذه الحدة، ويرد نفسه إلى صوابها واطمئنانها شيئا، ويحدثه بجلية ما رأى وخلاصة ما اقتنع به، وما يزال الراهب الشيخ بهذا المتوله الهائم حتى يرد عليه بعض الهدوء، ويظفر منه وممن حوله بشيء من الأناة والوقار.
ثم يسأل الراهب الشيخ صاحبه «بحيرى»، وقد اطمأنت نفسه، أن يقص عليه بدء حديثه.
فيقول ...
8
من شاء فليشك، ومن شاء فليستيقن. أما أنا فلن يجد الشك إلى نفسي سبيلا بعد اليوم. لقد تأذن الله بأن كل شيء من حولنا سيتغير. فطوبى للذين يبلغون الآية الكبرى! وطوبى للذين يرونها فتقبلها قلوبهم مطمئنة إليها، وتقبلها عقولهم مؤمنة بها؛ ورحمة للذين تقصر بهم آمالهم عن بلوغ هذا الوقت السعيد؛ والويل كل الويل للذين يرون ثم لا يؤمنون!
قال الراهب الشيخ: فحدثني يا بني بما رأيت، حتى إذا فرغت من حديثك فكن كما شئت مبشرا ومنذرا.
قال «بحيرى»: لقد رأيته، ما يبلغني في ذلك شك، وما يمسني فيه ريب.
قال الشيخ: من هذا الذي رأيته؟
قال «بحيرى»: هو الذي سيغير من حولنا كل شيء. وهو الذي سيتم ما جاء به الأنبياء والرسل. هو الذي سيحقق ما بشرت به الكتب المقدسة. هو الذي سيصدق ما امتلأت به التوراة والإنجيل.
وكان الذين يسمعون هذا الحديث قد أخذت عليهم ألبابهم واختلطت عليهم أمورهم؛ فكانوا يسمعون ومنهم الشاك المرتاب، ومنهم المشوق إلى التصديق المشغوف بالإيمان، الذي لا ينتظر إلا أن تهدأ عن هذا المتحدث ثورته، فيفصح عما في نفسه ويعرب عما يريد أن يقول.
وكان الراهب الشيخ والفيلسوف الفتى قد بلغا من هذا الشوق أقصاه حتى كأنهما استحالا شوقا خالصا.
فلما طال على الراهب الانتظار، وكاد يفقد الصبر، قال لصاحبه «بحيرى» وهو يتكلف الأناة والهدوء: مهلا يا بني! إن كنت تريد أن نصدقك فاقصص علينا أمرك! فإن إطالة التشويق توشك أن تنتهي بك وبنا إلى اليأس المهلك!
قال «بحيرى»: إنك لتعلم لماذا تركت هذا الدير منذ عهد بعيد، ولماذا أمعنت في الصحراء حتى اتخذت صومعتي في أقرب مكان من هذه البلاد التي حدثتنا عنها بالأعاجيب. لقد أقمت في هذه الصومعة كما تعلم، أنتظر من أنباء تلك البلاد ما كنت تنتظر، وأترقب من أخبارها ما كنت تترقب. وإنك لم تكذبني فيما نقلت إليك من أحاديث الناس عما حدث في تلك البلاد بعدك من أحداث، يرونها ولا يفهمونها، ويتناقلونها ولا يستطيعون لها تفسيرا، ولكنهم إذا رأوا منها شيئا أو سمعوا من أخبارها طرفا ثم أعياهم الفهم والتأويل، قالوا: إن لهذا شأنا.
ولقد كنت أحدثك بما أسمع من الأعاجيب، فكنت تقول وكنت أقول معك كما يقول هؤلاء الناس: إن لهذا كله لشأنا. ولكنك أنت كنت تعلم هذا الشأن. ولكني أنا كنت أعلم هذا الشأن! لأننا نجده عندنا مكتوبا في الكتب. ولأننا نجد علمه عندنا موروثا عن الأحبار والرهبان.
ألسنا ننتظر أن يظهر في تلك البلاد رجل يتم الله على يده ما بدأ من رسالته إلى الناس؟!
قال الراهب الشيخ: بلى!
قال «بحيرى»: فإني أقسم لقد رأيته!
قال الراهب وهو يهز رأسه وقد ظهر على وجهه الشك المؤلم: ما أرى يا بني إلا أنك قد أخطأت أو خدعت! فإن أوان هذه الرسالة لم يأت بعد وإن كان قريبا.
قال «بحيرى»: ومن زعم لك أن أوان هذه الرسالة قد آن؟!
قال الراهب الشيخ: ألم تنبئني أنك قد رأيته؟!
قال: بلى! قد رأيته، أقسم لك رأيته. ولكنه ما زال صبيا لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره المبارك بعد.
قال الراهب وقد أشرق وجهه: أما الآن فعسى أن تكون مصيبا. أستطيع أن أسمع لحديثك. كيف رأيته وكيف عرفته؟
قال «بحيرى»: لقد رأيته ولقد حميته. بل ماذا أقول! غفرانك اللهم، فأنت وحدك الذي تملك حمايته وتبلغ منها ما تريد حتى يتم أمرك، ويبلغ رسالتك إلى الناس.
قال الراهب الشيخ: قل يا بني، فقد شققت علينا وكلفتنا أكثر مما نطيق.
قال «بحيرى»: أنشدك الله، ألسنا نعلم أنه سيولد في تلك الأرض التي كان فيها ما حدثتنا به من أمر الفيل؟!
قال الراهب الشيخ: بلى!
قال «بحيرى»: أنشدك الله، ألسنا نعلم أنه سيولد يتيما يموت عنه أبوه وهو جنين؟!
قال الراهب الشيخ: بلى!
قال «بحيرى»: أنشدك الله، ألسنا نعلم أن أحداثا عظاما ستحدث يوم مولده يحسها الناس ولا يتبينونها؟!
قال الراهب الشيخ: بلى!
قال «بحيرى»: ألسنا نعلم أنه سيفقد أمه ولما يتجاوز السادسة من عمره؟!
قال الراهب الشيخ: بلى!
قال «بحيرى»: ألسنا نعلم أنه سيفقد جده ولما يتجاوز السابعة من عمره؟!
قال الراهب الشيخ: بلى!
قال «بحيرى»: ثم ألسنا نعلم أنه سيظل في كفالة عم له يحميه ويرعاه حتى يبلغ أشده، ثم يقوم دونه حين يجد الجد ويتألب عليه عدوه من المشركين؟!
قال الراهب الشيخ: بلى! كل هذا نقرؤه فيما نقرأ من كتبنا، أو نتوارثه فيما نتوارث عن أحبارنا ورهباننا.
قال «بحيرى»: ثم ألسنا نعلم آخر الأمر أن الله قد ميزه من غيره من الناس بعلامة مادية ترى وتحس ويعرفها الراسخون في العلم ولا يرتاب فيها إلا المبطلون أو الجاهلون؟!
قال الراهب الشيخ: بلى! هي هذا الخاتم بين كفيه.
قال «بحيرى»: فإذا حدثتك بأني قد رأيت هذا الصبي، ورأيته مع عمه هذا الذي يكفله، وعرفت أن اسم هذا الصبي محمد، وأن اسم أبيه عبد الله، وأن اسم جده عبد المطلب، هذا الذي رأيته أنت عند أبرهة وحدثتنا من أنبائه بما تعلم.
قال الراهب الشيخ وقد اضطرب لهذا الحديث أشد الاضطراب: وإنك لتزعم أنك قد رأيته؟!
قال «بحيرى»: اللهم اشهد أني رأيته، ورأيته مع عمه أبي طالب، وعلمت ما حدثتك به من أن أباه قد مات عنه جنينا، وعلمت ما أشرت إليه من أن أمه قد ماتت عنه في بعض الطريق ولما يتجاوز السادسة من عمره، وعلمت أنه عاد إلى وطنه تكفله أمة ورثها عن أبيه فبلغته مأمنه وردته إلى جده الذي كفله وحماه. ثم علمت أن جده هذا قد مات عنه وأوصى به إلى عمه، وأن عمه قد قام دونه يكلؤه ويرعاه ويؤثره على ولده، وأن الصبي يبادله حبا بحب ويجزيه حنانا بحنان. ولقد حدثني عمه أنه خرج في تجارته مع قومه، فكان يجد ألما مبرحا لفراق هذا الصبي، ولكنه كان يشفق عليه من مشقة السفر وجهد الطريق. فلما كان اليوم الذي فصلت فيه القافلة تعلق الصبي به وجعل يتوسل إليه في أن يستصحبه، ويزعم له أنه لا يستطيع المقام إلا في كنفه. فصادف دعاء الصبي هوى في نفس الشيخ فاستصحبه، ومر به على صومعتي فيمن مر من قومه وهم يقصدون قصد الشام.
قال الراهب الشيخ وقد بهره ما سمع وقد أطرق القوم من حوله سكوتا كأنما عقدت ألسنتهم فلا يستطيعون أن يديروها في أفواههم: ولكن كيف عرفته؟ وكيف اهتديت إلى مكانه من قومه؟
قال الراهب: فهذه هي الآية التي ستقنعك كما أقنعتني، وستزيل عن نفسك الشك كما محته من نفسي محوا. أنشدك الله أتعلم أني عندك صادق ثقة مأمون؟
قال الراهب الشيخ: اللهم نعم!
قال «بحيرى»: نعم رأيت هذا، ولكني رأيته وحدي، ولم يره أحد من أولئك الذين كانوا يصحبون الصبي. فإذا حدثتك به فإنما أحدثك بما رأيت وبما لم ير غيري من الناس. فأما هؤلاء فقد ظنوا بي الظنون وأما أنت ...
قال الراهب الشيخ: فما أنكر شيئا مما تقول.
قال «بحيرى»: وأعجب من هذا أني كنت قد أنبئت بما رأيت! قد ألقى ذلك في روعي أثناء النوم في صورة مجملة غامضة، ولا أكاد أتبين منها إلا أني أحسست في تلك الليلة أن سيحدث لي حدث ذو بال إذا كان الغد. فأصبحت وإني لأنتظر شيئا، وأضحيت وإني لمستيقن أن سيحدث لي بعض الأمر. وما هي إلا أن يرتفع الضحى وإذا أنا أطلع من أعلى الصومعة فأرى ما يملؤني روعة وروعا: أرى هذا الصبي ينفرد بهذا الظل دون أن يشعر بذلك أحد، ودون أن يلتفت هو نفسه إليه أو يشعر به، حتى إذا دنت القافلة وحطت رحالها، جعل الصبي كلما انتقل انتقلت معه سحابته تلك، تظله وتقيه حر الشمس، ولا يشعر بذلك أحد، ولا يفطن لذلك إنسان. وأسأل من حولي: أيرون ما أرى؟ فإذا هم كغيرهم من الناس لا يرون. وأدعو القوم إلى طعام قد أعددته لهم لما رأيت ولما كان قد ألقي في روعي! فكلهم يستجيب لدعوتي إلا هذا الصبي، فإنهم يخلفونه في رحالهم. فأسأل وألح في السؤال، حتى أعلم أنهم قد حضروا جميعا طعامي إلا هذا الغلام، فألح في حضوره فيحضره القوم، وإنهم ليتلاومون على أن خلفوه! حتى إذا رفع القوم أيديهم عن الطعام، أخذت أحتال حتى أخلو إلى الشيخ الذي يصحب هذا الصبي. فما أزال أسأله وأستقصي أمره، حتى أعرف من حال الصبي ما حدثتك به. ثم أتحدث إلى الصبي نفسه، فيا للوجه المشرق المطمئن ينبئ عن نفس مشرقة مطمئنة! ويا للصوت العذب ينبئ عن خلق عذب! ويا للحديث الكريم ينبئ عن قلب كريم! وإني لأسأل الصبي وأستحلفه بأوثان قومه، فلا أرى منه إلا نفورا وازورارا، وإذا هو ينبئني بأنه لم يبغض شيئا قط كما يبغض هذه الأوثان. فأستحلفه بالله ليصدقني الحديث فيما أسأل عنه، فيجيبني إلى ما أردت. وأنا أسأله عن أمره، جليه وغامضه، وعما ينبغي أن يحدث له يقظان، وعما ينبغي أن يحدث له نائما، وعما ينبغي أن يحدث له مجتمعا إلى الناس، وعما ينبغي أن يحدث له خاليا إلى نفسه، فلا يجيبني إلا بما كنت أنتظر أن يجيبني به.
هنالك لم يبق في نفسي إلا أن أرى هذه الآية المادية بين كتفيه، فأنظر فأرى، فأقبل هذا الخاتم الكريم . وقد امتلأ قلبي حبا للصبي، وبرا به، وإشفاقا عليه من يهود؛ فإنهم يعرفون من أنبائه مثل ما نعرف، وينتظرون من أمره مثل ما ننتظر، ولكنهم يشفقون منه ويريدون به السوء.
وإذا أنا أتقدم إلى عمه الشيخ أن يعود به أدراجه، وأن يبالغ في حمايته وحياطته وصيانته من كيد يهود.
وإذا الشيخ يسمع لي في غير تردد، ويستجيب لي في غير مشقة، ويعود أدراجه بالصبي، ينتحل لذلك العلل والمعاذير، ويكل إلى بعض قومه أن يخلفه في تجارته.
ثم يطرق «بحيرى» شيئا كأنه يفكر فيما يريد أن يقول، وكأنه يريد أن يكره نفسه على كتمان بعض الأمر، ولكنه يعجز عن هذا الكتمان، ويرفع رأسه إلى الراهب الشيخ ويقول في صوت هادئ مطمئن: ولم يكد الشيخ يعود أدراجه بالصبي حتى يقبل علي هؤلاء - ويشير إلى بعض من صحبه - يلومونني أعنف اللوم، ويشاورونني في البغي على هذا الصبي. ولكن الله قد تأذن ليعصمنه من كل شر، وليحمينه من كل مكروه. ولولا ذلك لما رددتهم عما كانوا قد دبروه.
قال الراهب الشيخ: ما أرى يا بني إلا أنك قد حدثتنا حديثا صدقا! فطوبى لهذا الصبي! وطوبى لمن يصحبه! وطوبى لمن يدرك عهده ويؤمن به! وطوبى لك فقد رأيت ما لم نر، وكنت موفقا حين أبيت إلا أن تسبقنا إلى أعماق الصحراء، لتسبقنا إلى العلم بأنبائها. ثم التفت إلى صديقه الفيلسوف الشاب فإذا هو واجم، مغرق في الذهول، فيمس الراهب الشيخ كتفه كالمنبه له، ثم يسأله: أسمعت؟
قال الفيلسوف الفتى: نعم!
قال الراهب الشيخ: فماذا ترى؟ وماذا تقول؟
قال الفيلسوف الفتى: فإني أستأذنك وأستأذن هذا الأخ الكريم في أن أترك هذا الدير إذا تركه، وفي أن أعيش معه في صومعته؛ لأنتظر معه أنباء الصحراء؛ فإن أنباء الصحراء هذه هي التي ستنجيني من الشك، وتؤمنني من الخوف، وتدنيني من اليقين.
9
قال بحيرى وهو يبتسم: اسبقني أيها الأخ الكريم إلى الصومعة إن شئت، فأقم فيها ما أحببت، وانتظرني ما وسعك الانتظار! فقد أعود إليها وقد لا أعود.
قال الراهب الشيخ: ما أفهم عنك منذ الآن يا «بحيرى»! أصادف أنت عن الصومعة، وصارف أنت نفسك عن أنباء الصحراء بعد أن انتهت إليك تباشيرها؟ وما أحسب إلا أنها ستتواتر، وسيتبع بعضها بعضا في غير انقطاع، حتى يبلغك النبأ العظيم، إن امتدت بك الحياة إلى أن يأتي النبأ العظيم.
قال «بحيرى»: إني لأحمق إن أقمت في هذه الصومعة أنتظر الأنباء في طرف من أطراف الصحراء، وأنا أعلم أين مستقر هذه الأنباء، وأين دار الأمن والرحمة ومهبط الوحي والرسالة. ولقد همت نفسي أن أصحب الشيخ وابن أخيه إلى مكة فأقيم معهما. ولكن الله قد صرفني عن ذلك صرفا عنيفا لأمر يراد، فتردد خاطره في قلبي، ولكن لساني لم ينطلق به. ثم مضى الشيخ وابن أخيه، ونازعتني نفسي إلى أن أتبعهما وألحق بهما، ولكني صرفت عن ذلك صرفا عنيفا لأمر يراد. وما أرى إلا أن الله يريد أن يحفظ على الصحراء سرها مكتوما مستورا لا يظهرنا منه إلا على أيسره وأهونه، إلا على هذا الذي يطمعنا فيه ويشوقنا إليه، ولا يدنينا منه، ولا يبلغنا جليته. ولولا ذلك لما انعقد لساني حين هممت أن أعرض صحبتي على الشيخ. ولولا ذلك لما صرفت ركائبي إلى هذا الدير حين هممت أن أوجهها إلى جوف الصحراء.
قال الراهب الشيخ: فأنت تعلم يا بني أن الله يظهرك على هذا الأمر قبل إبانه، وتريد مع ذلك أن تمانع ما عرفت من تدبير الله!
قال «بحيرى»: الله يعصمني من أن أمانع تدبيره، وأخالف عن أمره، أو أتمرد على قضائه. ولكن الصومعة لم تصبح لي منزلا ولا مقاما، وإن لي في العراق لأربا. وإنك لتعلم أن صديقنا «نسطور» ينتظر من الأنباء هناك مثل ما كنت تنتظر أنت هنا؛ لأنه يتوقع من الأمر مثل ما تتوقع. وإني لخليق أن أسرع إليه كما أسرعت إليك، فأنبئه بمثل ما أنبأتك به. وما أدري بعد ذلك أأعود إلى الصومعة أم أمعن في أرض العرب، لعلي أقرب من مكة. فأقيم منها بحيث تبلغني الأنباء، وتنتهي إلي البشائر، في وقت أقصر من ذلك الوقت الذي كانت تبلغني فيه وأنا مقيم بهذه الصومعة في طرف من أطراف الشام. فإن شاء هذا الأخ الكريم أن يسبقني إلى الصومعة فذلك له، وإن شاء أن ينتظر عودتي إليك إن عدت ليصحبني إلى الصومعة فذلك له.
قال الفيلسوف الفتى: وإن شئت أن أصحبك إلى صديقك «نسطور»، وأن أشاطرك ما تدبر من المخاطرة والمغامرة.
قال «بحيرى»: فذلك لك. ولكنك رجل من الروم، والأمر بين من في العراق ومن في الشام على ما تعرف من الفساد والنكر. ولست آمن أن تتعرض لبعض الشر أو يلم بك بعض المكروه، فأما أنا فليس علي من ذلك بأس! لأني من أهل العراق أسير سيرتهم، وأتكلم لغتهم، وأنا بعد معروف بكثرة الرحلة والتنقل في أطراف الأرض، مأمون على أمر القوم، لا يتهمونني، ولا يشفقون مني على شيء.
قال الفيلسوف الفتى: فإنك قد أمعنت في أرض الروم ولم تلق كيدا، فدعني أصحبك إلى أرض الفرس، فلعلي أن أجد فيها من الأمن مثل ما وجدت أنت في هذه البلاد. ولا بأس عليك إن كانت الأقدار قد أرصدت لي بعض ما يكره الناس ويخافون؛ فإني لا أكره شيئا ولا أخاف شيئا ولا أحب شيئا كما أحب الخروج من أرض قيصر.
قال «بحيرى»: فهيئ نفسك إذا للرحلة؛ فإن الصبح لن يجدنا في هذا الدير.
قال الراهب الشيخ في صوت حزين: فأما أنا فليس يعنيكما من أمري قليل ولا كثير، أنا الذي فتح لكما أبواب الأمل، وهداكما إلى طريق النجاة هذه التي تبتدئان سلوكها وأرجو أن تبلغا آخرها. ثم ها أنتما هذان تنصرفان عني مسرعين، كلاكما يؤثر نفسه بالخير والعافية، وليس منكما من يفكر فيمن يترك وراءه من الخليل والصديق.
قال الفيلسوف الفتى وهو يقبل صديقه الشيخ: إن شئت فاصحبنا، فما نمنعك من ذلك ومما نردك عنه. ولكنك حين أقبلت على هذا الدير قد تركت وراءك أصدقاء لم تحفل بهم ولم تفكر فيهم. فأنت قد سننت لنا هذه السنة، وفتحت لنا هذه الطريق .
قال الراهب الشيخ: فإني لا أنكر عليكما شيئا، ولا ألومكما في شيء، ولو استطعت لكنت ثالثكما، ولكني مقيم هنا حتى يأتي أمر الله؛ فامضيا راشدين. وإذا لم يقدر لنا اللقاء في هذه الأرض فلا أقل من أن نطمع عندكما في مودة القلب ووفاء الضمير.
وأسفر الصبح فلم يجد هذين الشابين في الدير، وإنما وجد الراهب الشيخ وحيدا مطرقا مغرقا في التفكير، كأنما أرسل نفسه لتشييع صاحبيه، وهو ينتظر أن تعود إليه.
10
ولست أدري بماذا رجعت نفس الشيخ إليه بعد أن انصرفت عن صاحبيه وقد أمعنا في الصحراء. ولكنها لو اطلعت على ضمير «كلكراتيس» ثم حدثت الشيخ بما رأت، لأثارت في قلبه حزنا شديدا؛ فقد أمعن الرفيقان في سفرهما البعيد، مستبشرين أول النهار، قد غمرهما نوره المشرق الذي ملأ الصحراء حتى امتزجا به امتزاجا، وأحس كل واحد منهما كأن نفسه ليست إلا قبضة من هذا النور القوي الخفيف قد شاعت في عقله، وقلبه وجسمه، فإذا هو فرح مرح، يندفع أمامه لا يلوي على شيء. ولولا فضل من وقار لانطلق لسانه بالغناء. وما له لا يفعل وكل شيء من حوله مشرق، مبتهج يتغنى أو يدعو إلى الغناء!
ولكن الضحى يرتفع، وحرارة الشمس تبلغ جسم هذين الرفيقين وتثقل عليهما وتردهما إلى شيء من الأناة والروية، وإذا نفس الفيلسوف الشاب تنقبض قليلا قليلا، ويدنو بعضها من بعض حتى تنحاز إلى مكانها من رأس صاحبها أو من قلبه، من جسمه على كل حال، فهي كائن ممتاز لا يشيع في الفضاء ولا يمتزج بما حوله، وإنما هو في حيزه الذي قسم له. يحس نفسه ويفكر فيها ويعكف عليها، ويستحضر من أمره ما مضى، ويريد أن يستعرض من أمره ما لم يتكشف عنه الغيب بعد.
وإذا الفيلسوف الشاب يذكر بدء قصته، وينتهي إلى هذا الحديث الطريف الغريب الذي سمعه من «بحيرى» حين آذنت شمس الأمس بالغروب، فأذهله عن نفسه، وأرقه بقية ليله، وأزعجه عن الدير وعن صديقه الشيخ، كما أزعجه حديث ذلك الشيخ منذ حين عن صديقه وأهله وعن مدينته التي استقبل فيها الحياة وعرف فيها لذات الشباب.
وقد كان هذا كله خليقا أن يدفع «كلكراتيس» إلى بعض الحديث؛ فإن هذه العواطف المضطربة والذكريات القوية المختلفة قلما ترضى بالكتمان أو تطمئن إلى السكوت. ولكن الفتى أغرق في صمت غامض عميق، ظاهره استقرار النفس وهدوء البال، ومن ورائه صراع عنيف، بين قلب يشرق فيه نور اليقين فيملؤه رجاء وأملا، وعقل تكتنفه ظلمة الشك فتدفعه إلى القنوط واليأس دفعا. فما زال الفتى بعد هذا الذي اختلف عليه من أطوار الحياة، وبعد ما قرأ في الكتب وما سمع من صديقه الشيخ، وبعد هذا الحديث الطريف الذي سمعه من «بحيرى» حين انحدرت الشمس إلى مستقرها الغربي أمس، ما زال الفتى بعد هذا كله، وبرغم هذا كله، كما كان حائرا مضطربا، موله النفس يكاد يمزقه الصراع بين قلبه وعقله تمزيقا. قد زهد في آلهته القدماء منذ عهد بعيد، وتبين له أن لم يكن يخلص لهم الدين حين كان يعبدهم مع صاحبيه إذا جنهم الليل في قصر الحاكم، وإنما كان يتخذ عبادتهم وسيلة إلى إرضاء نفسه، وقضاء مآربه، وتحقيق لذاته المادية التي كانت تأتيه من اللهو والعبث، وتحقيق لذة معنوية أخرى كانت تأتيه من هذا الامتياز الذي كان يخرجه عما ألف الناس، ويمكنه من عصيان قيصر، والمخالفة على أمر السلطان.
وهو قد نظر إلى دين المسيح فأطال النظر، وفكر فأطال التفكير، ولكنه أعرض عنه في أول الأمر أشد الإعراض؛ لأن القانون كان يفرضه، ولأن السلطان كان يأخذ الناس به أخذا، ويبطش بالراغبين عنه والملحدين فيه. وما ينبغي للدين أن يكره الناس عليه إكراها، وأن تفرضه القوة القاهرة على النفوس فرضا، وإنما هو ينبوع رحمة وحنان يجب أن تصبو إليه عن رضا، وتهوى إليه القلوب عن محبة وشوق.
ثم حدثه الراهب الشيخ بما حدثه به من المعجزات التي يقص الإنجيل أنباءها، وتجتمع قلوب الناس على الإيمان بها والإكبار لها، ومن هذه البشائر التي رأى أولها في رحلته تلك، وما زالت تتواتر ويقفو بعضها إثر بعض، حتى كان ما سمعه أمس من رفيقه هذا الذي يسايره مغرقا مثله في صمت عميق. سمع حديث هذه البشائر، وتلك المعجزات، فمال إليها قلبه، واستراح ضميره! ولكن عقله ما زال لها منكرا، وعنها مزورا؛ لأنه عقل فيلسوف، قد نشأ على حكمة اليونان ومنطقهم، ولم يتعود أن يطمئن إلى ما يخرج عما لهذه الحكمة والمنطق من قانون.
كان هذا كله حديث نفس الفتى منذ ارتفع الضحى، وثقلت عليه حرارة الشمس. وكان يجد في هذا الحديث عناء شديدا، وهما ثقيلا! فهو لم يتحدث به إلى نفسه مرة ولا مرتين، وإنما كان يتحدث به إليها ويسمعه منها، مصبحا وممسيا، مضطربا في الأرض ومطمئنا في مضجعه. فلما طال عليه الجهد وبرح به الألم، تكلم، لا راغبا في الكلام ولا منتظرا منه دواء لدائه أو شفاء لعلته، ولكن ليخرج نفسه من طور إلى طور، وليشغلها عن هذا الصراع العنيف الأليم بين قلبه الذي يريد أن يطمئن، وعقله الذي لا يريد، أو لا يستطيع، أن يتحول عن الشك.
قال «كلكراتيس» لرفيقه بحيرى: أرأيت لو أني حدثتك بما قصصت علينا من أنباء هذا الصبي العربي أكنت تصدقني أو تطمئن إلي؟
قال «بحيرى»: فإن الأمر مختلف أشد الاختلاف.
قال «كلكراتيس»: وما ذاك؟
قال «بحيرى»: فإني لا أصدق الناس جميعا، ولا أكذب الناس جميعا. وأنا آمن لمن عهدي به الأمانة والصدق، وأرتاب فيمن عهدي به الخيانة والمين. وللحق بعد آيات تدل عليه، وعلامات تهدي إليه. ونحن لم نبتكر أمر هذا الصبي العربي ابتكارا، ولم نخترعه من عند أنفسنا، وإنما حفظته الكتب، وتحدثت به النبوات، وتناقله الصالحون الصادقون من أحبارنا ورهباننا، يورثه بعضهم بعضا، ويعهد بانتظاره بعضهم إلى بعض، ويتواصون بترقبه واستقصاء أنبائه؛ حتى إذا بدرت بوادره، وظهرت بشائره، أقبلوا إليه فمنحوه ما يملكون من نصر وتأييد. ولقد أقبلت إلى هذا الدير الذي فصلنا عنه منذ حين، وإني لأنتظر من هذا الأمر ما أنتظر، وأرقب من أخباره ما أرقب. فما هي إلا أن يقبل صديقنا «كلينيكوس» فيقص علينا بدء حديثه، ونعلم منه مثل ما علمت، حتى تشيع في قلبي ثقة قوية بأن لهذا الحديث شأنا، فأطير على هذا الدير إلى صومعتي تلك في طرف من أطراف الشام. وما أكاد أستقر فيها حتى تتواتر إلي الأنباء، وتتوالى إلي الأعاجيب، ثم ينتهي الأمر بي هذا العام إلى ما علمت. وما أدعوك إلى تصديق، وما أردك عن تكذيب، وما أفرض عليك شيئا، وما أحظر عليك شيئا، ولكني رأيت فآمنت، وسمعت فصدقت، ثم حدثت بما رأيت وما سمعت رجلا من أهل العلم فآمن وصدق، وسأحدث من أعرف من أهل العلم، وما أرى إلا أنهم سيؤمنون ويصدقون، وينتظرون كما أنتظر أن تظهر هذه المعجزة التي لا تدع سبيلا إلى الشك، ولا طريقا إلى الارتياب.
قال «كلكراتيس» في صوت هادئ حزين، ولكن فيه نغمة الحرص على المعرفة، والشوق إلى اليقين، والعجز مع ذلك عن بلوغ ما يريد: إن قلبي ليؤمن لك، ولكن عقلي يأبى عليك.
قال «بحيرى»: فأنت في حاجة إلى أن تخلق خلقا جديدا، وتولد مرة أخرى، لترى الأمر كما نراه، وتفهمه على وجهه.
قال «كلكراتيس» وفي وجهه ابتسامة يائسة: إني لا أفهم عنك. لقد قرأت هذا في الإنجيل، قاله المسيح لرجل من يهود، كان يشك في أمره كما أشك أنا الآن، يرضى قلبه ويسخط عقله. ولكني لا أسألك كيف أولد مرة أخرى، وإنما أسألك كيف السبيل إلى أن أولد مرة أخرى؟ كيف السبيل إلى أن أغير هذا العقل فأرده إلى اليقين الذي يخرجه من الشك؟ أو كيف السبيل إلى أن أغير هذا القلب فأرده إلى الشك الذي يخرجه من اليقين؟ فأنا شقي بهذا التناقض الذي أجده بين عقلي وقلبي. وما أرى أني سأستريح إلا أن يشكا معا أو يطمئنا معا. فأما أن يذهب أحدهما نحو الشرق، ويذهب الآخر نحو الغرب، فهذا العذاب الذي لا يطاق، وهذه الحياة خير منها الموت.
قال «بحيرى»: إني لأرحمك وأرثي لك، ولكني لا أحب أن تيأس من رحمة الله، أو تقنط من روحه. فخذ نفسك بالصلاة، وأقم عليها ما استطعت فقد يمسك الله بجناح من رفقه وعطفه، فيخرجك من الظلمة إلى النور.
قال «كلكراتيس»: فإني لا أجد إلى الصلاة سبيلا، ولقد أخذت بها نفسي أخذا شديدا، فحاولت الصلاة صامتا، وحاولت الصلاة ناطقا، فجعلت كلما أدرت منها جملة في نفسي أدار عقلي، أو أدار الشيطان، جملة أخرى تكذبها وتنفيها.
قال «بحيرى»: فإني لا أملك لك من الله شيئا. وأكبر الظن أنك في حاجة إلى هذا الألم العنيف الذي يبهر العقل، ويملأ النفس، ويستغرق الضمير، والذي لا يأتي إلا من التجارب والخطوب. ثم أطرق لحظة كأنه يفكر وكأنه يدعو خواطره من بعيد، ثم رفع إلى رفيقه وجها مشرقا يصور نفسا مطمئنة، وقال في صوت خافت، كأنه صوت الصلاة: أرأيت أننا نصلي فنسأل الله أن يكفينا شر التجارب، ويعصمنا من مكر الدهر وآلام الخطوب! فمن يدري؟ لعل من الخير أن تصلي فتسأل الله أن يبلوك بالتجارب، ويمتحنك بالخطوب؛ فإن التجارب تمحص القلوب، وإن الخطوب تطهر النفس، وإن المحن تصفي الضمير، وإن هذه الآلام الطارئة على غير انتظار والملمة في غير رفق، تكف من غلواء العقل، وتخفف من كبريائه، وترده إلى التواضع، وتشفيه من داء الغرور.
قال «كلكراتيس»، وقد انهمرت من عينيه دموع غزار: عسى أن يكون ذلك! ولكني في حاجة إلى أن أرى لا إلى أن أسمع، وإلى أن أشهد لا إلى أن أقرأ في الكتب. ما قصدي إلى العراق، وإن همي لفي الحجاز! ما رحلتي إلى صديقك «نسطور»، وإن شفائي لعند ذلك الصبي العربي اليتيم!
11
وهل عرفت الفكرة اللازمة التي لا تريم، والخاطر الملح الذي لا يفصل عن صاحبه ولا يرفه عليه! فإني لا أعرف شيئا أشد منهما على النفس، ولا أشق منهما على العقل، ولا أفتك منهما بالأعصاب. وما أرى إلا أنك ترثي مثلي لهذا الفيلسوف الرومي الشاب حين علم أنه لم يكد يلقي إلى رفيقه جملته تلك حتى لزمته هذه الفكرة فلم تفارقه، وألح عليه هذا الخاطر، فلم يجد إلى التخلص منه سبيلا.
وجعلت هذه الجملة تذهب وتجيء في رأسه كما يذهب المنشار ويجيء في الخشبة التي يريد أن يشقها: «ما قصدي إلى العراق، وإن همي لفي الحجاز! ما رحلتي إلى «نسطور» وإن شفائي لعند ذلك الصبي العربي اليتيم!»
وهم الفتى ألف مرة ومرة أن يصرف عنها نفسه، ويحول عنها تفكيره، فلم يوفق من ذلك لشيء، وإنما جعلت هذه الجملة تدور في رأسه دورانا متصلا، حتى خيل إلى الفتى أنها لون من هذيان الحمى، وجعل يتصور في نفسه أنه مريض، وأن شفاءه في العناية بجسمه، لا في الذهاب إلى العراق ولا في التحول إلى الحجاز، ولا في الرحلة إلى «نسطور»، ولا في القصد إلى ذلك الصبي العربي اليتيم. وجعل الفتى يمتحن نفسه مغرقا في الصمت، ويمتحن نفسه مندفعا في الكلام، فإذا هو لا يستطيع أن يخلص من هذا الخاطر اللازم له الملح عليه.
وكذلك انقضى النهار، وكذلك أقبل الليل فجلل الصحراء بظلمته القاتمة، والفتى فريسة لخاطره هذا الملح، لا ينقذه منه ضوء النهار، ولا يصرفه عنه ظلام الليل. وصاحبه يرفق به، ويعطف عليه، ويواسيه حينا بالحديث، ويسليه حينا آخر بما يظهر له من مناظر الصحراء المختلفة المتشابهة. ولكن الفتى لا يسلو ولا يتعزى، وإنما هو خاطره الملح قد ملأ قلبه وشغل نفسه، وملك عليه أمره كله. ولولا بصيص ضئيل من نور العقل كان يضبط أعصابه بعض الضبط، وينظم حركاته بعض التنظيم، لما شك الفتى ولا شك صاحبه في أن عارضا من الجنون ألم به، فأنساه ماضيه، وشغله عن مستقبل أمره، ورده إلى حال لا يصلح معها التفكير ولا التقدير.
وقد انتهى المسافران ومن كان يتبعهما من الغلمان، حين تقدم الليل، إلى حصن ضخم شاهق من هذه الحصون التي كانت تنبث في الصحراء بين الشام والعراق، والتي كان يقيم فيها الجند حراسا للحدود محافظين عليها، وكان يأوي إليها السفر الذين يضطرون إلى عبور الصحراء.
انتهى الرفيقان وأتباعهما إلى هذا الحصن حين كاد الليل ينتصف، فلم تفتح لهم أبوابه، ولم يحاولوا استفتاحها، وإنما أجمعوا أمرهم أن ينفقوا بقية الليل في ظله، حتى إذا أسفر الصبح ألموا به، فأصلحوا من شأنهم، وتزودوا لمرحلتهم، ثم استأنفوا سفرهم البعيد. وما هي إلا ساعة حتى اندمجت هذه الجماعة الضئيلة في هذا الهدوء الشامل من حولها، فأصبحت جزءا منه، لا تحس نفسها، ولا يحسها أحد.
وكان الفتى قد طمع في أن ما تكلف من جهد السفر وما احتمل من مشقته، سيدفعه إلى النوم الهادئ المريح، فينسى فكرته اللازمة ويصرف عن خاطره الملح، ويسترد ما أضاع من قوة، ويجدد ما فقد من نشاط. ولم يكذب النوم أمله ولم يخلف ظنه، وإنما أسرع إليه فأظله بجناحيه، وأفاض عليه شيئا من هذا السكون الذي يجد فيه الجسم راحة، وتجد النفس فيه براءة من أوضار الحياة، وتخفيفا من أثقالها. ولكن الفتى يفيق بعد ساعة ويفتح عينيه فإذا ظلمة الليل ما زالت جاثمة على الصحراء، وإذا أشعة ضئيلة تضطرب في هذه الظلمة فلا تستطيع أن تجلوها ولا أن ترقق من كثافتها. ويستجمع الفتى نفسه المشردة، وخواطره المتفرقة، فإذا ثاب إليه رشده نظر من حوله كأنما يبحث عن شيء لا يجده، وقد كان في حقيقة الأمر يبحث عن مصدر صوت سمعه حين أفاق، ولعله هو الذي أيقظه. والفتى لا يشك في أنه لم يسمعه في الحلم، وإنما سمعه في اليقظة، أو سمعه بين اليقظة والنوم.
وكان هذا الصوت غليظا خشنا، وكان مع ذلك هادئا تشيع فيه السخرية، وكان يقول: «عجبت للذين يريدون ولا يفعلون، ويعزمون ولا يتممون، ويقصدون إلى العراق وهمهم في الحجاز، ويرحلون إلى «نسطور» وشفاؤهم عند الصبي العربي اليتيم.»
على أن الفتى لم يلبث أن عرف نفسه وأنكرها معا؛ عرف نفسه وفكرته اللازمة له وخاطره الملح عليه، وأنكر نفسه هذه المضطربة التي عجز النوم عن أن يقهرها، فإذا هي تفكر نائمة كما كانت تفكر يقظى، وإذا هي تردد في الحلم وفي جنح الليل ما كانت تردده حين كانت مستيقظة في ضوء النهار. ويعود الفتى إلى مضجعه وقد جمع إليه إرادته كلها وعزمه كله، وأنفق جهدا غير قليل ليرد عن نفسه هذا الخاطر الملح، ودعا النوم كأشد ما يكون دعاء للنوم، ولكن النوم كان قد نأى عنه، ولكن الصوت كان لا يزال يصل إلى سمعه، يأتيه من خارج، يأتيه من هذا الجو المحيط به، لا من دخيلة النفس ولا من أعماق الضمير. فلا يشك الفتى في أن إنسانا يناجيه ويغريه، فيسأل: «من المتكلم؟» ولكنه يسمع صوت نفسه فيرتاع، وقد كان يسمع ذلك الصوت الغريب فلا يحس خوفا ولا روعا.
هنالك ينهض الفتى من مضجعه، ويمشي أمامه خطوات، ثم يتحول فيمشي خطوات أخرى عن يمين، ثم يتحول فيمشي خطوات إلى شمال، فلا يرى أحدا، ولا يحس شيئا! فيعود إلى مكانه قلقا بعض الشيء، مستشعرا بعض الخوف. ولكنه لا يكاد يستقر حتى يبلغه صوت آخر يأتيه من بعيد، فيه عذوبة ورقة وحنان، ولكنه يسمعه ولا يفهم عنه شيئا. فينهض مرة أخرى، ويمضي شطر الوجه الذي يأتيه منه الصوت، وما يزال يسعى خائفا يترقب، حتى يخيل إليه أنه يرى شخصا ماثلا، فيدنو منه في بعض الحذر والرفق، حتى إذا كان منه غير بعيد تبينه فإذا هو رفيقه الراهب «بحيرى» قائما يصلي وقد رفع وجهه إلى السماء، وهو يتمتم في لغته السريانية التي يسمع لها الفتى فلا يفهمها. وما كان أشد حاجة الشاب إلى أن يدنو من صاحبه، فيمس كتفه، ويدعوه إلى معونته، ويتحدث إليه بأمر هذا الصوت الذي سمعه! ولكنه ينظر إلى رفيقه فإذا هو غارق في صلاته، لا يحس مكانه منه، ولا يحس شيئا من حوله، ولعله لا يحس نفسه أيضا. فيكره الفتى أن يصرفه عن هذه الصلاة، وأن يخرجه من هذه الحال التي يود لو أتيح له شيء مثلها أو قريب منها. ويعود أدراجه ويستقر في مكانه، ويدعو النوم كأشد ما يستطيع له دعاء، وينفق جهدا عنيفا ليذود عن نفسه كل خاطر. وها هو ذا قد أخذ يستريح، ويحس هذا الفتور الذي يشيع في أعضائه كأنه يبشره بمقدم النعاس، فيستسلم له، ويود لو استطاع أن ينغمس فيه انغماسا.
ولكنه يسمع الصوت الغليظ الخشن، الهادئ الساخر، يعيد جملته تلك: «عجبت للذين يريدون ولا يفعلون، ويعزمون ولا يتممون، ويقصدون إلى العراق وهمهم في الحجاز، ويرحلون إلى «نسطور» وشفاؤهم عند الصبي العربي اليتيم.»
هنالك يستوي في مجلسه وقد امتلأ رعبا، وكظم صيحة عنيفة كادت تسبقه إلى الهواء، فتنبه النائمين من أتباعه وتلفت إليه هذا الراهب المستغرق في الصلاة. ولكن فضلا من حياء أمسك عليه نفسه ورده إلى بعض الروية والأناة؛ فقد جعل يسائل: ما هذا الصوت؟ ومن أين يأتيني؟ إن كنت قد سمعته حالما أول الأمر فلست بالحالم الآن. ثم يمتلئ قلب الفتى أمنا ودعة واطمئنانا، وإذا هو يرى في نفسه ما لم يكن يقدر، ويطمئن إلى ما لم يكن يطمئن إليه، ويستيقن أن هذا الصوت لم يبلغه إلا لأمر يراد.
لا ينبغي إذا أن يمضي في طريقه إلى العراق، ولا أن يصمم على رحلته إلى «نسطور»! فإن الله لا يريد له ذلك ولا يعينه عليه. ولا بد من أن يعود أدراجه حتى يبلغ الدير، فيفضي بأمره كله إلى صديقه الشيخ، ويتزود عنده بشيء من هذه الراحة التي يعرف كيف يشيعها في ضميره، وهذا اليقين الذي يعرف كيف يملأ به قلبه. وها هو ذا ينهض، وها هو ذا يمضي أمامه حتى يبلغ رفيقه الراهب، فيراه ما زال ماثلا يتمتم في لغته السريانية وقد رفع وجهه إلى السماء لا يحس شيئا، ولعله لا يحس نفسه. فينظر الفتى إليه ويطيل النظر، وكأنه يريد أن يؤذنه بانصرافه عنه وتحوله إلى الدير. ولكن الراهب مستغرق في صلاته، فما إخراجه منها وما صرفه عنها! وهذا الفتى يتحول عن صاحبه مسرعا، ويمضي أمامه لا يلوي على شيء وما هي إلا لحظات تمضي حتى يصير الفتى سرا مكتوما في هذا الضمير الغامض الذي يأتلف من ظلمة الليل وامتداد الصحراء.
12
ثم ينبلج الصبح عنه، فإذا هو كامل القوة، موفور النشاط، باسم الثغر، مبسوط الأسارير، لا يظهر عليه الإعياء، وإن كان قد تكلف مشقة سفر متصل لم يسترح من جهده إلا هذه الساعات القليلة التي كانت إلى التعب أقرب منها إلى الراحة، وإلى الخوف المضني أدنى منها إلى الأمن والهدوء. وإنما يظهر على وجهه شيء آخر يصور نفسا راضية، وقلبا مطمئنا، وينم بأن الفتى قد برئ من هذا القلق الذي كان يساوره ويفسد عليه أمره. ولا غرابة في ذلك! فقد كان يريد أن يرى وأن يشهد. أوليس قد رأى وشهد! إنه لم ير شخصا ماثلا يصدر إليه هذا الصوت الذي رده عن العراق وحوله إلى الدير، ولكنه قد سمع هذا الصوت سمعه غير مرة، وسمعه يأتيه من خارج نفسه، لا من دخيلتها ولا من أعماقها، فما ينبغي لعقله أن يشك، وما ينبغي لبصيرته أن ترتاب، وما ينبغي لعزمه أن ينثني عما صمم عليه. إنه مأمور بالقصد إلى الحجاز؛ فليقصدن إلى الحجاز بعد أن يستقر حينا في الدير، ويتزود من صديقه الشيخ ببعض اليقين.
وهو يمضي أمامه يغمره ضوء الصبح المشرق، وينعشه نسيمه البارد؛ ويشيع النشاط في جسمه ونفسه لذة غريبة يذوقها ولكنه لا يستطيع تصويرها ولا يحسن وصفها إن حاول هذا الوصف. والغريب من أمره أنه كان يمضي أمامه دون أن يسأل نفسه: أماض هو في طريقه إلى الدير أم هائم هو في غير طريق؟
وما شكه في استقامة الطريق له واعتدالها أمامه، وهو قد سلكها أمس، وهو لا يسلكها اليوم إلا مأمورا، فإن الذي أمره أن يعود أدراجه يهديه سبيله إلى العودة، ما يتطرق إليه في ذلك شك ولا ريب. فليمض أمامه، وليمض لا ملويا على شيء ولا حافلا بشيء، وليبعد الخطى فإن الأمد بعيد! وما ينبغي أن يدركه الليل مرة أخرى قبل أن يبلغ مأمنه وينتهي إلى غايته.
ومن الحق أنه لم يسلك هذه الطريق أمس راجلا، وإنما كانت تخب به الركاب. ومن الحق أيضا أنه لم يكن دليل نفسه أمس، وأنه لم يعرف معالم الطريق ولم يثبتها! فهو خليق أن يخطئ القصد، وأن يجور عن السبيل. ولكن هذه الخواطر لا تلم به ولا تعرض له، فهو مشغول بما يملأ قلبه من أمن، وما يغمر نفسه من اطمئنان. وهو مشغول بهذه الثقة التي أراحت عقله، واضطرته إلى الدعة والهدوء، وجردته من ذلك السلاح الخطر الذي كان يناضل به في ذلك الصراع الأليم.
لقد كان يريد أن يرى، فقد رأى. ولقد كان يريد أن يشهد، فقد شهد. وما من شك في أن الأيام ستتكشف له عن معجزات أخرى أعظم خطرا، وأعمق أثرا، وأنبه شأنا من هذه المعجزة التي أسرها الليل إليه، ومن تلك المعجزات التي قصها الرهبان عليه. فليمض أمامه واثقا! فقد انجلت عنه الغمرة، وآذنت محنته بالزوال.
ومن الحق أنه لم يمض في الصحراء أمس وحيدا ولا صفر اليد، وإنما كان له رفيق يأنس به ويستريح إليه، وأتباع يعينونه على بعض الأمر ويصلحون له من الشئون ما لم يتعود أن يصلح لنفسه، ويحملون له من الزاد والمئونة ما يقيم أوده، ويعصمه من الظمأ والجوع. وهو الآن يمضي في الصحراء وحيدا لا رفيق له ولا تبع، ولا مئونة معه ولا زاد. ولكن هذا الخاطر لم يلم به ولم يعرض له؛ لأن قلبه مشغول عن هذه الصغائر بما يملؤه من عظائم الأمور. وآية ذلك أن الضحى قد ارتفع، وأن الشمس قد أوشكت أن تزول، وأنه على ذلك يمضي في طريقه آمنا هادئا، لا يحس ألما ولا تعبا، ولا يدعوه جسمه إلى طعام أو شراب، ولا يجد حاجة إلى شيء إلا إلى أن تبعد خطاه، وأن يدفعه نشاطه حتى يبلغ مأمنه، وينتهي إلى غايته، ويلقى صديقه الشيخ، قبل أن تجنه ظلمة الليل.
وما من شك في أنه سيبلغ من ذلك ما يريد. وما من شك في أن هذا الصوت الذي أزعجه من مضجعه لم يرد به إلا خيرا، وهو خليق أن يبلغه مأمنه قبل أن يدركه الجهد أو يمسه الضر.
وكذلك مضى الفتى أمامه واثقا لا يعرف القلق ولا الشك إلى نفسه سبيلا، سعيدا بهذا الأمن الذي فارقه منذ عهد بعيد، والذي عاد إليه الآن يؤنسه في وحدته، ويذود عنه وحشة الصحراء.
لن يسمع إذا جنه الليل ذلك الصوت الغليظ الخشن يردد في هدوئه الساخر تلك الجملة اللاذعة. لقد أراد ففعل. ولقد عزم فتمم. وأي دليل على ذلك أصرح وأوضح من هذه الخطى البعيدة التي تقطع الصحراء دون أن يجد لها كلالا أو يدركه منها سأم! كلا! لئن سمع صوتا في هذه الليلة المقبلة ليسمعن صوتا حلوا عذبا مشجعا، يملؤه ثقة ويدفعه إلى المضي والإقدام. وقد أخذت حرارة الشمس تخف بعد شدتها، وأخذ وجه النهار يدركه الشحوب، وأخذت الظلمة بعد حين تنتشر على الصحراء كأنها السيل المندفع لا يذر شيئا أتى عليه إلا غمره واكتسحه اكتساحا، ولم يبلغ الفتى مأمنه، ولم ينته إلى غايته، ولم يعرف شيئا من هذه المعالم التي تقوم غير بعيد من الدير.
ولكن لا بأس؛ فإنه يسعى راجلا، وقد كانت تخب به الركاب أمس. وأكبر الظن أنه إذا مضى في طريقه وباعد بين خطاه، واحتفظ بهذا النشاط الذي لم يفارقه طول النهار فسيبلغ الدير حين يتقدم الليل. وأكبر الظن أنه لن تمضي ساعات حتى يرى هذه المعالم، ويتبين هذه الأضواء الضئيلة المضطربة التي تخفق في ظلمة الليل وتمضي إلى بعيد كأنها تدعو إلى الدير أمثاله هؤلاء الذين أضنتهم الصحراء وأعياهم السفر البعيد.
والفتى يمضي وظلمات الليل تتكاثف ويركب بعضها بعضا، وهذه الأشعة الضئيلة التي تنحدر من السماء تحاول أن تشق هذه الظلمات فلا تكاد تبلغ من ذلك شيئا. ومع أن كل شيء قد كان صامتا من حول الفتى في تلك الصحراء الموحشة أثناء النهار، فقد يخيل إليه أن اللغط من حوله قد أخذ يظهر شيئا فشيئا، قد أخذ يظهر قليلا ضئيلا كأنه قطع متفرقة تحملها الريح، ثم يشتد ويتدانى قليلا قليلا، ثم يتلاصق وينعقد ويأخذه من كل مكان، وإذا هو يسمع أصواتا مشتبكة تأتيه من كل وجه: تأتيه من أمام إذا مضى إلى أمام، وتأتيه من وراء إذا وقف متفكرا مستخبرا، وتأتيه من يمين وشمال، ولو صدق نفسه وآمن لخياله لاعتقد أن هذه الأصوات تنجم له من الأرض، وتهبط عليه من السماء، وهي على كل حال تغمره من جميع أقطاره وتكاد تغرقه. ولكنه لم يفقد رشده، ولم يضل صوابه؛ فهو يشهد هذا كله شاعرا به، محققا له، مفكرا فيه. ثم لا يلبث أن يرده إلى أصله ويضيفه إلى مصدره. فهو قد سافر يوما كاملا لم يذق فيه من الراحة إلا ما لا يغني، ثم هو قد استأنف السفر يوما كاملا لم يذق فيه طعاما ولا شرابا، ولم يأخذ فيه من الراحة بقليل ولا كثير. وهذا الليل قد تقدم وهو ما زال ماضيا أمامه، ولعله يحس تقارب الخطى وشيئا من الكلال قد أخذ يتمشى في أطرافه. فهذا الإعياء من غير شك هو أصل هذا اللغط ومصدر هذه الأصوات التي تأخذه من كل وجه. وويل للنفوس القوية من الأجسام الضعيفة! إن نفسه لكاملة القوة، مجتمعة النشاط، قادرة كل القدرة، وحريصة أشد الحرص على أن تمضي حتى تبلغ الدير. ولكن هذا الجسم الضعيف قد أخذ يفتر ويتهالك، ويعجز عن مجاراة هذه النفس القارحة. فليت الله لم يبتل النفوس بالأجسام! وليته أتاح لهذه النفوس حياة مجردة من المادة، مطهرة من هذه الأدناس والأوضار! ولكن الأصوات تلغط ويتكاثف لغطها في سمع الفتى كما تتكاثف ظلمة الليل أمام عينيه. ولكن جسم الفتى يفتر ويفتر، ويثقل ويشتد ثقله حتى تعجز نفس الفتى عن حمله، وتود لو تخرج منه فتلم بالدير ثم تطير إلى الحجاز حيث الصبي العربي اليتيم.
ولكن خطى الفتى تقرب وتقرب، وإذا هو يحس أنه يتحرك دون أن يتقدم، وينظر فإذا هو قائم مكانه قد فارقته قوته وفارقه نشاطه، وأحس حاجة إلى الراحة لا يستطيع لها مقاومة، ولا يجد منها بدا!
الراحة! ولكن كيف السبيل إليها؟! وأين يبتغيها وهو في هذا المكان الموحش الذي لا يعرف له أولا ولا آخرا! أما أمس فقد استطاع أن يطلب الراحة مع أصحابه في ظل ذلك الحصن الضخم الشاهق في السماء. وقد كان يظن أنه سيطلب الراحة من ليلته في ذلك الدير الذي لا ينبغي أن يكون بعيدا، لولا ضعف هذا الجسم النحيف الذي يقعد به وليس بينه وبين الغاية إلا أمد قريب.
ومع ذلك فويل للذين يريدون ولا يفعلون! وويل للذين يزعمون ولا يتممون! وهو قد أراد ولا بد من أن يفعل. وقد عزم ولا بد من أن يتمم ما عزم عليه. ومن الحق أن جسمه لا يعينه، وأن خطواته لا تطاوعه. ولكن لا بأس! فليرفه عن هذا الجسم شيئا، وليمنحه من الراحة نصيبا، وليجلس هنا في هذا المكان الموحش الذي لا يعرف له حدا. ولكن ليحتفظ بقوته ويقظته، وليدفع النوم عن نفسه دفعا، حتى إذا استراح الجسم ساعة أو بعض ساعة، أنهضه وكلفه السعي حتى يبلغ المأمن، وينتهي إلى الغاية، ويصل إلى الدير.
وخيل إلى الفتى أنه جلس، وإن كان الحق أنه خر من أقطاره صريعا. وظن الفتى أنه محتفظ بقوة نفسه، ويقظة ضميره وذكاء قلبه، ونشاطه كله، وأنه سينهض بعد حين فيمضي إلى غايته. وقد هم أن ينهض بعد حين. ولكن ماذا! إنه ليحاول النهوض فلا يجد إليه سبيلا. وإنه ليحاول أن يحرك بعض أطرافه فلا يجد إلى ذلك سبيلا. وإنه ليسمع ذلك اللغط الذي كان يسمعه منذ لحظة ولكنه يتميزه الآن بعض الشيء؛ فهو ليس صوتا منعقدا كثيفا، ولكنه أصوات متفرقة، تتنادى وتتجاوب كأنها أصوات قوم يتحدثون. ثم يحاول أن يفتح عينيه فلا يجد إلى ذلك سبيلا. أين هو؟ ما خطبه؟ ماذا ألم به؟ إنه ليجد ثقلا في أطرافه، وعجزا عن الحركة، وعجزا حتى عن أن يفتح عينيه. وإن عقله مع ذلك لحاضر يقظ، ولكنه يحس كأنه يتحرك على غير إرادة، أو كأنه محمول على شيء يمضي به دون أن يتحققه أو يعرف ما هو.
ثم تنجلي عن الفتى ظلمات نفسه شيئا فشيئا، وتثوب إليه خواطره قليلا قليلا، ويحضره عقله ورشده حقا، ويمتلئ قلبه بالحقيقة الواقعة التي تملؤه رعبا وجزعا، وإذا هو يصيح صيحة منكرة، صيحة المستغيث الواله، فلا يجد لصيحته صدى، ولا يسمع لها جوابا، ولكنه يحس كأنه محمول على شيء يمضي به مسرعا ، وهذه الأصوات تدفعه دفعا وتحثه حثا عنيفا. ليس من شك في أنه أسير، قد أسره بعض الناس، أو أسره بعض الجن التي كانت تلغط في الصحراء. لشد ما ود لو استطاع أن يفتح عينيه وينظر من حوله. فليس من شك في أن الذين أسروه قد عصبوه. وهو يستغيث ويلح في الاستغاثة، ويئن ويلح في الأنين، فلا يسمع إلا أصواتا تتضاحك، وقوما يتنادون، وحثا لهذه المطية التي تحمله.
ثم تمضي ساعة وساعة، وإذا هو يحمل فيحط على مطيته، ثم تحل العصابة عن عينيه فينظر فيرى. ويا هول ما يرى! يرى نفسه طريحا على الأرض في ظل خيمة غليظة خشنة، وقد أحاط به نفر نحاف الأجسام، سمر الوجوه، يتطاير من عيونهم الشرر، ولكنهم مع ذلك يرفقون به، ويعطفون عليه، ويحطون عنه الأغلال، ويردون إلى يديه حريتهما، ولكنهم يحتفظون برجليه في القيد، ثم يقدمون إليه في سخرية رفيقة شيئا غليظا من طعام وشراب.
13
وقد أحس الفتى بعد هذه الساعة الأليمة أن هزيمة العقل وفلسفته قد كانت منكرة حقا أمام طبيعة الجسم وغرائزه. فلم يكد يرى ما قدم إليه من طعام وشراب حتى أقبل عليه في نهم لم يألفه، فازدرده ازدرادا، لم يصده عنه غلظه وجفوته، ولم يصرفه عنه بعد ما بينه وبين ما كان قد ألف من لين الطعام ورقيق الشراب. بل لم يصرفه عنه ما كان يجد من ذل الإسار بعد عز الحرية، ومن خيبة الأمل بعد تلك الأماني العراض التي ملأت حياته حين كان في المدينة يلهو ويعبث مع صديقيه، وحين كان في الدير ينتظر ما سيتكشف عنه الغيب له ولصديقه الشيخ من الآيات الكبار، وحين تحول عن رفيقه «بحيرى» ومضى عائدا أدراجه مذعنا لذلك الصوت الغليظ الخشن الذي سخر منه في هدوء. كل ذلك لم يخطر له، ولم يثر في نفسه غيظا ولا حنقا، ولم يغره بامتناع ولا إباء حين قدم إليه الطعام والشراب، وإنما استعرضه وفكر فيه، وذاق مرارته واحترق بلوعته بعد أن شفى ألم الجوع والظمأ، وبعد أن استرد جسمه قوته ونشاطه. ولو أننا اطلعنا على دخيلة نفسه حينئذ لرأيناه خجلا مستخذيا، ووجلا محزونا، ويائسا من هذا العقل الذي كان يؤمن به ويذعن له، ويرى أنه أقوى ما ركب في الإنسان من غريزة، وأعز ما منح للإنسان من سلطان. وها هو ذا الآن يراه ذليلا منكسرا، لا يقدر على مقاومة، ولا يثبت لمناضلة، ولا يمتنع على غرائز هذا الجسم الضعيف الذي كان يحقره ويزدريه. على أن الفرصة قد أتيحت ل «كلكراتيس» ففكر على مهل، وروى في أناة، وقلب أمره على وجوهه كلها، وتذوق مرارة حاله الجديدة حتى استقصى أدق ما فيها من ألم، وأخص ما فيها من ندم؛ فهو لم يكد يفرغ من طعامه وشرابه ويشعر أن جسمه قد استرد شيئا من طعام وشراب، واستردوا حظا من قوة ونشاط، وإذا هم يتنادون ويتناجون وتختلف بينهم الألفاظ والألحان والإشارات، وهو يرى ويسمع ولا يفهم شيئا. ثم يقبلون إليه فيردون يديه إلى الغل وعينيه إلى الظلمة، ويحملونه حيث يشدونه على مطيته تلك التي كان يحسها منذ حين تسرع به في السير إسراعا رفيقا.
هو إذا لم ينزل حيث نزل ليقيم ويستقر. وإنما ألم بمكان من الصحراء ليستريح وليستريح هؤلاء الذين أسروه وعدوا عليه. وهو إذا لم يبلغ مأمنه، ولم ينته إلى غايته بعد. ولكن ما ذلك المأمن؟ وما هذه الغاية؟ وماذا يريد به هؤلاء القوم؟ وإلى أين يحملونه؟ ولماذا يهينونه؟ لقد رآهم يتحدثون باللفظ واللحظ فلم يفهم عنهم، وهو الآن يسمعهم يتناجون في أصوات ترتفع وتنخفض وتتشكل أشكالا مختلفة بين ذلك، فلا يفهم عنهم شيئا. وهو يسأل نفسه: كيف انتهى إليهم وكيف انتهوا إليه؟ فلا يجد لهذا السؤال جوابا. وإنما يذكر تلك الساعة الأليمة التي رأى نفسه فيها قائما في الصحراء ولا يستطيع أن يتقدم ولا أن يتأخر، وقد اكتنفته ظلمة الليل القاتمة، وغمره لغط تلك الأصوات المنكرة التي لا تبين. ثم لا يذكر بعد ذلك كيف انتهى إليهم وكيف انتهوا إليه. ماذا كان ذلك الصوت الغليظ الخشن الذي عجب منه وهزئ به، وأغراه بالتحول عن العراق إلى الحجاز، وبالرغبة عن «نسطور» إلى الصبي العربي اليتيم؟ أكان صوتا قد صدر عن ناصح له، رفيق به عاطف عليه، أم كان صوتا صدر عن ساخر منه، عابث به مضمر له الكيد والغرور؟ ثم يذكر الفتى حديث رفيقه «بحيرى»، وما زعم له من حاجته إلى التجارب والخطوب، ليرتد عقله عن الكبرياء إلى التواضع، وعن الغرور إلى الاعتدال. وترتسم على ثغره ابتسامة حزينة أليمة حقا. لقد كانت أبواب السماء مفتحة حين تحدث إليه رفيقه عن التجارب والخطوب. فما أسرع ما سلطت عليه التجارب وأغريت به الخطوب! لقد كانت هذه التجارب والخطوب مسايرة له ولرفيقه في الصحراء، تريد أن تدنو منهما فلا تستطيع؛ لأن مكان هذا الراهب الكريم كان يمنعها من الدنو. فما هي إلا أن تحتال حتى تستدرج هذا الفتى وتبعده عن رفيقه الذي وقاه الله شر التجارب والخطوب. فما يكاد يبعد عنه حتى تنساب إليه من كل سبيل. لقد خلص لها وفرغت له فلتذقه مرارتها خالصة، ولتصب عليه آلامها ممضة لاذعة، ولترد عقله إلى التواضع، ولتباعد بينه وبين الكبرياء والغرور.
ثم يخيل إلى الفتى كأن عقله قد وقف عن التفكير، وكأن قلبه قد عجز عن الشعور حينا، وكأنه في شيء يشبه النوم وليس بالنوم، وكأنه يسمع ذلك الصوت الغليظ الخشن وهو يبعث في الفضاء قهقهة عالية ملؤها السخرية والاستهزاء؛ فيعود الفتى إلى شعوره الأليم، وتفكيره العقيم، وإذا هو يسأل نفسه مرة أخرى عن هذا الصوت: ما هو؟ وما عسى أن يكون؟ وترتسم على ثغره ابتسامة أخرى فيها سخرية مرة، واستهزاء حزين. فهو يسأل نفسه: ألا يمكن أن يكون هذا الصوت الذي أغراه بالعودة وورطه في هذه الكريهة، صوت إله من هؤلاء الآلهة القدماء الذين كان يعبدهم ويقبل عليهم في المدينة مع صاحبيه، ثم لم يلبث أن شك فيهم، وتنكر لهم وأعرض عنهم واستجاب لصديقه الشيخ، وجعل يبحث عن إله جديد دون أن يبلغه أو يهتدي إليه، فأضاع نفسه بين قديم كان يعرفه، وجديد لا يألفه! لقد أعرض عن عبادة «دينوزوس» وأصحابه منذ عهد بعيد. ألا يمكن أن يكون «دينوزوس» قد أرسل إليه بعض أتباعه ليسخر منه ويعبث به، ويرده آخر الأمر إلى دينه القديم؟
ولكن الابتسامة الحزينة الساخرة التي كانت ترتسم على ثغر الفتى تتسع شيئا فشيئا! وإذا شفتاه تنفرجان عن ضحك عال وقهقهة تملأ الفضاء. ولو أتيح له أن يرى لرأي هؤلاء النفر من حوله وقد ارتسم عليها شيء من العجب لهذا الأسير الغريب الذي تختلف على وجهه الابتسامات وتنفرج شفتاه عن الضحك المرتفع البعيد.
ولكن الفتى مشغول عما حوله وعمن حوله، ساخر من كل شيء ومن كل إنسان، وساخر من نفسه قبل كل شيء وقبل كل إنسان، وساخر بنوع خاص من هذا الخاطر السخيف الذي عرض له، ومن هؤلاء الآلهة القدماء الذين أخذ يفكر فيهم والذين لم يخلص لهم الدين في يوم من الأيام؛ ولن يخلص لهم الدين في يوم من الأيام؛ لأنهم لم يستطيعوا قط أن يبلغوا عقله أو قلبه.
هو ساخر من كل هذا، وهو ممعن في لون آخر من ألوان التفكير يملأ نفسه حزنا إلى حزن، ويفعم قلبه ألما إلى ألم، ويضيف في نفسه ذلة إلى ذلة وانكسارا إلى انكسار. لقد ضاق بقيصر وبغي قيصر، حين كان آمنا في المدينة، وادعا بين صديقيه، مستمتعا بالثروة الواسعة والجاه العريض، مهيأ لأن يضيف إليهما بسطة الملك وضخامة السلطان. لقد أنف من قيصر وبغي قيصر، وكره أن يدخل قيصر بينه وبين ضميره، وأزمع الهجرة عن أرض قيصر، تلك التي يستذل فيها الناس وتحمل فيها الرعية على ما لا تحب، إلى أرض أخرى يصبح فيها ملكا لنفسه، لا يتحكم فيه أحد ولا يبغى عليه سلطان. لقد هاجر من أرض الذلة والهوان إلى أرض العزة والكرامة. لقد أصبح ملكا لنفسه، ولكنه ملك لا يستطيع أن يفتح عينيه، ولا أن يحرك يديه، ولا أن ينهض على قدميه. ملك عان ذليل موثق، قد شد إلى مطية تسرع به إلى حيث لا يريد بل إلى حيث لا يعلم، وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا، بل هو عاجز كل العجز عن أن يفهم من هؤلاء القوم الذين يطوفون به ويسعون من حوله، إلى أين يذهبون به وماذا يهيئون له؟
ليسخط الآن على ظلم قيصر وبغيه، وليحمل الآن عاقبة تفكيره في الهجرة وامتناعه عن سلطان قومه وقوانين وطنه، فقد بلغ من ذلك ما كان يريد وأكثر مما كان يريد. ثم تعود إلى الفتى خواطره التي كانت تملأ رأسه آنفا، فيذكر حديث رفيقه الراهب عن التجارب والخطوب، وأثرها في رد العقل إلى التواضع والاعتدال، وصرفه عن الكبرياء والغرور. ما أصدق هذا الحديث وأدناه إلى الحق! إن الفتى لمستسلم للقضاء، مذعن للقدر، قد وطن نفسه على الصبر، وأخذها باحتمال المكروه. وهل يستطيع أن يطمع في غير الصبر، أو أن يفكر في النبو عن الضيم والامتناع على المكروه! كلا! إنما هو أسير عان لا يملك من أمر نفسه شيئا. وآية ذلك أن المطية تسعى به مسرعة رفيقة إلى حيث لا يعلم ولا يريد، وأنه قد أخذ يحس الظمأ ويجد ألمه محروقا لاذعا، وهو لا يستطيع أن يشفي هذا الظمأ؛ لأنه لا يستطيع أن يفهم هؤلاء النفر من حوله حاجته إلى الشراب. يتكلم فلا يفهمون عنه، ويريد أن يشير بيده فلا يستطيع، ويود لو يشير بلحظه فلا يستطيع؛ فقد حيل بين عينيه وبين الضوء. هو يعلم أنه لا يملك إلا الصبر والإذعان، ولكنه مع ذلك يعالج نفسه على أن يكون صبورا مذعنا، حتى لو أتيحت له الحرية وخلي بينه وبين أن يريد وأن ينفذ ما يريد.
وهو يتصور أن هؤلاء النفر الذين ظلموه وبغوا عليه قد ثابوا إلى العدل فردوا إليه حريته، وحطوا عنه الأغلال، وفكوا عنه القيود، وخلوا بينه وبين الأرض الواسعة والفضاء العريض. ثم يعاهد نفسه لئن فعلوا ذلك ليقيمن بينهم أسيرا قانعا بالإسار، ذليلا راضيا بالذل، عبدا مخلصا في خدمة مواليه؛ لأن حديث التجارب والخطوب قد وقر في نفسه واستقر في أعماق ضميره، ولأنه قد ضاق بطغيان عقله وكبريائه، وبما كلفه الطغيان والكبرياء من بطر وأشر ومن جهد وعناء.
وكذلك أنفق «كلكراتيس» ثلاثة أيام ذليل الجسم أسيره، عزيز النفس طليقها. ينزل به سادته حيث يريدون النزول، فيحطون عنه الغل، ويردون إليه الضوء، ويقدمون إليه ما يقيم أوده من الطعام والشراب، ثم يرحلون به متى أرادوا وقد ردوه إلى سواد الظلمة وثقل الأغلال.
وهو عن ذلك راض، وله مذعن، وإليه مطمئن، لا يفكر حتى في أن يسأل نفسه ماذا يراد به؟ وإلى أين يقصد به؟ وما عسى أن ينفعه هذا السؤال! وما عسى أن يجدي عليه التفكير فيه! إنما هي محنة لا بد من أن يحتملها أراد ذلك أو لم يرده، وخطب لا بد أن يصبر عليه رضي عن ذلك أو كرهه. فالخير في أن يستقبل المحنة باسما لها، وأن يحتمل الخطب راضيا به؛ فذلك أكرم له من جهة، وأهون عليه من جهة أخرى، وأدنى إلى ما أمره به رفيقه من ملابسة التجارب والخطوب، وإلى ما أوصت به فلسفة القدماء من أن يريد المرء ما هو كائن إذا عجز عن تحقيق ما يريد.
فلما كان اليوم الرابع نزل القوم وأنزلوه، وحطموا عنه أغلاله، وردوا إلى عينيه ضوء النهار، وأطعموه وسقوه. وانتظر أن تمضي ساعة وبعض ساعة، وأن يعود به القوم إلى الغل والظلمة والرحيل. ولكنهم لم يفعلوا، وإنما تركوه حر اليدين والعينين، وأطلقوا رجليه من القيد شيئا، خلوا بينه وبين بعض الحركة البطيئة الثقيلة، في حدود هذه الخيمة الخشنة التي ضربت عليه! وجعل أفراد من رجال ونساء يقبلون عليه فينظرون إليه! فمنهم من يعجب به، ومنهم من يعجب له، ومنهم من يضحك منه، ومنهم من يظهر له الرثاء! وكلهم يقبل فينظر ثم ينصرف. ويقبل المساء فيقدم إلى الفتى طعامه الجافي وشرابه الغليظ، ثم يخلي بينه وبين النوم. ويقبل الصباح بعد ليل طويل لم يذق فيه النوم إلا غرارا، لا لأنه ضيق بحاله، كاره لمكانه، بل لأنه لا يقضي العجب من هذه الخطوب التي اختلفت عليه من سمع الصوت الغريب الذي تغنته تلك الفتاة الجميلة في قصر حاكم المدينة.
وقد ألف الفتى حياته هذه في قيده الثقيل وفي خيمته الخشنة، بل أخذ يألف الذين يدخلون عليه ويحملون إليه طعامه وشرابه بين حين وحين، بل أخذ يفهم عنهم بعض الحركات والإشارات، وأخذت نفسه تعي بعض ما يديرون بينهم من الألفاظ. وأخذوا هم يألفون إشاراته وحركاته، ويجدون شيئا من الأنس إلى محضره، ويشعرونه بذلك بالإشارة واللحظ واللفظ، ويودون لو استطاعوا أن يفهموا عنه أكثر مما يفهمون، وأن يفهم هو عنهم أكثر مما يفهم.
وتتصل الأيام وتتبعها الليالي، والإلف يزداد من حين إلى حين بين الأسير ومواليه. وهؤلاء أطفال الحي وصبيانه يختلفون إلى خيمته فيطيلون فيها المقام، وتتصل بينه وبينهم فنون من اللعب الهادئ والدعابة الحزينة. وما ينقضي شهر حتى يفقد الفتى كل وحشة، وحتى تطيب نفسه بهذه الحياة، وحتى يتسرب إلى قلبه شيء من الحب لهؤلاء الصبية الذين يلزمونه، ولا يكادون يفارقونه إلا حين يفرقهم عنه الليل.
وقد أخذ الفتى يشعر بأن الرضا عن هذه الحياة الجديدة قد أصبح هينا عليه ومألوفا له، لولا هذا القيد الثقيل الذي يقارب بين خطاه، ويحد من حركته، ولولا هذا الحظر الثقيل الذي يضطره إلى خيمته هذه الضيقة الخشنة، ولا يكاد يبيح له الاستمتاع بالفضاء الواسع والهواء الطلق إلا قليلا، ولولا خواطر كانت تلم به فتثير في نفسه آلاما لاذعة بين حين وحين، تذكره بمن ترك وراءه في المدينة من الأهل والصديق، وبما ترك وراءه في الدير من حب ذلك الراهب الشيخ، وبما لا يزال يتمنى في قوة وعنف من الرحلة يوما ما إلى الحجاز، والظفر يوما ما بلقاء ذلك الصبي العربي اليتيم.
ويرتفع الضحى ذات يوم، والفتى غارق في الدعابة واللعب مع هؤلاء الصبية الذين ملئوا عليه خيمته، وإذا ثلاثة نفر من الذين أسروه وحملوه إلى هذا المكان قد أقبلوا، ففرقوا الصبية في بعض العنف، حتى إذا دخلوا إليه أقبلوا عليه فأنهضوه وأخرجوه من خيمته، ومضوا به، حتى إذا بلغوا به مكانا بعيدا عن الحي شيئا سلوا سيوفهم فأروه بريقها، وهزوا رماحهم فأروه اضطرابها، ونثروا كنائنهم فأروه سهامها الرقيقة الحادة. وكانوا إذا سلوا السيوف أشاروا بها إلى رأسه، وإذا هزوا الرماح أداروها إلى صدره، وإذا نثروا الكنائن أنبضوا قسيهم فأبعدوا بها الرمي، ثم أشاروا بأيديهم إلى الجهات الأربع من أمامه ومن ورائه وعن يمينه وعن شماله. وقد فهم الفتى عنهم حق الفهم، وعرف أنهم ينذرونه بالموت إن حاول الهرب، ويرغبونه في الحياة المطلقة من القيود والأغلال إن أذعن لهذا الرق الذي فرض عليه. وما كان الفتى الفيلسوف في حاجة إلى هذا النذير! فقد عاهد نفسه منذ حين على الصبر والإذعان، والرضا بحكم الإسار. ولكنه أظهر لهم بالإشارة واللحظ ما أرادوا من طاعة واستكانة، فردوه إلى خيمته وتركوه فيها لحظة، ثم عادوا إليه فخلصوه من القيد، وخلوا بينه وبين الضوء والهواء، وألبسوه ثياب الرقيق.
14
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقد كانت نفس «كلكراتيس» راغبة في كثير، فأصبحت الآن قانعة بالقليل الذي ردت إليه، بل بأقل من هذا القليل. وأين أيامه هذه التي ينفقها في حي من أحياء كلب بن وبرة من أيامه تلك التي كان ينعم بها في مدينة عظيمة من مدن الروم؟! لقد كان سيدا يأمر في قصره الفخم، وأرضه الواسعة، وغلمانه الذين لم يكن يحسن أن يحصيهم والذين كانوا يمثلون عنده أجناسا مختلفة من الناس. وكان إذا أظله المساء من كل يوم ارتقى إلى قصر الحاكم فنادمه وشاركه في مرحه وفرحه. وكان الذين يعرفونه من أهل المدينة لا يشكون في أن السلطان صائر إليه يوما ما. وكان مع ذلك غير راض عن نفسه، ولا قانع بحظه، ولا مكتف بهذه الحرية التي كان يستمتع بها؛ وإنما كان يرى نفسه ذليلا مهينا أسيرا لسلطان قيصر، وكان يرغب في أن يخرج من هذه الذلة والهوان إلى عزة يتصورها ولا يستطيع أن يجد لها مثلا. فأين تلك الحياة الحافلة بفنون اللذات وألوان النعيم من هذه الحياة الجديدة المتواضعة، أو هي أقل من المتواضعة، والتي يقضيها بين هؤلاء السادة الكرام، لا ساخرا منها، ولا ساخطا عليها، بل قانعا بها كل القناعة، راضيا عنها كل الرضا؟! لقد عرف جسمه المترف غلظ الثياب وخشونتها، والنوم على الأرض الصلبة بالعراء، وعرف الاستيقاظ في السحر، وعرف خدمة الناس بعد أن كان الناس يخدمونه. بل عرف رعي الإبل والشاء والتطويف بألبانها مع الصباح على هؤلاء السادة يسقيهم منها، ولا يشرب إلا إذا ارتووا وأرضوا حاجتهم من الشراب. وعرف ما هو أكثر من ذلك وأشد إمعانا في هوان الأمر وضعة الحال، ولكنه مع ذلك لا ينكر شيئا، ولا يأسى على شيء. ولعل حياته لا تخلو من بعض الغبطة؛ فقد رأى حياة جديدة لم يألفها، وعرف بالمشاهدة أجيالا من الناس لم يكن يحقق من أمرهم شيئا، وإنما كان يقرأ عنهم في الكتب، ويسمع عنهم في أحاديث النهار وأسمار الليل. بل هو قد تعلم لغتهم واستطاع أن يتحدث إليهم، وأن يسمع منهم، وأن يبلو أخلاقهم السمحة، وطباعهم الساذجة، ونفوسهم النقية، وقلوبهم الذكية، فلا يرى من هذا كله إلا ما يسره ويرضيه، وإلا ما يعجبه ويبهره أحيانا. لقد كان سيدا مطاعا يأمر في عدد ضخم من الغلمان والرقيق، ولكنه الآن يذكر سيرته في غلمانه ورقيقه ويوازن بينها وبين سيرة سادته معه وأمرهم فيه، فيرى فرقا عظيما وبونا بعيدا.
كان سيدا كما يفهم الروم هذه الكلمة، مستعليا على غلمانه، لا يراهم يشبهونه من قريب أو بعيد، ولا يكاد يفهم مشاركتهم له في الحياة، ولا يرى أنهم أهل ليحفل بهم أو يفكر فيهم أو يعنى ببعض أمرهم. إنما كان يكل تدبيرهم إلى واحد منهم هو صاحب القصر، وكان يتخذهم أدوات لثروته وجاهه، ولذته ونعيمه، ولم يخطر له قط أنهم خليقون ببعض الرفق، مستأهلون لبعض الرأفة، وإنما كان مؤمنا بأن له عليهم كل الحق، وليس لهم عليه إلا أن يعيشوا، وهم لا يعيشون لأن من حقهم العيش، وإنما يعيشون لأن في حياتهم له منفعة وأربا.
وقد كان يدفعهم الجهد الثقيل المضني إلى بعض الكلال والتقصير، فلم يكن يعنى أو لم يكن ينزل إلى إصلاحهم وتأديبهم؛ لأنهم لم يخلقوا لإصلاح ولا تأديب، ولأن التفكير فيهم إضاعة للوقت، والعناية بهم تبديد للجهد، والفراغ لهم إهدار للكرامة. فكان يسلط بعضهم على بعض، ويجعل بأسهم بينهم شديدا، ويجني من شقائهم سعادة، ومن بؤسهم نعيما، ومن ألمهم لذة، ويجني من موتهم الحياة أحيانا، ولا يرى في ذلك إثما ولا ضيرا، ولا ينكر من ذلك قليلا ولا كثيرا؛ لأن ذلك كله كان يتفق مع فلسفته وثقافته التي كانت تقسم الناس إلى فريقين: فريقا خلقوا للأمر وهم السادة، وفريقا خلقوا للطاعة وهم العبيد.
وهو الآن ينظر إلى سيرة سادته معه وأمرهم فيه، فيرى عجبا. هؤلاء القوم الغلاظ الجفاة، الذين يحيون حياة خشنة كلها غلظة وشظف، قد رقت قلوبهم لهؤلاء العبيد، وعطفت نفوسهم عليهم، فهم يخلطونهم بأنفسهم في أكثر ألوان الحياة، لا يكادون يمتازون منهم في شيء إلا في هذه الأمور التي ترضي غرور الرجل البدوي.
هم لا يكلفونهم جهدا إلا وهم يتكلفون مثله، ولا يحملونهم مشقة إلا وهم يتحملون مثلها، ولا يؤثرون أنفسهم من دونهم بطيبات الحياة، وإنما يشاركونهم عن طيب نفس وقرة عين فيما يتاح لهم من هذا الرزق اليسير الذي تنبته لهم الأرض حين يبلها الغيث. وهم لا يستمتعون بنعمة طارئة أو لذة عارضة إلا أشركوهم في بعض ما يستمتعون به. وإذا استأثروا من دونهم بشيء فإنما يستأثرون بالجهد والمشقة: يستأثرون بالحرب مدافعين ومهاجمين، مغيرين على العدو وذائدين عن الحرمات. وهم بعد لم يتحضروا ولم يتثقفوا، ولم يبنوا المدن، ولم يشيدوا القصور، ولم يستمتعوا بألوان اللذة والترف، ولم يذوقوا علم أرسطاليس، وفلسفة أفلاطون، ولكنهم على فطرتهم الأولى، أو هم لم يجاوزوا فطرتهم الأولى إلا قليلا.
فكر «كلكراتيس» في ذلك تفكيرا متصلا طويلا، فتغير رأيه في أشياء كثيرة، وكون لنفسه قيما أخرى مخالفة لتلك القيم التي كان يقدر بها الحياة حين كان روميا متحضرا مترفا. وما له لا يفعل وقد أصبح عبدا بدويا يعيش عيشة الأعراب؛ فليفكر تفكير الأعراب إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
والواقع أنه شارك هؤلاء الأعراب في كل شيء، فأخلص لهم الحب، وأضمر لهم النصح، واستيقن فيما بينه وبين نفسه أنه واحد منهم، يسوءه ما يسوءهم، ويسره ما يسرهم، وإن فراقهم إن أتيح له سيكون عليه عسيرا وإليه بغيضا. ولعله لو مهدت له سبل الإفلات من هذا الرق لأبى أن يفارق هؤلاء الناس الذين استرقوه وبغوا عليه. ولم يفارقهم وهو لم يفقد عندهم من عزته وكرامته شيئا، وهو لم يستمتع قط بحرية نفسه واسعة مطلقة بعيدة الآماد كما يستمتع بها في هذا الطور من أطوار حياته؟ إنه أسير الجسم، ولكنه حر العقل إلى أبعد مدى. أسير الجسم إلى حد ما؛ فقد يكون من العسير عليه أن يحاول الهرب أو الإفلات، ولكنه حر فيما دون ذلك، يذهب ويجيء إلى أي وجه أحب، وعلى أي نحو أراد. وقد وثق به سادته واطمأنوا إليه؛ فهم يكلون إليه أموالهم ويأمنونه عليها، ويثقون بتدبيره لها وذياده عنها وعنايته بها. فإساره ظاهر لا يكاد يكون له ظل من الحق. فأما حرية عقله فلم تمس ولم يضيق عليه منذ أقام بين هؤلاء الناس. لم يسألوه قط عن رأيه، ولم يمتحنوه قط في دينه، ولم يراقبوه قط فيما ينكر أو يعرف من الأمر. وقد فكر الفتى فيما يمكن أن يكون لهؤلاء الناس من رأي ودين، فأعجبه من أمرهم ما رأى وإن كان لم يرضه لنفسه، ولم يتخذه لها رأيا ودينا.
لم يرهم قط يعبدون إلها أو يتقربون إليه بالطاعة وفنون الضحايا، وإنما سمعهم يديرون بينهم أسماء آلهة يذكرونها ولا يحققونها، ويظهرون الخوف منها والإكبار لها، ولكنهم لا يبذلون في إرضائها وتملقها جهدا ما. هم أحرار الأنفس أحرار الضمائر، كأنما اشتقوا حرية نفوسهم وضمائرهم من حرية هذا الهواء الطلق الذي يتنفسونه ويعيشون فيه.
وهم أحرار الأجسام أيضا، لا تقيدهم المدن ولا تحبسهم القصور والدور، ولكنهم ينزلون ويرحلون متى دعتهم حاجتهم إلى أن ينزلوا أو يرحلوا. حرية مطلقة يستمتع بها الجسم، وحرية مطلقة تستمتع بها النفس والضمير.
كل ذلك كان يعجب الفتى ويرضيه. وكل ذلك كان يعزيه عما فقد، ويسليه عما احتمل، ويغريه بالإقامة على حب هؤلاء الناس والوفاء لهم. ولكن شيئا واحدا لم ينسه قط ولم تسل عنه نفسه قط، وإنما كان ذكره له يزداد، وشوقه إليه يقوى ويشتد، وتفكيره فيه يتصل، ولا سيما إذا جنه الليل وخلا إلى نفسه وأبى أن يأوي إلى خيمته، أو يطمئن في مضجعه، وآثر الجلوس في العراء مسرحا طرفه أمامه يرى حينا ولا يرى حينا آخر، مرسلا نفسه في هذه الصحراء تهيم في غير وجه وتذهب في غير طريق وكان تفكيره فيه يتصل إذا أصبح فطرد الإبل أمامه إلى مراعيها، ثم انتهى إلى حيث يستطيع أن يخلي بينها وبين ما ترعى من الكلأ والعشب، ويفرغ هو لنفسه يريد أن يستقصي أخبارها، ولضميره يريد أن يتعمق أسراره، وهو هذا المكان البعيد الذي كان يعيش فيه ذلك الصبي العربي اليتيم.
الصبي! كلمة كانت تجري على لسانه وتتردد في ضميره؛ لأن العادة قد أجرتها على لسانه ورددتها في ضميره منذ ذلك اليوم البعيد الذي قضاه مع رفيقه «بحيرى» في الصحراء. وكم مضى بعد ذلك اليوم من أيام! وكم انقضى بعد ذلك اليوم من أشهر وأعوام! وكم تغير بعد ذلك اليوم من شأن! وكم حدث بعد ذلك اليوم من أمر؟! لقد كان هو في ذلك اليوم فتى روميا غض الشباب، نضر الجسم، قارح النفس. لقد أخذ شبابه يتولى عنه، وأخذ جسمه يفقد نضرته، وقد أخذ وجهه يتجعد ويربد، وقد أخذ قلبه يهدأ، وقد أخذت نفسه تحس الفتور. ليس هو الآن فتى روميا، ولكنه عبد كهل قد تقدمت به السن ونيف على الأربعين، وقد ثقل جسمه ونفسه بعض الشيء، فهو لا يسرع إذا مشى، ولكنه يسعى في رزانة وأناة. وهو لا يسرع إذا تحدث، ولكنه يتكلم في ريث ووقار. وهو لا يسرع إذا فكر، وإنما تخطو نفسه إلى خواطرها وآرائها خطوات متقاربة تسيطر عليها الدعة والهدوء.
ليس هو فتى روميا الآن، ولكنه كهل قد بلغ الشيخوخة أو كاد يبلغها! فما ينبغي أن يكون ذلك الصبي العربي صبيا كما كان حين رآه «بحيرى» وتحدث عنه بتلك الأعاجيب. لقد مضت الأيام وتبعتها الأيام، وقد مرت السنون وتبعتها السنون، ولقد صار هو كهلا، فيجب أن يكون ذلك الصبي العربي قد صار فتى غض الشباب نضر الجسم، قارح النفس، بعيد الهم، ذكي القلب، كريم الخلق، سمح الطبع، معتدل المزاج.
من لهذا الكهل الرومي الغريب بأنباء ذلك الفتى العربي الذي يقيم في واد بعيد من أودية الحجاز؟ ماذا جد من أمره؟ ماذا أحدثت له الأيام؟ عم تكشف الغيب؟ أتراه قد أنبئ ببعض ما خبئ له وما خبئ للناس على يديه؟ أتراه قد أظهر أمره أو كاد يظهره؟ إن هذا الحي من كلب بن وبرة ليضطرب في جانب من الأرض العريضة، يذهب فيه ذات اليمين وذات الشمال، ويذهب فيه إلى أمام وإلى وراء، ولكنه لا يبعد ولا يدنو من هذه الطرق التي تمر منها القوافل آتية من الحجاز أو عائدة إليه.
وما أكثر الذين ينزلون بهذا الحي من كلب بن وبرة من أفراد الناس وشذاذ الآفاق! فيدنو منهم هذا الكهل الرومي، ويتصل بهم، ويتوسل إليهم بالوسائل، ويسألهم عن الحجاز، فينبئونه عنه بما يعلمون وما لا يعلمون. ويسألهم عن هذا الفتى القرشي ويسميه لهم، فينكرونه ولا يعرفون من أمره شيئا، ولكنهم يثنون على قريش ويعجبون بمفاخرها ومآثرها، ويثنون على رهطه الأدنين ويذكرون ما لهم من المآثر والمكرمات، ثم ينصرفون إلى غير وجه من هذه الأرض البعيدة العريضة التي لا يعرف الطرف لها مدى، ولا تنتهي العين منها إلى حد.
من لهذا الكهل الرومي بشيء من أنباء السماء؟ فقد كانت الأحاديث متصلة مستفيضة في أديار الرهبان وصوامع الأحبار بأن أنباء السماء قريبة. أفتراها قد بلغت إلى الناس؟ أفتراها تبلغه يوما من الأيام؟ أفتراه يستطيع أن يسعى إليها يوما من الأيام؟ ما إقامته بين هؤلاء القوم الكرام من كلب بن وبرة في ناحية من نواحي الصحراء غير بعيد من الشام، وإن همه لفي واد من أودية الحجاز ، وإن شفاءه لعند فتى من قريش يقال له محمد بن عبد الله؟!
ما أكثر ما كانت تخطر هذه الخواطر على «كلكراتيس» فتملأ نفسه، وتفعم قلبه، وتشيع فيه شوقا جديدا وحنانا عظيما، وترسل من عينيه دموعا غزارا، وتصعد من جوفه زفرات تكاد تحرق قلبه تحريقا، وتغريه من حين إلى حين ببعض الأمر، ولكنه لا يلبث أن يثوب إلى نفسه، ويثوب إلى رشده، ويذكر ذلك العهد الذي أشهدا الله وضميره عليه حين كان موثقا إلى تلك المطية التي كانت تسرع به في الصحراء إسراعا رفيقا.
ليصبرن على المحنة، وليثبتن للخطب، وليقيمن على الوفاء لظالميه والباغين عليه حتى يبلغ الكتاب أجله! فإن الله لم يصب عليه هذه التجارب، ولم يمتحنه بهذه الخطوب إلا وله في ذلك أرب وحكمة.
فليصبر على المحنة إذا، وليثبت للخطب حتى يبلغ الكتاب أجله. ولكن ألم يأن للكتاب أن يبلغ أجله بعد؟!
15
بلى! قد أنى للكتاب أن يبلغ أجله، وأن يبلغه في وقت أقصر جدا مما كان يقدر هذا الكهل الرومي الذي ما نزال نحتفظ له باسمه الرومي القديم «كلكراتيس»، وإن كان سادته لا يعرفون له هذا الاسم، وإن كان هو نفسه قد كاد ينسى هذا الاسم وما يتصل به من الذكرى، وأصبح لا يذكر إلا اسمه العربي الجديد الذي اشتق من الساعة التي أسر فيها، وهي مطلع الصبح فسمي «صبيحا».
أنى للكتاب أن يبلغ أجله في وقت أقصر جدا مما كان يقدر صبيح، وعلى نحو أغرب جدا مما كان يقدر أيضا. وهل جرى أمر من أموره على نحو ما فكر أو قدر! ألم تكن حياته كلها ألوانا من الخطوب يتبع بعضها بعضا على غير انتظار منه لها ولا ترقب منه لوقوعها؟! من كان يستطيع أن يتكهن له بأن سيأوي مع صديقه الشيخ إلى الدير، أو سيرحل مع رفيقه «بحيرى» إلى العراق، أو سيقع أسيرا في أيدي هذا الحي من أحياء العرب، أو سيقضي أعواما طوالا لا يسمع فيها صوتا روميا، ولا يتحدث فيها إلى رجل رومي، ولا يقرأ فيها كتابا من كتب الروم، ولا يحاور فيها راهبا من رهبانهم، ولا حبرا من أحبارهم، ولا فيلسوفا من فلاسفتهم، وإنما يلتحف شملة الأعرابي، ويتكلم لغة الأعراب، ويروي أشعارهم كأحسن ما يرويها الأعراب الفصحاء، ويدعى بهذا الاسم الغريب فيجيب؟!
ومن كان يستطيع أن يتكهن له بذلك أو ببعض ذلك؟! ولكنه على بعده وغرابته قد وقع له وجرى عليه! وهو جالس ذات يوم في أعقاب النهار وقد امتلأت نفسه بهذه الخواطر التي صورناها آنفا، وهو مقسم بين الاستسلام لها والاسترسال فيها، وبين النهوض إلى إبله هذه المتفرقة ليجمعها وليدفعها أمامه إلى حظائر الحي. فقد تولى أكثر النهار ومنزل الحي بعيد. إنه لفي ذلك وإذ هو يسمع كلبه ينبح عن بعد، فينبهه ذلك بعض الشيء، وإذا أشخاص ترفع له لا يكاد يحققها أول الأمر، ثم تدنو منه شيئا فشيئا، فينظر فيرى رجلا شيخا نبيل المنظر مهيبا، قد أقبل على راحلته، ومن حوله غلمان ثلاثة كأنهم أتباعه في السفر وأعوانه على جهد الطريق.
فلما رأى «صبيح» ذلك نهض متثاقلا، وسعى حتى دنا منه، فيسأله الشيخ عن حيه من هم؟ فيجيب صبيح. ثم يسأله الشيخ عن اسمه وعن موطنه الأول، فيجيب صبيح في أناة ووقار يشبهان الإعراض والفتور. ولكن الشيخ لا يكره ذلك ولا ينكره، وكأنه استعذب صوت العبد واستلذ لغته؛ فهو يطيل معه الحديث، ويلح عليه في السؤال. فإذا عرف أنه رومي الموطن، تحدث إليه عن بلاد الروم حديث العالم بها، الملم ببعض شئونها وأخبارها. على نحو ما كان العرب في ذلك الوقت يعرفون بلاد الروم ويفهمون ما يبلغهم من أنبائها.
ولكن حديث الشيخ يثير في نفس صبيح شوقا وحنانا، ورغبة في الاستطلاع وشغفا بالتزيد من هذا الحديث، وإذا صوته الفاتر يسترد شيئا من نشاط ويشيع فيه شيء من حرارة. وإذا وجهه الذي لم يكن يظهر عليه اكتراث أو احتفال تظهر فيه آيات العناية بما يسمع من الشيخ والرغبة في التزيد منه.
ويطول الحديث شيئا بين الشيخ والعبد، وقد شغل كل منهما بصاحبه فلم يذكر الشيخ حاجته، ولم يحفل العبد بواجبه. وتمضي لحظات غير قصار، ثم يتنبه صبيح فيعتذر إلى الشيخ من تقصيره وينسبه. فإذا انتسب الشيخ وجم العبد وجوما شديدا، وظهرت عليه آيات الذهول أو ما هو أكثر من الذهول. وامتلأت نفس الشيخ لذلك عجبا! فقد انتسب الشيخ إلى قريش، وتحدث مالئا فاه بأنه من أهل مكة وسكان الأباطح وجيران البيت الحرام، وأن سادته لا يسمعون اسمه، ولا يعرفون مكانه من قريش ومنزله من الحرم حتى يتلقوه لقاء لا يتلقونه أحدا آخر من غير هذا الحي من قريش، جيران الله، وسدنة بيته الكريم.
والشيخ يقول: هذا كله مزهوا به، ممعنا فيه، مالئا به ما بين شدقيه، كأنه يمتلئ عزة وأنفة كلما أجرى منه على لسانه لفظا. والعبد يسمع هذا مبهورا مسحورا قد ملك عليه أمره، وكاد يذهب عنه عقله. ويظن الشيخ أن العبد مفتون باسم قريش وموطنها؛ لكثرة ما سمع من ذكر قريش، ولكثرة ما عرف من تقديس العرب لهذا الموطن الحرام. ولكن العبد يفجؤه بهذا السؤال: فأنت إذا تعرف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟
قال الشيخ باسما معتزا: نعم! سيدنا وابن سيدنا. ومن ذا الذي لا يعرف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب! ولكن ما علمك به؟ وما ذكرك له وأنت عبد رومي لا علم لك بمثل هذه الشئون؟!
قال صبيح غير حافل بهذا السهم الذي وجهته إليه كبرياء هذا الشيخ العربي القرشي: متى آخر عهدك به؟
قال الشيخ ضاحكا: آخر عهدي به! آخر عهدي به ثلاثة أعوام وبعض عام. ولكن ما علمك بمحمد؟ وما سؤالك عنه؟
قال صبيح: ثلاثة أعوام وبعض عام! هذا كثير. ولعل كثيرا من الأحداث أن يكون قد طرأ في هذا الردح من الزمان.
قال الشيخ: أبن يا غلام، ما علمك بهذا السيد من سادة قريش؟ وما سؤالك عنه؟ وما إلحاحك في هذا السؤال؟
قال صبيح: فكيف تركته حين فارقته؟
قال الشيخ وقد أخذ يتميز غيظا: تركته سيد قومه، على خير ما يحبون له وعلى خير ما يحبون منه. ولكن ما أنت وذاك؟ امض بنا إلى سادتك فقد أخرتنا عن القصد، وصرفتنا عما نحن في حاجة إليه.
قال صبيح، وقد أخذت دموع هادئة تتساقط على وجهه، وقد ازداد صوته عذوبة، وحديثه رقة، وقد أخذ بزمام الراحلة: على رسلك يا مولاي! فإني انتظر هذا الحديث منذ أعوام طوال. وإنك لو تعلم شوقي إليه وكلفي به، وما احتملت في انتظاره من ألم، وما تكلفت من جهد، وما عانيت من لوعة، لرفقت بي، وأشفقت علي، وتلطفت معي في الحديث.
قال الشيخ: ما رأيت كاليوم غلاما روميا يعنى بأمر فتى من قريش. ثم رق له وعطف عليه وقال: سلني من أمر محمد عما أحببت يا بني؛ فما أرى إلا أن لإلحاحك في السؤال عنه شأنا!
قال صبيح: ألم يكن قد جهر بأمره حين تركته في مكة؟
قال الشيخ وقد أخذ يعجب مما يسمع، وقد أخذت نفسه تتنبه وتثوب: جهر بأمره! وأي أمر يا بني؟ وهل لمحمد أمر يسره ويريد أن يجهر به؟
قال صبيح: فقد كان الغيب يحجب أمره إذا حين تركته؟
قال الشيخ: أبن يا بني! فإني لا أفهم عنك منذ الآن. ما أمر محمد هذا الذي تسأل عنه؟ فإني لا أعرف لمحمد أمرا، وإنما أعرفه فتى كريما من قوم كرام، قد امتاز من أترابه بما لم نألف من طهارة النفس وشرفها، ومن سماحة الخلق وكرمه، ومن التنزه عن الصغائر والارتفاع عن الدنيات، وإنا لنحب ذلك منه ونحبه له، وتمتلئ قلوبنا إعجابا به وعطفا عليه، وإنا لنضربه مثلا لشبابنا، ونأخذهم بأن يتأثروه ويقتدوا به، فلا نكاد نبلغ من ذلك أيسر ما نريد؛ لأن هذا الفتى من فتيان قريش قد قدر له حظ من الكمال لم نألفه قط! فإنا لا نراه يوما من أمره على خير إلا رأيناه من الغد وقد ارتقى إلى خير مما عرفنا. أبن يا بني! ما أمر محمد هذا الذي تسأل عنه، وتنتظر أن يجهر به؟ ثم أشار الشيخ إلى غلمانه أن أنيخوا الراحلة، ففعلوا وأعانوه على النزول، واتخذ مجلسا، ودعا إليه صبيحا فأجلسه قريبا منه، ثم أشار إلى غلمانه فتنحوا شيئا. فلما فرغ للعبد وفرغ العبد له قال: أفصح يا غلام عن أمرك! فإن حديثك قد أهمني.
قال صبيح: فأفصح أنت يا سيدي عن أمرك؛ فإن احتفاءك بحديثي وإصغاءك إلي، ونزولك عن راحلتك، وتنحية غلمانك، وحرصك على أن تستقصي ما عندي، كل ذلك يهمني ويعنيني كما يهمك حديثي ويعنيك.
قال الشيخ: فتعلم يا بني أني رجل من قريش أنكرت من أمر قومي شيئا كثيرا، وهاجرت من أرضهم أطلب في بلادك وعند قومك ما لم أجد في بلادي وعند قومي. وقد طوفت في بلادك ثلاثة أعوام وبعض عام! وها أنا ذا أعود منها يائسا مخيب الأمل؛ لأني لم أجد فيها ما كنت أبتغي، ولأني سأجد في بلادي ما كنت أكره، وسألقى من قومي ما كنت أنكر، أو سأفارق هذه الحياة ولما أظفر بما أريد.
قال صبيح وقد أخذ منه الشوق مأخذه: ماذا أنكرت من قومك؟ وماذا ابتغيت عند قومي؟
قال الشيخ: أنكرت من قومي دينهم هذا الجافي الغليظ.
وابتغيت عند قومك دين إبراهيم فلم أجده. وها أنا ذا أعود إلى بلادي وفي نفسي حسرة الحرمان واليأس، وشيء ضئيل من أمل مع ذلك.
قال صبيح متلهفا: شيء ضئيل من أمل!
قال الشيخ: نعم! فقد زعم لي راهب من رهبانكم في البلقاء منذ ثلاثة أعوام أن هذا الدين الحنيف الذي أطلبه لا يوجد في بلاد الروم، ولا ينتظر أن يظهر عند النصارى أو اليهود.
قال صبيح: وإنما يرجى أن يظهر في مكة حيث كنت تقيم!
قال الشيخ: وما علمك بذلك، فقد أنبأني به راهب البلقاء؟
قال صبيح: نعم! ويرجى أن يظهر على يد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هذا الذي كنت أسألك عنه وعن أنبائه.
قال الشيخ وقد ملكه العجب، وكاد يطير شغفا بأن يعلم ما عند صبيح: من أنبأك بهذا؟ ومن أظهرك عليه؟
قال صبيح: فإني يا سيدي رجل من الروم، قد أنكرت ما عند قومي، وخرجت مثلك أبتغي خيرا مما عندهم، فعرفت كثيرا، ثم هممت أن أستقصي النبأ، وأبلغ الغاية، وأنتهي إلى الحجاز، وأرى هذا الفتى القرشي الذي تظاهرت أنباء الأحبار والرهبان وأخبار الكتب والنبوات على أنه النبي الذي أظلنا زمانه، فحل بي ما ترى، وأصبحت راعيا للإبل في حي من كلب بن وبرة!
واتصل الحديث بين الشيخ وصبيح وقتا طويلا، حتى أنكر الحي غيبته، وأشفقوا أن يكون قد أغار عليه وعلى إبله بعض المغيرين. ولكنهم رأوه مقبلا يسعى، وينبئهم بأن شيخا من سادة قريش الأباطح قد ألم بهم يسمى زيد بن عمرو.
وقد احتفى القوم بضيفهم الكريم، وقروه كأحسن ما يكون القرى، وأنزلوه منهم أحسن منزل. ولكنهم عجبوا من أمره إذ رأوه حين يتقدم الليل وهموا أن يتفرقوا عنه يدعو إليه صبيحا ذلك العبد الرومي، ويتقدم إليه في أن ينفق معه ما بقي من الليل. لم يفهم الكلبيون من هذا السيد القرشي كلفه بهذا العبد، وشغفه به وحرصه على صحبته! ولعلهم أن يكونوا قد أحسوا في نفوسهم بعض الموجدة! فقد كان هذا الشيخ القرشي خليقا أن يستعين على أرق الليل بالتحدث إلى الأكفاء والنظراء من سادات كلب وأشراف العرب، ولكنه يؤثر بالحديث عبدا روميا لا يعرف من هو، ولا من أي موطن جاء. على أنهم لم يظهروا من موجدتهم هذه شيئا، ومضوا في إكرام ضيفهم إلى ما أحب. قال بعضهم لبعض: شيخ مقبل من بلاد الروم، فلا بأس أن يصطفي هذا العبد الرومي ليتحدث إليه ببعض ما رأى، ويسأله عن بعض ما لم يفهم.
وأنفق صبيح مع زيد بن عمرو ليلة لم تعرف النوم، وإنما عرفت أحاديث متصلة مختلفة، ذكر فيها كل منهما لصاحبه ما عرف وما أنكر، وما بحث وما استقصى، وما اهتدى إليه من علم، وما هو منتظر من جلية الأمر. فلما أسفر الصبح وتقدمت سادات كلب إلى ضيفهم بما أحب من القرى، وهم زيد بن عمرو أن يرتحل عنهم، رغب إليهم في شيء لم يسمعوه حتى ازداد عجبهم له وإنكارهم إياه. قال زيد بن عمرو: يا معشر بني كلب! إن لي عندكم حاجة ما أظنكم تردونني عنها أو تأبونها علي! فما رأيت منكم إلا خيرا! وما عرفت منكم إلا كرما ونبلا.
قال قائلهم: ما تشاء يا سيد قريش؟
قال: عبدكم هذا الرومي هبوه لي أو بيعوه مني! فإني على صحبته حريص. وما ضاع العرف بين قريش الأباطح وبين حي من أحياء العرب، قريب منها أو بعيد عنها.
قالوا: لقد طلبت يسيرا، وابتغيت سهلا قريبا، وإن كنا لنؤثر هذا العبد الرومي ونحب ما بلونا من أخلاقه، وما عرفنا من سيرته، وأمانته في أموالنا وأسرارنا، فهو لك.
قال زيد بن عمرو: يد محفوظة يا معشر بني كلب. فأما وقد وهبتم لي هذا العبد فأصبح ملك يميني وطوع يدي، فاشهدوا أني أعتقته، وملكته أمر نفسه من فوري. وهو بعد ذلك حر في أن يذهب إلى أي وجه من وجوه الأرض شاء.
قال الكلبيون: لقد وفت ذمتك يا شيخ قريش. ونحن جيران لهذا الرجل وأدلاء له حتى يبلغ مأمنه.
قال صبيح وقد أقبل على زيد بن عمرو يقبله ويبارك عليه وإن دموعه لتنهل على خديه غزارا: وفت ذمتكم يا معشر العرب. والله ما كرهت جواركم، ولا شنأت الإقامة فيكم، ولا رغبت نفسي عن ودكم. ولو خيرت لما عدلت بصحبتكم شيئا، ولكنه أمر يراد. وما أنا بعائد إلى بلاد الروم ولا رغبة لي فيها، ولا أرب لي عند أهلها، وإن كنت قد خلفت فيها من الصديق والخليل ما لا تزال تؤثره نفسي بالحب والحنان، ولكني ماضي مع هذا الشيخ من سادة قريش، مقيم معه في الحرم، وفي جوار بيتهم هذا الكريم، فإن له ولي لشأنا عجبا.
16
وانصرف زيد بن عمرو وصاحبه الرومي حين زالت الشمس يقصدان الحجاز، وليس لهما حديث إلا هذا الفتى القرشي اليتيم، وما أراد الله به من كرامة، وما قدر الله على يده للناس من نجاة، وإن زيدا ليقص على صديقه الرومي بدء حيرته في مكة مع نفر ثلاثة من أصحابه : ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، يقول لصاحبه وإن فمه ليملؤه الضحك، وإن وجهه ليغمره البشر: لقد أراني مع أصحابي ذات يوم نشارك قومنا من قريش في عيد من أعيادنا مسرورين محبورين، تهتز أعطافنا أريحية وكرما، ونريد أن ننتهز فرصة هذا العيد لنذيع في فقرائنا وذوي الحاجة من قومنا ما نستطيع أن نذيع فيهم من الخير والمعروف، فنرى قومنا يطيفون بوثن من أوثانهم يكرمونه ويكبرونه، ويلثمونه بشفاههم، ويمسحونه متهيبين بأيديهم، وينحرون عنده الإبل والشاء، فننظر وننظر، ونهم أن نفعل، ولكننا نرد عما هممنا، ونجدد العزم على أن نشارك قومنا، ولكننا نرد عن ذلك مرة أخرى ردا عنيفا. وإذا بعضنا ينظر إلى بعض، وإذا بعضنا يفهم عن بعض، وإذا نحن نخلص نجيا. وإذا نحن نضحك حتى ما نملك أنفسنا من الضحك، ونحزن حتى ما نملك أنفسنا من الحزن. نضحك حين نرى سادة قريش وأشراف العرب يطيفون بحجر من هذه الأحجار التي تطؤها الأقدام، وتعمل فيها الفئوس، وتسخر في أغراض الناس وحاجاتهم، وهم يكبرونه ويعظمون أمره، ويتقدمون إليه بالعبادة والطاعة. ونحزن حين نرى هذه الأحلام قد استحالت إلى سفه لا يشبهه سفه، وحين نرى ما صار إليه أمر قريش من هذه الجهالة الجهلاء، ومن هذه الضلالة العمياء، وفيهم مع ذلك بيت الله، ومقام أبيهم إبراهيم، وقد ورثوا مع ذلك دينه فأضاعوه ولم يحفظوا منه شيئا.
نعم! ضحكنا حتى كاد يقتلنا الضحك، وحزنا حتى كاد يملكنا الحزن، وانصرفنا إلى رحالنا وقد أزمعنا أن نلتمس لأنفسنا الخير ما وجدنا إلى الخير سبيلا.
فأما ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وأنا فقد ارتحلنا عن مكة بعد خطوب وألوان من الجهد، نلتمس الدين عند أهل الكتاب من يهود، وعند أهل الكتاب من نصارى الروم.
وأما عبيد الله بن جحش فقد أقام في مكة حائرا ينتظر. ولم ندر إذا ماذا كان ينتظر. ولكني قد علمت الآن أنه كان ينتظر أن يهبط دين إبراهيم من السماء على مقام إبراهيم في الأرض، من طريق فتى من فتيان قريش. إني لأذكره الآن وأتمثله وأراه وكأني أسمع له. لم يشاركنا في عيدنا ذاك، وما رأيته قط يشاركنا في عيد من أعيادنا تلك التي كنا نقيمها حول الأوثان. لقد فهمت الان، لقد كنت أراه يعتزلنا إذا عكفنا على أصنامنا. ولقد كنت أعجب من أمره. ولقد هممت غير مرة أن أسأله ما باله لا يأخذ مع قومه فيما يأخذون فيه؟ وما باله لا يطوف بالكعبة إلا فردا؟ ولكني كنت أرد عنه ردا كلما هممت بسؤاله. وكثيرا ما سألت نفسي: ما الذي يصرفني عنه حين كنت أقبل عليه؟
لقد فهمت الآن! ما كان الله ليختار لرسالته رجلا عكف على صنم، أو تقرب إلى وثن، أو شارك قومه في بعض الإثم.
لقد كان محمد منزها عن حب الأصنام والقرب منها، وعن عبادة الأوثان والعكوف عليها، وعن مشاركة قومه فيما كانوا يغرقون فيه من الآثام. ولقد كان محمد يعيش وحده، وإن كنا نرى أنه كان يعيش معنا! لقد فهمت الآن!
ثم يطرق زيد بن عمرو إطراقا طويلا، ثم يرفع رأسه إلى صاحبه قائلا: ولكني لم أتمم لك الحديث. لقد ارتحلنا من مكة إلى بلاد الروم، فجعلنا نسأل اليهود عن دين إبراهيم، فيعرضون علينا ما عندهم، فلا نرضاه ولا نطمئن إليه. ثم عدلنا عنهم إلى رهبان النصارى وأحبارهم، فما يكادون يقرءون علينا كتبهم ويظهروننا على بعض ما عندهم من العلم حتى يؤمن صاحباي وتطمئن قلوبهما إلى النصرانية. فأما ورقة بن نوفل فقد أخذ منها بحظه، ثم عاد إلى وطنه على أن يقيم فيه على عبادة الله وإكبار المسيح.
وأما عثمان بن الحويرث فلم تعجبه النصرانية وحدها، ولكن أعجبته بلادك فهام بها، وفتن بحضارتها، ومضى إلى قسطنطينية ليعيش فيها عيشة الروم، ويموت فيها ميتة الروم. وأما أنا فلم يعجبني أمر النصارى كما لم يعجبني أمر يهود. رأيت في هذا وذاك أشياء لم أفهمها ولم أذقها، ولم أحس ملاءمتها لقلب هذا العربي الساذج السمح اليسير. وما شككت في أن اليهود والنصارى قد عقدوا أمورهم تعقيدا ، وأخرجوها عن طبيعتها السمحة ويسرها الأول. فجعلت أطوف على أدياركم في الجزيرة والشام، حتى لم أدع منها ديرا إلا طرقته، وسألت من فيه من الأحبار والرهبان. فلم أجد عند أحد منهم شيئا، وإنما هو كلام أسمعه ولا أفهمه، وعلم أحفظه ولا أحصله، وألغاز لا أهتدي إلى حلها، وأسرار يعجزني كشفها، حتى أنتهي إلى صومعة في البلقاء، يقيم فيها راهب فذ لا يعايشه أحد؟ فأسأله عن دين إبراهيم، فينبئني بما أنبأتك به من أن دين إبراهيم ليس في بلاد الروم، ولكنه سيهبط على بلاد العرب، وقد آن أوان ظهوره فيها. فأعود إلى وطني، وألقاك في بعض الطريق، وإذ أنت تعلم من الأمر ما أعلم، وتنتظر منه ما أنتظر، بل أنت تعلم أكثر مما أعلم، وتنتظر أكثر مما أنتظر.
قال صبيح وقد بهره ما سمع: فإنك قد علمت من أمري ما علمت، ورأيت أن حيرتك في بلادك لا يشبهها إلا حيرتي في بلادي. وإني قد طوفت في الأرض كما طوفت أنت فيها، وانتهيت من الأمر إلى مثل ما انتهيت أنت إليه. وما أرى إلا أن الله قد استنقذنا من الحيرة، ورد إلى قلوبنا الثقة والاطمئنان. ولئن بلغنا الحجاز وانتهينا إلى هذا الفتى القرشي لنكونن أسعد الناس به، وأحرص الناس على اتباعه.
قال زيد بن عمرو: ولنمنحنه ما نملك من نصر وتأييد، ولنعيننه على إظهار أمره وتبليغ رسالته إلى الناس، وليعلمن الخطاب بن نفيل عمي الذي كان يؤذيني ويغري بي السفهاء من شباب قريش أني لم أكن واهما ولا متكلفا.
قال صبيح: نعم! ولكن متى نبلغ الحجاز؟ ومتى ننتهي إلى سيد قريش؟
قال الشيخ: ليس الأمد بيننا وبين مكة بعيدا، وإنما هي أيام وليال، ننفق أكثرها في هذا الحديث الذي يعيننا على السفر، ويحمينا من أنصابه وأوصابه، ويجدد عزيمتنا، ويثبت قلوبنا، ثم ننتهي إلى ما نحب، ونظفر بما نريد.
ولكنهما لم ينتهيا إلى ما أحبا، ولم يظفرا بما أرادا، وإنما مرا بأرض بني لحم، فطمع اللخميون فيهما، وظنوا أن عندهما مالا وثراء، فيعدون عليهما فيقتلونهما.
ويصرع الحنيف العربي، والفيلسوف الرومي، وإن لسانيهما ليذكران محمدا، وإن قلبيهما ليطمئنان إلى ذكره، وإن عمودا من نور ليهبط من السماء حتى يبلغهما، ثم يفصل منهما مصعدا في الجو وقد حمل بين ثناياه نفسين كريمتين.
قال ابن إسحاق: وحدثت أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمر بن الخطاب - وهو ابن عمه - قالا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : استغفر لزيد بن عمرو. قال: «نعم! فإنه يبعث أمة وحده.»
الفصل الثاني
راعي الغنم
1
قالت خديجة لنسائها في صوت المروعة المأخوذة: «أقبلن فانظرن! فإني أرى شيئا ما رأى الناس مثله قط.» وأقبل نساؤها، فلما نظرن أكبرن، ثم ارتعن فتراجعن، ثم عدن فجددن النظر، وقد ذهبت بهن الحيرة كل مذهب! فقلن لخديجة مبهورات مسحورات: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلا من الناس.» قالت خديجة وقد امتلأ صوتها حنانا وحبا، وإعجابا وإكبارا: «إنه والله لرجل من الناس قد عرفت أمه وأباه وشهدت مولده، وسمعت أحاديث الناس عنه وآراءهم فيه، وقد طالما رغبتنني عنه وحولتنني عما كانت أريد منه. فأما الآن فلن تبلغن مما حاولتن شيئا.»
وما كادت تتم حديثها حتى كان محمد بن عبد الله قد دخل عليها فأنبأها في لفظ عذب سريع بما كان من رحلته إلى الشام، وبما عاد به إليها من ربح مضاعف لم تكن ترجوه، ولم تعد بمثله إليها العير منذ تعودت أن ترسل تجارتها إلى الشام مع العير. وقد أتم محمد حديثه دون أن تعرف خديجة كيف ترد عليه هذا الحديث، أو تشكر له هذا الصنيع، أو تكافئه على ما ساق الله إليها على يديه من خير.
كانت مأخوذة بمنظره قبل أن يدخل عليها، ثم أخذت بمنظره ولفظه حين تحدث إليها. وكانت في حاجة إلى الوقت لتسترد نفسها، وتستنقذ صوابها، وتخرج إلى الإفاقة من هذا الذهول. ولكن محمدا لم يمهلها، وإنما قال لها ما قال، وانصرف عنها مسرعا كأنما أدى إليها نبأ لم يكن يرغب في تأديته، ولم يكن مع ذلك يجد بدا من أن يؤديه. فلما ألقى هذا العبء عن عاتقه انصرف خفيف الجسم، نشيط الحركة؛ وما هي إلا أن يركب بعيره وينطلق إلى بيوت بني هاشم. ولكن خديجة قد عادت مسرعة وعاد معها نساؤها مسرعات إلى حين كن ينظرن، فرأين مرة أخرى ذلك المنظر العجيب الذي راعهن وروعهن منذ حين، وعدن إلى خديجة يقلن: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلا من الناس!»
قالت: «ويحكن! لقد رأيتنه وسمعتنه، وعلمتن أنه محمد بن عبد الله ذلك الذي كان يرعى لقومه الغنم بالقراريط في أجياد.»
قلن: «لقد رأينا محمدا غير مرة وهو يدفع الغنم أمامه ماضيا بها إلى مراعيها، ورأيناه غير مرة وهو يدفع الغنم أمامه عائدا بها إلى حظائرها، فما رأيناه قط على مثل هذه الحال. لقد كان منظره يعجب، وقد كان محضره يخلب. ولقد كان كل شيء يحبب فيه ويدعو إليه. ولقد كانت أحاديث قومه عنه وآراء قومه فيه تصبي إليه النفوس، وتعطف عليه القلوب. ولكنه كان على كل حال فتى فقيرا معدما يرعى الغنم لقومه بأجياد. وكنا نرى أن ليس من النصح لك، ولا من الإخلاص في مودتك، والوفاء بما لك علينا من حق، أن نعينك على ما كنت تجدين من حب له، وميل إليه، ورغبة في أن تتخذيه لك زوجا، وأنت من تعلمين مكانة في قومك، وارتفاعا في نسبك، وضخامة في المال، وسعة في الثروة، وسلطانا على نفوس الكهول والشباب من سادة قريش وأشراف مضر. كلهم سعى إليك. وكلهم رغب فيك، وكلهم خطبك وتمنى أن تكوني له زوجا، فما صبوت إلى واحد منهم، وما حفلت بما أضمر لك من حب، وما أظهر لك من ود، وما قدم إليك من مال.»
قالت خديجة: «لئن كنت رفيعة المكانة في قومي فما مكانة محمد من قريش دون مكانتي، وإنا لننتهي جميعا إلى قصي. ولئن كنت كثيرة المال ضخمة الثروة، فما عرفت قط أن المال يزن إلى جانب الحب شيئا. ولقد رددت من خطبني من أشراف قومي وسادتهم؛ لأني لم أشعر قط بالميل إلى أحد منهم ، ولم أفكر في أن أمري يصلح للزواج أو يستقيم عليه، ولم أر قط أن بين هؤلاء السادة والأشراف من شباب قريش وكهولها من يستطيع أن يستعلي بعقله ورأيه على عقلي ورأيي. ولكن ما رأيت محمدا قط إلا صبت إليه نفسي، ومال إليه قلبي، وأذعنت لسلطانه العظيم علي كل الإذعان.»
قلن: «كان ذلك قبل أن تري ما رأيت الآن. فأما بعد هذا المنظر العجيب الذي لم ير الناس مثله قط فما ندري ما أنت فاعلة!»
قالت: «سترين ما أنا فاعلة، ولكن أن تعرفن أو تنكرن، وأن ترضين أو تغضبن.»
قلن: «ما ينبغي لنا أن ننكر أو نغضب وقد رأينا ما رأينا. وإنك لأسعد امرأة من قريش إن ظفرت بأن يكون محمد لك زوجا.»
وكان اليوم من أيام مكة الثقيلة البغيضة التي تلح عليها حين يشتد القيظ فترسل عليها من أشعة الشمس نارا محرقة، تسكن لها الحركة، وتخفت لها الأصوات، ويهدأ لها كل شيء، ويكاد يصيح من لذعها أديم الأرض، وتشكو من حرها هذه الصخور التي تتوهج وتتلظى فتملأ الجو لهيبا وسعيرا.
وكان البشير قد أقبل مع الصبح، فمضى في المدينة من أعلاها إلى أسفلها يبعث صيحاته الحلوة الجميلة التي تتلقفها الأسماع وتطمئن لها القلوب، والتي تنبئ قريشا بأن العير قد أقبلت من الشام سالمة غانمة موفورة، فترد إلى رجال قريش ونسائها هذه النفوس التي كانت مشردة تتبع الأبناء والإخوة والأزواج والآباء في هذه الطرق الملتوية المخوفة بين أودية تهامة وبلاد الروم، وتثير في القلوب ألوانا من الفرح مختلفة متباينة: فقوم يفرحون لعودة ذويهم إليهم موفورين، وقوم يفرحون لعودة ثروتهم إليهم رابحة نامية، وقوم يفرحون لما حمل إليهم ذووهم من هذه الأمتعة والعروض التي كانوا يكلفون بها ويرغبون فيها وقد يتحرقون إليها تحرقا. وقوم يفرحون باجتماع الشمل بعد تفرقه، وبعودة الحياة إلى طبيعتها الهادئة الآمنة المطمئنة البريئة من الخوف على الأنفس والأموال.
وكانت قريش كلها تتهيأ لاستقبال العير إذا كفت عنها الشمس هذه النار المحرقة، وأتاحت لها البروز إلى ظاهر المدينة تلقى فيها الأحبة وما يجلبون من الثروة والغنى، وما يحملون من أسباب اللذة والمتاع.
وكانت خديجة تنتظر مقدم العير أشد ما تكون شوقا إليه، ووجدا به، وتلهفا عليه! لا لأن العير كانت تحمل لها تجارة واسعة إلى الشام، فكانت خديجة تريد أن تعرف ما كان من أمر تجارتها، وما أتيح لها من ربح، أو كتب عليها من كساد! فما كانت هذه أول مرة فصلت فيها العير عن مكة بتجارة خديجة الواسعة، وما كانت هذه أول مرة عادت فيها العير إلى مكة بتجارة خديجة نافقة أو كاسدة! فما أكثر ما أرسلت خديجة تجارتها في العير إلى الشام! وما أكثر ما انتظرت خديجة عودة العير هادئة وادعة، لا يخرجها الربح عن وقارها إلى هذا الفرح غير المنتظم الذي كان يخرج إليه رجال قريش ونساؤها، ولا يردها الكساد عن وقارها إلى هذا الحزن العميق الذي كانت ترتد إليه رجال قريش ونساؤها حين تتعرض تجارة مكة لبعض الشر، أو يلم بها بعض المكروه. وإنما كانت خديجة سيدة جلدة حازمة، صبورا وقورا، متزنة النفس، معتدلة المزاج، ترضى فلا يخرجها الرضا عن طورها، وتسخط فلا يغير السخط من شأنها شيئا، ويراها الناس راضية وساخطة، وهادئة مطمئنة في الحالين، فتمتلئ قلوبهم إعجابا بها وإكبارا لها، ويشهدون بأن قريشا لم تعرف قط أحدا أملك لنفسه وأضبط لأمره وأقدر على عواطفه من هذه السيدة الجميلة الوضيئة الرزينة التي كادت تبلغ من سنها الأربعين.
كلا! لم تكن خديجة مشغولة النفس بأمر العير حرصا على تجارتها، أو شوقا إلى أن تعرف ما صارت إليه من نفاق أو كساد، وإنما كانت مشغولة النفس بابن عمها هذا الشاب الذي أرسلته في تجارتها إلى الشام، فسافر راضي النفس، آمن القلب، وإن الطريق لمخوفة، وإن الخطوب لكثيرة، ولا سيما لو علم الناس من أمر هذا الشاب ما كانت تعلم، وعرفوا من حياته ما كانت تعرف. لقد تذكر خديجة أن عمه الشيخ سافر به إلى الشام صبيا، فلم يلبث أن عاد به إلى مكة مسرعا، شديد الحذر ، عظيم الاحتياط لما خاف عليه من مكر النصارى وكيد يهود. تحدث الشيخ بذلك إلى أصفيائه وخاصته ورهطه الأدنين، فسمعوا له وابتسموا، ثم انصرفوا مشفقين عليه معجبين، يقول بعضهم لبعض: ما نرى إلا أن أبا طالب مسرف في حب ابن أخيه، وما نرى إلا أن هذا الإسراف يكلفه شططا، ويرهقه من أمره عسرا.
ولكن حديث الشيخ انتهى إلى خديجة، فتلقته في شيء من العجب، ثم أقرته في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وفي ناحية من نواحي قلبها الكريم، وأخذت تنظر إلى هذا الصبي اليتيم نظرة فيها الرفق والعطف، وأخذت ترقب هذا الصبي اليتيم في شيء كثير من الحب والبر والحنان، ترعى فيه حق القرابة وتلك المودة التي كانت بينها وبين أمه آمنة، حين كانت هي فتاة غضة ناشئة، وحين كانت آمنة أرأف الناس بها، وأحبهم لها، وأشدهم بها برا وعليها حنوا.
وما أكثر ما فكرت خديجة في أمر هذا الصبي اليتيم! وما أكثر ما همت أن تبر به، وتصنع له المعروف وتسدي إليه الجميل، وترفه عليه وعلى أهله بعض ما كانوا يحتملون من آلام الحياة ويلقون من ضيق العيش. ولكنها لم تكن تجد السبيل إلى ذلك ميسورة ولا ممهدة؛ ففي بني عمها إباء وعزة وارتفاع عن مثل ما كانت تريده لهم من الخير والبر. وفي هذا الصبي اليتيم أنفة وكرامة، وشيء لا تستطيع أن تصوره له ولا أن تحققه، ولكنه يملأ قلوب الناظرين إليه هيبة له، ويردهم عن أن يفكروا في أن ينالوه بما تعودوا أن ينالوا به الفقراء واليتامى من البر والإحسان.
وما أكثر ما كانت خديجة تسأل عن هذا الصبي، وتتبع في حب وبر وحنان نموه وتقدم السن به، واضطرابه في كسب القوت، واحتماله لأثقال الحياة! ولقد أشفقت خديجة على هذا الصبي أشد الإشفاق حين علمت ذات يوم أنه خرج مع عمومته إلى عكاظ، فشهد معهم حرب الفجار، وما أشد ما كان إعجابها به، وما أعظم ما كان اغتباطها حين علمت أنه عاد مع عمومته من حرب الفجار سالما آمنا موفورا، لم يمسسه أذى، ولم ينله مكروه!
وكانت أنباء تبلغ خديجة عن هذا الصبي، أو قل عن هذا الفتى، فتملأ نفسها عجبا، وتدفعها إلى كثير من المساءلة والتفكير. فقد كان يقال لها إن هذا الفتى على حداثة سنه شديد الميل إلى العزلة، لا يشارك أترابه من فتيان قريش فيما يأخذون فيه من فرح أو مرح، وفيما يدفعون إليه من عبث أو مجون! وإنما يلقى الناس بوجه مشرق دائما، مبتهج دائما، ولكنه هادئ مطمئن، ما يزدهيه رضا، ولا يخرجه عن طوره سخط. وكان يقال لها إنه لم يشهد أحد قط هذا الفتى حيث يشهد فتيان قريش جميعا بين حين وحين آخذين في هذه اللذات التي كان يكلف بها الشباب القرشيون، حتى إذا رشدوا وبلغوا سن الوقار ترفعوا عنها، وضنوا بأنفسهم عليها، ورأوها لا تلائم أحلامهم الراجحة ومكانتهم الممتازة. ولم يصرفوا عنها مع ذلك أبناءهم الناشئين، كأنهم يرونها شرا ليس منه بد، وتجربة ليس على الشباب بأس أن يصلوا نارها، وأن يلذعهم لهيبها بعض الشيء.
وكان الناس يعجبون من اعتزال هذا الفتى أترابه إذا أقبلوا على لذتهم تلك ويتساءلون فيما بينهم: ما بال هذا الفتى يمتاز من لذاته، ويسير على حداثة سنه ونضرة شبابه سيرة الكهول الذين ترفعهم رجاحة أحلامهم وسماحة طباعهم عن مثل هذه الصغائر والدنيات؟
وكان يقال لخديجة: إن لهذا الفتى شأنا عظيما يحس الناس ظواهره ولكنهم لا يفهمونه، ولا يتبينون حقيقته ولا جلية الأمر فيه.
لقد كان شائعا في مكة متواترا بين أهلها أن عمه الشيخ رجل سيئ الحال، ضيق ذات اليد، مقتر عليه في الرزق مع كثرة العيال، وأنه مع ذلك لا يشكو بؤسا، ولا يظهر تحرجا بهذه الشدة التي يعانيها؛ لا لأنه رجل من بني هاشم يمتاز بما يمتاز به بنو هاشم من الصبر والكرامة والقناعة وحسن الاحتمال للمكاره والمشقات فحسب، بل لأن في حياته سرا غريبا! فإن ابن أخيه هذا اليتيم «فتى مبارك» كما يقول الشيخ إذا ذكره أو تحدث عنه. ولم يجلس قط مع أبناء عمه إلى طعام إلا شبعوا وأفضلوا من طعامهم مهما يكن قليلا. ولم يجلس بنو عمه من دونه إلى طعام إلا قاموا وهم جياع. وكان أبو طالب يتحدث بأنه إذا رأى أبناءه يقبلون على طعامهم كفهم عنه وقال: كما أنتم حتى يأتي ابني، فينتظرون حتى يأتي الفتى، وهنالك يخلي الشيخ بينهم وبين الطعام فيقبلون عليه، ثم يرفعون أيديهم عنه وكلهم قد شبعوا، وإن في طعامهم لفضلا.
وكانت خديجة تسمع هذه الأنباء كما كان يسمعها غيرها من رجال قريش ونسائها، فتعجب لها كما كان يعجب لها غيرها من رجال قريش ونسائها. ولكنها لم تكن تنساها كما كان ينساها غيرها من قريش، وإنما كانت تضيفها إلى ما كانت تحفظه من أمر الفتى في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وناحية من نواحي قلبها الكريم.
ثم يبلغ خديجة ذات يوم أن جماعة من شيوخ قريش وسادتها وأصحاب الأحلام الراجحة والبصائر النافذة فيها، قد اجتمعوا فيما بينهم فاستعرضوا من أمر الناس ما استعرضوا، وأنكروا من سيرة الناس ما أنكروا، ورأوا أن يلتمسوا لأنفسهم ولقومهم الخير، وأن يجتمعوا فيحدثوا بينهم حلفا على أن يتعاونوا على الخير والمعروف، وإنصاف المظلوم مهما يكن ضعيفا، من ظالمه مهما يكن قويا، وأن يبذلوا في ذلك ما يملكون من جهد، وأن يدوموا على ذلك ما بل بحر صوفة، وأن قريشا قد أعجبت بهذا الحلف أشد الإعجاب، وأكبرت المجتمعين عليه والمشتركين فيه أشد الإكبار، وسمته «حلف الفضول».
ولكن الغريب الذي دهشت له قريش كلها والذي حفظته خديجة فأضافته إلى ذلك الكنز الذي حفظته في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وحنو من أحناء قلبها الكريم؛ أن فتى حدثا من فتيان قريش لم تتجاوز به سنه العشرين، قد كان مع هؤلاء السادة من شيوخ قريش، وقد عرف معهم ما عرفوا، وأنكر معهم ما أنكروا، وعاهدهم على ما تعاهدوا عليه. وقد كان في ذلك كله كأرحبهم حلما، وأذكاهم قلبا، وأكرمهم نفسا، وأحرصهم على الخير والبر، وأسبقهم بالمعروف، وأعطفهم على البائس والضعيف. فعل هذا الفتى ذلك كله، وإن أترابه من شباب قريش لمنصرفون إلى لذاتهم على اختلافها وتباينها. ولم يكن هذا الفتى إلا محمد بن عبد الله ذلك اليتيم الذي أصبح حديث قريش كلها، تعجب به، وتتحدث عنه، وتضربه لشبابها مثلا.
وما أشد ما كانت خديجة تألم حين تعرف أن خير قريش كلها يحتاج إلى أن يرعى الغنم لقومه بأجياد، وإلى أن يكسب في ذلك القراريط من حين إلى حين، يستعين بها على ما يقيم أوده، ويفضل منها على أبناء عمه الشيخ، وإنه لأحرى قريش كلها بأضخم ما في مكة من ثروة، وأعرض ما في مكة من غنى، وأرق ما في مكة من نعيم.
هنالك أحست خديجة في قلبها حبا لهذا الفتى لم تعرف كيف تصفه ولا كيف تسميه، ولكنها كانت تجد من نفسها الطاهرة نزاعا شديدا إلى أن تراه وتسمع منه وتتحدث إليه، ولم يكن ذلك يتاح لها ولا يهون عليها. فأين هي مع ثروتها الضخمة، ومالها الكثير، ومكانتها الممتازة من هذا الفتى اليتيم الذي ينفق أكثر أيامه خارج مكة يرعى الغنم، فإذا عاد إلى مكة اعتزل الناس، أو كان كالمعتزل لهم، فلم يعرض لخديجة، ولم تستطع خديجة أن تعرض له. ومع ذلك فقد كانت نفسها تتبعه، وقد كان شخصه لا يفارق قلبها. وكثيرا ما تحدثت عنه إلى نسائها فسمعن منها، ثم قصصن عليها من أمره الأعاجيب. وإن قريشا كلها لمجتمعة على حبه وإيثاره، والإعجاب بسيرته وأخلاقه، وإنها لا تسميه محمدا، وإنما تسميه الأمين. وإن من الناس قوما يتحدثون عنه بأعاجيب لا يطمئن إليها العقل، ولا تجري بها عادة الناس. فمنهم من يزعم أنه رآه ذات يوم وقد اشتدت الهاجرة، وإن سحابه لتقيه الشمس. ومنهم من يزعم أنه رآه ذات يوم قد أوى إلى ظل شجرة فإذا الشجرة تحنو عليه حنو الأم، وإذا هو يسمع الشجرة تتلقاه بالتحية والسلام.
وكانت خديجة تسمع هذا كله فتقبل منه ما تقبل، وترد منه ما ترد، ولكنها تشعر بأن حبها له يزداد، وميلها إليه يعظم، حتى لم تملك نفسها أن أظهرت لنسائها هذا الحب، وتحدثت إليهن بهذا الميل، ولمحت لهن بأنها تود لو أصبح هذا الشاب لها زوجا، لا يمنعها من الجهر بذلك والسعي إليه إلا أنها أكبر من الفتى سنا، وأنها لا ترى نفسها له كفئا.
فلما رأى نساؤها منها ذلك أنكرنه عليها أشد الإنكار، ورددنها عنه أشد الرد، وصورن لها فقر الفتى وبؤسه، وما هي فيه من ثروة ونعيم، وذكرن لها تنافس الأشراف والسادة فيها، وحرصهم جميعا على أن يبلغوا منها هذه المنزلة التي تؤثر بها هذا الفتى اليتيم. فأحست خديجة أن نساءها لم يفهمن عنها شيئا، وأنهن لن يفهمن عنها شيئا، وردت سرها العزيز إلى مكانه الأمين من نفسها الطاهرة وقلبها الكريم. وانتظرت حتى تهيأت العير في عام من الأعوام للرحلة في التجارة إلى بلاد الروم، وجعلت خديجة تهيئ تجارتها، وجعل الناس من فقراء قريش يعرضون أنفسهم عليها ليرحلوا في تجارتها إلى الشام كما تعودوا أن يفعلوا من قبل. ولكن خديجة لم تسمح لأحد منهم، ولم تقف عند أحد منهم، وإنما ألقي في نفسها - دون أن تعرف كيف ألقي في نفسها - أن محمدا سيكون هذه المرة صاحب تجارتها إلى الشام. فلا تسأل نساءها عن شيء، ولا تحدث نساءها في شيء، وإنما ترسل إلى الشيخ دسيسا يعرض عليه الأمر، ويهون عليه ما كان يستصعب منه، ويصور أن الفتى قد أصبح رجلا لا بأس عليه من مشقة السفر، ولا خوف عليه من مكر النصارى، وهو بعد سيكون في طائفة من قومه يحمون العير بالعدد والعدة، ويزين له أن خديجة قد تعودت أن تأجر المسافرين في تجارتها بكرين، وأنها لا ترضى بهذا الأجر لابن عمها الأمين، فهي تأجره أربعة أبكر.
وما كان أبو طالب ليرضى هذا العرض أو يقبله لولا أن قد كان لله في ذلك حكمة، ولولا أن الله قد ألقى في قلبه الرضا بهذا العرض لأمر يراد. فقد كان أبو طالب شفيقا على ابن أخيه رفيقا به، يكلؤه ويرعاه، ويحوطه ويحميه، يخشى عليه العوادي، ويضن به على المكروه، ولم ينس قط ما كان من تحذير «بحيرى» له وإلحاحه عليه في أن يحوط ابن أخيه من مكر النصارى وكيد يهود. ما أكثر ما فصلت العير عن مكة منذ عاد الشيخ بابن أخيه إليها، فلم يرسله أبو طالب مع العير، بل لم يفصل أبو طالب مع العير متجرا، وإنما أبقى ابن أخيه في مكة، وأقام معه فيها حاميا له، ذائدا عنه. فلما عرض عليه رسول خديجة ما عرض، هم أن يرفض، ولكن الله ألقى في نفسه القبول، فقال للرسول: «سأعرض هذا على ابن أخي.» ثم يلقى ابن أخيه فيعرض عليه الأمر مرغبا له، مشجعا إياه.
وما كان الفتى في حاجة إلى ترغيب أو تشجيع؛ فإن الذي قد ألقى في نفس خديجة اختياره لتجارتها هذا العام، وألقى في نفس أبي طالب قبول هذا الاختيار حين عرضه رسول خديجة عليه، قد ألقى في نفس الفتى قبول هذا الاختيار حين تحدث إليه عمه فيه.
وهذه العير تتهيأ للخروج من مكة، وهذا الفتى يتهيأ للخروج معها في قومه من قريش، وقد ألحقت به خديجة غلامها ميسرة، وهؤلاء عمومة الفتى يوصون به رفاقه من قريش، ويغلون في هذه التوصية، فلا يسمعون من أصحاب العير إلا هذا الرد الجميل يلقونه إليهم باسمين: «ما إيصاؤكم إلينا بالأمين، وما منا إلا من يبذل حياته فداء للأمين!»
2
ولم تكد العير تفصل من مكة وتمعن في طريقها إلى الشام حتى شقي بذلك في مكة شخصان أشد الشقاء، ولقيا منه أثقل الجهد وأعظم العناء، وحتى نغصت عليهما حياة النهار، وصرف عنهما نوم الليل، وفارقت كل واحد منهما نفسه، فتبعت تلك العير التي كانت ماضية نحو الشمال. وقد عرفت بالطبع هذين الشخصين؛ فأما أحدهما فهو أبو طالب، وأما الآخر فهو خديجة.
والغريب أن الخواطر التي كانت تملأ نفسيهما هما وحزنا، وتفعم قلبيهما خوفا وقلقا، هي بعينها تلك الخواطر التي كانت تملأ نفس عبد المطلب بن هاشم وآمنة بنت وهب، وتشغل قلبيهما منذ خمسة وعشرين عاما حين سافر عبد الله مع العير إلى الشام في التجارة لأول مرة ولآخر مرة أيضا.
وكان ذلك يزيد في خوف أبي طالب، وقلق خديجة، ويضيف إلى إشفاقهما شيئا غير قليل من الندم اللاذع، والأسف الذي لا يغني ولا يفيد. كان أبو طالب يلوم نفسه أشد اللوم، ويؤنبها أعنف التأنيب! لما فرط في ذات ابن أخيه، وقد كان حريصا على ألا يفارقه ولا يخلي بينه وبين غوائل الدهر وعاديات الأيام. وهو يعلم بعد هذا كله أن قد كانت للأسرة من بني هاشم في هذا النوع من المحن سابقة، وأنه كان خليقا أن يتعظ بما مضى، وأن يضن بمحمد على ما تعرض له عبد الله.
وكان يقول لنفسه إن عبد المطلب حين أغرى ابنه بالرحيل وحثه عليه، لم يكن إلا رجلا من قريش، يأخذ ابنه بحياة قريش وما تعودت من الاضطراب في الأرض، والتماس الرزق طورا في الشام، وطورا في اليمن. ولم تكن الأيام قد وعظت عبد المطلب، ولا قدمت بين يديه من النذر ما كان خليقا أن يحمله على التردد ويغريه بالاحتياط. فأما هو فقد وعظته الأيام وتقدمت إليه النذر.
وعظته الأيام بما وقع لعبد الله، ذلك الذي فجع به بنو هاشم على حداثة السن ونضرة الشباب، فكان خليقا أن يتعظ، وكان خليقا ألا يعرض الفتى لما تعرض له أبوه. وتقدمت إليه النذر؛ فما أكثر ما سمع، وما أكثر ما شهد، وما أكثر ما فكر في أن ابن أخيه خليق بالعناية المطردة والحماية المتصلة، والاحتياط الذي لا يغفل ولا ينام! وإن في آخر تلك النذر لما كان خليقا أن يمنعه من التخلية بين ابن أخيه وبين الرحيل، فضلا عن أن يغريه به ويدفعه إليه. وإنه ليذكر حديث بحيرى وإشفاقه وتحذيره إياه من مكر النصارى وكيد يهود. وإنه ليذكر كيف ارتد بابن أخيه الصبي إلى مكة، دون أن يقضي حاجته من الشام، ودون أن يقوم على ما كان في يده من التجارة بالبيع والشراء، وإنما وكل بذلك من وكل من قومه متعمدا رد الصبي إلى وطنه، وحفظه من الغوائل والعاديات.
وإنه ليذكر إعراضه منذ سمع ذلك النذير عن الرحلة، ولزومه مكة، وإصراره على ألا يفارق ابن أخيه، وألا يطيل بينه وبينه الأمد. فما الذي غير رأيه في هذا كله؟ وما الذي دفعه إلى أن يحمل ابن أخيه على هذه الرحلة التي لا يأمن عواقبها؟ وأخذ الشيخ يتحدث إلى نفسه بمثل ما كان يتحدث به عبد المطلب إلى نفسه. وأخذ الشيخ يسأل نفسه عن هذا الذي ألقى في روعه قبول ما عرضت خديجة: أكان ناصحا له أم ماكرا به؟ أكان إلهاما من الله أم غرورا من الشيطان؟
وجعلت هذه الخواطر تفسد على الشيخ أمره، وكان يزيدها شدة عليه وإيلاما له أن الشيخ كان يستعرض حاله السيئة وفقره المدقع، وما كان يلقى من الجهد في قوت عياله، وكان يشعر في أعماق نفسه بشيء من الخوف الأليم أن يكون قد عرض ابن أخيه لبعض الخطر إيثارا لنفسه ولبنيه بالخير.
وما له لم يغر بهذه الرحلة ابنه طالبا أو ابنه عقيلا، وإنما أغرى بها هذا الفتى اليتيم الذي فقد أمه وامتحن في أبيه بمثل ما يمتحن به الآن! وكثيرا ما جعل الشيخ يرد هذا الخاطر عن نفسه بأن خديجة لم تعرض عليه استئجار أحد أبنائه، وإنما عرضت عليه استئجار ابن أخيه، فما كان يستطيع أن يعرض عليها طالبا أو عقيلا. ولأمر ما رغبت خديجة هذا العام عمن كانت تكل إليهم تجارتها في الأعوام الماضية، ولم تختر إلا هذا الفتى، ولم تعرض عليه ما كانت تدفعه إلى غيره من الأجر، وإنما أضعفت له الأجر إضعافا.
ولكن هذه المعاذير لم تكن تسلي الشيخ عن زلته، ولا تقيله عن عثرته، ولا تخفف عليه حزنا، ولا ترد عنه ألما، وإنما كان ندمه يزداد وينمو حتى يكاد يخرجه عن طوره، ويتجاوز ما ألف من نفسه وما عرف الناس فيه من الرزانة والوقار. ولقد حدثته نفسه غير مرة أن يشد راحلته، ويلحق بابن أخيه، فإما رده عن هذه الرحلة، وإما رافقه فيها. ولكنه كان يستحي أن تقول قريش : ضعف أبو طالب، وجزع على فتى قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره. كان يستحي من ذلك لنفسه، وكان يستحي من ذلك لابن أخيه. وما رأيك في رجل لم يكن يعدل بحسن رأي الناس فيه وحديثهم عنه شيئا؟!
وضاق أبو طالب بهذا الأمر أشد الضيق، فلم يستطع كتمانه على شدة ما حاول من ذلك، وإنما تحدث به إلى بنيه وإخوته، ولمح لهم على استحياء بأن من الخير أن يلحق به منهم لاحق، يتكلف ذلك، ويظهر حاجته إلى الرحلة، وندمه على التخلف عن القافلة. ولكن إخوته وبنيه نظروا إليه باسمين، وأجابوه مشفقين، وقالوا له: «تالله إنك لمسرف في الإشفاق على هذا الفتى، مغرق في الخوف عليه من كل شيء، حتى تحدث الناس عنك بذلك، فاتهموك بالضعف، وأنكروا عليك هذا الغلو في الخوف، وإنا لنعرف رعايتك لهذا اليتيم، وحدبك عليه! ولكن من الحب ما يؤذي، والإسراف في الإشفاق والرعاية قد يسوء هذا الفتى. فخل بينه وبين الحياة، ودعه يضطرب في الأرض ليكسب قوته. فما أنت بباق له آخر الدهر، وما ينبغي له أن يقنع بهذا العيش الضيق الذي هو فيه.»
وكذلك عاش أبو طالب مقسما بين الخوف والرجاء، وبين اليأس والأمل، وبين الثقة والشك، وبين اللوم لنفسه والاعتذار عنها. وما أظن أنه شقي قط في حياته كما شقي في هذه الأيام التي فرقت بينه وبين ابن أخيه.
ولم يكن أمر خديجة بأيسر من أمر عبد المطلب، ولم يكن خوفها بأهون من خوفه، ولم يكن إشفاقها بأقل من إشفاقه. ولكن خواطرها كانت من طراز آخر، ومن طبيعة أخرى! فهي لم تكن مؤتمنة على الفتى، ولا كافلة له، ولا موكلة بحمايته ولا حياطته والقيام دونه. ولكنها كانت شيئا آخر لعله أقوى من هذا كله، كانت تحب هذا الفتى. وحسبك بالحب مثيرا للخوف والقلق، وباعثا للجزع والفزع، وحائلا بين القلوب وبين ما تحتاج إليه من الهدوء والاطمئنان.
لقد أحبت خديجة هذا الفتى منذ كان صبيا، وجعلت ترعاه من بعيد، وترقب من أمره ما تستطيع أن ترقبه ، وتتبع نموه واكتماله. وكلما نما الفتى نما حبها له وكلفها به. أفحين بلغ الفتى أشده وأصبح خليقا أن يحقق أملها فيه، يخطر لها هذا الخاطر الغريب، فإذا هي تدفعه إلى الرحلة، وتقذف به إلى أرض الروم؟! ومن الحق أنه لم يكن لها زوجا، ولكن كانت تتمناه لنفسها زوجا. وربما كان الخوف على الأماني أشد على النفس وأوقع في القلب من الخوف على الحقائق الواقعة والشيء الذي ظفرت به بعد أن طال تمنيك له وألحت رغبتك فيه. وكانت خديجة تذكر آمنة، وتذكر نفسها، فترى أن آمنة لم تدفع زوجها إلى الرحلة، وإنما أذعنت في ذلك لقوانين الحياة التي تقضي على فتيان قريش بالاضطراب في الأرض والإبعاد في الأسفار. ولو قد خيرت آمنة لاستبقت زوجها. ولو قد أتيح لقلبها أن ينطق لألح على زوجها في البقاء.
فأما هي فلم تكره على فراق الفتى، وإنما سعت إليه ورغبت فيه، وأغرت به الفتى إغراء، ودفعته إليه دفعا، ودست فيه الرسل إلى عمه الشيخ، وأضعفت أجره أضعافا. أمحبة هي لهذا الفتى أم مبغضة له؟ أراغبة هي عن هذا الفتى أم راغبة فيه؟ أحريصة هي على جوار هذا الفتى أم على فراقه؟ إن أمرها لعجب مهما تقلبه على وجوهه. ولكن ألمها شديد، وحزنها موجع، وقلقها مضن. وقد تذكر أنها لم ترسله وحده إلى الشام، ولم تعرضه وحده للأخطار، وإنما أرسلت معه غلامها القوي الفتي الأمين الناصح، وهو خليق أن يحوطه ويرعاه، وأن يلقى الموت في سبيل حياطته ورعايته. ولكن غوائل الدهر وعوادي الأيام جائرة غاشمة، وهي أقوى من غلامها ميسرة مهما يكن قويا، وأجرأ منه مهما يكن جريئا، وأمضى إلى المكر والكيد منه إلى الحياطة والحماية والنصح.
وكذلك جعل هذا الشخصان يعيشان مع هذا الخوف الذي يفسد عليهما اليقظة والنوم، دون أن يستطيع أحدهما أن يفضي إلى صاحبه بما يجد أو ببعض ما يجد. فلا غرابة أن يطمئن قلباهما حين سمعا صيحة البشير بمقدم العير. ولا غرابة أن يحس كل منهما كأن نفسه تتحرق شوقا إلى لقاء هذا الفتى. فأما أبو طالب فقد هم أن يخرج من مكة مع الضحى للقاء ابن أخيه، ولكن إخوته وبنيه صدوه عن ذلك، ولاموه فيه، وخوفوه حر الشمس وشدة الهاجرة، وخوفوه قبل كل شيء حديث قريش هذه التي استبشرت بمقدم العير، ولكنها استقرت في أماكنها، لم تهم بالخروج للقاء الأبناء والإخوان قبل إبان الخروج.
وأما خديجة فما كان لها أن تخرج للقاء الفتى، ولا أن تفكر في الخروج للقائه؛ فليس هذا من شأن النساء، ولا هو مما يليق بحرائر قريش. ولكن نساءها أنكرن منها اضطرابا منذ سمعت صوت البشير، وتحدثن فيما بينهن بكثرة ترددها على النافذة ونظرها إلى الطريق. وكان بعضهن يتحدث في ذلك إلى بعض حين دعتهن خديجة قائلة: «أقبلن فانظرن؛ فإني أرى شيئا لم ير الناس مثله قط.» وقد أقبلن، فنظرن، فرأين شيئا لم ير الناس مثله قط: رأين فتى مشرق الوجه، واضح الجبين، مهيب الطلعة، يسعى به بعيره تحت هذه الهاجرة المحرقة، ويخوض به لهيب هذه النار المضطرمة، وإن عن يمينه وشماله لشخصين تحسهما العين ولا تحققهما، تراهما من غير شك ولكنها لا تميزهما. ترى أنهما لا يمشيان على الأرض، وإنما يسعيان في الهواء سعيا رفيقا، وهما يظللان هذا الفتى ذا الوجه المشرق، والطلعة المهيبة، ويحميان حر وجهه الجميل من هذه الشمس المحرقة.
ينظرن، فيرين، ويقلن: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلا من الناس.»
ومتى رأى الناس رجلا يظلله شخصان لا يمشيان على الأرض، وإنما يسعيان في الهواء؟!
3
وأقبل ميسرة على خديجة حين أدبر النهار. فلما رأته تمالكت في شيء من الجهد غير قليل حتى كبحت عواطفها الثائرة، وضبطت خواطرها الجامحة، وردت نفسها ووجهها من الهدوء والسكون إلى ما تعودت أن تلقى به خادمها الوفي ومولاها الأمين. ثم سألته عن تجارتها كما تعودت أن تسأله كلما آب إليها من رحلة الشام أو من رحلة اليمن. ولكنه كان في هذه المرة يقص عليها أنباء الرحلة في شيء من الاضطراب لم تعهده، ويعرض عليها أمر البيع والشراء في شيء من الذهول لم تألفه. وكثيرا ما تلبث في حديثه ليستحضر رقما غاب عنه، أو يرد خاطرا ند، أو يدعو فكرة شردت. وكانت خديجة تسمع له، معنية بما ترى من ذهوله وشرود خواطره، أكثر من عنايتها بما كان يعرض عليها من الأرقام، ويقص عليها من أنباء البيع والشراء.
وقد ترددت خديجة فطال ترددها، حين فرغ مولاها من حديث التجارة. ترددت في أن تسأله عن غير هذا الحديث من أمر هذه الرحلة. وليس من شك في أن العبد كان مترددا مثلها، مطيلا للتردد في أن يقص عليها شيئا آخر من أنباء هذه الرحلة لا صلة بينه وبين البيع والشراء. وآية ذلك أن خديجة أطرقت فأطالت الإطراق، حتى نسيت العبد وحديثه، ومضت تفكر في شيء آخر غير العبد والحديث. فلما رفعت رأسها بعد ساعة رأته قائما أمامها لم يزل عن مكانه، ولم يتحول عن موضعه، وقد أرسل عينه أمامه في هذه الغرفة المتوسطة بين السعة والضيق. فعينه حائرة تنظر ولا ترى، وكأنها تبحث عن شيء لا تحققه لأنها لا تعرف ما هو. فلما رأته أمامها على هذه الحال قالت في شيء من الدهش: «ما زلت قائما أمامي؟! أتريد أن تحدثني بشيء؟ أفاتك من أمر التجارة شيء لم تنبئني به ولم تقصصه علي؟»
قال ميسرة وقد دعاه صوت مولاته من بعد، فهو حائر مرتبك: «كلا يا مولاتي! لقد قصصت عليك من أمر التجارة كل شيء، وما أرى أني حدثتك منه بجديد! فقد سبقني إليك محمد وجه النهار، فأنبأك بما أتاح الله لتجارتك على يده من الربح والنماء.»
قالت خديجة: «هو ذاك! فما قيامك إذا في مكانك؟ وما اضطراب عينيك وما شرود خواطرك؟ وما منظرك هذا الحائر الذي لم أشهده منك قط، وما أكثر ما رحلت بتجارتي، وما أكثر ما عدت إلي رابحا حينا، خاسرا حينا!»
قال ميسرة: «فإن لهذه الرحلة أنباء أخرى ما أدري أيهم مولاتي أن تعرفها! وما أدري أينبغي لي أن أخفيها عليها أو أكتمها إياها! وما أدري أأستطيع إخفاءها أو أقدر على كتمانها، وما أرى إلا أني إن خرجت دون أن أقص على مولاتي جليتها فلن أستريح! ولن أطمئن ولن أطعم النوم حتى أتحدث بها إلى أحد غيري من الناس.»
قالت خديجة وهي تشعر بشيء من الغبطة، ولكنها تخفيه وتكتمه، وتظهر لمولاها السذاجة والاستهانة بما سيقص عليها من الأنباء: «وما ذاك؟»
قال ميسرة: «هو أمر ابن عمك هذا الذي وكلت إليه تجارتك، وأنبته عنك في مالك، وأمرتني أن أكون له خادما، وعليه حفيظا.»
قالت خديجة: «فما باله؟»
قال ميسرة: «إنك لتسألين عن ذلك في هدوء لا أستطيع أن أجيبك بمثله يا مولاتي. وإني لأخشى أن تسمعي جوابي فتظني بي الظنون، وتتهميني بالجنون، كما ظن بي غيرك الظنون، وكما اتهمني غيرك بالجنون. ولولا أن الأمر لم يبق بيني وبين نفسي، وإنما شاركني فيه من آمنه وأطمئن إليه، لظننت بنفسي الظنون التي ظنوها بي، ولاتهمت نفسي بالجنون الذي اتهموني به، ولكني رأيت ولم يروا، وشهدت ولم يشهدوا، فلا بأس عليهم أن يسوء ظنهم بي ويقبح رأيهم في، ولا بأس علي إن أكدت لك أني لست مجنونا ولا مأفونا ولا ذاهب العقل، ولا مضيع الصواب.»
قالت خديجة: «قد أطلت! فأفض إلي بحديثك، ولا تسرف في هذا الكلام الذي لا يغني.»
قال ميسرة: «فإني لا أدري كيف أبدأ معك هذا الحديث؛ لأني لا أعرف له بدءا ولا أعرف له آخرا؛ فقد اختلط أمره علي اختلاطا. وأقسم لولا أني قصصت أمره على من لا أتهم، لما شككت في أني مضيع العقل، مفرق اللب.»
قالت خديجة: «حسبك! فابدأ حديثك من حيث شئت أن تبدأه، ولكن امض في غير هذا اللغو؛ فقد عرفت أنك عاقل غير مجنون، وأنت مستكمل عقلك وصوابك كله؛ فلا تضع على نفسك وعلي من الوقت والجهد ما نحن في حاجة إليه.»
قال ميسرة وقد أطرق مستحييا كأنه يجمع آراءه ويستحضر خواطره، ثم رفع رأسه فأظهر لمولاته وجها يبعث الضحك والإشفاق معا! لكثرة ما يظهر عليه من إجهاد النفس وتعنية الضمير: «الآن قد عرفت!» ثم أخذ يتحدث إلى مولاته في بطء كأنه يرى حقائق ما يقص على سيدته من الأنباء، قال ميسرة: «كان بدء ذلك يا مولاتي في أول ليلة قضيناها بعد أن فصلت العير من مكة. فقد استقبلنا الليل فرحين مبتهجين، لم يفارقنا النشاط، ولم تدن منا شياطين السأم والملل. ولعلنا لم نكن نحب هذا الليل الذي وقفنا تقدمه عن السير، واضطرنا إلى النزول لنأخذ بحظ من راحة وهجوع. ولعلنا كنا نتعجل انقضاءه، ونتمنى أن يسفر لنا الصبح لنستأنف الرحيل. وقد كنا نقول لأنفسنا وكان بعضنا يقول لبعض: لننتفع بهذا النشاط الذي نجده في أول الرحلة، فلن نمضي أياما قليلة ولن نمعن في السفر حتى يسعى إلينا الملال، ويأخذ فينا الكلال، وحتى نتلفت إلى وراء أكثر مما ننظر إلى أمام. ولكنا أذعنا لحكم الليل، ونزلنا عن رواحلنا، وجعل كل منا يهيئ لنفسه مضجعا يأوي إليه. وما هي إلا ساعة حتى هدأ القوم، وخفت الصوت، وسكن كل شيء، وما كنا نرى إلا ضوء القمر هذا الذي كان يغمرنا رفيقا رقيقا. وما كنا نسمع إلا أطيط الإبل، وأزيز هذه الحشرات المنبثة على سفوح الجبال من حولنا.
وأسهر أنا على محمد كما أوصيتني، فأهيئ له مضجعه، وأسعى إليه مرة ومرة، لأدعوه إلى الراحة وأحرضه على النوم، ولكني أراه جالسا مكانه لا يريم ولا يتحول، وقد رفع وجهه إلى السماء، وأغرق في صمت متصل كأنما كان يفكر في أمر عظيم، أو يدبر في نفسه شئونا ذات بال. وكنت كلما دنوت منه ورأيته على هذه الحال لم أجرؤ على أن أحدثه أو أقطع عليه صمته وتفكيره. فلما طال به مجلسه، وتكرر مني السعي إليه، لم أجد بدا من أن أتكلف شيئا من الجهد فأسأله: أليس في حاجة إلى أن يستريح؟! ولكنه يجيبني في رفق أنه سيلتمس الراحة متى أحس الحاجة إليها، وأني أستطيع أن أشغل بنفسي عنه الآن! فأنصرف عنه وأحاول النوم دون أن تطمئن نفسي إلى الإغراق في النوم.»
ثم يسكت ميسرة لحظة، ثم يستأنف الحديث وقد ظهرت على وجهه آيات العجب والحيرة والإشفاق أن تظن به مولاته الظنون، فيقول: «ويخيل إلي يا مولاتي أني قد أخذت أسعى إلى النوم أو أخذ النوم يسعى إلي. وإني لفي هذه الحال الحلوة الغريبة التي لا يعرف صاحبها أنائم هو أم يقظان، وإذا أنا أرى كأني أسمع حوارا غريبا ما سمعت مثله قط، وما قدرت قط أني سأسمع مثله، وما كان ينبغي لي ولا أحد غيري أن يقدر ذلك أو يفكر فيه أو يخطره لنفسه على بال! فقد كان الحوار بين هذا القمر المضيء وهذه الأرض المظلمة الساكنة.»
ثم ينظر إلى مولاته فإذا هي تصغي إليه معنية بحديثه أشد العناية، لا يظهر على وجهها إنكار ولا سخرية. فيبتهج العبد بما يرى، ويجد في إصغاء مولاته إليه وعنايتها به مشجعا على الحديث، فيقول: «هذه أول مرة أقص فيها هذا النبأ فلا أسمع ضحكا ولا استهزاء، ولا أرى آيات السخرية وعلامات الإعراض. سمعت إذا هذا الحوار الغريب القصير يا مولاتي، فاستويت جالسا، ولم أذق النوم من ليلتي! لأن نفسي قد امتلأت عجبا لما سمعت، وإكبارا لهذا الحلم الشاذ.»
قالت خديجة: «وما ذاك؟ ماذا سمعت؟»
قال: «سمعت كأن القمر يقول للأرض: وددت لو استطعت أن أمهد له من أشعتي هذه المشرقة اللينة الرطبة وطاء وثيرا؛ فإني أخشى عليه أديمك الصلب ومسك الغليظ. وسمعت الأرض تجيب القمر قائلة: إن يكن أديمي صلبا ومسي غليظا، فإني أعرف كيف ألين له وأرفق به، وهو سيد من مشى علي منذ كنت. ولكن قل لأختك الشمس ترفق به إذا كانت الظهيرة ورمت أشعتها باللهيب. وأسمع صوتا ثالثا يقول: لا عليكما! فإن الذي آثره بالكرامة، وفضله على الخلق كله، خليق أن يحميه من كل شيء، ويعصمه من كل ضر، ويرد عنه الأذى مهما يكن مصدره.
وأستوي يا مولاتي جالسا، قد امتلأ قلبي رعبا وعجبا لما رأيت وما سمعت. ومن الحق أني لم أسمع ذكر محمد، ولكني لم أشك في أنه كان المعني بهذا الحوار. وإني - كما تعلمين - رجل ساذج جاهل ، لم أقرأ الكتب، ولم أسمع للعلماء! ولكني على ذلك أنكرت ما رأيت وما سمعت، وقدرت أن أمرك لي وإلحاحك علي في أن أعنى بابن عمك، وأن أهون عليه مشقة السفر، وأرد عنه عواديه وأذاته ما استطعت إلى ذلك سبيلا، هما اللذان شغلاني به، ووقفا تفكيري عليه.
فأقبلت على النوم وإني لأشفق عليه برد الليل وحر النهار في هذه الصحراء، ولم أحدث أحدا بما رأيت وما سمعت. وفيم أحدث الناس به وقد عرفت أصله ورددته إلى مصدره؟! ولكني أقوم الليل كله غير بعيد من ابن عمك هذا الذي لا يبرح مجلسه ولا يتحول عنه، ولا يذوق من النوم إلا إغفاءة لا تطول. فلما أسفر الصبح استأنفنا الرحيل، وإذا ابن عمك أعظمنا قوة، وأشدنا نشاطا، لا يظهر عليه جهد السفر، ولا مشقة هذا السهر المتصل.
ونمضي في طريقنا تندفع بنا الإبل هادئة سريعة، ونشغل أنفسنا بالحديث عما تركنا وراءنا، وعما نحن مقبلون عليه، وقد ارتفع الضحى، وزالت الشمس، وكانت الهاجرة، واشتد الحر، وخمدت له النفوس، وخفتت له الأصوات، وسكن له من حولنا كل شيء، وأنا مشفق على ابن عمك من هذه الهاجرة، أفكر في أن أسعى إليه وفي أن أحتال، لعلي أظله فأقيه بعض هذا الحر، فأحث بعيري حتى أدنو منه، ولا أكاد أنظر إليه حتى يكاد يصعقني العجب لروعة ما رأيت! فقد رأيت ابن عمك يسعى به بعيره، وإن عن يمينه وشماله لشخصين ما أتبينهما وما أحقق صورتهما، ولكنهما يظللان عليه وهو باسم الثغر، مشرق الوجه، وضاء الجبين، لا يظهر عليه جهد ولا تبدو عليه آية ملال أو كلال، إنما هو هادئ مطمئن مغرق في الصمت والتفكير.
وما قضيت العجب يا سيدتي مما رأيت، ولكني جعلت أنظر وأنظر، ثم أسأل من حولي من الناس: ألا ترون محمدا؟ فيقولون: بلى! إنا لنراه وما نرى بأسا. فأقول: أما ترون حوله شيئا؟ فيقولون: كلا! ما نرى حوله شيئا. فأقول: أما ترون إليه لا يظهر عليه جهد ولا أين؟ فيقولون: حديث عهد بالرحلة، مكتمل القوة ، موفور النشاط، وسيبلغ منه الجهد والأين بعد حين، ولكني أدنو منه فأسأله: ألا يجد جهدا؟ ألا يحس مشقة؟ ألا يحتاج إلى شيء؟ ولكنه يجيبني في هدوء ورفق بأنه على خير ما يحب. وما أزال أنظر إليه وإلى هذين الشخصين يظللان عليه، وما أشك في أني أراهما وحدي، ولا يراهما أحد غيري. وما أدري أكان محمد يحس مكانهما منه وعنايتهما به، أم كان عن ذلك منصرفا مشغولا. حتى إذا خفت حرارة الشمس وأقبل نسيم الأصيل، نظرت إلى محمد فإذا هو يسعى به بعيره كغيره من الناس لا يحف به هذا الشخصان اللذان كنت أراهما منذ حين، وهو كعهدي به باسم الثغر، مشرق الوجه، مطمئن، مغرق في الصمت والتفكير.
وأتهم نفسي بشيء من اضطراب العقل وذهاب اللب، فأكتم أمري، ولا أظهر أحدا عليه. حتى إذا كان الغد لاحظت محمدا كما لاحظته أمس، فإذا هو كعهدي به أعظمنا قوة، وأشدنا نشاطا، لا يظهر عليه جهد ولا أين. وأنتظر مقدم الهاجرة وارتفاع الظهيرة، فما نكاد نعود إلى مثل ما كنا فيه من الإذعان الأليم لهذا القيظ المحرق، حتى أرى ابن عمك كما رأيته أمس يسعى به بعيره بين هذين الشخصين اللذين كانا يظللان عليه. وما أطيق لهذا الأمر احتمالا، وما أستطيع عليه صبرا، فأتحدث به إلى من حولي وألفتهم إلى ابن عمك، فينظرون إليه، ثم يضحكون مني، ثم يقولون: لقد عبثت بك شياطين الصحراء، ومع ذلك فليس هذا أول عهدك بالطريق. فإذا لفتهم إلى نشاط محمد وإشراق وجهه، وهدوء نفسه وجسمه، وإلى ثغره الباسم وجبينه الواضح، نظروا إليه فملئوا عيونهم منه، ثم قالوا: إنه الأمين، وإن أمر الأمين ليدعو إلى العجب، ويملأ القلوب له إعظاما وإكبارا. وأغرب الأمر يا مولاتي أني كنت أرى ذلك ولا أستطيع أن أسأل محمدا عنه أو أتحدث إليه فيه. وكثيرا ما هممت بذلك فحثثت مطيتي حتى دنوت منه، ولكني أحس لساني ينعقد كلما حاولت أن ألقي عليه سؤالا، أو أسوق إليه حديثا.
ولم يكن هذا شأني وحدي، وإنما كان شأن الذين رافقونا في هذه الرحلة؛ فقد كانوا يسمعون لي ويعرضون عني ضاحكين حينا، باسمين حينا آخر. ويتحدث به بعضهم إلى بعض يسخرون مني، ولم يخطر لواحد منهم، أو لم يستطع واحد منهم أن يسعى ببعض هذا الحديث إلى محمد فيسأله عنه أو يحاوره فيه. وما أقل ما كنا نتحدث إلى محمد في أي شيء من الأشياء! فقد كانت قلوبنا تمتلئ هيبة له حتى ما ترتفع إليه أبصارنا وما ترقى إليه أصواتنا، إلا أن يبدأنا هو بالنظر والحديث فنجيبه، وإن أصواتنا وأبصارنا لتمتلئ حبا له وعطفا عليه.
وكذلك أنفقنا أيام الرحلة إلى الشام، ما ارتفعت الظهيرة قط إلا رأيت هذين الشخصين الغريبين يسايران ابن عمك في الهواء حافين به، مظللين عليه، حتى إذا بلغنا بصرى أو أردنا أن نعرض تجارتنا في سوقها، سألت محمدا أن يأذن لي في أن أزور راهبا تقوم صومعته غير بعيدة من السوق. وكنت قد تعودت ألا آتى بصرى إلا ألممت به قبل أن أعرض تجارتي! لأني أجد من قلبي إليه ميلا، وأنتظر من زيارته بركة وخيرا، وأنا رجل نصراني كما تعلمين يا سيدتي، أحب الرهبان، وأكبر الأحبار. فيأذن لي محمد في أن ألم بصومعة صاحبي، وينتظرني في ظل شجرة قريبة من الصومعة. وما أخفي عليك يا مولاتي أني كنت أريد أن أسأل «نسطور» الحبر عما رأيت من أمر محمد هذا! فقد كنت أخشى على نفسي الجنون، وأخاف أن يكون قد مستها طائف من الشيطان. وكنت أريد أن أستعين ببركة هذا الشيخ على البراءة من هذه العلة الطارئة والمحنة العارضة. ولكني لا ألبث أن أستبشر ويمتلئ قلبي غبطة وحبورا. فما أكاد ألقى «نسطور» وأبدؤه بالتحية حتى يسألني عن صاحبي هذا الذي جلس في ظل تلك الشجرة: من هو؟ فما أكاد أذكر اسمه حتى يسألني: أفي عينيه حمرة لا تفارقها؟ فما أكاد أجيبه أن نعم، حتى ينظر إلي مشرق الوجه ويقول لي مبتهجا لا يكاد يملك نفسه من الفرح: إنه لنبي هذه الأمة؛ فما جلس قط تحت هذه الشجرة إلا نبي.
ومهما أكن ساذجا، ومهما أكن قليل العلم، فإن حديث «نسطور» لم يملك علي نفسي ولم يقنعني! فأنا أسأله ضاحكا: ما علمك بذلك؟ شجرة قائمة منذ عهد قريب أو بعيد قد امتدت غصونها، فأظلت جانبا من الأرض. فما أكثر الذين يأوون إليها، ويستظلون بها إذا اشتدت حرارة الشمس!
قال «نسطور» باسما وقد وضع يده على كتفي: «أتذكر أنك رأيت هذه الشجرة عام أول؟»
قلت: «ما أدري، وما أكثر ما رأيت من الشجر، وما أنا بقادر على أن أحصي منها كل ما رأيت.»
قال «نسطور»: «أتذكر أنك رأيتها حين أقبلت على بصرى مع الصباح؟»
قلت: «ما أدري! ولكني رأيتها حين أوى إليها سيدي.»
قال «نسطور»: «فإذا انطلقت مع سيدك إلى السوق لتعرضا تجارتكما، فتخلف عنه وعد إلى مكان هذه الشجرة؛ فإن رأيتها حيث تراها الآن فاعلم أني لم أصدقك الحديث، وإن لم ترها فهذا تأويل ما قلت لك.»
ثم اتسعت ابتسامة «نسطور» على ثغره، وقال: «ومع ذلك فما لك لا تسأل رفاقك من أصحاب العير على هذه الشجرة! فما رآها منهم أحد، وما يراها الآن منهم أحد.»
قلت: «لا والله، لا أسألهم عن شيء بعد الذي لقيته منهم في أثناء الطريق.»
قال «نسطور» وهو يضحك: «والذي ستلقاه منهم في أثناء القفول. إن لصاحبك هذا لشخصين موكلين به يظللان عليه إذا اشتدت الهاجرة.»
قلت: «وتعلم ذلك؟»
قال: «لم أستكشفه يا بني، ولكني أجده عندنا في الكتب، وقد سمعته من أحبارنا ورهباننا. فارع سيدك، وأخلص له الحب، واصدق في العناية به؛ فإني لأود لو أن لي أن أقوم منه مقامك. ولكن لله حكمة بالغة، والله يدبر الأمر ويجريه كما يريد لا كما نريد.»
قلت: وقد كدت أطير فرحا: «لأسرعن إلى محمد فلأنبئنه بما تقول.»
قال وهو يضحك في شيء من الحزن الهادئ العميق: «حاول من ذلك ما شئت! فلن تستطيع، ولن يستطيع أحد أن يتحدث إلى محمد منه بشيء. إن الله يدبر الأمور ويجريها كما يريد لا كما نريد. ولن ينبئ محمدا بما كتب الله له من كرامة، وما خبأ له الغيب من عظائم الأمور أحد من الناس، وإنما الله وحده هو الذي ينبئه بذلك متى أراد وكيف أراد.»
وأنصرف عن «نسطور» يا سيدتي، وفي نفسي أن أتحدث إلى محمد بما رأيت وما سمعت على رغم ما زعم لي «نسطور» ولكني لا أكاد أبلغه حتى يتصل بينه وبيني حديث التجارة دون غيره من الأحاديث. ونمضي إلى السوق، وأخالف عن محمد حينا فأعود إلى الصومعة لأنظر إلى الشجرة فلا أرى شجرة ولا شيئا يشبه الشجر، وإنما أرى «نسطور» قائما أمام صومعته ينظر إلي ويضحك لي، ثم يتولى إلى صومعته وعلى وجهه بعض الكآبة والحزن. وأسرع إلى محمد فأبلغه في السوق، وإن بينه وبين أحد النصارى لخصومة واختلافا في بعض الأمر، والنصراني يسأل محمدا أن يقسم باللات والعزى، فإذا محمد يجيبه في صوت هادئ ما سمعت قط شيئا يشبهه عذوبة ولينا: «ما حلفت بهما قط، وإني لأمر بهما فأعرض عنهما.» فيقول النصراني له: «القول قولك.» ثم يتحول إلي فيهمس في أذني قائلا: «هذا والله نبي تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم.»
وقد علمت يا سيدتي ما أتاح الله لتجارتك من ربح، ولمالك من نماء.
وقد قفلنا إلى مكة فأرى من محمد في أثناء القفول ما رأيت في أثناء الشخوص. ولكني أنعم بذلك ولا أعجب له، وأكتم ذلك في نفسي، ولا أفضي به إلى أحد، وقد اطمأننت إلى عقلي، ووثقت بصوابي. حتى إذا بلغنا مر الظهران قلت لمحمد: تقدم فاسبقني إلى خديجة، فأنبئها بما أتاح الله لها من الخير على يديك! فإنها تعرف لك ذلك.»
ولم يقع في نفس خديجة قبل ذلك اليوم حديث موقع ذلك الحديث. ولم يحس قلب خديجة قبل ذلك اليوم سرورا مثل هذا السرور الذي تجده. ولم يشرق وجه خديجة قبل ذلك اليوم كهذا الإشراق الذي يشهده ميسرة فيمتلئ قلبه به إعجابا يوشك أن يكون فتونا.
ولكن خديجة تملك نفسها وتضبط أمرها، وتقول لمولاها في هدوء وحزم: «لقد رأيت بعض ما رأيت، وأبصرت هذين الشخصين يظللان على محمد حين أقبل علي منذ حين. ولقد أنبأني بربح تجارتي ونماء مالي، فسمعت منه وأثنيت عليه، ولكني لم أعرف له ذلك كما قدرت. اذهب إلى ابن عمي ورقة بن نوفل، فأنبئه بأني أود لو أراه، ثم أخرج للفقراء والبائسين حقهم من هذا المال الذي رجعت به من الشام.»
4
وكان ورقة بن نوفل حازما عازما رجل صدق! قد شهد مواطن قريش، وشارك في مفاخرها ومآثرها. ولكنه أنكر في نفر من قومه أولي حزم وعزم، وأصحاب فقه وبصر بالأمور، ما كانت عليه قريش من باطل وجهل، وما كانت تمعن فيه من عبادة هذه الأوثان التي لا تملك لها نفعا ولا ضرا، ولا تغني عنها من الله شيئا. وكان قد أجمع مع أصحابه أن يعرضوا عن غي قريش وباطلها، وأن يلتمسوا الخير لأنفسهم ما وجدوا إليه سبيلا. وكان قد رحل مع صديقيه زيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث إلى بلاد الروم يلتمسون فيها الدين الصحيح، ويبغون فيها لأنفسهم خيرا.
فلما تحدثوا إلى الأحبار والرهبان وسمعوا منهم، مال ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث إلى دين المسيح فآمنا، وشك زيد بن عمرو.
ولكن ورقة بن نوفل إن أحب النصرانية وأمعن فيها فقد كان لقومه محبا، ولوطنه مؤثرا، وعلى ما ألف من عاداته المحمودة وسننه الكريمة حريصا؛ فلم يمعن مع صاحبه عثمان بن الحويرث في بلاد الروم، ولم يذهب إلى قسطنطينية، وإنما حفظ من النصرانية ما حفظ، ووعى من علم الأحبار والرهبان ما شاء الله أن يعي، ثم عاد بهذا كله إلى مكة، فأقام فيها آمنا وادعا، فارغا لدينه ونفسه، لا يعرض لأحد، ولا يحب أن يعرض له أحد. وعرفت قريش ذلك فأحبته وآثرته بالكرامة، واستشارته فيما كان يحزبها من أمر، وأطاعته فيما كان يعرض عليها من رأي. وكان أصفياؤه وذوو خاصته يقدرونه ويكبرونه، ولا يكادون يصدرون في تدبير أمورهم إلا عن مشورته.
فلا غرابة في أن تفكر ابنة عمه خديجة في أن تسأله عما رأت وما سمعت من هذه الأحداث العظام والآيات الكبار، وهو الذي انتهى إليه علم أهل الكتاب في مكة. ولعل خديجة كانت تريد أن تسأله في أكثر من ذلك لو أنها تعمقت دخيلة نفسها الطاهرة، وعرفت أسرار قلبها الكريم! ولكنها حين أرسلت تستزيره لم تكن تريد إلا أن تعلم منه علم هذه الآيات.
وقد أقبل عليها ورقة مع الليل معتذرا من إبطائه عليها بما كانت تعلم من اشتغال قريش بعودة العير، وانصراف أهل مكة إلى ما كانوا ينصرفون إليه في هذا اليوم من ألوان الفرح والمرح والابتهاج، وما كان يجب على المقيمين في مكة من الإلمام بالعائدين إليها.
فلما استقر المجلس بورقة قالت له خديجة: «إن عندي أنباء قد أهمتني أمرها، وما أرى إلا أنه يهمك كما أهمني، ولعله يعنيك أكثر مما عناني.»
قال ورقة: «وما ذاك؟»
قالت: «فإنك تعلم أني أرسلت في تجارتي هذا العام محمد بن عبد الله.»
قال ورقة: «نعم! وقد يظهر أن شئونا غريبة عرضت له في بعض الطريق.»
قالت خديجة: «أوعلمت؟»
قال ورقة: «سمعت من ذلك أطرافا؛ فقد كان رفاقه يتحدثون بأمر ميسرة وبما كان يزعم لهم؛ ومنهم من يظهر العجب لذلك، ومنهم من يمعن في إنكاره. وقد سألت ميسرة، فأفضى إلي بحديثه كله، وقص علي ما سمع من «نسطور».»
قالت خديجة: «فإن أنبأتك بأني رأيت مثل ما رأى ميسرة، وبأن نسائي رأين مثل ما رأيت؟»
قال ورقة: «فإني أصدقك وأصدق نساءك، كما صدقت ميسرة حين سمعت منه هذه الأنباء.»
قالت خديجة، وقد ظهر على وجهها العجب والرضا معا: «تصدقنا ولم تر مثل ما رأينا؟»
قال: «نعم! لأني أنتظر مثل هذه الآيات من عهد بعيد. وما رأيت راهبا ولا حبرا من الذين انتهى إليهم علم الكتاب فيما جبت من بلاد الروم إلا تحدث إلي بأن هذه القرية مبعث نبي يخرج من أهلها، وبأن زمانه قد أظلنا، وبأن بشائره قد أخذت تظهر ويقفو بعضها إثر بعض. وهم قد أقرءوني ذلك في كتبهم، وهم قد حدثوني بذلك عن شيوخهم وأساتذتهم. وما أخفي عليك يا ابنة عم أني قد أمعنت في النصرانية إمعانا شديدا، وأن قلبي قد تحدث إلي في بعض أوقاته ببعض الأمل، ولكني لم ألبث أن رجعت إلى الحزم والعزم والبصيرة! فإن لهذا الرجل الذي يبعث من هذه القرية علامات وآيات، منها ما يلزمه ولا يفارقه، ومنها ما يسعى بين يديه. وليس لي من هذه العلامات والآيات حظ، فأنا أنتظر كما ينتظر غيري من علماء أهل الكتاب. ولو أن ميسرة لم يحدثني إلا بما رأى لكنت خليقا أن أصدقه وأن آمنه على هذا الحديث. فقلبه أدنى إلى السذاجة، وعقله أدنى إلى السماحة، وطبعه أقرب إلى السهولة واليسر من أن يتكلف الكذب، أو ينتحل الحديث، أو يدبر المكر تدبيرا. ولكنه لم يحدثني وحده بهذا الذي رأى، وإنما حدثتني أنت به أيضا! فقد رأيت ورأت نساؤك. على أن ميسرة قد حدثني بحديث «نسطور». وإني لأعرف من أمر «نسطور» ما أعرف، وهو رجل صالح صادق، عالم بما يأتي وما يدع، لا يقول إلا عن علم، ولا يصدر إلا عن رأي وثقة.»
قالت خديجة: «فأنت إذا ترى لمحمد شأنا؟»
قال: «ما أشك في ذلك. ولكني لا أدري متى يكون هذا الشأن، وإني لأنتظره، وإني لأتعجله، وإني لأريد أن أتحدث إلى محمد فيه، فلا أجد إلى ذلك سبيلا ما لقيته قط. فما هممت بالتحدث إليه في أمر الدين إلا انعقد لساني عن الحديث، وانصرفت نفسي عما كنت أريد أن ألقي إليه.»
قالت خديجة: «وما ذاك؟ وكيف تؤوله؟»
قال: «تأويله يا ابنة عم أن الله يريد أن يستأثر بإنباء محمد بما كتب له من كرامة، وما هيأ له من أمر عظيم. وهو لا يريد أن ينبئه بذلك إلا حين يبلغ الكتاب أجله، وينتهي الأمر إلى إبانه.»
قالت خديجة: «فإني لا أفهم ظهور هذه البشائر والآيات لبعض الناس دون بعض، وانجلاء هذه الحقائق والمعجزات لبعض القلوب دون بعض.»
قال ورقة: «لو شاء الله لأظهر هذه الآيات للناس جميعا، ولو شاء الله لما أظهر من هذه الآيات شيئا لأحد من الناس. أترين أن الله لم يكن قادرا على أن يقي محمدا حر الهاجرة دون أن يرسل إليه هذين الملكين يظللان عليه؟ أترين أن الله لم يكن قادرا أن يحجب هذه الآية عن ميسرة كما حجبها عن رفاقه الذين كانوا يسايرونه في العير، كما حجبها عن محمد نفسه في أكبر الظن؟! كلا يا ابنة عم! إن قدرة الله لأوسع من ذلك وأشمل، وإنه ليظهر من آياته ما يشاء، كما يشاء، لمن يشاء؛ لأن له في ذلك حكمة بالغة، وأربا قد تعجز عقولنا عن فهمه وتعيا معرفتنا عن تأويله. وانظري من حولك يا ابنة عم، فما أكثر ما يتغير من الأشياء! وما أكثر ما نرى من الأمر فننكره ونعجب له! ولكننا لا نستطيع له رفضا ولا ردا! لأنه الحق الواقع الذي لا نستطيع أن نماري فيه.
إنك لتعرفين من أمر عبد المطلب ما تعرفين، وما أرى أنك نسيت قصص عبد الله. وما أشك في أن ما يحيط بمحمد من غريب الأمر قد انتهى إليك كله أو أكثره. أفرأيت أسرة من قريش قد اجتمع لها مثل ما اجتمع لآل عبد المطلب، وألم بها ما ألم بآل عبد المطلب؟»
قالت خديجة: «لا! وإني في ذلك لكثيرة التفكير، أعجب ببعضه، وأرثي لبعضه، وأقف من بعضه حائرة بين الإعجاب والرثاء.»
قال ورقة: «وكذلك أكثر الناس يا ابنة عم، يرون ويعجبون، ثم ينسى أكثرهم، ولا يذكر منهم إلا الأقلون.»
ثم أطرق ورقة إطراقا طويلا حتى خيل إلى خديجة أنه قد نسي مكانه منها ومجلسه عندها؛ ولكنه رفع إليها وجها قد تحدرت عليه بعض الدموع، وقال في صوت متهدج: «فلنر كما يرى الناس، ولنعجب كما يعجبون، ولكن لنجتهد في ألا ننسى؛ فإن الذكرى قد تنفع في يوم من الأيام، وهي بعد الخصلة التي تميز القلب الكريم.»
وهم أن ينهض، ولكن خديجة استبقته قائلة: «أقم فإن حديثي لم ينته.»
قال ورقة: «أقدمي يا ابنة عم على ما تديرين في نفسك، لا تحجمي ولا تترددي! فأنت أسعد نساء قريش، بل أسعد نساء الأرض إن أتم الله لك ما تتمنين.»
قالت خديجة دهشة: «وقد علمت هذا أيضا؟!»
قال ورقة وهو ينهض: «عمي مساء يا ابنة عم، وتلطفي في تدبير أمرك! فإن أحسست التوفيق لما تحبين فآذنيني بذلك! فإني أتمنى أن تكون لي يد ما في هذا الزواج الذي سيكون له في حياة الناس أسعد الأثر وأبقاه.»
5
تحدث ابن سعد بإسناده:
1
أن نفيسة بنت منية قالت: كانت خديجة بنت خويلد بن عبد العزى بن قصي امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال. فأرسلتني دسيسا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام. فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: علي. قال: فأنا أفعل. فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضر ودخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عمومته، فزوجه أحدهم.
وشهد هذا الحفل اليسير العظيم أبو طالب الذي كان يقوم دون محمد ويرعاه، وورقة بن نوفل الذي كان ينصح خديجة ويخلص لها الوفاء.
فلما أصبح الملأ من قريش غدوا إلى مجالسهم وأنديتهم من المسجد، وأخذوا في أحاديثهم. فقال قائل منهم: «ألم يبلغكم النبأ يا معشر قريش؟»
قالوا: «وما ذاك؟»
قال: «فإن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ذلك الذي كان يرعى لنا الغنم بالقراريط إلى وقت قريب، قد تزوج من خديجة بنت خويلد بن أسد.»
قال شيخ من شيوخ قريش: «ويحك يا ابن أخي! إنه لابن عبد المطلب، وإنه للأمين. وأي قريش أكفأ لخديجة من ابن عبد المطلب! وأي قريش يستطيع أن يسامي الأمين!»
الفصل الثالث
حديث باخوم
1
أخذ القوم يرفعون أيديهم عن الطعام، وجعلوا كلما تحول واحد منهم عن المائدة ممتلئا ثقيلا سعى هادئا رفيقا، لا تكاد قدماه تحملانه، كأنما أثقله ما ازدرد من الطعام والشراب، حتى إذا تخطى عتبة الدار اتخذ مجلسه أو ألقى نفسه إلقاء في هذا الميدان الفسيح الذي كان يمتد فيه البصر إلى غير مدى، والذي كان ينحدر في يسر وأناة حتى يبلغ النيل. وما هي إلا ساعة حتى كان القوم جميعا قد أخذوا أماكنهم أمام الدار، وبدءوا حديثا خافتا بطيئا متقطعا أول الأمر، ولكنه يرتفع ويسرع ويتصل، ويزداد حظه من الارتفاع والسرعة والاتصال، كأنما كان ذلك يقدر بما يكون من استقرار الطعام والشراب في أجوافهم شيئا فشيئا، وتوفر معداتهم على الهضم قليلا قليلا.
وليس من شك في أن هذا النسيم العليل الذي كان يهب عليهم من الشمال رفيقا رطبا، قد أعانهم على هضم ما ازدردوا، ورد عليهم شيئا من النشاط الذي كانوا في حاجة إليه، ليتصل بهم المجلس شطرا من الليل، وليأخذوا في أسمارهم كما تعودوا أن يفعلوا كلما دعاهم صديقهم «يوحنا» إلى الطعام.
وكان «يوحنا» أكثر أهل القرية مالا، وأعظمهم ثراء، وأوسعهم أرضا، يعمل في زراعته الفقراء من شباب القرية الذين لا يملكون أرضا، يفرغون لها، ويقفون جهودهم عليها. وربما احتاج في بعض المواسم والأوقات إلى عدد أكثر من هؤلاء الذين كانوا يجدهم في قريته، فيجلب العمال والفلاحين من القرى المجاورة. وقد كان بعضهم يسمع بثروة «يوحنا» وكرمه ورفقه بالعاملين في أرضه وسخائه عليهم، فيقصد إلى هذه القرية من بعيد، ليعمل عند هذا الرجل الذي لم يكن يشبه الكثير من أغنياء الإقليم وأصحاب الثروة فيه.
وكان «يوحنا» قد عود نفسه البر بأهل قريته، والتوسعة عليهم بين حين وحين، لا يعرف أن أحدا منهم قد مسه الضر، أو اشتدت عليه الحال، إلا أعانه وأغاثه وأنجده، يكتم ذلك ما وسعه الكتمان! كأنما كان يستحيي من أن يعرف الناس عنه بره وكرمه، ولكن الناس كانوا يعلمون منه ذلك ويتسامعون به. وكان صنائعه يرون من شكر الصنيعة ومعرفة الجميل أن يذيعوا إحسانه إليهم، وأياديه فيهم.
وكان «يوحنا» على ذلك لا يكتفي بهذا البر المكتوم يبذله لأهل قريته كلما احتاجوا إليه، وإنما كان يدعوهم من حين إلى حين إلى طعام عام يقدمه إليهم في أيام كانوا يرونها أعيادا، وكانوا يستجيبون لدعوته ولا يتخلفون عنها، سواء في ذلك الميسور والمقتر عليه في الرزق، يرون ذلك نعمة منه عليهم، وحقا له في أعناقهم. وكانوا إذا أخذوا حظهم من الطعام والشراب فرغوا للأحاديث والأسمار فقضوا فيها شطرا غير قصير من الليل، ثم تفرقوا موفورين محبورين، تخفق قلوبهم بالحب له، وتنطلق ألسنتهم بالثناء عليه.
وكانوا في هذه المرة في مساء يوم من أيام الآحاد، لم يجهدهم العمل، ولم يضنهم الكد، وإنما قضوا يومهم فارغين، قد خلصوا لحياتهم الخاصة، وانتظروا هذه الوليمة التي كانوا يترقبونها منذ أيام، وألموا بكنيستهم المتواضعة فأدوا صلاتهم، واستمعوا لوعظ القسيس. وكان قسيسهم شيخا متهالكا قد تقدمت به السن، وثقلت عليه الحياة، وأدرك عقله شيء يسير من ضعف كان ربما دفعه إلى بعض التخليط، وأغراه إلى أن يتحدث إليهم بغير الصواب. وكانوا على ذلك يحبونه ويكرمونه، ويرعون له طول عهده بهم، واتصال إقامته فيهم، وكثرة ما صنع بهم من معروف، وما أحسن الوساطة بينهم وبين الله. فكانوا إذا سمعوا منه بعض التخليط ابتسموا مشفقين عليه رفيقين به. وربما قسا عليه شبابهم من حين إلى حين، فأظهر شيئا من سخرية، وأعلن شيئا من اعتراض. وكان القسيس يلقى من أهل القرية حبا بحب، ووفاء بوفاء. وما له لا يفعل وشيوخ القرية إخوته الصغار، وشباب القرية أبناؤه الذين شهد مولدهم، وقدس زواجهم، وتلقى أبناءهم على اختلاف أسنانهم؛ منهم من لا يزال في المهد، ومنهم من جعل يدرج! ومنهم من أخذ يختلف إلى الحقول. ولم تكن قسوة الشباب عليه تؤذيه أو تبلغ نفسه الطيبة وقلبه الحليم، وإنما كان يلقاها بكثير من العفو والإسماح. وربما مكر بالشباب مكرا فدفعهم إلى أن يعبثوا به ويقسوا عليه بعض الشيء؛ يرى في ذلك دعابة تسره وتسر من حوله من أبنائه وأحبائه.
فلما أخذ القوم في حديثهم تلك الليلة بعد العشاء، انبرى شاب من شباب القرية كان معروفا بالدعابة وخفة الروح، فقال للقسيس في هزل يشبه الجد: «لقد روعتنا يا أبانا منذ اليوم بما قصصت علينا من حديث الشيطان وما عرضت علينا من صوره الغريبة البشعة! فما قدرت قط أن للشيطان هاتين الأذنين الطويلتين، وهذين القرنين المحددين، وهذه الأرجل الثمان التي قسمت بين ظهره وبطنه، والتي تتيح له أن يسعى مرة ووجهه إلى الأرض وأن يسعى مرة أخرى ووجهه إلى السماء.»
قال فتى آخر من فتيان القرية: «فقد كان ينبغي أن تكون له أرجل ثمان أخرى: أربع منها عن يمين، وأربع منها عن شمال! ليستطيع أن يسعى على أي جنبيه شاء، كما يستطيع أن يسعى على بطنه حينا، وعلى ظهره حينا آخر.»
قال فتى ثالث: «وقد ينبغي أن يتاح للشيطان أن يسعى على قرنيه مرة وعلى ذنبه مرة أخرى.»
قال فتى رابع: «فأنتم تريدون أن يكون الشيطان كله أرجلا إذا! فهلا تركتم من جسمه موضعا للجناحين! فقد ينبغي أن يكون له أجنحة يطير بها في الهواء، لينقل الشر بها في أقصر وقت وأيسره من قطر من أقطار الأرض إلى قطر، ومن جيل من أجيال الناس إلى جيل.»
وتضاحك القوم جميعا، فأغرقوا في الضحك، ولم يكن قسيسهم الشيخ أقلهم ضحكا. ولكن الفتى الأول اتجه إلى أبيه القسيس الشيخ وقال في صوت غليظ وضحك عريض: «أرأيت الشيطان قط يا أبانا؟ وعلى أي شكل من هذه الأشكال رأيته؟»
قال القسيس الشيخ في صوت هادئ نحيف يبطئ به الكبر، ويكاد يهده الضحك هدا: «لم أر الشيطان قط يا بني، وما ينبغي لمثلي أن يراه، وأعوذ بالله لكم من أن نراه. وما حدثتكم من أمره إلا بما قرأت في الكتب، وسمعت من الأساتذة والمعلمين، وسمعت من أحاديث الناس أيضا. ومهما نصور من بشاعة الشيطان وقبح منظره، فلن نبلغ منهما شيئا! فهو أبشع من كل ما نظن، وأقبح من كل ما نصور، لا في شكله وخلقه فحسب، بل في رأيه وعمله أيضا، وفي مشورته وما يوسوس به إلى الناس بنوع خاص.»
وهنا تكلم «باخوم» فخفتت الأصوات، وأنصت الناس. وكان «باخوم» شيخا من شيوخ القرية، قد عرف بطول الصمت خارج الكنيسة، وكثرة الصلاة إذا كان فيها، كما عرف بالوقار والأناة إذا تحرك أو تكلم، وكما عرف بهذه الهيبة التي كانت تفيض على وجهه، وهذه المحبة التي كانت تجذب إليه الناس.
وكان «باخوم» رجلا قد طوف في الأرض أول شبابه فأكثر التطويف، ولم يكن يلم بقريته إلا ليمكث فيها العام أو بعض العام، ثم يرتحل عنها فيغيب عنها الأشهر حينا، والعام حينا آخر. وربما امتدت غيبته فبلغت العامين، ولكنه كان ينتهي دائما بالعودة إلى قريته والإقامة فيها حينا، وكان لا يعود إلا ومعه فضل من مال يبر به خاصته وذوي قرباه، ويحسن به إلى الفقراء والبائسين، وشيء من الطرف النادرة يتحف به الأغنياء وأصحاب اليسار.
وكان قد نشأ عاملا يرافق البنائين حتى تعلم صناعتهم، وأحسن من فنونهم ما يحسن أهل القرى. وكأن ذلك لم يكفه ولم يغنه، فارتحل إلى المدن فجود فنه شيئا، ثم أخذ يتنقل بفنه من مدينة إلى مدينة، ومن إقليم إلى إقليم حتى جاب أرض مصر كلها. وكان كلما أحسن من فنه شيئا طمع في أن يضيف إحسانا إلى إحسان، ويرقى بفنه من طور إلى طور، حتى تسامع الناس به، ودعاه الأغنياء وأصحاب الثراء، في إقليمه وفي غير إقليمه! ليشرف على ما كانوا يريدون أن يشيدوا من الدور والقصور. وكأنه قد عرف ما كان عند المصريين من فن البناء، وحذق من ذلك ما كانوا يحذقون. ثم لم يكفه ما عرف، ولم يرضه ما أتقن، فأبعد في الرحلة، وتجاوز مصر إلى غيرها من البلاد المجاورة. ولكنه استبقى عادته وحفظ لقريته عهدها، فكان يبعد في الرحلة ويطيل الغيبة، حتى يستيئس أهل القرية من عودته، ويظنوا أنه قد هلك في بعض الطريق، أو عدت إليه عاديات الدهر في بعض أقطار الأرض. ولكنهم يرونه ذات يوم وقد أقبل عليهم مع الصباح أو مع المساء، هادئ النفس دائما، وقورا في حركاته وكلامه دائما، طويل الصمت خارج الكنيسة، كثير الصلاة إذا كان فيها، يحمل فضلا من مال يبر به الفقراء والبائسين، وشيئا من الطرف يتحف به الأغنياء والموسرين. وقد كان أول أمره يحب الفن ويكلف بالعمارة والبناء، ولكنه إلحاحه في السفر وتجويبه للآفاق قد أضافا إلى هذا الحب الفني شيئا آخر؛ هو حب الرحلة في نفسها والكلف بزيارة البلاد المختلفة، والإلمام بالأجيال المتباينة من الناس. فكان يرتحل للبناء أول الأمر، ثم أصبح يرتحل لا لشيء إلا لأن نفسه لا تستطيع أن تسلو عن الرحيل. وكان في أول أمره ينتهز الفرص ويتلمس العلل والمعاذير لما كان يزمع من رحلة، أو يعتزم من سفر؛ فكان يصحب القوافل إلى هذا الوجه أو ذاك من وجوه الأرض. ولكنه انتهى آخر الأمر إلى أن يستقل بتدبير أمره ويهيئ أسفاره، لا يلتمس لذلك علة، ولا ينتحل له معذرة، ولا يصحب هذه القافلة أو تلك، وإنما يعود من رحلة إلى بلد، فلا يكاد يستقر في قريته حتى ينبئ الناس بأنه مرتحل إلى بلد آخر، يسميه لهم تسمية العالم به، الملم من أمره بما لا يعرفون.
وقد عاد إليهم ذات مرة من بعض أسفاره في بلاد الروم. فلما أقام فيهم شهرا أو بعض شهر أنبأهم بأنه يريد أن يركب هذا البحر الذي لا يركبه الناس إلا قليلا، وأن يرى ما ينبث على سواحله من المدن، ومن يعيش حوله من أجيال الناس. وقد سمع من أمر هذه الأجيال وتلك المدن أعاجيب، منها ما يقبله العقل، ومنها ما لا يستطيع الإنسان له تصديقا. وهو يعلم على كل حال أن شرقي هذا البحر، وغير بعيد من ساحله، تقوم مدينة قديمة، يسكنها قوم صالحون يعرفون المسيح، ويؤمنون به، ويخلصون لدينه. وقد امتحنوا في دينهم بأعظم الشر وأشنع النكر، فصبروا على المحنة، وثبتوا للخطب، واصطلوا النار التي حرقهم بها اليهود تحريقا. وهو يعلم أن قيصر قد رق لهؤلاء الناس، وغضب لما أصابهم من الشر، فأنجدهم وأغاثهم وثأر لهم من اليهود. وهو يريد أن يزور هذه المدينة، ويرى هؤلاء الناس الصالحين الذين عذبوا في الدين، ويود لو استطاع أن يقيم لهم كنيسة، ويترك في مدينتهم تلك أثرا يتقرب به إلى الله.
وكان أهل القرية يسمعون حديثه، فمنهم من يزين له المضي فيما عزم عليه، ومنهم من يصده عن ذلك ويرغبه في لين العيش واستقرار الحياة. ولكنه كان يسمع لأولئك وهؤلاء، ولا يرد على أولئك ولا على هؤلاء رجع الحديث، وإنما كان يمضي في تدبير أمره كما قدر هو، أو كما قدر الله له، لا كما أراده الناس عليه.
وأصبح القوم ذات يوم فإذا «باخوم» قد تهيأ للرحلة كما تعود أن يفعل، وإذا هو يفارقهم، فتتصل غيبته وتتصل، وتمضي الأعوام دون أن يسمعوا من أمره شيئا، حتى يستيئسوا من عودته، ثم تمضي الأعوام وقد تسلوا عنه وكادوا ينسونه، وجعلوا لا يتحدثون عنه إلا قليلا، وجعلوا إذا ذكروه رقت أحاديثهم عنه، وحسن ذكرهم له، وكثر إشفاقهم عليه، كدأب الناس حين يذكرون فقيدا كريما كانوا يحبونه ويؤثرونه، ثم حالت بينهم وبينه الخطوب، فأخذوا يتعزون عنه ويذكرونه ذكرا جميلا.
ثم يتسامع أهل القرية ذات يوم بأن «باخوم» قد عاد إليهم بعد أن غاب عنهم عشر سنين، فينكرون أول الأمر، ثم يعرفون بعد أن يروا صاحبهم كعهدهم به، إلا أن السن قد تقدمت به، وظهر أثر ذلك في هذا الشيب الذي جلل رأسه، وفي هذا الهدوء الذي عظم حظه منه، وفي هذا الصمت الذي اشتد إمعانه فيه، وفي شيء آخر جديد لم يكونوا ينتظرونه منه؛ وهو إعلانه إليهم أنه لن يرحل عن قريته بعد هذه المرة! بل سيظل بينهم يشاركهم في الحياة حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
2
وكان أهل القرية يكلفون بحديث «باخوم» ويشغفون بالاستماع له. وليس من شك في أن أولي الجد منهم كانوا ينتظرون أن تنقضي هذه الدعابة بين الفتيان وأبيهم القسيس الشيخ ليطلبوا إلى «باخوم» أن يطرفهم بشيء من أنباء رحلته الطويلة الأخيرة! فإنه لم يقص عليهم منها شيئا.
ولم يطمئن أهل القرية قط إلى محدث أو قاص كما اطمأنوا إلى هذا الرحالة من أبناء قريتهم! فقد كانوا يعرفون فيه الصدق والأمانة والتواضع والاعتدال، ولم يعرفوا قط أنه تزيد أو تكثر أو اعتز بما رأى - وما كان أكثر ما رأى! - وبما شهد، وما كان أكثر ما شهد، فلما سمع أهل القرية صوته تدانوا منه، وأصغوا إليه، وكف الفتيان عن دعابتهم، وردوا ضحكهم إلى صدورهم ولم يتموه.
وكان «باخوم» يتكلم بصوت هادئ، غليظ بعض الشيء، عميق أشد العمق، كأنه يأتي من أقصى ضميره، فكانت الكلمات التي يحملها هذا الصوت الرزين العميق إلى آذانهم لا تكاد تبلغ آذان القوم حتى تنفذ منها مسرعة إلى قلوبهم، وتستقر فيها وتملؤها عجبا وإعجابا.
قال باخوم: «أما أنا فقد رأيت الشيطان، ما أشك في ذلك ولا أرتاب. ورأيته في قصة غريبة وقعت لي في رحلتي هذه الأخيرة منذ عامين.» ثم سكت قليلا. ثم استأنف حديثه قائلا: «نعم! منذ عامين، وقد امتلأت بها نفسي حتى كأنها لم تقع إلا بالأمس، وقد اتصل بها قلبي فطمع في تجددها أشد الطمع، ورجا تكررها أشد الرجاء، حتى كأنها ستكون غدا. وهي آخر ما رأيت من أسفاري من عجيب الأمر. وما أرى إلا أنها آخر ما سأرى في حياتي من عجيب الأمر، إلا أن تمتد بي الأيام إلى أكثر مما أقدر وما يقدر أمثالي لأنفسهم من السن.
وما أشد ما أتمنى ذلك! وما أشد ما أحرص عليه! لا لأني أحب الحياة أكثر مما يحبها الناس، أو أرغب في البقاء أكثر مما يرغب فيه الناس، بل لأني موقن بأن لهذه القصة شأنا، وبأنها قد أنبأت عن شيء سيكون. وما أشد شوقي إلى أن أشهد تحقيق هذا النبأ، وظهور هذا الحدث العظيم!»
وتصور أيها القارئ أثر هذه الجمل التي كانت تصدر عن «باخوم» ملتهبة، فتحرق قلوب المستمعين له تحريقا. تصور أثر هذه الجمل في تشويق أهل القرية إلى هذه القصة التي سيطرفهم بها هذا الشيخ. وإنهم ليريدون أن يتعجلوه، ولكنه مطرق مغرق في الصمت، وقد اتصلت أبصارهم به، وتعلقت قلوبهم بشفتيه. ولبث هو في صمته حينا، وقد سكن الليل وسكت النسيم، كأنما تريد الأرض والسماء، وهذه النجوم المتألقة، وهذا النيل الذي يسعى هادئا من بعيد، أن تسمع له وتستمتع بحديثه، كما يستمتع له الفلاحون في قرية من قرى الصعيد.
قال باخوم بعد ساعة: كان ذلك منذ عامين حين انتهت بي الأسفار إلى مكة! تلك القرية التي تسمعون ذكرها أحيانا حين تفد علينا قوافل قريش تحمل إلى مصر تجارة اليمن والهند. فقد ألممت بها، وإن لي من أهلها لبعض الصديق، وكنت أريد أن أقضي فيها أشهرا، ثم أرحل مع قافلتهم إلى اليمن لأبلغ تلك المدينة الصالحة التي يسكنها قوم صالحون قد فتنوا في المسيح، فصبروا على الفتنة، وكنت أريد أن أقيم لهم كنيسة وأترك فيها أثرا باقيا.
فما أقضي في مكة شهرا وبعض شهر حتى يتوسل إلي بعض الصديق من قريش في أن أبني له دارا، فلا أمتنع عليه، وإنما أجيبه إلى ما أراد، وفاء ببعض ما بيننا من المودة، وأداء لبعض ما لهؤلاء الناس علي من حق. وقد صحبتهم في سفر شاق بعيد، فحموني وحاطوني ورفقوا بي ووفوا لي بذمتهم، وأكدوا لي صادقين أنهم سيبلغونني نجران إذا ارتحلوا إلى اليمن، وسيردونني إلى مأمني إذا عادوا إلى بلاد الروم. فلم يكن بد إذا من أن أستجيب لصديقي، فأقيم له داره التي أراد أن يبنيها. وما هو إلا أن يكون التنافس بين القوم! فهؤلاء نفر من سراتهم وعظمائهم يتوسلون إلي في مثل ما توسل إلي ذلك الصديق فيه. وكلهم يعظم لي الأجر، ويهدي إلي ما استطاع من الخير. وإني لفي ذلك أجيب منهم من أستطيع إجابته راضيا مسرورا بإرضاء هؤلاء القوم الكرام، وبمعاودة المهنة بعد أن طال إهمالي لها وإعراضي عنها، وإذا خاطر يخطر للملأ من قريش ذات ليلة وهم يسمرون، فيفكرون فيه ثم يفكرون، ثم يستأنون به، ثم يعودون إليه، ثم يؤخرونه، ثم يستأنفون النظر فيه، ثم يفضون إلي به على أنه شيء يريدونه وتتمناه قلوبهم، ولكنهم لا يجرؤن عليه. يشفقون أن يكون في الإقدام عليه ما يغضب آلهتهم، ويجر عليهم ما يكرهون. رأوا بيتهم ذاك الذي يقدسونه ويعبدون ربهم فيه قد طال عليه العهد، وبعدت به الأيام، وظهر عليه الوهن، وتعرض لأخطار السيل، واجترأ عليه اللصوص فسرقوا بعض ما فيه من متاع، فتساءلوا: ألا يكون من الخير أن يهدموا بناءه هذا القديم، ويقيموا لربهم بيتا جديدا فخما متينا، يلائم مكانته في قلوبهم، ويلائم ثروتهم هذه التي تزداد من يوم إلى يوم، ويلائم هذه الدور التي أخذوا يقيمونها لأنفسهم فخمة متينة، قد يسرت لهم فيها أسباب الترف والنعيم؟ ولكنهم يفكرون ولا يعزمون، يخشون ألا يرضى ربهم عما لا بد لهم منه من هدم البيت إن أرادوا له تجديدا. وكان يزيد خوفهم وإشفاقهم ويملأ قلوبهم فزعا وهلعا كلما هموا بالإقدام أن حية كانت تظهر كل يوم، فتسعى على جدران البيت صاعدة هابطة دائرة من حوله، وكان منظرها بشعا مخيفا، وكانت إذا دنا منها دان اتخذت شكلا رهيبا، لا يراه من يدنو منها حتى يرتد عنها مذعورا. فكانوا يخشون أن تكون هذه الحية حارسا لهذا البناء، وكانوا يقدرون أنهم إن أتموا رأيهم وأنفذوه لم يدنوا من البيت ليأخذوا في الهدم حتى تردهم عنه مدحورين. وإنهم لفي أنديتهم حول البيت ذات يوم وإذا الحية قد خرجت من مخبئها، وجعلت تزحف كدأبها، وجعلوا هم ينظرون إليها مروعين، وإذا عقاب تهوي من السماء فتأخذ الحية من ذنبها، ثم ترتفع بها في السماء وهم ينظرون ويعجبون، وقد غابت عنهم العقاب. فما يشكون في أن ربهم قد أذن لهم في أن ينفذوا ما عزموا عليه. وقد أحسوا بعد هذا الحادث شجاعة وإقداما، وجعلوا يديرون أمرهم بينهم، ويدبرون ما لا بد من تدبيره لبناء هذا البيت.
وإنهم لفي ذلك وإذا الأنباء تصل إليهم ذات صباح بأن سفينة من سفن الروم قد طغى عليها البحر، وعبث بها الموج، وقصفت بها الريح ثم دفعتها إلى الساحل القريب. فيسرعون إلى البحر، وأسرع معهم، ويرون السفينة وقد عطبت، واضطر أهلها من الروم والمصريين إلى أشد الخوف وأعظم الهلع؛ لأنهم دفعوا إلى غير مأمن، ووقعوا إلى أرض ليس لهم فيها جار. ولكن قريشا يلقون أصحاب السفينة أحسن لقاء، ويؤمنونهم على أنفسهم وأموالهم، ولا يرضون حتى يشتروا منهم هذه السفينة التي أدركها العطب، ويقولون لي: «فإنا نستطيع أن نتخذ من خشب هذه السفينة لبيت ربنا سقفا.» ولم يرتابوا بعد ذلك في أن ربهم قد أذن لهم بهدم البيت وتجديده. ألم يرسل العقاب إلى تلك الحية فتخطفها! ألم يرسل إليهم هذه السفينة ليتخذوا منها للبيت سقفا! ألم يرسلني أنا إليهم لأبني لهم هذا البيت كما نقيم البناء في مدن الروم!
وكذلك تمت كلمتهم على إنفاذ ما دبروا. ولم أتردد أنا في أن أكون من بناء البيت عند ما يحبون. وكنت أنظر إليهم وإلى ما كانوا يرون ويقدرون في شيء من العطف عليهم والابتسام لهم؛ فهم أصحاب سذاجة لم يألفوا من الحضارة ما ألفنا، ولم يبلوا من خطوب الأيام ما بلونا. فأيسر شيء يدفعهم إلى التفاؤل، وأيسر شيء يردهم إلى التشاؤم، وأيسر شيء يدعوهم إلى الإقدام، وأيسر شيء يضطرهم إلى الإحجام. ولكني لم ألبث أن أحسست ما يحسون من روع، وشاركتهم فيما كان يملك قلوبهم من تردد واضطراب. حضرتهم ذات يوم وقد أطافوا ببيتهم، وجعل بعضهم يؤكد لبعض تقادم العهد به، وإلحاح الزمان عليه، وحاجته إلى التجديد، ويسعى شيخ من شيوخهم حتى يمس حجرا من أحجار البيت ناتئا بعض الشيء، فيجذبه بيديه فينجذب، وقد بعد الشيخ بهذا الحجر عن البيت شيئا وهو يحمله في يده. ولكن ماذا نرى؟ نرى هذا الحجر يفصل عن يد الشيخ، ويمضي وحده في الهواء حتى يرتد إلى مكانه من البيت كأحسن ما يمكن أن يستقر في موضعه. ولست أخفي عليكم أني لم أكن أقل القوم ارتياعا واضطرابا حين رأيت هذا المنظر البديع، بل ما أشك في أني كنت أشدهم ارتياعا واضطرابا، وأعظمهم حيرة، وأعجزهم عن الفهم والتأويل. ذلك أن هذا الحدث قد روعهم شيئا، ولكنه لم يذهب بصوابهم، ولم يخرجهم عن أطوارهم. وما أسرع ما فهموا، وما أحسن ما أولوا! فقد قال قائلهم: يا معشر قريش أقدموا على أمركم، ولكن احذروا أن تنفقوا في هذا البناء مالا حراما، لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبا. لا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
ثم غدوا إلى البيت يريدون هدمه، وقد صمموا على ذلك، ولكنهم على تصميمهم لا يجرءون، فيندبون شيخا منهم فيرقى إلى البيت، ويبدأ في الهدم وهو يقول في لهجة ساذجة كان لها في نفسي أبلغ الأثر وأبعده: «اللهم لا ترع، إنما نريد الخير.» وكان القوم ينظرون إليه معجبين به، مشفقين عليه من إقدامه دون أن يشاركوه فيما أخذ فيه، وإنما أجمعوا أمرهم بينهم أن ينتظروا ليلتهم حتى إذا أصبحوا رأوا! فإن كان قد نزل بالشيخ مكروه أو ألم به خطب، علموا أن ربهم غاضب، فأصلحوا ما هدم الشيخ وتركوا البيت على حاله، وإن غدا عليهم سالما موفورا علموا أن ربهم راض، فمضوا في الهدم وأقاموا البناء.
وأصبح الشيخ سليما معافى، فغدا على عمله وغدوا معه، حتى هدموا البيت. ثم جعلوا يجمعون الأحجار يسعون في جمعها بأنفسهم لا يستأجرون لذلك أحدا، ولا يكلون ذلك إلى رقيق، يرون النهوض بذلك حقا عليهم وشرفا يبقى لهم في أعقابهم. وأخذت أنا أبني لهم البيت أقيمه على أسسه القديمة التي لم يمسوها.
ولهم في هذا البيت حجر يعظمونه ويكرمونه، ويرونه هبة لهم من ربهم. فلما بلغ البناء إلى حيث يجب أن يوضع الحجر اختلف القوم بينهم: أيهم يضعه موضعه! فكلهم ابتغى لنفسه هذه المأثرة، وكلهم حرص عليها أشد الحرص! وإذا اختلافهم يستحيل إلى خصومة، وإذا خصومتهم تبلغ من الشر إلى أقصاه، وإذا هم يتلاحون ويتناذرون، ويؤذن بعضهم بعضا بالحرب، وقد وقف البناء، وفسد الأمر بين القوم فسادا عظيما. وأقاموا على ذلك أياما وليالي، وتحالف بعضهم على الشر، فجاءوا بجفنة قد ملئوها بالدم وغمسوا فيها أيديهم وهم يقسمون . ليستأثرن بهذا الشرف أو ليموتن من دونه. ثم يجتمع الملأ منهم صباح يوم فيتناهون ويتناصحون، ثم يشير عليهم شيخ منهم بأن يحكموا في هذه الخصومة أول داخل عليهم من باب من أبواب المسجد، يسمونه باب بني شيبة. فلا يلبثون أن يدخل عليهم من الباب رجل شاب لم يروا أجمل منه طلعة، ولا أعظم منه هيبة، ولا أحسن منه سيرة في قومه. سمعت من أنبائه الشيء الكثير، ولكني استيقنت أنه رجل عظيم الخطر حين رأيتهم ينظرون إلى مقدمه مبتهجين ويصيحون: «هذا الأمين، قد رضينا. هذا محمد، قد سلمنا.» ثم يعرضون عليه الخصومة. فما رأيت وقارا كوقاره، وما رأيت أناة كأناته، وما رأيت هدوءا كهدوء نفسه، وما رأيت رجلا أرفق منه بقومه، وأعطف منه عليهم، وآثر منه لهم بالخير. وانظروا إلى قضائه فيهم، فسترون كما أرى أنه لم ينتج عن تفكير إنسان، وإنما كان إلهاما من الله.
نزع الأمين رداءه فألقاه على الأرض، ثم وضع الحجر في وسطه، ثم قال لقومه: «لينتدب من كل ربع من أرباع قريش رجل.» فلما اجتمع أربعة نفر يمثلون قومه كلهم، قال: «ليأخذ كل واحد منكم بزاوية من زوايا الرداء»، ففعلوا واشتركت قريش كلها في رفع الحجر، وتقسمت قريش كلها هذا الشرف العظيم قسمة سواء عدلا، حتى إذا انتهوا إلى البناء آثره ربه بخلاصة هذا الشرف وخير ما في هذه المكرمة، فيأخذ الحجر بيده، ويضعه في موضعه، والقوم راضون فرحون، قد اطمأنت قلوبهم إلى هذا العدل، واستبشروا بما كف عنهم من الشر، وبما عصم لهم من الأنفس وحقن لهم من الدماء. وهنا استيقنت أني رأيت رجلا هو أحب خلق الله إلى الله، وأكرمهم عليه. ولكني لم ألبث أن رأيت شخصا يجب أن يكون أبغض خلق الله إلى الله، وشرهم عنده مكانة. كان رجلا شيخا حسن الطلعة، جميل المنظر، عليه وقار، وله سمة، ولم أكن قد رأيته في القوم قط، وما كان شكله ملائما لأشكالهم، ولا زيه مشاكلا لأزيائهم. ولكني رأيته فجاءة لا أدري من أين جاء، أنجم من الأرض أم هبط من السماء.
أقبل هذا الشيخ النجدي يناول الأمين حجرا يثبت به الركن الأسود في موضعه، فيقبل رجل من عمومة الأمين، فيأبى على هذا النجدي وينحيه ويدفع إلى الأمين الحجر الذي يشد به البناء. هنالك غضب الشيخ النجدي، فقال له الأمين: «إنه ليس يبني معنا في البيت إلا من كان منا.» فجعل النجدي يقول: «يا عجبا لقوم أهل شرف وعقول، وسن وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنا، وأقلهم مالا، فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم، كأنهم خدم له. أما والله ليفوتنهم سبقا، وليقسمن بينهم حظوظا وجدودا.»
وتسمع قريش حديث النجدي فتسخط عليه وتثور به، وتريد أن تلحق به الأذى، ولكنا ننظر فلا نجد أحدا، ونبحث فما نعرف إلى أين ذهب، كما لم نعرف من أين جاء.
ويقول قائلنا حين استيأسنا منه: «هذا والله إبليس، أراد أن تكون له في بيت ربنا يد، فرد عن ذلك مدحورا.»
ثم سكت «باخوم»، وأطرق فأطال الإطراق، كأنه يستعيد في نفسه هذه القصة التي سحر بها قلوب سامعيه وألبابهم. ولكن القسيس الشيخ يسأل «باخوم» في صوته الهادئ المحطم: «ونجران يا بني أذهبت إليها؟ أأقمت فيها الكنيسة التي كنت تريد أن تقيمها؟»
قال باخوم: «لا يا أبانا، قنعت ببناء هذا البيت لهذا الحي من قريش. وما أدري لماذا استيقنت نفسي منذ ذلك اليوم بأن سيكون لهذا البيت ولهذا الأمين شأن.»
قال القسيس: «فإنك تسمي هذا الأمين محمدا؟»
قال باخوم: «نعم! يسميه قومه محمدا، ويسمونه أحمد، ويكنونه أبا القاسم، ويتحدثون عنه بالأعاجيب.»
قال القسيس في شيء من الحيرة والذهول: «أحمد! أحمد! أليس يمكن أن يكون هذا النبي الذي بشر به المسيح!»
وتفرق القوم من ليلتهم، وإن في قلب كل واحد منهم لأثرا قويا باقيا لهذا الحديث.
قال محدثي: والعجب أن أكثر المصريين يجهلون أن لهم في بناء الكعبة يدا، وأنهم قد اشتركوا فيه، واشتركوا فيه مع الأمين الذي أصبح بعد سراجا منيرا، أخرج الله به الناس من الظلمة إلى النور.
الفصل الرابع
صاحب الحان
1
أنكر شباب قريش من صاحب الحان إعراضه عنهم، وما ظهر من انقباض وجهه وتقطب جبينه، وما أحسوا وراء ذلك من فتور النفس، وجمود القلب، وشرود الخاطر، واشتغال البال.
وكان هؤلاء الفتيان المترفون من شباب قريش قد تعودوا من صديقهم هذا الرومي نشاطا للشراب إذا نشطوا له، وإقبالا على اللهو إذا أقبلوا عليه، ومشاركة في اللذة إذا أخذوا فيها، قد محيت بينهم وبينه الفروق، ورفعت بينهم وبينه الحجب، وأصبحت الأمور بينهم وبينه ميسرة هينة، تجري على المودة والإلف، وعلى السذاجة والإسماح، كما تجري بينهم وبين أنفسهم، أو خيرا مما تجري بينهم وبين أنفسهم. يقبلون عليه مصبحين، ويقبلون عليه ممسين، ويقبلون عليه في أي ساعة من ساعات النهار والليل، فلا يرون منه إلا نشاطا وانبساطا، وإلا إقبالا عليهم وإيناسا لهم. فإذا أخذوا في شرابهم، وأقبلوا على لذاتهم، واستمعوا لأولئك المغنيات الروميات اللاتي كن يفتنهم بالصوت واللحظ، وبغير الصوت واللحظ من أسباب الفتنة وألوان الإغراء، أقبل الخمار الرومي معهم على هذا كله، لا إقبال التاجر الذي يغري بتجارته ويرغب فيها، بل إقبال المخلص في حب اللهو، المسرف في إيثار اللذة، المتهالك على أن يأخذ نصيبه من الدنيا قبل أن يدفعه الموت إلى تلك الطريق التي يعرف أولها ثم يجهل من أمرها بعد ذلك كل شيء.
وكانت الكلفة قد ارتفعت بين هذا الرومي وبين زواره من فتيان قريش هؤلاء، فكانوا يشربون ويطربون، ويؤدون إليه ثمن لذاتهم إن حضرهم المال، فإذا لم يحضرهم لم يجدوا بذلك بأسا، ولم يمنعهم ضيق ذات أيديهم أن يمضوا فيما يحبون من عبث ولهو. ولم يظهر لهم صديقهم الرومي تجهما ولا تلكؤا، ولم يبطئ عليهم في شيء مما كانوا يريدون، لا لأنه كان واثقا بأن حقوقه ستؤدى إليه كاملة فحسب، بل لأنه كان قد أحب هؤلاء الفتيان وأنس إليهم. ولولا بقية من أصله الرومي كانت تضبط أموره وترده إلى الصواب والحزم، لاندفع مع هذا الحب إلى غير حد، ولألغى بينه وبين هؤلاء الفتيان من أشراف قريش كل حساب.
فلما أقبلوا عليه من ليلتهم تلك لم ينشط لما كانوا ينشطون له، ولم يلقهم بما تعودوا أن يلقاهم به من البشر وطلاقة الوجه، وإنما استقبلهم في شيء من الفتور لم يلبثوا أن أحسوه وشعروا به، ولكنهم لم يظهروا مما أحسوا شيئا. وخلى الرومي بينهم وبين ما أحبوا من شراب ولذة، ومن مجون وعبث، واندفعت المغنيات الثلاث يرددن عليهم أصواتهن الغريبة العذبة، ويوقعن لهم ألحانهن الشجية الحلوة. وجعلوا يسمعون ويعجبون، ويفتنون ولا يفهمون، وجعلوا يستعينون على هذا كله بالإغراق في الشراب، والاستباق إلى الإكثار منه، مسرفين في المزاح، متهالكين على الدعابة، يقول بعضهم لبعض: لن يتأخر قدوم العير بما تقدم إليها الخمار في أن تحمل إليه من نبيذ الشام وفلسطين، فلا ينبغي أن ننصرف عنه الليلة حتى نستنفد ما عنده من نبيذ قديم. وكانوا يلمحون له بدعابتهم، ويلحون عليه بمزاحهم، ويحرضونه على مشاركتهم، فلا يجدون منه إصغاء إليهم ولا انتباها لهم، فيمضون في أمرهم متكلفين أن يلقوا إعراضا بإعراض، وجفاء بجفاء. ولكنهم لا يلبثون أن يحسوا كأن شيئا ينقصهم، وكأن اللهو لا يستقيم لهم، وكأن نفوسهم لا تستجيب لهذه اللذات التي تدعوها فتلح في الدعاء. ولا يشكون في أن انقباض هذا الرجل الرومي عما ينبسطون له هو مصدر ما يجدون من حرج وضيق، ومبعث هذا الفتور الذي أخذ يسعى إليهم شيئا فشيئا، فيلهيهم عن الألحان وأصوات الغناء، ويكاد يصرفهم عما بين أيديهم من هذه الأقداح التي لم تتعود الانتظار.
هنالك يقبلون على صديقهم الرومي لائمين أول الأمر، ثم ملحين في اللوم. فإذا لم يجدوا منه عناية بهم أو استماعا لهم رقوا له ورفقوا به، وتحولوا إليه عن شرابهم وغنائهم، وجعلوا يسألونه سؤال الصديق عما عرض له من أمر، وما نزل به من خطب، وما ألم به من مكره. ويبلغ رفقهم هذا الحلو قلب الرومي فيتأثر به ويلين له، ويتصل بين هؤلاء الفتيان من أشراف قريش وسادتها وبين هذا الخمار الرومي حديث غريب لا ينقضي إلا وقد كاد الليل ينجلي عما كان قد غمر من الأودية والبطاح.
2
قال الخمار الرومي لأصدقائه من شباب قريش: «عزيز علي أن ألقاكم بما لقيتكم به من الفتور، وقد عودتكم أن أكون لكم مكرما، وبكم حفيا. وعزيز علي أن أقصر عما تقدمون عليه من هذه اللذات التي كنت أسابقكم إليها فأسبقكم، وأنازعكم الاستمتاع بها فأكون أوفركم منه حظا وأعظمكم منه نصيبا. وعزيز علي أن يعديكم هذا الفتور ويبلغكم هذا القصور، فتصدون عما تحبون، وتصرفون عما تألفون. ولكن ثقوا أني لم أقدم على ذلك راغبا فيه، وإنما دفعت إليه مكرها عليه.»
قال صفوان بن أمية: «فإنا ما نشك في أنك لم تلقنا بهذا الإعراض والفتور إلا وقد عرض لك من الأمر ما اضطرك إلى ذلك. وقد عودناك أن نفضي إليك بأسرارنا وجلية أمورنا، لا نخفي عليك منها شيئا. فأفض إلينا بدخيلة نفسك وجلية أمرك! فلعلنا أن نكون عند ما تحب من المعونة لك والترفيه عليك.»
قال صاحب الحان: «فإني أخشى أشد الخشية ألا تملكوا لي من هذا الأمر الطارئ شيئا.»
قال صفوان: «إنك ضيفنا وجارنا وصديقنا، وصاحب لذتنا وشريكنا في هذه اللذة. فلسنا لقريش إذا إن بخلنا عليك بالمعونة، أو آثرنا أنفسنا بالأمن والراحة والنعيم من دونك. وإنك لتعرف من قريش قراها للضيف، ووفاءها للجار، وبرها بالصديق، وأداءها للحقوق.»
قال صاحب الحان: «فإن هذا الأمر الطارئ ليس مما تظنون في شيء، وإني لا أدري كيف أباديكم به وأتحدث إليكم فيه، ولو أن الذي عرض لي كان مما تعودتم أن تردوه عن الضيف والجار والصديق لما أبطأت في إنبائكم به وإظهاركم عليه. ولكنه لون آخر من الأمر لم تتعودوا أن تروه، وضرب آخر من الخطب لم تتعودوا أن تشهدوه. وما أدري أتفهمون عني إن تحدثت إليكم بما عرض لي! وما أدري أترضون إن فهمتم ما ألقي إليكم من الحديث أم تسخطون! فإنه أمر غريب حقا! غريب حقا!» ثم أطرق الرومي وترك هؤلاء الفتيان من شباب قريش وقد أخذهم شيء يسير من الوجوم بهذا الحديث الغريب، وجعلوا يتقارضون فيما بينهم ألحاظا قصارا سراعا. ثم رفع الرومي إليهم رأسه، فلما رآهم على هذه الحال ابتسم لهم رفيقا بهم، وقال في صوت هادئ بعيد: «ما أحب لكم أن تصرفوا عن أمر لذتكم إلى هذا الأمر الذي ما أراه يعنيكم من قريب أو بعيد، فعودوا إلى ما كنتم فيه موفورين. ولو استطعت لشاركتكم في اللهو، ولأعنتكم عليه، ولكن نفسي محزونة منذ الليلة حقا!»
قال صفوان: «فإنا لن نتحول عنك إلى لذتنا، ولن ننصرف عنك إلى بيوتنا حتى نعلم علمك، وحتى نرى أقادرون نحن على أن نعينك أم عاجزون عن أن نبلغ من ذلك بعض ما نريد. فاقصص علينا أمرك ولا تبطئ! فإنك قد شوقتنا إلى حديثك هذا الذي تخفيه فتمعن في إخفائه وتلتوي به علينا أشد الالتواء.»
قال الرومي: «إني لا أخفي عليكم شيئا، ولا ألتوي عليكم بشيء، ولكني أدير هذا الأمر في نفسي ولا أعرف كيف أباديكم به.»
قال صفوان وهو يتكلف الضحك: «فبادنا به كيف شئت وعلى أي وجه أحببت! فإني أخشى إن طال بك هذا الصمت وألح عليك هذا الالتواء أن نشق عن صدرك لنرى ما يضطرب فيه من عاطفة، ونشج رأسك لنظهر على ما تدير فيه من رأي وما تجيل فيه من حديث.»
قال الرومي وهو يبتسم: «ما أوفاكم إذا للجار، وأرعاكم إذا للصديق!»
قال صفوان: «فإنك مظهرنا على أمرك طائعا أو كارها! فقد طال منك الصمت، وطال منا الإلحاح، وقد تقدم الليل، وإنا خليقون أن نبقى حولك حتى يدركنا الصبح نسألك ونلح عليك؛ فأرح نفسك وأرحنا من السؤال والإلحاح.»
قال الرومي وهو يظهر ترددا شديدا، ويأخذ نفسه بالعنف لأنه يقدم على أمر عظيم: «فإن الأمر الذي أهمني لا يتصل بي وإنما يتصل بكم.»
قال صفوان: «فذلك أجدى أن تبادينا به وتظهرنا عليه!»
قال الرومي: «فإنه لا يتصل بحياتكم حين تأوون إلى بيوتكم، أو تهرعون إلى هذا الحانوت أو تضطربون في الأرض، وإنما يتصل بآلهتكم.»
ولم يكد هؤلاء الفتيان من قريش يسمعون هذه الجملة حتى اندفعوا إلى ضحك غليظ متصل، ثم سكت عنهم الضحك بعد حين، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض نظر المنكر لما سمع، الساخر منه، في شيء غريب من الفرح والمرح، وفي إشارة إلى الغلام أن يملأ لهم أقداحهم. ثم نظر صفوان إلى صديقه الرومي نظرة لا تخلو من استهزاء يشوبه الإشفاق وقال: «قد كنا نحسب أن التفكير في الآلهة والحديث عنهم أمر مقصور على نفر من قريش تقدمت بهم السن وتقلبت عليهم الحياة، وفرغوا لهذا العبث، فجعلوا يخوضون فيما ليس للناس أن يخوضوا فيه. ولكن الأمر قد تجاوز هؤلاء الشيوخ من قريش إلى جيراننا من الروم. أومستك العدوى إذا؟ أوجعلت تصبو إلى ما يصبو إليه هؤلاء النفر من شيوخنا، وتحرص على أن تمتاز بما يمتازون به من التحرج والتكلف، وإنفاق الجهد فيما لا ينبغي أن ينفق فيه الجهد؟! لقد جفت حلوقنا يا غلام، فأسرع إلى هذه الأقداح فاملأها، وأسرع إلى مولاك بشيء من شراب، فما نرى إلا أن نفسه قد ظمئت، وما نرى إلا أن ظمأ نفسه قد اضطرها إلى هذا الحديث.»
قال الرومي: «أما إنك قد قلت الحق وأنت لا تدري! فإن نفسي لظمئة، وإن ظمأها لأشد مما تظن.»
قال صفوان: «تظمأ وعندك أكرم ما جادت به بيسان من نبيذ!»
قال الرومي: «ما صدفت نفسي قط عن الخمر كما تصدف عنها الآن. إني لشديد الظمأ ولكن إلى شيء آخر ما أرى أنكم تفقهونه أو تفطنون له.»
قال صفوان وهو مغرق في الضحك: «إنك لظمئ إلى ما كانت تظمأ إليه نفس زيد بن عمرو! فقد طلبته جاهدة فلم تظفر به، ولم ترو ظمأها باليقين، وإنما روته بهذا الدم الزكي الذي لم نثأر له بعد، والذي لا بد من الثأر له. وإنك لظمئ إلى ما كانت تظمأ له نفس ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث! فإن ورقة بن نوفل ليقيم منك غير بعيد فتحول إليه واستمع له! فقد يروي نفسك بما وعى من علم النصارى، وما حفظ من سخف الروم. ولكن لا تنس أن تخلي بيننا وبين ما بقي لك من خمر، وأن تحكمنا فيما ستقدم عليك به العير بعد أيام.» ثم تضاحك القوم ورفعوا الأقداح إلى أفواههم، ثم ردوها ولم يذروا فيها شيئا.
قال الرومي: «فأما وأنتم تفقهون أمر هؤلاء النفر من قريش، فما أشك في أنكم ستفهمون عني إن حدثتكم بما يضطرب في نفسي من الأمر. ولقد أسأت بكم الظن، فمعذرة إليكم. لقد رأيتكم لا تحفلون إلا بما يحفل به أترابكم من اللهو، ولا تقبلون إلا على ما يقبل عليه لداتكم من اللذة والنعيم.»
قال صفوان: «فإن لنا على ذلك عقولا تستطيع أن ترقى إلى حكمتك العليا. ولكن ما رأيك في أنها زاهدة في هذه الحكمة، راغبة عنها! فإنا لم نأتك لتتحدث إلينا عن الآلهة، وما ينبغي لغير قريش أن يتحدث عن آلهة قريش. ولقد أطلت فينا المقام، فكنت خليقا أن تعرف من أمرنا أكثر مما عرفت. وما نظنك إلا أدركت شيئا مما لقي زيد بن عمرو، وقد كان أوسطنا نسبا، وأرفعنا حسبا! فخذ في حديث آخر غير حديث الآلهة. فما كنا لنكره ذلك من شيخ قرشي ثم نرضاه من رومي غريب أقبل علينا ليسقينا الخمر ويسمعنا الغناء.»
قال الرومي وقد ظهر عليه بعض الحزن: «ألم أقل لكم إني كنت مشفقا أن يسوءكم حديثي، وإني كنت راغبا عن أن أوذيكم!»
قال فتى من القوم: «فإنك لم تؤذنا وإن حديثك لم يسؤنا، وإنك لم تظهرنا بعد على هذا الحديث. ولكن في صفوان حدة وسرعة إلى الغضب ولا سيما حين يثقل عليه الشراب، فامض في حديثك راشدا، وأشركنا في هذا الهم الذي غير سيرتك منذ الليلة.»
قال صفوان: «ما أدري ماذا عرض لي؛ فإن حديثك لم يسؤني ولم يؤذني، وإنما أخذت في الدعابة حين سمعتك تتحدث عن الآلهة، فما أسرع ما استحالت الدعابة إلى جد مر، فامض في حديثك وخلاك ذم.»
قال الرومي: «أقبلوا على شأنكم، وخذوا في لهوكم، أو تفرقوا إلى بيوتكم فقد تقدم الليل.»
وأحس القوم أن نفس الرومي مقسمة بين الغضب والخوف، فعادوا إلى الرفق به والتلطف له ، حتى ردوه إلى الأمن والهدوء، ثم مضوا يسألونه عن حديثه، ويلحون عليه في أن يتمه.
قال الرومي: «أتعرفون أني نصراني؟»
قال صفوان: «نعرف أنك نصراني كغيرك من الروم، لكنا لم نر منك قط إقبالا على الدين، ولا إمعانا في النسك.»
قال الرومي: «فاعلموا أني لست نصرانيا، أو اعلموا أني لم أخلص للنصرانية قط، وأني لم أقدم على بلدكم هذا النائي البعيد من بلاد الروم لأسقيكم الخمر وأسمعكم الغناء، وإنما أقبلت إليكم مهاجرا بهذه الوثنية التي كنت أخفيها في بلادي من أرض الروم، وأجد في إخفائها جهدا لا يحتمل، وعناء لا يطاق.» فلما سمع القوم من حديث الرومي عجبوا له، وشغفت نفوسهم بالقصة فأصغوا أشد الإصغاء.
قال الرومي: «إنكم لا تعرفون من أمرنا نحن الروم إلا أقله وأيسره. وإنكم لتجهلون وثنيتنا القديمة كما تجهلون نصرانيتنا الحديثة. ولو قد علمتم من أمرنا أكثر مما تعلمون لكان فهمكم عني أعمق وأصدق. إن وثنيتنا القديمة ليست من اليسر والسذاجة بحيث ترون ما أنتم عليه من دين؛ فإن لآلهتنا القدماء أخبارا طوالا، وأنباء غريبة، تكلف بها النفوس، وتألفها القلوب، وتصبو إليها الطباع. وقد كان آلهتنا القدماء أشد اختلاطا بنا، ومعاشرة لنا، واشتراكا معنا في جد الحياة وهزلها من آلهتكم. فلا جرم تمكن حبها في قلوبنا، واختلط بنفوسنا، وجرى مع دمائنا، وكانت حاجتنا إليهم كحاجتنا إلى الهواء الذي نتنفسه، وإلى الطعام الذي نقيم به أودنا، وإلى الشراب الذي ننقع به الغلة ونبل الصدى، وإلى المعرفة التي نغذو بها عقولنا، ونرقي بها قلوبنا، وننقي بها طباعنا من الأوضار والآثام. فلما جاء الدين الجديد، ضقنا به أشد الضيق، ونفرنا منه أشد النفور، وقاومناه أعنف المقاومة وأقساها، وضحينا في سبيل آلهتنا القدماء بكثير جدا من النفوس والدماء والأموال أكثر مما تستطيعون أن تتصوروا. ولكن الإله الجديد كان أقوى من آلهتنا وأعظم سلطانا؛ فلم تثبت له الآلهة، وإنما انهزمت أمامه وفرت من معابدها وهياكلها، وأذعن أكثرها لهذا الإله الجديد، ووفى أقلنا لأولئك الآلهة المشردين. وقد نشأت في أسرة من هذه الأسر التي توارثت الوفاء لأولئك الآلهة، والتي كانت تؤدي النصرانية لقيصر كما تؤدي له الضريبة التي يفرضها على الأموال، فإذا خلت إلى نفسها وفت لآلهتها، وأخلصت لها الدين محتاطة متحرجة، بالغة من التحرج والاحتياط أقصى ما كانت تستطيع أن تتحمل. ولكن قيصر قد اشتد في دينه. ولم يكتف من رعيته بالطاعة الظاهرة، وإنما أراد أن يخلص إلى دخائل النفوس وضمائر القلوب، وأن يحاسب الناس على آرائهم كما يحاسبهم على أعمالهم. فلقينا من ذلك جهدا أشد الجهد، وعنتا أعظم العنت، حتى تحول كثير منا عما كان يضمر من حب آلهتنا. وإنا لفي ذلك العناء وإذا أنا أسمع حديثا عن بلدكم هذا يغريني به ويدفعني إليه، ويخيل إلي أن آلهتنا قد هاجروا من بلاد الروم إلى العرب، فأقاموا فيها، وفرغوا لأهلها يبسطون عليهم من سلطانهم العذب ما كانوا يبسطونه على الروم.»
قال صفوان: «وما ذاك الحديث؟»
قال الرومي: «حديث ذلك الجيش النصراني الحبشي الذي أقبل على بلدكم هذا ليهدمه ويدمره، مقدما بين يديه فيله العظيم. فما كاد يدنو من حرمكم هذا حتى رد عنه أقبح الرد وأشنعه، وحتى سلطت عليه تلك الطير التي مزقته تمزيقا.»
قال صفوان: «فإن رب الحرم قد ذاد العدو عن الحرم، ما نجد في ذلك غرابة ولا عجبا.»
قال الرومي: «أما نحن فقد وجدنا فيه الغرابة كل الغرابة، والعجب كل العجب، وأولناه ألوانا من التأويل. فأما رهباننا وأحبارنا فقد فهموا منه شيئا آخر. ظن الأحبار والرهبان أن هذه آية قدمتها السماء بين يدي آيات أخرى أكبر منها وأعظم خطرا. وظن الأحبار والرهبان أن أمور الناس ستتغير وتتبدل، وأن ما أنزل على اليهود والنصارى من الدين سيتم في هذا البلد الذي رد عنه الفيل. وظننا نحن كما قلت لكم أن آلهتنا قد هاجروا إلى هذا البلد، وأنهم قد ردوا جيش الحبشة والروم عنه، كما ردوا جيش الفرس عن بلاد اليونان منذ قرون. وتمتلئ نفسي بحب الآلهة، وتطمئن نفسي إلى هذا التأويل، وتحدثني نفسي بالهجرة إلى بلادكم لألقى فيها آلهتنا ، ولأرى فيها تماثيلهم، ولأعبدهم حرا، وأتقرب إليهم، مظهرا ذلك لا مستخفيا به ولا محتاطا فيه. وأفكر في الرحلة إلى هذه الأرض، وفي الحياة التي سأحياها في هذا البلد، وفي رزقي كيف أكسبه. فأتصل بالذين كانوا يفدون على بلادنا من تجاركم، فأعلم منهم علم هذه البلاد ومن يعيش فيها من الناس، وأقدم مع بعض قوافلكم تاجرا أسقيكم خمر الروم، وأسمعكم غناء الروم. وإن لي في بلادكم لأربا غير هذا وذاك. وما أخفي عليكم أني لم أبلغ بلادكم ولم أستقر في أرضكم حتى أدركتني خيبة الأمل، وحتى جعلت نفسي تحدثني بأن الأحبار والرهبان ربما كانوا أدنى مني إلى الحق، وأقرب مني إلى الصواب؛ فقد رأيت تماثيل آلهتكم، ورأيت سيرتهم فيكم وسيرتكم فيهم، فلم أعرف من هذا كله شيئا، ولم تعطف نفسي على صنم من هذه الأصنام القائمة، ولم يمل قلبي إلى وثن من هذه الأوثان المنصوبة، ولم يرتب ضميري في أن آلهتنا قد هاجروا من بلاد اليونان لا ليستقروا في بلاد العرب، ولكنهم مضوا إلى وجه من الأرض أو من السماء لا نعرفه ولا نهتدي إليه.
هنالك أخفيت أمري في مكة كما كنت أخفيه في طرسوس، وأظهرت لكم نصرانيتي هذه الرقيقة كما كنت أظهرها في أرض قيصر، وفرغت للتجارة واستثمار المال، فجعلت أسقيكم الخمر، وأسمعكم الغناء، وأفيد منكم مالا كثيرا. ولكنكم أخذتم منذ حين في هدم بيتكم هذا وتجديد بنائه، فكان ذلك مصدر ما أنا فيه من الاضطراب.»
قال صفوان: «وما ذاك؟»
قال الرومي: «ألم تفكروا في أصنامكم هذه القائمة حول هذا البيت والمسندة إليه ما عسى أن تصنعوا بها أثناء الهدم والبناء؟»
هنالك نظر بعض القوم إلى بعض نظرة لا تخلو من معنى. وقال صفوان: «وماذا كنت تريد أن نصنع بها غير ما صنعنا؟!»
قال الرومي: «لم أكن أريد شيئا، وإنما كنت أنتظر.»
قال صفوان: «كنت تنتظر كما كنا ننتظر أن تتحول الآلهة عن أماكنها، وأن تبهرنا بانتقالها إلى حيث تأمن معاول الهادمين. ولكن الآلهة لم تتحول فحولناها، ولم تنتقل فنقلناها . وإذا تم البناء فسنرد ما نقلناه منها إلى أماكنها الأولى. فماذا تنكر من ذلك؟! إنا لم ننكر منه شيئا.»
قال الرومي: «فقد كنتم تنتظرون من الآلهة مثل ما كنت أنتظر؟»
قال صفوان ضاحكا: «ولكن الآلهة لم تحقق آمالنا، ولم تفعل ما كنا ننتظر منها. أفنكره الآلهة على ما لا تريد! يا غلام! قد جفت حلوقنا فاملأ الأقداح.»
ثم التفت إلى الرومي وهو يقول: «إنك لتعني نفسك بأيسر الأمر وأهونه. إن أخص ما يميز الآلهة أنهم يفعلون ما يريدون هم لا ما نريد نحن.»
قال الرومي: «ولكنهم لم يفعلوا شيئا.»
قال صفوان: «فمن حقهم ألا يفعلوا، كما أن من حقهم أن يفعلوا.»
قال الرومي: «فإذا أتممتم بناءكم وبدا لكم ألا تردوا آلهتكم إلى أماكنها، أفتراها ترتد إليها على رغمكم؟»
قال صفوان: «ما أدري وما يعنيني من ذلك شيء. انتظر حتى يتم البناء؛ فإن رأيت الآلهة قد ارتدت من تلقاء نفسها إلى أماكنها فقد ظهرت لك جلية الأمر. وإن رأيتنا نحن نردها إلى أماكنها كما حولناها عنها، فاعلم أنها قد أخذتنا بذلك وأرادتنا عليه. وإن رأيتها قائمة حيث وضعناها ورأيتنا نتركها حيث هي فاعلم أنها تريد ذلك، وتطمئن إلى أماكنها الجديدة. وأرح نفسك كما نريح أنفسنا من التفكير في الآلهة، واشغل نفسك كما نشغل أنفسنا عن أمور الآلهة بأمور الناس، وعن حركات الآلهة بحركات هؤلاء الإماء الثلاث اللاتي يوقعن ويغنين فيكلفننا من أمرنا شططا.»
وتفرق هؤلاء الفتيان من قريش عن صاحبهم الرومي آخر الليل، وإن بعضهم ليقول لبعض: ويلكم! لقد فطن هذا الرومي لما فطنتم له. ولئن جاز لنا نحن أن نشك في آلهتنا أو نسخر منها، فما ينبغي أن يجوز ذلك لرومي يسقينا الخمر ويسمعنا الغناء. ويلكم! ارفعوا ذلك إلى الملأ من قريش! ليدبروا أمرهم وأمر الآلهة! فإنه في حاجة إلى التدبير، وليحتاطوا أن يشيع هذا الشك في عامة الناس وضعفائهم، وفي هؤلاء الأجانب الذين يملئون مكة من الفرس والحبش والروم.
ولكنهم راحوا على صاحبهم الرومي من الغد ليستأنفوا عنده لهوهم ولذتهم، فلم يجدوه ولم يجدوا إماءه الثلاث، وإنما وجدوا حانوتا خاليا إلا من دنان وزقاق كان فيها فضل من شراب.
3
واستقر حديث الرومي في نفوس هؤلاء الفتيان، وما أدري أتحدثوا به إلى الملأ من قريش أم أخفوه عليهم، ولكنهم لم ينسوه على كل حال، وإنما جعلوا ينتظرون أن يتم بناء البيت، ويتساءلون إذا التقوا، كما يسأل كل واحد منهم نفسه منفردا: ماذا عسى أن يصنع الآلهة ليعودوا إلى أماكنهم؟ أيسعون إلى هذه الأماكن ليستقروا فيها، أم ينقلون إلى هذه الأماكن محمولين على الأيدي والأعناق كما حولوا عنها محمولين على الأيدي والأعناق حين أخذت قريش في هدم البيت؟
وليس من شك في أن الملأ من قريش قد فكروا في هذا الأمر كما فكر فيه الشباب، وانتظروا من الآلهة مثل ما انتظر الشباب. ولكن شيوخ قريش كانوا أمكر وأمهر من أن يظهروا من تفكيرهم شيئا. وكانوا أضبط لأمورهم وأملك لعواطفهم من أن يظهروا الشباب وضعاف الناس على ما خالط قلوبهم من ريب، وشاع في نفوسهم من شك، حين رأوا آلهتهم ينقلون كما ينقل المتاع، ويرصون في أماكنهم الجديدة كما يرص الأثاث. ومهما يكن من شيء فقد أتمت قريش بناء البيت، وانتظرت بالآلهة يوما ويوما، فلما لم تجد منها إرادة ولا حركة ولا تحولا إلى أماكنها ردتها إلى تلك الأماكن ردا، وحملتها إليها حملا. واستقر في نفوس الشيوخ والشباب شك عظيم. وربما ظهر الأمر ببعض أولئك الشيوخ والشباب إلى ما هو أبعد من الشك والريب، وأدنى إلى الجحود والإنكار.
ولكن محنة قريش في آلهتها لم تقف عند هذا الحد الذي قد يفطن له أذكياء القلوب، وأصحاب العقول النافذة والأحلام الراجحة، ولكنه يخفي عادة على الدهماء ويجل عن أن تعرفه عامة الناس، وإنما جاوزته إلى شيء خطير رأت فيه قريش خطبا عظيما وافتضاحا منكرا لما لم يكن ينبغي أن يفتضح من أمر الآلهة. فقد أسندت قريش من آلهتها إلى البيت ما أسندت، وأقامت قريش من آلهتها حول البيت ما أقامت، وخيل إليها أن قد فرغت من هذا الجهد الشاق، وخلصت من هذا العناء الثقيل. ثم اجتهد الأشراف والسادة في أن شغلوا عامة الناس ودهماءهم عن التفكير في جمود الآلهة وقصورهم، فأقاموا الأعياد، وأكثروا من التقريب للآلهة، وأسرفوا في أموالهم ليطعموا الفقراء والبائسين، وألحوا في ذلك وقاموا عليه حتى تجاوز كرمهم أهل مكة إلى من كان يضرب حولها من الأعراب الذين جعلوا يقدمون على مكة، يلتمسون فيها حظوظهم من هذه الإبل والشاء التي كانت تقرب إلى الآلهة في غير انقطاع. ولكن قريشا تصبح ذات يوم فتغدو على البيت فترى، ويا هول ما ترى! ترى آلهتها مجدلين قد صرعوا حول البيت تصريعا، منهم المستلقي على ظهره، ومنهم المنكب على وجهه، ومنهم المضطجع على أحد جنبيه وما أصف لك شيئا مما ملأ قلوب قريش من الروع والهلع! فأنت قادر على تصور ذلك إذا قدرت إعظام العامة لآلهتها، وحرص الخاصة على ما ينبغي لهؤلاء الآلهة من جلال ووقار.
وتقبل قريش على آلهتها فتردهم إلى أماكنهم، وتقرهم في مواضعهم، ثم تستشير وتستخير وتدبر بينها ألوان الرأي، ثم يستقر الأمر بينها على أن الآلهة لم يرضوا بعد عما نحر لهم من ضحايا وما سفك حولهم من دماء. فتستأنف قريش ما كانت قد أخذت تعرض عنه من التضحية والتقريب، وهذه الإبل تنحر، وهذه الشاه تذبح، وهؤلاء الفقراء ينعمون بعيش رغد وسعة متصلة. ولكن قريشا تصبح من الغد فإذا آلهتها مجدلون حول البيت، قد فعلت بهم الأفاعيل!
ويعظم لذلك هم قريش، وتمتلئ لذلك قلوب قريش حزنا وأسى، منهم الصادق المخلص، ومنهم المشفق الماكر، ولكنهم على كل حال يقيمون الأصنام، ويجددون التضحية، ويستشيرون الكهان ويجدون في البحث والاستقصاء، لعل في مكة قوما يمكرون بالآلهة، ويدبرون للحرم وأهله كيدا. وقد أقاموا الحراس حول البيت أثناء النهار، فلم ير الحراس شيئا ينكرونه. وأقاموا الحراس حول البيت آناء الليل، فقاموا حذرين أيقاظا ينتظرون، ولكن انتظارهم لم يطل وإنما هو انتصاف الليل وتقدمه بعد ذلك شيئا، وإذا بضجيج يسمع، وأصوات تقرع الآذان. وينظر الحراس فيرون - ويا هول ما يرون! - الآلهة وقد صرعوا حول البيت تصريعا، فيفرون وقد ملكهم الخوف واستأثر بهم الفزع.
وقد أشار الكهان على قريش بأمر عظيم وقفت له القلوب فما تخفق، وجمدت له الدماء فما تجري، ووجمت له النفوس فما تستطيع روية ولا تفكيرا، وهلعت له النساء في البيوت، وأشفق منه سكان مكة جميعا إشفاقا عظيما! فقد زعم الكهان لقريش أن لحوم الإبل والشاء ودماء الإبل والشاء ما كانت لترضي الآلهة بعد أن حولت عن أماكنها، وبعد أن هدم بيتها وأعيد بناؤه! ولا بد من أن يقرب إلى الآلهة لون آخر من القربان يقنعهم بأن عبادهم من قريش لا يجودون عليهم بالأموال وحدها، وإنما يتقربون إليهم بالأنفس أيضا. وقال الكهان لقريش: يجب أن تقربوا لآلهتكم من أجيالكم الثلاثة رجلا وامرأة قد تقدمت بهما السن حتى أشرفا على الموت، وفتى في نضرة الشباب، وصبيا وصبية من الأحداث. فإن لم تفعلوا فما ندري ماذا يصنع الآلهة؛ فإنهم لم يفعلوا إلى الآن أكثر من أن قدموا إليكم النذر، فأسرعوا إلى إرضائهم! فإنا نخشى أن تسوء العاقبة، وأن تصبحوا فلا تروا آلهتكم بينكم، وألا تمضي بعد خروجهم عنكم أيام حتى يسلط عليكم شر عظيم. ولو استمع الملأ من قريش لما كانت تضطرب به نفوس الدهماء وعامة الناس لأطاعوا أمر الكهان، ولتقربوا إلى آلهتهم بهذا الإثم المنكر. ولكن الملأ من قريش كانوا أمكر من ذلك وأمهر، وكانوا أحزم من ذلك وأعزم! فقد خلصوا نجيا ذات ليلة في دار ندوتهم، وجعلوا يتشاورون ويديرون أمرهم بينهم. وليس من شك في أنهم قد تلاوموا وتلاحوا، وألقى بعضهم على بعض تبعة ما كان من هدم البيت وتجديد البناء، ولكنهم كانوا مجمعين أمرهم على ألا يذعنوا لما يأخذهم به الكهان، ولا يقدموا إلى آلهتهم أبناءهم وبناتهم وأن أمر الآلهة في نفوس هؤلاء الشيوخ الذين عركتهم التجارب لأهون من ذلك وأيسر. ولكن الملأ من قريش ينظرون فإذا بينهم رجل غريب ينكرونه، ثم لا يلبثون أن يعرفوه، شيخ قد تقدمت به السن، واتخذ زي النجديين، لم يكن بينهم حين اجتمعوا ولكنه ظهر فيه فجأة، لا يدرون من أين أقبل وهم قد أقاموا على الباب حراسا يمنعون أن يقتحمه أحد أو يدنو منه أحد. ولكنهم يذكرون أنهم قد رأوا هذا الشيخ النجدي ذات يوم حين أمضى الأمين حكمه فيهم، وحين وضع الأمين الركن الأسود في موضعه من البيت. رأوه يريد أن يشارك في البناء فيرد عن ذلك ردا عنيفا، فيظهر السخط ويعلن النذير، ثم يستخفى فلا يظهرون له على أثر. فلما رأوه من تلك الليلة أقبلوا عليه يسألونه من أين جاء؟ ومن عسى أن يكون؟ فلا يرد على سؤالهم هذا جوابا، وإنما يقول لهم في صوت نحيف بعيد: «لقد أخذت النذر تتحقق يا معشر قريش. ألم أنهكم عن أن تحكموا بينكم رجلا كان أصغركم سنا، وأقلكم مالا، وأشدكم إعراضا عن آلهتكم، وأبعدكم من الاحتفاء بهم والإكرام لهم! فقد أبيتم إلا أن تفعلوا، وغضبت الآلهة مما فعلتم. وما أرى أن أموركم تستقيم إلا إذا نقضتم بناءكم شيئا، فأخرجتم الركن من موضعه، ثم رددتموه إليه بعد أن تضحوا لآلهتكم بمن أمركم الكهان أن تضحوا بهم. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الآلهة، لا قبل لكم بها ولا قدرة لكم عليها. والخير يا معشر قريش أن تريحوا أنفسكم من هذا الأمين؛ فإنكم إن أبقيتم عليه لم يبق عليكم، وإن مددتم حياته لم يلبث أن يجذم حياتكم جذما.»
ويسمع الملأ من قريش حديث هذا الشيخ مرتاعين له، حتى إذا انقطع الصوت وهموا أن يحاوروا صاحبه نظروا فلم يجدوه بينهم، وكأنه لم يدخل عليهم ولم يتحدث إليهم.
هنالك تمتلئ قلوب القوم حيرة، ويكادون يصرفون عما كانوا فيه إلى السؤال عن هذا الشيخ: من أين جاء؟ ومن عسى أن يكون ولكن الوليد بن المغيرة يقول في صوت هادئ مطمئن: «ويحكم يا معشر قريش! ما أرى إلا أن الشيطان يريد أن يعبث بكم، ويصرفكم عما ألفتم وعما ألف الناس فيكم من الحزم والعزم، ومن الأناة والوقار. إنه الشيطان يا معشر قريش، ما أشك في ذلك! إنه قد ظهر بينكم ثم استخفى عليكم. وإنه قد أنذركم بالشر، ودعاكم إلى أمر فظيع. أرأيتكم يا معشر قريش إن أخرجتم الركن عن موضعه، تستطيعون أن تردوه دون أن يشجر بينكم الخلاف، وتستيقظ فيكم الفتنة، وينصب بعضكم لبعض الحرب، ويدعو بعضكم بعضا إلى القتال؟ هل أنتم يا معشر قريش إن استمعتم لهذا المشير الخائن، والنصيح الغاش، فبطشتم بالأمين أو حاولتم البطش به، إلا مضيعون للحق، مهدرون للرحمة قاطعون للرحم، تجزون الخير بالشر، والمعروف بالمنكر! فقد حقن الأمين دماءكم، وهذا الشيطان يدعوكم إلى أن تهدروا دمه. وقد أقر الأمين فيكم السلم، وهذا الشيطان يدعوكم إلى أن تثيروا بينكم وبين قومكم الحرب. لا والله ما دلكم هذا الشيطان إلا على الغي، ولا دعاكم إلا إلى الإثم. ردوا عليكم فضل أحلامكم، ولا تكبروا من أمر هذه الأحجار غير كبير. إني والله ما أراها كلها تعدل قطرة من هذه الدماء التي ترادون على أن تسفكوها. أي أسرة من أسر قريش تريدون أن تفجعوها في كبيرها أو صغيرها؟! أيكم تطيب نفسه يا معشر قريش عن هذه التضحية بابنه أو بنته، وبأبيه أو أمه؟! إنكم لم تنسوا بعد قصة عبد المطلب وابنه عبد الله، لقد كدتم تبطشون به؛ لأنه كان يأبى إلا أن يضحي بابنه للآلهة. فإنكم لا ترادون الآن على أن تضحوا بواحد من قريش، وإنما ترادون على أن تضحوا بستة من خيركم. لا تسمعوا لهذا اللغو! وأمر هذه الأحجار أيسر عليكم وأهون في نفوسكم مما تظنون، ومما يخيل إليكم الشيطان.» قال أمية بن خلف: «مهلا يا وليد! إنك لتقول الحق، وتدعو إلى الرشد. ولكن خفض من صوتك، ولنكتم على الناس هذا الحديث! فإنه إن ذاع لم ينتج لنا إلا شرا، والأمر بعد ذلك في حاجة إلى التدبير. فما ينبغي أن يروح الناس عن آلهتهم وهم قائمون، ثم يغدوا عليهم وهم مجدلون.»
قال الوليد: «ما أرى إلا أن هذا الشيطان يعبث بنا وبهذه الأحجار، يتخذها أسبابا ووسائل لكيد يدبره، وشر يقدره. يقيمها أثناء النهار ، وينيمها إذا جن الليل.»
قال أمية: «فاقترح علينا وسيلة نخلص بها من كيد الشيطان، ونكره بها الآلهة على أن يظلوا ويبيتوا كما عرفهم الناس قائمين، غير نائمين ولا مجدلين.»
قال الوليد: «كلوا إلي أمر هؤلاء الآلهة، فعلي أن أجد لكم منه مخرجا.»
وتفرق الملأ من قريش وهم لا يدرون ماذا يريد الوليد أن يصنع. ولكن الوليد غدا على ذلك البناء القبطي الذي أقام لهم البيت، فاستشاره في ذلك، وأفضى إليه برأيه جليا صريحا في هذه الأحجار. فلما سمع منه «باخوم» أطرق شيئا، ثم قال مبتسما: «هلا صنعتم بآلهتكم ما نصنع نحن بما نريد تثبيته من البناء!»
قال الوليد: «وما ذاك؟»
قال باخوم وهو لا يملك نفسه من الضحك: «شدوا آلهتكم إلى أماكنها بأسباب من الرصاص.»
قال الوليد: «هو ذاك!»
والغريب أن أصنام قريش ثبتت في أماكنها واستقرت في مواضعها بعد هذه الحيلة، وعجزت عن أن تخلص من قيودها الرصاصية تلك، فلم ترها قريش بعد ذلك إلا قائمة مكانها، حتى كان يوم من الأيام رأتها فيه وقد حطمت تحطيما.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي
صلى الله عليه وسلم
يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: «جاء الحق، وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.» فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع إلى قفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعي في ذلك:
وفي الأصنام معتبر وعلم
لمن يرجو الثواب أو العقابا
الفصل الخامس
نادي الشياطين
أطبق على الفضاء العريض ليل عريض، تكاثفت ظلماته وركب بعضها بعضا، حتى لتوشك الأيدي أن تلمسها، وحتى لتعجز أضواء النجوم أن تنفذ من بعضها، وحتى لو رآها الناس لأنكروها، ولقال بعضهم لبعض: هذا آخر ليل تعرفه الأرض، أو هذا هو الليل الأبدي الذي لن تخرج الأرض منه ولن يمسها بعده الضوء. ولكن الناس لم يروا مثل هذا الليل العميق الكثيف شيئا، وإنما رأوا ليلهم كما تعودوا أن يروه، يترقرق فيه ضوء القمر، وتتألق فيه أشعة النجوم. ثم كأن عمق هذا الليل وكثافته لم يكفيا ليحجبا السماء عن ذلك الفضاء العريض، فإذا قطع من السحاب تقبل من كل صوب في زمجرة وزئير حتى تلتقي وتنعقد، فتضيف عمقا إلى عمق، وكثافة إلى كثافة، وكأن الأسباب قد قطعت في هذا الردح من الزمان بين الأرض والسماء.
في هذا الفضاء العريض القاتم الذي لا تستطيع لغة الناس أن تصف سعته وظلمته، جلس إبليس لأعوانه ومشيريه من الشياطين. وما هي إلا أن أقبلوا إليه خفافا لطافا، كأنما كان يحملهم نسيم من نار مظلمة. فلما انتهوا إليه وأطافوا به قال لهم في صوت خفي: «لقد علمتم ما ألم بهذه الأرض من خطب، وما نزل بأهلها من حدث، وما كان من تحولهم عما ألفنا منهم منذ قرون، فأشيروا.»
قالوا: «تكبرت أن نشير عليك، وإنما منك الأمر وعلينا الطاعة.»
قال مستخذيا: «ما غمضت علي الأمور قط كما غمضت علي الآن. وما عميت علي الأنباء قط كما عميت علي الآن. وما عودتكم أن أسألكم عن شيء أو أستشيركم في شيء. ولولا أن الغيب قد حجب عني لأول مرة ما دعوتكم ولا استشرتكم.»
قالوا: «تكبرت! لئن حدب الغيب عنك لهو أحرى أن يحجب عنا. وإنا منذ الليلة لفي ظلمة دامسة لم نعهد مثلها قط، وإنا لنتحدث فما تكاد أصواتنا تبلغنا. ولولا أنك كبير في نفوسنا لأشفقنا ألا تبلغك أصواتنا.»
قال: «لا تراعوا ولا يخرجكم الفزع عن أطواركم! فإن أصواتكم تبلغني كما يبلغكم صوتي. وما هذه الظلمة الدامسة إلا من عملي وكيدي. فقد ألقي في روعي أن من الخطر كل الخطر أن نتشاور أو ندير أمرنا بيننا دون أن نقيم بيننا وبين السماء حجبا كثافا.»
قالوا: «تكبرت أن يرد عليك رأي أو يخالف لك عن أمر! فقل نستمع، وادع نستجب، ومر ننفذ إلى طاعتك أسرع مما تنفذ السهام إلى رميتها.»
قال: «على رسلكم حتى يثوب إلي الرسل الذين بثثتهم في أقطار الأرض، وبعثتهم في أجواز السماء ليعلموا لي علم هذا الخطب. فما أرى إلا أن حادثا عظيما محدق بالأرض وسكانها.» وما أتم إبليس هذه الجملة من حديثه حتى جعل شرر دقيق سريع ينفذ من هذه الظلمات المتكاثفة في قوة، ويتبع بعضه بعضا في عنف وازدحام، يأتي من كل وجه، ويقبل من كل صوب، حتى ريع الشياطين، وخيل إليهم أن السماء تمطرهم نارا.
قال إبليس: «ما أرى إلا أنكم قد فقدتم صوابكم، وفارقتم أحلامكم، وجعلتم ترتاعون لغير روع. ما إشفاقكم من هذا الشرر وإنكم لترون فيه صور أنفسكم! انظروا! هؤلاء الرسل يقبلون من أقطار الأرض، ويهبطون من أجواز السماء، يحملون إلينا أخبار الأرض وأنباء السماء.»
وما هي إلا لحظة حتى عادت الظلمات إلى كثافها، وانعقدت كهيئتها قبل أن يقبل هذا الوابل من الشرر، كأنما كانت قطعا من أدم أسود صفيق شقت لهذا الشرر حتى نفذ منها، ثم انعقدت عليه تحوطه وتحميه. وما هي إلا أن يتمثل هذا الشرر أشخاصا خفافا لطافا لها أصوات خفاف لطاف كصوت إبليس ومن كان حوله من الشياطين. وإذا أحدها يتقدم واجفا خائفا، حتى إذا كان من إبليس غير بعيد انحنى يظهر الطاعة والإكبار، وقال في صوت هامس كأنه هفيف النسيم: «تكبرت! قد أفزعنا وروعنا ورمينا بالشهب، ورددنا عن مقاعدنا من السماء، فما لنا إلى استراق السمع من سبيل.»
قال إبليس: «تعست! لم تنبئنا بشيء لا نعرفه. فأين الرسل الذين أرسلتهم يستقصون الأنباء؟»
قال الشخص الماثل: «تكبرت، إنما أتكلم عنهم، أنطق بلسانهم. لقد انتشرنا في أجواز الجو من كل وجه، وارتفعنا نحتال في ذلك ما وسعتنا الحيلة، وخلى بيننا وبين الارتفاع حتى غرتنا الأماني، وخيل إلينا أنه قد رد الشر عنا. وما نكاد نبلغ مقاعدنا حتى تصب السماء علينا وابلا من شهب مهلكة. وما أدري كيف خلصنا إليك ؛ فقد احترق أكثرنا قبل أن يبلغ الأرض. وما أرى إلا أن السماء قد أبقت علينا لننفذ إليك فنبلغك ما ألم بنا من خطب، وما نصب لنا من حرب، وما هيئ لنا من نكاية وكيد.»
قال إبليس: «فأين الذين أرسلتهم إلى أقطار الأرض يحملون إلي أخبارها؟»
قال قائل خفيف لطيف في صوت هامس كأنه هفيف النسيم: «تكبرت! ها نحن هؤلاء نقبل عليك لا نحمل من الأنباء إلا ما يملأ قلوبنا هلعا وجزعا. لقد طرد إخواننا من أجواف الأصنام، وحيل بينهم وبين شهود الضحايا والقربان في هذا الوجه الذي تعرفه من وجوه الأرض. ما يكاد أحد منهم يستقر في جوف صنم من هذه الأصنام إلا أخذه العذاب من كل وجه، وضاق به هذا المكان الذي كان يتسع له، وأخذت عليه الطرق والمنافذ، كأنما يدفع به إلى الموت دفعا. فمنا من كان ينفذ من أفواه الأصنام. ومنا من كان ينفذ من آذانها، ومنا من كان ينفذ من أنوفها، نجد في ذلك أشد الجهد وأشق العناء.»
قال إبليس مغيظا محنقا: «ويلكم! إنما أدرككم الجبن، وأعياكم الجهد، وعجزتم عن الاحتمال. إنما تفرون من عذاب إلى عذاب، لن تلقوا عندي خيرا مما لقيتم هناك!»
قال الشخص الماثل: «تكبرت! ما جبنا ولا فشلنا، ولكنا آثرنا أن نأتيك بالأنباء، ونحن صائرون إلى ما تحب، وعائدون إن شئت إلى تلك الأصنام لنقيم في غير مقام، ونستقر في غير مستقر؛ فذلك أهون علينا وآثر عندنا من غضبك.»
قال إبليس: «فأين النساء؟»
قال الشخص الماثل: «تكبرت! كن أشجع منا نفوسا، وأقدر منا على الاحتمال، فآثرن البقاء فيما يكتنفهن من ضيق، حتى يبلغهن أمرك، أو يأتيهن الموت.»
قال إبليس: «ولم يخزكم ما رأيتم من صبرهن واحتمالهن؟!» ثم سكت قليلا، ثم قال: «بم يدعوك هذا الحي من قريش؟»
قال الشخص الماثل: «يدعونني هبل.»
قال إبليس: «ويزعمون أنك أكبر آلهتهم، فعد إلى مكانك مدحورا مخذولا، لأؤمرن عليكم النساء منذ الليلة، ولأعقدن لواءكم للعزى.»
ثم عاد إبليس إلى صمته، وإن الظلمة لتضطرب من حوله اضطرابا شديدا، كأنما جرى الخوف في طبقاتها، فبعث فيها رعدة غريبة تقشعر لها الأرض اقشعرارا. ثم قال إبليس بعد هنيهة: «فأين الذين كلفتهم أن يحملوا إلي من تراب الأرض؟»
قالت أصوات مختلطة: «ها نحن هؤلاء.»
ثم جعل كل واحد منهم يدنو فيرفع إلى وجه إبليس قبضة من تراب فيشمها، ثم يشير إلى صاحبها أن ألقها فيفعل. حتى إذا دنا منه أحد هؤلاء الرسل وقرب إلى أنفه قبضة التراب التي كانت في يده، لم يكد يشم ريحها حتى أخذه ذعر شديد، فنهض قائما وهو يقول في صوت المرتجف المغيظ: «هو ذاك! هو هذا الوجه من بلاد العرب، قد ألم به الحدث العظيم. هو هذا الحي من قريش، قد فسد الأمر فيه علينا أشد الفساد.»
قالت الأصوات واجفة خائفة: «تكبرت! فماذا تأمرنا أن نفعل؟»
قال: «سنرى.» ولكنه لم يكد ينطق بهذه الكلمة حتى صعق، وصعقت الشياطين من حوله، وانجابت الظلمة في أيسر من لحظة، وأشرقت الأرض بنور عظيم وصل بينها وبين السماء، ولصق الشياطين بأديم الأرض كأنهم ذرات من تراب، وامتلأت أقطار الجو بصوت مهيب، ولكنه عذب يقول: «ألا إن الكتاب قد بلغ أجله. ألا إن أحمد قد نبئ منذ الليلة.»
ثم ينقبض الضوء مرتفعا إلى السماء، ويتجرد الليل القاتم من ثوبه المشرق، ويعود الفضاء العريض كهيئته حين كانت تطبق عليه الظلمة الكثيفة. وتمضي لحظات قد هدأ فيها كل شيء، وإذا صوت خفيف لطيف كهفيف النسيم يضطرب في الجو قائلا: «ويلكم! هبوا! فقد آن للجن أن ينصرف عنكم، وآن لقلوبكم أن تبرأ من الفرق.»
وهذه الأصوات تنبعث من أديم الأريض كأن كل ذرة من ذرات التراب قد استحالت إلى شخص يسمع ويبصر ويتحرك ويريد. وهذا إبليس قد اتخذ مكانه من أعوانه ورسله، وهو يلقي إليهم الأمر، ويبعث فيهم النشاط، ويوكلهم بأقطار الأرض، ويأخذهم بأن يكونوا أشد حذرا، وأكثر احتياطا، وأعظم إغواء للناس. ثم يتجه إلى جماعة منهم قائلا: «أما أنتم فاكفوني شر هؤلاء الأحبار من يهود، وهؤلاء الرهبان من النصارى؛ فقد أخذوا منذ حين يفقهون التوراة والإنجيل، ويتحدثون إلى عامة الناس بما لم يكونوا يتحدثون به من قبل. فكفوهم عن ذلك ما وجدتم إلى كفهم سبيلا، واحملوهم على أن ينكروا ما عرفوا، ويجحدوا ما قالوا، واملئوا قلوبهم زيغا، وعقولهم ضلالا.»
ثم يلتفت إلى جماعة أخرى قائلا: «وأما أنتم فارجعوا إلى حيث كنتم من هذا الوجه من العرب، وليأخذ كل منكم مكانه في جوف صنمه لا يفارقه حتى يأتيه أمري.»
ثم يلتفت إلى سرب آخر قائلا: «وأما أنتم فبيتوا قريشا من ليلتكم، وليلزم كل واحد منكم رجلا منهم نائما ويقظان، ساكنا ومضطربا في الأرض. وإياي وأن يفلت منكم أحد من قريش! واعلموا أن من أفلت منه صاحبه فلن يجد عندي إلا عذابا تعرفونه، وما تحتاجون إلى أن أذكركم به أو أدلكم عليه.»
وقد أخذت الظلمة ترق، وقد أخذ السحاب يتفرق وينجاب، وقد أخذت أشعة النجوم تبلغ الأرض، وقد أخذ ضوء القمر يترقرق في الجو، وقد خفت الصوت، وسكنت الحركة، واستقر كل شيء. ثم أصبحت قريش فغدت على أعمالها كأنها لم تنفق ليلة نادرة في ليالي الدهر، إلا خديجة بنت خويلد! فقد أقبل عليها زوجها مرتاعا سعيدا، ينبئها بالنبأ العظيم.
قال ابن سعد: «أخبرنا علي بن محمد، عن سعيد بن خالد وغيره، عن صالح بن كيسان: أن خالد بن سعيد قال: رأيت في المنام قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
ظلمة غشيت مكة، حتى ما أرى جبلا ولا سهلا، ثم رأيت نورا خرج من زمزم مثل ضوء المصباح، كلما ارتفع عظم وسطع، حتى ارتفع فأضاء لي أول ما أضاء البيت، ثم عظم الضوء حتى ما بقي من سهل ولا جبل إلا وأنا أراه، ثم سطع في السماء، ثم انحدر حتى أضاء لي نخل يثرب فيها البسر، وسمعت قائلا يقول في الضوء: سبحانه! سبحانه! تمت الكلمة، وهلك ابن مارد بهضبة الحصى بين أذرح والأكمة. سعدت هذه الأمة. جاء نبي الأميين، وبلغ الكتاب أجله. كذبته هذه القرية، تعذب مرتين، تتوب في الثالثة، ثلاث بقيت، ثنتان بالمشرق ، وواحدة بالمغرب. فقصها خالد بن سعيد على أخيه عمرو بن سعيد، فقال: لقد رأيت عجبا. وإني لأرى هذا أمرا يكون في بني عبد المطلب إذ رأيت النور خرج من زمزم.»
لاكلوزا
16 رجب 1355/سبتمبر 1937
الكتاب الثالث
الفصل الأول
صريع الحسد
1
كان الشيخ مهيبا رهيبا، وكان فخما ضخما، قد ارتفعت قامته في السماء وامتد جسمه في الفضاء. وكان وجهه جهما عريضا، تضطرب فيه عينان صغيرتان غائرتان بعض الشيء. ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكادان تستقران، وهما متوقدتان دائما ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ، فإذا لحظتا شيئا أو أطالتا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر أو تسلطان عليه شواظا دقيقا قويا من النار. وكان الشيخ فوق هذا كله ذكيا حاد الذكاء نافذ البصيرة، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقا لشيء. يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، فيعجبون منه ويعجبون به. وكان بعد هذا كله بطيء المشي ثقيل الحركة وقورا في كل ما يصدر عنه، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره، فكان صوتا ضخما عميقا، يسمع السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع. وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه. فإذا سألتهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكبارا وإعظاما، فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيد من أروع سادات قريش، ورجل عظيم من رجالات البطحاء.
وكان ابن أخيه عمرو بن هشام في ذلك اليوم فتى قويا نحيفا شديد النشاط كثير الحركة لبقا في كل ما يصدر عن جسمه، رائعا في كل ما يصدر عن عينيه القويتين البراقتين. وكان على وجه الفتى دائما، وفي ذلك اليوم خاصة، غشاء غريب فيه عبوس يصور الجد المر، وفيه ابتسام يصور الدعابة الحلوة. فكان الذين ينظرون إليه يطمعون فيه ويشفقون منه. وكان الذين يسمعون له يحارون فيما يسمعون أجد هو أم هزل. وقد أقبل في ذلك اليوم على عمه يمشي مشية فيها كثير من الخال والكبرياء وكثير من الاعتداد بالنفس والازدراء لغيره من الناس، وفيها مع ذلك شيء من السخط والحزن.
كل شيء في هذا الفتى كان يصور رجلا شديد الطموح بعيد الأمل واسع الرجاء. ولكن الأسباب قد تقطعت به، فهو غير راض عن نفسه ولا عمن حوله من الناس ولا عما حوله من الأشياء. يريد أن يذعن لظروف الحياة التي لا يستطيع لها تغييرا ولا تبديلا، ولكن نفسه لا تطيق الإذعان ولا تطمئن إليه، فهي في جهاد متصل، وصراع مستمر. وكان الذين ينظرون إليه في ذلك اليوم يتساءلون عن مصدر هذه الخيلاء التي كانوا يرونها في مشيته، وفي تلك الابتسامة الحائرة على وجهه التي كانت تظهر لتستخفي، وتستخفي لتظهر، كأنها وميض البرق في الليلة المظلمة. وكان بعضهم يظن أن مصدر هذه الكبرياء هؤلاء الرقيق الذين كانوا يسعون بين يديه يحملون أثقالا من الذهب والفضة لا تجتمع إلا لأصحاب الثراء الضخم من سادة قريش. وكان بعضهم يرد هذه الكبرياء إلى أن عمرو بن هشام كان يسعى إلى عمه الوليد بن المغيرة، فكان يستحضر في نفسه مجد مخزوم كلها تليده وطريفه، وثروة مخزوم كلها ما استقر منها في مكة، وما انتشر منها هنا وهناك في أطراف البلاد العربية، وما تجاوز منها البلاد العربية إلى تلك البلاد البعيدة التي كانت تنتشر فيها تجارة قريش.
وكان الشباب من أتراب عمرو بن هشام يرمقونه بأبصارهم ثم يردونها عنه مسرعين، منهم من يرضى عنه، ومنهم من يسخط عليه، وكلهم يبتسم له ابتسامة فيها كثير من الحسد وفيها شيء من الاستخفاف. فقد كان أتراب عمرو بن هاشم ينكرون غروره وافتنانه بنفسه، ويبادونه بهذا الإنكار جادين حينا وهازلين أحيانا. وكان منظرا لا يخلو من روعة مضحكة، مقام هذا الفتى الرشيق الأنيق الساخر العابث بين يدي عمه الوقور المهيب وقد وضع الغلمان أثقالهم، وقال الفتى في صوت لا يخلو من فكاهة ولكنه لا يخلو من بعض الملالة والسأم أيضا: «ها أنا ذا يا عم قد أقبلت أحمل إليك تحيتي وأحمل إليك مالي؛ فقد يظهر أن من الحق علي أن أساهم فيما سترحل به القافلة من قريش إلى الشام، فهذه أسهمي من الذهب والورق أطرحها بين يديك، وما أشك في أنك ستردها علي أضعافا مضاعفة.» ثم تضاحك الفتى وهم أن ينصرف ولكن عمه أشار إليه أن أقم، ثم قال له في هدوء وأناة: «ما أرى أنك أقبلت لتحمل إلي هذا المال وتلقي إلي هذا السخف من القول، فقد كان هؤلاء الغلمان يستطيعون أن يحملوا إلي تحيتك ومالك، وما أظن إلا أنك أقبلت وأنت تريد أن تنفق معي شيئا من وقتك وأن تفضي إلي ببعض الحديث، ولكنك تأبى إلا أن تعبث دائما. تقبل وأنت تريد أن تدبر، وتدبر وأنت تريد أن تقبل، لا تفرق في عبثك بين من تلقى من الناس، سواء عندك لقاء الأتراب ولقاء الشيوخ الذين ينبغي أن تلقاهم بوجه غير هذا الوجه وحديث غير هذا الحديث.»
قال الفتى في صوته الساخر الحزين: «ما تزال تنكر علي شيئا كلما لقيتني، وما أزال عاجزا عن أن أبلغ رضاك. فإني لا ألقاك بهذه الدعابة في أندية قريش ومجالسها، وإنما ألقاك حرا في هذه الدار لا يظهر علينا فيها أحد من قريش. ولست أدري إلى أين تنتهي بنا هذه الأوضاع التي تفرضها قريش على عقولنا وقلوبنا وأجسامنا! فنحن لا نستطيع أن نفكر ولا أن نشعر ولا أن نتحرك إلا على النحو الذي رسمته قريش للتفكير والشعور والحركة. ما أشد حاجتنا إلى شيء من السماحة ننعم فيها بالحرية فيما نفكر وفيما نشعر وفيما نأتي وما ندع من الأمور.»
قال الشيخ: «فأنت إذا ساخط دائما، منكر للمألوف من عادات قومك وأوضاعهم دائما. وقد كنت أنتظر مقدمك، ولو لم تقبل الآن لبعثت في طلبك؛ فإن بيني وبينك حديثا أرجو ألا يطول، وأرجو مع ذلك أن يبلغني منك ما أريد.»
قال الفتى وهو يبتسم عن رضا صريح وفكاهة لا غموض فيها: «وإذا فلا بد من أن أقيم، فلا أقل من أن تأذن في أن أسقي ما يبل الظمأ وينقع الغلة، فقد جف حلقي ويبس لساني.»
قال الشيخ: «وآية ذلك أني لا أجد إلى وقفك عن الكلام سبيلا، اجلس حيث شئت، يا غلام اسقه ما شاء من شراب.»
وأعرض الشيخ عن ابن أخيه ساعة شغل فيها بكثير من شباب قريش وشيوخهم، وقد أقبلوا يحملون إليه الأموال التي يساهمون بها فيما كانت قريش تهيئ من تجارتها إلى الشام، يحمل بعضهم إليه العين من الذهب والفضة، ويحمل إليه بعضهم العروض المختلفة، وهو يسمع لهم ويرد عليهم، وبين يديه كتاب يتلقون هذه الأموال ويسجلون ما يتلقون منها. فلما انقضت على ذلك ساعة وقل المقبلون بأموالهم، أشار إلى كتابه وغلمانه أن انصرفوا لتستأنفوا أمركم من الغد.
وانتهز عمرو بن هشام اشتغال عمه بمن كان يقبل عليه وينصرف عنه فلها بمداعبة من كان يقوم على خدمته وخدمة غيره من غلمان الدار، يعبث بهذا ويمازح ذاك، ويسأل هذا ويرد على ذاك، يقلدهم في لهجاتهم الغريبة المحطمة؛ يتحدث إلى هذا بلهجة الحبشي المستعرب، وإلى ذاك بلهجة الرومي، ويسأل هذا أو ذاك عن شئونه الخاصة، وربما سأل هذا أو ذاك عن بعض شئون عمه، ولكنه كان يهمس بمثل هذا السؤال وربما أومأ به. وكان الغلمان يجيبونه كما كان يتحدث إليهم مصرحين مرة، وملمحين مرة ومشيرين بالطرف واليد مرة أخرى، ومبتسمين له دائما. فقد كان عمرو بن هشام محببا في دار عمه، ومحببا إلى غلمان هذه الدار خاصة. وربما آثره هؤلاء الغلمان على ابن سيدهم الشاب خالد بن الوليد. كانوا يرون من خالد أنفة واستكبارا وازورارا عنهم. وكانوا يرون من عمرو تلطفا لهم وعناية بهم. وكان عمرو غريب الأطوار حقا، فقد كان شديد الكبرياء عظيم الخيلاء إذا لقي نظراءه من أبناء قريش، فإذا لقي الغرباء من الرقيق والخلعاء تلطف لهم ورفق بهم وخاض معهم في ألوان مختلفة من الحديث كأنه واحد منهم.
على أنه حين أحس أن عمه قد فرغ من الداخلين والخارجين وكاد يخلص له تكلف الجد وأشار إلى من كان حوله من الغلمان أن خذوا حذركم فقد جاءت الساعة الرهيبة. ونظر إليه عمه فلم يستطع أن يرد ابتسامة أشرقت في وجهه حين رأى هذا الجد المتكلف وهذا الإذعان لما ليس بد من الإذعان له. ورأى الفتى ابتسامة عمه فأغرق في ضحك متصل ثم قال: «لبيك عمي فإني منصت لما تقول.»
قال الشيخ في هدوء: «قد بلغتني عنك أحاديث لا أحبها ولا أحب أن تتحدث بها قريش عن عمرو بن هشام بن المغيرة.»
قال الفتى وهو يتكلف الجد: «ويلي من قريش وويل قريش مني! بماذا أنبأتك ألسنتها المنطلقة التي لا تستقر؟» قال الشيخ: «أنبأتني بشيء عظيم كرهته، وأرجو أن تكف عنه.» قال الفتى: «فتريد أن أعيد عليك ما أنبأتك به ألسنة قريش؟ فإنها قد زعمت لك أني أختلف مع شباب قريش إلى بيت نسطاس فنشرب ونعبث ونلهو، حتى إذا بلغنا حاجتنا من ذلك وهم أترابي أن ينصرفوا لم أخرج معهم وإنما تخلفت فأقمت عند نسطاس وأطلت عنده المقام، أسمع منه ومن جواريه، وأتحدث إليه وإلى جواريه. وقد أطيل المقام حتى يتقدم الليل، فإذا هممت أن أنصرف أشفق علي نسطاس من غائلة الطريق، وأشفق علي من كثرة ما شربت عنده من الخمر، فدعاني إلى أن أنتظر الصبح عنده وما أكثر ما أستجيب لهذا الدعاء؛ لأني أحب بيت نسطاس، وآنس إليه وإلى من حوله من الجواري والغلمان. وقريش تنكر هذا وترتاب به، وتكره لفتى شريف من فتيانها أن يبيت في غير مبيت وأن ينفق الليل بعيدا عن أهله. وقريش تبيح لفتيانها أن يلموا بدار نسطاس وأن يشربوا فيها الخمر ويعبثوا فيها ما طاب لهم العبث ولكن على أن يعودوا إلى أهلهم قبل أن يتقدم الليل. فلقريش وقارها، وما ينبغي لفتيانها أن يغرقوا بالعكوف على اللذات، أو يوصفوا بإدمان اللهو والإسراف فيه.»
قال الشيخ: «وأنت تنكر من أمر قريش هذا كله، وتأبى إلا أن تبادي قومك بما يكرهون، فتخف حين يصطنعون الوقار، وتصطنع الوقار حين يخفون، وتحرص على أن تكون أحدوثة الناس إذا أصبحوا وأحدوثة الناس إذا أمسوا، لا بما تقدم عليه من عظيم الأمر ولا بما تحاول من الشئون الجسام، ولكن بالدعابة إذا جد الناس، وبالجد إذا لهوا، وبالاختلاف إلى حانة نسطاس إذا أقبل الليل مع اترابك، والتخلف عنهم إذا انصرفوا، كأن بينك وبين هذا الرومي سرا ما ينبغي أن يظهر عليه أحد إلا هؤلاء الروميات اللاتي يخلب بهن نسطاس عقول الفتيان.»
قال الفتى: «أما أني أنكر على قريش دخولها فيما لا يعنيها من أمري فهذا حق. وأما أني أتخلف عن أترابي عند نسطاس إذا انصرفوا حين يتقدم الليل فهذا حق أيضا. وأما أن بيني وبين نسطاس وجواريه سرا لا ينبغي أن يظهر عليه أحد فهذا هو التكلف كل التكلف. فخمر نسطاس معتقة، وجواريه حسان يفتن بما لهن من دل كما يفتن بغنائهن العذب. وحديث نسطاس حلو ممتع، يرضي حاجتي إلى العلم، وشوقي إلى المعرفة، ورغبتي في الجد. فأنا أحد في هذه الدار ما لا أجد في أندية قريش. وأنا من أجل ذلك ملح في زيارتها، مطيل للإقامة فيها، مفتون بما أجد عند أهلها من لذة الجسم والنفس جميعا. وما أعرف أني أعطيت قريشا عهدا عن نفسي أن أعيش كما تحب هي لا كما أحب أنا. وما أعرف أني أتتبع شيوخ قريش وفتيانها بمثل ما يتتبعونني به؛ فإن أمرهم لا يعنيني، فما بال أمري يعنيهم، وما بالهم لا يدعونني وما أشاء كما أدعهم أنا وما يشاءون؟!»
قال الشيخ: «إنك يابن أخي لذرب اللسان حديد القلب نافذ البصيرة، وإني لأحب منك هذا كله، ولكني ...»
قال الفتى: «ولكنك تريد أن أنفق هذا كله فيما ينبغي لفتى من فتيان قريش أن ينفق جهده فيه، من الجد في التجارة حين يدعو الأمر إلى الجد، ومن العبث بهؤلاء البائسين من العرب حين يكون موسم الحج نضللهم ونغررهم ونزعم لهم أننا سادة الناس وأن إلينا وحدنا أمور دينهم، وأي دين! ثم من الفراغ للأحاديث التي لا تفنى إذا ربحنا من تجارتنا وأخذنا من موسم الحج ما نريد، وصدر الناس عنا وقد أخذنا منهم أموالهم وعقولهم جميعا، هنالك نفرغ لأنديتنا فيتحدث بعضنا إلى بعض بأحاديث أقلها الحق وأكثرها الباطل، ويبدي بعضها لبعض أقل ما يمكن أن يبدي من نفسه، ويستر بعضنا عن بعض أكثر ما يمكن أن يستر منها. نكبر آلهتنا ونعظم من أمرها وإنا لنزدريها في نفوسنا أشد الازدراء، ونمقتها في قلوبنا أعظم المقت.»
قال الشيخ وقد أسرع بيده إلى فمه والتفت يمنة ويسرة التفاتة لا تلائم ما تعود من وقار: «صه! صه! يابن أخي.» قال الفتى وقد أغرق في الضحك: «لا بأس عليك يا عم فقد انصرف كل إنسان وأغلقت من دوننا الأبواب، وعلم غلمانك أننا نريد الخلوة.»
قال الشيخ وقد عاد إلى أناته ووقاره: «فإن من الحق عليك يابن أخي أن ترعى ما يرعى قومك من سنة وألا تغري السفهاء منهم بنفسك وبقومك. وقد حدثت أنك لا تكتفي بدار نسطاس ولكنك تألف دارا أخرى ما أحب لك أن تألفها؛ لأن قريشا لا تنظر إلى آلافها إلا شزرا. ومن كان مثلك ومثلي ومثل سادة قريش من أصحاب التجارة كان خليقا أن يقدر رأي الناس فيه وأن يحسب الحساب كله لما يمكن أن يذاع عنه من الأحاديث. فأمر التجارة والمال يقوم على الثقة وحسن الأحدوثة أكثر مما يقوم على المهارة وسعة الحيلة، وإنك لترى أمية وما يصنعون!»
قال الفتى: «بل قل وما يتكلفون.» قال الشيخ: «هو ذاك.» قال الفتى: «وهذه الدار الأخرى التي آلفها وأكثر من التردد عليها هي دار ورقة بن نوفل، أليس كذلك؟» قال الشيخ: «بل يابن أخي، هي دار ورقة بن نوفل الذي انحرف عن قومه وارتحل عنهم مخالقا لهم، ثم عاد إليهم ملحا في الخلاف، يدين بما تدين به الروم، ويؤمن بما يؤمن به النبط، وينكر من أمر آلهتنا ما نعرف، ويعرف من أمر السماء ما ننكر. وقد علمت يابن أخي ما كان من ثورة قريش به ويزيد بن عمرو وأمثالهما.»
قال الفتى: «فإن كنت أحب دار ورقة كما أحب دار نسطاس، وإن كنت أجد عند ورقة من متاع الروح مثل ما أجد عند نسطاس من متاع النفس والجسم!» قال الشيخ: «فإن قريشا لا تحب منك ذلك، وإني أنا لا أحب أن تنكر قريش من أمرك شيئا، وما أحب أن يتحدث الناس في البطحاء والظواهر بأن قد عرض لفتى من فتيان مخزوم مثل ما عرض منذ حين لفتى من فتيان عدي من الانحراف عن الجادة والتمرد عن المألوف من عادات قومه.»
قال الفتى: «فإن مخزوما قد أصهرت إلى عدي
1
وما ينبغي لكم أن تصهروا إلى قوم وترسلوا إليهم كرائمكم ثم ترتفعوا عن مشاركتهم فيما يصيبهم من الأمر.» قال الشيخ: «لقد علمت ما أحببت هذا الصهر ولا رضيت عنه ولا أشرت به ولا انتظرت منه لقريش خيرا؛ فالألفة بين عدي ومخزوم شيء لا يرجى، والخير أن يظل هذان الحيان من قريش على خلافهما القديم لا ليشقى به النساء جين يعيا بالطب له الرجال. ولئن أخطأ أبوك بقبول هذا الصهر فما ينبغي أن تمضي على أثره أو تضيف إلى خطئه خطأ جديدا. وإنك لتعلم أن قريشا لا تكره من أحد شيئا كما تكره الانحراف عما ألفت من عادة ودين، ولا تخاصم أحدا في شيء كما تخاصمه في مالها ودينها. ودين قريش جزء من مالها لأنه، كما علمت، وسيلتها إلى السيادة والسلطان.»
قال الفتى: «فإني لا أكره من قريش شيئا كما أكره منها هذا الرياء: تكبر الآلهة وتعظم أمرها إذا شهد العامة أو حضر أهل الموسم، فإذا خلا الملأ من قريش إلى أنفسهم فأي استخفاف بالآلهة وأي ازدراء لمن يدينون لها بالإكبار والإجلال! إنكم لتطلبون إلينا شيئا عظيما حين تريدوننا على أن نمهر كما تمهرون ونمكر كما تمكرون، ونعلن غير ما نسر ونسر غير ما نعلن، لا لشيء إلا لنثري ونسود. وإنا لنجد في رضا أنفسنا وراحتها واطمئنان ضمائرنا إلى ما نعلن وما نسر نعمة هي آثر عندنا من السيادة والثراء. فامضوا فيما تريدون لأنفسكم، وخلوا بيننا وبين ما نريد لأنفسنا.»
قال الشيخ: «ما أرى إلا أن دار نسطاس قد فتنتك، وأن دار ورقة قد أفسدت عليك أمرك كله يابن أخي، فإنك تتحدث حديثا لا يتحدثه أحد من شيوخ قومك وشبابهم. وإني لأرى لداتك من الفتيان وأسمع منهم وأتحدث إليهم فلا أجد عند أحد منهم مثل ما أجد عندك، وما أعرف أن الناس ينكرون على أحد من أترابك مثل ما ينكرون عليك.»
قال الفتى: «وما تريد أن أصنع؟ هم مفتونون بك وبنظرائك من الملأ، وأنا مفتون بورقة ونسطاس ونظرائهما من الغرباء والمستضعفين.»
قال الشيخ: «أمسك عليك نفسك يابن أخي ولا تظهر قومك من أمرك على مثل ما تظهرني عليه؛ فإن شر هذا الخلاف لا يصيبك وحدك وإنما يصيب مخزوما كلها، ما أظنك قد بلغت من حب نفسك أن تعرض قومك لما لا قبل لهم به.»
قال الفتى: «فإني لا أحب أن أعرض قومي لشيء ولا أن يعرضني قومي لشيء، وإنما أريد أن أترك الناس وما يحبون. ولست أكره إن شق عليكم أمري أن تخلعوني، فما أكثر الخلعاء الذين يعيشون في مكة من قبائل العرب! وما أكثر ما أغبطهم على ما ينعمون به من حرية القلب واليد واللسان!»
قال الشيخ وهو يبتسم ابتسامة غامضة فيها الإعجاب بشجاعة ابن أخيه والإشفاق من جرائره: «دون هذا وتستقيم الأمور بابن أخي. ولكن ما الذي يعجبك من نسطاس ومن ورقة وقد رأيتهما وتحدثت إليهما فلم أر عندها خيرا ولا شرا؟»
قال الفتى: «فإني أجد عندهما الراحة من اللذة والألم جميعا.»
قال الشيخ: «إني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم. الراحة من اللذة! ما هي؟ وكيف تكون؟»
قال الفتى: «رح معي إلى نسطاس أو اغد معي إلى ورقة، ثم أطل عندهما المقام كما أطيله، وتصرف معهما في فنون القول كما أتصرف، فستجد عندهما مثل ما أجد، وسترضى من أمرهما عن مثل ما أرضى عنه، وستغدو على أحدهما وتروح على الآخر، وستؤثر داريهما على أندية قريش.»
قال الشيخ وقد تضاحك: «وكذلك أريد أن أنهاك عما يكره قومك فإذا أنت تغريني به وتحثني عليه «لقد شب عمرو على الطوق»، انصرف راشدا يابن أخي وأحسن سياسة قومك، وكف عن نفسك وعنا غائلتهم.»
قال الفتى وقد نهض: «فإني منصرف الآن راشدا كما تقول إلى نسطاس فشارب عنده ومستمتع بحديثه وغناء جواريه، ثم إني غاد إذا كان الضحى على ورقة بن نوفل فمستمع له ومتحدث إليه، ثم ملم بعد ذلك بأندية قريش فمتحدث بما كان من أمري، فأيهم عرض لي بما لا أحب فلن يرى مني إلا ما يكره.»
قال الشيخ: «إني لأعرف فيك أنفة مخزوم وكبرياءها، ولو عرفت أنك تسمع لي ...»
قال الفتى مقاطعا في رفق: «لنصحت لي بأن أرحل مع القافلة بعد أيام فأبيع وأشتري وأربح كثيرا من المال، وأرى كثيرا من البلاد وألوانا مختلفة من أجيال الناس، وأصبح فتى شريفا من فتيان قريش أصنع ما يصنعون وأضطرب فيما يضطربون فيه، وأنافس صخر بن حرب فيما يكسب لنفسه من السؤدد والثراء.» قال الشيخ: «هو ذاك.»
قال الفتى: «فإني لا أحب من هذا كله شيئا، وإنما أوثر أن أنفق هذا المال الكثير الذي لا أحصيه ناعم النفس قرير العين رضي البال مترددا بين نسطاس وورقة، وأن أستأجر صخر بن حرب وأمثاله ليعملوا لي في مالي وليعينوني على ما أنا فيه من نعيم.» ثم استرد الفتى كبرياءه وخيلاءه وانصرف عن عمه كما أقبل عليه راضيا عن نفسه وساخطا عليها، مدلا بمكانته ومزدريا لها.
2
وأقبل من الغد على ورقة بن نوفل، فلم يلقه الشيخ هشا بشا كما تعود أن يلقاه، وإنما ابتسم له ابتسامة فيها شيء من كآبة. على أن الشيخ لم يكن فارغ البال ولا مطمئن النفس، وإنما كان معنيا بأمر عظيم يضمره ولا يظهره.
فلما رأى الفتى منه هذا الفتور أقبل عليه مداعبا كأنما يستخفه إلى شيء من النشاط، فجعل يتحدث إليه عن ليلته التي أنفقها لاهيا بخمر نسطاس وغناء جواريه.
ولكن الشيخ لم يخف ولم ينشط، وإنما جعل يسمع من الفتى أحاديثه الطويلة التي لا تنقضي، ويجيبه بين حين وحين برأسه يهزه أو طرفه يومئ به أو لسانه يديره في فمه بالكلمات القصار. فلما رأى الفتى منه ذلك سيء به وضاق به ذرعا وقال في شيء من الحدة: «ويحك أيها الشيخ! إنك لشديد الكآبة منذ اليوم، وما سعيت إليك أبتغي كآبة أو حزنا، وما أقبلت عليك لتنغض إلي رأسك أو تومئ إلي بطرفك أو تلوي لي لسانك بهذه الألفاظ التي لا تغني، إنما جئت ألتمس عندك شيئا غير هذا.»
قال الشيخ وقد أخذ ابتسامه يتسع قليلا: «تلتمس عندي ماذا يابن أخي؟» قال الفتى: «ألتمس عندك هذه القوة التي أستقبل بها سخف قريش وجه النهار وآخره، كما ألتمس عند نسطاس هذه اللذة التي أغسل بها هذا السخف عن نفسي حين يقبل الليل.»
قال الشيخ متضاحكا في فتور: «فقد غسلت نفسك من سخف قريش ولكنك دنستها برجس نسطاس، ثم أقبلت الآن تريد أن تغسلها من هذا الرجس وتمحو منها آثار اللذة الآثمة، آثار الخمر وما يتبعها مما لا يجمل بالرجل الكريم! فما أعرف أن عند نسطاس لمثلك خيرا، وإنما هي الفتنة التي تفل الحد وتفسد الطبع وتذهب المروءة وترد فتيان قريش إلى مثل ما عليه فتيان الروم من الضعف والوهن والفتور. لقد رأيتهم يا ابن أخي فما وجدت عندهم خيرا، وإنما هو الفساد قد أخذهم من كل وجه وانسل إلى نفوسهم من كل سبيل، فأصبحوا لا يقدرون على شيء وإن خيلت إليهم كبرياؤهم أنهم يستطيعون أن يبلغوا كل شيء.» ثم سكت قليلا وأطرق مليا، ثم رفع رأسه وقال في صوت هادئ متزن: «ما أبغض يا عمرو شيئا كما أبغض الحانات التي يقيمها الروم في أعطاف مكة والتي يغري فتيان قريش بما فيها من هذه اللذات الآثمة التي تقتل الرجولة.»
وكان عمرو بن هشام يسمع لحديث الشيخ وعلى ثغره ابتسامة ضئيلة غامضة، وفي وجهه شيء من السخرية لا يكاد يبين، وربما حرك رأسه إلى يمين أو إلى شمال ليخفي على الشيخ سحابة من عبوس كانت تغشي جبهته بين حين وحين. فلما فرغ الشيخ من حديثه وعاد إلى إطراقه فأمعن فيه وجعل ينكت الأرض بعصاه، قام الفتى متثاقلا يريد أن ينصرف. فنظر الشيخ إليه نظرة قصيرة كأنما كان يريد أن يمسكه، ولكنه لم ينشط حتى لذلك فغض بصره وعاد إلى إطراقه. واستدار الفتى نحو الباب، ولكنه عاد فجأة فاستقبل الشيخ وقال في شيء من العنف: «لن أنصرف، فلست أحب أن تصحبني منك هذه الصورة التي أنكرها. لقد كنت في نفسي شيئا غير هذا، ولقد كنت أنتظر منك أن تباديني بكل شيء إلا ما باديتني به منذ اليوم.»
قال الشيخ: «فكنت تنتظر مني أن أغريك ببيت نسطاس وما فيه من لذة وإثم، وكنت تقول لنفسك إنما ورقة بن نوفل رجل نصراني قد أتى بلاد الروم وطوف في مدنها وقراها وعاد منها وقد أخذ كل ما وجد من الدين والدنيا، فهو نصراني كنسطاس، يحب كل ما يحب النصارى ويألف كل ما يألفون، والسن وحدها هي التي تقعده عن بيت نسطاس، ولو قد كان له فضل من قوة أو بقية من شباب لشاركني فيما أستمتع به عند نسطاس، فخمره معنقة وجواريه حسان وغلمانه صباح الوجوه، وعنده غناء يفتن القلوب ويسحر الألباب. كلا يا ابن أخي! لقد أتيت بلاد الروم، وطوفت في مدنهم وقراهم، وألممت ببيعهم وحاناتهم، ورأيت ما عندهم من دنيا ودين، ثم عدت وإني لأكثر أمرهم لكاره أشد الكره، وإني من حياتهم لنافر أشد النفور. ولو قد أعجبتني حياة الروم كما تعجبك لما عدت إلى واد غير ذي زرع كهذا الوادي الذي نعيش فيه.»
قال الفتى: «الآن ينطلق لسانك وقد كان معقودا، ولكن لم آت لأسمع منك هذا الحديث ولا لألتمس عندك هذه الموعظة؛ فقد أسدى إلي منها عمي الوليد بن المغيرة أمس ما أستطيع أن أعيش عليه أياما وشهورا.»
قال الشيخ: «فماذا جئت تلتمس عندي إذا؟» قال الفتى: «جئت أتعلم منك، وأرى أنك ستتعلم مني.» قال الشيخ وقد عاد إلى نشاطه وخفته واستأنف ما ألف عنده عمرو بن هشام من هذا الطبع السمح والمزاح الحلو والمرح الذي كان يحببه إلى النفوس. قال الشيخ: «فعلمني يا عمرو فإن الإنسان لا يكبر عن العلم مهما تبلغ به السن، وإن العصا قرعت لذي الحلم.» قال عمرو بن هشام: «لا تهزأ فإني سأعلمك عجبا من العجب! إنك لتجهل من أمر نسطاس كل شيء ولا تعلم منه إلا ما يعرفه المفتونون من شباب قريش، أولئك الذين يصطبحون عنده أو يغتبقون لا يعرفون إلا أن عنده خمرا معتقة وجواري حسانا وغلمانا صباحا وغناء عذبا.» قال ورقة: «فما استكشفت عنده غير ذلك؟» قال: «استكشفت ما كنت أظن أنك لا تجهله. إن هؤلاء الروم الذين يقيمون حاناتهم في أعطاف مكة كما تقول فتنة لشباب قريش وشيوخها لا يهبطون هذا الوادي المجدب رغبة في المال وحده أو حرصا على أن يمتعوا قريشا بهذه اللذات التي يحملونها إلينا، وإنما هم يبتغون أشياء لا تخطر لنا ببال. ولو قد فطن لها الوليد بن المغيرة الذي كان يسدي إلي النصح والموعظة أمس، ولو قد فطن لها عتبة وشيبة ابنا ربيعة وصخر بن حرب وأمية بن خلف لاستقبلوا من أمرهم غير ما يستقبلون، ولنفوا كل رومي عن هذه الأرض، ولاشتطوا على هؤلاء الغرباء من الروم والنبط والفرس أكثر مما يشتطون على العرب.»
قال ورقة بن نوفل وقد ظهر على وجهه شيء من الجد: «أفصح يابن أخي فإني لا أفهم عنك.»
قال الفتى: «ستفهم عني، فإن هؤلاء الروم لم يهبطوا هذه الأرض للتجارة وحدها، إنما اتخذوا التجارة وسيلة إلى أشياء أخرى يبتغونها ونخدع نحن عنها بهذه اللذات اليسيرة الفاتنة التي يحملونها إلينا ويغروننا بها.»
قال ورقة: «وما عسى أن تكون هذه الأشياء؟» قال الفتى: «إنما هم عيون قيصر في هذه الأرض ورسله إلى هذا الوجه، يمدون له فيه الأسباب ويمهدون له فيه السبل. وما أرى أن واحدا منهم قد أقبل إلى بلادنا إلا وهو مجمع أن يحبب إلينا أمرا من أمور الروم ويستخف قلوبنا لحب هذه الحياة الرومية التي يحملون إلينا أيسرها وأهونها، ثم يقول قائلهم لنا حين يرى منا الابتهاج والرضا! فكيف لو ذهبتم إلى هذه المدينة أو تلك من مدن الروم! وكيف لو رأيتم هذه اللذات في أصولها التي تخرج منها وبيئاتها التي تنمو فيها! وكيف لو اتصلت أسبابكم بأسبابنا واختلطت أموركم بأمورنا!»
قال ورقة: «وقد أحسست من نسطاس بعض هذا فجئت تتحدث إلي به وتؤامرني فيه؟ وما تراني أصنع لك في هؤلاء وقد اعتزلت قريشا واعتزلتني قريش، وأصبحت أموركم لا تعنيني كما أن أمري لا يعنيكم؟ هلا تحدثت بذلك إلى عمك الوليد أو إلى الملأ من قريش!»
قال الفتى: «إني لأغبطك على أن قريشا قد اعتزلتك وعلى أنك قد اعتزلت قريشا. وإني لأتمنى أن يتاح لي من ذلك ما أتيح لك. فإني أعرف أي الناس أستطيع أن ألقي إليه بهذا الحديث. إنما جئت لأحدثك بالعجب من أمر نسطاس هذا الذي تلومني فيه كما لامني فيه عمي الوليد.»
قال ورقة: «وعند نسطاس أعجب مما ذكرت؟» قال الفتى: «نعم.»
قال الشيخ: «وما ذاك؟» قال الفتى: «تعلم أيها الشيخ أني لا ألتمس الخمر واللذة والغناء عند نسطاس فحسب، وإنما ألتمس عنده العلم أيضا. وقد تعلمت منه كثيرا أكثر مما تعلمت منك؛ فقد عرفت منه شئون الروم مفصلة وأخبارهم مطولة، وأنت لا تحدثنا من ذلك إلا بالنزر اليسير لأن ذلك لا يعنيك، فأما هو فيكفي أن يتقدم الليل وأن ينصرف شباب قريش إلى بيوتهم وأن يخلو إلي وإلى ثلاثة أو أربعة من غلمانه وجواريه وقد صرف سائرهم، فإذا خلا بعضنا إلى بعض أديرت علينا خمر لا تدار على غيرنا، وسمعنا غناء لا يسمعه غيرنا، حتى إذا تقدم الليل خطوات أخرى وأغرق كل شيء في الصمت والسكون وخيل إلينا أننا قد اقتطعنا من الحياة والأحياء اقتطاعا وأننا نعيش في جزيرة من النور والحركة يحيط بها بحر من الظلمة والسكون، قال نسطاس بلسانه الملتوي وصوته الأجش: «الآن طاب الحديث.» ثم نأخذ في حديث الروم فأسمع منه العجب العجاب. وقد اتصل الود بيني وبين نسطاس منذ أعوام، وجعل أترابي من قريش يلمون معي بدار نسطاس ثم ينتقلون منها إلى غيرها من دور الروم والنبط يتبعون في ذلك أهواء نفوسهم ويفرون بذلك من الحياة المطردة المتشابهة. وما أكثر ما ألحوا علي في أن أذهب مذاهبهم وأسلك مسالكهم وأتنقل معهم في الغي كما يتنقلون، ولكني لم أنحرف قط عن دار نسطاس ولم أمل قط إلى اللهو في غير دار نسطاس؛ لأن عند نسطاس ما ألزمني داره وشغلني بمودته، حتى لامني فيه اللائمون، وحتى ظنت قريش بي الظنون، وحتى شكا من ذلك أهلي وأترابي، وعاتبني فيه عمي الوليد.»
قال الشيخ: «وماذا علمت يابن أخي من أمر نسطاس؟ فقد أثرت في نفسي شغفا بالعلم لا عهد لي به منذ ودعت الشباب.»
قال الفتى وقد دنا من ورقة كأنما يريد أن يهمس إليه بما لا يحب أن يسمعه غيره: «علمت أن وراء نسطاس التاجر الخمار الذي يفتن شباب قريش بالخمر والنساء والغناء فيلسوفا يلتمس الحق، وديانا يلتمس الدين الصحيح.» قال الشيخ دهشا: «إنه لكذلك يا ابن أخي؟» قال الفتى: «نعم! وقد كنت أعرف أنك وأمثالك تخرجون من بلادنا هذه لتضربوا في الأرض ولتلتمسوا الحق والعلم والدين، عند هؤلاء الأعاجم من الفرس والروم ومن اليهود. وما كنت أنكر من ذلك شيئا، فهم قد سبقونا إلى الحضارة، وهم قد سبقونا إلى الكتاب. فأما أن يخرج الروم من بلادهم إلى هذه البلاد المجدبة القاحلة الغليظة الجافية التي لا حظ لأهلها من حضارة أو علم أو كتاب، ليلتمسوا عندنا الحق والعلم والدين، فهذا هو الذي لا أفهمه، ولم تطمئن إليه نفسي حتى حدثني نسطاس بما حدثني به أمس.»
قال الشيخ وقد أهمه الأمر إلى أبعد مدى، واسترد نشاطا غريبا وقوة كانت تخيل إلى من يراه أنه قد عاد إلى شبابه، أو أن شبابه قد عاد إليه: «وبماذا حدثك؟»
قال الفتى: «حدثني بأنه فرد من جماعة تلتمس الحق وتبحث عن الهدى، وبأن هذه الجماعة منتشرة في بلاد الروم، يتعارف أفرادها فيما بينهم بعلامات لهم، لا يعرفها أحد غيرهم. فإذا تحدث بعضهم إلى بعض من قريب أو بعيد تحدثوا بالرموز والإشارات، فلم يظهر أحد من أمرهم على شيء. وحدثني بأن هذه الجماعة قديمة العهد طويلة العمر، قد مضت عليها القرون، يوصي كل جيل منها إلى الجيل الذي يليه بالمضي في التماس الحق والبحث عن الهدى، يجدون في ذلك ما أتاحت لهم قوتهم وحيلتهم أن يجدوا، يتفرقون في الأرض في ملك قيصر، وفي ملك كسرى، وفي أقطار لم يبلغها ملك قيصر ولا ملك كسرى، لا يبالون ما يلقون في ذلك من جهد ولا ما يحتملون فيه من عناء، حتى إذا ظفر أحدهم بشيء من العلم أو بما يراه الحق أو قريبا من الحق، احتال حتى يبلغه أصحابه، وهم على ذلك يتواصلون ويتعاونون ويستكشفون من العلم ما يستطيعون. ولكنهم علموا فيما علموا منذ الزمان الأول، أن لهذه الديانات التي يدين الناس بها في أقطار الأرض غاية تنتهي إليها، وأمدا تبلغه فلا تعدوه، وأن دينا يهبط على الناس من السماء في آخر الزمان، فيتم من أمر السماء ما بدأ، ويحمل الناس على الجادة، ويهديهم إلى الحق الذي لا شك فيه.»
قال الشيخ وقد أخذ حتى اضطر الفتى إلى أن يهدئ من روعه: «قل قل يا ابن أخي! وبماذا حدثك؟»
قال الفتى: «وحدثني بأن الجماعة عرفت أن أمر هذا الدين قد قرب، وأن زمانه قد أظل، وأنه لن يهبط من سماء الشام حيث هبط دين اليهود والنصارى، ولا من سماء الفرس حيث ظهر دين زرادشت، ولا من سماء اليونان حيث ظهرت ديانات اليونان، ولكنه سيتنزل من سماء واد غير ذي زرع، فيه قوم غلاظ قساة لاحظ لهم من علم ولا من كتاب، يطمئن أكثرهم إلى الجهل ويضيق به أقلهم، ولكنهم على ذلك يكتمون ما يجدون من هذا الضيق، ويشاركون العامة فيما هم فيه من الجهل. يقدم بعضهم على ذلك نفاقا ورياء والتماسا للمنفعة والثروة والسيادة، ويقدم بعضهم على ذلك عجزا وكسلا وإخلادا إلى الراحة والدعة. وقد فرقت الجماعة سفراءها في أقطار الأرض المجدبة غير ذات الزرع والضرع، فهم يلتمسون فيها هذه العلامات، ويسجلون ما يجدونه منها ويؤذن به بعضهم بعضا، وينتظرون فيها هذا الدين الجديد. ونسطاس أحد هؤلاء قد وقعت له أرضنا حظا، فأقبل إليها يلهينا بالخمر والغناء والنساء، وينتظر أمر السماء.»
ولم يبلغ الفتى هذا الموضع من كلامه، حتى وثب الشيخ وثبة لم يشك الفتى حتى رآها أنه قد فقد رشده ومسه طائف من جنون. ولكن الشيخ عاد إلى أمنه وهدوئه، وظل قائما مكانه وقد رفع يديه إلى السماء وهو يقول: «قدوس قدوس! أشهد ما أنبأتني خديجة إلا بالحق!»
3
ولم يظفر عمرو بن هشام من الشيخ بعد هذا الكلام الغامض بشيء يوضحه أو يجلوه، وإنما ظل الشيخ قائما مكانه باسطا يديه أمامه رافعا رأسه إلى السماء كأنما ينتظر منها شيئا، ثم انحنى رأسه واسترخت يداه إلى جنبيه، وعاد إلى الشيخ ضعفه وهرمه، فجثا على ركبتيه وأطرق إلى الأرض وجعل يصلي بكلام حاول الفتى أن يفهمه أو أن يتبين لفظه فلم يجد إلى ذلك سبيلا. فانصرف مغيظا محنقا يسأل نفسه في أعماق ضميره: أمس الشيخ طائف من جنون، أم أراد الشيخ إلى العبث به والتعمية عليه؟ فقد لاحظ عمرو بن هشام اشتغال الشيخ عنه حين أقبل عليه، وإعراضه عنه حين تحدث إليه، ومحاولة الفرار منه كلما ألح عليه في الحديث، وتكلف الغباء والقصور عن الفهم حين بدأ يصغى إليه. وكان عمرو بن هشام يعرف من ورقة غير هذا كله، كان يعرفه حفيا به يحسن القول له والاستماع منه. وكان يعرفه ذكيا حاد الذكاء بصيرا نافذ البصيرة، لا يكاد يحتاج من محدثه إلا إلى بدء الحديث. وكان يعرفه كلفا بأمور الدين لا يكاد يعرض لها عارض بين يديه حتى يندفع كأنه السيل، فينكر على قريش مكرها ونفاقها وتكلفها عبادة الأوثان، وما هي من عبادة الأوثان في شيء، ويرثي للعرب من جهالتهم هذه الجهلاء التي يغرقون فيها إغراقا منكرا حتى يضللهم سادة قريش بهذه الأكاذيب يصوغونها عن آلهتهم هذه المنصوبة، وهم يعلمون أنهم يكذبون ويضللون، وهم يسخرون من الناس ومن الآلهة حين يخلون إلى أنفسهم وحين يخلص بعضهم لبعض نجيا. وقد راب الفتى ما رآه من تغير الشيخ هذا الضحى، وزاده ريبة ما رآه من هذه الثورة المفاجئة حين ذكر له ما ذكر من أمر نسطاس. على أن الفتى لم يصل إلى هذا الموضع من نجوى ضميره حتى ازداد ريبة إلى ريبة وشكا إلى شك؛ فقد ذكر أن وجه نسطاس لم يكن خاليا له أمس، وأن نفسه لم تكن خالصة له كما تعودت أن تخلص له حين يتقدم الليل وتسكت الموسيقى وينقطع الغناء ويتفرق الندامى ويخلو الصديقان، لا يشهد خلوتهما إلا هذان القدحان قد بقيت فيهما بقية من شراب يقبلان عليه بين حين وحين فيحسوان منه حسو القطا، وإلا هذه النجوم التي كانت تطل عليهما من السماء كأنما تريد أن ترى ما يصنعان أو تسمع لما يقولان، وهي على ذلك تخفي عليهما أسرارا غامضة طالما اشتاقا إلى استجلائها، وإلا هذا النسيم الخفيف الضئيل الذي كان يختلس مسراه من سكون الليل اختلاسا ويمر بهما من آن إلى آن حذرا متحفظا كأنما يخشى أن يفطنا له فيدلا عليه ضوء الليل.
هنالك كانت نفسي الفتى العربي ونفس الرجل الرومي تمتزجان امتزاجا غريبا، فيصفو لهما الود، ويخلص بينهما الحب، ويطيب لهما الحديث. وربما غمرهما سكون الليل وسكوت الطبيعة من حولهما فسكنا وسكتا، ورأى كل منهما مع ذلك في نفس صاحبه كما يرى في المرآة، وفهم كل منهما عن صاحبه كما يفهم الصديق عن الصديق. فأما أمس فقد كان الرومي ذاهلا عن صاحبه بعض الذهول، لا يدنو منه إلا لينأى عنه، ولا يصل إليه إلا لينفصل عنه، وكان يحدثه أحاديث متقطعة، يتحمس في بعضها حتى يبلغ أبعد غايات التحمس، ويفتر في بعضها حتى يبلغ أقصى آماد الفتور. وقد ذكر عمرو بن هشام أنه انصرف عن صديقه الرومي كئيبا محزونا يرد عن نفسه ملالة لا تريد أن ترد، ويدفع عن نفسه سأما لا يريد أن يندفع. وكان يعلل نفسه بلقاء ورقة يتعزى ببشاشته وحديثه عن فتور نسطاس وشرود خاطره، كما أقبل على نسطاس من ليلته تلك يلتمس فيما عنده من لذة آثمة أو بريئة عزاء عن هذا العتاب الثقيل الذي لقيه به عمه، فآذاه به فيما لا يحب أن يؤذي فيه من هذه الحرية التي كان يؤثرها على كل شيء، ولا يرضى أن تكون موضوعا للأخذ والرد أو للجدال والنزاع.
وكانت كل هذه الخواطر تضطرب في نفس عمرو بن هشام وهو ماض في طريقه بين دار ورقة بن نوفل والمسجد. والحق أنه دفع إلى المسجد على غير إرادة منه؛ فلم يكن في نفسه شيء من النشاط للقاء شيوخ قريش وشبابها في أنديتهم تلك التي لا يسمع فيها إلا ما يضيق به من الحديث. ولو قد فكر في الغاية التي ينبغي أن يقصد إليها بعد ما خرج من عند الشيخ لتردد بين اثنتين: فإما أن يرجع إلى داره ليخلو فيها إلى نفسه ويستقصي حساب هذه الخواطر التي كان تضطرب في ضميره وإما أن يذهب إلى نسطاس، فلعله أن يجد عنده من النشاط وحضور الذهن ما ينسيه شروده أمس وشرود الشيخ عنه اليوم. ولكنه دفع إلى المسجد بحكم العادة؛ فقد كان ينفق أول النهار عند ورقة، حتى إذا ارتفع الضحى وكادت الشمس أن تزول سعي متباطئا إلى المسجد فأدرك أندية قريش قبل أن يتفرقوا وينصرف كل منهم إلى حيث يقيل. فلما بلغ المسجد كان قد انتهى من حساب نفسه إلى نتيجة مؤلمة له أشد الإيلام، مؤذية لكبريائه أشد الإيذاء، وهي أنه لقي ثلاثة من أحب الناس إليه وآثرهم عنده في أقل من يوم، فلم ير عند أحد منهم شيئا يرضيه. فعمه يعتب عليه عتبا ثقيلا، وصديقه الرومي يعرض عنه إعراضا مرا، وورقة بن نوفل لا يهدي إليه إلا هذا الغموض الذي هو أشد عليه من عتاب العم وإعراض الصديق.
ولم يكن يقدر أنه سيلقى من أندية قريش مثل ما لقي من هؤلاء الرجال الثلاثة: أشياء إن لم تحفظه وتنته به إلى الغيظ فهي لا تسره ولا ترضيه. ولو ملك الفتى زمام نفسه واستطاع أن يستقصي أمره كما كان يفعل دائما، لرد الأمور إلى أصولها، ولعرف أن أحدا من هؤلاء النفر الثلاثة لم يلقه بشيء يكرهه، وإنما هو الذي حمل نفسه على ما لا تحب فرأى عند هؤلاء الناس ما لم يكن يحب أن يرى؛ فقد كان يأخذ الأمور دائما أخذا هينا، لا يهتم لشيء ولا يضيق بشيء. وما أكثر ما كان يلقاه عمه بالجد المر والدعابة الحلوة فلا يحفل بذلك ولا يأبه له. ونفس الصديق ليست دائما خالصة للصديق، ووجه الخليل ليس دائما خاليا للخليل؛ فللناس من أمورهم الظاهرة والخفية ما يجوز أن يشغلهم عن أحسن أصدقائهم عندهم منزلة، وأرفعهم في قلوبهم مكانة. ولكن عمرو بن هشام كان هذه الأيام حرج الصدر ضيق النفس بكل شيء، قد عرضت له أزمة من هذه الأزمات التي تعرض لأصحاب القلوب الذكية والنفوس الأبية، حين يحسون الفراغ من حولهم، ويشعرون بأن الحياة باطل ما فيها من الجد والهزل ومن الشدة والرخاء، ويلتمسون لهذه الحياة غاية خيرا مما وجدوا إلى الآن، ويطلبون إليها ثمرات أحلى مذاقا وأبقى أثرا من كل ما بلوا إلى الآن، فلا يجدون شيئا مما يلتمسون، ولا يبلغون شيئا مما يطلبون.
هنالك ينكرون أنفسهم وينكرون الناس، وهنالك يضيقون بأنفسهم كما يضيقون بكل شيء وبكل إنسان. وهنالك يدق حسهم ويرق طبعهم، فإذا هم يجدون الألم والسأم في أشياء لم يكونوا من قبل يجدون فيها ألما ولا سأما. وآية ذلك أن عمرو بن هشام لم يلق ابتسام القوم له في ناديهم بابتسام مثله، ولم يرد تحيتهم الطيبة بتحية مثلها، وإنما أقبل فأهدى إلى قومه هذه التحية التي تدفع اللائمة ولا تزيد على ذلك. ولو قد استطاع لما ألم بهم ولا جلس إليهم. فقد رأى فيهم عمه الوليد بن المغيرة فكره ذلك أشد الكره، وكاد يمضي لوجهه لولا أن جعل القوم يرحبون به ويومئون إليه أن أقبل، ولولا أن جعل عمه يناديه: «أقبل أبا الحكم فقد جئت حين اشتدت الحاجة إليك.» ولم يكد عمرو يجلس إلى قومه حتى ابتدره عمه قائلا في دعابة حلوة: «هذا أوان يختبر حزمك وعزمك وفضلك فيما تعقد من الأمور.»
قال عمرو بن هشام وهو يتكلف الابتسام: «إنك لحلو الدعابة منذ اليوم يا عم! وما أرى إلا أن أمور القافلة تستقيم لك على خير ما تهوى.»
قال الشيخ: «لم تعد الحق يابن أخي، فما أكثر ما حمل إلي من الذهب والورق والعروض! وما أشد ابتدار قريش إلى الرحلة وتنافسها في السفر! ولتعلمن قريش أن الوليد بن المغيرة ميمون النقيبة، لا يتولى لهم تجارة إلا عادت عليهم من الربح بأكثر مما ينتظرون.»
هنالك انبسطت أسارير القوم وظهر الابتهاج في وجوههم، وقال قائلهم: «والله ما علمناك يا أبا الوليد إلا سيدا كريما ميمون النقيبة في كل ما وليت من الأمر.»
قال الوليد لابن أخيه في صوته العريض العميق: «ولكن أمور الموسم لا تجري من النجح والاستقامة على مثل ما تجري عليه أمور التجارة. فقد أدركت قومك يابن أخي وهم يختصمون في شيء ليس بذي خطر في ظاهر الأمر، ولكنه بعيد الأثر في حياتهم وفيما يستقبلون من سياسة العرب. وحسبك أنها الخصومة بين المنفعة والحياء. وإذا اختصمت في نفسك المنفعة والحياء فإلى أيهما تميل؟»
قال عمرو بن هشام: «فأما إن كنت تمزح فإني أوثر المنفعة ولا أعدل بها شيئا. وأما إن كنت تريد إلى الجد فإني أوثر الحياء لا أعدل به شيئا؛ لأني أوثر دائما أن أكون رجلا، والحياء نصف مروءة الرجل. ولكني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم، فما هذه الخصومة بين المنفعة والحياء؟»
قال الوليد: «فإن قومك يستعدون للموسم كما علمت، ويتهيئون لاستقبال العرب الذين يفدون علينا من كل صوب إذا دنت هذه الأشهر الحرم، وأنا أعلم أنك مشغول بنفسك عن مثل هذه الهنات، ولكن هذه الهنات معقدة يابن أخي أشد التعقيد، ينهض بأثقالها شيوخ قومك وذوو الأحلام منهم على حين تختلف أنت وأترابك ...»
قال عمرو بن هشام: «حسبك يا عم فقد سمعت من ذلك ما أرضاني أمس»، ثم تمثل قول الشاعر اليثربي:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا
مهلا فقد أبلغت أسماعي
قال الوليد: «أما إن كان ذلك كذلك فإني أرجو أن يكون فيك خير. ولكن قومك يختصمون في الأمين وفي أمر أقدم عليه في الموسم الماضي، وهم يخشون أن يعود إليه في الموسم المقبل.» قال عمرو بن هشام: «وما ذاك؟» قال الوليد: «ألست تذكر أن محمدا غير من عادات قريش في الحج ما لا يقدر أحد على تغييره، فحج كما يحج العرب لا كما يحج أهل الحرم؟» قال عمرو بن هشام وهو يبتسم ويهز رأسه: «لا أذكر من ذلك شيئا.»
قال الوليد: «ما أنت وذاك يابن أخي! إن لك في مرح الشباب وأقداح نسطاس عن ذلك لشغلا. ولكنك تعلم على أقل تقدير أن أهل الحرم لا يخرجون منه إذا أرادوا الحج، فهم لا يفيضون من عرفة ولا يأتون منى ولا غيرها من المشاعر خارج الحرم، إنما يتركون ذلك لسائر العرب فضيلة لهم على الناس جميعا.»
قال عمرو بن هشام: «فضيلة خصوا بها أنفسهم ولم تخصهم بها الآلهة، وأقرت لهم بها العرب ضعفا وعجزا.»
قال الوليد: «هذا أول الشر. فأنت إذا لا تنكر على الأمين خروجه من الحرم، وإفاضته مع الناس من حيث يفيضون، وسيرته في الحج كسيرة رجل من العرب لا من قريش؟»
قال عمرو بن هشام: «لا أنكر عليه شيئا ولا أقره على شيء ولا أعنى من ذلك كله بكثير ولا قليل، ولو قد عنيت من ذلك بشيء لسلكت فيه طريق الأمين، ولأعنته وجاهدت معه، حتى نرد قريشا إلى السنة الأول ونلغي هذه البدعة التي ابتدعتها والتي لم نرثها عن آبائنا؛ لا لأني أحفل بقديم أو جديد، ولا لأني آبه لسنة أو بدعة، ولكن لأني أرحم هؤلاء العرب الذين تكلفونهم ما لا يطيقون، وتحملونهم ما لا يستطيعون له احتمالا، إيثارا لأنفسكم بالخير، واستكثارا للربح من غير وجهه، واتجارا بما لا ينبغي أن يتجر فيه. إنهم يأتونكم وقد حملوا ثيابهم وطعامهم وشرابهم، فتحرمون عليهم من ذلك ما أحل لهم من قبل، وتأبون عليهم أن ينزلوا بين أظهركم حتى يتحففوا كارهين من كل ما حملوا، ثم تبيعون عليهم من الثياب والطعام ما لم يكونوا في حاجة إلى أن يشتروه، ثم تكرهونهم على أن يشتروا منكم الطعام أو يقيموا بينكم جياعا، وعلى أن يشتروا منكم الثياب أو يطوفوا بالبيت ويقيموا بينكم عراة، لا تفرقون في ذلك بين الرجل والمرأة، ولا بين الشيخ الفاني والغلام الناشئ. خطة اختططتموها من عند أنفسكم لم ترثوها عن سنة ولم تأخذوها من كتاب، وإنما هو حب الاستعلاء والطمع في الربح. لا يكفيكم أن تكونوا جيران الآلهة وسكان الحرم وحماة الكعبة حتى تستنبطوا من هذا كله حقوقا لم تكن لكم. ولا يكفيكم ما تغله عليكم تجارتكم البعيدة والقريبة من مال حتى تضيفوا إليه مالا تشتقونه من جوع الجائع وظمأ الظامئ وعرى العريان.»
قال عتبة بن ربيعة وقد أحفظه ما سمع: «على رسلك أبا الحكم! فإنك والله لتشاركنا في كل هذا، تأثم معنا إن أثمنا، وتنعم معنا إن نعمنا، فأنكر على نفسك إن كنت منكرا.»
قال عمرو بن هشام: «نعم، إني لأشارككم في الخبيث والطيب من مالكم، وفي القبيح والحسن من أمركم، ولوددت والله ألا أشارككم في شيء، وأن أكون فيكم خليعا كأحد هؤلاء الخلعاء.»
قال أمية بن خلف: «ما رأيت كاليوم سفيها كنا ننتظر منه الحلم، ولا غويا كنا نرجو منه الرشد.»
قال عمرو بن هشام: «اربع
2
على نفسك أبا علي، فليس كل من خالف عن أمرك سفيها، وليس كل من انحرف عن رأيك غويا.»
قال أبي بن خلف: «أمهلوا أبا الحكم فوالله إن له لشأنا، وما علمناه عيابا ولا مشتطا على قومه، وما أرى إلا أنه في حاجة إلى أن يقيل.»
قال الوليد بن المغيرة وهو يكظم غيظه ويتكلف الابتسام والدعابة: «دعوه، فوالله ما علمته إلا ولد سوء، وما أرى إلا أن خمر نسطاس وهراء ورقة بن نوفل قد أفسدا عليه أمره. ولقد نهيته عن هذين الرجلين فلم ينته وإني أحلف باللات والعزى ليكفن عما هو فيه أو ليكونن له معي شأن كشأن زيد بن عمرو مع عمه الخطاب.» وهم عمرو بن هشام أن يرد على عمه القول، ولكن شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية قاما إليه فرفقا به حتى انصرفا به من المجلس.
وعاد شيوخ قريش إلى ما كانوا فيه من النجوى. فقال أمية بن خلف: «قد علمتم يا معشر قريش أن للأمين فيكم مكانة ما تعدلها مكانة، وأنكم لم تنكروا من أمره شيئا، وما زلت أراكم تحتكمون إليه وترضون حكمه في أمر هذا الركن. وقد علمتم أن لعبد المطلب وبنيه في الدين شأنا غير شأنكم ومذهبا غير مذهبكم: تيسرون على أنفسكم، ويشقون على أنفسهم، وتعلم ذلك منهم العرب كلها. فما زاد الأمين على أن مضى على سنة أبيه عبد المطلب فتكلف من شئون الحج ما لا تحبون أن تتكلفوا، فخلوا بينه وبين ذلك ولا تراجعوه في شيء منه فتسوءوه وتسوءوا بني هاشم، ولكم بعد في تحرج الأمين وتكلفه ما لا تتكلفون منفعة؛ فسيرى العرب أن سيدا من ساداتكم وشريفا من أشرافكم لا يكره أن يسير سيرتهم، ويحتمل من المئونة ما يحتملون، ويفيض معهم من حيث يفيضون. فإذا رأوا ذلك عرفوا لقريش السؤدد والتواضع جميعا.» قال الوليد بن المغيرة: «إن رأيك لهو الرأي يا أبا علي.» وتفرق القوم إلى دورهم.
فأما عمرو بن هشام فقد انصرف مع صاحبيه شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية كارها وهما يرفقان به ويلطفان له، يأخذانه بالجد حينا وبالدعابة والمزاح حينا آخر، حتى ثابت إليه نفسه وسكت عنه الغضب. يقول له شيبة بن ربيعة متضاحكا: «لقد قمت يا أبا الحكم عن الأمين مقاما سيعلمه وسيحمده لك.» قال عمرو بن هشام: «وأقسم ما أبغضت إنسانا قط كما أبغضت الأمين، وما آذاني شيء قط كما تؤذيني قريش حين تكرمه وتعظم من أمره ومن أمر بني عبد المطلب ما تعظم.» وكان القوم قد انتهوا إلى دار شيبة بن ربيعة، فعزم عليهم ليدخلن ولينالن عنده شيئا من طعام وشراب. فلما استقر بهم المجلس وأخذ الغلمان يهيئون لهم غداءهم ، قال شيبة: «ما ظننت قط أن أحدا يبغض الأمين، وما عرفته إلا محمدا كاسمه بين قومه محببا إلى النفوس جميعا. فهلا حدثتنا يا أبا الحكم ببدء هذا الشنآن الذي تضمره له!»
قال عمرو بن هشام: «إن بدء ذلك لقديم جدا، وإن عهدي به لفي أول أيام الشباب؛ أقبلنا على وليمة في دار عبد الله بن جدعان، فلما دعينا إلى الطعام ازدحمنا، وزاحمني محمد فزحمني، فزلت قدمي فسقطت على الأرض.»
قال شيبة: «أذكر ذلك، وأذكر أنك لم تشاركنا في طعامنا فقد أصاب إحدى ركبتيك بأس.»
قال عمرو بن هشام: «بأس! أي بأس! ما زال أثره باقيا إلى الآن، وما أرى أنه سيزول، وما أرى إلا أن بغضي لمحمد سيبقى ما بقي هذا الأثر.»
قال شيبة: «هون عليك أبا الحكم؛ أمر يكون بين الشباب لا عاقبة له.»
قال علي متضاحكا: «فإن محمدا قد فوت عليه طعام ابن جدعان وطعام ابن جدعان يؤسي عليه.»
قال عمرو بن هشام: «كان ذلك بدء بغضي له، ولكني ما زلت أسمع عنه وعن قومه الأعاجيب، يتحدث بها الناس عنه فتسمعون أنتم وتنسون، وأسمع أنا وأحفظ، ثم يغيظني من ذلك ما لا يغيظكم. أتذكرون تلك الأحاديث التي أذيعت عنه وملئت بها مكة حين سافر إلى الشام في مال خديجة بنت خويلد؟!»
قال شيبة: «أحاديث غلام أعجمي صدقها من صدقها وكذبها من كذبها، وأشاد بها هذا الصابئ الذي تألفه وتكلف به ورقة بن نوفل.»
قال عمرو: «دع ورقة لا تعرض له، فإنه ما علمت لرجل خير.»
قال علي: «توشك والله يا أبا الحكم أن تنحرف مع هذا الرجل عن مألوف قومك.»
قال عمرو ساخرا: «قومي أعز علي من هذا.»
وكانت المائدة قد مدت فأقبل القوم على طعامهم، ومضى عمرو بن هشام في حديثه يقول: «وإصهار محمد إلى خويلد واستئثاره بخديجة ومالها.» قال شيبة: «خير سيق إلى ابن عمك، فما ينبغي أن تنفسه عليه.» قال علي: «لم ينفسه وحده، ولقد شاركه في ذلك كثير من قريش.» قال عمرو: «ولا والله ما غاظني شيء قط كما غاظني احتكام قريش إلى محمد في أمر الركن ورضاها بحكمه، واستئثار محمد من دون قومه بهذا الشرف حين أخذ الحجر بيده فوضعه في موضعه من الكعبة، ونحن قيام ننظر إليه لا نقول شيئا كأنما سكرت أفواهنا، ولا نصنع شيئا كأنما شلت أيدينا.»
قال شيبة: «ما أحببت قط رجلا كما أحببت محمدا في ذلك اليوم! فقد رد عن قومه شرا عظيما.»
قال عمرو: «وما ضقت بشيء قط كما ضقت بمكان عمي الوليد بن المغيرة الذي كان يسلقني بلسانه آنفا. لقد كنت أراه حازما عازما جريئا حين ترددت قريش، يقدم على هدم الكعبة حين أشفق الملأ من ذلك وهو يقول: «اللهم لا ترع فما أردنا إلا الخير» حتى إذا حمل قريشا على ما أراد عجز عن أن يمضي في الحزم إلى غايته، وخلي بين مجد قريش وبين فتى من فتيان بني هاشم يستأثر به من دوننا.»
قال علي: «إنه الحسد يا أبا الحكم، وما علمتك قبل اليوم حسودا.»
قال عمرو: «سمه ما شئت؛ فإني أضمر لهذا الأمين من البغضاء ما لم أضمره لإنسان قط. ولو استطعت ...» ثم سكت قليلا ثم استأنف حديثه فقال: «ومن لي بأن أستطيع!» ثم التفت إلى علي قائلا: «ما علمتني يا علي حسودا، وما عرفت في نفسي حسدا، وإنك لتستطيع أن تملك من الذهب والفضة ما يملأ بين هذين الجبلين، فلن أجد في نفسي من ذلك إلا الغبطة والرضا، ولكن شاة يملكها الأمين تؤذيني وتقض مضجعي كما لو عدا على حر مالي فأخذه قهرا وقسرا.» وطوف الغلمان عليهم بأقداح من خمر بيسان فأقبلوا عليها شرهين إليها، ولكنها لم تكد تصرف عمرو بن هشام عن حديث الأمين وما كان يضمر له من البغض حتى شق على صاحبيه.
4
وكانت أجبال مكة قائمة حولها ساهمة واجمة في يوم شديد القيظ، كأنما أدركها منه ما يدرك الناس فيذهلهم عن أنفسهم وعما حولهم من الأشياء. وكانت مكة بين هذه الأجبال ساكنة سكونا مخيفا لا حركة فيه، هادئة هدوءا مفظعا لا نشاط فيه، قد استقرت بين هذه الأجبال، واستقر فيها كل شيء، فما تجري فيها نسمة، وما يغني فيها طائر، وما تصوت فيها حشرة، وإنما هي جامدة هامدة تصب فيها أشعة الشمس المحرقة صبا، وتنعكس في هذه الأشعة المحرقة ألوان مختلفة من هذه الصخور القائمة من حولها، حتى ليخيل إلى من كان يمكن أن يراها في ذلك الوقت أنها طست يصب فيها معدن مذاب يصهر كل ما مسه من شيء. وفي هذه المدينة الجامدة الهامدة المحرقة المشرقة كان رجل رومي يسعى ثقيل الحركة بطيء الخطو متخوفا يلتفت عن يمين وشمال في كثير من الحذر، كأنما يخشى أن يرى مكانه أحد. وكان يسعى مجهودا مكدودا شديد الإعياء قد ألهبته هذه الشمس المهلكة، ولكنه على ذلك يسعى إلى غايته لا يبالي تعبا ولا نصبا، حتى إذا بلغ دار ورقة بن نوفل رأى غلاما قائما بالباب يرقب مقدمه، فلما رآه مقبلا تلقاه بابتسامة صامتة، ثم سعى بين يديه حتى أدخله الدار وأغلق من دونهما الباب، ثم سعى بين يديه ينقله من دهليز إلى دهليز ومن حجرة إلى حجرة، يسعى لا يقول شيئا، والرومي وراءه يمشي لا يقول شيئا، حتى انتهيا إلى حجرة في أقصى الدار، فلما دخلاها أغلق الغلام الباب من دونهما، ثم أحدث حسا فظهر ورقة كأنما كان في مخبأ. فلما رأى الرومي حياه بالإشارة ثم قال: «اتبعني يا نسطاس.» ثم التفت إلى الغلام وقال: «أما أنت فمكانك حتى نحدث لك أمرا.» وهبط ورقة يتبعه نسطاس في سلم كان في زاوية من زوايا الغرفة، فلما انتهيا إلى أسفل السلم أمعنا في نفق طويل ضيق ولكنه جعل يتسع قليلا قليلا كلما أمعنا فيه حتى انتهيا إلى مجلس حسن، فلما بلغاه جثا كل من الرجلين على ركبتيه وأخذا يصليان بلغة غير عربية صلاة طويلة. فلما فرغا من صلاتهما مد ورقة يده إلى قدح فيه شيء من خمر فقرأ عليه كلاما ثم قدمه إلى الرومي، فشرب منه ثم رده إلى ورقة فشرب ما كان قد بقي فيه. ثم تحول الرجلان عن مكانهما ذاك إلى حشية قد ألقيت على الأرض فجلسا عليها وبين أيديهما شراب أقبلا عليه صامتين. ثم قطع نسطاس الصمت قائلا: «إنه الفجر يا ورقة.» قال ورقة: «نعم، إنه الفجر يا نسطاس! والفجر الصادق هذه المرة، فقد طالما كذبتنا نجوم الليل.» قال نسطاس: «فقد أخذ الليل ينجلي.» قال ورقة: «ولكنه ينجلي في بطء شديد.» قال نسطاس: «وقد آن لي أن أرحل بالخبر إلى أصحابنا قبل أن تشرق الشمس.» قال ورقة: «أو قبل أن يرتفع الضحى.» قال نسطاس: «بل قبل أن تشرق الشمس فالخير في البكور. وقد كان شاعركم يحب الغدو مع الطير، فلنكن عربا ونحن نودع أرض العرب.» قال ورقة: «ولكنك عجلت على نفسك أمس يا نسطاس.» قال نسطاس: «بما حدثت به عمرو بن هشام؟» قال ورقة: «نعم.»
قال نسطاس: «لا ترع، فقد كان يجب أن نؤذن قريشا بمطلع الفجر، وأن نهيئها لما سيغمرها من نور، ونعدها لما تضمر لها الأقدار مما تحب وما تكره. وما أعرف أحدا كان أقدر على أن يهيئ قريشا لهذا الأمر من صاحبك هذا؛ فإنه فتى طموح شديد الطموح، مغرور يكاد يقتله الغرور، حسود يأكل الحسد قلبه كما تأكل النار ما يلقى فيها من الحطب، وهو على ذلك ذكي القلب، فصيح اللسان، أثير عند قومه. وما أرى إلا أنه سيكون أشد الناس عداوة لهذا النور الجديد، وما أرى إلا أن عداوته ستزيد هذا النور انتشارا كلما أمعنت في الشدة والحدة. وكذلك الأقدار يا ورقة تدبر للناس أمورهم كما تحب هي لا كما يحبون هم. نور يخرج من ظلمة، ثم ما تزال الظلمة تحاربه وتغالبه حتى يقهرها. أرأيت إلى صاحبنا هذا الذي أشرق الفجر في قلبه وسيشرق على الناس من فمه كيف أقبل على هذه الدنيا وكيف استقبل أيامه فيها؛ يولد أبوه وهو أحب الناس إلى أبويه، ولكنهما يفتنان فيه فتنة لم يعرفها الناس منذ إبراهيم، حتى إذا خلص الفتى من الفتنة وقرت به عينا أبويه خرج إلى الشام فلم يعد من رحلته تلك، وإنما دفن في حفرة بيثرب. لم يولد لنفسه، وإنما ولد لينقل ابنه إلى الأرض، فلما أدى أمانته مضى لسبيله. وتلد آمنة ابنها وتقوم عليه، حتى إذا تقدم به الصبا قليلا واستغنى عن خدمة الأمهات مضت أمه إلى حيث مضى أبوه، وظل الصبي يتيما عائلا ضالا، لا ينتظر أحد له خيرا، ولا يظن به أحد خيرا، ولا يحفل به أحد، ولا يلتفت إليه أحد، إلا الذين أرادت الأقدار أن يعرفوا بعض شأنه وأن يقوموا ببعض أمره، لا يتكلفون في ذلك إلا أيسر الأمر وأهونه؛ لأن الذي اختارته الأقدار لمثل هذه المهمة العظمى لا ينبغي أن تكون للناس عليه يد، ولا يرعاه ويكلؤه إلا من اصطفاه لما يريد.»
قال ورقة: «هو ذاك يا نسطاس. وما أكثر ما بحثنا وأمعنا في البحث! وما أكثر ما استقصينا وغلونا في الاستقصاء! نبعد ومحمد بين أظهرنا. نلتمس مشرق النور في أقطار الأرض ومشرق النور يسعى بين أيدينا، حتى إذا تتابعت الآيات وتظاهرت الأدلة ظننا في غير قطع أننا قد اهتدينا إلى ما كنا نبحث عنه، وجعلنا نرقب محمدا منذ خمس عشرة سنة منذ عاد من الشام. أتذكر يا نسطاس؟» قال: «نعم.» قال ورقة: «ما زلنا نرقبه منذ ذلك اليوم والآيات يتبع بعضها بعضا، والأدلة يشد بعضها أزر بعض حتى جاء الحق وظهر نور الله.»
قال نسطاس: «هو ذاك! ولكن بماذا أرحل إلى أصحابنا؟» قال ورقة: «بما علمت.» قال نسطاس: «فإني لم أعلم من ذلك إلا خلاصته، وقد أحب أن أحمل إلى أصحابنا تفصيله. وقد أنبئت أن عندك من هذا العلم كله، فأعد علي من ذلك ما تعلم، تقول أنت بعربيتك وأكتب أنا بيونانيتي، حتى إذا بلغت أرض الروم أفضيت بالأمر إلى أصحابنا فأخذوا له ما ينبغي من الأهبة، وتهيئوا له كما ينبغي أن يتهيئوا لهذا الأمر العظيم.»
قال ورقة: «يا ليتني أستطيع أن أرتحل معك، وأن أشارككم فيما ستبذلون من جهد وما ستحتملون من مشقة لتعدوا بلاد الأعاجم لاستقبال الشمس المشرقة حين يبلغها نورها.»
قال نسطاس: «ولكن عليك أن تقيم حيث أنت، وعلي أنا أن أعود إلى بلاد الروم، بهذا أمرنا، ولا بد من أن نذعن لما أمرنا به. فاقصص علي بدء حديثك فقد هيأت كل شيء للرحيل، ويجب أن أترك مكة قبل أن تغرب الشمس وأن يأتي فتيان قريش إلى حانة نسطاس فلا يجدوا فيها نسطاس، ولا يجدوا فيا خمرا ولا غناء ولا نساء، وإنما يجدون دارا خالية بلقعا يبابا، كما سيجدون دورا لقومهم حين يرتفع ضحى هذا النور الجديد.»
قال ورقة: «فإن ابنة عمي خديجة قد أقبلت علي ذات يوم فأنبأتني بالنبأ تعيد علي حديث زوجها، وقد حفظته عنها كما سمعته منها، فإن شئت فاكتب.» فأقبل نسطاس على رق يكتب فيه. وجعل ورقة يقول: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» يقول نسطاس: «يا لها كلمة حلوة المجرى على اللسان، حسنة الموقع في القلب، خالدة في الدهر ما بقي الدهر!» قال ورقة: «أتكتب يا نسطاس؟» قال نسطاس: «نعم.» قال ورقة: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : جاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني
3
به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم . قال: فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها. فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.»
4
ثم سكت ورقة فلم يقل شيئا، وكف نسطاس فلم يكتب شيئا، وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة، كأنما كانت نفساهما قد فارقتاهما وجعلتا تسموان إلى أفق بعيد ليس من هذا العالم الذي يحيط بهما في شيء. ولو قد رآهما راء على هذه الحال لخيل إليه أن قد اشتمل عليهما النوم. وآية ذلك أن الحس عاد إليهما فجأة فذعرا من هذا الصمت كأنما هبا من نوم عميق، ونظر كل منهما إلى صاحبه نظرة طويلة صامتة ثم مد كل منهما يده إلى صاحبه فصافحه مصافحة طويلة، وإذا دموعهما تنهل في صمت، وإذا نسطاس يقول لصاحبه: «ما أحسن ما كوفئنا يا ورقة بعد شدة الجهد وطول الانتظار! ولكن ممن سمعت حديثك هذا الذي حدثتني؟» قال ورقة وقد أشرق وجهه بشرا وابتهاجا: «سمعت حديثي هذا من خديجة أول الأمر، فما أنكرت منه شيئا وما شككت في أن هذا الملك الذي جاء محمدا هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، فعرفت أن محمدا لم يفجأ بلقاء الملك ولا بتلقي الوحي، وإنما هيئ لذلك شيئا فشيئا حتى أنكر نفسه وأساء بها الظن؛ فقد جعل قبل أن يأتيه الملك بوقت طويل يرى من آيات ربه أشياء لم يكن يراها من قبل، فينكر ما يرى ويظن بنفسه العلة، ويصرفها عما كان يرى ويسمع، فلا تكاد تنصرف عنه، أو لا يكاد ينصرف عنه ما كان يرى ويسمع. وكان أول أمره من ذلك أن صدقته أحلام الليل صدقا لم يألفه الناس ولم يألفه هو فيما مضى من دهره، فكان لا يرى رؤيا إلا صدقت وصحت وتحققت كأنها فلق الصبح، حتى كاد النوم يكون آثر عنده وأحب إليه من اليقظة. ثم أحس حب الخلوة والحاجة إليها، فكان لا يلم بمكة إلا قليلا، ثم يخرج منها فيمضي أمامه في شعاب الجبال مستأنسا بهذه الوحشة مطمئنا إلى هذه الوحدة. ولكن خلوته هذه لم تلبث أن رابته وأثارت في نفسه الظنون، أو قل لم تلبث أن فارقته، وإذا هو لا يخلص لنفسه ولا تخلص له نفسه ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وإذا الفرق بين الليل والنهار قد ألغي بالقياس إليه إلغاء، فهو لا يرى إلا نورا يأخذه من كل وجه سواء أكانت الشمس مشرقة أم كان الليل مظلما مدلهما، فقد الظلمة فقدانا تاما، ثم فقد السكون والصمت فقدانا تاما؛ فكان لا يمشي إلا سمع الأصوات تناجيه أحسن النجوى، وتحدثه أعذب الحديث وتحييه أكرم التحية، يسمع ذلك من الأشجار، ويسمع ذلك من الأحجار، ويسمع ذلك من حصباء الأرض، ويسمع ذلك من نسيم الجو، حتى أنكر نفسه أشد الإنكار، وحتى أقبل ذات يوم على خديجة مدلها مولها مذعورا يقول: تعلمين يا خديجة أني والله ما أبغضت شيئا كما أبغض هذه الأوثان التي تعكف عليها العرب، وما كرهت شيئا كما أكره ما ألف العرب من الكهانة، وإني مع ذلك لأجد أشياء أنكرها، وأخشى أن يلم بي لمم أو أن أصير إلى الكهانة. تقول له خديجة: لا بأس عليك! أنت أكرم على ربك وآثر عنده من أن يصنع بك هذا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتصنع المعروف، حتى كان ذلك اليوم الذي نبئ فيه.»
وكان ورقة يقص هذا الحديث هادئا مشرق الوجه باسم الثغر، وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان. ثم سكت ورقة لحظة ثم استأنف حديثه فقال: «وقد لقيت محمدا بعد ذلك، فسألته أن يعيد علي ما حدثتني به خديجة من شأنه وما حدثتك به آنفا، فيعيده علي؛ لا والله ما ينقص منه حرفا وما يزيد فيه حرفا، فيشرق الهدى في نفسي ويمتلئ قلبي يقينا ونورا، وأبشره بما ستبشر به أصحابنا في الإسكندرية وغيرها من مدن الروم، وبما ستنتشر أنباؤه في الآفاق من أنه نبي هذه الأمة. وأثبته وأوذنه مع ذلك بشيء من بعض العنت الذي سيلقاه من قومه.» قال نسطاس: «أوقد فعلت؟» قال ورقة: «نعم، ألسنا نقرأ في كتبنا أن قومه سيكذبونه وسيؤذونه وسيخرجونه وسيقاتلونه؟!» قال نسطاس: «بلي»: قال ورقة: «فقد تحدثت إليه ببعض ذلك، أولسنا نقأ في كتبنا أن علينا نصره وتأييده ما وسعنا النصر والتأييد؟» قال نسطاس: «بلى.» قال ورقة: «فقد وعدته بذلك، ولكن أنى لي هذا الفضل وإنما أنا هامة اليوم أو غد!» ثم استعبر واستعبر معه نسطاس. فلما سكت عنهما البكاء قال نسطاس: «وماذا كان صدى حديثك في نفسه؟» قال ورقة: «والله ما كدت أحسب أن قد كان لحديثي في نفسه صدى! دهش لما أنبأته به بعض الدهش، ثم أعرض عنه كأنه لم يسمع له. لا والله ما رأيت إلا حزما وعزما، وإلا يقينا وإيمانا، وإلا تصميما على أن ينهض بالأمانة ويؤدي الرسالة مهما يكتنفه من الأحداث والخطوب. وليتني كنت حاضر أمره!» قال نسطاس: «وليتني كنت حاضر أمره! ولكنك لن تحضر من أمره إلا قليلا، ولكني لن أحضر من أمره في هذه الأرض شيئا. والأقدار تجري بما تريد يا ورقة، وإنما نحن مأمورون، وعلينا أن نمضي لما أمرنا به حتى يبلغ الكتاب أجله.» ثم جثا الرجلان وبسطا أيديهما أمامهما وخفضا رأسيهما إلى الأرض وجعلا يصليان بلغة غير عربية وقتا غير قصير ثم نهضا، وتناول نسطاس قدحا فيه شيء من شراب، فبارك عليه ثم قدمه إلى صاحبه فشرب منه ثم أخذه هو منه فشرب سائره، ثم اعتنق الرجلان وخرجا من مجلسهما يسعيان في نفقهما الذي جعل يضيق شيئا فشيئا، حتى إذا بلغا السلم صعدا فيه، فوجدا الغلام قائما لم يبرح مكانه.
قال ورقة للغلام: «هل هيئ كل شيء؟» قال الغلام: «نعم! إن فرس نسطاس ينتظره في المكان الذي يعلمه.» قال ورثة لنسطاس: «فإنه الوداع إذا يا نسطاس!» قال نسطاس: «إنه الوداع.» ثم اعتنق الرجلان مرة ثانية، يقول ورقة لنسطاس: «انطلق راشدا مصاحبا» ويقول نسطاس لورقة: «وأقم موفقا مهديا.» ثم يغلق الباب من دون ورقة، وإذا هو قائم وحده ينظر عن يمين وينظر عن شمال ويرفع رأسه إلى السقف ثم يجثو باسطا يديه أمامه وهو يصلي بلغة لا تفهمها ولا تتكلمها قريش.
5
ومضت على عمرو بن هشام أيام لم يعرفها ولم ينكرها، كما أن قومه لم يعرفوه فيها ولم ينكروه. راح إلى دار نسطاس من يومه ذاك فألفاها قاعا صفصفا، فلما سأل عن صاحبه الرومي قال له من سألهم: والله ما ندري إلا أننا أحسسنا في دار نسطاس حركة وجه النهار فلم ننكر شيئا، فلما أمسينا رأينا الدار كما تراها. فانطلق إلى دار ورقة يستأذن عليه، فيقول له غلام ورقة: إن سيده يشكو بعض العلة ولا يستطيع أن يرى أحدا. ولو قد استجاب الفتى لنفسه لذهب إلى دار عمه الوليد بن المغيرة، ولكنه ذكر ما كان بينه وبين عمه في المسجد فأعرض عن لقاء الشيخ إعراضا. ولو قد استمع الفتى إلى ما ملأ قلبه من الضجر والضيق لعاد إلى بيته كئيبا كاسف البال سيئ الخلق فساء أهله وبنيه، ولكن ماذا جنى أهله وبنوه!
فينطلق الفتى إلى مجلس من تلك المجالس التي كان يجتمع فيها شباب قريش حين يقبل الليل يشربون ويطربون ويعبثون بكل إنسان وبكل شيء، حتى إذا بلغ مجلسهم تلقوه دهشين يقولون له: ويحك أبا الحكم! فأين أنت من نسطاس؟! قال:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
قال أخوه الحارث بن هشام:
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود العواثر
قال عمرو بن هشام: «لا والله ما أزالت نسطاس صروف الليالي ولا الجدود العواثر، وإنما أزالته أمور دبرت بليل وكيد يكاد لقريش.» قال القوم: «ويحك أبا الحكم! ماذا تقول؟» قال عمرو: «وأقسم لولا جبن قريش وحرصها على مالها وتجارتها لما قصرت في طلب نسطاس حتى أدركه وحتى أرده عليكم وحتى أذيقه من العذاب ألوانا، ويومئذ تعلمون ما يكاد لكم من الكيد، ويومئذ تعلمون أنكم تسرفون على أنفسكم حين تضيفون هؤلاء الغرباء، وتبسطون لهم وجوهكم، وتغدقون عليهم كريم أموالكم ثمنا لما يفتنونكم به من أقداح الخمر وغناء المغنيات. لا والله ما هؤلاء الغرباء إلا عيون عليكم لقيصر وكسرى؛ ولكنكم أصحاب تجارة تجوبون الأرض ولكم في كل بلد قافلة وأموال، فأنتم تخشون على أموالكم وأنفسكم. وأنتم تبيعون أمنكم وعافيتكم بهذا الربح الذي تتهالكون عليه. ولو قد عشتم كما يعيش العرب من حولكم لكرمتم على أنفسكم وعلى الناس أكثر مما أنتم.»
قال عتبة بن ربيعة: «ما أكثر ما تنعي على قومك منذ اليوم يا عمرو! فدعني أقل لك الآن مثل ما قلته لك في المسجد، فابدأ بنفسك فعش كما يعيش العرب من حولنا.»
قال عمرو بن هشام وفي صوته سخرية حزينة:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
ستستبينون الرشد غدا أو بعد غد. ثم ضرب إحدى يديه بالأخرى وصاح: الخمر يا غلام. وأقبل على شرابه عاكفا عليه مسرفا فيه حتى عربد على أصحابه من ليلته تلك، وعاد إلى أهله سكران لا يكاد يبين. ثم لم تره قريش بعد ذلك إلا مغيظا محنقا، يسخر من كل شيء إن هدأ، ويغضب من كل شيء إن جمحت به نفسه، وما أكثر ما كانت تجمح به نفسه! وما أكثر ما كان يؤذي أصحابه وأترابه في غدوه ورواحه! حتى لقد كانوا يتجنبونه ويتكلفون النأي عنه. ولولا مكانه من مخزوم وموضعه من عمه الوليد بن المغيرة لأصبح خليعا في قريش كما تمنى غير مرة أن يكون.
وبينما كان رائحا في ذات يوم إلى حانته تلك يشرب فيها ويطرب وينغص على شباب قريش شربهم وطربهم، عرض له في بعض الطريق شيخ أعرابي حسن الوجه، رائق المنظر، لولا أنه كان غليظ الزي خشن الثياب، يكاد يبدو عليه الضر، لولا أنه يتجمل ويروض نفسه على ما لم يتعود الأعراب أن يروضوا أنفسهم عليه. فلما رأى عمرو بن هشام هذا الشيخ مقبلا عليه، رماه بنظرة سريعة فيها كثير من السخرية وقليل من الحذر، وهم أن يمضي لوجهه. ولكن الشيخ استوقفه في رفق، فأظهر عمرو أنه لا يحفل به. ولكن الشيخ رفع صوته قليلا بهذه الكلمة: «مكانك يا فتى فإن لي إليك حديثا.»
وبلغ هذا الصوت أذن الفتى فروعه شيئا، ولم يدر الفتى أيحب هذا الصوت أم يكرهه، وأراد ليمضي أمامه ولكن رجليه لم تطاوعاه، فقام مكانه كأنما ثبتت قدماه في الأرض تثبيتا. ودنا الشيخ منه يسعى متباطئا قصير الخطى، حتى انتهى إليه فوضع إحدى يديه على كتفه في رفق وقال له في صوت بلغ أعماق قلبه: «لا ترع يا بني فما أريد بك إلا خيرا.» قال الفتى في صوت مضطرب يريد أن يثبت: «من تكون أيها الشيخ؟ وماذا تريد؟» قال الشيخ: «ستعرف من أكون، وستعرف ماذا أريد، ولكن تعلم أني بعد أن وضعت يدي هذه على كتفك هذه قد ملكت أمرك كله، فلن تنطق إلا بلساني، ولن تعمل إلا برأيي، ولن تصدر إلا عن أمري. وآية ذلك أنك ستحاول أن تمضي الآن أمامك فلن تطاوعك رجلاك، وستحاول أن تعود أدراجك فلن تطاوعك رجلاك، فاجتهد أن تتقدم، ثم اجتهد أن تتأخر، فلن تجد متقدما ولا متأخرا، ستظل قائما مكانك حتى آذن لك في أن تتقدم أو تتأخر. ثم تناءى عنه قليلا وأشار إليه أن جرب قدميك إن شئت. وهم الفتى أن يخطو إلى أمام فلم يستطع، كأنما شدت قدماه إلى الأرض بأسباب الرصاص. وهم الفتى أن يتحول ليرجع أدراجه فلم يستطع، كأنما استحال جسمه إلى تمثال نحت من الصخر الصلد. وهم الفتى أن يدير رأسه إلى يمين أو إلى شمال فلم يجد إلى ذلك سبيلا. وهم الفتى أن يبعث من فيه صيحة يلتمس بها الغوث فلم يجد في جوفه إلا نفسا خائرا لا يبلغ أن يكون صوتا يسمعه الناس.» والشيخ الأعرابي قائم منه غير بعيد ينظر إليه باسما له رفيقا به عطوفا عليه. ثم دنا الشيخ منه قليلا قليلا، حتى إذا حاذاه ضحك له ضحكة فيها كثير من الحب وكثير من السخرية، ولكنها سخرية لا تخلو من حنان وعطف، ثم قال له في صوت حلو: «الآن وقد عرفت سلطاني عليك فامض لوجهك، حتى إذا بلغت حانتك تلك فاشرب فيها ما شئت أن تشرب، واطرب فيها ما أحببت أن تطرب، وقل فيها ما أردت أن تقول، فلن تسوء قومك منذ الآن مهما تقل أو تفعل، ولن تسمع منهم إلا ما يرضيك، ولن ترى منهم إلا ما يسرك. لست أكبرهم سنا ولا أعظمهم قدرا ولا أكثرهم مالا، ولكنهم سيسمعون لك كما لو اجتمع لك هذا كله. ولن يطول بك المقام في حانتك تلك حتى يأتيك رسول عمك الوليد بن المغيرة أن زره من الغد فإن له معك شأنا. ولا تعجل على نفسك ولا على أصحابك ولكن خذ من اللهو بأوفر حظ ممكن. ثم إذا انصرفت لتعود إلى أهلك فاذكر أني أنتظرك في هذا المكان، ولك أن تسلك إلى بيتك أي طريق شئت فإنك لن تبلغ دارك ولن تغلق الباب من دونك حتى تراني جالسا أنتظرك. وستراني مهما تكن ظلمة الليل، وستراني وحدك لن يراني معك أحد، وسأناجيك وستسمعني وحدك لن يسمعني معك أحد. امض لوجهك، ولا تحاول أن تخالف عن أمري؛ فقد ملكت ناصيتك منذ اليوم.»
ونظر عمرو بن هشام حوله فلم ير أحدا، وحرك رجليه فاستجابتا له، وحرك يديه فاستجابتا له، ولوى وجهه إلى يمين وإلى شمال فلم ير في ذلك عسرا. وقد شق عليه ما رأى، وشق عليه ما أحس وظن أن قد ألم به طائف من الجن، وهم أن يستغيث ولكنه استحيا، وهم أن يتحدث إلى أصحابه في الحانة ببعض ما رأى ولكنه استحيا، فأقبل على لهوه وشرابه كأن لم يكن شيء، وأقبل على أصحابه وأترابه يحدثهم أرق حديث وأحسنه. يقول بعضهم لبعض: ما نرى إلا أن أبا الحكم قد عاد إلى خير أيامه، وذهبت عنه العلة التي كانت ألمت به.
ولم يكد يبلغ الثاني من أقداحه حتى أقبل غلام من غلمان عمه الوليد، فهمس في أذنه أن ألمم بعمك من غد فإن له في لقائك أربا. فوقع همس الغلام في قلب عمرو موقعا غريبا نبهه إلى الشيخ الأعرابي وقد كاد ينساه، ولكنه على ذلك مضى في لهوه مقبلا عليه مغرقا فيه وفي حديثه إلى أصحابه وأترابه يرضيهم بجده ويسرهم بدعابته، ويسمع منهم خير ما أحب، وهو مع ذلك لا يكاد يخلص لما كان فيه من لذة الشراب والحديث والغناء، يذكر الشيخ الأعرابي بين حين وحين فتغشى قلبه غاشية من خوف وحزن، ثم لا يلبث أن يدفع ذلك عن نفسه، ويمضي في منادمة قومه، سمح الطبع، كريم النفس فصيح اللسان بأعذب الحديث. فلما تقدم الليل واستوفى القوم حظهم من السمر وهموا أن يتفرقوا، كان عمرو قد استرد مكانه في قلوب أصحابه جميعا، فيأبى شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية بن خلف أن يفارقاه حتى يبلغاه داره. يقول لهما عمرو: «والله ما هذه لكما بطريق، وما تعودت منكما هذا الرفق، وما أرى أن بي بأسا، وما أحسب أن أحدا يرصدني في الطريق، فانصرفا إلى أهلكما وصلتكما رحم.» فيقولان له: «والله ما بك شيء مما ذكرت، وما بنا رعاية لك أو إشفاق عليك من مكروه، وإنما عدت إلى حسن سابقتك فينا، فنريد أن نعود إلى حسن عهدك بنا. ولا والله ما نصاحبك إيثارا لك بصحبتنا بل إيثارا لأنفسنا بصحبتك. ولو استطعنا لسمرنا معك إلى آخر الليل، وإنما أنت صديق فقدناه ثم وجدناه.» ويمضون وفي نفس عمرو بن هشام شيء من الرضا والأمن؛ فقد كان يكره أن يلقى الشيخ وحده، وما كان يشك في لقائه، وفي نفسه شيء من الحياء فقد كان يكره أن يراه الشيخ مع صاحبيه فيظن به جبنا أو فرقا. ومع ذلك فقد مضى مع صاحبيه يقول لهما ويسمع منهما كأن نفسه لم تكن تحدثه بشيء، وكأن قلبه لم يكن يفرق من شيء. فلما بلغ المكان الذي لقي فيه الشيخ آخر النهار أبطأت قدماه شيئا ومد بصره، فيرى الشيخ قائما ينتظره ويبتسم له ابتسامة فيها كثير من الرضا، يراه وحده ولا يشك في أن صاحبيه لا يريان ما يرى. وآية ذلك أنهما لم يكفا عما كانا فيه من حديث، ولم يلقيا بالا إلى شيء لأنهما لم يحسا شيئا.
ويمضي القوم أمامهم والشيخ الأعرابي معهم يراه عمرو دون صاحبيه، ويكاد يؤذن صاحبيه بمكانه، ولكن شيئا من حياء يرده عن ذلك: فقد كان يخشى أن يظن به صاحباه الجنون. فما حديثه إليهم عن شيخ يراه هو ولا يريانه هما؟ وكيف به لو قص عليهما ما كان بينه وبين الشيخ آنفا؟ وكيف به لو حدثهما بأن الشيخ قد أنبأه بأن الأمور ستصفو بينه وبين أصحابه وأترابه، وبأن عمه سيدعوه لزيارته بعد ما كان بينهما من قطيعة، وبأن هذا كله قد كان! ولكنه لا يحدث صاحبيه بشيء بل لا يظهر لهما أن شيئا يدور بخلده غير ما يدور بينه وبينهما من حوار في أمر هذه القافلة التي ستفصل بعد يوم أو يومين، والتي تحمل من الذهب والورق والعروض إلى بلاد الروم ما لم تحمله قافلة لقريش منذ أعوام، والشيخ الأعرابي يرمق عمرا معجبا به عاطفا عليه. حتى إذا بلغ القوم دار أبي الحكم حيا بعضهم بعضا واتعدوا نادى قومهم في المسجد إذا كان الغد. وانصرف شيبة وعلي، ودخل عمرو داره، ولكنه لم يدخلها وحده وإنما دخلها معه الشيخ باسم الثغر مشرق المحيا يقول: «لا عدمتك بطلا من أبطال قريش! أشهد لقد أنجبت الحنظلية. لقد شهدتك بين قومك تجد ما تجد من الخوف، وتنكر ما تنكر من الأمر، لا يصرفك ذلك عن الحديث والمنادمة. ولقد شهدتك تحاول أن تخلص من صاحبيك لا إيثارا ولا إسراعا إلي ولكن إبقاء على نفسك أن أظن بك جبنا أو فرقا. ولقد قرأت ما كان يدور في نفسك من الخواطر حين لقيتني فأخفيت هذا كله لم يظهر أحد من دخيلة نفسك على شيء. وكذلك يجب أن يكون الرجل، ولا سيما حين تهيئه الأيام لأمور جسام.»
قال عمرو ولم يجد في نفسه خوفا ولا فرقا، ولم ينكر مكان هذا الشيخ منه: «ألا ترى أنك قد أثقلت علي منذ الليلة؟ ألا تنبئني ما خطبك؟ وماذا تريد مني؟!»
قال الشيخ: «لك أن تلقاني بما أحببت من رفق وغلظة، ولك أن تحدثني بما شئت من لين القول وعنيفه، فقد وطنت نفسي على أن أحتملك كما أنت؛ لأن كل شيء فيك يروقني ويعجبني. وستعلم حين يتصل بينك وبيني الحديث، أني لم أثقل عليك منذ الليلة ولن أثقل عليك إلى آخر الدهر.» ثم ضرب على كتفه مبتسما وهو يقول: «فسأكون صديقك وحليفك إلى آخر الدهر، وستحمد مغبة هذه الصداقة وعواقب هذه الحلف، ولكن ابتغ لنا مجلسا، فما يحسن أن يطول بنا الحديث ونحن قائمان. هلم أبا الحكم! لقد عهدتك جميل اللقاء للضيف، تحسن قراه إن ألم بك، فما لك لا تعرض علي طعاما ولا شرابا؟ بل ما لك لا تعرض علي مجلسا أستقر فيه؟ إنك تريد أن أنتسب لك كما تعود الضيف أن يفعلوا حين يلمون بمن يضيفهم من الناس. وما يغنيك أن أنتسب لك وأنت لن تفهم عني نسبي إن عرضته عليك؟! وهل تفهم عني إن قلت لك إنني ابن النار منها خرجت وإليها أعود إن كنت إليها عائدا لا أعرف لي غيرها أبا ولا أما.»
قال عمرو بن هشام وفي صوته شيء من الاضطراب: «ما رأيت كالليلة شيخ سوء يتحدث بكلام لا غناء فيه! ما ابن النار منها خرجت وإليها تعود؟!»
قال الشيخ: «ومع ذلك فليس لي نسب غير هذا. لا تعجل على نفسك فإن لكل شيء إبانه. ابغ لنا مجلسا، ولا تكلف نفسك القرى فقد نام أهل الدار، وما ينبغي أن توقظهم ولا أن تكلفهم قرى ضيف لا يرونه ولا يسمعونه.»
قال عمرو: «فتظنهم لا يسمعوننا الآن ونحن نتحدث؟ وهبهم لا يسمعون صوتك أنت، أتظنهم لا يسمعون صوتي أنا؟ وما تراهم يقولون حين يسمعونني أتحدث إلى شخص لا يرونه ولا يحسون مكانه؟»
قال الشيخ وهو يضحك ضحكا غريبا: «لا بأس عليك أبا الحكم! إنهم لا يسمعونك ولا يسمعونني مهما يرتفع صوتانا. إنهم لا يعلمون أنك قد عدت من سمرك، ولن يعلموا ذلك حتى أنصرف عنك، ولن ترى منك أم عكرمة إلا خيرا. ابغ لنا مجلسا، فأما إن أبيت فانحرف بنا إلى هذا المجلس عن يمينك من فناء الدار، فقد نستطيع أن نطمئن فيه. واعجب إن كنت في حاجة إلى العجب، فسأقدم إليك من القرى ما لم ترد أن تقدم إلي. إن معي زقا من خمر الطائف فشاركني في شيء منه.» ثم أخذ بيده حتى أجلسه، وأخرج زقا صغيرا من وعاء كان يحمله على ظهره، وأخرج قدحين فصب فيهما منه، ثم قال للفتى: «هلم أبا الحكم، فستحمد نشوة هذه الخمر.» ويحسو عمرو من القدح الذي قدم إليه فيقول: «لا والله ما شربت قط خمرا كهذه الخمر، إن لها مذاقا غريبا في الفم، ونكهة غريبة في الأنف، وحرا غريبا في الجوف.»
قال الشيخ: «ودوارا غريبا في الرأس، إنها خمر أبي مرة يا بني. هذه هي الكنية التي ستعرفني بها منذ الآن. إذا أعيا عليك أمر من الأمور، أو ضاق بك مسلك من المسالك، أو وجدت من الناس غير ما تحب، فادع حليفك أبا مرة، فسيستجيب لك قبل أن يرتد إليك طرفك، وسيفرج عنك كل كربة، وسيخرجك من كل ضيق. ولنأخذ الآن فيما أردت أن أتحدث إليك فيه، لقد أتيت أمرين في هذه الأيام كرهت أحدهما أشد الكره، ورضيت عن الآخر أشد الرضا. فأما الأمر الذي كرهته منك فخلافك لقومك، وخروجك عليهم، وازدراؤك لما يقولون ويعملون، واشتدادك على عمك في الحديث وقطيعتك له منذ اليوم، كل هذا كرهته أشد الكره لأنك عماد قومك وموئلهم وذخرهم الذي ادخر لهم حين تقبل الحوادث وإنها لجسام مفظعة. فعد إلى عملك فواصله، وعد إلى قومك فارفق بهم. واردد نفسك عن جماحها، واردد لسانك عن شططه، ودع هذه السخرية مما عليه قومك فإنه قوتهم، ولو قد انحرفوا عنه قليلا لتخطفهم الناس. ولو قد تخطفهم الناس لهلكت العرب! فقريش ردؤهم وكهفهم الذي إليه يأوون. وأما الأمر الذي أحببته منك أشد الحب، فبغضك لابن عبد المطلب هذا الذي يسميه قومك الأمين ضعفا منهم وخرقا، وإنه لهم لمصدر البلاء كل البلاء والشر كل الشر والمحنة كل المحنة.»
قال عمرو في شيء من الحدة: «إليك عني! فوالله ما أحببت من نفسي هذه الخصلة، وما أرى إلا أني ظالم لابن عبد المطلب. حاسبت نفسي منذ قلت تلك المقالة في دار شيبة فما حمدت حسابها. إن ابن عبد المطلب ليصل الرحم ويصدق الحديث ويرفق بالضعيف ويرحم الرقيق، وإنه لمؤتمن في قومه على الهين والعظيم من أمرهم، وإني لأجد في نفسي الحسد له، وليس الحسد من أخلاق الرجل الكريم. وإني لأروض نفسي منذ ذلك اليوم على أن أعود على ابن عبد المطلب بالعافية وأمنحه مودتي وبري، ولكني لا أجد إلى ذلك سبيلا، فيسوءني من نفسي هذا الضعف، وهذا هو الذي أفسد خلقي منذ أيام.»
قال الشيخ وهو يقدم القدح إلى عمرو: «اشرب أبا الحكم ودع عنك هذه الخواطر! فلقد صدقتك نفسك حين حملتك على بغض هذا الرجل. ولئن حمدت فيك شيئا إنما أحمد فيك هذا البغض العنيف، هذا البغض الذي لا يبقي ولا يذر، هذا البغض الذي لا يعرف رحمة ولا هوادة ولا لينا ولا أناة. وإن هذا البغض على عنفه وشدته لقليل بالقياس إلى ابن عبد المطلب.»
قال عمرو: «أبينك وبينه دم؟!»
قال الشيخ: «ليس بيني وبينه شيء، وإنما الشر كل الشر بينك أنت وبينه. أتذكر حين زحمك عند ابن جدعان؟ إن ذلك لم يكن إلا رمزا لما سيكون بينك وبينه من خصام لا يحده إلا الموت. إنك لا تعرف من أمر ابن عبد المطلب شيئا. إنك ترى قومك يكرمونه والشر كل الشر في إكرامهم له. إنه يدبر لهم من الأمر ما سينغص عليهم أيامهم، ويؤرق عليهم لياليهم، ويكدر عليهم صفو الحياة. أتذكر حديث نسطاس حين أنبأك بأن سيكون للسماء خبر؟ فإن ابن عبد المطلب هو الذي سيحمل إليكم خبر السماء. أتذكر ثورة ورقة بن نوفل حين أنبأته بحديث نسطاس؟ فإن ورقة يزعم من ذلك مثل ما يزعم نسطاس.» ثم قدم القدح إلى الفتى وهو يقول: «اشرب أبا الحكم! إنك لمتثاقل على الشراب منذ الليلة.» فيشرب عمرو ويقول للشيخ: «ويلك! والله ما أدري أخمرا تسقيني أم نارا؟!» فيجيبه الشيخ: «لست أسقيك خمرا ولست أسقيك نارا أبا الحكم، وإنما أسقيك بغضا لابن عبد المطلب لو سلط البحر عليه ما أطفأه. لقد رحت إلى نسطاس من يومك ذاك فلم تجده، ورحت إلى ورقة فاعتل عليك يزعم أنه سقيم. أتريد أن تعرف ما كنت تجهل من أمر نسطاس؟ فإنه قد خلا إلى ابن نوفل ساعات من نهار، ثم انصرف عنه إلى بلاد الروم ينبئ جماعته تلك التي حدثك عنها بأن النبي الذي كانوا ينتظرونه قد ظهر، وبأن ابن عبد المطلب هو هذا النبي. وكره ورقة أن يلقاك حين رحت إليه، وسيكره لقاءك كلما حاولت أن تلقاه؛ لأنه يكره أن يتحدث إليك من أمر ابن عبد المطلب بقليل أو كثير، فلم يؤذن له بعد في الحديث عن هذا الأمر.»
قال عمرو وقد أدركه دهش كاد يخرجه عن طوره: «ومن الذي يستطيع أن يأذن لورقة أو لا يأذن له؟»
قال الشيخ: «ما أدري! ولكن أمر ابن عبد المطلب سيظل سرا خفيا حينا من الدهر، لا يباديكم به ولكنه يهيئ لكم في أثناء ذلك شر ما تكرهون.»
قال عمرو: «ماذا يهيئ لنا؟» قال الشيخ وهو يقدم القدح إلى الفتى: «تريد أن تعرف ماذا يهيئ لكم؟ سيلقى في قلوب الذين يتبعونه أن لهم إلها غير آلهتكم لا يراه أحد ولا يحسه أحد وهو مع ذلك في كل مكان وفي كل قلب. وسيلقى إليهم أن آلهتكم كلها باطل من الباطل لا تملك لنفسها ولا لكم خيرا ولا شرا.»
قال عمرو: «والله ما أكره من ذلك شيئا.» قال الشيخ «وسيلقى إليهم أن ليس بين الناس قوي ولا ضعيف، وأن ليس بينهم شريف ولا وضيع، وأن ليس بينهم سيد ولا مسود، وأنهم جميعا سواء كأسنان المشط قد خلقوا من التراب وإلى التراب يعودون، وأن ما بينهم من اختلاف المنازل وتفاوت المراتب وتباين الطبقات ظلم يجب أن يرفع وباطل يجب أن يزال.»
قال عمرو: «إني لأرى في هذا شيئا من حق، ولكن نفسي تكرهه وتنبو عنه.»
قال الشيخ وهو يقدم إليه القدح: «اشرب أبا الحكم! فلا بد من أن نستنفد ما في الزق.» ثم استأنف حديثه فقال: «سيلقى إليهم أن الناس جميعا سواء لا يتفاوتون في الدنيا وإنما يتفاوتون في الآخرة بما يقدمون بين أيديهم من العمل، فمن عمل صالحا فله جنة لا أدري ما هي، ومن عمل سيئا فله نار لا أدري ما هي.» قال عمرو وقد رفع القدح إلى فمه فشرب منه: «وما الآخرة هذه التي تحدثني عنها؟»
قال الشيخ وهو يصب في القدح ليملأه: «حياة يزعم ابن عبد المطلب أنها كائنة بعد الموت، وأنها لا آخر لها.»
قال عمرو وقد عب في القدح عبا شديدا، وقدحت عيناه شيئا كأنه الشرر، وغشى وجهه شيء كأنه اللهب، وانبعث من فمه ضحك قبيح: «حياة بعد الموت لا آخر لها! هلم أبا مرة اسقني من خمرك هذه التي كأنها النار، أو من نارك هذه التي كأنها الخمر. حياة بعد الموت لا آخر بها! لن تخرج بزقك وفيه قطرة من شراب. حياة بعد الموت لا آخر لها! حياة بعد أن نصبح ترابا تذروه الريح!»
قال الشيخ وهو يصب في القدح ليملأه: «اشرب أبا الحكم فإنك لا تشرب خمرا ولا نارا، وإنما تشرب بغضا مذابا. فأما في حياتكم هذه الأولى فأنتم وعبيدكم وإماؤكم سواء، ليس لكم عليهم فضل. وأما في حياتكم تلك الثانية فقد تلقون أنتم في النار تصهر جلودكم وتحرق وجوهكم، ويدخل عبيدكم وإماؤكم الجنة ينعمون فيها بالطيبات وأنتم ترون! تستقونهم قطرة من ماء فلا يجودون بها عليكم لأنكم نعمتم في حياتكم الأولى، فيجب أن تشقوا وتبتئسوا في حياتكم الآخرة، ولأنهم شقوا وابتأسوا في حياتهم الأولى فيجب أن ينعموا ويبتهجوا في حياتهم الآخرة. توشك أن تسمع ذلك أبا الحكم ممن في دارك ودار أصحابك من الرقيق.»
قال عمرو: «وإن محمدا ليقول هذا للناس؟!»
قال الشيخ: «نعم! إنه ليقول هذا للناس، وإن الناس ليسمعون منه ويؤمنون له ويكثرون من حوله. وإن شئت فاغد إلى ابن أبي قحافة فسله عن ذلك، وإن شئت فاغد إلى زيد بن محمد فسله عن ذلك، وإن شئت فاغد إلى هذا الصبي علي بن أبي طالب فسله عن ذلك، فسينبئونك جميعا بأكثر مما أنبأتك به.»
قال عمرو: «ومن أين لمحمد هذا الحديث؟»
قال الشيخ في صوت يضطرب اضطرابا فيه الغيظ والخوف معا: «يزعم أن هذا الحديث يأتيه من السماء، ينزل عليه به الملك فيلقيه إليه في كلام غريب، يشبه الشعر وما هو بالشعر، ويشبه السجع وما هو بالسجع.» قال عمرو: «فاقرأ علي بعضه.»
ولم يكد الشيخ يسمع هذه الكلمة من عمرو حتى تضاءل وتضاءل، واربد وجهه وأخذته رعدة منكرة، وقال في صوت مضطرب بلسان لا يكاد يبين: «كلا! كلا! لا تطلب إلي ذلك، فما ينبغي لي أن أقرأه.»
قال عمرو: «ويلك! ماذا أصابك؟»
قال الشيخ: «دعني! دعني! واشرب حتى تفرغ ما في هذا القدح؛ فقد أعلمتك من أمر ابن عبد المطلب ما كان ينبغي أن تعلم، وما زلت تجهل أكثره؛ لأن أمر ابن عبد المطلب لم يتجاوز أوائله بعد.»
قال عمرو: «وهل تنزل الملائكة من السماء وتلقي إلى الناس أخبارها؟»
قال الشيخ: «محمد يزعم ذلك، ويزعمه كذلك نسطاس وورقة بن نوفل، ومن قبلهم زعمه أهل الكتاب.»
قال عمرو وهو يعب في القدح عبا شديدا: «وما بال السماء لم تختر لأمرها غير محمد؟! أليس في قريش إلا محمد!»
قال الشيخ وهو يبتسم ابتسامة منكرة: «كلا! ليس في قريش غير محمد، ليس فيها الوليد بن المغيرة، وليس فيها أمية بن خلف، وليس فيها عتبة بن ربيعة ولا شيبة بن ربيعة، وليس فيها أبو الحكم عمرو بن هشام فتى مخزوم وسيدها!»
قال عمرو وقد ظهر في وجهه غيظ شديد: «أما إذ قلت ذلك فإن مخزوما كلها لتبغض هاشما كلها، وقد كنت أنقم من بني أمية تكلفهم وأنفس عليهم جدهم في تجارة قريش وحرصهم على سياتها، فأما الآن فلا والله ما أبغض أحدا كما أبغض بني هاشم، ولا أجد من الضغن على أحد كما أجد على فتاهم هذا الذي يسمونه الأمين!»
قال الشيخ في صوت فاتر متكسر: «هون عليك أبا الحكم! فإنك لم تبل من بغض هؤلاء الناس إلا أهونه وأيسره، ولتبلغن العداوة بينك وبينهم أقصاها. فإذا بلغت ذلك فاذكر أن صديقك أبا مرة ليس منك ببعيد، وأن زقه ما زال رويا يسبأ للذات في كل يوم، كما قال امرؤ القيس.» ثم سكت قليلا ثم استأنف حديثه في صوت ضئيل: «قد أوشك الليل أن ينقضي أبا الحكم، وآذن الصبح بإسفاره، فعد إلى أهلك فقد شققنا عليهم، ولكنهم لم يعلموا من سهرنا ولا من سمرنا شيئا.»
قال عمرو: «لم يعلموا من سهرنا ولا من سمرنا شيئا! اسقني أبا مرة! فقد حرمت علي النوم من ليلتي هذه.» ولكن أبا مرة لم يسقه ولم يجبه. وينظر عمرو فلا يرى أحدا، فينهض متثاقلا وهو يقول: «لم يعلموا من سهرنا ولا من سمرنا شيئا!»
6
وأصبحت قريش فاجتمعت في أنديتها حول البيت كدأبها في كل يوم. وإنهم لفي أحاديثهم وإذا قائل منهم يقول: «انظروا يا معشر قريش هذا والله العجب.» فينظرون فلا يروعهم إلا الوليد بن المغيرة قد أقبل يتوكأ على ابن أخيه عمرو بن هشام باسما به متحدثا إليه. يقول بعض قريش لبعض: والله إن للوليد بن المغيرة لشانا، ما علمناه إلا عنيف الغضب إذا غضب، بطيء الرضا إذا رضى، عنيدا إذا خاصم، وما علمنا ابن أخيه عمرا إلا مثله أنفة وكبرياء، وقد باعد بينهما ما رأينا وسمعنا من ذلك الخلاف والحوار، حتى قال الوليد لابن أخيه إنه ابن سوء، فماذا قرب بينهما؟ وأيهما سعى إلى صاحبه؟
قال شيبة بن ربيعة: «ما أحسب إلا أن الشيخ هو الذي تقرب إلى ابن أخيه، وقد رأيت أحد غلمانه، يلم بنا في بعض مجالسنا فيلقي في أذن أبي الحكم حديثا قصيرا ثم ينصرف.»
وكانت قريش تتحدث بهذه الألفة بين الرجلين على حين كان الوليد وابن أخيه يطوفان بالبيت. وكان الوليد يطوف كما تعود غير آبه ولا مكترث، وإنما هو عبء يلقيه عن نفسه كعادة الملأ من قريش إذا غدوا على أنديتهم بالمسجد من كل يوم. ولكن عمرا كان يطوف في هيئة لفتت إليه أشراف قومه، فيها كثير من الاجتهاد والاحتفال، وفيها كثير من التواضع والتضاؤل، وقد ظهر على وجه الفتى شيء من الإيمان بما كان يفعل والصدق فيه، حتى قال بعض قريش لبعض: «والله لقد دعا أبو الحكم إلى سنة قومه واجتهد فيها، وما نرى إلا أن قد ذهب عنه ما ألفنا عنده من السخرية بكل شيء والازدراء لكل شيء.»
حتى إذا فرغ الرجلان من طوافهما أقبلا فسلما وجلسا، ولم يجرؤ أحد أن يدخل فيما كان بينهما من نفور، وفيما استأنفا من تواصل ومودة، وإنما أخذوا في المألوف من أحاديثهما كأن لم يكن بينهم شيء. حتى أقبل النضر بن الحارث مهرولا، فطاف بالبيت عجلا أشد العجلة، حتى لاحظ الملأ ذلك، فقال بعضهم لبعض: إن للنضر اليوم لحديثا يريد أن يلقيه إلينا، ألا ترونه يعجل بطوافه أشد العجلة! وقد كان للنضر حديث يريد أن يلقيه إليهم حقا، فما كاد يفرغ من طوافه حتى أقبل إليهم مسرعا، فسلم وأخذ مجلسه. وابتدره عمرو بن هشام قائلا في دعابة حلوة: «ما وراءك يا نضر؟ هات فوالله إن لديك حديثا تريد أن تلقيه إلينا.»
قال النضر: «وأي حديث! ألم تعلموا أن قد حدث لبني عبد المطلب شأن؟!» قال الوليد: «وما ذاك؟» قال النضر وهو يضحك: «ظهر فيهم نبي هذه الأمة يتلقى أخبار السماء فيبلغها إلى الناس.» قال عمرو بن هشام مسرعا: «وهذا النبي هو محمد؟!» قال النضر: «هو محمد والله! لقد كنا نعجب لما كان يروى لنا من أخبار عبد المطلب حين أمر في المنام أن يحتفر زمزم وحين خاصم قومه فيها ففجر له الماء تفجيرا، وحين قام مقامه من صاحب الفيل، وحين فادى بابنه ذاك فداءه المعروف. ووالله لقد كنا نعجب لما كان الناس يحدثوننا به من أمر حفيده محمد بن عبد الله ذاك الذي فودي به فلم يمهله الموت في مكة إلا ليدركه في يثرب منصرفه من الشام؛ فقد كانوا يحدثوننا عن هذا الفتى بالعجب من الحديث حين كان صبيا ينشأ، وحين كان غلاما يشب، وحين كان فتى يستكمل رجولته وقوته، ولقد كنا نحبه ونكرمه ونؤثره بخير ما عندنا من المودة والمعروف، حتى سميناه الأمين ورجعنا إليه في كل ما كان يحزبنا من الأمر. وما أرى إلا أننا قد أغريناه وأبطرناه، فهو الآن يستألف سيرة جده عبد المطلب ولا يدع الناس يتحدثون عنه بالأعاجيب، بل يتحدث هو بها عن نفسه، فيزعم أن الملائكة تتنزل عليه بأحاديث السماء، وأنه قد أمر أن يبلغ هذه الأحاديث إلى الناس ويدعوهم إلى بدع من الأمر والله ما سمعنا به في آبائنا الأولين.»
قال عمرو بن هشام وقد ظهر في وجهه غيظ شديد: «إيه! ورب هذه البنية
5
لقد أغريتموه وأبطرتموه. وما أكثر من تغرون ومن تبطرون! وما أرى إلا أنكم ستلقون من هذا كله شططا. أفلم أكن أحدثكم منذ أيام يا شيبة بن ربيعة بأمر نسطاس وأمثاله من هؤلاء الأعاجم الذين تمدون لهم أسباب العيش، وتيسرون لهم ما تعسرون على غيرهم من العرب؟! ألم أكن أذكر لكم أن هؤلاء الأعاجم ما هم إلا عيون قيصر علينا، يفدون علينا تجارا، ويقيمون بين أظهرنا أحرارا، يقولون لنا ويسمعون منا، ويذيعون فينا البدع، ويكيدون لنا الكيد، ثم ينصرفون عنا وقد أخذوا من أموالنا ما أرادوا، وعلموا من أمرنا ما أحبوا، واذاعوا فينا من مذاهبهم وآرائهم ما لا عهد لنا به؟! فهؤلاء هم الذين أفسدوا علينا زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وغيرهما من كرام قومنا. وما محمد إلا أحد هؤلاء.»
قال الوليد بن المغيرة: «على رسلك يابن أخي! إنك لمجتهد في النعي على هؤلاء الروم، ولقد كنت أشدنا لهم معاشرة، وأكثرنا لهم مخالطة. ولقد نهيتك عنهم وعن نسطاس منهم خاصة، فلم أكن أرى منك إلا نأيا وازورارا. ولا والله ما أعلم أن محمدا كان يختلف إلى نسطاس أو إلى أشباه نسطاس، كما كنتم تختلفون إليه وكما تختلفون إلى أمثاله من تجار الروم، وما علمت من أمره إلا خيرا. إنه لأفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والأذى، وما رئى ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سميناه الأمين لما تبينا فيه هذه الخصال. فإن كان قد جاء بما يحدثنا النضر أنه قد جاء به، فلا أحب أن أعجل في أمره. وما أظن أنه يريد أن يدخل على قومه سوءا. وإنه لأبر الناس بقومه، وأوصلهم رحما، وأقربهم لهم مودة، فاستبينوا أمره قبل أن تقولوا فيه بما لا تعلمون.»
قال عتبة بن ربيعة: «وكيف علمت ما علمت من أمره يا نضر؟»
قال النضر: «علمت ذلك من بعض الذين صبوا إليه واستجابوا له. ألم يحدثني أخو جمح عثمان بن مظعون أنه قد جلس إليه، فبينما هو جالس معه إذ رآه يرفع رأسه إلى السماء ثم ينحرف عنه ساعة ثم يعود إليه. فلما أنكر عليه ذلك قال له: إن الملك قد نزل علي من السماء فأوحى إلي أمر الله. فلما سأله عن أمر الله هذا، تلا هذا الكلام الذي حفظه عثمان واستجاب له، وحفظته أنا ولم أستجب له، ولكن في نفسي منه شيئا.»
قال عمرو بن هشام، وقد ذكر في سرعة غريبة أن صاحبه أبا مرة لم يستطع أن يتلو عليه شيئا مما كان يوحي إلى محمد، وإنما عجز عن ذلك وتضاءل له وأدركه منه رعب شديد. قال عمرو بن هشام: «فاقرأ علينا يا نضر ما سمعت وحفظت.» فتلا النضر هذه الآية:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . قال الوليد وقد سمع القوم فأعجبوا وأطرقوا برءوسهم إلى الأرض: «صدق والله محمد وبر. أقسم ما جاء قومه إلا بخير. ماذا تنكرون من هذا؟ وهل فينا من لا يحب العدل والإحسان! وهل فينا من يكره إيتاء ذي القربى! وهل فينا من يحب الفحشاء والبغي! أما والله لو جاء محمد قومه بمثل هذا دائما لكان أعطف قومه عليهم وأرأفهم بهم وأهداهم إلى سبيل الخير.»
قال عمرو بن هشام في شيء من الحدة يريد أن يكظمه: «ويحك يا عم! لقد كنت تأمرنا آنفا ألا نعجل في أمر محمد حتى نستبينه، فإني أراك تعجل في أمره قبل أن تستبينه! إنك لم تسمع من أمره إلا ما حدثنا به النضر، ولو قد سمعت من أمره ما سمعت أنا لقلت فيه غير ما تقول الآن.»
قال الوليد: «ماذا سمعت يابن أخي؟» قال عمرو: «سمعت أنه جاء بما يفرق به بين المرء وزوجه، وما يفرق به بين الأب وابنه، وما يفرق به بين المرء وأخيه، جاء بالمساواة بين السيد والعبد، وبين القوي والضعيف، وبين الغني والمعدم، بل جاء بما يلقي في روع الضعفاء والأذلة من الناس أنهم خير من ساداتهم وأرفع منهم عند الله مكانا، بل جاء بما يلقى في روع الناس أن ليس لهم إلا إله واحد يجب أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن آلهتنا هؤلاء الذين هم وسطاؤنا عند الله باطل لا يملكون لأنفسهم ولا يملكون لنا نفعا ولا ضرا. أفيعجبك هذا يا عم؟!»
قال الوليد وقد ملكه رعب شديد شاع في غيره من الملأ وقد رفع يديه فجعلهما أمام وجهه كأنما يحتمي بهما من هول ما سمع: «أما هذا فلا» يقولها ثلاثا، ويقولها الملأ معه كلما قالها.
قال النضر: «فروا رأيكم يا معشر قريش! فقد جاءكم ابن عبد المطلب بأمر عظيم.»
قال عمرو بن هشام: «وأي رأي تريد أن نرى؟ إنه والله الهول ، فإن لم نغلبه غلبنا. والله لنأخذن عليه الطريق، ولنسدن عليه المسالك، ولنحمين منه دين قريش وسلطانها وسيادتها على العرب.»
قال الوليد: «هو ذاك يابن أخي، ولكن لا تعجلوا على صاحبكم وانتظروا به حتى يبين لكم أمره جليا.»
قال عمرو: «ننتظر به حتى يفسد علينا أمرنا، وحتى نحاول الإصلاح فلا نجد إليه سبيلا! لا والله لا نظرة ولا إمهال، وإنما هو السعي والاستقصاء منذ الآن، والسؤال عن أمر محمد عند من عرفه من قريب ومن عرفه من بعيد، ومن يلوذ به من أتباعه إن كان له أتباع، ومن يحف به من بني هاشم.»
قال القوم في صوت رجل واحد: «هذا والله الرأي يا أبا الحكم لا أرى غيره، لنسعين ولنستقصين، ولنسألن عن أمر محمد القريب والبعيد.»
وتفرق القوم وفي صدر كل واحد منهم هم ثقيل. ولا يكاد عمرو بن هشام يبعد عن المسجد قليلا حتى يرى حليفه ذاك الأعرابي فجأة، لا يدري أنجم له من الأرض أم هبط عليه من الجو، ولكنه يراه وقد وضع يده على كتفه وهو يقول: «وريت
6
بك زنادي؛ لقد سدت قومك وملكت أمرهم، فلن يخالفوك في شيء منذ اليوم.»
7
وأقام رسول الله في قومه دهرا لا يعرض لهم بشيء يكرهونه، ولا يلقونه بشيء ينكره، وإنما يدعوهم إلى كلمة الحق، ويذيع فيهم البر والمعروف، ولا يجلس إلى أحد منهم إلا قال له خيرا أو دعاه إلى خير، وقريش ترى منه ذلك، فتحمد حبه للعافية، وسعيه بالخير، ولقاءه للناس بما يرضون. وقريش تسمع دعوته إلى الله، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فيستجيب له من أشرافها القليلون، ويستجيب له الكثيرون من الفقراء والمستضعفين وأهل البؤس والضر. وهو يسوي بين أولئك وهؤلاء في حبه لهم وبره بهم وعطفه عليهم، لا يفرق منهم بين الغني والفقير ولا بين ذي النفر والقوة ومن لا عون له ولا ظهير، إنما هم جميعا إخوانه وأبناؤه، قد أحبهم في الله والخير، وأحبوه في الله والخير. والملأ من قريش يرون ذلك فيعرفون بعضه وينكرون بعضه: يعرفون دعوته إلى البر والمعروف، وسعيه بين الناس بالخير، ويعرفون أنه لا يؤذيهم ولا يريدهم بسوء، ولكنهم ينكرون إيثاره للصغار والبائسين وتتبعه لهم بالود والبر والتكرمة، ويقول بعضهم لبعض: لئن اتصل هذا من محمد ليفسدن علينا الناس، وليطمعن فينا ضعفاءهم، وليصبحن أحدنا فإذا عبيده وإماؤه وأتباعه ومواليه يطلبون إليه أن يلقاهم من الخير والبر والمساواة بمثل ما يلقاهم به محمد، ويومئذ لا يستقيم لقريش أمر. ثم يقول بعضهم لبعض: ولكن محمدا لم يبغكم شرا، ولم يقدم إليكم مساءة في عادة أو دين، إنما هو يأتي المسجد كما تأتونه، ويطوف بالبيت كما تطوفون به، ويسعى في أمره كما تسعون في أموركم، ولكن له مع ربه ومع الناس مذاهب لا تذهبونها، وسيرة لا تسيرونها، فلا سبيل لكم عليه حتى يباديكم بما تكرهون. فيغيظ ذلك منهم عمرو بن هشام ويلقاهم بالشدة والحدة والمنكر من القول، يقول: «والله يا معشر قريش إنه للعجز، وإنكم لتخافون من ظلالكم. إنكم لتكرهون من محمد مثل ما أكره، ولكنكم تخافون أن تبادوه بما في نفوسكم فيباديكم بما في نفسه، فيظهر الشر بينكم وبينه، ويغضب له بنو هاشم وبنو عبد مناف، فتكون الحرب. وما عرفت أبغض منكم للحرب، ولا أشد منكم لها تهيبا ومنها إشفاقا.»
يقول قومه: «لا تجهل أبا الحكم! فما عرفناك جهولا، وما علمنا أن بينك وبين محمد شرا.» فيجيب: «واللات والعزى ما أنا بالجهول! ولقد أسرفت على نفسي كما أسرفتم على أنفسكم في الحلم، وإن بيني وبين محمد للشر كل الشر، وإن بينكم وبينه للشر كل الشر، ولكني أرى ما لا ترون، وأعلم ما لا تعلمون.»
فيضحك عمه الوليد بن المغيرة ويقول: «ويح قريش من هذين الفتيين! أحدهما يأتيها بأخبار السماء، والآخر يرى ما لا ترى ويعلم ما لا تعلم. والله ما أدري ماذا ألم بهذا الحرم وقد كان آمنا!»
وفي ذات يوم امتلأت مكة بحديث كان له في قلوب الناس جميعا وقع غريب؛ فقد تحدثوا أن رسول الله خرج من صمته ودعا إليه أشراف قريش، فلما اجتمعوا إليه عرض عليهم دينا جديدا فيه التوحيد، ووعدهم إن سمعوا له واستجابوا لدعوته أن يكون لهم شرف الدنيا والآخرة، وأنذرهم إن أبوا عليه وأعرضوا عن دعوته أن يستقبلوا عذابا مبينا مهينا يلقون صدرا منه في حياتهم الأولى، ثم يخلدون فيه بعد الموت إلى غير غاية ولا أمد. وتحدثت قريش بأن عمه أبا لهب كان أول من رد عليه فكذبه وآذاه، وتفرق الناس عنه ولم يقل له أحد غير عمه شيئا.
تحدثت بذلك قريش نهارها كله وشطرا من ليلها، ثم أصبحت فتحدثت به، ثم أمست فخاضت فيه، ثم جعلت لا تصبح ولا تمسي إلا كان محمد لها حديثا. وجعل عمرو بن هشام يلم بأندية قريش في المسجد وبمجالسهم في الدور والمتاجر، ويخرج إلى الظواهر فيلم بأندية البادين منهم، يقول لأولئك وهؤلاء: «أترون يا معشر قريش إلى محمد وقد ألقى القناع، ودعاكم جهرة إلى ما كان يدعوكم إليه سرا؟! وإني أحلف باللات والعزى لو أخفتموه حين كان يذيع مقالته فيكم خفية لما اجترأ على أن يفجأ الملأ منكم بما فجأكم به، فخذوا حذركم وروا رأيكم، واجتهدوا لأنفسكم. فكأني بمحمد قد أفسد عليكم ضعاف الناس في مكة، وكأني به قد أفسد عليكم العرب وأغواهم بكم وأطمعهم فيكم. وايم الله لتقتلن محمدا أو ليقتلنكم جميعا.»
فيجيبه أشراف الناس وذوو الأسنان والمكانة فيهم: «إن ما تقوله لحق يا أبا الحكم، ولكن الأمور لا تؤتى بهذا العنف ولا تعالج بهذه العجلة. إن لمحمد فينا لمكانة وشرفا، وإن له من قومه لعزا ومنعة، وإن لبني هاشم وبني عبد مناف لبأسا وقوة، فما ينبغي أن نعرض لمحمد بمكروه حتى نعذر فيه، وما نحب أن تسفك قريش دماءها بأيديها، وإنما ندعو محمدا فنقول له ونسمع منه لعلنا نصرفه عن هذا الذي هو ماض فيه، فإن لم يقبل منا رأينا فيه رأينا.»
فيرفع عمرو بن هشام كتفيه ساخرا، ويهز رأسه مستهزئا ويقول: «شيوخ قريش وذوو الأسنان والأحلام فيها! ويل لقريش من الأسنان والأحلام!» فلما أكثر من ذلك وأثقل على عمه الوليد وعلى مشيخة قريش قال له عمه: «على رسلك يابن أخي! إنك لتتمادى في الجهل من يوم إلى يوم، وإن وجهك هذا الرائع، ولسانك هذا الذرب الفصيح لن يغنيا عن قريش شيئا إذا قطعت أرحامها وسفكت دماءها، ولم ترع لهذا البيت مكانه، ولا لهذا الحرم حقه.»
ثم اجتمع الملأ من قريش فدعوا رسول الله إليهم، فلما جاءهم قالوا له فأكثروا القول، عرضوا عليه المال فرد عليهم المال، وعرضوا عليه الشرف والسيادة فرد عليهم الشرف والسيادة، وعرضوا عليه الملك والسلطان فرد عليهم الملك والسلطان، وعرضوا عليه الطب إن كان مريضا فرد عليهم الطب وقال: ما أنا بمريض. ثم قال لهم رسول الله فدعاهم إلى الله، وحبب إليهم الخير، وزين لهم البر، وبين لهم أن آلهتهم لا تغني عنهم من الله شيئا، ووعدهم شرف الدنيا والآخرة إن صدقوه، وأنذرهم خزي الدنيا والآخرة إن كذبوه، فتفرقوا عنه ولم يظفروا منه بشيء، ولم يظفر منهم بشيء، ولكنهم انصرفوا عنه وفي قلوبهم من الخوف والفرق ما لا يكادون يخفونه، وانصرف عنهم وفي نفسه من الثقة واليقين ما يملأ قلبه إيمانا وتثبيتا.
واستأنف عمرو بن هشام سعيه فيهم وإلحاحه عليهم، يغريهم بمحمد مجتمعين، ويغريهم به متفرقين، يسعى إليهم في أنديتهم ويلم بهم في بيوتهم، فيناجيهم في بغض محمد ويخوفهم منه ويؤلبهم عليه. وأبو مرة من ورائه يقويه ويشد أزره، ويساقيه البغض والحسد لمحمد حين يخلوان إذا تقدم الليل. حتى زار ذات يوم أمية بن خلف فرآه محزونا مكروبا، قال: «ويحك أبا علي، إني لأراك كاسف البال كئيب النفس.»
قال أمية: «إن كنت لصادقا يا أبا الحكم في كل ما خوفتنا من محمد وما صورت لنا من أمره.»
قال عمرو وهو يبتسم: «وما ذاك يا أبا علي؟» قال أمية: «لقد دخل بيتي من محمد شر.» قال عمرو وهو يضحك: «أوأصابك الغيث؟» قال: «نعم! هذا عبد من عبيدي بلال بن رباح تبع محمدا، فهو يصلي كما يصلي محمد، ويدعو بدعوته ويعتل علي فيما لم يكن يعتل علي في مثله من قبل، ويوشك أن يفسد علي رقيقي كلهم إن استأنيت به.»
قال عمرو: «ولم تستأني به؟» قال أمية: «إنها الرحمة والبقيا يا أبا الحكم، فما تعودت قتل الرقيق. وإني لأرجو أن أستصلحه فيعود علي منه نفع.»
قال عمرو: «لا تقتله ولكن عذبه حتى يثوب إلى ما تحب، وحتى يكون مثلا لغيره من غلمانك وإمائك ومواليك.»
ومنذ ذلك اليوم بدأت محنة بلال رحمه الله، فسامه أمية من العذاب ألوانا وألوانا، وكان يأتي به في اليوم القائظ وقد أجاعه وأظمأه حتى يكاد يهلك فيلقيه على الأرض قد قيدت وشدت يداه إلى ظهره، ويعمد إلى الحجر الضخم الثقيل فيضعه على صدره ويقول: لتهلكن أو لترفضن ما تابعت محمدا عليه؛ فلا يزيد بلال على أن يقول: «أحد! أحد!» حتى مر أبو بكر رحمه الله بأمية ذات يوم وهو يصنع ببلال ذلك، فرق أبو بكر، وكان رقيقا، ونهى أمية فلم ينته، فاشترى بلالا وأعتقه. وسن أبو بكر رحمه الله هذه السنة. فكان بينه وبين عمرو بن هشام صراع رائع حقا، يغري عمرو بن هشام سادة قريش بتعذيب من يسلم من رقيقهم، ويعلم أبو بكر ذلك فيسعى في شراء هؤلاء الرقيق وإعتاقهم ليعبدوا الله أحرارا، حتى أنفق في ذلك صفوة ماله وكان غنيا.
وقد رأى عمرو بن هشام أن تعذيب الرقيق يسوء محمدا وأصحابه، ولكنه لا يمنع كلمة الله أن تنتشر، ولا دين الله أن يظهر، فأخذ يغري أشراف قريش بفتنة الأحرار من المسلمين وتعذيبهم، حتى يرجعوا عن دينهم، وحتى يكونوا مثلا يخوفون بهم غيرهم من الناس. ولكن هذه الفتنة وإن شقت على محمد وعلى أصحابه لم تمنع كلمة الله أن تنشر، ولا دين الله أن يظهر. وجعلت الأمور تجري في مكة على هذا النحو، يشتد عمرو بن هشام وأضرابه في إيذاء محمد وأصحابه والإغراء بهم، فلا يزيد ذلك كلمة الله إلا انتشارا، ولا يزيد ذلك دين الله إلا ظهورا. وقد عرف الناس في تاريخهم كله أن لن يخدم رأي ولا دين بمثل اضطهاد أصحابه وفتنتهم، وقد كثر أصحاب محمد من الرجال والنساء، من الأغنياء والفقراء، من الأحرار والرقيق، وقد ائتلفوا حوله يلقاهم مصبحا وممسيا، فيدعوهم ويعلمهم ويبشرهم، وينذرهم، يجتمعون حوله مخلصين له مصدقين لما جاء، ويتفرقون عنه داعين إلى ما يدعو إليه من الخير، ثم يعودون إليه وقد زاد عددهم الرجل أو الرجال. وعمرو بن هشام لا يزداد لذلك إلا غيظا، حتى ساء خلقه وقبحت سيرته واستهتر بالدعوة إلى الفتنة والإغراق فيها، فعرف بين المسلمين بأبي جهل؛ لأنه صورة للجهل والحمق والغضب الذي لا يبقي على شيء. وكان أبو جهل مع ذلك جبانا رعديدا إذا اتصلت أسبابه بأسباب محمد من قريب أو بعيد. كان يبغض محمدا بغضا مروعا لم يعرف الناس مثله، وكان يخاف محمدا خوفا يضحك منه أحب الناس له وأعطفهم عليه. وكان أبو جهل على ذلك كله قد حرم التوفيق في كل ما كان يأتي من الأمر، لحكمة أرادها الله وأمر قدره؛ فكان يقدم على الأمر يظن أن فيه الإيذاء لمحمد والنيل منه والغض من قدره والصد عن سبيله، فلا يكاد يأتي ما يأتي حتى ينقلب عمله خيرا لمحمد. لقي محمدا ذات يوم فأفحش له بالقول وآذاه في نفسه إيذاء شديدا، وانصرف عنه رسول الله لم يقل له شيئا؛ لأن الله قد أدبه بأن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين. وشهدت ذلك مولاة لعبد الله بن جدعان، فأنبأت به حمزة بن عبد المطلب مرجعه من الصيد، فحمى حمزة لما سمع، ومضى إلى المسجد حتى غشي أبا جهل في ناد من أندية قريش فضربه بقوسه فشجه شجة فاحشة. وهمت مخزوم أن تغضب لفتاها، فيقول أبو جهل لقومه مستخذيا: «دعوا أبا عمارة فقد أفحشت لابن أخيه.» وينصرف حمزة من ساعته فيأتي ابن أخيه محمدا فيسلم ويصبح أسد الله.
ولم ينكب أبو جهل في تلك الأعوام بمثل نكبته في ابن أخته حنتمة بنت هشام؛ فقد كان عمر بن الخطاب فتى أروع من فتيان قريش، فيه شدة لم تعرف قريش مثلها إلا في خاله عمرو، وكان يمالئ خاله ممالأة شديدة، فيغري بالمسلمين ويشتد عليهم، حتى خرج ذات يوم متوشحا سيفه يريد أن يبطش بمحمد نفسه؛ ولكنه يعلم في طريقه إلى محمد أن الإسلام قد دخل داره، وأن أخته قد أسلمت، فيعدل إلى أخته فيبطش بها حتى يسيل الدم من وجهها؛ ثم تأخذه الرحمة فيرق لأخته ويلطف لها حتى تقرئه بعض ما كان يتلى عندها من القرآن. فلا يكاد يقرؤه حتى يدخل الإيمان في قلبه، وإذا هو يسعى إلى محمد فيسلم، ثم ينصرف إلى خاله فيطرق عليه بابه. فإذا رآه خاله رحب به ترحيب المحب لابن أخته الممالئ له على أعداء قريش. ولكن عمر ينبئ خاله بأنه قد جاء يعلن إليه أنه قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيرده أبو جهل أقبح رد، ويضيق بما أصابه فيه أشد الضيق. وقد سبق النبأ بإسلام عمر إلى المسجد، فتعلم به أندية قريش فيروعها ما تعلم من ذلك. ويأتي عمر فينهض له القوم يساورونه ويساورهم ويقاتلونه ويقاتلهم، حتى صلى وصلى بعده المسلمون جهارا.
واشتد أمر المسلمين على قريش، واشتد أمر قريش على المسلمين، حتى أذن النبي لأصحابه في الهجرة، فهاجر فريق منهم إلى أرض الحبشة حيث استطاعوا أن يعبدوا الله أحرارا، وأقام الآخرون يدعون إلى الله بين أظهر قريش يلقون في ذلك من الشدة والعنت ما يلقون. وخلا أبو جهل إلى صديقه مرة ذات ليلة يتساقيان البغض والحسد لمحمد كما كانا يصنعان، ويستقصيان ما بلغت بهما خصومتهما لمحمد وأصحابه، فيقول أبو جهل لصاحبه: «أحلف باللات والعزى ما بلغنا من ابن عبد المطلب وأصحابه شيئا، نفتنهم في أنفسهم وأجسادهم وأموالهم فلا تزداد دعوتهم إلا انتشارا، ولا يزداد أمرهم إلا ظهورا. إن أتباع محمد ليكثرون بين أظهرنا؛ وهذا دينهم قد خرج من مكة فاستقر في أرض الحبشة، ووجد أصحاب محمد هنالك عزا ومنعة وجوارا.»
قال أبو مرة وهو يقدم القدح إلى عمرو: «اشرب أبا الحكم وريت بك زنادي! لقد أبليت في جهاد محمد أحسن البلاء ، ولكن قومك لا يبلغون من نصرك وتأييدك ما ينبغي أن يبلغوا. إنهم يخافون الحرب، ولو قد ثاروا بمحمد فقتلوه لكفوا أنفسهم شرا عظيما. ولكن أبا طالب يقوم دون محمد ومعه فتيان بني هاشم فتكره قريش أن تسفك دماؤها بأيديها. إنهم يبقون على محمد، وليأتين يوم يقتلهم فيه محمد تقتيلا إلا أن يسبقوا إليه بالموت.»
وغدا أبو جهل على قومه ثائرا ثورة لم يعرفوا منه مثلها، حتى أحفظهم وكاد يستخف أحلامهم ويخرجهم عن أطوارهم، لولا أن قالت مشيخة قريش: «على رسلكم أيها الناس! لا تعجلوا على قومكم حتى تعذروا فيهم. لنسعين إلى أبي طالب فنسمع منه ونقول له، لعله أن يسلم إلينا ابن أخيه أو أن يكفه عنا؛ فإن لم نظفر منه بإحدى الخصلتين رأينا فيه وفي بني هاشم رأينا.»
قال أبو جهل: «يا للخزي! يا للعجز! أقسم باللات والعزى لتعودن من عند أبي طالب كما تذهبون إليه لم تأخذوا منه شيئا. ويلكم! اقتلوا محمدا وافجئوا بموته أبا طالب؛ فإنه إما أن يخاف كثرتكم وقوتكم فيقبل منكم ديته، وإما أن ينهض لحربكم فما أيسر ما تردونه وقومه إلى الصواب.»
ولكن شيوخ قريش لم يسمعوا له، ونهضوا فمشوا إلى أبي طالب ومشى معهم أبو جهل لا لشيء إلا ليشهد إخفاقهم فيما يسعون إليه. وقد انتهى القوم إلى أبي طالب، فقالوا له وسمعوا منه، وطلبوا إليه أن يدعوا محمدا فيكلموه ففعل. وجاء محمد فسمع منهم ولم يقبل مما عرضوا عليه شيئا. ثم دعاهم إلى الله، ووعدهم شرف الدنيا والآخرة إن صدقوه، وأنذرهم خزي الدنيا والآخرة إن كذبوه، وطلب إليهم أن يقولوها كلمة واحدة تدين لهم بها العرب والعجم.
قال أبو جهل: «ما هي؟ نقولها والله وعشرا أمثالها.» قال محمد: «تقولون لا إله إلا الله.» فتفرق القوم وهم يقولون: «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب.» وانصرف أبو جهل ولم يشمت بقومه قط كما شمت بهم هذه المرة، فهو يستهزئ بذوي الأحلام والأسنان وأصحاب الرأي والمشورة، يقول: «ما رأيت كاليوم رجلا واحدا يرد الملأ من قريش خائبين مستخذين. فأما وقد بلغ بكم العجز ما أرى وانتهى بكم الجبن إلى ما ترونه فلأكفينكم محمدا؛ فإن أمر محمد لا يعالج بالقول والسفارة، ولا بالاحتجاج والجدال، وإنما يعالج بشيء واحد هو قتل محمد، ولأقتلنه من الغد بين أيديكم وأنتم ترون! ولأقتلنه وهو يصلي لإلهه هذا الذي يريد أن نعبده مكان آلهتنا. لآخذن حجرا ضخما ثقيلا فلأشدخن به رأسه إذا سجد، فإذا فرغت منه فقوموا دوني إن شئتم، أو أسلموني لبني عبد مناف إن خفتم الحرب.» يقول الملأ من قريش وقد أحفظهم ما رأوا وما سمعوا: «لا والله ما نسلمك لأحد أبدا.»
ثم غدت قريش إلى أنديتها لم يتخلف من أشرافها أحد لما شاع فيهم من وعيد أبي جهل. وغدا أبو جهل وقد أخذ حجرا ضخما ثقيلا، فجلس إلى قومه يتحدث وينتظر مقدم النبي. وأقبل رسول الله كعادته وطوف بالكعبة ثم قام يصلي، وقد جعل الكعبة بينه وبين الشام، وقام أبو جهل فاستدبره ومعه الحجر لا يكاد يحمله لثقله، حتى إذا سجد رسول الله دنا أبو جهل منه متباطئا، ولكنه لم يكد يبلغه حتى عاد منهزما وسقط الحجر من يده والنبي ساجد لم يرفع رأسه من السجود. وتضاحكت قريش حين رأت أبا جهل يعود مهزوما مدحورا قد ظهر في وجهه الخزي والانكسار. فلما رأى منهم ذلك قال: «ويلكم! قوموا إليه إن شئتم فاصنعوا به ما أردت أن أصنع، والله لتردن عنه كما رددت.»
قالوا: «وماذا ردك أبا الحكم؟» قال: «رأيت والله بينه وبيني فحلا ما رأيت مثل رأسه ولا مثل أنيابه قط. ولو أقدمت على ما كنت مقدما عليه لأكلني.» وأنبئ رسول الله بالخبر فقال باسما: «ذاك جبريل. ولو قد أقدم على ما كان يريد لأخذه.»
وخلا أبو جهل إلى صديقه أبي مرة حول زقهما ذاك؛ فقال أبو جهل لصاحبه في شيء من الخزي واللوم: «ما أراك أغنيت عني شيئا صباح اليوم. إنك لههنا تغريني وتحرضني وتيسر علي الأمر وتمنيني الأماني حتى إذا جد الجد نظرت فلم أجدك، وخليت بيني وبين الهزيمة والخزي، وأضحكت مني من كنت أستهزئ بهم من شباب قريش وشيوخها جميعا.»
قال أبو مرة وهو يملأ له القدح: «اشرب أبا الحكم على بغض محمد؛ فقد علمت أن رجلا واحدا لن يبلغ منه شيئا، وأن رجلين اثنين لن يبلغا منه شيئا، وأن رجالا كثيرين لن يبلغوا منه شيئا حتى تجمع قريش كلها على قتله، فيومئذ تبلغ قريش ما تريد. فإلى هذه الغاية فاسع منذ اليوم.»
ولم يقصر أبو جهل في السعي إلى غايته تلك التي رسمها له حليفه الأثيم، وإن كان قد أمسك أياما عن الإلمام بأندية قريش، كان خجلا مستخذيا من انهزامه ذاك عن محمد، ومن قصة الفحل التي تحدث بها إلى قومه، فأظهروا التصديق ولكنهم ظنوا بشجاعته الظنون، وأخذوا يتعابثون به وبقصة الفحل كلما أحدث لهم منه ذكرا. وتريد شقوة أبي جهل ذات يوم أن يدخل المسجد أعرابي، فيقف على بعض أنديتهم يستعين بهم على سيد من سادات قريش قد اشترى منه إبلا ثم التوى عليه بثمنها لا يؤديه إليه، فإذا سئل الأعرابي عن هذا السيد من يكون قال: هو أبو الحكم عمرو بن هشام، فيتضاحك القوم ويقول بعضهم للأعرابي: أترى إلى هذا الرجل الوسيم الصبيح قد جلس من البيت غير بعيد! إنه وحده الذي يستطيع أن ينصفك من عمرو بن هشام، فاذهب إليه فستجد منه عونا وتأييدا حتى ترضى. وكان هذا الرجل الوسيم الصبيح محمدا رسول الله، فيذهب إليه الأعرابي والقوم مغرقون في الضحك قد سخروا منه وخيل إليهم أنهم قد سخروا من رسول الله. وأقبل الأعرابي على محمد
صلى الله عليه وسلم
فاستعانه واستنصفه. وينظر الملأ من قريش، فإذا محمد قد قام، وإذا هو يمضي والأعرابي يتبعه، فيقولون لأحدهم اتبعهما وعد إلينا من أمرهما بما يكون. ومضى محمد والأعرابي وراءه ورسول قريش يرقبهما من بعيد. حتى إذا بلغ محمد دار أبي جهل طرق الباب، فخرج إليه عمرو بن هشام ووجهه ممتقع ما فيه قطرة دم. قال محمد: «أد إلى هذا الرجل حقه.» قال أبو جهل: «نعم! لا تبرح حتى يرضى.» ودخل داره ثم عاد فأدى إلى الرجل ما له وانصرف راضيا، فعاد إلى ندي قريش يثني عليهم ويقول: صنع الله لكم! لقد أنصفني صاحبكم وما تركني حتى أدى أبو الحكم إلي حقي. فتعجب قريش ويقول بعضهم لبعض: إنه والله الفحل الذي رآه أبو الحكم منذ حين. حتى إذا لقوا أبا جهل فيما بعد سألوه فينبئهم: «إنه الفحل كان يسعى بين يدي محمد، ولو قد التويت بحق هذا الأعرابي لما أنظرني.»
على أن أبا جهل جد في سعيه، وجد النكير بين المسلمين والمشركين واشتد نعي محمد على قومه وعيبه لآلهتهم، وأنزل الله من القرآن آيات وسورا كانت تدمغ قريشا وتؤذي ما كانت تعتز به من الصلف والكبرياء أشد الإيذاء. وقد حاول الملأ من قريش أن يعطوا محمدا الرضا فلم يقبل منهم إلا الإيمان، ولم يستطيعوا أن يعطوه الإيمان. وحاول الملأ من قريش أن يخذلوا أبا طالب عن ابن أخيه فلم يزيدوه إلا جدا في نصره وحمايته، حتى استطار الشر وعظم الخطب، ولم يبق بد لقريش من أن تسمع لمشورة أبي جهل وتصير إلى ما كان يريد.
وقد صارت قريش إلى ما أراد أبو جهل وحليفه أبو مرة، فاجتمع الملأ منهم وكتبوا صحيفتهم تلك يقطعون فيها رحم بني هاشم ويحظرون فيها على قريش أن يكون بينهم وبين بني هاشم بيع أو شراء أو صهر أو تواصل ما. وانحاز بنو هاشم مع أبي طالب إلى شعبهم فحصروا فيه، حتى اشتد عليهم الجهد وعظم عليهم البلاء، وحتى جاع صبيتهم فما ينامون الليل، ولكنهم مع ذلك صبروا للمحنة كراما واحتملوها أعزة شما. منهم من كان يؤمن لمحمد فهو يصبر طاعة لله وجهادا في سبيله. ومنهم من كان على جاهليته فهو يصبر عصبية للحسب والنسب، وإباء للضيم، وبغضا لسوء القالة. ولم يقض أبو جهل أياما كانت أحب إليه من هذه الأيام؛ فقد كان سعيدا بظلم بني هاشم ناعما بما يلقون من جهد، قد وجه قومه إلى حيث يريد فاتبعوه، واتبعوه جميعا لم يكد يخالف عن أمره منهم أحد.
ورضي أبو مرة كل الرضا، وكان يقول له وهو يساقيه البغض: «إنك لتدنو من الغاية يا أبا الحكم. فأنتم أولاء قد كدتم تجمعون على قطيعة محمد وبني هاشم، وليس بينكم وبين الإجماع على حربه وحربهم إلا خطوات قصار.»
ولكن أبا طالب يغدو ذات يوم فيدخل المسجد ويطوف بالبيت، ثم يقف على ناد من أنديتهم فيقول: «يا معشر قريش! إن ابن أخي قد أنبأني بشيء سأنبئكم به، فإن كان قد صدقني فكفوا عما أنتم فيه من ظلمنا وقطيعتنا، وإن كان قد كذبني دفعته إليكم فقتلتموه وعادت العافية إلى قريش.»
قالوا: «أنصفتنا والله يا أبا طالب. فبماذا أنبأك ابن أخيك؟»
قال: «أنبأني بأن صحيفتكم تلك التي تعاهدتم فيها على ظلمنا وقطيعتنا وعلقتموها في جوف الكعبة قد عدت عليها الأرصفة فمحت كل شيء فيها إلا اسم الله، فاعمدوا إلى صحيفتكم هذه فانظروا فيها.» وعمدت قريش إلى الصحيفة وهي لا تشك في أن أبا طالب قد غر عن نفسه. ولكن القوم ينظرون إلى الصحيفة فإذا محمد لم يقل لعمه إلا الحق، وإذا الصحيفة قد محي كل شيء فيها إلا اسم الله فإنه لم يمسه سوء. فسقط في أيدي قريش، وأخذ الملأ يتلاومون على ما تعجلوا به من وعد أبي طالب بالنصفة، وأخذ بعضهم مع ذلك يقول: «لا والله لا نكذب الشيخ ولا نخلفه وعدنا. ولقد علمنا أن هذه الصحيفة كانت شؤما، لقد شلت يد كاتبها. ولا والله ما جرت علينا القطيعة إلا شرا. كيف نأكل ونشرب وننام وننعم بالطيبات، وإخواننا جياع قد بلغ بهم الضر كل مبلغ؟!»
واجتهد أبو جهل في أن يجمع قريشا على القطيعة ويمضي بها فيما أحب من إخلاف الوعد ونكث العهد فلم يفلح، وإنما انتصر عليه أولو الحلم والمروءة من قومه، فرفع الحصار عن بني هاشم، واستخذى أبو جهل وحليفه أبو مرة، وعادا يلتمسان العزاء عند زقهما ذاك الروي بنار تشبه الخمر أو خمر تشبه النار.
8
على أن الحوادث ردت إلى أبي جهل صلفه وخيلاءه، وإلى أبي مرة شيئا من أمل وفضلا من رجاء. فقد مات أبو طالب، وماتت بعده خديجة بقليل، وفقد محمد ردأه الذي كان يلوذ به، كما فقد سكنه الذي كان يأوي إليه، وأدركته الشدة حين كان يلقى الناس فيطمع فيه سفهاؤهم ويهزأ منه حلماؤهم. وأدركته الشدة حين كان يأوي إلى بيته فلا يجد فيه ما كان يجد عند خديجة من الرحمة والعطف والعزاء. وهم عمه أبو لهب أن يقوم منه مقام أبي طالب فيحميه من الأذى ويجيره من الظلم والبغي. ولكن أبا جهل عرف كيف يرد أبا لهب عن همه ذاك، جاءه فقال له: «سل ابن أخيك عن أبيك عبد المطلب أين هو؟» فلما سأل أبو لهب محمدا: «أين عبد المطلب؟» أجابه: «بين قومه.» فخرج الرجل راضيا لا يرى بجواب ابن أخيه بأسا. ولكن أبا جهل ضحك له ضحكة الشيطان وقال: «فإنه يزعم أن عبد المطلب وقومه في النار.» فرجع أبو لهب إلى ابن أخيه يسأله: «أحق ما أنبئت به من أنك تقول إن عبد المطلب في النار؟» قال رسول الله: «نعم! وكل من مات على جاهليته فهو في النار.» قال أبو لهب: «لا جوار لك عندي.» ثم خرج إلى قريش، فقال: «اصنعوا بصاحبكم ما تريدون فإني قد رفعت عنه حمايتي وجواري.»
منذ ذلك اليوم بلغت الفتنة أقصاها، وانتهت المحنة إلى غايتها، وعرف رسول الله أن ليس له بمكة أمن، فخرج يلتمس الأمن في الطائف عند ثقيف، فردوه أشنع رد وأقبحه، فعاد إلى مكة محزونا مكلوما، واثقا بالله مع ذلك أعظم ثقة وأقواها. على أنه لم يستطع أن يدخل مكة حتى أرسل إلى مطعم بن عدي فاستجاره فأجاره مطعم، ودخل مكة آمنا. ولكن أي أمن هذا الذي هو مدين به لرجل من غير رهطه الأدنين!
وفي تلك الأعوام طغت قريش وبغت، وأسرف أبو جهل في فرحه ومرحه. وجعل محمد يترقب الموسم يعرض نفسه على قبائل العرب يسألهم أن يحموه ويمنعوه حتى يؤدي رسالات ربه فلا يجد عندهم غناء، حتى استجاب له الأوس والخزرج، فأذن للمسلمين في الهجرة إلى يثرب، وأخذوا يخرجون من مكة أرسالا. هنالك تنبه أبو جهل وما كان غافلا، فجد في تحريض قريش وتأليبها لتمنع المسلمين من الهجرة. ولكن لله أمرا هو بالغه، وقدرا هو مجريه؛ فقد هاجر أكثر المسلمين، وأقام محمد بمكة ينتظر إذن الله له في الهجرة، ومعه صاحبه أبو بكر وابن عمه علي. وقد علمت قريش وعلم أبو جهل أنها القوة والمنعة لمحمد إن هاجر إلى يثرب، وأنها الحرب على مكة ومن فيها إن استطاع محمد أن يأوي إلى الأنصار.
وهنا بذل أبو جهل أقصى جهده وغاية ما يملك من قوة، وآزره حليفه أبو مرة فأحسن مؤازرته. واجتمعت قريش في دار ندوتها تتشاور في أمر محمد، وحضر اجتماعهم أبو مرة ظاهرا لهم في زيه ذاك الذي كان يراه فيه أبو جهل. فلما جعل القوم يديرون رأيهم بينهم أخذ أبو مرة يرد على كل متكلم كلامه، حتى قال أبو جهل مقالته فأيدها أبو مرة أشد التأييد. ولم لا! لقد كانت مقالة أبو جهل تبلغه الغاية التي كان يسعى إليها. رأى أبو جهل أن ينتدب لقتل محمد فتى جلدا من كل قبيلة من قبائل قريش، ثم إذا اجتمع هؤلاء الفتيان عدوا على محمد فضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك ذهب دمه بين القبائل، ولم يعرف بنو عبد مناف عند من يطلبون بدمه. ولكن كيد أبي جهل وأبي مرة لم يغن عنهما من الله شيئا؛ فقد خرج محمد على هؤلاء الفتيان يتلو آيات من القرآن، ويضع التراب على رءوسهم، وغشيت أبصارهم فهم لا يرونه، وارتدوا عما أرادوا خائبين، كما ارتد أبو جهل خائبا عن كل ما أراد.
9
على أن مكة خلصت لأبي جهل وحليفه أبي مرة حينا من الدهر حين هاجر منها محمد وأصحابه. فلم يعبد الله فيها إلا سرا، وخفت فيها صوت الحق إلى حين. وظهر فيها بغي قريش وكبرياؤها كعهدهما قبل أن يشرق في مكة نور الإسلام. ولكن من بقي من شيوخ قريش وذوي أحلامها كانوا يظنون السوء وينتظرون المكروه، ولا يشكون في أن ستكون بينهم وبين أصحاب محمد خطوب. وقد أخذت هذه الخطوب تتابع قليلا قليلا، حتى كان الخطب الأكبر يوم بدر.
هنالك ندب رسول الله أصحابه للخروج إلى تجارة قريش مرجعها من الشام، لعل الله أن ينفلهم إياها. فخرجوا، حتى إذا كانوا في بعض الطريق عرف أبو سفيان مكانهم فأرسل يستنفر قريشا لحماية العير، ونفرت قريش لم يكد يتخلف أحد من أشرافها. وساحل أبو سفيان بتجارته فأحرزها وأمن عليها من محمد وأصحابه، وأرسل إلى قريش يأمرهم بالرجوع إلى مكة وينبئهم أن قد أمنت العير. ولكن أبا جهل يأبى إلا أن يبلو بلاءه الأخير، فيقسم لا نرجع حتى نأتي بدرا فنأكل ونشرب ونطرب ونطعم الناس، ويعرف العرب ذلك فنسترد هيبتنا في نفوسهم. وقد استمعت له قريش لا تظن أن عليها بذلك بأسا. حتى إذا بلغوا بدرا والتقى الجمعان، عرفت قريش أنها الحرب، ونظرت قريش فإذا محمد وأصحابه لا يكادون يتجاوزون ثلاثمائة إلا قليلا. ولكن قريشا تنظر فترى قوما مشاة يريدون أن يحملوا، حفاة يريدون أن ينتعلوا، جياعا يريدون أن يأكلوا، عراة يريدون أن يكتسوا، لا يحميهم ولا يمنعهم إلا سيوفهم، فيشفق أشراف قريش من هذه البلايا تحمل المنايا. ويسعى عتبة بن ربيعة وحكيم بن حزام في قبائل قريش يحببون إليهم السلم ويدعونهم إلى القفول. ولكن ذلك يبلغ أبا جهل عن عتبة فيقول: «انتفخ والله سحره.»
7
ويبلغ ذلك عتبة فيقول: «سيعلم ابن الحنظلية أينا انتفخ سحره» ثم يدعو بسلاحه ويكون هو وأخوه شيبة وابنه الوليد أول من يخرج إلى القتال، فيقتلون جميعا. ويزحف القوم بعضهم على بعض وقد سقى أبو مرة نديمه وحليفه كأسه الأخيرة من خمر كأنها النار أو نار كأنها الخمر، وزين له أن النصر قريب فخرج أبو جهل يرتجز:
ما تنقم الحرب العوان مني
بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
ولكن أبا جهل لا يكاد يقوم حتى يرى هولا لم ير مثله قط، وما كان يقدر أنه سيراه آخر الدهر. يرى سحائب بين السماء والأرض قد أظلم لها الجو، ومرت كأنها العواصف، ثم هبط منها أشخاص قد لبسوا العمائم وألقوا فضلها على ظهورهم، وركبوا الخيل مسومة، وهم يضربون من المشركين الأعناق ويقطعون منهم كل بنان. وينظر أبو جهل عن يمين وشمال، وينظر أبو جهل وراءه يلتمس حليفه ونديمه أبا مرة، فإذا هو قد ذاب كما يذوب الملح. هنالك يذهب الغرور كله عن عمرو بن هشام، ولا يبقى في نفسه إلا حفاظ الرجل العربي وكبرياؤه. هو بين اثنتين: إن شاء لوى عنان فرسه فطارت به إلى حيث الأمن، وإلى حيث السيادة، وإلى حيث أبو مرة وخمره وكيده، وإلى حيث العار، وإن شاء مضى أمامه فأحس الألم ساعة ثم مضى كما يمضي الناس منذ أول الدهر. ولا والله لا تضحك مني قريش، ولا تحدثني بحديث الفحل، ولا تقول قريش إني ما رأيت محمدا إلا ملئت منه رعبا ووليت فرارا. ثم يقحم فرسه بين الصفوف، وإذا هو صريع قد قطعت إحدى ساقيه والدم ينزف منه نزفا شديدا، ولكنه مستيقظ يقظة لم يعرفها قط، يرى كل شيء، يرى أصحاب محمد يأخذون ظهور قريش برماحهم، ويرى رجلا قد أقبل يسعى حتى وطئ صدره بقدميه. من يكون هذا الرجل؟ إني أعرفه! لقد فتنته بمكة فتنة شديدة! إنه الهذلي ابن مسعود راعي الغنم!
ثم يرتفع صوت أبي جهل متحدثا إلى ابن مسعود رضي الله عنه فيقول: «لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا راعي الغنم.» يقول ابن مسعود: «وهل أخزاك الله يا عدو الله!» قال أبو جهل: «وبم أخزاني! وأي عار على فتى قتلتموه! ولكن أنبئني لمن العاقبة؟» قال ابن مسعود: «لله ولرسوله وللمسلمين»، ثم أهوى إليه فاحتز رأسه وحمله إلى النبي. وبعد قليل ألقي قتلى بدر من المشركين في القليب، ووقف عليهم رسول الله يقول: «يا معشر قريش! أرأيتم ما وعدكم ربكم حقا! فإني رأيت ما وعدني ربي حقا.» يقول المسلمون: «أتكلم الموتى يا رسول الله؟» فيقول
صلى الله عليه وسلم : «والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا ينطقون.»
10
أشرف خالد بن الوليد رحمه الله على بدء الزحف العام يوم اليرموك وكان مشرق الوجه مبتهج النفس، ولكن شيئا من القلق كان يظهر في عينيه اللتين كانتا تمتدان في الأفق كأنما تريدان أن تبلغا ما وراء الجيشين الملتحمين، ثم تنحرفان إلى يمين مرة وإلى شمال مرة أخرى، كأنما تريدان أن تتعجلا عواقب الموقعة لتعودا بها إلى نفس القائد العظيم الذي لم يعرف إلا الانتصار، والذي كان شديد الشوق إلى أن يتبين الموقعة قبل أن تتم وقبل أن تأتيه بها رسله وعيونه.
وكان خالد بن الوليد رحمه الله ينظر إلى هذين الجيشين العظيمين وقد سعى كل منهما إلى صاحبه في أناة ورزانة وثقل، حتى ليخيل إلى من كان يراهما أنهما الجبال المتقابلة يسعى بعضها إلى بعض في مهل وبطء، ثم لا يزال بها السعي البطيء حتى تستحيل الأناة عجلة والمهل سرعة، وحتى يرى الرائي كأنما قد زلزل كل شيء، فمادت الأرض، واضطربت السماء، وماج الجو، واختلط كل شيء اختلاطا هائلا غريبا.
وكان خالد يذكر ما ألف من الحرب في بلاد العرب، وما ألف من الغزوات التي شهدها. وكان يذكر ما كان الناس يتحدثون به عن هول هذه المواقع، فيبتسم ابتسامة فيها العجب وفيها الرضا. وأكبر الظن أنه كان يوازن بين تلك المواقع اليسيرة وبين هذه الموقعة الهائلة التي لم ير عربي مثلها قط. فقد كانت أكبر جيوش العرب حين يحارب بعضهم بعضا لا يكاد يتجاوز أحدها الألف أو الآلاف. فلما زحف النبي على مكة بعشرة آلاف من المسلمين أكبرت العرب ذلك وهابته هيبة شديدة. ولم تكد قريش ترى مقدم هذا الجيش حتى استحالت كبرياؤها فأصبحت تواضعا وطاعة، وإذا النبي يسأل قومه: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فلا يدرون كيف يجيبون. فإذا عرفوا أنه العفو قالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم.»
ولما بلغ جيش النبي يوم حنين عشرتين أو ثلاث عشرات من الألوف ظنت العرب أن الجيوش لن تبلغ مثل هذا العدد آخر الدهر. وهذا خالد يقود جيشا للمسلمين يبلغ العشرات الكثيرة من الألوف إلى جيش من الروم يبلغ العشرات الكثيرة من الألوف.
وقد تغيرت الحرب فلم تصبح كرا وفرا ومبارزة ومناجزة، وإنما هي زحف الجبال إلى الجبال، واختلاط الأرض بالسماء. فلما ملأ خالد رحمه الله عينيه من هذا المنظر الرهيب عاد إلى مجلسه في سرادق الأمير، وقد ذكر أن عظيما من عظماء الروم قد انحاز إليه، وأنه سيلقاه ويسأله عن شأنه. ولم يكد يستقر في مجلسه حتى أذن للعظيم الرومي، فأدخل عليه، وإذا شيخ جليل قد تقدمت به السن لولا بقية من نشاط وفضل من قوة، وإذا هو يحيي خالدا تحية الإسلام في عربية فصيحة يلتوي بها لسانه بعض الشيء. فيرد عليه خالد تحيته بمثلها. ثم يسأله: «أتتكلم العربية أيها الشيخ أم هي تحيتنا تعلمتها لتلقانا بها لقاء حسنا؟» قال الشيخ: «أصلح الله الأمير! فإن لي بالعربية عهدا، وما أظننا نحتاج إلى ترجمان.» فأجلسه خالد إلى جانبه محتفيا به مقبلا عليه، ثم أشار إلى من حوله فانصرفوا، والتفت إلى الشيخ كأنه ينتظر أن يبدأ بالحديث. قال الشيخ: «أصلح الله الأمير! إنك لم تخل إلى رجل من الروم قد أقبل يسعى إليك فيما يسعى فيه الساسة الذين يخالفون عن رؤسائهم وساداتهم إلى العدو ليدلوه على عوراتهم، ويظهروه على ما دبروا من الكيد لرؤسائهم والانحياز إلى المغيرين، إنما تخلو إلى مسلم قد شهد فجر الإسلام حين انبثق في البطحاء من أرض الحرم، فآمن به حين استيقن أنه الحق قد جاء من عند الله. ثم فر بما علم من ذلك فهاجر إلى مكة إلى وطنه من بلاد الروم يهيئ قومه لمثل هذا اليوم الذي نحن فيه. وقد مضت أعوام وأعوام وأنا أستقصي الأنباء وألتقط الأخبار وأعلم ما يحدث في مكة وفي يثرب من الخطوب. حتى إذا كانت وقعة مؤتة علمت أن الشمس قد أخذت تبلغ أرضنا، وأن نور الله قد أخذ يشرق في آفاقنا. ثم ها أنتم هؤلاء قد أقبلتم مظفرين، فجئت لألقاك بالبشرى، ولأنبئنك بأن لا بأس عليكم بعد هذه الموقعة، فلن يثبت لكم العدو في مدينة أو قرية أو مكان ما في هذه الأرض ولا في غيرها مما يجاورها من الشام ومصر، ولن تجدوا من الناس بعد انهزام الجيوش عنكم إلا مودة ومعونة وحسن لقاء. فاقدموا عليهم كما تقدمون على الصديق لا كما تقدمون على العدو، فسيدخلون في دين الله أفواجا وستخلص لكم نفوس الذين يستمسكون بدين آبائهم.»
قال خالد: «ألم تنبئني أنك شهدت فجر الإسلام حين انبثق بمكة؟!»
قال الشيخ: «نعم! وكنت ثاني اثنين كانا يرقبان مطلع الفجر؛ فأما أحدنا فأقام بمكة ومات فيها. وأما الآخر فأقبل إلى هذه الأرض يبشر الناس بمطلع الفجر.»
قال خالد: «فمن ذاك الذي مات بمكة؟» قال الشيخ: «ابن عمك ورقة بن نوفل.»
قال خالد: «وأنت من تكون؟» قال الشيخ: «أنا من أكون! لست أدري أيدلك اسمي على شيء! ولكن أباك كان يعرفني حق المعرفة ويبغضني أشد البغض، وابن عمك كان يعرفني حق المعرفة ويحبني أشد الحب.»
قال خالد: «أي أبناء عمي؟» قال الشيخ: «عمرو بن هشام بن المغيرة، كنا نسميه أبا الحكم.» قال خالد: «ثم سميناه بعد ذلك أبا جهل.» قال الشيخ: «وقد صرعه البغي والحسد يوم بدر.»
قال خالد: «نعم! صرعه البغي والحسد؛ صرعه البغي والحسد وغرور الشيطان.» وسمع خالد هائعة
8
خارج السرادق، فسكت كأنما يريد أن يتبين ما سمع، وإذا قوم يريدون أن يقتحموا باب الأمير والحجاب يذودونهم عن ذلك. فيضرب خالد إحدى يديه بالأخرى ويدخل نفر من المسلمين وقد احتملوا بينهم رجلا جريحا قد أشرف على الموت ولكن فيه رمقا، وهم يقولون: ابن عمك أيها الأمير عكرمة بن أبي جهل. فيغشى وجه خالد حزن لا يلبث أن تطرده ابتسامة حلوة، ويشير إليهم أن قدموا الجريح؛ فإذا وضعوه قريبا منه أقبل عليه فوضع رأسه على فخذه وجعل يمر يده على جبهته إمرارا خفيفا وهو يقول: «أتسمعني يا عكرمة؟» فيشير الجريح بطرفه «أن نعم.» يقول خالد: «زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد، أبشر بالجنة يا عكرمة!» ثم يلتفت إلى الشيخ ويقول: «أما أبوه فقد صرعه الحسد والبغي، وأما هو فقد صرعه الجهاد في ذات الله.» وإذا الشيخ قد وقف رافعا يديه إلى السماء وهو يتلو:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون .
قال خالد: «وقد حفظت من القرآن شيئا أيها الشيخ؟» قال الشيخ: «نعم! حفظت منه شيئا.» قال خالد: «ولكنك لم تنبئني من أنت؟» قال الشيخ وقد استعبر: «لو استطاع هذا الفتى أن يراني لعرف أني نسطاس، ولكنه يرى الآن وجوها خيرا من وجه نسطاس، ويسمع أصواتا أعذب من صوت نسطاس، يرى وجوه الملائكة ويسمعهم يقولون له ولأمثاله الذين يصرعون الآن في ذات الله وهم يفتحون لهم أبواب الجنة:
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين .»
الفصل الثاني
سيد الشهداء
خلا الأمير إلى سماره حين تقدم الليل، وسكنت حركة الأحياء والأشياء، وارتفعت في السماء أضواء الدور في المدينة وأضواء القصور من حولها، وانحدرت إلى الأرض أشعة النجوم رفيقة رقيقة مضطربة. وكان الأمير على غير عادته كئيبا كاسف البال، مؤثرا للصمت معرضا عن أصحابه، لا يكاد يسمع لما يدور حوله من الحديث. فلما سأله في ذلك آثر أصحابه عنده قال الأمير: «ألم تر إلى الناس حين كنا نعشيهم كيف كان إقبالهم على طعامهم فاترا بطيئا، وكيف كان حديثهم فيما بينهم خافتا خفيا، وكيف كان يستأثر بهم ويسيطر عليهم ذهول غريب يجعل حركاتهم آلية لا تصدر عن رأي ولا إرادة، وإنما تصدر عن عادة وغريزة! لقد خيل إلي أن قد فرق بينهم وبين أنفسهم، فكأنما كانت أنفسهم في السماء وأجسامهم في الأرض. ولقد عرفت هؤلاء الناس وعرفوني، ولقد بلوتهم وبلوني، وما أذكر أنهم أخذوني بما لا أحب، وما أذكر أني سرت فيهم بما لا يرضون من سيرة الأمراء.»
قال صاحب الأمير: «فإن الأمير أعزه الله يعلم أن هؤلاء الناس قد شغلوا اليوم عن أنفسهم بآبائهم وأجدادهم، وشغلوا عن يومهم الحاضر وغدهم المقبل بأمسهم القريب.» قال الأمير: «وما ذاك؟» قال صاحبه: «فإن أصحابك قد رفعوا إليك من غير شك قصة هذه القبور التي نبشت، وقصة هذه الآية التي ظهرت.»
قال الأمير: «فإن أصحابي لم يرفعوا إلي من ذلك شيئا، وإنما هو أمر جاء من دمشق، ومضينا في إنفاذه اجتهادا للناس ونصحا لهم وإيثارا لهم بالري والخصب والعافية. وما أعرف أن أحدا منهم أنكر من هذا الأمر شيئا، أو قال فيه بغير ما نقول، أو أشار فيه بغير ما أمر أمير المؤمنين.»
قال صاحب الأمير: «أما والله لولا أن الأمر قد سبق بذلك منذ العام الماضي حين لم تكن واليا على هذه المدينة وحين كان أمرها إلى من لا نحب أن نتحدث إليه أو نشير عليه، لقد كان لنا في ذلك رأي غير ما رأى، ولقد كنا خليقين أن نشير على أمير المؤمنين بغير ما تقدم به في أمر هذه القبور. إنها قبور الشهداء؛ إنها قبور الذين صرعوا في الله يوم أحد؛ وإن كثرتهم لمن الأنصار. وقد أراد الله أن يدفنوا حيث صرعوا. وقد أنبئنا أن جماعة من الأنصار هموا بنقل موتاهم إلى المدينة ليدفنوا فيها، فكره رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ونهى عنه وأمر بهؤلاء الشهداء فردوا إلى مصارعهم ودفنوا حيث أراد الله أن يدفنوا ورسول الله قائم يصلي عليهم ويشهد دفنهم، وكأنما كان يستودعهم هذه الأرض التي طهرتها دماؤهم الذكية حتى يكون اليوم الذي ينشرون فيه من قبورهم ليلقوا جزاء الشهداء الصديقين. فلو قد سئلنا في ذلك لأجبنا. ولو قد استشرنا في ذلك لرأينا لأمير المؤمنين غير ما رأى له هؤلاء الشباب من فتيان قريش. فإن من الخير أن يجري أمير المؤمنين لأهل المدينة هذه العين تحمل إليهم الري والخصب، ولكن مما يؤذي أهل المدينة أن تنبش قبور آبائهم وأجدادهم من الشهداء، وأن يحولوا عن أرض قسمها لهم الله ورسوله.»
قال الأمير: «فتراهم قد سخطوا على ذلك وضاقوا به وأنكروه؟»
قال صاحب الأمير: «ما أشك في ذلك. ولكن الله عز وجل قد أراد بهم وبأمير المؤمنين خيرا، فأظهر لهم هذه الآية التي صرفتهم عن الدنيا إلى الدين، وعن التفكير في اليوم والغد إلى التفكير في أمس وفي يوم يرونه بعيدا ويراه الله عز وجل قريبا.»
قال الأمير: «فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ الليلة!» قال صاحبه: «فإن أصحابك إذا لم ينبئوك بالحال التي وجدوا عليها أجسام الشهداء.» قال الأمير: «لم ينبئني أحد بشيء.» قال صاحبه: «فإن أجسام الشهداء قد وجدت رطابا كشأنها يوم دفنت. ولقد كانت تحمل من مكان إلى مكان فتنثني وتضطرب، رخصة كأنما هي مغرقة في النوم لم يلم بها الموت. وأكثر من ذلك أن المسحاة أصابت رجل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب فجرى منها دم زكي كما يجري دم أحدنا حين يصيبه الجرح اليسير، وقد مضى على مصرع هؤلاء الشهداء أكثر من أربعين عاما، وقد رأى الناس ذلك وأحسوه، وتأثرت به نفوسهم، واضطربت له قلوبهم، وازداد له إيمانهم، فهم بين الحزن لما كان من تحويل هؤلاء الشهداء عن قبورهم، والإعجاب بما كان من هذه الآية، وقد صرفهم هذا الإعجاب عن إظهار ما كان خليقا أن يملأ قلوبهم من سخط وإنكار. فلا تضق بما رأيت من وجومهم وذهولهم؛ فإن بعض هذا كان خليقا أن يضطرهم إلى الوجوم والذهول.»
وكان في القوم شيخ قد تقدمت به السن وظهرت عليه الكبرة والهرم، وقد جلس في آخر المجلس مطرقا ممعنا في الصمت والسكون كأنه قطعة من صخر. فلما انتهى سمر الأمين من حديثه إلى هذا الموضع، رفع هذا الشيخ رأسه وقال في صوت هادئ رزين يكاد يضطرب شيئا، وإن عينيه الغائرتين الضئيلتين لتبضان بوشل من الدمع شديد التأثير في النفوس - وأي شيء أبلغ من بكاء الشيوخ! - قال هذا الشيخ في صوته الهادئ الرزين: «رحم الله حمزة! إن كان لسيد الشهداء حقا، وإن كانت حياته لموضع العبرة الصادقة والموعظة البالغة. كان إسلامه عنيفا، وكان بلاؤه في الإسلام عنيفا، وكان مصرعه في الله عنيفا، وكان ما ترك من حزن عليه ووجد به وحب له عنيفا أيضا. وماذا تقولون في أنه لم يبلغ حزن من قلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما بلغه الحزن على حمزة حين رآه صريعا قد مثل به المشركون تلك المثلة المنكرة! لقد حدثنا من رآه قائما ينظر إلى هذا المشهد الفظيع. فيأخذ الحزن من قلبه الكريم الكبير كل مأخذ حتى يخرجه عن طوره ويدفعه إلى الثورة، وإن كان لأبعد الناس عن الثورة، وإن كان لألزم الناس للوقار. لقد ثارت لهذا المشهد البشع نفسه الهادئة الرضية، فإذا هو يوعد وينذر، وإذا هو يقسم لئن أظهره الله على قريش ليمثلن بقتلاهم كما مثلوا بعمه، وإذا غضب هذه النفس الهادئة الرضية يشيع في نفوس أصحابه كما تشيع النار في الحطب الجزل، فيقسمون لئن أظهرهم الله على قريش ليمثلن بقتلاهم مثلة لم تعرفها العرب قط. ولكن الله عز وجل كان يريد برسوله وبعباده غير ما أراد لهم الغضب، وإذا هو يؤدبهم بأدب غير هذا الأدب العتيق الذي يقوم على الحفيظة والحمية والثأر، وإذا هو ينزل على رسوله
صلى الله عليه وسلم
هذه الآيات الكريمة:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . فيثوب إلى القلب الكريم ما فارقه من العفو، ويعود إلى النفس الكبيرة ما ند عنها من الصبر، ويكفر النبي عن يمينه، ويرد المسلمون إلى العفو والصبر والحلم والأناة، ويظهر الله رسوله وعباده على الذين قتلوا حمزة وأصحابه الشهداء ومثلوا بهم، فلا يلقون منهم إلا العفو والبر، وإلا الرحمة والعطف، وإلا المودة والإحسان. وكذلك يقوم أمر هذه الأمة على الصبر والمغفرة والصفح الجميل.»
ثم أطرق الشيخ إطراقة غير قصيرة، وأمعن في صمت عميق، وأمعن السمار مثله في صمت عميق أيضا، كأنما حضر مجلسهم روح قوي أخذ عليهم أمرهم واضطرهم إلى هذه التروية المتصلة التي قطعها الشيخ حين رفع رأسه وقال في صوته الهادئ الرزين: «نعم! رحم الله حمزة! لقد كانت حياته عنفا كلها، ولكنها لم تعقب إلا مودة ورحمة. أترون إلى أخته صفية وقد بلغها مصرعه العنيف، فأقبلت تسعى لتراه وتحمل ثوبين لتلفه فيهما، ويشفق رسول الله عليها من هذا المشهد، فيأمر ابنها الزبير أن يردها، ولكنها تأبى؛ فقد بلغها أنه صرع، وبلغها أنه مثل به، وقد رضيت بذلك واطمأنت إليه، فذلك في الله قليل. أخت عنيفة لأخ عنيف، عنيفة بنفسها قبل أن تعنف بالناس، ولكنها أخت رحيمة لأخ رحيم. أترون إليها وقد أقبلت فرأت أخاها، وتنظر فترى جهد المسلمين وفقرهم وعجزهم عن تكفين موتاهم، فترد عن أخيها أحد الثوبين ليكفن المسلمون به شهيدا من شهدائهم، وترضى لأخيها بعد أن صرع هذا المصرع ومثل به هذه المثلة أن يكفن في ثوب واحد لا يلف جسمه كله، إن ستر رأسه أظهر رجليه، وإن ستر رجليه أظهر رأسه. وإذا النبي يأمر بأن يستر الثوب رأسه وأن تغطى رجلاه بأوراق الشجر.
لقد كان حمزة عم النبي وأخاه في الرضاعة، وقد اجتمع مع النبي من جهتيه، من جهة أبيه ومن جهة أمه؛ فقد كانت أمه هالة بنت عم آمنة. ولقد كان النبي به رفيقا وعليه شفيقا وبولده برا. فأي عجب في أن يبلغ مصرع حمزة بالنبي
صلى الله عليه وسلم
طور الجزع الذي لم يألفه قلبه الكريم، فيغضب ويثور وينذر ويوعد، حتى إذا رده الله عن الغضب والثورة وعن الإيعاد والنذير عاد إلى المدينة وقد أقر الله في قلبه حزنا قويا مقيما، قوامه الرحمة والحب. يمر ببني عبد الأشهل، فيسمع بكاء النساء على شهداء الأنصار، فيقول هذه الكلمة البالغة التي لا أعرف أروع منها في تصوير الرحمة والحزن معا: لكن حمزة لا بواكي له!
وتبلغ هذه الكلمة آذان الأنصار وتنفذ إلى قلوبهم وتستقر فيها، وتملؤها حبا لحمزة وحزنا عليه، وإيثارا للنبي ومشاركة له فيما يجد، وإذا هم يأمرون نساءهم أن يذهبن إلى بيت النبي فيبكين عمه وأسده وصفيه وأخاه. وقد فعلن، وتلقاهن نساء النبي فبكين، ورضيت نفس النبي لذلك، وامتلأت له حنانا وودا. ولكن الله يأبى على نبيه وعلى عباده حتى هذا الإغراق في الحزن، وإذا النبي يصرف هؤلاء النساء رفيقا بهن داعيا لهن، فإذا أصبح صعد المنبر فنهى عن إعلان البكاء أشد ما يكون النهي. ولكن كلمته قد استقرت في نفوس الأنصار، وقد نفذت إلى قلوب الأنصاريات خاصة، وقد توارثنها وتوارثن التأثر بها، فما يموت من الأنصار أحد وما تبكي امرأة أنصارية على أحد إلا بدأت بحمزة فبكت عليه وذكرته بالخير، ثم ثنت بصاحبها فسفحت عليه دموع الحب والحزن. وما أرى إلا أن هذا سيظل دأب الأنصاريات إلى آخر الدهر. أترون إلى العنف كيف يعقب الرحمة، وإلى الشدة كيف تعقب اللين!
رحم الله حمزة! لقد كانت حياته كلها عنفا، ولقد أصبحت آثاره كلها رحمة ولينا. أتعرفون كيف أسلم حمزة؟ لقد أسلم إسلام الفتيان أولي البأس والشدة وذوي الحزم والقوة أولئك الذين يأنفون الضيم، ويأبون الخسف، ويغضبون للولي ويكرهون أن يؤخذوا بما لا يحبون. ولولا أن الله يكره مثل هذا التعبير لقلت إن إسلامه كان إسلام الحمية والحفيظة. غضب لابن أخيه غضبة عربية قرشية، وانتقم لابن أخيه انتقاما عربيا قرشيا، وسلك الله به إلى الإسلام أقرب الطرق وأدناها إلى قلبه القوي العنيف. كان فتى من فتيان قريش، فيه عنفها، وفيه شدتها، وفيه صلفها، وفيه أنفتها، وفيه حرصها، وفيه إيثارها لهذه اللذات التي يؤثرها أصحاب المروءة والرجولة الكاملة. كان صاحب صيد وقنص، يخرج للذته هذه من آخر الليل ويعود موفورا مبتهجا مع الضحى، فلا يلم بأهله حتى يذهب إلى المسجد، فيقف على أندية قريش مسلما متحدثا، ثم يطوف بالكعبة ثم ينصرف إلى داره وقد رضي عن نفسه وأرضى الناس عنها. وقد أقبل ذات يوم فأنبأته امرأة بنبأ عظيم تغيرت له حياته كلها. كانت هذه المرأة مولاة لعبد الله بن جدعان، وأكبر ظني أنها كانت صاحبة دعابة وغزل. وأكبر ظني أن أبا جهل حين وقف إليها إنما وقف مداعبا مغازلا طامعا منها في شيء مريب.
ويمر النبي
صلى الله عليه وسلم
فتمتلئ نفس أبي جهل غيظا لمرآه على ما كان يضمر له من بغض وقلى. وإنه لفي موقفه هذا المريب الذي لا يحسن بالأشراف من قريش إذ أخذ يؤذي النبي في نفسه بأشنع القول وأبشعه. ولكن الله قد أدب رسوله فأحسن تأديبه، أمره بأن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين، فيمر بأبي جهل ويسمع منه وينصرف عنه معرضا كريما لا يجيبه ولا يلتفت إليه. ويقع هذا كله من نفس المرأة أشد المواقع وأبلغها. وأكبر ظني أنها صدفت بعد ذلك عن أبي جهل صدوفا وصرفته عن نفسها صرفا عنيفا. ومضى أبو جهل خزيان خجلا، حتى بلغ ناديا من أندية قريش فجلس مهموما مخذولا.
ويقبل حمزة من صيده متوشحا قوسه مبتهجا بما أصاب من لذة وما أنفق من نشاط، فيمر بهذه المرأة في طريقه إلى المسجد، وإذا هي تقفه، وإذا هي تنبئه بما رأت وما سمعت، فيسمع منها ويمضي دون أن يجيبها ودون أن يلوي على شيء، قد أضرم الله في قلبه نار الغضب هذه التي تطهر النفوس من الإثم وتزيل عنها الحوب وتردها إلى الحياة مرة ثانية نقية ناصعة كما برأها الله وقبل أن تعلق بها حبائل الشيطان.
ويمضي حمزة لا يلوي على شيء، تتأجج في قلبه هذه النار المقدسة حتى يبلغ المسجد، ويرى أبا جهل في ناديه فيقصد قصده، حتى إذا انتهى إليه قام وراءه ثم ضرب رأسه بالقوس فشجه شجة بالغة، ثم أعلن إسلامه وتحدى قريشا وطلب إليها أن ترده إن استطاعت عن هذا الإسلام. ويتواثب بنو مخزوم وقد غضبوا لأبي جهل، فهم يريدون أن يمنعوه وأن يبطشوا بحمزة. ولكن أبا جهل يخذلهم ويردهم إلى الدعة والهدوء، ويقول لهم: «دعوا أبا عمارة! فوالله قد سببت ابن أخيه سبا موجعا.» يكفهم عنه أبو جهل فرقا وخزيا وإشفاقا أن يتكشف الحق ويظهر ما خفي من موقفه المريب، وإن زعمت بنو مخزوم أنه إنما كفهم عنه إيثارا للعافية وإنصافا من نفسه.»
قال الأمير وهو يبتسم: «امض في حديثك أيها الشيخ فإنا نعرف بغضك لبني مخزوم.»
قال الشيخ: «في أي حديث تريد أن أمضي أيها الأمير؟ لقد كان إسلام حمزة عزا للنبي وأصحابه، كف عنه كثيرا من أذى قريش. ولقد كان حمزة من هؤلاء المسلمين الذين عاشوا في مكة أعزة أقوياء يجهرون بإسلامهم ولا يخافتون به والذين هاجروا من مكة في غير تحفظ ولا استخفاء. والله لم يعز به الإسلام في مكة وحدها وإنما أعزه به في المدينة. فلحمزة عقد النبي أول لواء في الإسلام، وأفعال حمزة في بدر ما تعلم أيها الأمير، وصرعى حمزة يوم بدر من تعلم أيها الأمير. ولو قد استشارنا معاوية قبل أن يحول شهداءنا عن مقابرهم التي احتفرها لهم الله ورسوله لقلنا له إنا نؤثر الظمأ والجدب وسوء الحال على أن يحول هؤلاء الشهداء أو تنبش قبورهم، ولقلنا له: إن بين هؤلاء الشهداء سيدهم حمزة بن عبد المطلب قاتل شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، الذي صرعه وحشي وبقرت بطنه ولاكت كبده هند!»
وكان الشيخ حين انتهى إلى هذا الموضع من حديثه قد استحال استحالة كاملة، فانحسر عنه ضعف الشيخوخة وارتفع صوته وثبت ولم يضطرب، وأصبح كأنه النمر قد جرى فيه غضب وهياج وأخذت عيناه تقدحان شررا، وخيل إلى من حوله أنه قد عاد إلى شبابه حين كان من شجعان الأنصار وأبطالهم المقدمين يوم البأس.
قال الأمير وهو يبتسم ويملك نفسه: «حسبك أيها الشيخ! لقد بدأ أمر حمزة بالعنف، وانتهى إلى الرحمة واللين، وابتدأت حديثك لينا رفيقا، وها أنت ذا تنتهي إلى العنف وتحيي ما حط الله عنا من حمية الجاهلية وعصبيتها!
رحم الله حمزة! فما ينبغي أن يثير ذكره شرا، وما ينبغي أن يثير ذكره إلا المودة والرحمة والنصح للمسلمين ولأمير المؤمنين. وما يدريك! لعل هؤلاء الشهداء أنفسهم لو استشيروا لأشاروا على أمير المؤمنين بأن يحملهم بعد موتهم هذه التضحية في سبيل المسلمين! فهل كانت حياتهم إلا تضحية في سبيل الله ورسوله والمسلمين!»
الفصل الثالث
ذو الجناحين
أقبلت تسعى رويدا رويدا مثل ما يسعي النسيم العليل، لا يمس الأرض وقع خطاها، فهي كالروح سرى في الفضاء. نشر الليل عليها جناحا فهي سر في ضمير الظلام. وهبت للروض بعض شذاها، فجازاها بثناء جميل، ومضى ينشر منه عبيرا مستثيرا كامنات الشجون. فإذا الجدول نشوان يبدي من هواه ما طواه الزمان. ردت الذكرى عليه أساه، ودعا الشوق إليه الحنين؛ فهو طورا شاحب قد براه من قديم الوجد مثل الهزال. صحب الأيام يشكو إليها بثه لو أسعدته الشكاة. وهو طورا صاخب قد عراه من طريف الحب مثل الجنون. جاش حتى أضحك الأرض منه عن رياض بهجة للعيون، ونفوس العاشقين كرات يعبث اليأس بها والرجاء، كحياة الدهر تأتي عليها ظلمة الليل وضوء النهار.
ولبث الشيخ مطرقا تتغنى في نفسه الكئيبة هذه الخواطر الحزينة التي تريد أن تبتسم فلا تجد إلى الابتسام سبيلا، ويخفق قلبه بهذه المعاني الشاجية التي تريد أن تشرق فلا تكاد تدنو من النور حتى يلقى بينها وبينه ستار رقيق من الظلمة يدنيها منه وينئيها عنه، ويغريها به ويزهدها فيه. ولم يكن يدري عمن كانت تتحدث هذه الخواطر في نفسه المحزونة. ولم يكن يعلم إلى من كانت تشير هذه المعاني القاتمة في قلبه السقيم. وإنما أنفق يوما بغيضا مريضا تتابعت عليه فيه الهموم، وتواترت عليه فيه الأحزان، وضاقت عليه به الحياة. يوما من هذه الأيام التي تظلم على النفوس أشد الإظلام وإن صحا فيها الجو واعتدل فيها الإقليم، وترقرق فيها ضوء الشمس يحمل على نفوس الغافلين لذة وبهجة وجمالا. يوما من هذه الأيام التي يشرق فيها وجه الطبيعة، ويبسم فيها ثغر الحياة، وتكاد النفوس الحرة تقبل فيها على الأمل والعمل، لولا أن طائفا من السر يصدر عن بعض النفوس الماهرة الماكرة، فيحول إشراق الطبيعة ظلمة واكتئابا، ويرد ابتسام الحياة إلى عبوس وتقطيب. والله قد امتحن أخيار الناس بأشرارهم، وابتلى علماء الناس بجهالهم، وسلط على إخلاص المخلصين نفاق المنافقين، وعلى جد أصحاب الجد والعمل كيد أصحاب الكيد والعجز. يطهر بهذه المحنة قلوبهم، ويصفي بهذه الفتنة نفوسهم، ويبلو بهذه التجربة قدرتهم على الصبر، وثباتهم للخطب، ونفاذهم من المكروه، وحسن استعدادهم للتضحية في سبيل ما يؤمنون به من رأي، وما يسعون إليه من خير، وما يدفعون إليه من إصلاح.
وكان الشيخ قد استقبل يومه نشيطا، يريد أن يعمل كما تعود أن يستقبل أيامه، مندفعا إلى ما يسر له من ألوان النشاط. ولكنه لم يكد يستقبل الضحى حتى جاءته الأنباء عن يمين وعن شمال بأن سحبا تتجمع في الجو غير بعيدة، وقد أخذ بعضها يركب بعضا، وجعلت ريح هوجاء حمقاء تجمعها وتدفعها، تريد أن تسوقها إليه وتصب شرها عليه، فلم يحفل بذلك ولم يأبه له؛ وأراد أن يمضي فيما كان بسبيله، ولكن الأنباء تأتي بأن سحبا أخرى تتجمع ويركب بعضها بعضا، وبأن كيدا يكاد، وشرا يراد، وألوانا من المكر يهيأ بعضها سرا، ويهيأ بعضها إعلانا. وما هي إلا أن أقبل عليه المقبلون، منهم من ينذر، ومنهم من يرثي، ومنهم من يواسي، حتى ضاق بهم جميعا وبما يتحدثون عنه ويخوضون فيه. فانصرف إلى نفسه، ولكنه لم يلبث أن ضاق بها. وانصرف إلى أهله، ولكنه لم يلبث أن نبا عنهم. وانصرف إلى كتبه، ولكنه لم يلبث أن زهد فيها. فهجر المدينة والتمس العزلة في مكان بعيد في طرف من أطراف الريف، وقد قامت فيه شجرات خضر ملتفة الأغصان، على جدول من الماء هادئ صافي الأديم، يداعب النسيم صفحته في رفق، فيثير عليها أمواجا صغارا توشك أن تكون حبابا.
هنالك جلس الشيخ مع الأصيل، وهنالك انصرف الشيخ عن نفسه وعن الناس، وعن المدينة وأهل المدينة، وعن الأعداء وما كانوا يأتمرون، وعن الأصدقاء وما كانوا يدبرون، وفرغ لشجراته الخضر وجدوله الصافي، وهذا النسيم العليل الفاتر يداعب أوراق الشجر وصفحة الجدول، وضوء الشمس الحزينة المتهالكة يتبعها حزينا متهالكا في طريقها إلى الغروب، وهذه الطير الكثيرة، قد أقامت على غصونها مترجحة في أناة وهدوء، متغنية في يشبه الحزن والأسى كأنما كانت تودع النهار كارهة للوداع، وتستقبل الليل ضيقة باستقباله.
وإذا نفس الشيخ تمتزج بهذه الأشجار الخضر، وهذا الجدول الصافي، وهذا النسيم الفاتر، وهذا الضوء الشاحب، وهذه الطير البائسة اليائسة. وإذا هذه الخواطر الحزينة تلم بنفسه، وتخفق بقلبه، وتبلغ لسانه فيوشك أن يتحرك بها لولا أنه يبغض أصوات الناس، ويبغض صوت نفسه أيضا، فيسمع لهذه الخواطر تتحدث إلى نفسه وتبلغها من غير طريق الأذن. ويمضي في ذلك وقتا لا يعرف أكان طويلا أم كان قصيرا، وقد نسي كل شيء، ونفذ من كل شيء، وخلا إلى غير شيء، إن جاز أن يخلو الناس إلى غير شيء.
وها هو ذا يفيق من حاله تلك التي لم تكن نوما ولا يقظة، والتي لم تكن غيبا ولا شهادة، لا يدري كيف دفع إلى هذه الحال، ولا يدري كيف خرج من هذه الحال. وأكبر الظن أن الصمت المتصل من حوله قد دعاه إلى نفسه أو دعا نفسه إليه، فثاب الشيخ إلى نفسه أو ثابت نفس الشيخ إليه. وأكبر الظن أن هذه الخواطر الحزينة التي أطالت التردد بين نفسه وقلبه، وأطالت الغناء في دخيلة ضميره، قد دعت إليه هذه الصورة الغريبة الجميلة التي رآها ماثلة أمامه على الضفة المواجهة له من ضفتي الجدول، يترقرق على وجهها الرائع البارع غشاء رقيق هادئ من ضوء القمر، الذي قام في مكانه من السماء يرسل أشعته المطمئنة في أناة وريث إلى الأرض، كأنما يريد أن يداعب الأرض وما عليها بأشعته تلك مداعبة الساخر الماكر الذي لا يحفل بأحد، ولا يحفل بشيء.
والغريب أن الشيخ لم ينكر هذه الصورة التي كانت ماثلة أمامه ولم يعرفها، ولم يضق بمكانها منه ولم تنبسط نفسه لها، وإنما نظر إليها فأطال النظر، كأنما كان ينتظر زيارتها له وإلمامها به. ونظر إليها دون أن يوجه إليها حديثا، كأنما كان ينتظر منها أن تبدأه هي بالحديث. وقد فعلت؛ فهذا صوت حلو فاتن رقيق يصل إلى الشيخ وقد مازجه همس الجدول الذي كانت أمواجه تصطفق كأنما تحمل النسيم سرا إلى الليل، وإذا هذا الصوت الحلو الفاتن يقع في نفس الشيخ موقع الماء من ذي الغلة الصادي، فيرد إليه حياته ونشاطه، ويذكره بيومه المظلم وليلته المشرقة.
وإذا هو يسمع الصورة تسأله: «ما هذا الصمت الذي أنت مغرق فيه؟! لقد دعوتني إلى نفسك فأطلت الدعاء. وها أنا ذي أسعى إليك وألم بك وأقف منك غير بعيد، فلا تحفل بي ولا تأبه لي، ولا توجه إلي حديثا ولا تسألني عن شيء. ففيم دعوتني إذا؟ وفيم تكلفت السعي إليك؟ وفيم تجشمت في ذلك ظلمة الليل؟!»
قال الشيخ في هدوء ودعة: «أنا دعوتك يا ابنتي؟! ومن تكونين؟»
قالت: «فمن هذه التي أقبلت تسعى رويدا رويدا، مثل ما يسعى النسيم العليل؟»
قال الشيخ: «لا أدري يا ابنتي؛ لم أدع أحدا ولم أتحدث إلى أحد وإنما هي خواطر كانت تضطرب بها نفسي، ومعان كان يخفق بها قلبي.»
قالت الصورة: «فقل إني دعوت نفسي إليك، أو إني دفعت نفسي إليك، أو إن مقامك هذا بين هذه الشجرات الخضر، وهذا الجدول النقي، وهذه الطير النائمة، وهذا الضوء الهادئ الذي ينحدر من القمر، قد أعجبني فأقبلت أشاركك في هذه العزلة، وأتحدث إليك في بعض ما يكون فيه الحديث.» قال الشيخ: «ولكن من تكونين؟»
قالت الصورة: أحريص أنت على أن تعرفني؟ فقل إني أنا العزلة التي يفزع إليها المكروب إذا ضاق بالأحياء والأشياء. وقل إني أنا الوحدة التي يفر إليها الإنسان من نفسه وأهله، ومن الأعداء والأصدقاء، ومن الخير والشر. وقل إني أنا الحرية التي يجدها الإنسان الفرد حين يفر من الجماعة إلى حيث يستطيع أن يفكر آمنا ناعم النفس رضي البال. وقل إني أنا العزلة والوحدة والحرية جميعا قد ائتلف منها شخصي، وتكونت منها نفسي. وقل - إن شئت - إني أنا الهجرة التي يفزع إليها الناس حين يخافون على عقائدهم، وحين يضيقون بنفاق المنافقين وكيد الكائدين، وحين يحسون أن لا مقام لهم في هذه الدار أو تلك فيفرون منها إلى هذه الدار أو تلك. أنا الهجرة التي قد وكلت بالأخيار إذا ضاقوا بالأشرار، أواسيهم أثناء المحنة وأسليهم عن الفتنة، وأصحبهم حين يخفون عن أوطانهم إلى أوطان أخرى، فأونسهم في الطريق، وأرد عنهم غوائل السفر، وأتلقاهم في مهاجرهم، فأحبب إليهم أوطانهم الجديدة وأسليهم عن أوطانهم القديمة، وأفتح لهم أبواب الأمل، وأمهد لهم سبل العمل، وأنتهي بهم إلى ما هم أهل له من الفوز. قل إني أنا الهجرة التي تغناها شاعركم القديم حين قال:
وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها
لساني معقولا وقلبي مقفلا
وإن صريح الحزم والرأي لامرئ
إذا بلغته الشمس أن يتحولا
قال الشيخ: «لقد أذكرتني بهذين البيتين من شعر أبي تمام يا ابنتي وما كنت لهما ناسيا ولا عنهما غافلا. ولكني لا أريد الهجرة ولا أجد إليها سبيلا لو أردتها.»
قالت: «فإنك لا تريد إلا الهجرة، ولا تجد عن الهجرة منصرفا. ألم تهاجر إلى هذا المكان منذ الليلة؟ ألا تهاجر إلى نفسك بين حين وحين، حين تضييق ببيئتك التي تحيا فيها وتشقى بها؟ فإني أونس وحشتك حين تهاجر إلى نفسك في المدينة، كما أونس وحشتك الآن حين هاجرت إلى هذه الشجرات الخضر، وهذا الجدول الناصع، وهذه الفضة المذابة التي تترقرق بين الأرض والسماء كأنما تحمل إلى نفسك الثائرة رسالة الأمن والطمأنينة والهدوء والصفح عن الآثمين والإعراض عن الجاهلين. استمع لي وافهم عني؛ فكم صحبت من أخيار ضاقوا بالحياة وضاقت الحياة بهم، فآنست وحشتهم، وفرجت كربتهم، ولزمتهم رفيقة بهم عطوفا عليهم حتى أبلغتهم مأمنهم. وإني لأعرف من أخبارهم وآثارهم ما هو خليق - إن قصصت بعضه عليك - أن يسلي عنك الهم، ويسري عنك الحزن، ويعصمك من الشك، ويثبتك على اليقين، ويمضي بك إلى الوجه الذي يسرك الله له، حتى تخرج من هذه الحياة وقد رضيت عن ضميرك ورضي ضميرك عنك مهما يكن رأي الناس فيك.
لقد صحبت فتى من قريش فيما مضى من سالف الدهر ما أنسيت صحبته قط. أردت أن أونسه فكان هو مؤنسا لي. وأردت أن أسلي عنه الهم، فلم أجد في نفسه هما أسليه عنه. إنما أقبل علي محبا لي مشغوفا بي مؤثرا أياي على كل شيء. ولقد أبعدت به السفر، ولقد أطلت عليه الغربة، فما أشفق من سفر غير قاصد، وما ضاق بغربة غير منقضية، وإنما هاجر كلفا بالهجرة، مؤثرا لها على اليسير والعسير من الفتنة.
كانت نفسه حلوة هادئة، فأبت أن تمزج حلاوة الإيمان بمرارة الفتنة، وأن تخلط هدوء اليقين بعنف الجدال فيه. كان من السابقين إلى الإسلام. رأى ابن عمه يدعو فاستجاب له عن حب وصدق ويقين. ومضى على الوفاء لما أقبل عليه من هذا الدين الجديد، يؤثر التقوى الخالصة والإيمان الهادئ المطمئن على كل شيء. فلما اضطرب الأمر من حوله ورأى اضطهاد قريش للمسلمين، ورأى ثبات المسلمين للمحنة وإلحاح قريش عليهم فيها، صبر كما صبروا، واحتمل كما احتملوا، ولقي في ذات الله مثل ما لقوا، حتى إذا أذن الله للمسلمين في أن يفروا بإيمانهم إلى حيث الأمن والهدوء - إن أرادوا - هاجر من مكة تاركا وطنا أحبه وعشيرة آثرها، وحياة نعم بما لقي فيها من ضروب الشدة واللين. هاجر فيمن هاجر من أصحاب ابن عمه إلى أرض بعيدة نائية.
صحبته في سفره ذاك، ورأيته يتجشم مع أصحابه أهوال البر والبحر فارا بدينه من الفتنة، مؤثرا أن يعبد الله في دعة، وأن ينشر دينه في هدوء وسلم. ولقد أطال المقام، وأحب الغربة حتى ألفها أو كاد يألفها. ولكني كنت ألزمه وأهون عليه من مشقة الغربة ما قد يكون عليه عسيرا. حتى إذا أذن الله لنبيه في الهجرة، واستقرت أمور الإسلام في المدينة، وأظهر الله دينه على كثير من بيئات الشرك والكفر، جعلت أغري صديقي بالانتقال من غربة إلى غربة، والالتجاء من وطن جديد إلى وطن جديد؛ وما بلغت منه الرضا بذلك إلا حين استوثق من أنه لن يفارقني ولن يقصى عني، ولكنه سيظل مهاجرا.
سينتقل من هجرة الحبشة إلى هجرة المدينة حيث يستطيع أن يعبد الله آمنا راضيا مطمئنا في ظل ابن عمه وبين أصحابه وذوي قرابته، وحيث يستطيع أن يبلي في ذات الإسلام كما أبلى غيره من المسلمين، وأن يحتمل من أعباء الجهاد مثل ما احتملوا.
لقد صحبته مرتحلا إلى الحبشة، فصحبت مؤمنا يفر بإيمانه إلى الطمأنينة وفي نفسه حسرات. ولقد صحبته في عودته إلى المدينة، فصحبت مؤمنا يعود بإيمانه إلى مستقر الهدى ومشرق النور، وإن في قلبه لجذوة تضطرم شوقا إلى ابن عمه، وطموحا إلى الأخذ بحظه من أثقال الجهاد.»
ثم سكت الصوت الهادئ الحلو قليلا، ومضى الجدول يتغنى شكاته المتصلة، ومضى النسيم يداعب الجدول مترفقا به، ويحرك الأغصان في خفة، فيسمع لها وله حفيف وهفيف يمتزجان بشكاة الغدير، فيبعثان أنغاما عذبة، كأنما كانت صلاة حلوة على روح ذلك المهاجر الكريم.
ثم ارتفع الصوت الحلو في أناة وهو يقول: لقد رأيته حين بلغ المدينة وكان ابن عمه عائدا إليها، وقد فتح الله عليه ما فتح من حصون خيبر وثبت أمره، وأعلى كلمته، وإذا ابن عمه يلتزمه ويقبل بين عينيه ويقول: «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا: بفتح خيبر، أم بعودة جعفر.»
ولكن صحبتي له لم تنته، وإنما لزمته في مهاجره الجديد، ونعمت بلزومي إياه بما كنت أرى وبما كان الناس يرون من بره بالضعفاء، ورفقه بالمساكين، ورحمته للبائسين، وإيثاره أصحاب العوز على نفسه وعلى أهله، بما كان الله يتيح له ولهم من الكثير والقليل، حتى كناه ابن عمه بهذه الكنية الحلوة «أبي المساكين».
ثم صحبته إلى رحلته الكبرى، صحبته حين جهز النبي جيشه إلى مؤتة، وكان في نفسه شيء حين أمر ابن عمه عليه زيد بن حارثة. وقد كلم النبي في ذلك، فقال النبي له في صوت يملؤه الحب والحنان والإشفاق: «امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير.»
لقد عرفت دخيلة نفسه، وسمعت نجوى ضميره بعد هذا الحديث إنما كان الشوق إلى حسن البلاء واحتمال أثقال الجهاد هو الذي دعاه إلى أن يعاتب النبي في تقديم زيد عليه. كان يؤثر زيدا والمسلمين، ويريد أن يقدم عليهم نفسه إلى المكروه. فلما رده النبي عن ذلك كانت نفسه تتأذى مخافة أن تظن به الأثرة، وما أراد إلا الإيثار. وكانت نفسه تتحرق شوقا إلى أن يلقى من الأذاة في سبيل الله مثل ما لقي زيد وأصحاب زيد. ولقد رأيته حين تقدم زيد فقاتل حتى قتل وآن له أن يأخذ الراية، وكان على فرس له. فينزل عن فرسه ويعقره ويكون أول عاقر في الإسلام، ويتقدم بالراية فيقاتل حتى تقطع يداه، وحتى تأخذه السيوف والرماح والسهام، وحتى يصرع كما كان يريد أن يصرع شهيدا. ولولا ما أنبأ النبي به مما صار إليه من نعمة الله عليه، لما تعزيت عن الحزن الذي ملأ نفسي لمصرعه. ولكن كيف السبيل إلى الحزن على الشهداء الذين لا يكادون يموتون حتى يردوا إلى الحياة وإذا هم أحياء عند ربهم يرزقون! كيف السبيل إلى الحزن على شهيد لم يدركه الموت حتى رفع إلى السماء، وأنبأ النبي بأن الله قد عوضه من يديه جناحين مخضوبين بالدماء يطير بهما في الجنة فيتبوأ منها حيث يشاء.
وكم من أحاديث لأولئك النفر من أصحاب محمد الذين هاجروا قبله والذين هاجروا معه، والذين هاجروا بعده، لو قصصتها عليك أيها الشيخ لمحوت من نفسك كل موجدة، ولنقيت قلبك من كل حفيظة، ولأقررت في نفسك أني أحق بحبك ومودتك!
قال الشيخ: «حسبك! فقد بلغت من ذلك ما تريدين.»
قالت: «فادعني إذا أحسست ألما أو كربا، فلن تجد مثلي صديقا رفيقا.»
وأخذ اصطفاق الجدول يرتفع شيئا، ويرتفع معه حفيف النسيم وحفيف الغصون، وغناء متقطع ضئيل ينبعث من أجواف الطير النائمة، وهذا سهم وردي نحيل ينفذ في جوف الليل قليلا، ولا يكاد يتقدم حتى يتسع شيئا فشيئا، وحتى ينهزم الليل أمامه مضطربا مروعا، وهذه الصورة تحيي الشيخ في صوت ضئيل نحيل يبعد عنه شيئا فشيئا حتى ينقطع. وهذه أصوات ترتفع متجاوبة حول الشيخ تأتيه من بعيد، من هذه القرى الكثيرة المنبثة في الريف. وهذا الشيخ ينظر من حوله فيرى آية النهار المبصرة جادة في محو آية الليل المظلمة، فينهض متثاقلا وقد غسلت هذه الليلة نفسه من أوضار المدينة، واستقبل الحياة كأنه ولد لساعته. وها هو ذا يمضي نحو المدينة هادئا رزينا، وإن نفسه لتتغنى: «أقبلت تسعى رويدا رويدا مثل ما يسعى النسيم العليل!»
الفصل الرابع
حديث عداس
قال عتبة بن ربيعة لأخيه شيبة: «انظر إلى هذا الرجل المقبل على حائطنا
1
ومن ورائه السفهاء والعبيد قد أغروا به وسلطوا عليه، فهم يؤذونه بألسنتهم، وهو يؤذونه بما يحصبونه من الحصى والأحجار؛ ألا تثبته؟»
2
قال شيبة وقد نظر وأطال: «بلى! والله إني لأعرفه كما تعرفه، وإن قلبي ليرق له كما يرق له قلبك، وإن نفسي لتثور غضبا له كما تثور نفسك. ولقد هممت وما زلت أنازع نفسي أن أفزع إلى نصره وجواره وحمايته من حلماء ثقيف وسفهائها، لولا ما بينه وبين قومنا، ولولا أني أعلم أننا إن فعلنا كان لنا مع قومنا أمر عظيم وخطب جليل.» قال عتبة: «وا رحمتاه لابن عمنا من قومنا! ثم وا رحمتاه لقومنا من أنفسهم؛ ما كنت أحسب أن يبلغ الأمر بقريش أن يذل عزيزها ونحن شاهدان، وأن يجترئ حي من أحياء العرب وإن كان ثقيفا، على أن يسوءوا رجلا من قريش وإن كان مستضعفا مهينا، فكيف بابن عبد المطلب وابن أخي حمزة والعباس!»
وكان هذان الرجلان من أشراف قريش، قد ذهبا إلى بستان لهما في الطائف يصلحان من أمره وأمرهما، ويهيئان لتجارتهما، يجمعان ما تنفذه ثقيف من تجار قريش إلى اليمن في رحلتها إلى اليمن، وإلى الشام في رحلتها إلى الشام. وكانا قد أقاما في الطائف أياما، وأقبل في أثناء ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم
يعرض نفسه على ثقيف يلتمس عندهم النصر والعون والجوار، بعد أن تنكرت له مكة بطاحها وظواهرها، وبعد أن تنكر له الناس حتى أقربهم إليه وأدناهم منه، وبعد أن فقد عمه الذي كان يمنعه ويقوم دونه، وبعد أن فقد زوجه التي كانت ترعاه وتكلؤه وتحوطه بالرحمة والحب والحنان. وكان قد لزم داره بعد هاتين الكارثتين، لا يكاد يبرحها خائفا محزونا، حتى أقبل عليه عمه أبو لهب فأمنه وأعلن إليه أنه يقوم من حمايته بما كان يقوم به أبو طالب، فسرى عن النبي الكريم شيئا واستأنف الخروج من داره والذهاب إلى المسجد والاضطراب في مكة. ولكن قوما من قريش ألحوا على أبي لهب حتى غيروه على ابن أخيه، فاسترد جواره وحمايته، وعاد إلى مثل ما كان عليه قبل أن يموت أبو طالب. فلما ضاقت مكة بخير أبنائها خرج إلى الطائف يلتمس جوار ثقيف، فأقام فيهم ما شاء الله أن يقيم، يسعى عند هذا ويلطف لذاك، وكلهم يرده وكلهم يمتنع عليه. وكان مقامه فيهم قد أخافهم وثقل عليهم وأثار في نفوسهم إشفاقا أن يصيب مدينتهم ما أصاب مكة من اضطراب الأمر وانتفاض الضعفاء على الأقوياء، واستجابة قوم لهذا الرجل الذي أنكره قومه ولم تره مدينته إلا ما يكره فتقدموا إليه في الرحيل عنهم. ولم يكد يفعل حتى أغروا به سفلة الناس وسفهاءهم، فتبعوه يؤذونه بالقول والفعل حتى ألجئوه ضعيفا مكدودا وكئيبا محزونا إلى حائط هذين القرشيين. وأقبل النبي وقورا هادئ الخطى مطمئن النفس، تظهر على وجهه الكريم آيات الضعف وآيات القوة، وآيات الحزن وآيات الرجاء.
ضعف مصدره الجهد والعناء. وقوة مصدرها الحزم والعزم. وحزن مصدره الرحمة لهؤلاء الذين يدعوهم إلى الخير فيبغونه بالسوء، ويرشدهم إلى النجح فيريدونه بالمكروه. ورجاء مصدره الثقة بأن الله لم يختره لرسالته ليخذله قبل أن يتم أمره ويعلي كلمته ويظهر دينه على الدين كله، وبأن الله لا يصيبه بما يصيبه به من المكروه إلا امتحانا لقلبه، وابتلاء لنفسه، وتمحيصا لطبعه.
أقبل هادئا والناس من ورائه مضطربون، مستأنيا والناس من ورائه مسرعون، حتى انتهى إلى ظل من ظلال البستان، فجلس متعبا مكدودا، والقرشيان ينظران إليه ويرقان له ويعطفان عليه وينازعان نفسيهما إلى نصره ومعونته، وقد كادا يفعلان لولا أن ذكرا قريشا، ولولا أن ذكر عتبة بن ربيعة صهره أبا سفيان، وقدر ما يلقاه وما يلقاه أخوه من قريش إن منح محمدا معونة أو نصرا. ولكنهما رأيا ابن عمهما يأوي إلا ظلالهما مكروبا محزونا، فلم يملكا أن يمتنعا من أن ينالاه بأيسر الخير وأهون البر، فيدعوان عداسا - عبدا من عبيدهما - ويأمرانه أن يحمل إلى هذا الرجل الضعيف المكدود شيئا من عنب البستان ليصيب منه. ويمضي العبد منفذا أمرهما. ولكنهما لا يستطيعان أن ينصرفا عن مكانهما ولا أن يحولا بصرهما عن ابن عمها، وقد أهينت فيه قريش كلها لولا أن قريشا قد احتفظت بأحلامها. فهما ينظران ويرثيان ويعمل الأسى في قلبيهما. والعبد يسعى بالطبق إلى هذا الرجل المخزون، حتى إذا انتهى إليه أقبل الرجل على العنب يريد أن يصيب منه والعبد قائم منه غير بعيد. ولكن القرشيين ينظران فيريان عجبا: يريان كأن حديثا قصيرا قد دار بين الرجل وبين هذا العبد، ثم يريان العبد وقد أكب على هذا الرجل الحزين يقبل رأسه ويديه ورجليه باكيا مستعبرا مندفعا في حديث لا يكاد ينقضي، مظهرا من التكرمة والإجلال لهذا الرجل ما لم يتعود أن يظهره لأحد من سيديه. فيقول أحد القرشيين: «ويحك! لقد أفسد علينا ابن عمنا هذا العبد! وما أرى إلا أن ثقيفا معذورون إن خافوا منه على عبيدهم وضعفائهم وأقويائهم أيضا ما خفنا نحن منه على العبيد والضعفاء والأقوياء!» وهذا الرجل قد نهض وقورا هادئا، ومضى العبد معه شيئا من الطريق ثم وقف يشيعه بطرفه حتى غاب عن طرفه وعن طرف القرشيين.
هنالك عاد العبد إلى سيديه، وفي وجهه آيات الكآبة والحزن، وفي وجهه مع ذلك آيات الطمأنينة والرضا، ودموع تجري من عينيه لم يدريا أكانت دموع حزن وابتئاس، أم كانت دموع غبطة وابتهاج.
يقول عتبة بن ربيعة للعبد رفيقا به عطوفا عليه: «ويحك يا عداس! إن لك مع هذا الرجل لشأنا، فاقصص علينا بدء حديثك فقد رأيناك حفيا به متلطفا له مكبا عليه، تقبله باكيا مواسيا ثم مرافقا له تشيعه بشخصك ثم بطرفك.»
قال العبد: «نعم يا مولاي! إن لي مع هذا الرجل لشأنا وحديثا عجبا. وأحبب إلي أن أقص عليكما حديثي. ولكن أي حديثي تريدان؟ أتريدان حديثي منذ اليوم، أم تريدان حديثي القديم الذي مضت عليه أعوام طوال، والذي دفعني إلى بلادكم هذه، والذي اضطرني إلى ما أنا فيه من رق وإلى أن أعمل لكما بيدي في هذا البستان، وما عملت لأحد قبلكما بيدي وما عملت لنفسي بيدي، وغن كان الناس ليعملون لي كما أعمل لكما الآن؟»
قال عتبة وقد ثارت في نفسه طبيعة العربي الذي أترف وفيه فضل من بداوة، فهو مشغوف بالقصص، كلف بغريب الحديث: «وإن لك لحديثا قديما بينه وبين حديثك هذا الجديد سبب؟»
قال عداس: «نعم.» قال عتبة: «فاقصص علينا حديثك.»
وأخذ القرشيان مجلسهما استعدادا لسماع الحديث، وهم العبد أن يبدأ حديثه قائما، ولكنهما أذنا له في الجلوس فجلس، وأطرق وأغرق في صمت غير طويل ولكنه كان عميقا، ثم قال: «لقد انتهيت إلى هذا الرجل منذ حين، فسمعته يقول كلاما ما اعرف أن الناس يقولونه أو يقولون مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك حدثني بحديث ما يعرفه إلا نبي. وكان حديثه هذا مني على ميعاد، أو كنت أنا من حديثه هذا على ميعاد. لقد سألني سؤالا لم يسألنيه أحد منذ وطئت هذه البلاد. سألني عن موطني الذي نزحت منه، فأنبأته بما لا تعلمان وبما يحسن أن تعلماه الآن، وهو أني رجل من أهل نينوى، نشأت في بيت من بيوت الأحرار الذين إن لم يتح لهم الملك والإمارة فقد أتيحت لهم الثروة والغنى. وكنت موفور الحظ من النعمة وحسن الحال فارغا لما يفرغ له أمثالي في تلك البلاد من تقسيم الوقت بين لذة الجسم ولذة العقل، ألهو ما وسعني اللهو، ثم أقرأ وأختلف إلى مجالس العلماء والفلاسفة من القسس والرهبان، فأسمع منهم وأتحدث إليهم وآخذ معهم في ألوان من الجدل حول ما يختلف الناس فيه عندنا من أصول الدين والعلم. وأنتما لا تعلمان من أمرنا في تلك البلاد إلا قليلا، إنما تعنيان ويعنى قومكما بما تحملون إلينا من تجارة وما تصدرون به عنا من مال، وما تصيبون في بلادنا من هذه اللذات اليسيرة. فأما ما دون ذلك فليس لكم به علم وليس لكم عنه سؤال. ولو قد دخلتم في حياتنا وعرفتم دقائق أمرنا، لرأيتم أن في نفوسنا اضطرابا شديدا وغليانا متصلا وضيقا بالسلطان، وتمردا على النظام، وإنكارا لما ورثنا من عادة وشكا فيما تلقينا من دين.
ساءت فينا سيرة السلطان فنقمنا من نظام الحكم. وساءت فينا سيرة القسس فشككنا في الدين. فأما العاجزون فقد أعطوا طاعة ظاهرة وأضمروا عصيانا خفيا وعكفوا عن اللذات يستعينون بها على احتمال الحياة. وأما الأقوياء وأولو العزم فقد فكروا وقدروا، وجدوا في التفكير والتقدير يلتمسون فرجا من حرج ومخرجا من ضيق. وكنت فيما رأيت من هؤلاء. فلما ضقت بالحياة في مدينتي ولم أجد عند علمائها وقسسها شيئا، خرجت مسافرا إلى الشام ألتمس في السياحة تسلية وعلما، وأبتغي فيها ظفرا بالخير. ولست أقص عليكما رحلتي إلى الشام ومنازلي في طريقي إليها، واضطرابي في مدنها وقراها، ويأسي من قسسها وعلمائها، وضيقي بسادتها وحكامها، ولكني انتهيت بعد كثير من الاضطراب إلى دير من الأديار يقوم في آخر العمران وأول الصحراء مما يلي بلادكم هذه. وأقمت في هذا الدير دهرا، راضيا عن حياته الهادئة المطمئنة، راضيا عن حياة أهله الآمنين الوادعين الأخيار، ناعم النفس بعشرتهم، مستمتعا بأحاديثهم. ولكنني سمعت من أحاديثهم عجبا: رأيت لهم فيما بينهم أمرا يتحدثون عنه بالرمز، ويومئون إليه بالإشارة. ورأيت حديثهم هذا الرمزي يكثر ويشتد إمعانهم فيه كلما مرت بديرهم قافلة من قوافلكم هذه التي تتردد على بلاد الروم. رأيتهم يعرفون أنباء هذه القوافل قبل أن تصل إليهم، فيتهيئون لها ويستقبلونها ويكثرون من سؤالها ويظهرون الحفاوة بها، ثم يخلو بعضهم إلى بعض، فيتبادلون بينهم أحاديث الرمز والإشارة والإيماء، ويقول بعضهم لبعض: لم يأت النبأ بعد، أو يقول بعضهم لبعض: لقد انقطع النبأ بعد أن جاءت بشائره. فلما كثر علي منهم ذلك أزمعت أن أعلم علمه، فتلطفت لهم وتوسلت إليهم حتى عرفت أنهم ينتظرون إصلاحا دينيا ذا بال، وأنهم قرءوا في كتبهم أن هذا الإصلاح يأتيهم من قبل هذه البلاد، وأنهم حسبوا وقدروا ورأوا أن زمان هذا الإصلاح قد أظل الناس، وأن أنباء قد انتهت إليهم وأحاديث قد نقلت لهم، وكلها يدل على أن أوان هذا الإصلاح قد آن. قصوا علي من هذه الأنباء والبشائر أطرافا، فلم أملك أن كلفت بالرحلة إلى بلادكم، وقلت: ما يمنعني أن أبعد في السفر؛ وما يمنعني أن أتصل بقافلة من قوافلكم هذه فأبلغ معها هذه الأرض، فأعلم من علمها، وأصيب من تجارتها! ولعلي أظفر بما يتحرق إليه هؤلاء الرهبان شوقا. وأنتما تعلمان كيف كان الاتفاق بيني وبين تلك القافلة التي أمنتني على نفسي ومالي، وضمنت لي أن أبلغ بلادكم هذه موفورا فأصيب من تجارتها وأعود معها من قابل إلى الشام، حتى إذا بعدنا عن بلاد الروم وانقطعت أسبابي من أسباب قيصر، عدا أهل هذه القافلة على مالي فاحتجزوه، ثم عدوا علي فاتخذوني وباعوني من صاحبكما ذاك الذي اشتريتماني منه قريبا من يثرب.
فهذا بدء حديثي أيها السيدان. وقد عملت في بستانكما أعواما، وكان الناس يتحدثون من حولي بهذه الأحداث التي تحدث في مكة، ويتناقلون من حولي أنباء هذا الرجل الذي ينكر الأوثان ويدعو إلى التوحيد، ويريد أن ينصف المظلوم من الظالم، والعبد من السيد، ويسوي بين الضعيف والقوي. وكان الناس يتحدثون من حولي بما يلقى هذا الرجل في بلده من شر، وما يمتحن به أصحابه من ألوان الفتنة. وكنت كلما سمعت هذه الأحاديث هششت لها، وطابت بها نفسي، وأحسست أن النبأ الأعظم قريب. وكنت أقدر أن صاحب هذا النبأ يجب أن يكون كإخوانه الذين سبقوه عالما بدين الله داعيا إليه، مخبرا عن أنباء الأولين بما لا يخبر به الناس. وكم وددت لو أتيح لي أن أنحدر إلى مكتكما هذه فأسأل صاحبكما وأسمع منه، ولكن الرق في بلادكما شديد؛ فنحن أرأف منكم بالرقيق وأعطف منكم عليه. وقد لبثت في بستانكما هذا أسمع الأنباء وألتمسها وأتحرق شوقا إلى مصدرها، حتى أقبل صاحبكما هذا منذ حين. ولقد رثيت له حين رأيته وأوشاب الناس من حوله يؤذونه بألسنتهم وأيديهم. ولقد هممت أن أفزع لنصره والذود عنه، وما كنت أعلم من أمره شيئا، ولكنها الرحمة عطفتني عليه. ولقد هممت أن أستأذنكما في إيوائه وإيثاره بشيء من القرى، ولكني رأيتكما تنظران وتتحدثان ولا تنشطان، ثم أمرتماني بالسعي إليه. فلما بلغته سمعت منه كلاما ما سمعت مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك سألني عن موطني، فلما أنبأته به قال: «هذا موطن يونس نبي الله.» فما شككت في أنه صاحبي الذي أقبلت ألتمس أنباءه.»
قال عتبة: «ويحك يا عداس! إن حديثك هذا لعجب، ولكنا نخشى أن يفسد عليك صاحبنا دينك، وإن دينك لخير مما يدعو إليه.» قال عداس: «مهلا يا سيدي؛ إن الذي يقول ما سمعت لا يدعو إلى شر ولا يغري بفساد، ولا يأمر إلا بمعروف، ولا يقول إلا حقا.» قال شيبة: «ويحك يا عداس! لقد سحرك صاحبنا فيمن سحر. فماذا سمعت منه؟» قال عداس: «بل لقد هداني فيمن هدى. ولقد سمعته يناجي ربه بحديث ما سمعت أعذب منه، لقد حفظت حديثه، وإنك لتعلم ما أنا بالعربي، وما حفظ أحاديثكم علي بيسير.» قال عتبة: «فهات أعد علينا ما سمعت.»
قال: سمعته يقول: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.»
ولم يفرغ العبد من هذا الحديث حتى أغرق في بكاء هادئ، وأغرق سيداه في وجوم عميق. ثم ثاب القوم جميعا إلى أنفسهم، ونظر القرشيان أحدهما إلى الآخر نظرة المستخذي الآسف. ثم قال عتبة لعداس: «أنت وما تشاء يا عداس من حب صاحبك وطاعته. ولكن لا تنس أن لنا عليك حقا وطاعة. وإنا حريصان على ألا تظهر من أمرك شيئا فتضطرنا فيك إلى ما نكره، وتضطر قومنا فينا إلى ما تكره.»
ومضت أعوام وحدثت أحداث، ونظر العبد الشيخ ذات يوم فإذا محمد
صلى الله عليه وسلم
قد ضرب عسكره حول الطائف يحاصر فيها ثقيفا، وكان عداس قد انتقل من ملك ابني ربيعة بعد موتهما إلى الثقفيين، وإذا نفسه تنازعه إلى صاحبه، وإذا هو يحرض الرقيق ويبث فيهم الدعوة إلى الخروج على ساداتهم واللحاق بجيش المحاصرين، وإذا نفر من الرقيق يجتمعون إليه، وإذا هم يقتحمون الأسوار ويهبطون إلى العسكر مسرعين، وترميهم مقاتلة ثقيف بالنبل فتصرع منهم جماعة فيهم عداس، قد مات قبل أن يبلغ صاحبه العظيم، ويخلص سائرهم إلى النبي فيهديهم إلى الإسلام ويردهم إلى الحرية، وينصرف عن حصار الطائف، حتى إذا أسلمت ثقيف تكلمت في رقيقها أولئك وأرادت ردهم إلى الطاعة، فيقول النبي الكريم: «كلا! هؤلاء عتقاء الله.»
الفصل الخامس
مصعب بن عمير
1
كان غض الشباب، معتدل الخلق، ناضر الوجه، مشرق الجبين. وكان عذب الصوت، حلو الحديث، لا تكاد تقع عليه العين حتى تهواه النفس، ولا يكاد صوته يقع في الأذن حتى يصبو إليه القلب. وكان حسن الزي معنيا بثيابه وشكله عناية ظاهرة، لا يكاد يراه الرائي حتى يعلم أن له حظا من نعمة، وفضلا من يسار. وكان طيب النشر، لا يمر بمجلس من مجالس قومه إلا قالوا هذا مصعب بن عمير مقبلا! يستدلون عليه بما يتقدم من بين يديه من عرف يتأرج به الهواء. كان أبواه يحبانه ويؤثرانه، وكانت أمه خاصة تقف عليه حبها وحنانها، وتختصه بعنايتها، وتحكمه في ثروتها الواسعة ومالها الكثير.
وكان لهذا كله أحدوثة قريش وموضوع أسمارها، تعجب بجماله البارع، وشبابه الرائع، وحسن بزته، وكثرة ماله، حتى كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يتحدث عنه إلى أصحابه، ويعجب منه بما يعجب منه الناس؛ وكان سمح الخلق، رضي النفس، صافي الطبع، مهذب المزاج، فلم يكن يكلف بما يكلف به فتيان قريش من الصيد والقنص، ولم يكن يألف ما كان يألفه كهول قريش وشيوخها من حديث المال والأعمال، وإنما كانت قصاراه حياة هادئة وادعة، قوامها حسن العشرة وصفو الحديث.
أقبل ذات يوم على المسجد في الضحى، وكان فارغ البال، راضيا عن نفسه وعن الناس وعن كل شيء. وكان يتردد في جو مكة نسيم بارد يبعث في الأجسام نشاطا للحركة ، وفي النفوس ميلا إلى هذا التفكير الذي لا رزانة فيه ولا هدوء، وإنما هو تفكير سريع، أوضح مظاهره الحديث والحوار. وكان قد لقي طائفتين من الرفاق الذين خرجوا يدفعهم هذا النشاط إلى أن يلتمسوا ما ينفقون فيه فضل ما يجدون من قوة في الجسم والعقل. فأما إحداهما فكانت تتهيأ للصيد، وأما الأخرى فكانت تسعى إلى حانة من حانات اللهو عند رومي كان يبيع في مكة نبيذ الشام. دعته إحدى الطائفتين إلى الصيد فنفر منه، ودعته الأخرى إلى الشراب فامتنع عليها. كان لا يحس من نفسه حاجة إلى هذه اللذة الآثمة التي يجدها أصحاب الصيد في سفك دماء الحيوان البريء، وكان لا يجد راحة إلى هذا اللهو الذي يلعب فيه عقل العاقل وحلم الحليم بين الكئوس والأقداح. وأعرض عن أولئك وهؤلاء، ومضى أمامه إلى المسجد كأنه آثر الاستماع إلى أندية قريش وهم يتحدثون فيما يعرض لهم من الأعمال اليسيرة أو الخطيرة. على أنه لم يكد يبلغ المسجد ويتقدم فيه حتى سمع حوارا لا يخلو من عنف، فاستبشر ومنى نفسه ساعة قيمة خصبة. وما كان ألذ الحوار يشترك فيه شيوخ قريش إذا جدوا! وما كان ألذ الحوار يشترك فيه شيوخ قريش إذا هزلوا أيضا!
أقبل الفتى حتى دنا من أحد هذه الأندية، فجلس غير بعيد واستمع للقوم، فإذا هم يختصمون في هذا الرجل الذي أحدث في مدينتهم حدثا ليس منهم إلا كاره له ساخط عليه؛ لأنه يغير ما ألفوا من دين، وينكر ما ورثوا من سنة، ويؤلب الفقراء على الأغنياء، ويثير الضعفاء بالأقوياء، ويجمع إليه أخلاطا من الناس، فيهم الحر البائس، والرقيق اليائس، فلا يكاد يتحدث إليهم حتى يزيل ما بينهم من فروق، وإذا هم جميعا إخوان قد زال في صدورهم من غل، وصفا ما بينهم من صلة، وإذا هم يد واحدة لو أذن لها صاحبها وخلى بينها وبين الحركة لأحدثت في المدينة شرا عظيما. وهذا الرجل يجمع هؤلاء الناس إليه، فيعظهم وعظا غريبا لم يسمعوا مثله من كهانهم في مكة، ولم يسمعوا مثله من وعاظ العرب في الأسواق. وهم يستمعون إليه فيسيغون ما يقول وكأنهم يشربونه شربا، وإذا هم يبتهجون له حينا فتشرق وجوههم بشرا وتتوقد عيونهم أملا، وإذا هم يبتئسون له حينا آخر فتعبس الوجوه، وتتقطب الجباه، وتفيض الدموع حارة غزيرة حتى تبتل بها اللحى، ويجهشون بالبكاء فإذا صدروهم تضطرب لشدة ما يأخذ القلوب فيها من الوجيب. ما أجمل ما يعدهم ويمنيهم! وما أروع ما ينذرهم ويخوفهم! وما أشد سلطانه على نفوسهم وأبلغ استئثاره بعقولهم! ولئن خلي بين هذا الرجل وبين المستضعفين من قريش وأحلافها ومواليها ومن يلم بمكة من شذاذ الناس ليثورن بكل شيء، وليغيرن كل شيء. والقوم يختصمون في ذلك خصومة تختلف عنفا ورفقا باختلاف أمزجتهم وطبائعهم، فمنهم الثائر الحاد الذي يود لو أطلقت قريش يده فينهض إلى دار ابن أبي الأرقم هذه التي يجمع فيها محمد أصحابه إليه فيهدمها عليهم هدما، ولن يشق ذلك عليه إذا نهض معه نفر من فتيان مخزوم. ومنهم الشيخ الوقور الذي يذكر أمس ويفكر في غد ويكره لقريش أن يغير بعضها على بعض ويبطش بعضها ببعض، ويرى أن قريشا إنما سادت العرب لأنها أقامت أمرها على الشورى، وجعلت الفصل فيما يعرض لها من الشر لهذه الأندية التي تتألف من الملأ لا لبأس الأفراد والجماعات، ولا لسطوة الرئيس الذي ينفرد بالسلطان. وهو ينصح باستصلاح هذا الرجل وتقريب الأمد بينه وبين قريش، ولو تكلفت قريش في ذلك بعض المشقة وشيئا من المال.
والفتى جالس غير بعيد يسمع رفق الرفيق، وعنف العنيف، ويود لو علم من أمر هذا الرجل الذي يختصم القوم فيه أكثر مما يقولون. فينهض متثاقلا، ويخرج من المسجد ويسلك طريقه إلى دار ابن أبي الأرقم على الصفا. ولو أن الفتى سأل نفسه وهو يقطع الطريق بين المسجد وبين هذه الدار التي استقرت فيها الدعوة الجديدة عن هذه القوة العنيفة التي دفعته مع الضحى إلى المسجد، وصرفته عن رفاقه وهم يدعونه إلى الصيد، وصدفت به عن أصحابه وهم يرغبونه في الشراب، وانتهت به إلى ندي قريش فأسمعته ما كان بينهم من خصومة وحوار، ثم دفعته في هذه الطريق التي يسلكها الآن إلى حيث يتحدث محمد إلى أصحابه، لو أن الفتى سأل نفسه عن هذه القوة الغريبة التي تحكمت فيه، واستأثرت به منذ أصبح، لما وجد لسؤاله جوابا، ولا عرف لهذه القوة أصلا ولا كنها. ولكنه لم يفكر في شيء، ولم يسأل نفسه عن شيء، وإنما يمضي في طريقه حتى يبلغ الدار، فيطرق الباب طرقا رفيقا، فإذا فتح له دخل فحيا ثم جلس. والقوم ينظرون إليه فيعجبون لمنظره الرائع وزيه الحسن وشكله الجميل، وتحيا في نفس كل واحد منهم أمنية خفية، ولكنها قوية صادقة، يودون جميعا لو هدى الله هذا الفتى الوسيم الغني إلى الإسلام، فأصبح واحدا منهم، وشاركهم فيما يستمتعون به من هذه النعمة الغضة الشاملة، نعمة الإيمان بالله وبمحمد عبده ورسوله. إذا لازدانت جماعة المسلمين، ولاغتاظت قريش. تحيا هذه الأمنية في نفوس القوم جميعا في لحظة قصيرة كأنها خطف البرق، وتثبت في نفوسهم وتقوى، وإذا هي شعلة تتوقد بها هذه العيون التي تنظر إلى الفتى في حب ومودة، وكأنها تدعو نفسه إلى أن تتصل بنفوسهم. ويحس الفتى وقع هذه الأبصار عليه ونفوذها إلى نفسه، ولكنه صامت لا يقول شيئا ولا يأتي شيئا.
ثم يتصل حديث النبي مع أصحابه فينذر ويبشر، ويقرأ القرآن. وما كاد القوم يسمعون صوت النبي حتى تتحول إليه عن الفتى أبصارهم وقلوبهم، وإذا مصعب كأنه لم يدخل عليهم منذ حين، أعرضوا عنه ثم نسوه، ولكنه هو لا يستطيع أن يعرض عنهم ولا أن ينساهم، فهو يلحظ انصرافهم عنه، وإقبالهم على صاحبهم. ثم لا يلبث أن ينصرف معهم عن نفسه، ويقبل معهم على هذا البشير النذير، فيسمع ويعي، ثم ينهض فيدنو من النبي، ثم يبسط يده ويعلن دخوله في الدين الجديد.
2
وكتم الفتى إسلامه دهرا مخافة أن تفتنه قريش، أو تنكره أمه، وكان لها محبا وعليها شفيقا، وكان حريصا على ألا يؤذيها، ولعله كان حريصا أيضا على ألا تنقطع معونتها له وبرها به؛ فقد كان يجد من هذا البر وتلك المعونة ما ينفع به نفرا من أصحابه وإخوانه في الدين. ولكن عثمان بن طلحة رآه ذات يوم وهو يصلي، فما أسرع ما سعى به، ودل عليه! وما أسرع ما تنكرت قريش للفتى! وما أسرع ما تنكر له أبواه! وما أسرع ما مسه الضر وثقل عليه احتمال الحياة! هنالك أصبح هذا الفتى السعيد كغيره من أصحابه فقيرا بائسا، ولكنه كان كغيره من أصحابه صبورا جلدا، يجد في الإسلام عما يلقى عزاء وتسلية. حتى إذا اشتد الأمر بالمسلمين وأذن النبي لهم في الهجرة إلى بلاد الحبشة، هاجر معهم فأقام ما أقام، واحتمل ما احتمل، ثم عاد فأقام مع النبي ولزمه. وضاقت الأرض بالمسلمين مرة أخرى، فكانت الهجرة الثانية إلى بلاد الحبشة. فهاجر الفتى مرة أخرى، وأقام في تلك البلاد ما أقام، واحتمل في تلك البلاد ما احتمل. وكأن صبره عن لزوم النبي لم يكن ميسورا، فآثر احتمال الأذى في نفسه بقرب النبي على الأمن والسلامة بعيدا عنه. فعاد إلى مكة سيئ الحال قد مسه الضر واشتد به البؤس، فرثت ثيابه حتى ما كانت تستر جسمه إلا في مشقة وبعد حيلة واسعة، وغلظ جلده وتخدد وقد كان سبطا رقيقا. وأقبل ذات يوم على النبي وأصحابه. فلما رآه المسلمون نكسوا رءوسهم وغضوا أبصارهم رحمة له وحياء من العجز عن معونته. وسلم الفتى فرد النبي عليه السلام وأحسن عليه الثناء وهو يقول: «لقد رأيت هذا وما بمكة فتى من قريش أنعم عن أبويه نعيما منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير في حب الله ورسوله!»
ولزم الفتى مجلس النبي فأطال لزومه، واستمع الفتى للنبي فأحسن الاستماع، وحفظ الفتى عن النبي فأتقن الحفظ، وإذا هو من فقهاء الصحابة وأشدهم بالدين علما. ثم تكون العقبة الأولى، ويكتب المسلمون من الأنصار للنبي في رجل من أصحابه يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فيرسل إليهم النبي مصعبا فيكون أول مبشر بالإسلام كلف نشر الدين خارج مكة.
ويوفق مصعب فيما كلف من الأمر، فإذا الأنصار يقبلون على الإسلام أفواجا، وإذا سماحة خلقه وعذوبة صوته وما يجري فيه من حلاوة الإيمان وشدة الاقتناع، كل ذلك يحببه إلى الناس ويعطفهم عليه. ولا يكاد يدنو موسم الحج حتى يشخص مصعب في سبعين من الأنصار هم أهل العقبة الثانية. وبلغ الفتى مكة، فلم يفكر في أمه ولا في أهله، وإنما مضى قدما حتى انتهى إلى النبي، فخلا إليه وأطال عنده المقام يعلمه علم المدينة وينبئه بأخبارها، والنبي عن ذلك راض وبه مسرور. ويطيل المقام عند النبي، وتعلم أمه بمقدمه، فتبعث إليه من يلومه في هذا الذي تراه عقوقا، ولكنه مع ذلك لا يفكر في لقائها حتى يفرغ من أمره عند النبي. فإذا زارها بعد ذلك لامته في إبطائه عنها ولامته في دينه، واستعانت عليه بدموعها. وما أقوى الدموع عونا للأمهات! ولكن مصعبا قد صبر للشر كله، فليصبر لدموع أمه أيضا. وإذا هو يعظها ويدعوها إلى الإسلام، فتأبى عليه وتنذره أن تفتنه عن دينه، فيلقى نذيرا بنذير وشرا بشر، ويعلن لئن حاول أحد فتنته ليحرصن، على قتل من يعرض له؛ فتدعه أمه، وينقطع لنبيه بعد ذلك فيقيم معه؛ حتى إذا تهيأ النبي للهجرة تقدم مصعب إلى المدينة فانتظره فيها.
3
ويحمل مصعب لواء النبي في وقعة بدر فيعود به ظافرا منصورا. ويلقى مصعب في المدينة من الجهد والفقر ما يلقاه غيره من فقراء المسلمين، فيحتمل ذلك راضيا به باسما له. حتى إذا كانت وقعة أحد تقدم مصعب باللواء بين يدي النبي حتى يجد موقفه من ميدان القتال فيثبت فيه. وتشتد صدمة قريش للمسلمين فينكشفون ويتفرقون عن لوائهم. ولكن مصعبا أثبت قدمه في الأرض، فهو لا يزول ولا يميل. ويقبل عليه ابن قميئة - فارس من فرسان قريش - فيضرب يده بالسيف فيقطعها ويسقط اللواء، فيأخذه مصعب بيده الأخرى ويجنأ
1
عليه. ويكر عليه ابن قميئة فيقطع يده الأخرى، ولكن قدم مصعب ثابتة وهو لا يزول ولا يميل، وما زال اللواء مرفوعا قد ضم عليه مصعب عضديه. ويكر ابن قميئة مرة ثالثة فينفذ الرمح في صدر مصعب، ويسقط مصعب ويسقط معه اللواء فيتلقاه أخوه أبو الروم. وما يزال اللواء مرفوعا حتى يبلغ المدينة.
2
4
وقد انجلت قريش منتصرة عن ميدان القتال، وثاب المسلمون إلى الشهداء يوارونهم في قبورهم، فإذا مصعب قد خر على وجهه. ويهم المسلمون بدفنه فلا يجدون له كفنا، إنما هو ثوب رث قصير، إن أخفى رأسه أظهر رجليه، وإن أخفى رجليه أظهر رأسه، والنبي
صلى الله عليه وسلم
يرى فيتلو قول الله عز وجل:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .
ثم يأمر أن يغطي أعلاه بالثوب وأن يلف أسفله برطب الكلأ، ثم يقول: «إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة.» ثم يقبل على الناس فيقول: «أيها الناس زوروهم وأتوهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام.»
3
الفصل السادس
طريد اليأس
لم يذكروا في تلك الليلة ماضيهم الحلو وحاضرهم المر، ولم يتحدثوا عن أوطانهم تلك النائية التي كانوا ينعمون فيها بلذات الحياة، ويستمتعون فيها بخفض العيش، ويسيرون فيها سيرة الأحرار، لا يعرفون لأحد غير قيصر وعماله عليهم سلطانا، وقد يعرف لهم غيرهم كثيرا من السلطان والبأس، وقد يقدم إليهم غيرهم كثيرا من آيات الطاعة والإذعان. ولم يسمروا بهذه الأحاديث التي تعودوا أن يسمروا بها إذا فرغوا من أعمالهم وانصرفوا إلى راحتهم ولقي بعضهم بعضا حين ينقضي النهار ويتقدم الليل، والتي كانوا يستعيدون بها حياتهم تلك الجميلة المشرقة، ويستحضرون بها مواطن لذاتهم ونعيمهم، هناك حيث لا يشتد القيظ حتى ينضج الجلود ويصهر الأجسام، وحيث لا تقع العين على الجبال الجرد والوهاد المقفرة، وحيث لا تضيق الأرض بالناس ولا يضيق الناس بالأرض، وحيث يستقبل الناس أيامهم راضين باسمين، ويستقبلون لياليهم لاهين عابثين. كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به من ذكر الفاتنات المفتونات اللاتي كن يحولن حياتهم أحلاما، ويجعلن جدهم لعبا، ويسرين عنهم كل هم، ويغرين بهم كل نعيم، يخلبنهم باللفظ واللحظ، ويعذبنهم بالدل والتيه، ويسعدنهم بالقرب والوصل، كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بأحاديث قيصر وقصره، ولا بأنباء الحاكم وحاشيته، ولا بقصص الحرب بين الفرس والروم.
وأين هم الآن من قيصر وقسطنطينيته! وأين هم الآن من تلك الثغور الباسمة القوية التي كانت تبسم لأهلها كأنها الجنات، وتعبس لأعدائها كأنها الجحيم! وأين هم الآن من الفرس والروم! وأين تكون مكة من ميادين الحرب بين الفرس والروم! كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحيانا من أحاديث ساداتهم ومواليهم، ومما كان يتصل بينهم من التنافس والجهاد، ومما كان يدبر بينهم من الكيد والمكر، ومما كان يجتمع لهم من الغنى والثراء، ومما كان يلم بهم من الحوادث والخطوب. كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحيانا من أحاديث هذه القوافل التي تفصل من مكة إلى الشام، فتمضي معها نفوسهم تسايرها في تلك الطرق البغيضة التي يذكرون طولها وثقلها حين قطعوها عناة أذلاء، يساقون إلى مكة عبيدا أرقاء، والتي كانت تعود إلى مكة قافلة من الشام تحمل من أرض قيصر أنباء مختلطة وأحاديث مشوهة مضطربة، ولكنهم كانوا يتلقفونها ثم يتناولونها بالتأليف والتصنيف، وبالتحليل والترتيب، حتى يكونوا منها شيئا مستقيما أو كالمستقيم، ثم يتخذون منه علما بأمور أوطانهم تلك التي لم يبق لهم إليها سبيل.
كلا! لم يسمروا في تلك الليلة بشيء من هذا؛ لأن أحاديث مكة شغلتهم عن كل هذا. وما لها لا تشغلهم وصاحبهم «لسياس» قد اشترك فيها وأثار كثيرا منها! وها هو ذا قد اتخذ مكانه بينهم كئيبا كاسف البال، محزونا بادي الحزن، قد اضطربت نفسه أشد اضطراب، وهو يتحدث إليهم في صوت متقطع مظلم كأنما أسبغ الحزن والندم واليأس عليه ظلمة كثيفة متراكمة لا تنكشف عن شيء. وما له لا يكتئب ولا يبتئس! وما له لا يحزن ولا يندم! وما له لا يفزع ولا يجزع، وقد سفكت يده المسيحية دما بريئا ولما ينتصف النهار!
وكان هؤلاء النفر جماعة من نصارى الروم دفعوا إلى بعض أطراف الصحراء، وعدت عليهم بعض القوافل فاتخذتهم تجارة، وتقلبت بهم أحوال الرق حتى انتهوا إلى ملك جماعة من سادة قريش. وكان «لسياس» أنقاهم ضميرا، وأصفاهم قلبا؛ وأعظمهم حظا من الدين. وكان لهذا كله أصبرهم على ما ألم به من كرب، وأحسنهم احتمالا لما سلط عليه من محنة، وأعظمهم رضا بهذه النكبة التي كان ينظر إليها على أنها اختبار له، وابتلاء لإيمانه، وامتحان لثقته، وتهيئة لنفسه لتحيا حياة السعداء إذا انقضت إقامتها في هذا العالم الشقي البغيض. ولكنه أظهر في تلك الليلة غير ما تعود أن يظهر لأصحابه من الجلد والصبر، ومن الإباء والاحتمال. وهم يعزونه ويرفقون به في العزاء. وهم يلومونه ويعنفون عليه في اللوم. وهم يأتون نفسه من جميع أنحائها يريدون أن يصرفوها عن هذا الحزن العميق، وأن يصرفوا عنها بعض الهم الثقيل، ولكنهم لا يبلغون منه شيئا ولا يزيدونه إلا إغراقا في الحزن وغلوا في اليأس. وربما بلغوا بأحاديثهم قرارة نفسه فأثاروها ودفعوه إلى الحديث، فإذا هو يتكلم بكلام تقطعه العبرات وتبلله الدموع.
وكان «لسياس» ملكا لصفوان بن أمية، وكان قد أنفذ في ذلك اليوم أمره في أسير من أسرى الأنصار يقال له زيد بن الدثنة، دفعه إليه صفوان وأمره أن يخرج به من الحرم، حتى إذا بلغ به التنعيم قتله ثم عاد. ولم يكن مثل هذا العمل يحبب إلى «لسياس»، ولكنه لم يكن خليقا أن يدفعه إلى مثل هذا اليأس المهلك، لولا أنه عرف عن أمر أسيره وصريعه ومن أمر أصحابه ما عرف، ولولا أنه عرف من أمر زيد ما رأى، وسمع من أمر خبيب ما سمع، وانتهت إليه أحاديث أولئك الذين أدركهم الموت قبل أن يحملهم إلى مكة ويبيعهم لقريش غدر الغادرين من هذيل. ولكنه عرف ما عرف، ورأى ما رأى، وسمع ما سمع، فذكر أمورا كان يقرؤها في الكتب، وأحداثا كان يهلع لها حين يسمع أنباءها من الوعاظ.
ذكر أولئك الشهداء الذين قتلوا في المسيحية تقتيلا، والذين امتحنوا بما كتب الله عليهم من ضروب المحن وفنون الكيد، فلم تضعف نفوسهم، ولم تهن عزائمهم، ولم يفرطوا في دينهم، ولم يجد الشك إلى نفوسهم سبيلا.
ذكر أولئك الشهداء الذين أقاموا مجد المسيحية على أشلائهم، وغذوه بدمائهم، وقووه بضعفهم، وأعزوه بما احتملوا في سبيله من الذل، وأيدوه بما لقوه في سبيله من الأذى والآلام. ذكر أولئك الشهداء الذين كان يكبرهم ويجلهم، ويرى أنهم شفعاؤه وشفعاء أمثاله عند الله، وأنهم قدوته الصالحة وأسوته الحسنة ومثله الأعلى، وأنه أسعد الناس لو استطاع أن يظفر ببعض ما ظفروا به من عذاب الدنيا ونعيم الآخرة، ومن ذل الدنيا وعز الآخرة، ومن هذا الموت الهين السريع الذي تتبعه حياة باقية سعيدة متصلة لا حد لما فيها من نعيم.
ذكر هؤلاء الشهداء، وذكر أنه لم يزد حين أطاع أمر مولاه صفوان على أن قتل واحدا منهم، واقترف ذلك الإثم الذي اقترفه الظالمون الذين اضطهدوا الشهداء وفتنوهم، ثم قدموهم قربانا إلى آلهتهم وأوثانهم في الزمن القديم. هنالك اضطربت نفسخ اضطرابا، وزلزل قلبه زلزالا، ورأى حياته كلها وقد استحالت إلى شر منكر، ورأى ما قدم من الخير وقد استحال إلى فساد، ورأى ما احتمل من الآلام وقد أصبح هباء. وهنالك ملك الندم عليه أمره، وملأ اليأس عليه قلبه، وعجز أصحابه عن أن يمسوا نفسه بما كانوا يقدمون إليه من تسلية أو عزاء.
على أنه لم يكن يحس في نفسه شيئا من الموجدة على مولاه صفوان، ولم يكن يضمر له شيئا من البغض، إنما كانت موجدته كلها وحقده كله قسمة بين نفسه وبين امرأة من قريش، هي سلافة بنت سعيد بن سهم زوج طلحة بن عبد الله بن عبد العزى.
كان واجدا على نفسه أشد الموجدة، مبغضا لها أشد البغض؛ لأنها أثمت بقتل هذا الرجل الشهيد. وكان حانقا على سلافة حاقدا عليها؛ لأنها هي أصل هذا الشر، ومصدر هذا الإثم، ومنشأ هذا البلاء. وكان يقول لأصحابه: «لولا أن هذه المرأة الآثمة نذرت ما نذرت، وأذاعت ما أذاعت في أهل البادية، لما دفع صفوان إلى ما دفع إليه، ولما ظفر صفوان بما ظفر به، ولما اشترى أسيره، ولما أنفذت أمره فيه.»
قال أصحابه: «وما نذر سلافة! وماذا أذاعت في الأعراب؟»
قال: «أتذكرون يوم حشدت قريش لحرب صاحبها في يثرب كيف كان أشراف مكة موتورين يأكل قلوبهم الغيظ، وتملأ نفوسهم الحفيظة، وتضطرب أمامهم أشباح الخزي! يذكرون هزيمتهم حين لقوا صاحبهم لأول مرة ففعل بهم الأفاعيل، وترك من أشرافهم صرعى لم يثوبوا إلى أهلهم ولم يستمتعوا بتجارتهم تلك الرابحة التي أنقذها أبو سفيان. ويشفقون أن يتراءى لهم الموت فلا يثبتوا له ولا يقدروا على النظر إليه فيفروا منهزمين، كما فروا من قبل، ويتركوا صرعى من أشرافهم كما تركوا مثلهم من قبل. هنالك أجمعوا أمرهم على أن يتقووا بالنساء ويتقوا بهن الهزيمة والعار؛ فاختاروا منهن أعلاهن قدرا وأرفعهن شأنا وأنبههن ذكرا وأقدرهن على دفع الرجال إلى غمرات الموت. وكانت سلافة بين هؤلاء النساء، خرجت مع زوجها وبنيها الثلاثة، وعادت مع المنتصرين أيما ثكلى قد فقدت زوجها وفقدت بنيها.»
ثم سكت «لسياس» كأنما يستحضر هولا يروع النفوس ويخلع القلوب. ثم عاد إلى حديثه في صوت هادئ بعيد فقال: «إن كانت لوقعة مروعة حقا تلك التي كانت عند يثرب! لقد عادت قريش تتحدث بالأعاجيب. لقد عادت تتحدث بالإخوان يسعى بعضهم إلى بعض بالموت. لقد عادت تتحدث بالأمهات يدفعن أبناءهن إلى أن يقتل الرجل منهم أخاه. لقد عادت تتحدث بأم مصعب بن عمير وقد قتل ابنها مصعب، فما كانت لتظهر عليه حزنا أو جزعا لأنه كان من خصم قريش وأصحاب محمد. لقد عادت قريش منتصرة تتحدث بأمر سلافة هذه وقد فقدت زوجها وتلقت ابنيها أحدهما بعد صاحبه يبلغها وقد أصابه السهم، فتضع رأسه على حجرها وتسأله: يا بني من أصابك؟ فيقول ما أدري، ولكني سمعت قائلا يقول: خذها وأنا ابن الأقلح، ثم أصابني السهم. يقول ذلك ثم يجود بنفسه بين ذراعيها. هنالك نذرت سلافة: لئن قدرت على قاتل ابنيها لتشربن في قحف رأسه الخمر. وهنالك أذاعت في أهل البادية وأعراب الحجاز أن من جاءها برأس ابن الأقلح هذا فله مائة من الإبل. هذا أصل الشر، وهذا مصدر البلاء.»
قال قائل: «وأي شيء لا يفعله الأعراب في سبيل جزور فضلا عن عشرة من الإبل! فضلا عن مائة من الإبل؟!» قال «لسياس»: «والغدر أيسر ما يفعله الأعراب ليبلغوا أيسر من هذا المال.
أقبل جماعة من هذيل على صاحب يثرب، فزعموا له أنهم قد آمنوا به وأسلموا له، وأن دينه قد فشا فيهم، وسألوه أن يرسل معهم من يفقههم في الدين ويعلمهم شرائعه، يظهرون الإخلاص ويضمرون الغدر، لا يبتغون إلا أن يظفروا بنفر من أهل يثرب يبيعونهم من قريش لتصيب بهم ثأرا وليصيبوا بهم مالا. ويريد الله لأمر قضاه أن يختار نبي يثرب ستة من أصحابه، وأن يؤمر عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح الذي كانت تبتغيه سلافة، وأن يرسل هؤلاء النفر من أصحابه مع أولئك الغادرين. فما هي إلا أن يقربوا من مكة حتى يظهر الخفي ويصرح الشر ويتبين الغدر، وإذا الذين كانوا يعلنون إيمانهم يستصرخون فيأتيهم الصريخ من هذيل، وإذا أصحاب محمد يرون الغدر فينحازون إلى الجبل. ويعاهدهم أعداؤهم على ألا يقتلوهم ولا يمسوهم بأذى إن هم ألقوا بأيديهم. فأما عاصم واثنان من أصحابه فيقسمون لا ينزلون على عهد كافر أبدا، ويقاتلون حتى يقتلوا. وأما الآخرون فيحبون الحياة ويلينون لها فيستأسرون؛ ولا يكادون يفعلون حتى يروا الغدر، فيأبى أحدهم أن يتبغ الغادرين وإذا هو مقتول. ويبقى الآخران أسيرين، يحملان إلى مكة ويباعان فيها. فيشتري أحدهما صفوان ويأمرني به فأتم له ما قدر له من نعيم، ويتم لي ما قدر لي من شقاء.»
ثم يجهش «لسياس» بالبكاء ويغرق فيه حينا، ثم يعود إلى حديثه في صوته ذلك الهادئ البعيد فيقول: «لقد عرفت ورأيت من أنباء هؤلاء الناس ما لم أكن أقدر أن أعرف أو أرى. ولولا أن الشقاء مقضي علي ومقدور لي، لكان فيما عرفت قبل أن أقترف الإثم صارف لي عن اقترافه. وماذا كنت أخاف لو عصيت صفوان ولم أسفك هذا الدم الحرام! وأيهما أهون علي وأيهما كان خليقا أن أوثره: الموت بيد صفوان أم الشقاء الأبدي الذي دفعت إليه؟
لقد فرحت هذيل بمقتل عاصم بن ثابت، وقالت: مائة من الإبل تدفعها إلينا القرشية حين نأتيها بهذا الرأس! ثم أقبلوا إليه يريدون أن يحتزوا رأسه. ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون؛ هذه ظلة من الدبر
1
تقوم دونه فتحميه وتمنعهم أن يصلوا إليه. فيقول بعضهم لبعض دعوه حتى يأتي الليل، فستنصرف عنه هذه الدبر، وسيخلص لنا رأسه. حتى إذا كان الليل هموا أن يسعوا إليه ليحتزوا رأسه. ولكن ما سمعت وماذا تسمعون! لم يبلغوه ولم يمسوه، وإنما أقبل السيل فاحتمله، ومضى به إلى حيث لا تبلغه يد. ولقد حدثت أن هذا الرجل كان قد نذر ألا يمس كافرا ولا يمسه كافر. ولقد حدثت أنه لما امتنع على القوم فقاتلهم وقاتلوه، رفع صوته ضارعا إلى ربه وهو يقول: «اللهم إني قد حميت دينك أول النهار فاحم لحمى آخر النهار».» ولما بكى «لسياس» عند هذا الحديث لم يبك وحده، وإنما بكى معه أصحابه جميعا بكاء طويلا. حتى إذا تكففت
2
عبرته وهدأ عنهم البكاء مضى في صمته. ولكنهم ألحوا عليه أن يتم ما بدأ من الحديث. فقال: «وبم تريدون أن أتحدث إليكم؟ لقد كنت أقرأ أخبار شهدائنا وأسمع أحاديثهم، فأرهبها وأكبرها وأخافها وأرغب فيها، وأود لو أني حييت في تلك الأيام التي كانت ترخص فيها الحياة ويغلو فيها الإيمان، وأود لو أني كنت واحدا من هؤلاء الناس الذين باعوا نفوسهم من الله؛ فقد أتيح لي اليوم أن أعيش في بيئة الشهداء وأن أراهم وأتحدث إليهم وأن أسمع منهم، ولكني لم أبع نفسي من الله، وإنما بعتها من الشيطان، ولم أسفك دمي في سبيل الله، وإنما سفكت دم شهيد كريم.
ولقد سمعت أبا سفيان زعيم قريش يسأله: «أيحب أن يقوم محمد مقامه هذا وأن يكون هو آمنا بين أهله؟!» فيجيبه: «والله ما أحب أن تصيب محمدا شوكة تؤذيه وأنا آمن بين أهلي.» فيقول أبو سفيان لمن حضر من أشراف قريش: «ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب هؤلاء الناس صاحبهم.» ثم تمتد يدي الآثمة إلى هذه الحياة الطاهرة فتطفئ سراجها، وإلى هذا الدم الزكي فتسفكه على الأرض مخافة من غضب صفوان. يا للهول! لقد كنت أحسب أن صفوان لم يملك إلا جسمي وأن نفسي ما زالت حرة؛ فقد علمت الآن أني رقيق حقا. وقد علمت الآن أن سلطان السادة على الأرقاء قد يتجاوز الأجسام إلى النفوس. وقد علمت الآن أن الرجل الذي يرضى بالرق ولا يموت دون الحرية إنما يقتل نفسه قتلا. لقد قتلت نفسي يوم آثرت الحياة وقبلت أن أكون سلعة في يد أولئك التجار.»
قال رجل من أصحابه: «وإن كان صديقك هذا شهيدا كريما - وما أراه إلا كذلك - فإن رفيقه الذي قتله بنو الحارث بن عامر لم يكن أقل منه كرامة. ولعل مصرعه أن يكون أشد من مصرع صاحبه ترويعا للنفس وتمزيقا للقلب. لم يبسطوا عليه بالشر يد مولى من مواليهم أو عبد من عبيدهم، وإنما كانوا ظماء إلى دمه، حراصا على أن يخمدوا جذوته بأيديهم. خرج به جمعهم إلى التنعيم، فلما أرادوا قتله أستأذنهم في أن يتقرب إلى ربه بالصلاة قبل أن يخطو آخر خطواته في الحياة؛ فأذنوا له، فصلى ركعتين ثم قال لهم: لولا أني أخاف أن تظنوا بي الجزع لزدت. ثم ينهض إليه أحدهم فيقلته ويعودون عنه وإنهم ليتحدثون عن أخلاقه وخصاله بما كان خليقا أن يصرفهم عن قتله، لولا أن قلوبهم قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. لقد كانوا يقولون: إنهم جعلوا سجنه عند امرأة منهم، وإن هذه المرأة كانت تتحدث إليهم عن أمره بالأعاجيب. كانت تراه مغلولا يأكل من الفاكهة والثمر ما ليس لأهل مكة عهد به في مثل هذا الوقت، لا تدري كيف سيق إليه؛ ولقد أنبأتهم أنه حين أظله اليوم الذي كان يراد قتله فيه طلب إليها موسى يتهيأ بها للموت، فأرسلتها إليه مع طفل صغير يدرج، ثم لم تلبث أن راعها ما فعلت وأن امتلأ قلبها رعبا وأن قالت لنفسها: ما يمنع هذا الأسير أن يقتل هذا الصبي فيثأر لنفسه قبل أن يدركه الموت! وأقبلت عليه مسرعة، فإذا هو قد أجلس الطفل على فخذه وهو يداعبه ويلاعبه، وأكبر الظن أنه كان يودع فيه طفلا له بعيدا. فلما رأى المرأة مقبلة وقد أخذها الروع ابتسم لها ابتسامة الحزن، ونظر إلى الطفل نظرة الحب، وقال للمرأة: أشفقت على هذا الصبي من الغدر؟ ليس الغدر من أخلاقنا.
أفمثل هذا الرجل كان خليقا أن تقدمه قريش فتقتله لو أن قريشا تعرف الحق، أو تقدر الخير، أو ترجو لله وقارا، أو تحس في قلوبها أثرا من آثار الرحمة والبر!»
قال قائل منهم: «ما أرى إلا أن لهؤلاء الناس من أهل يثرب شأنا. فلو أنهم يقيمون أمرهم على شيء من باطل هذه الحياة الدنيا لما استقبلوه بهذا الحزم، ولما احتملوا في سبيله هذه الأهوال، ولما رخصت عليهم نفوسهم ودماؤهم وأموالهم وأهلوهم إلى هذا الحد. والله إني لأسمع ما يقال وأرى ما يحدث، فلا أشك في أن أهل هذه الأرض يستقبلون عصرا كذلك العصر الذي استقبله أهل بلادنا حيث انبعث فيهم رسل المسيح: هذا الإيمان الذي زين في بعض القلوب حتى زهدها في كل شيء، هذا اليقين الذي سيطر على بعض النفوس حتى هون عليها كل شيء، هذه المعجزات التي تساق إلى الناس في يسر وسذاجة وما كانوا ينتظرونها ولا يرجونها فلا تغرهم ولا تطغيهم ولا تدفعهم إلى أشر ولا بطر.»
كل هذا دليل واضح على أن السماء لم تقرب من الأرض قربها في هذه الأيام، وعلى أن أخبار السماء لم تتصل بالأرض اتصالها في هذه الأيام، وعلى أن الله يريد بالناس شيئا لم نكن نقدر أنه كائن ولكن أوانه قد آن. أما إني لاحق بهؤلاء الناس إن استطعت إلى ذلك سبيلا.
قال آخرون: «ما أيسر ذلك وما أعسره! وأنى لمثلنا أن يفلت من سادة قريش، وإن من حول مكة من أهل البادية لأرصادا على من أقبل من يثرب أو قصد إليها من الأحرار، فكيف بالرقيق!»
قال «لسياس» وهو ينتحب: «فكروا في ذلك ودبروا، وتهيئوا لذلك واستعدوا؛ فأنتم أهل لهذه الكرامة إن كان الله قد قضاها لكم. أما أنا فقد كتب علي الشقاء. وما أرى أن بحار الأرض لو سلطت على التنعيم تستطيع أن تغسل هذا الدم الزكي الذي سفكته هذه اليد الآثمة.»
ثم قام عنهم يعدو مشتدا في العدو، فلم يروا له بعد ذلك أثرا ولم يسمعوا عنه بعد ذلك خبرا.
الفصل السابع
نزيل حمص
قال عمير بن عبد الله السلمي لمحمد بن نصر الكلابي: «إن لله فيما يأتي من الأمر لحكمة بالغة، يفهمها الناس حينا ويقصرون عن فهمها في كثير من الأحيان. وإن الرجل الرشيق خليق أن يتعظ بما فهم، وألا يلح في تأويل ما لم يفهم، وأن يطمئن قلبه إلى أن حكمة الله بالغة، وإلى أن قضاءه منته إلى الخير دائما.»
قال محمد بن نصر لصاحبه: «هو ذاك، وما أظن أن أحدا منا ينكر ذلك أو يماري فيه، فما تحدثك به؟ وما هذا التفكير العميق الذي أرى آثاره بادية في وجهك؟»
وكان هذان الرجلان من فتيان قيس، شديدي البأس، قد ملأ قلبهما إيمان قوي بالله، وحفاظ قوي للعرب، واعتزاز قوي بالنفس، وحب قوي للجهاد. وكانا قد مضيا مع الصائفة غازيين، حتى بلغا ثغرا من ثغور الروم، فأمعنا في الغزو ولقيا فيه من الجهد والشدة واحتملا فيه من المشقة والبلاء شيئا عظيما، لم يزدهما إلا إيمانا على إيمان، وحفاظا إلى حفاظ، وحبا للجهاد إلى حبهم القديم للجهاد. وكان الله عز وجل قد قضى لهما أن يعودا من هذه الغزوة موفورين، فلما بلغا مأمنهما مع الجيش من بلاد المسلمين نذرا لئن مد الله حياتهما حتى ينقضي الشتاء وتستأنف الصائفة من قابل غارتها على بلاد الروم، ليكونن لهما في هذه الغارة بلاء، وليضعن كل واحد منهما نفسه في مقدمة الجيش المغير. وكانا قد أزمعا من أجل ذلك ألا يبعدا في الرجوع إلى موطنهما، وأن ينفقا فصل الشتاء في مدينة من مدن المسلمين المنبثة في الشام، والتي ترابط فيها الجنود، قد قسمت بينها تقسيما، ووزعت عليها توزيعا. ولم يكونا من أصحاب الديوان في جند من أجناد الشام، وإنما كان رجلين قد باعا أنفسهما من الله وتطوعا في الجهاد، وأقبلا يبتغيان المثوبة، فلحقا بالصائفة فيمن يلحق بها من المتطوعين، ولم يصرفهما عن حمص أنها لم تكن للمضرية دارا. وما يريدان إلى المضرية أو إلى اليمنية وهما إنما يمران بهذه المدينة مرورا وينتظران أن ينقضي فصل من فصول العام ويقبل فصل آخر ليستأنفا نشاطهما وليقبلا على ما يبتغيان من ثواب الله مجاهدين!
فلما استقر بهما المقام في حمص أياما وأسابيع، أخذا يدوران فيها ويتعرفان بعض أمرها، ويسمعان إلى ما كان يجري على ألسنة أهلها من بعض الحديث. وقلما كان أحدهما يخرج منفردا، إنما كانا في أكثر أوقاتهما متلازمين، كأن ما دفعهما إلى الهجرة من أوطانهما قد جمع بين نفسيهما في الجهد والبأس، كما جمع بين نفسيهما في الرخاء واللين! فقلما كانا يفترقان أثناء الغارة على اختلاف الأحوال وتباين الخطوب التي كانت تعرض للجيش وتلم بالمغيرين. وهما الآن لا يفترقان أو لا يكادان يفترقان، وقد أظلهما الأمن وضمنتهما سلم لا يخافان معها شدة ولا بأسا ولا فراقا.
ولكنهما في هذا اليوم لم يكادا ينفتلان من صلاة الغداة حتى فرقت بينهما حركة الناس وازدحامهم مسرعين، كأن هناك أمرا ذا بال يروعهم ويدفعهم إلى أن يشهدوا مشهدا يجب أن يشهده الناس. وقد دفع محمد بن نصر مع المزدحمين وأسرع مع المسرعين، لم يكن له في ذلك رأي أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن حمد ما أدركه من ذلك، فمضى مع الماضين مختارا لا كارها، وحرص على أن ينتهي إلى حيث كانوا يريدون أن ينتهوا. وقد سمع ما سمع، ورأى ما رأى، وامتلأ قلبه بالعظات والعبر، وشغل عقله بالتفكير المتصل العميق. حتى إذا تفرق الناس وكلهم يملأ نفسه العجب عاد إلى صاحبه يحدثه بما سمع، ويحدثه بما رأى، ويبدأ حديثه بهذا الكلام الذي أوجزته لك آنفا.
فلما سأله صاحبه عما به قال: «لقد شهدت اليوم أمرا عظيما: شهدت جنازة رجل ملأ قلوب الناس حبا وبغضا، ورضا وسخطا، وأثار في نفوسهم كثيرا من الحفيظة بل حفيظة لا تنتهي، وأثار في نفوس الناس كذلك إعجابا وإكبارا، وأطلق ألسنة الناس بالذم الشنيع، وأطلق ألسنة الناس بالثناء الكثير، ورسم على وجوه الناس آثار الموجدة المنكرة، ورسم على وجوه الناس كذلك آثار الاعتراف بالجميل، ورسم على وجوههم بين ذلك ابتسامات فيها سخرية وازدراء، وفيها عطف وإشفاق. ثم رأيت الناس يعودون من تشييعه إلى قبره وإن الحيرة لتملأ قلوبهم، وإن الشك ليضطرب في نفوس كثير منهم، وإنهم على هذا كله ليقولون فيما بينهم مثل ما كنت أقوله لك منذ حين، وإنهم على هذا كله ليظهرون الثقة بحكمة الله البالغة والاطمئنان إلى عفوه الذي ينال به من يشاء.»
قال عمير بن عبد الله: «ما رأيت كاليوم رجلا يؤثر التلميح على التصريح، ويقصد إلى الغموض دون الوضوح. فحدثني بحديثك - لا أبا لك - ولا تطل، فما تعودت منك إطالة ولا إملالا.»
قال محمد بن نصر: «فالله يعلم ما آثرت تلميحا ولا اجتنبت تصريحا ولا قصدت إلى غموض ولا تنكبت وضوحا، وإنما أصور لك نفسي كما أجدها. وما أدري كيف أتحدث إليك بهذا الحديث، وما أعرف من أين آخذه: آخذه من مبتدئه أم آخذه من منتهاه، أم آخذه مما بين ذلك؛ فإن كل موضع منه تملؤه العبرة والعظة، وتظهر فيه هذه الروعة التي تتأثر لها القلوب وتفكر فيها العقول. إنه رجل لم يعرف الناس من أول أمره إلا أنه كان عبدا حبشيا لسيد من سادات قريش في مكة وهو جبير بن مطعم. وكانوا يرونه فتى شديد البأس عظيم الأيد، شجاعا جريئا، يعمل لسيده فيما يعمل فيه الرقيق. ولو أن الرق لم يعرض له لكان خليقا أن يسود في بلده وبين قومه هؤلاء السود. ولكن الرق عرض له كما عرض لكثير من أشراف الروم والفرس، فألقاه إلى هذا الحي من قريش، وفرض عليه ما يفرض على الأرقاء من الخنوع والخضوع ومن الذلة والهوان، ومن العمل فيما لا يعمل فيه أصحاب النجدة والمروءة من الناس. وكان هذا الفتى ضيقا بحياته أشد الضيق، منكرا لها أعظم الإنكار، جامحا حين يتاح له الجموح، شامسا حين يتهيأ له الشموس، لا يخفي بغضه للرق وطمعه في الحرية مهما يكلفه ذلك من غضب سادته وزجرهم، وإعناتهم له وإلحاحهم عليه بالإعنات. وكانت قريش قد لقيت من النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه جهدا شديدا يوم بدر، وفقدت جماعة من ساداتها وأشرافها، وذاقت الهزيمة المنكرة، وذاقت فقد الأحباء، وذاقت هذا الذل الذي يكره العرب أن يذوقوه، ذل الموتور الذي لم يدرك وتره. وكانت قريش تتجهز لإدراك الوتر والأخذ بالثأر، وشفاء حزازات النفوس، وإرضاء قتلاها من أهل الحفير. وكان جبير بن مطعم قد فقد عمه طعيم بن عدي يوم بدر، وكان حريصا على أن يثأر به وينتقم له من قاتله. ولم يكن قاتله إلا حمزة بن عبد المطلب عم النبي، وأسد الله وشجاع قريش، وحامل لواء المسلمين لأول ما عقد اللواء.»
قال عمير بن عبد الله: «فإنك إنما تتحدث عن وحشي، فما خطبه؟ وما الصلة بينه وبين هذا الرجل الذي شهدت جنازته منذ اليوم؟» قال محمد بن نصر: «فإن هذا الرجل الذي شهدت جنازته منذ اليوم هو وحشي نفسه.»
قال عمير: «ليتني عرفت مكانه من هذه المدينة حين أقبلت إليها، إذا لسعيت إليه، ولسمعت منه، ولسألته عن بلائه ذلك المنكر.»
قال محمد بن نصر: «وكذلك قلت لنفسي أنا منذ حين، ولكني رأيت من رآه، وسمعت ممن سمع منه. ولقد رأى من رآه رجلا كان خليقا أن يرى، وإن الذين سمعوا منه ليتحدثون من أمره بالأعاجيب. قال له سيده حين أجمعت قريش أمرها: إني أرى شوقك إلى الحرية وكلفك بها، وإسرافك في الجموح، وامتناعك عما لا ينبغي لمثلك أن يمتنع عنه من الطاعة والإذعان لمواليه. وإني أعرض عليك هذه الحرية التي تهواها. فإن شئت فأد ثمنها، وما أظنك تفعل.» قال العبد: «فقد شئت أن أؤدي إليك ثمن هذه الحرية لو أني أستطيع أن أبلغه في جو السماء أو في أقصى الأرض.» قال جبير: «فإنه أدنى إليك من ذلك، إنه في يثرب، فاذهب مع قريش في حربها هذه التي تتجهز لها، ثم عد إلي بمقتل حمزة وأنت بعد ذلك طليق.»
قال العبد: «أما أني ذاهب مع قريش فعائد إليك بمقتل صاحبك أو لاق من دون ذلك الموت؛ فهو أهون علي وآثر عندي من حياة الرقيق.»
ولقد سمع الناس منه حديثه عن ذلك البلاء المنكر الذي أبلاه يوم أحد، وما أرى إلا أنك تعرفه كما أعرفه؛ فقد أخذ يرقب حمزة وهو يقوم من المسلمين مقام الأسد يذود عن أشباله، يهذ الجيش بسيفه هذا،
1
والناس يرونه من بعيد كأنه الجمل الأورق،
2
فتمتلئ قلوبهم لمنظره رعبا وينصرفون عن موقفه انصرافا، وهو يتحداهم ويدعو فرسانهم ومغاويرهم. والعبد قائم قد استتر عنه بشجرة ينظر إليه ويرتقب غفلته، وحمزة لا يراه ولا يحس بمكانه. فلما أمكنته الفرصة هز حربته حتى رضي عنها، ولم يكن له بغير الحربة من السلاح علم. فلما تهيأت له الرمية رمى، وإذا الحربة تصيب حمزة في مقتل فيخر صريعا، والعبد قائم مكانه لا يريم، يرقب أسد الله صريعا بعد أن كان يرقبه جائلا في الميدان. فلما استوثق من أن صريعه قد قضى، أقبل يسعى إليه فانتزع حربته، ثم عاد إلى المعسكر فأقام فيه. لم يصنع قبل مقتل حمزة شيئا، ولم يصنع بعد مقتل حمزة شيئا. وما يعنيه من أمر هذه الحرب بين قريش والأنصار! وإنما أقبل يشتري حريته بمقتل هذا الرجل العظيم، وقد ظفر بما أراد. فانتظر قفول قريش إلى مكة، ولم يشهد ما كان من تمثيل هند وصاحباتها بعم النبي، ولم يشهد ما كان من حزن النبي حين رأى عمه في منظر لم ير
صلى الله عليه وسلم
قط منظرا أوجع له وأثقل عليه منه.
ولم يسمع العبد نذير النبي حين أقسم لئن أظفره الله على قريش ليمثلن منهم بسبعين مثلة لم تعرفها العرب قط. ولم يعلم العبد أن النبي قد رد عن ذلك ردا، وأن الله قد أنزل في ذلك قرآنا، وأن النبي قد تلا قول الله عز وجل:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
ولم يعلم العبد أن النبي قد اضطر إلى أن يكفر عن يمينه، ثم لم يعلم العبد أن النبي قد عاد إلى المدينة محزونا أسفا، فلما سمع نساء بني عبد الأشهل يبكين قتلاهن قال: «ولكن حمزة لا بواكي له!» وسمع ذلك منه الأنصار، فأرسلوا نساءهم يبكين حمزة عند بيت النبي، وخرج نساء النبي فبكين معهن حتى ردهن النبي داعيا لهن، ثم أصبح فنهى عن البكاء.
لم يعلم العبد من هذا شيئا. وماذا يعنيه من هذا! إنما كان يريد حريته وقد بلغها. وماذا صنع البائس بحريته! لم يعد إلى بلده، وكيف سبيل العودة إليها! ولم يسد في مكة، وكيف السبيل إلى السيادة فيها!
إنما عاش بين قريش حرا كالعبد، وطليقا كالأسير. نعم! لم يعلم بشيء من هذا.
ولكنه علم ذات يوم أن جيوش المسلمين مقبلة على مكة، ورأى ذات صباح جيوش المسلمين تدخل مكة، واستيقن العبد أنه مقتول إن ظفر به المسلمون، ففر وانطلق في الأرض يلتمس لنفسه مأمنا فلا يجده. هؤلاء المسلمون ينتصرون على العرب يوم حنين، وهذه أرض العرب كلها تذعن للنبي، فأين الملجأ من الله إلا إلى الله! لقد أوى العبد إلى الطائف، وقاوم فيها المسلمين ما قاومهم أهلها. ولكن وفد الطائف يتهيأ للسفر إلى المدينة، وما هي إلا أيام حتى تذعن الطائف لما أذعنت له مكة. والآن يفكر العبد في مهاجرة البلاد العربية كلها. ولكن كيف السبيل إلى الهجرة؟ لقد أخذت عليه سبيل الحبشة، وأخذت عليه سبيل الروم، وانبسط سلطان النبي على الشمال والجنوب. لقد كانت الهجرة ميسورة قبل الآن، فأما الآن فقد تقطعت من دونها الأسباب.
هنالك يلقي بعض الناس في نفس العبد أن النبي لم يقتل قط رجلا جاءه مسلما. وإن النبي لجالس بين أصحابه ذات يوم، وإذا رجل قائم على رأسه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وينظر النبي فيرى العبد فيعرفه. ولكن الله قد عصم دمه بالإسلام. وما قتل النبي قط رجلا جاءه مسلما وإن كان قد قتل عمه حمزة. فيأمر النبي ذلك العبد أن يجلس ويحدثه كيف قتل عمه. وهذا العبد قد جلس، وهو يعيد على النبي بلاءه المنكر، وحديثه يملأ قلب النبي حزنا ولوعة وأسى، والعبد بين يديه، لو أراد لأرضى حزنه ولوعته بمصرعه، ولكن أنى له ذلك وقد اعتصم العبد بالإسلام!
وقد آثر النبي أن يعفو، وآثر أن يصبر. أليس قد عفا عن هند وقد مثلت بعمه ولاكت كبده، وجدعت أنفه وأذنيه! فما له لا يعفو عن عبد مأمور! ولكنه قال للعبد: «غيب وجهك عني.» فجعل العبد لا يرى رسول الله إلا تنكب طريقه واجتنب لقاءه.
وعاش وحشي في المدينة حرا كالعبد، وطليقا كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزا، ويمزق فؤاده تمزيقا، ويؤرقه إذا جن الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار.
ولكن العرب يرتدون، ويذهب خالد بن الوليد لقتال مسيلمة، وهذا العبد يذهب معه ليقاتل في سبيل الله بعد أن كان يصد عن سبيل الله.
وهذا العبد يهز حربته ذات يوم كما هزها يوم أحد، ويتهيأ لرميها كما تهيأ يوم أحد، ثم يطلقها كما أطلقها يوم أحد، وإذا هي تصيب رجلا فتصرعه، وإذا الحربة التي قتلت حمزة قد شاركت في قتل مسيلمة، وإذا وحشي قد قتل خير الناس، وقتل شر الناس!
وقد عفا النبي عن قاتل عمه، وعفا المسلمون عن قاتل أسد الإسلام. ولكن نفس وحشي لم تعف عن وحشي، ولكن دم مسيلمة لم يغسل من نفسه دم حمزة!
وهذا العبد الحر يمضي مع جيوش المسلمين غازيا، فيقاتل الروم وينتصر مع المنتصرين، ويستقر مع المستقرين في مدينة حمص هذه. ولكن بلاءه أيام الردة، وبلاءه أيام الفتح، وما احتمل في هذا كله من جهد، وما ناضل في هذا كله عن الإسلام، لم يغسل عن نفسه دم حمزة، ولم يبرئ نفسه من الندم لمقتل حمزة. ولم يبلغ الإسلام من قلب هذا الرجل ما بلغ من قلوب كثير من الناس فيمحو من قلبه ما قدم في جاهليته. وإذا هو يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد في معاودة الشراب. وإذا هو معروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر. وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا. وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفا على من يدنو منه، ويصحو حتى يصبح عاقلا حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضا، ويصرفه عن الصحو صرفا. وكلما مضت عليه الأيام ازداد إمعانا في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئا فشيئا، وعقله يذهب قليلا قليلا، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلا إلى الفرار منه إلا إلى الشراب. وهو يضرب في الشراب وقد ضعف وفنى فلا يحتمل الضرب فيموت. ونشهد جنازته اليوم.
أرأيت أني لم أكن ملمحا ولا مؤثرا للغموض حين كنت أحدثك بما كنت أحدثك به من هذه العواطف المختلفة التي كانت تثيرها جنازته في نفوس الناس؟
قال عمير: «أشهد أن حكمة الله بالغة، وأن الرجل الرشيق خليق أن يتعظ بما فهم من قضاء الله، وأن يطمئن إلى عدل الله وعفوه إذا أشكلت عليه الأمور.»
قال محمد بن نصر: «فإني لا أعرف شيئا يغسل عن النفس إثمها وينقيها من السيئات كهذا الذي نحن فيه من جهاد عدو الله ما وجدنا إلى هذا الجهاد سبيلا.»
الفصل الثامن
الوفاء المر
1
أقبل الفتى على أمه وعمه جذلان مبتهجا، قد تألق وجهه بشرا، ولكن الحزم والعزم ظهرا في عينيه الحادتين وفي صوته الممتلئ الهادئ الرزين. ولم يكن كعب قد أتم السابعة عشرة من عمره، ولكنه كان قوي الجسم، مرتفع القامة في السماء، كثير الحركة، عظيم النشاط، في نفسه حزن دفين. يظهر في صوته إذا تحدث إلى الناس، وفي خواطره التي كان يديرها في رأسه كئيبة قاتمة، ويخرجها إلى لداته وأترابه عابسة شاحبة لا حظ فيها للرضا ولا للابتسام.
وكان لداته وأترابه يتحدثون عنه إذا لم يشهدهم، فيذكرون التناقض بين حركته الدائمة ونشاطه، وبين نفسه الحزينة وباله الكاسف، ويقول بعضهم لبعض: ما نظن هذا النشاط المتصل والحركة العنيفة، إلا وسيلة يتخذها كعب ليتسلى بها عن هذا الحزن الخبيء الذي لا يريد أن يظهره ولا أن يبوح به، والذي يحميه في أعماق ضميره كأنه حرم لا ينبغي لغيره أن يبلغه أو يظهر عليه.
وكانت أمه تجد مثل ما يجد أصحابه من الإشفاق عليه والرثاء له، ومن إنكار هذا التناقض بين جسم مضطرب نشيط ونفس ساكنة هادئة حزينة. ولكنها كانت تعلم من أمر هذه النفس الهادئة الحزينة أكثر مما كان يعلم أصحاب الفتى.
وكانت تتحدث عن حزن الفتى واكتئابه إلى عمه الشيخ إذا خلت إليه. وكان الشيخ يسمع لها ويصغي إليها، ثم ينظر إلى وجهها المشرق الذي يترقرق فيه حزن رقيق، تخفي أصوله في نفسها نظرات طويلة، ثم يقول لها في هدوء متكلف وأناة مصطنعة وصوت يكاد يتفجر فيه الغيظ المكظوم: «مهلا مهلا يا أسماء! فإن الأوان لم يئن بعد.» وكانت أسماء تسمع من الشيخ هذه الجملة التي يكررها كلما تحدثت إليه في أمر الفتى، فلا تزيد على أن تلزم الصمت، وتقطع الحديث، وترسل دموعا هادئة تنحدر على وجهها الجميل، ثم تسرع إلى هذه الدموع فتكفكفها، ثم تنصرف عن الشيخ ساعة، ثم تعود إليه مشرقة الوجه باسمة الثغر، كأنها لم تقل له شيئا ولم تسمع منه شيئا، وكأن دموعها الغزار لم تغسل وجهها الجميل.
وكانت أسماء قد وصلت بابنها الصبي إلى هذه المدينة من مدن الشام منذ أكثر من عشر سنين، تحمله بين ذراعيها، ولا تخلي بينه وبين الحركة الحرة إلا قليلا لكثرة ما خافت عليه، ولكثرة ما تعرضت وتعرض معها له من الهول. فلما انتهت إلى المدينة تلقاها الشيخ فأحسن لقاءها، وسمع منها حديثها فأحس له ألوانا مختلفة من العواطف: أحس الغيظ والحنق، وأحس الثورة والغضب، وأحس الرحمة والإشفاق، وأحس البر والحنان، وقال لامرأة أخيه آخر الأمر: «أقيمي يا أسماء وادعة مطمئنة، فقد بلغت مأمنك وانتهيت إلى دارك، ولك علي ألا تجدي في هذه الديار إلا ما ترضين، وأن أقوم على هذا الصبي كما كان أبوه يريد أن يقوم عليه، لا أسألك في ذلك إلا أمرين: أن تفرغي للصبي حتى يتم رجلا كامل الخلق موفور القوة، ولك بعد ذلك أن تفرغي لنفسك، فتلتمسي الزواج وتستأنفي الحياة، وأن تكتمي على الصبي أمر أبيه فلا تنبئيه منه بشيء حتى أوذنك بأن الأوان قد آن.»
قالت أسماء وقد شاع في صوتها من الأسى ما يذيب القلوب: «وا حسرتاه! وهل أستطيع أن أفرغ لشيء غير هذا الصبي الناشئ! وغير ذكرى ذلك الشيخ الذي مضى ولم يترك مع ابنه إلا لوعة ما أراها تهدأ، وحبا ما أراه ينجلي عن هذا القلب البائس! لن أفكر إلا في هذا الصبي أعده ليكون لي خلفا من أبيه. فأما الزواج فقد قضيت أربي منه. وأما الحياة فقد أخذت منها كل ما أعطتني، فما أطمع منها في شيء، وما أرجو منها خيرا. ولقد ودعت حياة الزواج يوم ودعت أبا كعب، فمضى إلى الموقعة، ومضيت إلى هذا الوجه من أرض الشام. ولقد أردت أن أطيل وداعه، وأن أسترسل معه في بعض الحديث، وأن أعاهده على الوفاء له، وأن أقسم له على أني سأظل له زوجة إن قضى كما كنت له زوجة قبل أن يتعرض للموت. ولكنه لم يرد أن يسمع لي ولا أن يصغي إلي، ولا أن يطيل موقف الوداع، وإنما نظر إلي نظرة فيها الحب والغضب معا، ورفع ابنه فقبله بين عينيه، ثم دفعه إلي في شيء من العنف ثم تحول عني. حتى إذا استقلت الإبل ودفعت في طريقها إلى الشام، تلفت فإذا هو قد استدار وجعل يتبعنا بصره وهو قائم لا يتحرك ولا يظهر على وجهه إلا هذا الغيظ المروع الذي رأيته فأنكرته حين عاد إلي من ناديه آخر النهار. فلما أبى أن يسمع لي ويتلقى قسمي عاهدت نفسي وقد عجزت عن أن أعاهده، وأقسمت لنفسي وقد عجزت عن أن أقسم له. ثم لاقيت في الطريق ما تعلم من خطب، وتعرضت لما تعلم من هول؛ فلم تبق الحوادث مني لحياة الزوجات شيئا، وإنما أبقت مني لحياة الأمهات كل شيء.»
قال الشيخ: «وتكتمين على الصبي أمر أبيه حتى أوذنك بأن الأوان قد آن.» قالت: «ذلك لك، وإن كنت لا أعرف كيف أجد السبيل إلى الكتمان.»
وأنفقت أسماء أعواما وأعواما، تنشئ ابنها وتحدب عليه في ذرا البر العنيف الماكر من شيوخ يهود في الشام. حتى إذا تقدمت السن بالفتى وعرف نفسه ونظر، فلم يجد حوله إلا أمه وعمه سأل عن أبيه، فأنبأته أمه باسمه ومكانته من قومه، وبأنه قد لقي مصرعه في بعض ما يلقى الناس فيه مصارعهم من الحوادث التي تعرض، والخطوب التي تلم هناك في تلك الأرض البعيدة التي هاجر اليهود إليها بحريتهم فيما مضى من سالف الدهر.
وجعل الفتى يسأل أمه ويلح في السؤال يريد أن يعرف عن أبيه أكثر من ذلك فلم يجد منها إلا مداورة والتواء، فلجأ إلى عمه فلم يجد عنده إلا مثل ما وجد عند أمه من المداورة والمراوغة والالتواء. هنالك ارتاب الفتى وأثر الشك في نفسه آثارا عميقة. وهنالك تعقدت الأمور في ضمير الفتى، فأحس الخوف من هذا السر الذي تخفيه عليه أمه ويحجبه عنه عمه، وأحس الكبرياء التي منعته من الإلحاح في السؤال مخافة أن يعلم ما يغض من نفسه أمام نفسه، وأحس الإشفاق على هذه الأم الجميلة البرة الحزينة أن يكون في إلحاحه عليها ما يؤذيها، أو أن يكون في جوابها له ما يؤلمه. فعكف الفتى على نفسه، وأسر الحزن في ضميره، وجاهد الهم ما استطاع إلى جهاده سبيلا، فلم يقهر الهم ولكن الهم لم يقهره. وكانت الحركة الدائمة والنشاط المتصل وسيلته إلى هذا الجهاد، فكان لا يصبح إلا أسرع إلى الخروج من داره، واضطرب فيما يضطرب فيه شباب العرب في هذه المدينة القائمة في طرف من أطراف الشام. صراع وجلاد وخروج إلى الصحراء القريبة للصيد مرة ولمجرد الإيغال في الصحراء مرة أخرى، وحديث إذا شق على الفتى وأترابه ما ينفقون وقتهم فيه من الحركة والاضطراب. ولكنه لم يستطع قط أن يمنح الحياة ابتسامة نقية من الشوائب، كما لم يستطع قط أن يتلقى من الحياة ابتسامة بريئة من العبوس.
فلما كان ذلك اليوم أقبل الفتى على أمه وعمه جذلان فرحا يتألق وجهه بشرا ولا يفارقه مع ذلك حزنه العميق. ولم يكد يراهما حتى قال لهما في صوت متقطع قد امتزج فيه الأمل باليأس: «تهيآ للرحلة، فليست هذه المدينة لكما بدار منذ اليوم.»
فوجمت الأم ولم تحر جوابا، وتماسك الشيخ ونظر إلى ابن أخيه نظرته الطويلة العابسة الماكرة، وقال في هدوء متكلف: «وما ذاك؟» قال الفتى: «ذاك أن جيوش هذه الصابئة من أصحاب محمد قد دنت من أرضنا، وأن نائب قيصر يستعد للقائها، وقد هيأ جيوش الروم وأذن في أهل الشام من العرب بالنفير العام. وما أرى إلا أن هذه المدينة ستكون موضعا للصراع بيننا وبين هذه الصابئة.»
قال الشيخ وهو محتفظ بهدوئه المتكلف: «وما نحن وهذا الصراع يا بني؟ نصارى ومسلمون يقتتلون، سنرتحل وسنخلي بينهم وبين ما يملأ قلوبهم من الحقد والبغض.» قال الفتى: «سترتحلان! أما أنا فمقيم.» قالت أسماء: «أما أنت فمقيم! وما تريد أن تصنع في دار الحرب؟ وكيف تقدر أنا سنرتحل من دونك؟»
قال الفتى: «سترتحلان لأنكما لا تقدران على الحرب، وليس لكما فيها أرب، وسأبقى أنا لأني أقدر على الحرب، ولأن لي فيها أربا.» قالت أسماء: «لك في الحرب أرب! وما هو؟» قال الفتى: «هو أن أجد فيها من الجد ما يشغلني عن نفسي ويصرفني عن همي. فإن لقيت فيها الموت فسأستريح من حياة لم أجد فيها إلا عناء وحزنا.»
وتحطم صوت الفتى وجرت دموعه على خديه، فنهضت إليه أمه تضمه إليها وتمزج دمعها بدمعه، وثبت الشيخ في مكانه هادئا ينظر إلى الفتى وأمه نظرته تلك الطويلة العابسة الماكرة، ثم انفرجت شفتاه عن هذه الجملة التي قالها وهو ينهض متثاقلا: «لقد آن الأوان يا أسماء!»
2
وانصرف الشيخ وترك الفتى واجما، وأمه تنازع شيئا من حيرة طارئة. ولكن لم يمض إلا قليل حتى ثاب الفتى إلى نفسه، وخلصت الأم من حيرتها، فنظرت إلى ابنها نظرة فيها كثير من الحنان، وفيها كثير من الوجد، وفيها كثير من الغيظ الدفين. ثم أخذت بيد ابنها فأجلسته وجلست إلى جانبه، ثم أحاطت عنقه بذراعها وضمته إليها، ثم قالت: «فأنت إذا تريد أن تحارب يا بني؟» قال الفتى: «نعم!» قالت الأم: «من تريد أن تحارب؟» قال الفتى: «أريد أن أحارب هذه الصابئة التي تغير على أرض قيصر، وتريد أن تجلينا عنها أو أن تتخذنا لها عبيدا وخدما.»
قالت الأم: «فإنك لن تفعل من هذا شيئا يا بني إلا أن تكون ابنا عاقا ينكر أباه.» قال الفتى وقد وجم: «ماذا تقولين؟ وماذا أعرف من أمر أبي؟ وكيف يكون قتالي لهذه الصابئة التي اضطهدت يهود فقتلتهم وعذبتهم وأجلتهم عن ديارهم إنكارا لأبي وجحدا لحقه علي؟»
قالت الأم: «إن الأمر يا بني لأعسر مما تظن! لقد هيأك عمك لتثأر لأبيك وليهود من هؤلاء الذين تسميهم الصابئة. ولقد صابرته وطاولته ومالأته على ما فعل وشاركته فيما أراد، وكنت أستجيب في ذلك لعواطف نفسي وأهوائها، وكنت أستجيب لهذه العصبية التي يجدها أبناء يهود جميعا على هؤلاء الذين قتلوهم وعذبوهم وأجلوهم عن ديارهم كما تقول. وكنت أستجيب لشيء آخر يا بني هو حبي لك وحرصي على تنشيئك وحمايتك من غوائل الدهر، ووفائي لعمك هذا الشيخ الذي منحنا من العطف والبر والحنان ما مكنني من أن أبلغ بك هذه السن وأصير بك إلى هذه الحال. ولقد انصرف عنا الآن يا بني وهو يقدر أني سأهيئك لما هيأك له، وسأعدك لما أعدك للمضي فيه، وسأنبئك بحديث أبيك على نحو يدفعك إلى الثأر له. ولكني يا بني أنظر إليك إلى جانبي ، وأنظر إلى أبيك في قرارة ضميري، أرى وجهك ماثلا في عيني، وأرى وجهه ماثلا في قلبي، أسمع لصوتك العذب يمس أذني مسا حلوا، وأسمع لصوت أبيك العنيف يهز ضميري هزا قويا وأسأل نفسي: أأفي للأحياء أم أفي للموتى؟»
ثم أطرقت أسماء ساعة والفتى ينظر إليها ولا يكاد يفهم عنها. ولكن أسماء رفعت رأسها وكفكفت من دمعها، وقالت في صوت هادئ مطمئن ولكنه مظلم حزين: «أنت بين اثنتين يا بني: فإما أن تحارب مع هؤلاء الذين تسميهم الصابئة، وإما أن تعتزل الحرب وترحل مع المرتحلين. فأما أن تحارب في جيش قيصر فذلك شيء لا سبيل إليه.»
قال الفتى: «ماذا تقولين فإني لم أفهم عنك منذ اليوم؟» قالت أسماء: «أقول ما كرهت يهود أن تقوله، وما كره عمك أن يقوله. أقول شيئا لو قالته يهود لما قتلت ولا عذبت ولا أجليت عن ديارها. إن أباك يا بني لم يكن لنبي العرب عدوا وإنما كان له صديقا وبه حفيا وله وفيا. لقد عاهدت يهود نبي العرب على أن تنصره إن اعتدى عليه المشركون من قومه. فلما آن أوان الوفاء بالعهد وأقبلت جيوش قريش تريد الغارة على المدينة، نفر نبي العرب للحرب ونفر معه من نفر من أصحابه، ودعا أبوك قومه إلى الوفاء بالعهد فتلكئوا وتباطئوا وتثاقلوا، وحاورهم أبوك فتشدد في الحوار وذكرهم وألح في تذكيرهم، ولكنهم تعللوا يا بني، وقالوا: يحارب محمد في يوم السبت، وما ينبغي أن نحارب في يوم السبت.
قال مخيريق - ولم تكد تنطق باسمه حتى احتبس صوتها وانهمرت عبرتها فكفت عن الحديث حينا ثم استأنفته قائلة - قال مخيريق: فإن محمدا لم يختر الحرب ولم يختر يومها ولم يختر موضعها، وإنما اختار ذلك عدوه. لا سبت لكم! وانفروا إلى الوفاء بالعهد، فلم يجد منهم إلا إعراضا وإصرارا على الإعراض. وما أنس يا بني فلن أنسى عودة أبيك من نادي قومه وقد اربد وجهه وتطاير شرر الغيظ من عينيه. وكنا إذا أقبل إلينا تلقيناه مبتهجين بلقائه وتلقانا هو مبتهجا بعودته إلينا . فلما أقبل ذلك اليوم لم تكد أبصارنا ترتفع إليه مفتونة معجبة حتى ارتدت عنه محزونة مشفقة. أنكرناه يا بني بل خفناه. ولم ينظر إلينا هو وكأنه لم يحس أننا كنا نتلقاه، فمضى أمامه لا يلوي على شيء، حتى إذا انتهى إلى حجرته أقبل على التوراة فنظر فيها غير طويل ثم طواها، ثم أمر أحد غلمانه أن يدعو إليه بعض أصحابه من يهود. فلما أقبلوا أقرأهم شيئا في التوراة ثم قال: «أسبتوا إن شئتم من الغد، فأما أنا فلا سبت لي.» ثم قال لهم: «اشهدوا أني نافر إذا كان الغد فواف بعهدي لهذا الرجل؛ فإن أصبت في هذا اليوم فمالي كله لهذا الرجل يقضي فيه بما أراد الله.» ثم دعا كبير غلمانه فأمره أن يهيئ الإبل لرحلة طويلة. فلما تهيأ له ذلك دعا هذا الغلام فأوصى إليه أن يرتحل بي وبك حتى يبلغ هذه المدينة من أرض الشام فيسلمنا إلى عمك، فإن فعل ذلك فهو حر.
ولم يستقر له قرار حتى استقلت بنا الإبل واستبد بنا السفر، وحدا بنا الحداة، وقد أنبئت يا بني أنه قاتل حتى قتل. وقد أنبئت يا بني أن نبي العرب كان يقول إذا تحدث عنه أو سمع الحديث عنه، مخيريق خير يهود. وقد صارت إليه يا بني أموال أبيك، فلم يأخذ لنفسه منها شيئا، وإنما أجراها صدقة على الفقراء من أصحابه. ولم يستقر لنا الطريق يا بني إلى هذه المدينة من أرض الشام، وإنما التوت بنا أشد الالتواء، فلم يقنع العبد بحريته ولم يف لأبيك بوعده، وإنما أطمعته الدنيا، وزين له حب الثراء أمرا عظيما، فهم أن يبيعنا يا بني بيع الرقيق لولا أن أخطأه الحظ، فعرضنا على من لم يشق علي أن أعرفه بنفسي وزوجي. فلما عرفنا أكرم مثوانا، واحتفظ بالعبد رقيقا، وأمننا وصاحبنا حتى أبلغنا هذه الدار. وكنت يا بني صبيا لا تعقل ولا تكاد تستقل. فلما أنبأت عمك بهذه الأنباء لم ألق منه خيرا، ولم يطلب إلي إلا أن أكتمك الحديث، حتى يأتي لك أن تنهض للثأر. ولم يرد عمك أن يقر أباك على ما فعل، بل لم يرد عمك أن يصدق من هذه الأنباء إلا ما أراد هو وما أرادت يهود، فزعم أن أصحاب محمد قتلوا أباك. وما قتلوه يا بني وما عرضوه للقتل، وما طلبوا منه حربا ولا قتالا، ولكن أباك وفى بالعهد يا بني، وقد يكون الوفاء مرا في بعض الأحيان. فانظر ماذا تصنع: أتنصر قوما نصرهم أبوك؟ أم تكف عن حرب قوم نصرهم أبوك؟ فأما أن تخذل من كان لهم أبوك ناصرا، فما أرى أن ذلك شيء تستطيع أن تقدم عليه.»
قال الفتى: «حسبك يا أماه فقد سمعت! وسأنظر في أمري. ولكن ارتحلي؛ فليست هذه المدينة لك بدار.» قالت أسماء: «سأرتحل يا بني عنك كما ارتحلت عن أبيك.» قال الفتى: «سيكون وداعك لي قصيرا، كما كان وداعك لأبي قصيرا.»
ومضى عام وبعض عام وإذا أعرابي من جند المسلمين يسأل في دمشق عن امرأة يهودية تعرف بأم كعب أسماء زوج مخيريق، ويكفلها يهودي شيخ هاجر معها من أطراف الشام حين أغار المسلمون على هذه الأرض. وقد جد حارث بن الحباب السلمي في البحث عن هذه المرأة واستقصاء أمرها؛ حتى إذا اهتدى إلى دارها وأدخل إليها ذات ضحى، قال لها في لهجته الحجازية البدوية: «أبشري يا أمة الله فقد كتب الله لابنك الشهادة كما كتبها لأبيه مخيريق!»
سمعت أسماء لهذا الأعرابي فلم تعبس ولم تبسم، ولم تنهمر من عينها عبرة، ولم يظهر على وجهها حزن، وإنما قالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون!»
الفصل التاسع
طبيب النفوس
«أين الناضرة؟ علي بالناضرة. ردوا علي الناضرة.» وكان صفوان بن أمية يقول هذا في صوت تظهر فيه الحدة والغضب، ويظهر فيه السخر والضحك معا. وكان يقول هذا وهو يرمي إلى قيم داره بنظرات كأنهن قطع النار، حتى أخاف القيم وملأ قلبه روعا وهولا، فقام مبهوتا لا يدري ماذا يصنع ولا يعرف كيف يجيب. وكان يقول هذا وقد أخذ بيد صديقه الحارث بن هشام يجذبه إليه جذبا عنيفا لا رفق فيه، ويضطره إلى المجلس الذي أراده على أن يجلس فيه، لا يلتفت إليه ولا يسمع له، كأنما يجذب شيئا لا رأي له ولا إرادة. فلما طال عليه وجوم القيم أقبل عليه منذرا لا يكاد يخفي حنقه وهو يقول: «ألم أسألك عن الناضرة! ألم أطلب إليك الناضرة؟! أفي أذنيك وقر! أتحولت صخرا لا يسمع ولا يجيب؟» قال القيم في صوت مضطرب وبلسان متلجلج: «فإن الناضرة في حيث أمر مولاي أن تكون من الحبس، وعليها ما أمر مولاي أن يكون عليها من الأغلال منذ غنت ذلك الصوت.» قال صفوان متضاحكا لا يكاد يهدأ غضبه: «وقد ضربتها الأسواط التي أمرك مولاك أن تضربها في كل يوم إذا أصبحت، وكنت تتهيأ لتغديها بالأسواط التي أمرك مولاك أن تغذيها بها في كل يوم إذا مالت الشمس إلى الزوال؛ فإني أريد الآن أن أضعك مكانها وأجعل عليك أغلالها، وأرد إليك السياط التي قدمتها إليها منذ أمرتك ذلك الأمر المحنق. اذهب فأخرج الناضرة من حبسها، وضع عنها أغلالها، وأقبل علي بها مكرمة موفورة، وأسرع في ذلك ولا تبطئ، فإني أخشى أن يجر عليك الإبطاء شرا عظيما.» قال ذلك ثم تحول عن مولاه إلى صديقه الحارث بن هشام وهو يقول: «ما رأيت أحدا بلغ به الحمق ما بلغ بهذا الغلام.»
قال الحارث وهو يتكلف الابتسام: «بل ما رأيت أحدا بلغ به الغيظ ما بلغ بك أيها الصديق. إنك لتكلف هذا الفتى من أمره شططا، تأمره أن يحبس هذه الجارية وأن يعذبها، ثم لا تظهر له أنك غيرت رأيك فيما أردت من حبسها وتعذيبها، ثم تلومه الآن لأنه أمضى ما أردت ولم يخالف عن أمرك!»
قال صفوان: «فإنه يزعم أنه ذكي لبق، وأنه يعرف ما لا يعرف، ويسبق إلى فهم الأشياء، وهو قد رأى ما نرى وسمع ما نسمع وأحس ما نحس، وعلم أن كل شيء من حولنا يتغير، وأن كل سلطان من حولنا يزول: فقد كان من الحق عليه أن يعلم أن لم يبق لنا على الناضرة حبس ولا تعذيب.»
قال الحارث وقد انجلى عنه ما كان يغمر وجهه من الحزن، وابتسم ثغره عن ابتهاج صريح: «نعم! وقد كان ينبغي أن يعلم أن ليس لك عليه أمر ولا نهي، وأنك لا تملك أن تلومه ولا أن تعنف عليه. وقد كان ينبغي أن يدع دارك هذه وما فيها ومن فيها، وأن يمضي إلى حيث يلقى حريته وأمنه ورجولته كاملة ثم يعود إليك متسلطا ظافرا، فيصدر إليك من الأمر ما يصدر الغالب إلى المغلوب.»
قال صفوان وقد ثابت إليه نفسه واطمأن قلبه بين جنبيه: «نعم! هو ما تقول. لقد رأيت اليوم ما أخرجني عن طوري. وإن أعجب لشيء فإنما أعجب لهدوئك واستقرار نفسك، واطمئنانك إلى ما يقع حولك من الأحداث.»
قال الحارث: «وماذا تريد أن أصنع؟ لقد جاهدت محمدا ما وسعني جهاده، وحاربته ما وجدت إلى حربه سبيلا. ولقد ذقت في هذه الحرب مرارة الهزيمة وحلاوة النصر. ولقد طاولته كما طاولته قريش، وعاجلته كما عاجلته قريش؛ فقد أبت الأحداث إلا أن يظهر محمد على قومه، وأبت الأحداث إلا أن يدخلها علينا محمد عنوة، وقد حلنا بينه وبين ذلك منذ أعوام، فلم ينفعنا ما قدمنا إليه من عنف، ولم يغن عنا ما أظهرنا له من بأس. وها هو ذا يدخلها علينا لا عنيفا بنا ولا مشتطا علينا، لا يجزينا من بأسنا بالبأس، ولا يلقانا بمثل ما لقيناه به من الصلف والخال.
1
ولكني لم أعرف الناضرة هذه التي تطلبها، ولا أعلم فيم حبستها وأثقلتها بالأغلال، ولا أفهم فيم سؤالك عنها وإلحاحك في هذا السؤال، وفيم تكريمك لها بعد أن أرهقتها بالعذاب!»
قال صفوان: «فإنك ستعلم من هذا كله ما جهلت.»
وأقبل القيم يدفع أمامه في رفق فتاة قصيرة الخطو، تتقدم في كثير من التردد والامتناع، في وجهها جمال لا تبلغه العين حين يصل إلى القلب فيحدث فيه أثرا عميقا. ولكنها تتقدم مترددة ممتنعة، قد ملكها الخوف والإشفاق، وكأن ما لقيت من السجن والعذاب قد آذى منها قلبا كريما ، وأهان منها نفسا عزيزة، وإن لم يؤمن ساجنوها ومعذبوها لها بكرم القلب وعزة النفس. ومتى آمن السادة الأحرار بالكرم والعزة للرقيق المستذل! وكان وجه الفتاة يبين عما يملأ قلبها من خوف كما كان يبين عما يؤذي نفسها من هذا الشعور بالإهانة، ولكنه كان يبين في الوقت نفسه عن شيء يشبه الرضا والإذعان وعن شيء يشبه العفو والمغفرة. كان هذا كله يقرأ في ذلك الوجه الجميل المشرق، وفي تلك اللحظات الوادعة الهادئة.
فلما رآها الحارث مال إلى صاحبه وهو يقول: «ما رأيت أنضر من هذا الوجه!» قال صفوان: «وما عرفت أكرم من هذه النفس.»
ثم نظر إلى الفتاة في رفق عظيم وهو يقول: «أقبلي يا بنتي فليس عليك بأس! أقبلي لا تراعي فأنت آمنة منذ اليوم. لقد آذيناك وشققنا عليك، ولكنا سنصلح ما قدمنا إليك من مساءة. أقبلي وخذي مجلسك كما تعودت أن تجلسي، وغنيني ذلك الصوت الذي كان مصدر ما لقيت من الأذى، والذي سيكون مصدر ما تلقين من النعيم.»
ولكن الفتاة لبثت قائمة واجمة كأنها لا تسمع، أو كأنها لا تفهم، أو كأنها لا تصدق ما كان يساق إليها من الحديث.
قال صفوان: «أقبلي يا بنتي واسمعي لما يقال لك، وأنزليه من نفسك منزل الحق؛ فأنت حرة بعد أن تغنيني ذلك الصوت، وأنت مطلقة تذهبين حيث تشائين، وتستقبلين من أمرك ما تريدين، ولك علي ألا تتعرضي لحاجة، وأن تكفي غوائل الدهر. اجلسي يا بنتي كما تعودت أن تجلسي، وغني يا بنتي كما تعودت أن تغني.»
ثم التفت إلى قيم الدار وقال في صوت حازم: «الخمر والأقداح يا غلام!»
وما هي إلا ساعة حتى كان الصديقان مقبلين على شرابهما، والفتاة تغنيهما في صوت عذب نفاذ إلى القلوب، يغمر وجهها إشراق أخاذ للنفوس هذه الأبيات:
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا
فأفلح من أمسي رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قال الحارث بن هشام، بعد أن أخذ من الغناء والشراب بحظ موفور: «ألم يأن لك أن تنبئني عن قصتك، وأن تبين لي عن خطتك، فإني أراك شديد الغموض منذ اليوم، وما عرفتك قط غامضا ولا ملتويا فيما تأتي وما تدع من الأمر!»
قال صفوان: «أتذكر هذا الشعر؟» قال الحارث: «كيف لا أذكره وقد عرفنا به وجه محمد في هجرته، واستيأسنا به من القدرة على رده إلينا، وتعلمنا به أن ستكون لنا معه خطوب! إني لأسمع هذا الشعر الآن كما كنت أسمعه في تلك الليلة حين انطلق به ذلك الصوت الرائع الرهيب يمشي به صاحبه من أسفل مكة إلى أعلاها، والناس يسمعونه ويتبعونه، ويلتمسون مصدره فلا يرون له شخصا، فيستقر في نفوسهم أنه هاتف من الجن. وما أدري الآن أكان هاتفا من الجن أم كان هاتفا من الملائكة، ولكنه كان روحا من هذه الأرواح التي ملأت علينا جونا في هذه الأعوام.»
قال صفوان: «فإني قد كرهت هذا الشعر كرها شديدا، وازداد كرهي له منذ قتل أبي وأخي بأيدي أصحاب محمد، ومنذ ورد الملأ من قريش موارد الموت فيما كان بيننا وبين محمد من حرب. ولقد حاولت الثأر في أحد، ولقد حاولت الثأر بعد أحد. ولقد كنت أظن أني سأجد فيمن قتلنا من أصحاب محمد وبني أبيه شفاء، ولكني لم أجد إلا غلا يزداد تحرقا وتأججا كلما تقدمت الأيام. ولقد التمست السلو عن هذا الغل في الرحلة، والتمسته في الصيد، والتمسته في اللهو، فما ظفرت به وما وجدت إلى شيء منه سبيلا. وأدعو ذات يوم بهذه الفتاة وأطلب إليها الغناء، فتغنيني ما شاءت، وأطرب لصوتها العذب وغنائها الحلو، فأستزيدها فإذا هي تغنيني هذا الشعر، فتذكرني بما كنت أريد أن أنسى، ويكون ذلك حين تبلغنا الأنباء بأن محمدا قد عبأ لحربنا، وفصل من يثرب ليدخلها علينا عنوة بعد أن رددناه عنها كراما، فيملكني الغضب وتستأثر بي الثورة، وآمر بالفتاة كما رأيت أن تحبس في بيت من بيوت هذه الدار، وأن توضع عليها الأغلال، وأن تصبح وتمسي بالسياط تلهب جسمها هذا الرخص الجميل.»
قال الحارث: «ففيم إطلاقك لها، وفيم استماعك لهذا الصوت وشربك عليه؟» قال صفوان: «فإن الرجل الكريم هو الذي يلقى جليل الأمر معترفا به غير منكر له ولا جاحد لأخطاره. وقد حاربنا هذا الرجل ما وسعتنا حربه، وقد ظننا به الظنون، وأرسلنا فيه ألسنتنا وعقولنا، وقلنا فيه ما نعتقد وما لا نعتقد، وكانت الأيام تكذبنا، وكانت الحوادث تكشف لنا عما كنا فيه من الإثم والضلال، فكنا لا نسمع للأيام ولا نؤمن للحوادث، وإنما نمضي فيما كنا نضمر من البغض، وفيما كنا نظهر من العدوان. ولم تكن الحرب بينا وبين هذا الرجل، وإنما كانت بيننا وبين قوة أعظم من هذا الرجل بأسا وأشد منه نفاذا وأبعد منه أثرا في حياة الناس. كنا نغالب القضاء، فقد غلبنا القضاء. وكنا نحارب السماء، فقد قهرتنا السماء. فما الخير في أن نمضي فيما كنا نمضي فيه من صلف قريش وكبريائها، ومن جاهلية قريش وغرورها!»
قال الحارث: «إنك لتحدثني بما ناجتني به نفسي مذ أعوام، وبما كانت تناجيني به نفسي حين لقيتك عائدا إلى دارك بعد أن سمعنا منادي محمد يؤذن في الناس أن من لزم داره فهو آمن، وأن من لزم دار أبي سفيان فهو آمن. وكنت أريد أن أبلغ داري فألزمها حتى أرى لي مخرجا من هذا الحرج، فلما لقيتك دعوتني إلى دارك فأقبلت معك وإن كنت لغائبا عنك أسمع لما كانت نفسي تحدثني به من النجوى.»
قال صفوان: «أما أنا فقد عدت إلى داري مغيظا محنقا لا أملك نفسي من الغيظ، ولكني عدت إلى نفسي معترفا بأن أمر محمد قد ظهر على أمرنا، وبأني قد ظلمت هذه الفتاة كما ظلمت غيرها من الناس.»
قال الحارث: «فما تريد أن تصنع؟» قال صفوان: «ما أدري! ولكني لن أذعن لهذا السلطان الجديد إلا أن أكره على ذلك إكراها.»
قال الحارث: «أما أنا فمخرج نفسي من هذا اليأس وذاهب إلى محمد فقابل منه دعوته ومعلن إليه إيماني بما يريدنا عليه.»
وهما في ذلك وإذا باب صفوان يطرق، وإذا مولاه يدخل مضطربا فينبئ سيده بأن رسول محمد بالباب. قال صفوان وقد ظهرت على وجهه ابتسامة حازمة: «فأدخل رسول محمد»، ثم التفت إلى صاحبه وهو يقول: «هذا أول الشر! ما تظنه يريد منا؟»
ولكن الرسول أدخل فحيا وتلطف في التحية، وتلقاه صفوان لقاء حسنا، ثم يقول الرسول لصفوان: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يستعد لحرب هوازن، وقد جمعت له جمعا عظيما، وقد علم أن عندك سلاحا ودروعا وكثيرا من أداة الحرب؛ فهو يسألك أن تعينه بما عندك.»
قال صفوان في لهجة لم تخل من سخرية: «فهو الغصب إذا!» قال الرسول في لهجة غلبت عليها الأناة والحلم: «كلا يا صفوان! ليس الغصب من أخلاق رسول الله، وهو لم يعلمنا غصبا ولا غدرا ولا تجبرا، وإنك لتعلم قدرته عليك وعلى غيرك من الطلقاء، أفتراه قد مسكم بشر، أو نالكم بأذى! إنه يستعير منك سلاحك ودروعك وما عندك من أداة الحرب، على أن يردها عليك موفورة بعد الظفر إن شاء الله.»
قال صفوان: «فأبلغ محمدا أن له عندنا ما يرضي، وأنا سنعينه بما نقدر عليه من أداة للحرب. ومن يدري! لعلنا نعينه بأنفسنا، فهو بعد ملك قريش.» قال الرسول: «بل قل نبي الله.» وأطرق صفوان ونهض الرسول فانصرف راضيا.
قال الحارث: «أباق أنت على ترددك؟ أما أنا فمسلم منذ الآن.» قال صفوان: «ما أدري والله ما أصنع! إن قلبي ليحب هذا الرجل ويؤمن له، وإن نفسي مع ذلك لا تستطيع أن تسلو عن عز قريش.» قال الحارث: «فإني أرى أن عز قريش لم يتبدل، إلا أن يكون ظهور محمد قد زاده قوة وبأسا، ألم ينبئا منذ أظهر دعوته بأننا إن نؤمن له ضمن لنا ملك الدنيا ونعيم الآخرة؟ لقد كذبناه وأعرضنا عنه وسخرنا منه، فلم يرعه ذلك، ولم يفل من عزمه، وإنما مضى أمامه لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء ولا يشفق من شيء، حتى إذا لم يجد عند قومه خيرا ولا في وطنه أملا، هاجر بدعوته إلى حيث يستطيع أن يجهر بها وأن يذيعها آمنا ويذود عنها بالقوة إن تعرضت للخوف. ولست أخفي عليك أني لم أعجب بشيء قط كما أعجبت بهذه الهجرة يفر فيها صاحبها برأيه ليذود عنه ويدعو إليه حرا طليقا لا يخاف شرا ولا يلقى أذى!
هذا الفرار بالحرية، أو هذا الفرار في سبيل الحرية، شيء لم نعرفه من قبل. لقد كنا نفر بأموالنا لنحصنها، وكنا نفر بأمتعتنا لنؤمنها، وكنا نفر بدمائنا لنحقنها، فإذا هذا الرجل وأصحابه يفرون بدينهم لينشروه، ويتركون لنا أموالهم وأمتعتهم ومنافعهم، ثم لا يلبثون أن يبذلوا دماءهم في سبيل ما يدعون إليه. ألا يروعك هذا.»
قال صفوان: «فما بال هذا كله لم يرعك قبل اليوم؟»
قال الحارث: «والله لقد راعني وما زال يروعني؛ وإنما هي الكبرياء. وقد آن أن تنجلي عني غمرتها.»
قال صفوان: «أما أنا فلم تنجل عني غمرة الكبرياء بعد! وانظر؛ إن أمري لعجب حقا! إني لا أستطيع أن أذعن لمحمد، ولا أومن لما جاء به، ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أبقى بمكة آمنا وادعا وهو يلقى عدوه من قيس. لأشهدن حربه هذه كما يشهدها أصحابه، ولأنظرن في أمري بعد ذلك.»
ويتيح الله لنبيه الظفر يوم حنين على جموع قيس بعد أن امتحن المسلمون في أنفسهم وقد أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم من الله شيئا، وإذا رسل النبي تصل إلى صفوان في خيمته ومعه الحارث بن هشام قد أسلم وشهد الوقعة مسلما. فإذا دخل الرسل على صفوان قال قائلهم بعد أن حيا وتلطف في التحية: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يرد عليك سلاحك ودروعك وأداتك موفورة، ثم هو يهدي إليك حظا من الغنيمة يمنحك مائة من الإبل، ولا يكره أن يزيدك إن استزدت.»
قال صفوان: «وصلته رحم! فما عرفته إلا رجل خير، وما أرى إلا أن الله قد منحه القدرة على تطهير القلوب من الحقد والبغض، ومن الضغينة والإثم. هلم سيروا معي إليه، فقد آن لغمرة الجهالة أن تنجلي، وآن لصفوان بن أمية أن يؤمن بمحمد وما أنزل عليه من الحق.»
ويمضي صفوان بن أمية إلى النبي فيسلم. ثم يعود فيخلو إلى نفسه ويفرغ لأمره، ولا يكاد يشارك الناس فيما يضطربون فيه من الأمر.
قال بعض أصحاب صفوان له ذات يوم: «أي أبا وهب! إنك أسلمت، ولكن الإسلام لا يستقيم لك إلا أن تهاجر كما هاجر الناس.»
قال صفوان: «فلنهاجر كما هاجر الناس.» وخرج من مكة غير محب للخروج. فلما بلغ المدينة لم يقم فيها إلا قليلا حتى قال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «عزمت عليك يا أبا وهب لما رجعت إلى أباطح مكة.» فرجع إلى أباطح مكة أحب ما يكون في الرجوع إليها، وأقام فيها ما شاء الله أن يقيم. وكان يتحدث إلى الناس فيقول: «لقد أعطاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم حنين، وإنه لمن أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لمن أحب الناس إلي.»
قال قائل: «لقد أحببته إذا لعطائه!» قال صفوان: «ويحك! لا والله إن كنت لغنيا، وإنما أحببته لأن الله علمه كيف يداوي القلوب المرضى.»
الفصل العاشر
شوق الحبيب إلى الحبيب
وقف حارثة بن شراحيل ذات يوم على بعض غلمانه، وقد انحدرت الشمس إلى مغربها مسرعة كأنما كانت تنهزم أمام هذا الليل الذي أقبل في هدوء وجلال كأنه سيل من الظلمة الحالكة يغمر الصحراء والآكام قليلا قليلا، فقال في أناة لا تخلو من حدة: «شبوا ناركم يا هؤلاء، وأطعموها من جزل الحطب ويابسه، فإني أراها منذ ليال خامدة هامدة، لا يكاد يسطع لها لهب، أو يرتفع لها سنا، وأنتم ترون ظلمة الليل تغمر الأرض، وظلمة السحاب تحجب السماء. وما أرى إلا أنا نستقبل ليلة قاسية عاتية على من ركب الطريق. وقد قل الطارقون لنا منذ حين. وقد كنت أرجو أن يكون منزلنا هذا أمنا للخائف، وهدى للحائر، وخصبا للمجدبين.» ثم تحول عنهم ومضى إلى نادي قومه.
فقال بعض الغلمان: «ويل للإبل الرائحة! إنا لنرى في وجه مولانا شرا، وما نظنها تجوزه موفورة. إن نفسه لتنازعه إلى قرى الضيف، ولئن لم يطرقه ضيف ليضيفن من حضره من أهل الحي.» قال قائل: «فإني أعرف في وجهه الملل والضيق منذ أيام. وما أرى إلا أن غيبة زوجه وابنه قد طالت عليه، ولولا أنه يصطنع الأناة ويحرص على الوقار لخف إليهما وتعجل عودتهما، ولكنه يكره أن يقال غابت عنه سعدى شهرا فلم يستطع عنها صبرا. ومن يدري! لعله حين أمرنا بأن نشب النار ليسطع لهبها ويبعد سناها إنما فكر في سعدى وزيد، وقدر أنهما يتجشمان إليه وعورة الطريق وظلمة الليل وريح الشمال هذه التي تلفح الوجوه ببردها الذي لا يطاق. فلنشب له النار، ولنرفع من لهبها وسناها ما يفرق الظلمة، ويهدي الحائر، ويدعو إلى الأمن والدعة والقرى، ولنا من هذا كله حظ مقسوم ونصيب موفور، ولنا من رضا سيدنا غبطة، ومن راحته بهجة وسرورا.»
ولم يخطئ غلمان حارثة فيما أرادوا بينهم من حديث؛ فقد كان سيدهم منغص النهار، مؤرق الليل، موله الفؤاد، مفرق النفس حين اتصلت غيبة زوجه عنه، وكانت قد فارقته منذ شهر أو أكثر أو أقل لتزور قومها في هذا الحي من طيئ، حيث يقيمون غير بعيد، وإنما هي ثلاثة أيام تقطع فيها الإبل أمدا من آماد الصحراء. فتبلغ منازل طيئ في ظل الجبلين أجأ وسلمى.
وكانت سعدى قد احتملت معها أصغر أبنائها زيدا، وكان غلاما يافعا، لم يكد يبلغ الثانية عشرة من عمره، تريد أن تزيره أخواله، وتصل بينه وبين صبية قومها وغلمانهم. وقد شقت هذه الرحلة على زوجها حارثة، ولو أطاع نفسه وارسل طبعه على سجيته، لأجل هذه الرحلة أشهرا حتى تتاح له المشاركة فيها، ويأمن فراق آثر الناس عنده وأحبهم إليه. ولكنه لم يستطع، ولم يرد أن يظهر نفسه ضعيفا رقيقا، فخلى بين امرأته وبين ما أرادت، وتقدم إليها في ألا تطيل المقام عند قومها، وأن تعود قبل أن يتقدم الشتاء ويكثر هبوب الشمال. وقد أخذ يرتقب عودتها منذ أيام، لا تكاد تمضي ساعة من نهار أو من ليل حتى يمضي معها شطر من صبره وقسط من احتماله، وحتى يشتد شوقه إلى زوجه ونزاع نفسه إلى ابنه، وضيقه بالانتظار بين قومه من كلب. وكثيرا ما كان يخرج من خبائه حين يرتفع الضحى فيمضي أمامه حتى يبعد، ثم يرقي فيقوم فيها مقام الربيئة، إلا أنه لم يكن يرقب العدو أو يتجسس المغير، وإنما كان يرسل نظره في الصحراء يرجو أن ترفع له العير التي تحمل إليه سعدى وابنها زيدا. وكان إذا طال وقوفه على ربوته تلك، وتقليبه نظره في وجوه الصحراء، ظن بنفسه الظنون، وأشفق أن يظن قومه به الظنون، فعاد أدراجه كاظما ما يجد من شوق، كاتما ما يحس من وجد، شاغلا نفسه أو متكلفا شغلها بما يمكن أن يشغل به الأغنياء الموسرون من أهل البادية الوادعين الآمنين.
وكان كلما تقدم النهار يقدر أن العير ستقبل عليه مع الليل، فإذا أقبل الليل أشفق منه على هذه العير التي لم يكن يشك في أنها قد ركبت الطريق. وقد كتم على نفسه أحاديثها تلك ما استطاع، ولكنه في تلك الليلة أحس الخوف يساوره والإشفاق ينازعه نزاعا شديدا، واحتفظ مع ذلك بشيء من أناة وفضل من وقار، فتقدم إلى غلمانه في أن يشبوا نارهم ويذكوها، وقدر في نفسه أنه سيستعين على ليله الطويل بإطعام الحي وإذاعة الكرم والجود فيه. حتى إذا كان الغد تقدم إلى ابنيه الشابين في أن يذهبا في الطريق إلى منازل طيئ، فإن أدركا العير عادا معها، وإن لم يدركاها مضيا حتى يردا هذه الغائبة التي أسرفت في الغيبة وقصرت في ذات الزوج والأبناء والبنات.
وما كاد الرعيان يروحون بالإبل مع العتمة حتى نهض حارثة كأنه الجني، وأومأ إلى ابنيه الشابين فتبعاه، ومضوا حتى تخيروا من هذه الإبل ناقة كوماء وجزورا سمينا، فعقروا ونحروا وأذنوا في الحي أن هلم إلى الطعام واللهو. وقضى الحي ليلة خصب ولهو ودعة، شبع فيها الجائع وطعم فيها البائس، ولها فيها المترف الميسور. ولكن الليل لم يكد ينقضي حتى سمع دعاء الطارق من بعيد، ويسرع حارثة وابناه إلى الاستجابة لهذا الدعاء. وما هي إلا ساعة حتى يقبل الضيف، وإذا هم جماعة من شباب البدو وشياطين الصحراء، قد شق عليهم الليل، واشتد عليهم البرد وعصفت بهم الريح، فاضطروا إلى الهدوء والراحة، وقد كانوا يودون لو استطاعوا أن يمضوا في طريقهم حتى يبلغوا غايتهم من الغد أثناء النهار أو حين يشرف الليل. ويتلقاهم حارثة وابناه لقاء حسنا ويبلغونهم من الأمن والقرى السريع ما يشتهون. حتى إذا أشرقت الشمس من غد وهمت الإبل أن تمضي لمراعيها نهض حارثة وابناه فاستبقوا منها ما عقروا ونحروا، ثم أذنوا في الحي أن هلم إلى الطعام والقرى، وإذا هم ينفقون نهارا خصبا كما أنفقوا ليلة خصبة. وقد وجد حارثة في كرمه وجوده عزاء عن شوقه وسلوة عن وجده، ورجوعا إلى ما كان ينبغي لمثله من الصبر والجلد والوقار. وارتحل عنه ضيفه موفورين راضين، واستأنف هو حياة هادئة بعض الهدوء راضية بعض الرضا ولكنها أيام تمضي وتتبعها أيام، ولا يبلغه من أخبار الغائبة شيء، حتى يشق الأمر عليه ويبلغ الجهد به، وحتى يهم بالرحلة إلى منازل طيئ لا يكتم ذلك ولا يخفيه. وإنه ليستعد لهذه الرحلة وإذا بنبأ يبلغه فيملأ قلبه جزعا ويأسا. فقد أغار نفر من صعاليك العرب وشياطين الصحراء على أطراف طيئ فاستاقوا إبلا واختطفوا صبيه، ومضوا قبل أن يبلغ الصريخ معظم الحي، فانطلقوا إلى حيث لم تبلغهم الخيل، على أنها وجهت في طلبهم كل وجه من وجوه الصحراء جميعا.
وصور أنت لنفسك جزع ذلك الأب البائس، ويأس تلك الأم النازح، وما ألم بهذين الحيين في طيئ وكلب من هذا الحزن المغيظ الذي لا شفاء له ولا سبيل إلى إطفاء ناره بثأر أو انتقام. وعند من يكون الثأر وممن يكون الانتقام وقد أغار المغيرون فانتهبوا واختطفوا ولم يدعوا لحي من أحياء العرب ولم ينتسبوا لقبيلة من قبائل قحطان أو عدنان؟! ومتى ادعى الصعاليك والخلعاء لحي أو قبيلة! ومتى نهضت الأحياء والقبائل بجرائر الخلعاء والصعاليك!
ولكن أعواما تمضي وحارثة يلقى من اللوعة والحسرة ما يلقى، وسعدى تجاهد من اليأس والقنوط ما تجاهد. ويقبل نفر من كلب يزورون مكة في الموسم، فيلقون عند المسجد شابا قصيرا آدم أفطس الأنف يتوسمون فيه ملامح كلب، ثم يسمعون له ويتحدثون إليه، فما يشكون في أنه كلبي وفي أنه من رهطهم الأدنين. عرفوا لغته، ثم نسبوه فعرفوا نسبه، ثم سألوه عن قصته فأنبأهم بأن نفرا من الصعاليك اختطفوه مع جماعة من أترابه بنين وبنات، ثم تفرقوا بهم، وأقبل به خاطفه إلى سوق عكاظ فباعه من حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي، وأداه حكيم هذا إلى عمته خديجة بنت خويلد الأسدية، وأحسنت هذه العناية به والرعاية له، حتى إذا تزوجت من الأمين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهبته له، فهو قائم على خدمته منذ أعوام.
ويهم هؤلاء النفر من كلب أن يسعوا في فدائه عند الأمين، وأن يعودوا به على أمه البائسة وأبيه الملتاع. ولكن الفتى يردهم عن ذلك أجمل الرد وأرفقه، ويلح عليهم في ألا يفعلوا، ويحملهم إلى أبويه وعشيرته تحية فيها الحب والبر، ولكن فيها الرضا بهذه الحال التي صار إليها، والحرص على هذا المنزل الذي استقر فيه. ومن غريب ما قص الفتى على هذا النفر من كلب أنه لا يشك في أن الذين اختطفوه قد كانوا حديثي عهد بأبيه. طرقوه ذات ليل فتلقاهم لقاء حسنا، وتقدم في قراهم وتزويدهم بخير ما أحبوا. سمعهم الفتى يتحدثون بذلك، ويثنون به على حارثة بن شراحيل، وظن أنه إن انتسب لهم وعرفوا مكانه من حارثة ردوه إليه، فلما فعل لم يلق منهم إلا ظلما وهضما وإنكارا، كذبوه وآذوه وظنوا به الخديعة والكيد.
ويعود هذا النفر من كلب إلى حيث ينزل قومهم في طرف من أطراف الشام، فيردون الأمن والهدوء والغبطة والأمل إلى الأبوين البائسين اليائسين. فإذا كان الموسم من قابل أقبل حارثة وأخوه كعب حاجين وزارا مكة، والتمسا الأمين فدلا عليه، فيقولان: «يابن عبد الله! يابن عبد المطلب يابن هاشم يابن سيد قومه! أنتم أهل الحرم وجيرانه وعند بيته، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سنرفع لك في الفداء.» قال: ما هو؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : فهل لغير ذلك؟ قالوا: ما هو؟ قال: ادعوه فخيروه، فإن اختاركما فهو لكما بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا. قالا: قد زدتنا على النصف
1
وأحسنت. قال: فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال نعم. قال: من هما؟ قال: هذا أبي وهذا عمي. قال: فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني بمكان الأب والأم. فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم! إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: «يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني.» فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فدعي زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام.
2
وقع حب هذا الفتى في قلب الأمين، وملأ حب الأمين قلب الفتى، وإذا الأمين يعلم ذلك من نفسه ومن غلامه، فيأبى الفداء، ويخالف عما ألف الناس. وإذا الفتى يخرج من هذه المحنة منتصرا على نفسه وعلى أواصر القربى، وعلى ما ألف الناس من إيثار الحرية على الرق، ومن إيثار الوطن على الغربة، ومن إيثار الأهل على الأجانب في الدار والنسب. ولكن الله قد أعد لزيد ألوانا أخرى من المحن، وقرنها بألوان أخرى من الخير والكرامة. فهذا الأمين قد اتخذه له ابنا، وزوجه ابنة عمته زينت بنت جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب. وقد اختص الله أمين قريش بنبوته وائتمنه على وحيه ورسالته، وإذا ابنه زيد أسرع الرجال استجابة له وانحيازا إليه. وقد أخلص زيد في صحبة مولاه وأبيه ونبيه ما أقاما في مكة، يحتملان من ألوان الأذى وصنوف المكروه ما يحتمله المسلمون، ويصبران من الفتنة على ما صبر عليه الذين منحهم الله قلوبا جلدة ونفوسا حرة وإيمانا عميقا. حتى إذا أذن الله لنبيه وللمؤمنين في الهجرة، هاجر زيد مع المهاجرين، فآخى رسول الله بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب.
يجعله بهذا كله فردا من أفراد الأسرة وواحدا من أهل البيت، ويتحدث إليه بأنه مولاه وبأنه منه ومن قومه. ويشهد زيد معه بدرا، ويشهد زيد معه أحدا، ويغزو النبي فيخلف زيدا على أمر المدينة من ورائه، ويقيم النبي فيخرج زيدا أميرا على سراياه وغزواته، حتى تقول عائشة رحمها الله: «ما بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه.»
3
ولكن لله في عباده أمرا هو بالغه، وإرادة هو ممضيها، وحكمة هو حاملهم عليها. لقد كان المسلمون لا يدعون هذا الرجل إلا زيد بن محمد، ولا ينظرون إليه إلا على أنه ابن نبيهم، ومن أقرب الناس إليه وألصقهم به وآثرهم عنده، وكان النبي نفسه يقول ذلك ويجهر به. ولكن الله يريد أن يلغي نظام التبني هذا، وأن يرد الناس إلى أنسابهم وأن يدعوا الأبناء لآبائهم، وإذا هو يمتحن في ذلك نبيه، ويمتحن في ذلك زيدا، ويمتحن في ذلك المؤمنين الصادقين جميعا. يلقي في قلب النبي حب زينب زوج زيد، ويلقي في قلب زيد الانصراف عن زينب والنفور منها.
وهذه نفس محمد مضطربة أشد الاضطراب، ممتنعة أشد الامتناع، واجمة أشد الوجوم، ترفض هذا الحب رفضا وتزور عنه ازورارا، وإذا هي تنكره حتى على نفسها. ولكن الله يبدي ما تخفي، ويعرف الناس ما تنكره، وإذا زيد يريد أن يطلق امرأته والنبي ينهاه ويزجره ويحذره. ولكن الله بالغ أمره وممض إرادته ومتم حكمته، وإذا زيد يطلق امرأته، وإذا النبي يتزوج زينب، ويقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض في ذلك ما يقولون. ولكن الحب الخالص بين زيد ومحمد يخرج من هذه المحنة العنيفة ظافرا منتصرا كأنقى وأصفى ما يكون، وإذا الله ينزل في هذه المحنة قرآنا ويسمي فيه زيدا فيقول:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا . ثم يقول:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما .
وقد تلقى المؤمنون الصادقون هذه المحنة كما كانوا يتلقون أمر الله كله راضين به مخلصين في الرضا، قد اطمأنت إليه قلوبهم، وصفت له نفوسهم، وصحت على إمضائه عزائمهم. وثقوا بأن الله قد اختار لهم فاختاروا لأنفسهم ما اختار لهم الله. وقد مضى زيد مع نبيه وصاحبه كما كان يمضي مع أبيه، وفيا أمينا مخلصا، مجاهدا في سبيل الحق مضحيا في ذات الله. وإذا رسول الله يزوجه حاضنته أم أيمن الحبشية، ويعده الجنة، فتنجب له أسامة بن زيد.
ثم تقبل المحنة الأخيرة. فهذا النبي يجهز لغزوة مؤتة. فإذا أتم جهازه اختار الأمراء؛ فقدم زيدا وقال: «فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة.» قال المحدثون: فوثب جعفر بن أبي طالب فقال: «يا رسول الله، ما كنت أرغب أن تستعمل علي زيدا.»
فقال رسول الله: «امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير.»
4
ومضى المسلمون إلى مؤتة يقودهم زيد. حتى إذا كانت الموقعة، قاتل المسلمون على صفوفهم وقاتل الأمراء مترجلين، فقتل زيد رحمه الله طعنا بالرماح. وقال النبي حين بلغه ذلك: «إنه دخل الجنة يسعى.» وصعد النبي المنبر فأنبأ المسلمين بمصرع الأمراء الثلاثة، وقال: «اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لجعفر ولعبد الله بن رواحة» يستغفر لزيد ثلاث مرات، ويجمع بين ابن عمه جعفر وعبد الله بن رواحة في استغفار واحد.
تحدث ابن سعد عن الواقدي في إسناده، قال: لما أصيب زيد بن حارثة، أتاهم النبي
صلى الله عليه وسلم
قال فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فبكى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى انتحب. فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: «هذا شوق الحبيب إلى حبيبه.»
الفصل الحادي عشر
القلب الرحيم
لم يبسم الأمير لحنظلة بن عمير الخزاعي حين أدخل عليه، ولم يبسط له ذلك الوجه الذي تعود زواره أن يروه مشرقا سمحا، بل لم ينظر إليه، ولم يرفع رأسه عن ذلك الكتاب الذي كان ينظر فيه، وإنما تلقى من الشيخ تحيته وردها عليه بمثلها، وكأنه نسي مكانه منه فلم يأذن له بالجلوس. وظل الشيخ قائما حائرا، مطرقا حينا ثم ناظرا عن يمين وشمال حينا آخر، والناس من حول الأمير ومن حوله ساهمون واجمون، ينكرون في أنفسهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يقولوا شيئا تهيبا للأمير.
وكانت للشيخ في نفوس الناس بالفسطاط مكانة حسنة ومنزلة رفيعة. عرفوا ورعه، وكرم نفسه، وتنزهه عن الصغائر، وحسن بلائه في المشاهد، وحسن رعايته لحرمات الدين، وأكبروا منزلته من قومه، ونباهة شأنه فيهم، وحسن صنيعه إليهم. وكثير منهم كانوا يكبرون عظم ثروته، وسعة ذات يده. وكلهم كان يرى على كل حال أن الأمير لم يلقه بما تعود أن يلقاه به من البشر والإيناس. وكلهم كان يود لو استطاع أن ينبه الأمير إلى مكان الشيخ، ولكنه كان يشفق أن يجاوز حقه ويعدو حده ويدخل على الأمير بما لا يحب.
وقد طال إطراق الأمير وصمته، وطال وقوف الشيخ وحيرته. ثم تحول الشيخ عن موقفه فجأة، وسلم على الأمير سلام المنصرف. فرفع الأمير إليه وجها عابسا وهو يقول: «إلى أين يا حنظلة؟» قال الشيخ: «إلى حيث يلقاني الناس بغير ما لقيتني به أيها الأمير.» قال الأمير: «لا بأس عليك؛ اجلس فإن لي معك شأنا.» قال الشيخ: «لقد علمت أن لك معي شأنا، ولكني علمت أيضا أن مثلي لا يلقى بمثل ما لقيتني به. فإن كنت قد دعوتني لخصومة أو ملامة، فقد كنت حريا أن تقدم بين يدي خصومتك أو ملامتك خيرا مما قدمت، أو تكلف قاضيك أن يدعوني كما يدعى المتهم المليم.»
قال الأمير: «اجلس فليس عليك من بأس! إني لم أدعك لخصومة ولا لملامة، وإنما دعوتك لبعض الأمر. ولعل ما نجم بينك وبيني لا يعدو العتب عليك والنصح لك.» قال الشيخ: «وما ذاك؟» قال الأمير: «فخذ مكانك! فإنا سنتحدث عما قليل.»
وسعى الشيخ هادئا مطمئنا حتى جلس وهو لا يكاد يخفي ما يظهر على وجهه وفي عينيه من آيات الغيظ. وأحس جلساء الأمير أن الأمير يريد الخلوة إلى حنظلة فجعلوا ينصرفون متتابعين، حتى لم يبق في مجلس الأمير أحد إلا هذا الشيخ. هنالك نظر الأمير إلى حنظلة نظرة طويلة فيها حب ورفق، وفيها حزم وعزم أيضا، ثم قال وهو يبتسم متكلفا: «إن لبيت مال المسلمين عندك لثأرا ما أظنه يستطيع أن يدركه منك مهما تضخم ثروتك ومهما تغل هذه الأرض التي تملكها، ومهما يكسب لك هذا العدد العظيم من الرقيق الذين تصرفهم في هذه الصناعات المختلفة المربحة.»
قال حنظلة: «أبن عما تريد أيها الأمير؛ فإني لا أفهم عنك منذ اليوم.» قال الأمير: «فإنك قد رزأت بيت المال رزءا ما أظن ثروتك تستطيع أن تنهض به.» قال حنظلة: «فإنك لم تولني عملا من أعمالك، ولم تأتمني على ما تحتوي خزائنك من مال، وما أعرف أن بيني وبين السلطان سببا من أسباب التجارة أو الالتزام، فكيف رزأت بيت المال وبم رزأته؟»
قال الأمير: «ما هذا الحديث الذي بلغني عنك؟ ألم ترتفع إلي الأنباء بأنك قد زرت قرية عامرة من قرى الريف تريد أن تتعهد فيها بعض أرضك، فلم تنصرف عنها حتى أسلم أهلها جميعا، ولم يبق منهم معاهد يؤدي إلى بيت المال درهما أو دينارا! أفتظن أنك لم ترزأ بذلك بيت مال المسلمين! فإذا مضيت على سيرتك هذه، وإذا تأثرك جماعة أمثالك، فجعلوا كلما زاروا قرية من قرى الريف حملوا أهلها على الإسلام وصرفوا عن بيت المال موردا من موارده، فإلام نحن صائرون؟ ومن أين ننفق على هذه المرافق؟! ومن أين نرزق أهل الديوان، ونوفر على الجند أعطياتهم؟ وكيف نحمل إلى دمشق ما تريد أن يحمل إليها من المال؟» فلم يستطع الشيخ أن يملك نفسه ولا أن يحتفظ بما ينبغي من الوقار لنفسه أولا ولمجلس الأمير بعد ذلك، ولكنه اندفع في ضحك حر مطلق لا تحفظ فيه ولا اتزان. وجعل الأمير ينظر إليه دهشا لا يدري أيغضب أم يرضى. فلما سكت الضحك عن الشيخ قال في صوت مضطرب بعض الشيء: «أصلحك الله أيها الأمير وغفر لك! ما كنت أظن أن الله قد بعثنا جباة للمال نملأ به خزائنك ونحمله إلى دمشق، وإنما علمت أن الله قد بعثنا دعاة إليه، وهداة إلى الحق، ومبشرين برحمة الله، ومخوفين من نقمته، ما يعنينا بعد ذلك أن تمتلئ خزائنكم بالمال أو تصفر منه.»
قال الأمير وهو يبتسم ويكظم غيظا يريد أن ينفجر: «حسبك يا حنظلة! هذا كلام كان يقال منذ أذاعه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الناس وكتبه إلى الولاة والعمال، وقد قبلته أنت ونفر من أمثالك، ومضيتم في إنفاذه جادين. ولكن عمر رحمه الله قضى ولم يطل به العهد، وعادت أمور الناس إلى من تعلم من الخلفاء والأمراء، وعادت سياسة الناس سيرتها الأولى. فلا بد من أن ننفق على المرافق، ولا بد من أن نرزق الجند، ولا بد من أن نحمل إلى بني مروان في كل عام ما ينهض بأعبائهم، وإنها لأعباء ثقال!»
قال حنظلة: «فإن أمر هذا كله لا يعنيني، وإنما يعني أمير المؤمنين وولاته وعماله والمديرين لأمواله، فأما أنا فرجل من المسلمين أتيح له أن يدعو الناس إلى الحق، فاستجابوا له وهداهم الله به إلى دينه، فلا علي أن يصرف عن بيت المال موارده. وإن كان لك أيها الأمير أو لأمير المؤمنين أرب فيما أملك من ثروة فما أستطيع أن أدفعكما عنه، وما أريد أن أفعل، فخذا منه ما تشاءان، وخذاه كله إن أحببتما؛ فإن المال يغدو ويروح. وما أكره أن أشتري هدى هؤلاء الناس بمال مهما يكثر، وما أكره أن أعين بيت المال على بعض أعبائه بثروة مهما تضخم، فإني أرى ذلك صدقة، وأعلم أن الله لا يضيع أجر المتصدقين.»
قال الأمير وقد عاد إليه هدءوه واطمأن في مجلسه وأشرقت في وجهه ابتسامة حلوة عرفها حنظلة، فنظر إلى الأمير نظرة الصديق قد لقي صديقه بعد طول الغيبة، قال الأمير: «ليس عليك ولا على مالك بأس! ولكني أريد أن تقتصد في هذا الجهد وترفق في هذه الدعوة.»
قال حنظلة: «فإني لم أبذل جهدا ولم اشتد في دعوة. ولوددت لو أستطيع أن أبذل في ذلك الجهد وأن أبلغ من هداية الناس إلى الحق ما أريد! فما أعرف أن شيئا يؤذي نفسي كما يؤذيها منظر هؤلاء المعاهدين وهم يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون. وإني لأرى في دعوتهم إلى الإسلام وهدايتهم إليه إنقاذا لمروءتهم وإمتاعا لهم بهذه الحرية التي نتمتع بها وهم مبعدون عنها مصروفون عما تكفل لأصحابها من الشرف والكرامة وكمال الرجولة. ألم تضع نفسك قط أيها الأمير موضع واحد من هؤلاء الناس الذين يشترون أمنهم على أنفسهم ودينهم بالمال يؤدونه إلينا صاغرين؟»
قال الأمير: «وفيم تريد أن أضع نفسي موضع هؤلاء الناس، وقد من الله علينا بالعروبة والإسلام فجنبنا هذا الصغار؟»
قال حنظلة: «فإن الله قد أمرنا أن نسوي بين الناس وبين أنفسنا، وأن ندعوهم إلى الإسلام لنرفع عنهم هذا الإصر، ولنردهم إلى مشاركتنا في هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا.»
قال الأمير: «ألم تنبئني أنك لم تبذل فيما صنعت جهدا، ولم تحتمل فيه مشقة ولا عنفا؟»
قال حنظلة: «بلى! ولو قد علمت كيف كان اهتداء هؤلاء الناس إلى الحق واستجابتهم لدعوة الله لراعك من ذلك ما راعني، ولأعجبك من ذلك ما أعجبني، فإني لا أقضي العجب من هذه القصة التي أجرى الله بها الخير على يدي. وما رأيت أعجب من أمر محمد
صلى الله عليه وسلم
فيما رأيت وما علمت من أمور الأنبياء. رجل كان يطالبه خصومه وأعداؤه بالمعجزات، فيبرأ منها ويعلن إليهم أنه بشر مثلهم، وأنه لم يرسل ليبهر العقول بالأحداث العظام، وإنما أرسل ليتلو على الناس قرآنا يتحدث إلى عقولهم فيملؤها هدى، ويتحدث إلى قلوبهم فيشعرها رحمة وبرا، ثم لا يخلو أمره من هذه المعجزات التي تبهر العقول وتسحر الألباب، دون أن تحدث في طبيعة الأشياء حدثا أو تتجاوز بعادات الناس الجارية طريقها المألوف! إنما هي معجزات ممتازات يراها الناس مألوفة يسيرة، ويراها المفكرون نادرة باهرة ومقنعة مفحمة للمكابرين. لقد كان محمد رجلا لا كالرجال. ولقد كان بشرا، ولكنه امتاز بين الناس بخصال أحسها وأحققها في قلبي وفي عقلي، ولكني لا أجد إلى تصويرها سبيلا.»
قال الأمير: «فأفصح عما تريد واقصص علي قصتك؛ فإنك قد أثرت في نفسي عجبا من العجب.»
قال الشيخ: «فإن قصتي يسيرة كبيرة ككل ما يتصل بهذا الرجل الكريم الرحيم. إنك لتعلم أني ذهبت إلى تلك القرية أتعهد بعض أعمالي، فما أبلغها وما أستقر فيها حتى أعرف أن عظيما من عظمائها النصارى قد رزئ في صبي له، فأرى من الخير والبر أن أسعى إليه مواسيا ومعزيا فأفعل. ويلقاني الرجل حفيا بي وقد ملك الجزع كل أمره وأخرجه عن طوره، ولقد كنت أعرفه جلدا صبورا وقورا، ولكن هذا الصبي قد كان وحيده، وقد كان قرة عين له حين تولى عنه الشباب وأدركته الشيخوخة. فلما نزل به الخطب لم يثبت له ولم يستطع عليه صبرا، وقد عجز من كان يحيط به من القسيسين والرهبان عن تعزيته وتسليته. ويأخذني الرفق به والإشفاق عليه، فأتحدث إليه في لغته القبطية مواسيا مسليا، وأقول له فيما أقول: لو عرفت أن أحاديث نبينا تعزيك أو تسليك لقصصت عليك منها طرفا. فقد رزئ نبينا في صبي وحيد له، كما رزئت في صبيك هذا الوحيد. فتلقى الرزء كريما يملأ قلوبنا نحن المسلمين إكبارا له وإعجابا به ورحمة للصبية من أبنائنا، في احتفاظ بالرجولة، وثبات على المروءة، واصطناع للوقار، واعتراف بحق الله فيما يمن به علينا من المال والولد، وإنما يأخذه كما أعطاه دون أن يكون لنا أن نضيق بذلك أو نثور عليه، هي نعمة أهديت إلينا ثم أخذت منا، وقد ابتلينا بإهدائها إلينا كما ابتلينا بأخذها منا، ونحن بعد ذلك مثابون إن ثبتنا للمحنة وصبرنا على الابتلاء.»
قال الرجل: «فحدثني بحديثك؛ فإن ما تقوله يبعث في نفسي شيئا من راحة وأمن ودعة.» قلت: فإن نبينا قد رزق في آخر أيامه صبيا ابتهج لمولده ابتهاجا عظيما وسر به سرورا لا يقدر. ولكن نبينا كان يحسن لقاء النعمة كما كان يحسن لقاء المحنة، كان لا يخرجه الابتهاج عن طوره، وكان البطر والأشر أبعد الأشياء عنه. وكان إذا رضي لم يستأثر بلذة الرضا، وإنما يشرك فيها الناس. فلم يكد يرزق هذا الصبي حتى أعلن ذلك إلى الناس مغتبطا، ثم تصدق على الفقراء، ووسع على من ضيقت عليهم الحياة. وكان رفيقا بابنه هذا، يسعى إليه عند مرضعه إذا قال الناس، فيأخذه ويقبله ويقول له ما شاء الله أن يقول من هذه الألفاظ الحلوة التي تصور أجمل تصوير حنان الآباء ورحمتهم لأبنائهم. وقد كانت نعمة الله على نبينا لا تحصى، وكان منها امتحان الله له في أحب الأشياء إليه وآثر الناس عنده فما يبلغ ابنه ستة عشر أو ثمانية عشر شهرا حتى تسعى إليه العلة. ويمضي النبي مع صفي من أصفيائه يقال له عبد الرحمن بن عوف ليعوده فيبلغه وهو يجود بنفسه، وينظر الأب إلى صبيه الوحيد الذي جاءه حين تولى عنه الشباب، وحين أقبلت عليه الشيخوخة، وحين استيأس من الولد، ينظر الأب إلى ابنه هذا أسفا محزونا، ولكنه ينظر إليه مع ذلك راضيا مطمئنا مذعنا لقضاء الله. وهذه عينه تدمع، وهذا صفيه ينكر منه ذلك ويقول له: «أتبكي وقد نهيت الناس عن البكاء؟» فيجيبه: «إنما هذا رحم، وإن من لا يرحم لا يرحم، إنما ننهي الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه.» ثم قال: «لولا أنه وعد جامع، وسبيل مئتاء، وأن آخرنا لاحق بأولنا، لوجدنا عليه وجدا غير هذا! وإنا عليه لمحزونون! تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وفضل رضاعه في الجنة.»
1
وهنا تنحدر من عيني الرجل دموع غزار، وتأخذه عبرة شديدة يهتز لها جسمه كله اهتزازا عنيفا. فإذا انجلت عنه قال: «أعد علي حديثك هذا؛ فإني أجد له عذوبة ما وجدتها لحديث قط.» فأعيد عليه الحديث، فيسمعه مصغيا إليه أشد الإصغاء ولا تنهمر عبرته ولا تأخذه الرعدة هذه المرة، وإنما يقول في صوت هادئ: «امض في حديثك.» فأقول: لقد بلغت آخره أو كدت أبلغه. فهذا الأب يحمل ابنه إلى القبر، ويجلس لينظر والناس يوارونه في التراب. ويرى فرجة قد تركت في اللحد، فيأخذ حجرا ويناوله من قام على تسوية القبر ويقول: «إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي.»
2
وهنا يعود الرجل إلى استعباره، ولكنه في هذه المرة لا يبكي وحده وإنما يبكي معه من حوله من الناس. ويقول راهب من رهبانهم: «ما هذا بكلام رجل كالرجال.» ثم يسأل الشيخ أن أمضي في حديثي، فأقول: لقد انتهيت منه أو كدت أنتهي. فقد عاد نبينا إلى بيته محزونا جلدا، وانكسفت الشمس في ذلك اليوم، فيتحدث الناس بالمعجزة، ويقول بعضهم لبعض: «إنما انكسفت الشمس حزنا لموت إبراهيم ابن النبي.» وينتهي حديث الناس إلى نبينا، فيخرج ساعيا حتى يأتي المنبر، فيرقاه ويحمد الله ويثني عليه فيقول: «أما بعد أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياة أحد، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد.»
3
وأقف بحديثي عند هذه الغاية وأنظر، فإذا من حولي في صمت عميق تنحدر على وجوههم دموع هادئة لا تمثل حزنا ولا جزعا، وإنما تصور قلوبا لينة رحيمة، ونفوسا قد كشف عنها الغطاء، وإذا الشيخ ينهض من مجلسه رزينا ويسعى إلي هادئا وهو يقول: «ابسط يدك، فما أرى إلا أن نبيك قد جاء بالهدى.» وما أكاد أتلقى منه إسلامه حتى يكون الرهبان والقسيسون الذين حضروا المجلس أسرع الناس إلي، كلهم يعلن إسلامه، ويتبعهم من حضرنا من عامة الناس. وما أبرح القرية من الغد حتى يكون أهلها جميعا قد ساروا سيرة عظيمهم وقسيسيهم ومن وفد عليهم من القرى المجاورة، وحتى يكون بيت مالك أيها الأمير قد رزئ فيما رزئ فيه من الجزية.
قال الأمير بعد صمت طويل: «فهل تعلم أن لهذا الحديث وجها آخر من الإعجاز؟» قال حنظلة: «وما ذاك؟» قال الأمير: «قد سمعت من كان يتحدث في الشام عن موت إبراهيم ابن رسول الله ويقول: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «لو عاش إبراهيم لوضعت الجزية عن كل قبطي.»
4
فإنك يا حنظلة قد أحييت ذكرى إبراهيم في هذه القرية فوضعت الجزية عن أهلها.»
نامعلوم صفحہ