اليتيم
قضى أهل مكة أيامهم فرحين مبتهجين، يملؤهم الفخر، ويزدهيهم النصر، ويتحدثون بحديث الفيل إذا أضحوا، ويتذاكرون انهزام الحبشة إذا أمسوا، حتى كاد يشغلهم ذلك عن تجارتهم ويصرفهم عن مرافقهم. وتسامعت العرب بهذه الآية الكبرى التي أظهر الله بها كرامة هذا البيت، ورفع الله بها مكانة الذين يقومون حوله من قريش! فازداد العرب لقريش حبا وإكراما، وأخذت تستوثق الأمور لأهل مكة على من دنا منهم أو نأى عنهم في تهامة ونجد والحجاز. ولكن شيخا من قريش لم يشغله فخر، ولم يزدهه نصر، ولم تصرفه أحاديث الناس من حوله عن حديث نفسه المتصل وحزنها المقيم! وهو عبد المطلب بن هاشم.
ولكن امرأة من قريش لم يأخذها عجب ولم يملكها تيه، ولم تشارك نساء قريش فيما كن يتخذن من زينة، وينصرفن إليه من لذات الحياة، إنما كانت تؤثر العزلة وترغب في الخلوة إلى نفسها، تتحدث إليها وتسمع منها، لا تجد في هذا الحديث حزنا صريحا ولا سرورا صريحا، وإنما هو شيء بين بين: فيه راحة من لذع اليأس، وفيه صارف عن نشوة الأمل! وهي آمنة بنت وهب.
كان الشيخ يذكر ابنه فيشغله الحزن الممض العميق عما كانت فيه قريش من بهجة وسرور، ومن غبطة وحبور. وكان الشيخ يفكر في قصة الفيل وانصراف المغيرين عن مكة، ثم يرى فخر قريش وتمدحها واستعلاءها على العرب، فيبتسم في نفسه ساخرا منها عاطفا عليها. فلم تصنع قريش شيئا إلا أنها لاذت بشعاف
1
الجبال، وفرت إلى حيث كانت تهيم الوحوش، وخلت بين طاغية الحبشة وبين البيت. فلم تردده إذا، ولكن الله رده، ولم تحطمه إذا ولكن الله حطمه. وهي على ذلك تفاخر وتكاثر، وهي على ذلك تستكبر وتستعلي. وكذلك الإنسان يغره بنفسه الغرور، فيضيف إليها ما لم تفعل، ويحمل عليها ما لم تأت من الأمر.
كان الشيخ يسخر في نفسه من قريش، ويعطف في نفسه على قريش، يلتمس لها المعاذير في هذا الضعف الذي يصيب الناس فيخدعهم عن أنفسهم ويكبرهم في أعينهم، ويخيل إليهم أنهم شيء، وما هم بشيء أمام هذه القوة القاهرة التي تغلب ولا تغلب، والتي تقهر ولا تقهر، والتي لا تريد إلا بلغت ما تريد. هذه القوة التي أخرجت من البحر طيرا لم يرها الناس من قبل، فسلطتها على جيش لم ير الناس مثله من قبل، فما هي إلا أن حلقت فوقه ساعة من نهار حتى انهزم وانحطم، وأصبح كعصف مأكول، وسلم البيت من عادية المعتدي، وأمن البيت من طغيان الطاغية.
هذه القوة التي ظن هو أنه قد استنقذ منها ابنه فحماه من الموت، وضمن له حياة كحياة الرجال: فيها ما في حياة الرجال من سعادة وشقاء، ومن راحة وتعب، ومن جد وسعي، ومن اضطراب بين اليمن والشام، ومن استقرار في الظواهر والبطحاء. ألم يصارع الموت عن ابنه صراعا! ألم يشتر ابنه من القضاء شراء! فما هذا الجهاد بالقداح بينه وبين القضاء المسلط! يفادي ابنه بالإبل فيشتط عليه القضاء ولا يرضى حتى يبلغ المائة. وفيم كان انتصاره؟ وفيم كان ابتهاج بني هاشم؟ وفيم كان ابتهاج قريش بانتصار الحياة على الموت، وإفلات الشباب من مدية المضحي؟
وكان الشيخ يضحك في نفسه ضحكا حزينا يوشك أن يكون يأسا مهلكا وثورة جامحة، لولا أنه كان ذا قلب تعلم كيف يطمئن للأحداث ويذعن للخطوب، ويصبر على النائبات. كان الشيخ يضحك في نفسه ضحكا حزينا حين كان يفكر في غرور قريش، وتقديرها أن الله قد رد طاغية الحبشة، وأرسل عليه وعلى جيشه ما أرسل من الطير الأبابيل، تكريما لها وإيثارا؛ وحين كان يفكر في غروره هو حين كان يقدر أن الله قد أنقذ ابنه من مديته وفداه بمائة من الإبل إيثارا له بالعافية ، واختصاصا له بالكرامة. كلا! كلا! لم يهزم الفيل وأصحاب الفيل إكراما لقريش، وإنما هي آية أجراها الله لأمر يعلمه هو، ولا يعلم الناس منه شيئا. ولم ينقذ الله عبد الله من الموت ويفاده بمائة من الإبل إكراما له أو إكراما لأبيه، وإنما أنقذه من الموت وفاداه بالإبل لأمر يريده هو، ولا يعلم الناس منه شيئا. وإلا ففيم نجا هذا الفتى من الموت ليموت بعد ذلك بقليل! أليس غريبا أن ينجو من الموت فيتخذ له زوجا لا يقيم معها إلا وقتا قصيرا، ثم يفارقها كما يفارق الناس أزواجهم ليعود إليها كما يعود الناس إلى أزواجهم، ولكن رفاقه يعودون وهو لا يعود، إنما يتخلف في يثرب ليموت عند أخواله من بني النجار؛ وقد عرفت زوجه بعد أن ارتحل عنها أنه قد حملها أمانة ما زالت تحملها في جوانحها، حتى إذا جاء أمر الله أدت هذه الأمانة. ومن يدري! لعل عبد الله لم يوجد إلا ليودع هذه الأمانة عند زوجه! ومن يدري! لعل آمنة لم توجد إلا لتؤدي هذه الأمانة إلى الناس!
وكان الشيخ إذا فكر في هذا كله، لم يملك نفسه أن يرى ابنه شديد النشاط، عظيم القوة، رائع الشباب، بارع الجمال، يستقبل السفر بأمل لا حد له؛ ثم يراه نحيلا، هزيلا، شاحبا، متهالكا، محزونا، يمرض على فراشه عند بني النجار؛ ثم يراه وقد دنا منه الموت مكابرا مكاثرا، فاستله من الحياة أو استل الحياة منه، كأنما يثأر لنفسه من تلك الهزيمة التي أصابته يوم الفداء. فكان الشيخ يستسلم لحزن عميق لا يخرجه منه إلا اضطراب الناس من حوله، وإلحاح الناس عليه، وفيهم أبناؤه وبناته، فيما كان يشغلهم من الأمور.
نامعلوم صفحہ