ثم أطرق غير طويل كأنه يفكر ويستحضر أول قصته، ثم قال: كنا ثلاثة شركاء نصرف بين أرجاء الأرض العريضة تجارة واسعة. وكنا قد اقتسمنا الأرض بيننا أثلاثا، فرغ كل واحد منا لواحد منها يدبر شأنه، ويصرف التجارة فيه إيرادا وإصدارا. وكنا نلتقي من حين إلى حين ليلقي بعضنا إلى بعض ما انتهت إليه تجارته من ربح، ولننظم فيما بيننا أمر هذه الثروة التي كانت تنمو فتسرع في النمو، وتطرد زيادتها الغريبة من عام إلى عام. وكان أحدنا قد اتخذ مستقره في روما يدير منها تجارة القسم الغربي من الأرض. وكان الآخر قد اتخذ مقامه في قسطنطينية يدير تجارة هذا القسم من أقسام الدولة في بلاد اليونان وتراقيا وما إليها حتى يصل إلى بلاد السيتيين. وكنت أنا قد اتخذت الإسكندرية لي دارا، وكنت من أهلها.
وكانت إلي تجارة الهند وهذه البلاد التي يسكنها البدو، والتي تسير منها القوافل فتخترق الصحراء على ظهور الإبل والتي يسمونها بلاد العرب. وكانت تجارتنا الواسعة تضطرنا إلى علم دقيق بأمور الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وبأمور الأقاليم والأقطار، وما تستطيع أن تعطي وما تستطيع أن تأخذ. وكان هذا العلم يدفعنا إلى نشاط شديد عند رجال المال والزراع، وإلى اتصال شديد برجال الدين والسياسة والحكم. فإما صاحبي في قسطنطينية فقد كان واسع الحيلة حسن المدخل إلى نفوس الناس، حتى استطاع أن يجعل لنفسه في بلاط قيصر مكانا ممتازا. وأستطيع أن أقول: إني جهدت ووفقت في الجهد حتى كان حكام مصر وبطارقتها وقادتها أصدقاء لي، لا يكاد أحدهم يصل إلى الإسكندرية حتى تنشأ بينه وبيني أسباب المودة والألفة، وما هي إلا أن أصبح من خاصته وأصفيائه المقربين. ولم يكن صاحبنا الغربي أقل منا مهارة، ولا أضيق منا حيلة في التعرف إلى من في الغرب من العظماء، والسادة ومن الأشراف والملوك.
وكانت أمورنا تجري على خير ما نحب، إلا من ناحية واحدة كانت تكلفنا عناء وجهدا لا آخر لهما ولا غناء فيهما. وكانت هذه الناحية هي ناحيتي أنا؛ فقد كنا نلقى مشقة وعناء في تدبير تجارة الهند والشرق، لا نستطيع أن نصل إلى مصادرها ولا أن نأخذها من أهلها، لبعد الشقة وضعف الأداة وانقطاع سلطان الدولة عند الصحراء. فكنا نتلقى هذه التجارة كما يتلقاها الناس الآن من هذه القوافل التي تحملها إلينا، فتقطع بها الصحراء وتنفق في ذلك من الجهد، وتحتمل في ذلك من المشقة، وتبذل في ذلك من النفقات، ما يدفعها إلى أن تغالي في البيع، وتشتط فيما تطلب من الربح. وكنا نذعن لشططها كما يذعن الناس الآن؛ لأننا لم نكن نجد كما لا يجد الناس الآن بدا من هذا الإذعان. وكنا نسعى في بلاط قيصر وعند حكام الإسكندرية ونلح في السعي، نريد أن نحمل الدولة على أن تبذل شيئا من الجهد لتبسط سلطاننا على الصحراء أو على البحر، فلم يكن سعينا ينتهي إلى شيء. وإنا لفي ذلك، وإذا فرصة تسنح وظروف تتهيأ، ما كنا لنحسب لها حسابا، وما كان ينبغي لنا أن نهملها وقد سنحت وأمكنتنا من العمل.
أقبلت سفينة البريد ذات يوم من قسطنطينية وفيها رسول أرسله صاحبي إلي ينبئني بأن كتابا ذا خطر قد أرسل إلى الحاكم، ويتقدم إلي
1
في أن أتلطف حتى أعرف من أمر هذا الكتاب ما يعني تجارتنا، وألا أقصر إذا عرفت ذلك فيما ينبغي أن أتخذ من الوسيلة لتستفيد تجارتنا أعظم الفائدة.
فلما قرأت هذا الكتاب عنيت بما فيه، ولم ألبث أن زرت الحاكم، ولم أنصرف عن مجلسه، حتى علمت جلية الأمر، وحتى قدرت لتجارتنا نموا لا حد له. ذلك أن السفينة كانت تحمل إلى الحاكم كتابا من ديوان قيصر، يأمره فيه أن يهيئ أسطولا لا يقل عن مائة من السفن ليبحر إلى بلاد النجاشي، وعرفت أن مصدر هذا الأمر إنما هو اعتداء اليهود في أقصى البلاد العربية على إخواننا في الدين، وتحريقهم بالنار، وأخذهم بألوان العذاب، حتى بلغ الذين قتلوا منهم عشرين ألفا أو يزيدون. وقد لقيت عند الحاكم أخا لنا في الدين من أهل تلك البلاد، قد استطاع أن يفلت من اليهود ومعه مصحف من مصاحف الإنجيل قد مسته النار، فلجأ إلى النجاشي يطلب منه الغوث، وأظهر النجاشي حفيظة وغضبا للدين، ولكنه عجز أن يغيثه؛ لأن جنده على قوته وكثرته لم يكن يستطيع أن يعبر البحر إلا على السفن، ولم يكن عند النجاشي من السفن قليل ولا كثير.
هنالك أرسل النجاشي هذا العربي النصراني إلى قيصر يستنجده ويستعينه، ويطلب إليه السفن لتجيز جيشه إلى عدوة
2
اليمن. ولم يكد قيصر يرى مصحف الإنجيل وقد مسته النار، ولم يكد قيصر يسمع قصة النصارى وقد خددت لهم الأخاديد وحرقوا فيها تحريقا، ولم يكد قيصر يسمع قصة ذلك القديس اليوناني الذي حمل إلى العرب دين المسيح، فذاق في سبيل ذلك الموت محرقا بتلك النار التي حرقت غيره من المؤمنين، حتى ثارت حفيظته وموجدته، وأمر من فوره أن يكتب لحاكم الإسكندرية في تسيير هذا الأسطول مهما يكلفه ذلك من النفقات.
نامعلوم صفحہ