وقد أنكرت دعوة هذا الداعي أول الأمر، فلم يزده الإنكار إلا إلحاحا في الدعاء. وأبيت عليه بعد ذلك فلم يزده الإباء إلا إصرارا على ما كان يدعوني إليه. وإني لأتحدث إليكما الآن وصوته الملح الحازم يملأ سمعي وقلبي وعقلي، ويكاد يلهيني عنكما ويصرفني عما أريد أن أقول لكما. وقد عزمت بعد طول التفكير أن أستجيب لهذا الداعي، وأن أخرج بالجيش غازيا في سبيل الله ما يليني من الأرض؛ فإن قضى الله لي بالنصر مضيت أمامي حتى يأذن الله لي بالوقوف. ثم سكت ينتظر جواب الحبرين وهو يقدر أن كلامه قد وقع منهما موقع الرضا. ولكن عظم دهشه حين سمعهما ينصحان له بالقعود ويلحان عليه في ألا يسمع لهذا الصوت ولا يستجيب لهذا الدعاء، وهما يقولان له: أيها الملك؛ إياك والغرور الذي يصيب الملوك إذا عظم بأسهم، واشتدت قوتهم، ودانت لهم الأرض بمن فيها وما عليها، فيغريهم بالحرب، ويدفعهم إلى الفتح، ويحبب إليهم العدوان. قال: أعدوان أن أنشر دين الله وآخذ الناس بالإذعان له والإيمان به، وأذود عنهم شر الأوثان وأطهرهم من رجس الشيطان؟! قد دعوتكما وما أنتظر منكما إلا حثا لي على أن أمضي فيما عزمت عليه، فإذا أنتما تصدانني وتخذلانني، وتؤثران لي حياة الخمول والخمود والتقصير. قالا: فإنا نخشى أن يكون هذا الصوت الذي يدعوك ويلح عليك صوت الغرور والكبرياء، لا صوت الطاعة والتقوى، وأن يكون هذا الحديث الذي يلقيه في روعك تزيينا لما ورثت عن آبائك من حب الغلب وبسط السلطان، يدفعك إلى الحرب باسم الدين، ويصور لك الفتح في صورة الدعوة إلى الله. ونحن نجد فيما عندنا من العلم أن هذا الدين لا ينشر ولا يذاع على هذا النحو الذي تريد أن تنحوه. ونجد مكتوبا عندنا في الكتب أن الدين الذي سيبسط سلطانه على الأرض فيملؤها عدلا بعد ما ملئت جورا، ويملؤها عزا بعد أن ملئت ذلا، ويرد إلى الإنسان حريته وكرامته، ويرقى بنفسه إلى أسمى ما تطمح إليه من الكمال، ويحقق الأخوة بين الناس ويلغي ما بينهم من الفروق، لن يخرج من صنعاء، وإنما سيهبط به الوحي في آخر الزمان على رجل بمكة من قريش، ثم يخرج من يثرب فيطبق أقطار الأرض. فإذا شئت أيها الملك، فاسمع لنا وأعرض عن داعيك؛ فإنه لا يدعوك إلى خير.
قال الملك: ما رأيت كاليوم صدا عن الحق، ولا صرفا عن الواجب، ولا تثبيطا للهمم! وهم أن يعرض عن الحبرين، ولكنهما قالا له: فكر أيها الملك فيما أنت مقدم عليه؛ فقد أدخل أبوك دين الله في هذه البلاد وأذاعه فيها، ومضيت أنت على سنته دهرا، ولكنك لم تبلغ من ذلك ما ينبغي؛ فما زالت في حمير قلوب لم تخلص لهذا الدين، وما زالت في أعماق اليمن أوثان منصوبة تهفو إليها قلوب قوم لم تبلغهم دعوة الله بعد؛ فثبت هذا الدين في بلادك قبل أن تخرج به إلى غيرها من البلاد؛ فذلك آمن لك، وأحرى ألا تؤخذ على غرة، وألا ينتقض عليك قوم ليس لهم من الإيمان واليقين مثل ما لك، أو يغدر بك قوم ما تزال في نفوسهم بقية من حنين إلى دين آبائهم الأولين. قال الملك معرضا عنهما: قد سمعت قولكما وسأنظر فيه. ثم لم ينظر بعد ذلك إلا في التهيؤ للحرب والاستعداد للرحيل. وانقطع الحبران عن الملك ولم يدعهما الملك إليه. وأذن مؤذن الملك في الجيش بالرحيل. وفصل الملك عن صنعاء لم يلق الحبرين ولم يودعهما. ومضى الملك أمامه في طريق سهلة وشعوب سلم لا يلقى خوفا ولا يتعرض لكيد حتى بلغ البحرين.
فلما أحس قادة الجيش من الأقيال والأذواء أن الأمد يبعد بينهم وبين اليمن من يوم إلى يوم، وأنهم مشرفون على بلاد لم يألفوها، وأنهم يدفعون إلى حرب لا يفقهون غايتها كما كانوا يفقهون غايات الحرب من قبل، وأنهم سيضيق عليهم حين يظفرون فيما تحتوي أيديهم من سبي ومال، ضاقوا بهذه الرحلة، وثقلت عليهم هذه الحرب. وطال عليهم عمر الملك، فسعى بعضهم إلى بعض وتحدث بعضهم إلى بعض، وما هي إلا أن تجتمع كلمتهم على الكيد لحسان والبغي عليه، فيلقون أخاه عمرا، وكان خفيف الحلم سريعا إلى اللهو متعجلا الملك، لم تخلص نفسه لهذا الدين الجديد، ولم تطب عما كان لحمير من سنة موروثة وعادة مألوفة وتراث قديم. فلما أظهروه على ما في أنفسهم، وعاهدوه على أن يملكوه إن قتل أخاه، ولا يقتضوه على ذلك أجرا إلا أن يردهم إلى بلادهم ويرفع عنهم ثقل هذه الحرب. نشط لذلك وجد فيه. ولم يجد من خاصته وأصفيائه من يرده عن ذلك أو يخوفه من شره إلا رجلا واحدا من الأذواء يقال له ذو رعين؛ فإن هذا الرجل خوف عمرا عاقبة البغي وحذره من العدوان على الإخوان، وجد في صرفه عن سفك دم أخيه: يذكره بالرحم حينا، وبشرف الملوك حينا آخر، وبحرمة الدين مرة ثالثة، ولكنه لا يجد منه إلا إعراضا يكاد يبلغ الغضب ويثير الريبة وسوء الظن. فلما يئس منه دفع إليه كتابا مختوما وقال له: احفظ لي هذا الكتاب. ثم أتم عمرو كيده، فأغمد النصل في صدر أخيه، وارتقى على جثته إلى العرش، وأسرع بالجيش قافلا إلى صنعاء، معلنا إبطال ما كان أبوه وأخوه قد أقاما من معالم الدين الجديد، مزمعا قتل الحبرين، ولكنه لم يجدهما؛ فقد هلكا بعد أن فصل الجيش من صنعاء.
ولم يستمتع عمرو بالملك ولا ذاق لذة السلطان؛ فقد أخذ الحزن يلزمه منذ بلغ صنعاء، لا يفارقه ما ابيض النهار، ولا يفارقه ما اسود الليل. وأخذ هذا الحزن يشتد ويقسو، وأخذ هذا الحزن يعظم ويطغى، حتى ذاد عن نفس الملك كل راحة، ورد عن عين الملك كل نوم، وأحاط شخص الملك بصور مروعة مزعجة: فكان تارة يرى حيات عظاما ذوات رءوس عدة يخرج من أفواهها اللهب وهي تسرع إليه فاغرة أفواهها، كأنما تريد أن تزدرده ازدرادا. وكان يرى تارة أخرى أنهارا من الدم قوية عنيفة، تنحدر ولها هدير وزئير، كأنما تريد أن تأخذ عليه كل مكان وأن تلتهمه التهاما. وكان يرى تارة أخرى أشباحا تدنو منه لتبعد عنه، ثم ترتد إليه فتطيف به وتدور حوله وقد كشرت عن أنياب حادة، ومدت أظافر دامية، كأنما تريد أن تنهسه
1
نهسا وتمزقه تمزيقا. وكان في أثناء هذا كله يسمع أنين أخيه، ويرى الدم يتفجر من صدره كما يتفجر الينبوع الضئيل القوي من الصخرة الصلبة الملساء.
وأخذ الملك يستشير الأطباء فلا يجد عندهم دواء، ويستعين الكهان فلا يلقى عندهم عونا، ويسأل العرافين فلا يظفر منهم بجواب مريح. وما زال فيما هو فيه من استشارة واستعانة وسؤال حتى أدخل عليه رجل حكيم من أقاصي اليمن. وقص عليه ما يأتي من الأمر، وصور له الملك ما يلقى من الشر، وألح عليه الملك في أن يجد له من هذا الضيق مخرجا ومن هذا الأذى شفاء. وأطرق الرجل الحكيم غير قليل، ثم قال في صوت حازم وقد ظهرت على وجهه صرامة الجد والبأس: أيها الملك، لأنبئنك بالحق وإن كان من دونه الموت، فما تعودت كذبا ولا مينا. إنه والله ما قتل رجل أخاه، ولا غمس رجل يده في دم ذي رحم إلا سلط عليه الحزن والغم، ووكل به الفرق والأرق حتى يقضي. قال الملك: انصرف راشدا فلا بأس عليك! إنما السبيل على هؤلاء الذين كادوا الكيد، ومكروا مكرهم السيئ بي وبحسان، ثم أمعن في خاصته ومشيريه قتلا وتمثيلا حتى انتهى إلى آخرهم ذي رعين. فلما قدم هذا القتيل للقتل قال للملك: إن لي عندك براءة. قال الملك: وما ذاك؟ قال ذو رعين: ذلك الكتاب المختوم الذي دفعته إليك. وأخرج الملك الكتاب وقرأ فيه هذين البيتين:
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
نامعلوم صفحہ