صلى الله عليه وسلم
يعرض نفسه على ثقيف يلتمس عندهم النصر والعون والجوار، بعد أن تنكرت له مكة بطاحها وظواهرها، وبعد أن تنكر له الناس حتى أقربهم إليه وأدناهم منه، وبعد أن فقد عمه الذي كان يمنعه ويقوم دونه، وبعد أن فقد زوجه التي كانت ترعاه وتكلؤه وتحوطه بالرحمة والحب والحنان. وكان قد لزم داره بعد هاتين الكارثتين، لا يكاد يبرحها خائفا محزونا، حتى أقبل عليه عمه أبو لهب فأمنه وأعلن إليه أنه يقوم من حمايته بما كان يقوم به أبو طالب، فسرى عن النبي الكريم شيئا واستأنف الخروج من داره والذهاب إلى المسجد والاضطراب في مكة. ولكن قوما من قريش ألحوا على أبي لهب حتى غيروه على ابن أخيه، فاسترد جواره وحمايته، وعاد إلى مثل ما كان عليه قبل أن يموت أبو طالب. فلما ضاقت مكة بخير أبنائها خرج إلى الطائف يلتمس جوار ثقيف، فأقام فيهم ما شاء الله أن يقيم، يسعى عند هذا ويلطف لذاك، وكلهم يرده وكلهم يمتنع عليه. وكان مقامه فيهم قد أخافهم وثقل عليهم وأثار في نفوسهم إشفاقا أن يصيب مدينتهم ما أصاب مكة من اضطراب الأمر وانتفاض الضعفاء على الأقوياء، واستجابة قوم لهذا الرجل الذي أنكره قومه ولم تره مدينته إلا ما يكره فتقدموا إليه في الرحيل عنهم. ولم يكد يفعل حتى أغروا به سفلة الناس وسفهاءهم، فتبعوه يؤذونه بالقول والفعل حتى ألجئوه ضعيفا مكدودا وكئيبا محزونا إلى حائط هذين القرشيين. وأقبل النبي وقورا هادئ الخطى مطمئن النفس، تظهر على وجهه الكريم آيات الضعف وآيات القوة، وآيات الحزن وآيات الرجاء.
ضعف مصدره الجهد والعناء. وقوة مصدرها الحزم والعزم. وحزن مصدره الرحمة لهؤلاء الذين يدعوهم إلى الخير فيبغونه بالسوء، ويرشدهم إلى النجح فيريدونه بالمكروه. ورجاء مصدره الثقة بأن الله لم يختره لرسالته ليخذله قبل أن يتم أمره ويعلي كلمته ويظهر دينه على الدين كله، وبأن الله لا يصيبه بما يصيبه به من المكروه إلا امتحانا لقلبه، وابتلاء لنفسه، وتمحيصا لطبعه.
أقبل هادئا والناس من ورائه مضطربون، مستأنيا والناس من ورائه مسرعون، حتى انتهى إلى ظل من ظلال البستان، فجلس متعبا مكدودا، والقرشيان ينظران إليه ويرقان له ويعطفان عليه وينازعان نفسيهما إلى نصره ومعونته، وقد كادا يفعلان لولا أن ذكرا قريشا، ولولا أن ذكر عتبة بن ربيعة صهره أبا سفيان، وقدر ما يلقاه وما يلقاه أخوه من قريش إن منح محمدا معونة أو نصرا. ولكنهما رأيا ابن عمهما يأوي إلا ظلالهما مكروبا محزونا، فلم يملكا أن يمتنعا من أن ينالاه بأيسر الخير وأهون البر، فيدعوان عداسا - عبدا من عبيدهما - ويأمرانه أن يحمل إلى هذا الرجل الضعيف المكدود شيئا من عنب البستان ليصيب منه. ويمضي العبد منفذا أمرهما. ولكنهما لا يستطيعان أن ينصرفا عن مكانهما ولا أن يحولا بصرهما عن ابن عمها، وقد أهينت فيه قريش كلها لولا أن قريشا قد احتفظت بأحلامها. فهما ينظران ويرثيان ويعمل الأسى في قلبيهما. والعبد يسعى بالطبق إلى هذا الرجل المخزون، حتى إذا انتهى إليه أقبل الرجل على العنب يريد أن يصيب منه والعبد قائم منه غير بعيد. ولكن القرشيين ينظران فيريان عجبا: يريان كأن حديثا قصيرا قد دار بين الرجل وبين هذا العبد، ثم يريان العبد وقد أكب على هذا الرجل الحزين يقبل رأسه ويديه ورجليه باكيا مستعبرا مندفعا في حديث لا يكاد ينقضي، مظهرا من التكرمة والإجلال لهذا الرجل ما لم يتعود أن يظهره لأحد من سيديه. فيقول أحد القرشيين: «ويحك! لقد أفسد علينا ابن عمنا هذا العبد! وما أرى إلا أن ثقيفا معذورون إن خافوا منه على عبيدهم وضعفائهم وأقويائهم أيضا ما خفنا نحن منه على العبيد والضعفاء والأقوياء!» وهذا الرجل قد نهض وقورا هادئا، ومضى العبد معه شيئا من الطريق ثم وقف يشيعه بطرفه حتى غاب عن طرفه وعن طرف القرشيين.
هنالك عاد العبد إلى سيديه، وفي وجهه آيات الكآبة والحزن، وفي وجهه مع ذلك آيات الطمأنينة والرضا، ودموع تجري من عينيه لم يدريا أكانت دموع حزن وابتئاس، أم كانت دموع غبطة وابتهاج.
يقول عتبة بن ربيعة للعبد رفيقا به عطوفا عليه: «ويحك يا عداس! إن لك مع هذا الرجل لشأنا، فاقصص علينا بدء حديثك فقد رأيناك حفيا به متلطفا له مكبا عليه، تقبله باكيا مواسيا ثم مرافقا له تشيعه بشخصك ثم بطرفك.»
قال العبد: «نعم يا مولاي! إن لي مع هذا الرجل لشأنا وحديثا عجبا. وأحبب إلي أن أقص عليكما حديثي. ولكن أي حديثي تريدان؟ أتريدان حديثي منذ اليوم، أم تريدان حديثي القديم الذي مضت عليه أعوام طوال، والذي دفعني إلى بلادكم هذه، والذي اضطرني إلى ما أنا فيه من رق وإلى أن أعمل لكما بيدي في هذا البستان، وما عملت لأحد قبلكما بيدي وما عملت لنفسي بيدي، وغن كان الناس ليعملون لي كما أعمل لكما الآن؟»
قال عتبة وقد ثارت في نفسه طبيعة العربي الذي أترف وفيه فضل من بداوة، فهو مشغوف بالقصص، كلف بغريب الحديث: «وإن لك لحديثا قديما بينه وبين حديثك هذا الجديد سبب؟»
قال عداس: «نعم.» قال عتبة: «فاقصص علينا حديثك.»
وأخذ القرشيان مجلسهما استعدادا لسماع الحديث، وهم العبد أن يبدأ حديثه قائما، ولكنهما أذنا له في الجلوس فجلس، وأطرق وأغرق في صمت غير طويل ولكنه كان عميقا، ثم قال: «لقد انتهيت إلى هذا الرجل منذ حين، فسمعته يقول كلاما ما اعرف أن الناس يقولونه أو يقولون مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك حدثني بحديث ما يعرفه إلا نبي. وكان حديثه هذا مني على ميعاد، أو كنت أنا من حديثه هذا على ميعاد. لقد سألني سؤالا لم يسألنيه أحد منذ وطئت هذه البلاد. سألني عن موطني الذي نزحت منه، فأنبأته بما لا تعلمان وبما يحسن أن تعلماه الآن، وهو أني رجل من أهل نينوى، نشأت في بيت من بيوت الأحرار الذين إن لم يتح لهم الملك والإمارة فقد أتيحت لهم الثروة والغنى. وكنت موفور الحظ من النعمة وحسن الحال فارغا لما يفرغ له أمثالي في تلك البلاد من تقسيم الوقت بين لذة الجسم ولذة العقل، ألهو ما وسعني اللهو، ثم أقرأ وأختلف إلى مجالس العلماء والفلاسفة من القسس والرهبان، فأسمع منهم وأتحدث إليهم وآخذ معهم في ألوان من الجدل حول ما يختلف الناس فيه عندنا من أصول الدين والعلم. وأنتما لا تعلمان من أمرنا في تلك البلاد إلا قليلا، إنما تعنيان ويعنى قومكما بما تحملون إلينا من تجارة وما تصدرون به عنا من مال، وما تصيبون في بلادنا من هذه اللذات اليسيرة. فأما ما دون ذلك فليس لكم به علم وليس لكم عنه سؤال. ولو قد دخلتم في حياتنا وعرفتم دقائق أمرنا، لرأيتم أن في نفوسنا اضطرابا شديدا وغليانا متصلا وضيقا بالسلطان، وتمردا على النظام، وإنكارا لما ورثنا من عادة وشكا فيما تلقينا من دين.
نامعلوم صفحہ