ويقبل حمزة من صيده متوشحا قوسه مبتهجا بما أصاب من لذة وما أنفق من نشاط، فيمر بهذه المرأة في طريقه إلى المسجد، وإذا هي تقفه، وإذا هي تنبئه بما رأت وما سمعت، فيسمع منها ويمضي دون أن يجيبها ودون أن يلوي على شيء، قد أضرم الله في قلبه نار الغضب هذه التي تطهر النفوس من الإثم وتزيل عنها الحوب وتردها إلى الحياة مرة ثانية نقية ناصعة كما برأها الله وقبل أن تعلق بها حبائل الشيطان.
ويمضي حمزة لا يلوي على شيء، تتأجج في قلبه هذه النار المقدسة حتى يبلغ المسجد، ويرى أبا جهل في ناديه فيقصد قصده، حتى إذا انتهى إليه قام وراءه ثم ضرب رأسه بالقوس فشجه شجة بالغة، ثم أعلن إسلامه وتحدى قريشا وطلب إليها أن ترده إن استطاعت عن هذا الإسلام. ويتواثب بنو مخزوم وقد غضبوا لأبي جهل، فهم يريدون أن يمنعوه وأن يبطشوا بحمزة. ولكن أبا جهل يخذلهم ويردهم إلى الدعة والهدوء، ويقول لهم: «دعوا أبا عمارة! فوالله قد سببت ابن أخيه سبا موجعا.» يكفهم عنه أبو جهل فرقا وخزيا وإشفاقا أن يتكشف الحق ويظهر ما خفي من موقفه المريب، وإن زعمت بنو مخزوم أنه إنما كفهم عنه إيثارا للعافية وإنصافا من نفسه.»
قال الأمير وهو يبتسم: «امض في حديثك أيها الشيخ فإنا نعرف بغضك لبني مخزوم.»
قال الشيخ: «في أي حديث تريد أن أمضي أيها الأمير؟ لقد كان إسلام حمزة عزا للنبي وأصحابه، كف عنه كثيرا من أذى قريش. ولقد كان حمزة من هؤلاء المسلمين الذين عاشوا في مكة أعزة أقوياء يجهرون بإسلامهم ولا يخافتون به والذين هاجروا من مكة في غير تحفظ ولا استخفاء. والله لم يعز به الإسلام في مكة وحدها وإنما أعزه به في المدينة. فلحمزة عقد النبي أول لواء في الإسلام، وأفعال حمزة في بدر ما تعلم أيها الأمير، وصرعى حمزة يوم بدر من تعلم أيها الأمير. ولو قد استشارنا معاوية قبل أن يحول شهداءنا عن مقابرهم التي احتفرها لهم الله ورسوله لقلنا له إنا نؤثر الظمأ والجدب وسوء الحال على أن يحول هؤلاء الشهداء أو تنبش قبورهم، ولقلنا له: إن بين هؤلاء الشهداء سيدهم حمزة بن عبد المطلب قاتل شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، الذي صرعه وحشي وبقرت بطنه ولاكت كبده هند!»
وكان الشيخ حين انتهى إلى هذا الموضع من حديثه قد استحال استحالة كاملة، فانحسر عنه ضعف الشيخوخة وارتفع صوته وثبت ولم يضطرب، وأصبح كأنه النمر قد جرى فيه غضب وهياج وأخذت عيناه تقدحان شررا، وخيل إلى من حوله أنه قد عاد إلى شبابه حين كان من شجعان الأنصار وأبطالهم المقدمين يوم البأس.
قال الأمير وهو يبتسم ويملك نفسه: «حسبك أيها الشيخ! لقد بدأ أمر حمزة بالعنف، وانتهى إلى الرحمة واللين، وابتدأت حديثك لينا رفيقا، وها أنت ذا تنتهي إلى العنف وتحيي ما حط الله عنا من حمية الجاهلية وعصبيتها!
رحم الله حمزة! فما ينبغي أن يثير ذكره شرا، وما ينبغي أن يثير ذكره إلا المودة والرحمة والنصح للمسلمين ولأمير المؤمنين. وما يدريك! لعل هؤلاء الشهداء أنفسهم لو استشيروا لأشاروا على أمير المؤمنين بأن يحملهم بعد موتهم هذه التضحية في سبيل المسلمين! فهل كانت حياتهم إلا تضحية في سبيل الله ورسوله والمسلمين!»
الفصل الثالث
ذو الجناحين
أقبلت تسعى رويدا رويدا مثل ما يسعي النسيم العليل، لا يمس الأرض وقع خطاها، فهي كالروح سرى في الفضاء. نشر الليل عليها جناحا فهي سر في ضمير الظلام. وهبت للروض بعض شذاها، فجازاها بثناء جميل، ومضى ينشر منه عبيرا مستثيرا كامنات الشجون. فإذا الجدول نشوان يبدي من هواه ما طواه الزمان. ردت الذكرى عليه أساه، ودعا الشوق إليه الحنين؛ فهو طورا شاحب قد براه من قديم الوجد مثل الهزال. صحب الأيام يشكو إليها بثه لو أسعدته الشكاة. وهو طورا صاخب قد عراه من طريف الحب مثل الجنون. جاش حتى أضحك الأرض منه عن رياض بهجة للعيون، ونفوس العاشقين كرات يعبث اليأس بها والرجاء، كحياة الدهر تأتي عليها ظلمة الليل وضوء النهار.
نامعلوم صفحہ