قال الشيخ وهو يضحك ضحكا غريبا: «لا بأس عليك أبا الحكم! إنهم لا يسمعونك ولا يسمعونني مهما يرتفع صوتانا. إنهم لا يعلمون أنك قد عدت من سمرك، ولن يعلموا ذلك حتى أنصرف عنك، ولن ترى منك أم عكرمة إلا خيرا. ابغ لنا مجلسا، فأما إن أبيت فانحرف بنا إلى هذا المجلس عن يمينك من فناء الدار، فقد نستطيع أن نطمئن فيه. واعجب إن كنت في حاجة إلى العجب، فسأقدم إليك من القرى ما لم ترد أن تقدم إلي. إن معي زقا من خمر الطائف فشاركني في شيء منه.» ثم أخذ بيده حتى أجلسه، وأخرج زقا صغيرا من وعاء كان يحمله على ظهره، وأخرج قدحين فصب فيهما منه، ثم قال للفتى: «هلم أبا الحكم، فستحمد نشوة هذه الخمر.» ويحسو عمرو من القدح الذي قدم إليه فيقول: «لا والله ما شربت قط خمرا كهذه الخمر، إن لها مذاقا غريبا في الفم، ونكهة غريبة في الأنف، وحرا غريبا في الجوف.»
قال الشيخ: «ودوارا غريبا في الرأس، إنها خمر أبي مرة يا بني. هذه هي الكنية التي ستعرفني بها منذ الآن. إذا أعيا عليك أمر من الأمور، أو ضاق بك مسلك من المسالك، أو وجدت من الناس غير ما تحب، فادع حليفك أبا مرة، فسيستجيب لك قبل أن يرتد إليك طرفك، وسيفرج عنك كل كربة، وسيخرجك من كل ضيق. ولنأخذ الآن فيما أردت أن أتحدث إليك فيه، لقد أتيت أمرين في هذه الأيام كرهت أحدهما أشد الكره، ورضيت عن الآخر أشد الرضا. فأما الأمر الذي كرهته منك فخلافك لقومك، وخروجك عليهم، وازدراؤك لما يقولون ويعملون، واشتدادك على عمك في الحديث وقطيعتك له منذ اليوم، كل هذا كرهته أشد الكره لأنك عماد قومك وموئلهم وذخرهم الذي ادخر لهم حين تقبل الحوادث وإنها لجسام مفظعة. فعد إلى عملك فواصله، وعد إلى قومك فارفق بهم. واردد نفسك عن جماحها، واردد لسانك عن شططه، ودع هذه السخرية مما عليه قومك فإنه قوتهم، ولو قد انحرفوا عنه قليلا لتخطفهم الناس. ولو قد تخطفهم الناس لهلكت العرب! فقريش ردؤهم وكهفهم الذي إليه يأوون. وأما الأمر الذي أحببته منك أشد الحب، فبغضك لابن عبد المطلب هذا الذي يسميه قومك الأمين ضعفا منهم وخرقا، وإنه لهم لمصدر البلاء كل البلاء والشر كل الشر والمحنة كل المحنة.»
قال عمرو في شيء من الحدة: «إليك عني! فوالله ما أحببت من نفسي هذه الخصلة، وما أرى إلا أني ظالم لابن عبد المطلب. حاسبت نفسي منذ قلت تلك المقالة في دار شيبة فما حمدت حسابها. إن ابن عبد المطلب ليصل الرحم ويصدق الحديث ويرفق بالضعيف ويرحم الرقيق، وإنه لمؤتمن في قومه على الهين والعظيم من أمرهم، وإني لأجد في نفسي الحسد له، وليس الحسد من أخلاق الرجل الكريم. وإني لأروض نفسي منذ ذلك اليوم على أن أعود على ابن عبد المطلب بالعافية وأمنحه مودتي وبري، ولكني لا أجد إلى ذلك سبيلا، فيسوءني من نفسي هذا الضعف، وهذا هو الذي أفسد خلقي منذ أيام.»
قال الشيخ وهو يقدم القدح إلى عمرو: «اشرب أبا الحكم ودع عنك هذه الخواطر! فلقد صدقتك نفسك حين حملتك على بغض هذا الرجل. ولئن حمدت فيك شيئا إنما أحمد فيك هذا البغض العنيف، هذا البغض الذي لا يبقي ولا يذر، هذا البغض الذي لا يعرف رحمة ولا هوادة ولا لينا ولا أناة. وإن هذا البغض على عنفه وشدته لقليل بالقياس إلى ابن عبد المطلب.»
قال عمرو: «أبينك وبينه دم؟!»
قال الشيخ: «ليس بيني وبينه شيء، وإنما الشر كل الشر بينك أنت وبينه. أتذكر حين زحمك عند ابن جدعان؟ إن ذلك لم يكن إلا رمزا لما سيكون بينك وبينه من خصام لا يحده إلا الموت. إنك لا تعرف من أمر ابن عبد المطلب شيئا. إنك ترى قومك يكرمونه والشر كل الشر في إكرامهم له. إنه يدبر لهم من الأمر ما سينغص عليهم أيامهم، ويؤرق عليهم لياليهم، ويكدر عليهم صفو الحياة. أتذكر حديث نسطاس حين أنبأك بأن سيكون للسماء خبر؟ فإن ابن عبد المطلب هو الذي سيحمل إليكم خبر السماء. أتذكر ثورة ورقة بن نوفل حين أنبأته بحديث نسطاس؟ فإن ورقة يزعم من ذلك مثل ما يزعم نسطاس.» ثم قدم القدح إلى الفتى وهو يقول: «اشرب أبا الحكم! إنك لمتثاقل على الشراب منذ الليلة.» فيشرب عمرو ويقول للشيخ: «ويلك! والله ما أدري أخمرا تسقيني أم نارا؟!» فيجيبه الشيخ: «لست أسقيك خمرا ولست أسقيك نارا أبا الحكم، وإنما أسقيك بغضا لابن عبد المطلب لو سلط البحر عليه ما أطفأه. لقد رحت إلى نسطاس من يومك ذاك فلم تجده، ورحت إلى ورقة فاعتل عليك يزعم أنه سقيم. أتريد أن تعرف ما كنت تجهل من أمر نسطاس؟ فإنه قد خلا إلى ابن نوفل ساعات من نهار، ثم انصرف عنه إلى بلاد الروم ينبئ جماعته تلك التي حدثك عنها بأن النبي الذي كانوا ينتظرونه قد ظهر، وبأن ابن عبد المطلب هو هذا النبي. وكره ورقة أن يلقاك حين رحت إليه، وسيكره لقاءك كلما حاولت أن تلقاه؛ لأنه يكره أن يتحدث إليك من أمر ابن عبد المطلب بقليل أو كثير، فلم يؤذن له بعد في الحديث عن هذا الأمر.»
قال عمرو وقد أدركه دهش كاد يخرجه عن طوره: «ومن الذي يستطيع أن يأذن لورقة أو لا يأذن له؟»
قال الشيخ: «ما أدري! ولكن أمر ابن عبد المطلب سيظل سرا خفيا حينا من الدهر، لا يباديكم به ولكنه يهيئ لكم في أثناء ذلك شر ما تكرهون.»
قال عمرو: «ماذا يهيئ لنا؟» قال الشيخ وهو يقدم القدح إلى الفتى: «تريد أن تعرف ماذا يهيئ لكم؟ سيلقى في قلوب الذين يتبعونه أن لهم إلها غير آلهتكم لا يراه أحد ولا يحسه أحد وهو مع ذلك في كل مكان وفي كل قلب. وسيلقى إليهم أن آلهتكم كلها باطل من الباطل لا تملك لنفسها ولا لكم خيرا ولا شرا.»
قال عمرو: «والله ما أكره من ذلك شيئا.» قال الشيخ «وسيلقى إليهم أن ليس بين الناس قوي ولا ضعيف، وأن ليس بينهم شريف ولا وضيع، وأن ليس بينهم سيد ولا مسود، وأنهم جميعا سواء كأسنان المشط قد خلقوا من التراب وإلى التراب يعودون، وأن ما بينهم من اختلاف المنازل وتفاوت المراتب وتباين الطبقات ظلم يجب أن يرفع وباطل يجب أن يزال.»
نامعلوم صفحہ