وتقبل قريش على آلهتها فتردهم إلى أماكنهم، وتقرهم في مواضعهم، ثم تستشير وتستخير وتدبر بينها ألوان الرأي، ثم يستقر الأمر بينها على أن الآلهة لم يرضوا بعد عما نحر لهم من ضحايا وما سفك حولهم من دماء. فتستأنف قريش ما كانت قد أخذت تعرض عنه من التضحية والتقريب، وهذه الإبل تنحر، وهذه الشاه تذبح، وهؤلاء الفقراء ينعمون بعيش رغد وسعة متصلة. ولكن قريشا تصبح من الغد فإذا آلهتها مجدلون حول البيت، قد فعلت بهم الأفاعيل!
ويعظم لذلك هم قريش، وتمتلئ لذلك قلوب قريش حزنا وأسى، منهم الصادق المخلص، ومنهم المشفق الماكر، ولكنهم على كل حال يقيمون الأصنام، ويجددون التضحية، ويستشيرون الكهان ويجدون في البحث والاستقصاء، لعل في مكة قوما يمكرون بالآلهة، ويدبرون للحرم وأهله كيدا. وقد أقاموا الحراس حول البيت أثناء النهار، فلم ير الحراس شيئا ينكرونه. وأقاموا الحراس حول البيت آناء الليل، فقاموا حذرين أيقاظا ينتظرون، ولكن انتظارهم لم يطل وإنما هو انتصاف الليل وتقدمه بعد ذلك شيئا، وإذا بضجيج يسمع، وأصوات تقرع الآذان. وينظر الحراس فيرون - ويا هول ما يرون! - الآلهة وقد صرعوا حول البيت تصريعا، فيفرون وقد ملكهم الخوف واستأثر بهم الفزع.
وقد أشار الكهان على قريش بأمر عظيم وقفت له القلوب فما تخفق، وجمدت له الدماء فما تجري، ووجمت له النفوس فما تستطيع روية ولا تفكيرا، وهلعت له النساء في البيوت، وأشفق منه سكان مكة جميعا إشفاقا عظيما! فقد زعم الكهان لقريش أن لحوم الإبل والشاء ودماء الإبل والشاء ما كانت لترضي الآلهة بعد أن حولت عن أماكنها، وبعد أن هدم بيتها وأعيد بناؤه! ولا بد من أن يقرب إلى الآلهة لون آخر من القربان يقنعهم بأن عبادهم من قريش لا يجودون عليهم بالأموال وحدها، وإنما يتقربون إليهم بالأنفس أيضا. وقال الكهان لقريش: يجب أن تقربوا لآلهتكم من أجيالكم الثلاثة رجلا وامرأة قد تقدمت بهما السن حتى أشرفا على الموت، وفتى في نضرة الشباب، وصبيا وصبية من الأحداث. فإن لم تفعلوا فما ندري ماذا يصنع الآلهة؛ فإنهم لم يفعلوا إلى الآن أكثر من أن قدموا إليكم النذر، فأسرعوا إلى إرضائهم! فإنا نخشى أن تسوء العاقبة، وأن تصبحوا فلا تروا آلهتكم بينكم، وألا تمضي بعد خروجهم عنكم أيام حتى يسلط عليكم شر عظيم. ولو استمع الملأ من قريش لما كانت تضطرب به نفوس الدهماء وعامة الناس لأطاعوا أمر الكهان، ولتقربوا إلى آلهتهم بهذا الإثم المنكر. ولكن الملأ من قريش كانوا أمكر من ذلك وأمهر، وكانوا أحزم من ذلك وأعزم! فقد خلصوا نجيا ذات ليلة في دار ندوتهم، وجعلوا يتشاورون ويديرون أمرهم بينهم. وليس من شك في أنهم قد تلاوموا وتلاحوا، وألقى بعضهم على بعض تبعة ما كان من هدم البيت وتجديد البناء، ولكنهم كانوا مجمعين أمرهم على ألا يذعنوا لما يأخذهم به الكهان، ولا يقدموا إلى آلهتهم أبناءهم وبناتهم وأن أمر الآلهة في نفوس هؤلاء الشيوخ الذين عركتهم التجارب لأهون من ذلك وأيسر. ولكن الملأ من قريش ينظرون فإذا بينهم رجل غريب ينكرونه، ثم لا يلبثون أن يعرفوه، شيخ قد تقدمت به السن، واتخذ زي النجديين، لم يكن بينهم حين اجتمعوا ولكنه ظهر فيه فجأة، لا يدرون من أين أقبل وهم قد أقاموا على الباب حراسا يمنعون أن يقتحمه أحد أو يدنو منه أحد. ولكنهم يذكرون أنهم قد رأوا هذا الشيخ النجدي ذات يوم حين أمضى الأمين حكمه فيهم، وحين وضع الأمين الركن الأسود في موضعه من البيت. رأوه يريد أن يشارك في البناء فيرد عن ذلك ردا عنيفا، فيظهر السخط ويعلن النذير، ثم يستخفى فلا يظهرون له على أثر. فلما رأوه من تلك الليلة أقبلوا عليه يسألونه من أين جاء؟ ومن عسى أن يكون؟ فلا يرد على سؤالهم هذا جوابا، وإنما يقول لهم في صوت نحيف بعيد: «لقد أخذت النذر تتحقق يا معشر قريش. ألم أنهكم عن أن تحكموا بينكم رجلا كان أصغركم سنا، وأقلكم مالا، وأشدكم إعراضا عن آلهتكم، وأبعدكم من الاحتفاء بهم والإكرام لهم! فقد أبيتم إلا أن تفعلوا، وغضبت الآلهة مما فعلتم. وما أرى أن أموركم تستقيم إلا إذا نقضتم بناءكم شيئا، فأخرجتم الركن من موضعه، ثم رددتموه إليه بعد أن تضحوا لآلهتكم بمن أمركم الكهان أن تضحوا بهم. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الآلهة، لا قبل لكم بها ولا قدرة لكم عليها. والخير يا معشر قريش أن تريحوا أنفسكم من هذا الأمين؛ فإنكم إن أبقيتم عليه لم يبق عليكم، وإن مددتم حياته لم يلبث أن يجذم حياتكم جذما.»
ويسمع الملأ من قريش حديث هذا الشيخ مرتاعين له، حتى إذا انقطع الصوت وهموا أن يحاوروا صاحبه نظروا فلم يجدوه بينهم، وكأنه لم يدخل عليهم ولم يتحدث إليهم.
هنالك تمتلئ قلوب القوم حيرة، ويكادون يصرفون عما كانوا فيه إلى السؤال عن هذا الشيخ: من أين جاء؟ ومن عسى أن يكون ولكن الوليد بن المغيرة يقول في صوت هادئ مطمئن: «ويحكم يا معشر قريش! ما أرى إلا أن الشيطان يريد أن يعبث بكم، ويصرفكم عما ألفتم وعما ألف الناس فيكم من الحزم والعزم، ومن الأناة والوقار. إنه الشيطان يا معشر قريش، ما أشك في ذلك! إنه قد ظهر بينكم ثم استخفى عليكم. وإنه قد أنذركم بالشر، ودعاكم إلى أمر فظيع. أرأيتكم يا معشر قريش إن أخرجتم الركن عن موضعه، تستطيعون أن تردوه دون أن يشجر بينكم الخلاف، وتستيقظ فيكم الفتنة، وينصب بعضكم لبعض الحرب، ويدعو بعضكم بعضا إلى القتال؟ هل أنتم يا معشر قريش إن استمعتم لهذا المشير الخائن، والنصيح الغاش، فبطشتم بالأمين أو حاولتم البطش به، إلا مضيعون للحق، مهدرون للرحمة قاطعون للرحم، تجزون الخير بالشر، والمعروف بالمنكر! فقد حقن الأمين دماءكم، وهذا الشيطان يدعوكم إلى أن تهدروا دمه. وقد أقر الأمين فيكم السلم، وهذا الشيطان يدعوكم إلى أن تثيروا بينكم وبين قومكم الحرب. لا والله ما دلكم هذا الشيطان إلا على الغي، ولا دعاكم إلا إلى الإثم. ردوا عليكم فضل أحلامكم، ولا تكبروا من أمر هذه الأحجار غير كبير. إني والله ما أراها كلها تعدل قطرة من هذه الدماء التي ترادون على أن تسفكوها. أي أسرة من أسر قريش تريدون أن تفجعوها في كبيرها أو صغيرها؟! أيكم تطيب نفسه يا معشر قريش عن هذه التضحية بابنه أو بنته، وبأبيه أو أمه؟! إنكم لم تنسوا بعد قصة عبد المطلب وابنه عبد الله، لقد كدتم تبطشون به؛ لأنه كان يأبى إلا أن يضحي بابنه للآلهة. فإنكم لا ترادون الآن على أن تضحوا بواحد من قريش، وإنما ترادون على أن تضحوا بستة من خيركم. لا تسمعوا لهذا اللغو! وأمر هذه الأحجار أيسر عليكم وأهون في نفوسكم مما تظنون، ومما يخيل إليكم الشيطان.» قال أمية بن خلف: «مهلا يا وليد! إنك لتقول الحق، وتدعو إلى الرشد. ولكن خفض من صوتك، ولنكتم على الناس هذا الحديث! فإنه إن ذاع لم ينتج لنا إلا شرا، والأمر بعد ذلك في حاجة إلى التدبير. فما ينبغي أن يروح الناس عن آلهتهم وهم قائمون، ثم يغدوا عليهم وهم مجدلون.»
قال الوليد: «ما أرى إلا أن هذا الشيطان يعبث بنا وبهذه الأحجار، يتخذها أسبابا ووسائل لكيد يدبره، وشر يقدره. يقيمها أثناء النهار ، وينيمها إذا جن الليل.»
قال أمية: «فاقترح علينا وسيلة نخلص بها من كيد الشيطان، ونكره بها الآلهة على أن يظلوا ويبيتوا كما عرفهم الناس قائمين، غير نائمين ولا مجدلين.»
قال الوليد: «كلوا إلي أمر هؤلاء الآلهة، فعلي أن أجد لكم منه مخرجا.»
وتفرق الملأ من قريش وهم لا يدرون ماذا يريد الوليد أن يصنع. ولكن الوليد غدا على ذلك البناء القبطي الذي أقام لهم البيت، فاستشاره في ذلك، وأفضى إليه برأيه جليا صريحا في هذه الأحجار. فلما سمع منه «باخوم» أطرق شيئا، ثم قال مبتسما: «هلا صنعتم بآلهتكم ما نصنع نحن بما نريد تثبيته من البناء!»
قال الوليد: «وما ذاك؟»
نامعلوم صفحہ