ولكن الغريب الذي دهشت له قريش كلها والذي حفظته خديجة فأضافته إلى ذلك الكنز الذي حفظته في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وحنو من أحناء قلبها الكريم؛ أن فتى حدثا من فتيان قريش لم تتجاوز به سنه العشرين، قد كان مع هؤلاء السادة من شيوخ قريش، وقد عرف معهم ما عرفوا، وأنكر معهم ما أنكروا، وعاهدهم على ما تعاهدوا عليه. وقد كان في ذلك كله كأرحبهم حلما، وأذكاهم قلبا، وأكرمهم نفسا، وأحرصهم على الخير والبر، وأسبقهم بالمعروف، وأعطفهم على البائس والضعيف. فعل هذا الفتى ذلك كله، وإن أترابه من شباب قريش لمنصرفون إلى لذاتهم على اختلافها وتباينها. ولم يكن هذا الفتى إلا محمد بن عبد الله ذلك اليتيم الذي أصبح حديث قريش كلها، تعجب به، وتتحدث عنه، وتضربه لشبابها مثلا.
وما أشد ما كانت خديجة تألم حين تعرف أن خير قريش كلها يحتاج إلى أن يرعى الغنم لقومه بأجياد، وإلى أن يكسب في ذلك القراريط من حين إلى حين، يستعين بها على ما يقيم أوده، ويفضل منها على أبناء عمه الشيخ، وإنه لأحرى قريش كلها بأضخم ما في مكة من ثروة، وأعرض ما في مكة من غنى، وأرق ما في مكة من نعيم.
هنالك أحست خديجة في قلبها حبا لهذا الفتى لم تعرف كيف تصفه ولا كيف تسميه، ولكنها كانت تجد من نفسها الطاهرة نزاعا شديدا إلى أن تراه وتسمع منه وتتحدث إليه، ولم يكن ذلك يتاح لها ولا يهون عليها. فأين هي مع ثروتها الضخمة، ومالها الكثير، ومكانتها الممتازة من هذا الفتى اليتيم الذي ينفق أكثر أيامه خارج مكة يرعى الغنم، فإذا عاد إلى مكة اعتزل الناس، أو كان كالمعتزل لهم، فلم يعرض لخديجة، ولم تستطع خديجة أن تعرض له. ومع ذلك فقد كانت نفسها تتبعه، وقد كان شخصه لا يفارق قلبها. وكثيرا ما تحدثت عنه إلى نسائها فسمعن منها، ثم قصصن عليها من أمره الأعاجيب. وإن قريشا كلها لمجتمعة على حبه وإيثاره، والإعجاب بسيرته وأخلاقه، وإنها لا تسميه محمدا، وإنما تسميه الأمين. وإن من الناس قوما يتحدثون عنه بأعاجيب لا يطمئن إليها العقل، ولا تجري بها عادة الناس. فمنهم من يزعم أنه رآه ذات يوم وقد اشتدت الهاجرة، وإن سحابه لتقيه الشمس. ومنهم من يزعم أنه رآه ذات يوم قد أوى إلى ظل شجرة فإذا الشجرة تحنو عليه حنو الأم، وإذا هو يسمع الشجرة تتلقاه بالتحية والسلام.
وكانت خديجة تسمع هذا كله فتقبل منه ما تقبل، وترد منه ما ترد، ولكنها تشعر بأن حبها له يزداد، وميلها إليه يعظم، حتى لم تملك نفسها أن أظهرت لنسائها هذا الحب، وتحدثت إليهن بهذا الميل، ولمحت لهن بأنها تود لو أصبح هذا الشاب لها زوجا، لا يمنعها من الجهر بذلك والسعي إليه إلا أنها أكبر من الفتى سنا، وأنها لا ترى نفسها له كفئا.
فلما رأى نساؤها منها ذلك أنكرنه عليها أشد الإنكار، ورددنها عنه أشد الرد، وصورن لها فقر الفتى وبؤسه، وما هي فيه من ثروة ونعيم، وذكرن لها تنافس الأشراف والسادة فيها، وحرصهم جميعا على أن يبلغوا منها هذه المنزلة التي تؤثر بها هذا الفتى اليتيم. فأحست خديجة أن نساءها لم يفهمن عنها شيئا، وأنهن لن يفهمن عنها شيئا، وردت سرها العزيز إلى مكانه الأمين من نفسها الطاهرة وقلبها الكريم. وانتظرت حتى تهيأت العير في عام من الأعوام للرحلة في التجارة إلى بلاد الروم، وجعلت خديجة تهيئ تجارتها، وجعل الناس من فقراء قريش يعرضون أنفسهم عليها ليرحلوا في تجارتها إلى الشام كما تعودوا أن يفعلوا من قبل. ولكن خديجة لم تسمح لأحد منهم، ولم تقف عند أحد منهم، وإنما ألقي في نفسها - دون أن تعرف كيف ألقي في نفسها - أن محمدا سيكون هذه المرة صاحب تجارتها إلى الشام. فلا تسأل نساءها عن شيء، ولا تحدث نساءها في شيء، وإنما ترسل إلى الشيخ دسيسا يعرض عليه الأمر، ويهون عليه ما كان يستصعب منه، ويصور أن الفتى قد أصبح رجلا لا بأس عليه من مشقة السفر، ولا خوف عليه من مكر النصارى، وهو بعد سيكون في طائفة من قومه يحمون العير بالعدد والعدة، ويزين له أن خديجة قد تعودت أن تأجر المسافرين في تجارتها بكرين، وأنها لا ترضى بهذا الأجر لابن عمها الأمين، فهي تأجره أربعة أبكر.
وما كان أبو طالب ليرضى هذا العرض أو يقبله لولا أن قد كان لله في ذلك حكمة، ولولا أن الله قد ألقى في قلبه الرضا بهذا العرض لأمر يراد. فقد كان أبو طالب شفيقا على ابن أخيه رفيقا به، يكلؤه ويرعاه، ويحوطه ويحميه، يخشى عليه العوادي، ويضن به على المكروه، ولم ينس قط ما كان من تحذير «بحيرى» له وإلحاحه عليه في أن يحوط ابن أخيه من مكر النصارى وكيد يهود. ما أكثر ما فصلت العير عن مكة منذ عاد الشيخ بابن أخيه إليها، فلم يرسله أبو طالب مع العير، بل لم يفصل أبو طالب مع العير متجرا، وإنما أبقى ابن أخيه في مكة، وأقام معه فيها حاميا له، ذائدا عنه. فلما عرض عليه رسول خديجة ما عرض، هم أن يرفض، ولكن الله ألقى في نفسه القبول، فقال للرسول: «سأعرض هذا على ابن أخي.» ثم يلقى ابن أخيه فيعرض عليه الأمر مرغبا له، مشجعا إياه.
وما كان الفتى في حاجة إلى ترغيب أو تشجيع؛ فإن الذي قد ألقى في نفس خديجة اختياره لتجارتها هذا العام، وألقى في نفس أبي طالب قبول هذا الاختيار حين عرضه رسول خديجة عليه، قد ألقى في نفس الفتى قبول هذا الاختيار حين تحدث إليه عمه فيه.
وهذه العير تتهيأ للخروج من مكة، وهذا الفتى يتهيأ للخروج معها في قومه من قريش، وقد ألحقت به خديجة غلامها ميسرة، وهؤلاء عمومة الفتى يوصون به رفاقه من قريش، ويغلون في هذه التوصية، فلا يسمعون من أصحاب العير إلا هذا الرد الجميل يلقونه إليهم باسمين: «ما إيصاؤكم إلينا بالأمين، وما منا إلا من يبذل حياته فداء للأمين!»
2
ولم تكد العير تفصل من مكة وتمعن في طريقها إلى الشام حتى شقي بذلك في مكة شخصان أشد الشقاء، ولقيا منه أثقل الجهد وأعظم العناء، وحتى نغصت عليهما حياة النهار، وصرف عنهما نوم الليل، وفارقت كل واحد منهما نفسه، فتبعت تلك العير التي كانت ماضية نحو الشمال. وقد عرفت بالطبع هذين الشخصين؛ فأما أحدهما فهو أبو طالب، وأما الآخر فهو خديجة.
نامعلوم صفحہ