طه حسين
ديسمبر سنة 1933
الكتاب الأول
الفصل الأول
حفر زمزم
كان عبد المطلب سمح الطبع رضي النفس، سخي اليد، حلو العشرة عذب الحديث. وكان عبد المطلب أيضا قوي الإيمان، تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهما ولا تفسيرا. وأبوه من مكة، حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التي لا تحرج فيها ولا مشقة. وأمه من يثرب، حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاوز الوثنية فتضعفها، وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة، وحيث الظرف ونعومة الحياة.
ولد في يثرب، ومات عنه أبوه فلم ينقله إلى مكة، فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم، حتى بلغ الشباب أو كاد. ثم أقبل عمه فانتزعه من إقليمه السهل الهين، إلى إقليم آخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض، ولا تبتسم له السماء إلا قليلا، ويرحل أهله إلى الآفاق ويفد على أهله الناس من جميع الآفاق، فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة. ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت في نفس هذا الغلام. ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر، ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شيء من الاعتدال آخر الأمر. فلم يكتمل للفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش؛ فيه ذكاؤهم وفطنتهم، وفيه إباؤهم وعزتهم، ولكن فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة في الدين قلما كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشد التمييز؛ فلم يكن يصدر في حياته، كما كانوا يصدرون، عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه إلى العمل والاضطراب في الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو في الإباء، ولكنه يضطر إلى أن يذعن لها ويأتمر أمرها. وكانت هذه القوة تصدر إليه أمرها في أشكال مختلفة: تدفعه إلى العمل حينا وكأنها إرادته الخاصة، قد ملكت عليه حسه وشعوره، فهو لا يستطيع عنها انصرافا، ولا يملك لها خلافا. وتتمثل له حينا آخر شخصا واضح المخايل، بين الصورة، يلم به إذا اشتمله النوم، فيأمره أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وتنتهي إليه مرة ثالثة صوتا رفيقا، ولكنه ملح يملأ أذنيه يقظان، ويملأ أذنيه نائما، يحثه على أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وكان في هذا الصوت غموض، وكان في هذا الصوت إبهام، وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام. وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، ويلم به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظا خاصة غريبة الجرس غريبة المعنى.
كانت إليه رفادة الحاج وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء في أحواض من الأدم. وكان يجد في جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهدا وعسرا. فبينا هو نائم ذات يوم أو ذات ليلة أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له سمة ولا شكلا، وقال له في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر طيبة.» قال: «وما طيبة؟» فانصرف الشخص، وانقطع الصوت. وأفاق الفتى وفي نفسه ذعر وعجب وأمل، وحاول أن يعود إلى النوم، لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت، أو يتبين هذا الحديث، ولكن كان النوم قد خاصم عينيه، وانصرف عنه مع هذا الشخص الغريب. ففكر وأطال التفكير، وقدر وأطال التقدير، وتقلب في مضجعه فأكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه، فجلس يرقى ببصره الحائر إلى السماء، لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا. ويخفض بصره إلى الأرض لعله يجد في إطراقه تفسير هذه الرؤيا. ويمد بصره نحو الكعبة، لعل صنما من هذه الأصنام المنصوبة يوحي إليه تعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة، وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد إلى الفتى بصره متعبا مكدودا. وتهوي نفسه إلى قرارة ضميره، لعلها تجد لهذا الرمز تأويلا فلا تجد شيئا؛ فيشتد بها الذعر، ويزداد فيها العجب. ويبقى الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.
ثم يقبل الليل ويأوي الفتى إلى مضجعه، وقد أنسي كل شيء، إلا أنه قد مشى كثيرا، وأجهد نفسه كثيرا، وأنه أشد ما يكون حاجة إلى أن يبسط عليه النوم جناحيه. ها هو ذا مغرق في نوم هادئ مطمئن، وقد هدأ من حوله كل شيء، واطمأن في نفسه وجسمه كل شيء. ولكن ما هذا الشخص الغريب يقبل ساعيا إليه في أناة، حتى إذا دنا منه قال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة: «احفر برة!» وجسم الفتى هادئ مطمئن، ولكن نفسه ثائرة مضطربة، ولسانه يتحرك في ثقل وصوته ينبعث من بين شفتيه خفيفا رقيقا بهذه الكلمة: «وما برة؟» فينصرف الشخص، وينقطع الصوت، ويفيق النائم وجلا مذعورا، معجبا آملا، ويفكر ويقدر ويتقلب. ثم ينهض فيسأل السماء ولكنها صامتة، ويسأل الأرض ولكنها ساكنة، ويسأل أصنام الكعبة ولكنها مغرقة في البله والوجوم. ويضيق الفتى بنفسه وبالسماء والأرض والأصنام؛ فيهيم على وجهه يلتمس في الحركة والاضطراب نسيان هذا الطائف الذي يفزعه ويغريه.
ثم يعمل الناس في أمور الحياة، وينقضي النهار بخيره وشره، وحلوه ومره؛ ويقبل الليل شيئا فشيئا، فيبسط أرديته السود على ما يحيط بمكة من جبال وآكام، وما يزال يمد في هذه الأردية حتى يغمر كل شيء ويستر كل شيء، لولا هذه المصابيح الضئيلة التي تشب في الأرض، وهذه النجوم القليلة التي تضطرب في السماء. وقد سمر الفتى مع السامرين، فسمع أحاديث التجار عن غرائب الأقطار: هذا يحدث عن صور بصرى وعظمتها، وهذا عن الخورنق والسدير، وهذا يذكر غمدان، وهذا يصف أخلاق اليمانيين ومكرهم بالتجار، وهذا يتحدث عن سذاجة أهل الشام وانخداعهم لغربان العرب، وهذا يذكر ما أفاد من ربح حين باع الأدم في الحبشة، وهذا يذكر للقوم ما حمل لهم من خمر بيسان. وهم في أثناء هذا كله يتندرون على العجم والأعراب، ويتفكهون بأحاديث أولئك وهؤلاء، ويسخرون من أولئك وهؤلاء. حتى إذا تقدم الليل واطمأن كل شيء تفرقوا، ونهض الفتى ثقيلا، فمشى إلى بيته متباطئا يود لو فر من النوم، ويود مع ذلك لو نام فألم به هذا الطائف. انظر إليه! إنه ليتردد: أيقذف بنفسه في أمواج النوم هذه التي تتمثل أمام عينيه؟ أم يبقى على الشاطئ يقظان يداعبه النوم ولا ينام؟ ليتردد ما استطاع، ليمتنع على النوم ما وسعه الامتناع؛ فإن هذه الأمواج المصطخبة أمامه تستطيع أن تطغى على الشاطئ فتغمره، وتغمر معه كل شيء. وكيف يستطيع هذا الفتى أن يمتنع عليها، وما استطاعت أن تمتنع عليها جبال مكة هذه التي تحيط بها من كل ناحية! انظر! أترى حركة؟ اسمع! أتحس نبأة؟ كل شيء هادئ، كل شيء مطمئن؛ فما نبوك وما امتناعك! هلم إلى النوم لا تخف شيئا؛ إن هذه الأمواج تريح ولا تغرق. أقبل إلى هاتين الذراعين اللتين تمتدان إليك، فستنسى بينهما كل شيء. ومن يدري! لعلك تجد بينهما شفاء لنفسك الحائرة. وأطبق الفتى جفنيه واندفع أمامه، فاشتملت عليه أمواج النوم كما اشتملت على غيره من الناس والأشياء. ولكن ماذا؟ هذا شخص يتقدم ساعيا هادئا كأنه يمشي على الهواء، حتى إذا دنا من الفتى، قال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر المضنونة.» جسم الفتى هادئ ولكن صورة من الحيرة قد ارتسمت على جبهته، وهذا صوت خفيف رقيق ينبعث بين شفتيه وهو يقول: «ما المضنونة؟» فينصرف الشخص. ويفيق الفتى مذعورا مأخوذا، قد أظلم في نفسه كل شيء، وأحاط اليأس بعقله وقلبه وضميره، لا يرتفع بصره إلى السماء، ولا ينخفض إلى الأرض. ولا يمتد إلى أصنام الكعبة، ولكنه يدور حائرا. وينهض الفتى وهو يقول: ما أرى إلا أني سأجن؛ لئن أصبحت لآتين الكاهن، فلعلي أجد عنده من هذا العارض شفاء.
نامعلوم صفحہ