على أننا - وقد سجلنا هذه الملاحظة - نفرض أنه - رضي الله عنه - كان من أصحاب تلك الملكة، التي عرف بها بعض المغامرين في أوقات الفصل بين العهود ...
ونفرض أنه عمد إليها، فنفعته في عسكره وطوعت له الجند وأراحته من شغب الخارجين عليه، والمتشعبين بالآراء والفتاوى من يمينه وشماله، فماذا عسى أن يغير هذا كله من طبيعة الموقف الذي أجملناه؟ وكيف يكون المخرج بين سياسة الملك، كما يطلبها العصر، وسياسة الخلافة كما تطلبها البقية الباقية من آداب الفترة النبوية؟
أيسوس الإمام دولته ملكا دنيويا أم يسوسها خليفة نبوة؟
أيفرق الأموال على رءوس القوم وقادة الجند وطلاب الترف، أم يلزمهم عيشة النسك والشظف والجهاد؟
وكتب لعلي بعد ذلك أن يتلقى الدولة الإسلامية بين هذين العسكرين، فلا في مقدوره أن يجمعهما إلى عسكر واحد، ولا في مقدوره أن يختار منهما عسكر الملك، ولا أن يختار عسكر الخلافة الدينية، فتظل على يديه خلافة دينية بعد أوانها ...
وما لم يكن في مقدوره لم يكن في مقدور غيره، وإنه لإنصاف قليل أن نعرف له هذه المعاذير الصادقة، وهو الذي باء وحده بتلك النقائض والأعباء ... •••
وقد نقدت سياسة علي لفوات الخلافة منه قبل البيعة، كما نقدت سياسته لفوات الخلافة منه بعد البيعة، وأحصى عليه بعض المؤرخين أنه تأخر نيفا وعشرين سنة ... فلم يخلف النبي، ولم يخلف أبا بكر، ولم يخلف عمر ... كأنه كان مستطيعا أن يخلف أحدا منهم بعمل من جهده وسعي من تدبيره، فأعياه السعي والتدبير ...
ومقطع الفصل في هذا أن نرجع إلى العوائق التي حالت بينه وبين الخلافة قبل وصولها إليه؛ لنعلم منها العائق الذي كان في أيدي الحوادث والعائق الذي كان في يديه، أو كانت له قدرة معقولة عليه.
فمما لا شك فيه أن الإمام أنكر إجحافا أصابه في تخطيه بالبيعة إلى غيره بعد وفاة ابن عمه - صلوات الله عليه، وأنه كان يرى أن قرابته من النبي مزية ترشحه للخلافة بعده؛ لأنها فرع من النبوة على اعتقاده، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة، كما قال ...
ومما لا شك فيه، أن شعوره هذا طبيعي في النفس الإنسانية كيفما كان حظها من الزهد والقناعة؛ لأن تخطيه - مع هذه المزية التي ترشحه للبيعة - يشبه أن يكون قدحا في مزاياه الأخرى، من علم وشجاعة وسابقة جهاد وعفة عن المطامع، أو يشبه أن يكون كراهة له وممالأة على الغض من قدره، ولم يزل من غرائز النفوس أن يسوءها القدح فيها، والحط من مزاياها ومواجهتها بالنفرة والكراهة ...
نامعلوم صفحہ