وقد يحسن بالمؤرخ بعد الموازنة بين عدة الخلافة وعدة الملك في صراع علي ومعاوية، أن يذكر عدة أخرى لم تظهر في هذا الصراع، وقد ظهرت في مآزق شتى من أحرج مآزق التاريخ، واعتمد عليها أبطاله الكبار كثيرا في تأسيس الدول وقمع الثورات، فاختصروا الطريق وأراحوا أنفسهم من عناء طويل، ونريد بها عدة البطش العاجل والمباغتة الحاسمة، كلما تأشبت العقد وتعسرت الحيلة، ووجب الخلاص السريع ...
فقد علمنا مثلا أن الأشعث بن قيس كان يعترض الإمام في كل خطوة من خطوات النصر، ويثقل عليه باللجاجة والعنت في مواقف مكربة تضيق بها الصدور ...
ولم يكن الأشعث بن قيس بالوحيد في هذا الباب، بل كان له شركاء من الخوارج وغير الخوارج، يظهرون بالعنت في غير موضعه، ويذهبون به وراء حده، وربما بلغوا من الضرر في معسكر الإمام فوق مبلغ الأشعث بن قيس، على عظم الفارق بين سلطانهم وسلطانه.
ألا يخطر على البال هنا، أن ضربة من الضربات القاضية كانت تنجع في هذا العنت المكرب، حيث لا تنجع العقوبة الشرعية أو الأحابيل السياسية؟ ...
ماذا لو أن الإمام جرد سيفه بين أولئك المشاغبين، وأطاح برأس الأشعث بن قيس قبل أن يفيق أحد إلى نفسه، ثم ولى على الفور من يقوم مقامه في رئاسة قوم، ويكفل لهم الطاعة بينهم لأمره؟ ... أكان بعيدا أن تفعل الرهبة فعلها، فيسكن المشاغب، ويهاب المتطاول، ويجتمع المتفرق، ويقل الخلاف بعد ذلك على الإمام وعلى الرؤساء عامة؟
لم يكن ذلك ببعيد ...
لكنه كذلك لم يكن بالمحقق، ولا بالمأمون ...
فهي مجازفة ذات حدين، تصيب بأحدهما وقد تصيب بهما معا ... وقد يكون الحد الذي تصيب به هو الحد الذي من قبل الضارب دون الحد الذي من قبل المضروب ...
وكل ما تفيدنا إياه هذه الملاحظة العابرة على التحقيق، أن الإمام - رضي الله عنه - لم يكن من أصحاب هذه الملكة، التي اتصف بها بعض أبطال القلاقل في أيام الفصل بين عهدين متدابرين، فكانت له ضربة الشجاع، ولم تكن له ضربة المغامر أو المقامر ...
ولم يضرب بالسيف قط، كأنه يقذف بالقداح إما إلى الكسب وإما إلى الخسارة ... وإنما كان يضرب به ضرب الجندي الذي يلتمس الغلب بقوته وقوة إيمانه، ولا يلتمسه من جولات السهام وفلتات الغيب ...
نامعلوم صفحہ