وكتب الجرح والتعديل، منها ما أفرد لذكر الثقات فقط، ككتاب الثقات لابن حبان البستي، والثقات لابن قطلوبغا (-881ه) في أربع مجلدات، والثقات لخليل بن شاهين (-873ه).ومنها ما أفرد للضعفاء فقط، ومن ألفه فيهم البخاري والنسائي وابن حبان والدار قطني والعقيلي وابن الجوزي وابن عدي، وكتابه: "الكامل في الضعفاء" أوفى الكتب في ذلك وقد ذكر فيه كل من تكلم فيه وإن كان من رجال الصحيحين، كما ذكر فيه بعض الأئمة المتبوعين، لأن بعض خصومهم في حياتهم تكلموا عنهم.وقد ألف الذهبي كتابه:" ميزان الاعتدال" من كتاب ابن عدي هذا. ومنها ما جمع فيها بين الثقات والضعفاء وهي كثيرة جدا من أشهرها تواريخ البخاري الثلاثة: الكبير، وهو مرتب على حروف المعجم، والأوسط، والصغير وهما مرتبان على السنين، وكتاب الجرح والتعديل لابن حبان، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، والطبقات الكبرى لابن سعد، ومن أجود الكتب في ذلك، التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل للحافظ ابن كثير، جمع فيه بين تهذيب المزي، وميزان الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات وهو أنفع شيء للمحدث والفقيه التالي لأثره(¬1). ولم يكن الأئمة الذين عنوا بهذا الفن على استواء واحد في مقاييس النقد الذي يوجهونه للرواة، بل كان منهم المتشدد ومنهم المتساهل ومنهم المتوسط المعتدل، فمن المتشددين، ابن معين ويحيى بن سعيد القطان وابن حبان(¬2) وأبو حاتم الرازي، ومن المتساهلين، الترمذي والحاكم وابن مهدي، ومن المعتدلين أحمد، والبخاري ومسلم وبذلك تباينت ا لآراء في بعض الرواة، فمنهم من يوثقه ومنهم من يضعفه، وما ذلك إلا لاختلاف الأنظار والمقاييس التي وضعها كل إمام في نقده، بل قد ينقل عن العالم الواحد رأيان مختلفان في راو واحد، فقد يراه اليوم ثقة ، ثم يرى منه بعد ذلك ما يضطره للعدول عن حكمه، وقد يكون الأمر عكس ذلك. ومن أسباب الاختلاف في التجريح والتعديل اختلاف منازع الفقهاء في الاجتهاد، فالنزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي مشهور معروف أدى إلى أن يطعن بعض أهل الحديث في بعض أئمة أهل الرأي وأن يعدوهم من الضعفاء لا لشيء إلا لنزعتهم الاجتهادية التي لا تتفق مع نزعة أهل الحديث، وحسبك دليلا على هذا أن إماما جليلا من كبار أئمة التشريع في تاريخ الإسلام وهو أبو حنيفة رحمه الله تحامل عليه كثير من المحدثين وجرحه بعض علماء الجرح والتعديل مع زهده وورعه وتقواه وجلاله قدره، ونجد ذلك واضحا مما نقله أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أبي حنيفة (13/323-423) وما ذلك إلا لدقة مسلكه الفقهي الذي خفي على كثير من المحدثين بل على كثير من أئمتهم. وقد أدى تعصب العامة من أهل الحديث إلى أن يتهموا أبا حنيفة بما يقطع التاريخ بكذبه. ولعل هذا الاختلاف في ميول الناقدين وأنظارهم وتفاوتهم بين الشدة والتساهل في النقد، هو الذي دعا أكثر العلماء أخيرا إلى أن لا يقبلوا جرحا إلا مفسرا خشية أن يكون منشأ الجرح خطأ في تقدير الناقد أو عصبية لا حقيقة وواقعا، قال الحافظ ابن كثير:" بخلاف الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا لاختلاف الناس في الأسباب المفسقة فقد يعتمد الجارح شيئا مفسقا فيضعفه، ولا يكون كذلك في نفس الأمر أو عند غيره، فلهذا اشترط بيان السبب في الجرح(¬1).
صفحہ 27